|
الأرشيف قسم لحفظ حقوق المشاركات المُخالفة |
|
خيارات الموضوع | طريقة العرض |
|
#1
|
|||
|
|||
بلاد الأكراد كما حدّدها ابن فضل
ابن فضل الله العمري من الشخصيات الاستثنائية في بلاد الشام، فقد اجتهد للتأسيس لعلم التاريخ، وعمل على تصحيح الروايات التاريخية وترجيحها بميزان العقل، وهو سبق ابن خلدون في تدقيق الأخبار التاريخية وتفحُّص مفاهيم العمران الحضري والمناخ وعلاقتهما بالسكان، وبالتالي قارب المنهج العلمي، واستخلص مبدأ «أخذ العبر» قبل ابن خلدون بنحو مئة عام: «وإن في الأرض العبر ولقد طالعتُ الكتب الموضوعية في أحوال الأقاليم وما فيها، فلم أجد من بين أحوالها ومثل في الإفهام صورها لأن غالب تلك الكتب لا تتضمن سوى الأخبار القديمة وأحوال الملوك السالفة والأمم البايدة وبعض مصطلحات ذهبت بذهاب أهلها ولم يبق في مجرد ذكرها عظيم فايدة ولا كبير أمر وخير قول أصدق والناس زمانهم أشبه منهم بآبائهم فاستخرت الله تعالى في إثبات نبذة دالة على المقصود في ذكر كل مملكة وما هي عليه هي وأهلها في وقتنا هذا مما ضمن نطاق تلك المملكة واجتمع عليه طرفا تلك الدايرة لأقرب إلى الإفهام غالب ما بني عليه أم كل مملكة من مصطلح والمعاملات وما يوجد فيها غالباً ليبصرا بكل قطر القطر الآخر وبينته بالتصوير ليعرف كيف هو
لا تظهر الروابط في الأرشيف كأنه قدام عيونهم بالمشاهدة والعيان، مما اعتمدت في ذلك على تحقيق معرفتي له فيما رأيته بالمشاهدة ....». (ص 3 - ج 1 من مخطوطة كتاب مسالك الأبصار، النسخة ذات الرقم 2797/ 1أ أحمد الثالث، طوب قابو سراي - إسطنبول). هذا المتميز بكتابته نحو مئتي صفحة عن الأكراد في زمنه هو أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري، شهاب الدين. ولد في دمشق سنة 700هـ/ 1301م، مفتي دمشق الشام. تولى مناصب كبيرة، إذ عمل قاضياً، ثم ترأس ديوان الإنشاء في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، في ولايته الثالثة (709 - 741هـ). ينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب، لذلك لقب بالعمري، وقد تلقى تربيته الأولى في دمشق، ثم قدم إلى القاهرة ودرس فيها واتخذها موطناً له، ومال إلى التخصص في علوم الفقه واللغة وبرع في الكتابة والإنشاء، واستمر في العمل في البلاط السلطاني أيام لا تظهر الروابط في الأرشيف السلطان الناصر محمد بن قلاوون، إلى أن تقلّد ديوان الإنشاء والرسائل. قام بالتجول في الممالك الإسلامية، كالشام والأناضول والحجاز وغيرها، وكانت وفاته في دمشق سنة 749 هـ/ 1349م عن عمر قصير نسبياً. من مؤلفاته كتاب «الدعوة المستجابة» و «صبابة المشتاق» في المدح النبوي، و «سفر السفرة» و «فواضل السمر في فضائل آل عمر» و «النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية» و «التعريف بالمصطلح الشريف» وكتاب لمعرفة اتجاه القبلة لعدد من المدن الإسلامية، وغيرها من المؤلفات العلمية. وينسب إلى العمري أحد عشر مصنفاً، لكنه أبدع كجغرافي وبلداني، ووصل إلى ذروة العطاء العلمي في موسوعته «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار». وقد صدر في المغرب تحقيق لكتاب «المفاضلة بين المشرق والمغرب» ولعله جزء من كتاب مسالك الأبصار. لهذه الأسباب الموضوعية العلمية، إضافة إلى كتابته ما مجموعه 200 صفحة عن الأكراد وبلادهم، مدنهم وتاريخهم، عشائرهم وطوائفهم، وكذلك بعض الجوانب من حياتهم الاجتماعية، إضافة إلى الحديث عن الأمراء والملوك الأكراد. بناء على هذا الزخم من المعلومات المفصّلة، فضّلت اعتماده كمصدر رئيسي لتوضيح وتثبيت المعلومات الجغرافية والتاريخية الرئيسية حول الوجود التاريخي للأكراد عموماً، وحالة تجاورهم للعرب على وجه الخصوص التي أكدها وفصّلها ابن فضل الله في ترجيح ذي معانٍ ودلالات متعددة. مبررات الاستشهاد به تتصاعد النقاشات اليوم حول المسألة الكردية في سورية، وتنزع غالباً نحو تجريدها من صفتها التاريخية، واختزالها في إطار صراع سياسي راهن، صراع حاد وغير عقلاني، إذ يشطح البعض لإطلاق أحكام متسرعة، كاعتبارها مسألة غير عادلة تفتقر إلى أسسها الموضوعية وشرعيتها التاريخية، بل تتصاعد وتيرة الاتهام لجهات كردية بالقيام بعمليات تغيير ديموغرافي، كأن الأكراد غرباء عن هذه الأرض، بل يعدّهم بعض البعض من مفرزات الصراعات السياسية الراهنة، يقومون بإزاحة سكان الأرض الأصليين عن مواطنهم. أفترض أن هذا الخطاب يتصاعد نتيجة لغلبة التفكير المدرسي ورسوخه في أذهان النخبة العربية عموماً والسورية خصوصاً، وكذلك المبالغة في الاستناد إلى أفكار قوموية عروبية عنصرية فعلت فعلها المعرفي والأيديولوجي طوال سنوات وعقود في الوعي السياسي العربي عموماً والسوري خصوصاً، فأبعدته عن الموضوعية في مقاربة المسألة الكردية، وكذلك في تناولها ومعالجتها. سبق أن نشرتُ قبل 15 سنة في جريدة «الحياة» مقالاً تعريفياً بابن فضل الله لمناسبة مرور 700 سنة على ولادته، لكنني تشجعت أكثر في هذا الظرف العصيب للاعتماد عليه كأكثر المصادر العربية الإسلامية صدقية ودقّة في المعلومة الجغرافية، والتحكيم إليه، كونه عالج المواضيع السكانية والجغرافية بموضوعية قبل سبعة قرون، والاستشهاد بمفردات واضحة ضمن كتابيه «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، (تحقيق كامل سلمان الجبوري ومهدي النجم، 27 جزءاً ، بيروت 2010)، و «التعريف بالمصطلح الشريف»، (تحقيق محمد حسين شمس الدين، بيروت 1988). منهجياً سأحاول الاختصار والإشارة إلى النقاط التي تُحدد تماماً الوجود الجغرافي للأكراد في الجوار العربي، بهدف المساهمة في توضيح اللوحة الجغرافية التاريخية السكانية عهدئذٍ، فقد تساهم في تخفيف التوترات والإشكالات السياسية التي تعتمد غالباً على معلومات جغرافية وتاريخية غير صحيحة، تم تسويقها أيديولوجياً، فتزيد الوضع تعقيداً، وتقلل من فرص التفاهم والتعايش. تعريف الأكراد وفق العمري يبين ابن فضل الله أن الأكراد قوم خاص وجنس مستقل قائم بذاته، إذ كتب: «والذي نقول – وبالله التوفيق – أن الأكراد وإن دخل في نوعهم كل جنس أتى ذكره في هذه الفصول، فإنهم جنس خاص من نوع عام وهم ما قارب العراق وديار العرب دون من توغل في بلاد العجم، ومنهم طوائف بالشام واليمن. ومنهم فرق مفترقة في الأقطار وما حول العراق وديار العرب جمهرتهم» (مسالك الأبصار، ص 197 - المجلد 2 - 3). ويشدّد على هذه المعلومة السكانية – الأقوامية في كتابه «التعريف بالمصطلح الشريف» فقد كتب عصرئذ: «الأكراد وهم خلائق لا تُحصى، وأمم لا تُحصر، ولولا أن سيف الفتنة بينهم يستحصد قائمهم، وينبّه نائمهم، لفاضوا على البلاد، واستضافوا إليهم الطارف والتلاد، لكنهم رموا بشتات الرأي وتفرُّق الكلمة، لا يزال بينهم سيف مسلول، ودم مطلول، وعقد نظام محلول، وطرف باكية بالدماء مبلول، ولهم رأسان كل منهما جليل، ولكل منهما عدد غير قليل، وهما صاحب جولمرك، وصاحب عقرشوش» (ص 57، التعريف بالمصطلح الشريف). وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جولمرك هي مركز ولاية هكاريا في أقصى جنوب شرقي تركيا الحالية، أما عقرشوش فهي في الجزيرة الفراتية، وعلى الأرجح كان مركز الإمارة الكردية هذه مدينة في موقع قلعة الشوش، وفق ياقوت الحموي في معجم البلدان: «والشوش: قلعة عظيمة عالية جدّاً قرب عقر الحميدية من أعمال الموصل». أو قد تكون بلدة مندثرة في سهول الجزيرة الفراتية، جنوب جزيرة ابن عمر، وفق روايات أخرى. من قراءة النصّين السابقين وتحليلهما نستنتج أن كثافة الوجود الكوردي في عهد ابن فضل الله وما قبله كانت متركّزة في السهول وليست في الجبال، وكانت جمهرة الأكراد تستقر بجوار العرب تماماً، ويتضح ذلك أكثر وفق السرد التالي لجغرافية الوجود الكردي. الجغرافية السكانية للأكراد يحدد ابن فضل الله الخط الفاصل العام بين العرب والأكراد كما يأتي: «أما الفصل الجامع لأحوال سكان الجبال هؤلاء وغيرهم، فإنما نقول – وبالله التوفيق – إنما المراد بالجبال على المصطلح، هي الجبال الحاجزة بين ديار العرب وديار العجم وابتداؤها جبال همدان وشهرزور وانتهاؤها صياصي الكفرة، بلاد التكفور، وهي مملكة سيس وما هو مضاف إليها بايدي بيت لارن، ولم أذكر من عشائرهم إلا من كنت بهم خبيراً، ولم أُسمّ فيها منهم إلا بيت ملك أو إمارة تبدأ بجبال همدان وشهروزر وأربل وتنتهي إلى دجلة الجزيرة من كوار الموصل نترك ما وراء نهر دجلة إلى نهر الفرات لقلة الاحتفال به، على أن الذي ذكرته هو خلاصة المقصود، إذ لم يبق إلا أكراد الجزيرة وقرى ماردين، وهم لكل من جاورهم من الأعداء الماردين مع أن مساكنهم ليست منيعة، ومساكنهم للعصيان غير مستعصية...» (كتاب مسالك الأبصار، ص 198). هنا ينقطع النص في الكتاب، ربما هكذا ورد في نسخة المخطوطة التي اعتمدها المحقّقان، لكن النص يتواصل في نسخ أخرى، وكذلك عند أحمد القلقشندي يتم استكمال معنى هذا النص ومضمونه، بحيث يتم البيان بأن الأكراد موجودون في قرى عدة في سهول الجزيرة ومنطقة ماردين، وهي قرى غير منيعة، وتقع في السهول، وليست في مناطق جبلية، لكنها مسوّرة ومحمية برجالها الشجعان. للتوضيح والتذكير لا بد من الإشارة إلى أن همدان تقع غرب إيران الحالية، وأن شهرزور مدينة تاريخية تقع بالقرب من مدينة كركوك، وأن صياصي الكفرة ومملكة سيس تقعان في وسط الأناضول وشمال البحر الأبيض المتوسط. في موقع ونص آخر يشرح ابن فضل الله بطريقة أوضح جغرافية الوجود الكردي الملاصقة للعرب، خصوصاً للذين يتبعون حكام عقر سوسن أو عقرشوش، في الجزيرة: «وموقع بلادهم من بلادنا قريب، والمدعو منهم من الرحبة وما جاورها يكاد يجيب. وملوكنا تشكر لهم إخلاص نصيحة، وصفاء سريرة صحيحة. والقائم فيهم الآن شجاع الدين بن الأمير نجم الدين خضر بن مبارزكك» (ص 59، التعريف بالمصطلح الشريف). نستنتج من مؤلفات ابن فضل الله مع الاعتماد على نصوص من جاء قبله بقرون عدة كالمسعودي، ومن بعده القلقشندي، أن جغرافية الوجود الكردي كانت في العهد العباسي، وخلال المرحلة الأيوبية وحتى أواسط المملوكية تتركّز في المناطق السهلية المجاورة للبلاد العربية، بدءاً بشرق العراق الحالي، وصولاً إلى سهول شمال سورية فالأناضول، مروراً بالجزيرة الفراتية، فتأكيد قرب سكن الأكراد من ديار العرب، وما كان يعنيه ابن فضل الله من (بلادنا) هي بلاد الشام.من جهة أخرى، فإن تدقيقه للمسافة التي تفصل الأكراد عن العرب، جعلته يشرحها ويصورها حسياً، إلى درجة توصيفه إمكانية المناداة على الأكراد، وسماع أصواتهم لقربهم من قلعة الرحبة التي تقع على الضفة اليمنى (الشامية) لنهر الفرات في بلدة الميادين السورية شرق دير الزور، ما يفسّر سكن الأكراد على الضفة اليسرى، أي الشرقية لنهر الفرات، في جهة الجزيرة الحالية وبواديها. كما أن الظاهر في النص حُسن علاقات الجوار بين الأكراد ممثلين بأمراء عقرشوش والعرب وحكامهم في العراق وبلاد الشام. من خلال متابعة التحولات والمتغيّرات السكانية التي حدثت لاحقاً في الجزيرة الفراتية، ودراستها وفق مصادر متأخرة، ومن خلال وصف الكثير من الرحالة ومشاهداتهم، نرى أن التصحُّر والتدهور البيئي والسياسي كانا قد دفعا بالكثير من القبائل العربية إلى عبور نهر الفرات والتوجه شمالاً نحو مناطق أكثر خصباً، وربما أماناً ووفرة في المياه والمراعي. وهذا ما هيّأ المناخ لتحولات ديموغرافية واجتماعية جديدة، إذ تشجع قسم من السكان الأكراد في الجزيرة إلى التعايش والاندماج مع الآتين العرب، خصوصاً في البلدات والمدن، إضافة إلى انزياح وتراجع القسم الأعظم من القبائل الكردية الرحل نحو المناطق السهلية في أعالي الجزيرة الفراتية، للاستقرار على سفوحها. كانت بداية هذه التحولات الديموغرافية - الاجتماعية بعد غزوة تيمورلنك التي دمّرت معظم عمران الجزيرة الفراتية نحو سنة 1401، وتراجع في ربوعها الأمان، وانهارت تدريجاً النظم الاجتماعية والسياسية والهياكل العمرانية المحلية في الجزيرة الفراتية سنة بعد أخرى، لتتحول إلى منطقة شبه خالية من السكان خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ اقتصرت حياتها الاجتماعية على الرعي والبداوة، وفق الكثير من الوثائق ومشاهدات الرحالة. وتمت إعادة التوطين والإعمار في الجزيرة السورية نهاية العهد العثماني ومطلع عهد الانتداب الفرنسي، إلى درجة أنه يمكن القول بلا تحفظ أن التوزيع والوجود الحالي للسكان، وبالتالي الخريطة الديموغرافية - الاجتماعية الراهنة في سهول وبوادي الجزيرة السورية، عائدة في أساسها إلى سياسات الثلث الأول من القرن العشرين. المصدر : لا تظهر الروابط في الأرشيف المصدر : لا تظهر الروابط في الأرشيف |
مشاركة الموضوع: |
خيارات الموضوع | |
طريقة العرض | |
|
عناوين مشابهه | ||||
الموضوع | الكاتب | القسم | ردود | آخر مشاركة |
المقاتلون الأكراد يطردون داعش من عين العرب كوباني | مشاعر حزيـنة | الأرشيف | 0 | 28/06/2015 06:30 AM |
الأكراد يتقدمون في شمال سوريا على حساب تنظيم داعش | مشاعر حزيـنة | الأرشيف | 0 | 14/06/2015 04:05 AM |
|