أربع دقائق مزودة باثنتين وعشرين ثـانية.. تلك كانت المدة التي استغرقتها زيارة ابني الأكبر، لم أقـدر أني سألتقيه سريعا هكذا يعد أن اختفى عني شهورا، كان خلالها يستعيض عن الزيارة بمكالمة هاتفية جافة أو برقية جوفاء أو ورقة مسطورة بكلمات لا حيلة فيها.
في أثناء المدة المشـار إليها- وقد كنت أتطلع إلى ساعة الحائط المعلقة قبالتي- كانت مدة الزيارة موزعة كالتالي: خمس ثوان للسؤال عن أحوالي عموما، سبع ثوان للسؤال عن صحتي ومواعيد الدواء وعدم التهاون بالتأخير في تناولها، دقيقة أجرى- في وقار وجلال - مكالمة هاتفية مستخدما اصطلاحات وتعابير لم أفهمها، ثلاث دقائق- غير منقوصة- للحديث عن أعبائه المتعددة التي تزداد يوما بعد يوم: مشروعه الأخير وعما أثاره من ردود فعل غاضبة لدى منافسيه، تقلبات السوق التي يعيشها كل ساعة، إضـافة إلى ذلك ضيق الوقت والاجتماعات الكثيرة، هذا بخـلاف استقبال العملاء الأجـانب ومـوائد العمل ودراسات الجدوى.
وفيما كان يتحدث.. كنت- بين وقت وآخر- أنظر إليه، فيحول نـاظريه عني ويتشاغل بأشياء أخرى ينظر إليهـا، كأنما يضع حدا لمباراة العيون التي جرت بينا، وفيما كنت أنظر إليه.. كان من اللافت أن الشيب قد تسلل إلى رأسه، والوجه قد ذهب عنه بهاؤه الذي كان فيما مضى من الأيام.
وما إن أنهى حـديثه، حتى نهض في عجالة وهـو يعلن أن الوقت قد انصرم منه جزء كبير، وأن ثمة اجتماعا عليه أن يقصده، ثم تحرك مسرعا وهو يردد كلمات لم أسمع منهـا بعدها جلست بين الجدران أكثر وحدة في انتظار الزيارة المقبلة.. زيارة ابني الأصغر واحدة. الذي يجلس إلى جواري ساعات طويلة.