إن السؤال: " ما هو علم النفس " ؟ يحرج عالم النفس أكثر مما يحرج سؤال ، " ما هي الفلسفة " الفيلسوف ، ذلك أن التساؤل عن معنى الفلسفة وكنهها إنما هو الذي يكون الفلسفة اكثر مما يحددها الجواب عن هذا التساؤل ، إن كون التساؤل مازال يتولد باستمرار، لغياب الجواب الشافي ، إنما يشكل حجة للتواضع لا سببا للمهانة بالنسبة لمن يسعى لأن يطلق على نفسه صفة الفيلسوف ، أما بالنسبة لعلم النفس ، فان مسألة كنه هذا العلم ، أو بأكثر تواضع مسألة مفهوم هذا العلم ، إنما تضع وجود عالم النفس ذاته موضع سؤال ، وذلك أنه نظرا لعجزه عن الإجابة بدقة عمّا يكون عليه ( من جهة اختصاصه )، يصبح من العسير عليه جدا بيان ما يقوم به . ولم يعد بإمكانه في هذه الحالة البحث عن تبرير لأهمّيته كاختصاصي إلا في جدوى مشكوك فيها دوما، وهي أهمية لا يُزعج البثّة هذا أو ذاك أن تولد عقدة نقص لدى الفيلسوف .
وحين نقول بان جدوى عالم النفس قابلة للنقاش ، فإننا لا نعني بذلك أنها وهمية، نحن نريد أن نلاحظ فحسب أن هذه الجدوى تفتقر بلا شك إلى أساس صلب ، طالما لم يقم الدليل على أنها تستند إلى تطبيق علم ما، أي طالما أن منزلة علم النفس لم تحدد بطريقة تجعل منه شيئا أكثر وأفضل من مجرد خبرية متعددة العناصر مصاغة بأسلوب أدبي لغايات تعليمية. وفعلا، فان الانطباع الذي تحدثه كثير من الأبحاث في علم النفس هو أنها تخلط بين فلسفة تعوزها الدقة، و أخلاقيات دون ضوابط لأنها تجمع بين تجارب أخلاقية هي نفسها مفتقرة إلى النقد وتتمثل في أخلاقيات العراف والمربَي والقائد والقاضي الخ ...، وطبّ دون رقابة لأنه من أصل ثلاثة أنواع من الأمراض الأكثر التباسا والأقل قابلية للشفاء - أمراض الجلد والأعصاب والأمراض العقلية - فان علم النفس قد استند دائما في ملاحظاته وفرضياته إلى دراسة المرضين الأخيرين وعلاجهما.
وهكذا قد ببدو إذن أننا حين نتساءل ما هو علم النفس ؟ لا نطرح سؤالا غير وجيه ولا ****ا.
لقد تم البحث طويلا عن الوحدة المميزة لمفهوم علم ما في اتجاه موضوعه ، إن الموضوع هو الذي يملي المنهج المثّبع في دراسة خصائصه . ولكن ذلك كان يعني في جوهره اقتصار العلم على استقصاء معطى ما، وعلى استكشاف مجال معين ، ولكن حين تبين أن كل علم يحدد لنفسه تقريبا معطياته ويتملك بذلك ما نسميه مجاله ، فان مفهوم علم ما قد أخذ بعين الاعتبار تدريجيا منهجه أكثر مما اعتبر موضوعه أو بتحديد أدق ، اكتسب تعبير " موضوع العلم " معنى جديدا. فلم يعد يقتصر موضوع العلم على المجال الخاص بالمسائل ، و لا على العوائق المطروحة للحل ، بل أصبح يشمل أيضا نية الذات الدارسة و مراميها، إنّه المشروع المخصوص الذي يمثّل على هذا النحو وعيا نظريا معينا.
يمكن الرد على سؤال " ما هو علم النفس ؟ " ببيان وحدة مجال هذا العلم رغم تعدد المشاريع المنهجية. مثال على ذلك الجواب الممتاز الذي قدمه الأستاذ دانيال لاغاش عام 1947 ردا على مسألة طرحها إيدوار كلاباريد عام 1936. إن البحث من وحدة علم النفس يتم هنا ضمن إطار تحديده الممكن كنظرية عامة في التصرف ، أي كتأليف بين علم النفس التجريبي وعلم النفس العيادي وعلم النفس التحليلي وعلم النفس الاجتماعي و الأثنولوجيا.
ولكننا حين نمعن النظر قي ذلك ، فإننا نتساءل عما إذا كانت هذه الوحدة أقرب إلى ميثاق تعايش سلمي معقود بين محترفين منها إلى جوهر منطقي هو حصيلة بروز خط ثابت وسط تغير الحالات . فمن بين التيارين اللذين يبحث الأستاذ لاغاش عن إتفاق متين بينهما : الاتجاه الطبيعي ( علم النفس التجريبي ) والاتجاه الإنساني ( علم النفس العيادي )، يبدو لنا وكأن الاتجاه الثاني يتمتع ، في نظره ، بمكانة أفضل. وهذا ما يفسر دون شك غياب علم النفس الحيواني في هذا العرض لأطراف النزاع . لا شك أن علم النفس الحيواني متضمن في علم النفس التجريبي - الذي هو في معظمه علم نفس الحيوانات - ولكنه محصور ضمن هذا العلم كمادة يطبق عليها المنهج ، وبالفعل لا يمكن اعتبار علم النفس تجريبيا إلا من جهة منهجه وليس من جهة موضوعه ، في حين أنه ، وبالرغم من المظاهر، يتحدد علم نفس ما كعلم نفس عيادي ، تحليلي ، اجتماعي أو أثنولوجي بالنظر إلى موضوعه اكثر مما يتحدد بالنظر إلى المنهج . تدل كل هذه الصفات على موضوع واحد للبحث هو الإنسان بما.هو كائن طلق اللسان أو صموت ، الإنسان بما هو كائن اجتماعي أو لا اجتماعي ، هل نستطيع عندئذ أن نتكلم بدقة عن نظرية عامة في التصرف طالما لم نحل بعد مسألة،معرفة ما إذا كانت ثمة استمرارية أو قطيعة بين اللغة الإنسانية و" اللغة الحيوانية "، بين المجتمع الإنساني والمجتمع الحيواني ؟ وفي هذه النقطة، قد يرجع القرار لا إلى الفلسفة، بل إلى العلم ، أي في واقع الأمر إلى عدة علوم بما فيها علم النفس ، ولكن لا يستطيع علم النفس حينذاك ، لكي يعرف نفسه ، أن يحكم مسبقا على ما هو مدعو للحكم بشأنه ؛ و إلا فلا مفر لعلم النفس ، حين يطرح نفسه كنظرية عامة في التصرف ، من أن يتبنى فكرة ما عن الإنسان. عندئذ يجب السماح للفلسفة بأن تسأل علم النفس من أين أتى بهذه الفكرة، أو ليست هذه الفكرة أساسا وليدة فلسفة ما ؟