وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ↓
يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا ↓
يَعْنِي فِي الْفَضْل وَالشَّرَف . وَقَالَ : " كَأَحَدٍ " وَلَمْ يَقُلْ كَوَاحِدَةٍ , لِأَنَّ أَحَدًا نَفْي مِنْ الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث وَالْوَاحِد وَالْجَمَاعَة . وَقَدْ يُقَال عَلَى مَا لَيْسَ بِآدَمِيٍّ , يُقَال : لَيْسَ فِيهَا أَحَد , لَا شَاة وَلَا بَعِير . وَإِنَّمَا خُصِّصَ النِّسَاء بِالذِّكْرِ لِأَنَّ فِيمَنْ تَقَدَّمَ آسِيَة وَمَرْيَم . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَتَادَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " الِاخْتِلَاف فِي التَّفْضِيل بَيْنهنَّ , فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ .
أَيْ خِفْتُنَّ اللَّه . فَبَيَّنَ أَنَّ الْفَضِيلَة إِنَّمَا تَتِمّ لَهُنَّ بِشَرْطِ التَّقْوَى , لِمَا مَنَحَهُنَّ اللَّه مِنْ صُحْبَة الرَّسُول وَعَظِيم الْمَحَلّ مِنْهُ , وَنُزُول الْقُرْآن فِي حَقّهنَّ .
فِي مَوْضِع جَزْم بِالنَّهْيِ , إِلَّا أَنَّهُ مَبْنِيّ كَمَا بُنِيَ الْمَاضِي , هَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهِ , أَيْ لَا تُلِنَّ الْقَوْل . أَمَرَهُنَّ اللَّه أَنْ يَكُون قَوْلهنَّ جَزْلًا وَكَلَامهنَّ فَصْلًا , وَلَا يَكُون عَلَى وَجْه يُظْهِر فِي الْقَلْب عَلَاقَة بِمَا يَظْهَر عَلَيْهِ مِنْ اللِّين , كَمَا كَانَتْ الْحَال عَلَيْهِ فِي نِسَاء الْعَرَب مِنْ مُكَالَمَة الرِّجَال بِتَرْخِيمِ الصَّوْت وَلِينه , مِثْل كَلَام الْمُرِيبَات وَالْمُومِسَات . فَنَهَاهُنَّ عَنْ مِثْل هَذَا .
" فَيَطْمَعَ " بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَاب النَّهْي . " مَرْص " أَيْ شَكّ وَنِفَاق , عَنْ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ . وَقِيلَ : تَشَوُّف الْفُجُور , وَهُوَ الْفِسْق وَالْغَزَل , قَالَهُ عِكْرِمَة . وَهَذَا أَصْوَبُ , وَلَيْسَ لِلنِّفَاقِ مَدْخَل فِي هَذِهِ الْآيَة . وَحَكَى أَبُو حَاتِم أَنَّ الْأَعْرَج قَرَأَ " فَيَطْمِع " بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْر الْمِيم . النَّحَّاس : أَحْسَب هَذَا غَلَطًا , وَأَنْ يَكُون قَرَأَ " فَيَطْمَعِ " بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الْعَيْن بِعَطْفِهِ عَلَى " تَخْضَعْنَ " فَهَذَا وَجْه جَيِّد حَسَن . وَيَجُوز " فَيُطْمِع " بِمَعْنَى فَيُطْمِع الْخُضُوع أَوْ الْقَوْل .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَمَرَهُنَّ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر . وَالْمَرْأَة تُنْدَب إِذَا خَاطَبَتْ الْأَجَانِب وَكَذَا الْمُحَرَّمَات عَلَيْهَا بِالْمُصَاهَرَةِ إِلَى الْغِلْظَة فِي الْقَوْل , مِنْ غَيْر رَفْع صَوْت , فَإِنَّ الْمَرْأَة مَأْمُورَة بِخَفْضِ الْكَلَام . وَعَلَى الْجُمْلَة فَالْقَوْل الْمَعْرُوف : هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا تُنْكِرهُ الشَّرِيعَة وَلَا النُّفُوس .
أَيْ خِفْتُنَّ اللَّه . فَبَيَّنَ أَنَّ الْفَضِيلَة إِنَّمَا تَتِمّ لَهُنَّ بِشَرْطِ التَّقْوَى , لِمَا مَنَحَهُنَّ اللَّه مِنْ صُحْبَة الرَّسُول وَعَظِيم الْمَحَلّ مِنْهُ , وَنُزُول الْقُرْآن فِي حَقّهنَّ .
فِي مَوْضِع جَزْم بِالنَّهْيِ , إِلَّا أَنَّهُ مَبْنِيّ كَمَا بُنِيَ الْمَاضِي , هَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهِ , أَيْ لَا تُلِنَّ الْقَوْل . أَمَرَهُنَّ اللَّه أَنْ يَكُون قَوْلهنَّ جَزْلًا وَكَلَامهنَّ فَصْلًا , وَلَا يَكُون عَلَى وَجْه يُظْهِر فِي الْقَلْب عَلَاقَة بِمَا يَظْهَر عَلَيْهِ مِنْ اللِّين , كَمَا كَانَتْ الْحَال عَلَيْهِ فِي نِسَاء الْعَرَب مِنْ مُكَالَمَة الرِّجَال بِتَرْخِيمِ الصَّوْت وَلِينه , مِثْل كَلَام الْمُرِيبَات وَالْمُومِسَات . فَنَهَاهُنَّ عَنْ مِثْل هَذَا .
" فَيَطْمَعَ " بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَاب النَّهْي . " مَرْص " أَيْ شَكّ وَنِفَاق , عَنْ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ . وَقِيلَ : تَشَوُّف الْفُجُور , وَهُوَ الْفِسْق وَالْغَزَل , قَالَهُ عِكْرِمَة . وَهَذَا أَصْوَبُ , وَلَيْسَ لِلنِّفَاقِ مَدْخَل فِي هَذِهِ الْآيَة . وَحَكَى أَبُو حَاتِم أَنَّ الْأَعْرَج قَرَأَ " فَيَطْمِع " بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْر الْمِيم . النَّحَّاس : أَحْسَب هَذَا غَلَطًا , وَأَنْ يَكُون قَرَأَ " فَيَطْمَعِ " بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الْعَيْن بِعَطْفِهِ عَلَى " تَخْضَعْنَ " فَهَذَا وَجْه جَيِّد حَسَن . وَيَجُوز " فَيُطْمِع " بِمَعْنَى فَيُطْمِع الْخُضُوع أَوْ الْقَوْل .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَمَرَهُنَّ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر . وَالْمَرْأَة تُنْدَب إِذَا خَاطَبَتْ الْأَجَانِب وَكَذَا الْمُحَرَّمَات عَلَيْهَا بِالْمُصَاهَرَةِ إِلَى الْغِلْظَة فِي الْقَوْل , مِنْ غَيْر رَفْع صَوْت , فَإِنَّ الْمَرْأَة مَأْمُورَة بِخَفْضِ الْكَلَام . وَعَلَى الْجُمْلَة فَالْقَوْل الْمَعْرُوف : هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا تُنْكِرهُ الشَّرِيعَة وَلَا النُّفُوس .
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ↓
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى " وَقَرْنَ " قَرَأَ الْجُمْهُور " وَقِرْنَ " بِكَسْرِ الْقَاف . وَقَرَأَ عَاصِم وَنَافِع بِفَتْحِهَا . فَأَمَّا الْقِرَاءَة الْأُولَى فَتَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون مِنْ الْوَقَار , تَقُول : وَقَرَ يَقِر وَقَارًا أَيْ سَكَنَ , وَالْأَمْر قِرْ , وَلِلنِّسَاءِ قِرْنَ , مِثْل عِدْنَ وَزِنَّ . وَالْوَجْه الثَّانِي : وَهُوَ قَوْل الْمُبَرِّد , أَنْ يَكُون مِنْ الْقَرَار , تَقُول : قَرَرْت بِالْمَكَانِ ( بِفَتْحِ الرَّاء ) أَقِرّ , وَالْأَصْل أَقْرِرْنَ , بِكَسْرِ الرَّاء , فَحُذِفَتْ الرَّاء الْأُولَى تَخْفِيفًا , كَمَا قَالُوا فِي ظَلَلْت : ظِلْت , وَمَسَسْت : مِسْت , وَنَقَلُوا حَرَكَتهَا إِلَى الْقَاف , وَاسْتُغْنِيَ عَنْ أَلِف الْوَصْل لِتَحَرُّكِ الْقَاف . قَالَ أَبُو عَلِيّ : بَلْ عَلَى أَنْ أُبْدِلَتْ الرَّاء يَاء كَرَاهَة التَّضْعِيف , كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قِيرَاط وَدِينَار , وَيَصِير لِلْيَاءِ حَرَكَة الْحَرْف الْمُبْدَل مِنْهُ , فَالتَّقْدِير : إِقْيِرْن , ثُمَّ تُلْقَى حَرَكَة الْيَاء عَلَى الْقَاف كَرَاهَة تَحَرُّك الْيَاء بِالْكَسْرِ , فَتَسْقُط الْيَاء لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ , وَتَسْقُط هَمْزَة الْوَصْل لِتَحَرُّكِ مَا بَعْدهَا فَيَصِير " قِرْنَ " . وَأَمَّا قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَعَاصِم , فَعَلَى لُغَة الْعَرَب : قَرِرْت فِي الْمَكَان إِذَا أَقَمْت فِيهِ ( بِكَسْرِ الرَّاء ) أَقَرّ ( بِفَتْحِ الْقَاف ) , مِنْ بَاب حَمِدَ يَحْمَد , وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَاز ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْد فِي " الْغَرِيب الْمُصَنَّف " عَنْ الْكِسَائِيّ , وَهُوَ مِنْ أَجَلّ مَشَايِخه , وَذَكَرَهَا الزَّجَّاج وَغَيْره , وَالْأَصْل " إِقْرَرْن " حُذِفَتْ الرَّاء الْأُولَى لِثِقَلِ التَّضْعِيف , وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتهَا عَلَى الْقَاف فَتَقُول : قَرْنَ . قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ كَمَا تَقُول : أَحَسْت صَاحِبك , أَيْ هَلْ أَحْسَسْت . وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الْمَازِنِيّ : قَرِرْت بِهِ عَيْنًا ( بِالْكَسْرِ لَا غَيْر ) , مِنْ قُرَّة الْعَيْن . وَلَا يَجُوز قَرِرْت فِي الْمَكَان ( بِالْكَسْرِ ) وَإِنَّمَا هُوَ قَرَرْت ( بِفَتْحِ الرَّاء ) , وَمَا أَنْكَرَهُ مِنْ هَذَا لَا يَقْدَح فِي الْقِرَاءَة إِذَا ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيُسْتَدَلّ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ الْقِرَاءَة عَلَى صِحَّة اللُّغَة . وَذَهَبَ أَبُو حَاتِم أَيْضًا أَنَّ " قَرْنَ " لَا مَذْهَب لَهُ فِي كَلَام الْعَرَب . قَالَ النَّحَّاس : وَأَمَّا قَوْل أَبِي حَاتِم : " لَا مَذْهَب لَهُ " فَقَدْ خُولِفَ فِيهِ , وَفِيهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدهمَا مَا حَكَاهُ الْكِسَائِيّ , وَالْآخَر مَا سَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول , قَالَ : وَهُوَ مِنْ قَرِرْت بِهِ عَيْنًا أَقَرّ , وَالْمَعْنَى : وَاقْرَرْنَ بِهِ عَيْنًا فِي بُيُوتكُنَّ . وَهُوَ وَجْه حَسَن , إِلَّا أَنَّ الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْأَوَّل . كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارًا قَالَ لِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : إِنَّ اللَّه قَدْ أَمَرَك أَنْ تَقَرِّي فِي مَنْزِلك , فَقَالَتْ : يَا أَبَا الْيَقْظَان , مَا زِلْت قَوَّالًا بِالْحَقِّ ! فَقَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي كَذَلِكَ عَلَى لِسَانك . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة " وَاقْرِرْنَ " بِأَلِفِ وَصْل وَرَاءَيْنِ , الْأُولَى مَكْسُورَة .
الثَّانِيَة : مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة الْأَمْر بِلُزُومِ الْبَيْت , وَإِنْ كَانَ الْخِطَاب لِنِسَاءِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ دَخَلَ غَيْرهنَّ فِيهِ بِالْمَعْنَى . هَذَا لَوْ لَمْ يَرِد دَلِيل يَخُصّ جَمِيع النِّسَاء , كَيْف وَالشَّرِيعَة طَافِحَة بِلُزُومِ النِّسَاء بُيُوتهنَّ , وَالِانْكِفَاف عَنْ الْخُرُوج مِنْهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع . فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُلَازَمَةِ بُيُوتهنَّ , وَخَاطَبَهُنَّ بِذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُنَّ , وَنَهَاهُنَّ عَنْ التَّبَرُّج , وَأَعْلَمَ أَنَّهُ فِعْل الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى فَقَالَ : " وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّج الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى " . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّج فِي " النُّور " . وَحَقِيقَته إِظْهَار مَا سَتْرُهُ أَحْسَنُ , وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ السَّعَة , يُقَال : فِي أَسْنَانه بَرَج إِذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَة , قَالَهُ الْمُبَرِّد . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي " الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى " فَقِيلَ : هِيَ الزَّمَن الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام , كَانَتْ الْمَرْأَة تَلْبَس الدِّرْع مِنْ اللُّؤْلُؤ , فَتَمْشِي وَسَط الطَّرِيق تَعْرِض نَفْسهَا عَلَى الرِّجَال . وَقَالَ الْحَكَم بْن عُيَيْنَة : مَا بَيْن آدَم وَنُوح , وَهِيَ ثَمَانمِائَةِ سَنَة , وَحُكِيَتْ لَهُمْ سِيَر ذَمِيمَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا بَيْن نُوح وَإِدْرِيس . الْكَلْبِيّ : مَا بَيْن نُوح وَإِبْرَاهِيم . قِيلَ : إِنَّ الْمَرْأَة كَانَتْ تَلْبَس الدِّرْع مِنْ اللُّؤْلُؤ غَيْر مَخِيط الْجَانِبَيْنِ , وَتَلْبَس الثِّيَاب الرِّقَاق وَلَا تُوَارِي بَدَنهَا . وَقَالَتْ فِرْقَة : مَا بَيْن مُوسَى وَعِيسَى . الشَّعْبِيّ : مَا بَيْن عِيسَى وَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو الْعَالِيَة : هِيَ زَمَان دَاوُد وَسُلَيْمَان , كَانَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ قَمِيص مِنْ الدُّرّ غَيْر مَخِيط الْجَانِبَيْنِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد : وَالْجَاهِلِيَّة الْأُولَى كَمَا تَقُول الْجَاهِلِيَّة الْجَهْلَاء , قَالَ : وَكَانَ النِّسَاء فِي الْجَاهِلِيَّة الْجَهْلَاء يُظْهِرْنَ مَا يَقْبُح إِظْهَاره , حَتَّى كَانَتْ الْمَرْأَة تَجْلِس مَعَ زَوْجهَا وَخِلّهَا , فَيَنْفَرِد خِلّهَا بِمَا فَوْق الْإِزَار إِلَى الْأَعْلَى , وَيَنْفَرِد زَوْجهَا بِمَا دُون الْإِزَار إِلَى الْأَسْفَل , وَرُبَّمَا سَأَلَ أَحَدهمَا صَاحِبه الْبَدَل . وَقَالَ مُجَاهِد : كَانَ النِّسَاء يَتَمَشَّيْنَ بَيْن الرِّجَال , فَذَلِكَ التَّبَرُّج . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي يَظْهَر عِنْدِي أَنَّهُ أَشَارَ لِلْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَحِقْنَهَا , فَأُمِرْنَ بِالنَّقْلَةِ عَنْ سِيرَتهنَّ فِيهَا , وَهِيَ مَا كَانَ قَبْل الشَّرْع مِنْ سِيرَة الْكَفَرَة , لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا غَيْرَة عِنْدهمْ وَكَانَ أَمْر النِّسَاء دُون حِجَاب , وَجَعْلُهَا أُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كُنَّ عَلَيْهِ , وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّة أُخْرَى وَقَدْ أُوقِعَ اِسْم الْجَاهِلِيَّة عَلَى تِلْكَ الْمُدَّة الَّتِي قَبْل الْإِسْلَام , فَقَالُوا : جَاهِلِيّ فِي الشُّعَرَاء وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي الْبُخَارِيّ : سَمِعْت أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّة يَقُول , إِلَى غَيْر هَذَا .
قُلْت : وَهَذَا قَوْل حَسَن . وَيُعْتَرَض بِأَنَّ الْعَرَب كَانَتْ أَهْل قَشَف وَضَنْك فِي الْغَالِب , وَأَنَّ التَّنَعُّم وَإِظْهَار الزِّينَة إِنَّمَا جَرَى فِي الْأَزْمَان السَّابِقَة , وَهِيَ الْمُرَاد بِالْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى , وَأَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة مُخَالَفَة مَنْ قَبْلهنَّ مِنْ الْمِشْيَة عَلَى تَغْنِيج وَتَكْسِير وَإِظْهَار الْمَحَاسِن لِلرِّجَالِ , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوز شَرْعًا . وَذَلِكَ يَشْمَل الْأَقْوَال كُلّهَا وَيَعُمّهَا فَيَلْزَمْنَ الْبُيُوت , فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَة إِلَى الْخُرُوج فَلْيَكُنْ عَلَى تَبَذُّل وَتَسَتُّر تَامّ . وَاَللَّه الْمُوَفِّق .
الثَّالِثَة : ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ وَغَيْره : أَنَّ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - كَانَتْ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَة تَبْكِي حَتَّى تَبُلّ خِمَارهَا . وَذَكَرَ أَنَّ سَوْدَة قِيلَ لَهَا : لِمَ لَا تَحُجِّينَ وَلَا تَعْتَمِرِينَ كَمَا يَفْعَل أَخَوَاتك ؟ فَقَالَتْ : قَدْ حَجَجْت وَاعْتَمَرْت , وَأَمَرَنِي اللَّه أَنْ أَقِرَّ فِي بَيْتِي . قَالَ الرَّاوِي : فَوَاَللَّهِ مَا خَرَجَتْ مِنْ بَاب حُجْرَتهَا حَتَّى أُخْرِجَتْ جِنَازَتهَا . رِضْوَان اللَّه عَلَيْهَا قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَقَدْ دَخَلْت نَيِّفًا عَلَى أَلْف قَرْيَة فَمَا رَأَيْت نِسَاء أَصْوَن عِيَالًا وَلَا أَعَفّ نِسَاء مِنْ نِسَاء نَابُلُس , الَّتِي رُمِيَ بِهَا الْخَلِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّارِ , فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا فَمَا رَأَيْت اِمْرَأَة فِي طَرِيق نَهَارًا إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئ الْمَسْجِد مِنْهُنَّ , فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاة وَانْقَلَبْنَ إِلَى مَنَازِلهنَّ لَمْ تَقَع عَيْنَيَّ عَلَى وَاحِدَة مِنْهُنَّ إِلَى الْجُمُعَة الْأُخْرَى . وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِف مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفهنَّ حَتَّى اُسْتُشْهِدْنَ فِيهِ .
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : بُكَاء عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ سَفَرهَا أَيَّام الْجَمَل , وَحِينَئِذٍ قَالَ لَهَا عَمَّار : إِنَّ اللَّه قَدْ أَمَرَك أَنْ تَقِرِّي فِي بَيْتك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : تَعَلَّقَ الرَّافِضَة - لَعَنَهُمْ اللَّه - بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِذْ قَالُوا : إِنَّهَا خَالَفَتْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين خَرَجَتْ تَقُود الْجُيُوش , وَتُبَاشِر الْحُرُوب , وَتَقْتَحِم مَأْزِق الطَّعْن وَالضَّرْب فِيمَا لَمْ يُفْرَض عَلَيْهَا وَلَا يَجُوز لَهَا . قَالُوا : وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَان , فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ لِتَخْرُج إِلَى مَكَّة , فَقَالَ لَهَا مَرْوَان : أَقِيمِي هُنَا يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاع , فَإِنَّ الْإِصْلَاح بَيْن النَّاس خَيْر مِنْ حَجّك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : إِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , نَذَرَتْ الْحَجّ قَبْل الْفِتْنَة , فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّف عَنْ نَذْرهَا , وَلَوْ خَرَجَتْ فِي تِلْكَ الثَّائِرَة لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابًا لَهَا . وَأَمَّا خُرُوجهَا إِلَى حَرْب الْجَمَل فَمَا خَرَجَتْ لِحَرْبٍ , وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاس بِهَا , وَشَكَوْا إِلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عَظِيم الْفِتْنَة وَتَهَارُج النَّاس , وَرَجَوْا بَرَكَتهَا , وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاء مِنْهَا إِذَا وَقَفَتْ إِلَى الْخَلْق , وَظَنَّتْ هِيَ ذَلِكَ فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَة بِاَللَّهِ فِي قَوْله : " لَا خَيْر فِي كَثِير مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلَاح بَيْن النَّاس " [ النِّسَاء : 114 ] , وَقَوْله : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنهمَا " [ الْحُجُرَات : 9 ] وَالْأَمْر بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَب بِهِ جَمِيع النَّاس مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى ; حُرّ أَوْ عَبْد فَلَمْ يُرِدْ اللَّه تَعَالَى بِسَابِقِ قَضَائِهِ وَنَافِذ حُكْمه أَنْ يَقَع إِصْلَاح , وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَات وَجِرَاحَات حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ , فَعَمَدَ بَعْضهمْ إِلَى الْجَمَل فَعَرْقَبَهُ , فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَل لِجَنْبِهِ أَدْرَكَ مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر عَائِشَة رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا , فَاحْتَمَلَهَا إِلَى الْبَصْرَة , وَخَرَجَتْ فِي ثَلَاثِينَ اِمْرَأَة , قَرَنَهُنَّ عَلِيّ بِهَا حَتَّى أَوْصَلُوهَا إِلَى الْمَدِينَة بَرَّة تَقِيَّة مُجْتَهِدَة , مُصِيبَة مَثَابَة فِيمَا تَأَوَّلَتْ , مَأْجُورَة فِيمَا فَعَلَتْ , إِذْ كُلّ مُجْتَهِد فِي الْأَحْكَام مُصِيب . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " النَّحْل " اِسْم هَذَا الْجَمَل , وَبِهِ يُعْرَف ذَلِكَ الْيَوْمُ .
أَيْ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى
قَالَ الزَّجَّاج : قِيلَ يُرَاد بِهِ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ : يُرَاد بِهِ نِسَاؤُهُ وَأَهْله الَّذِينَ هُمْ أَهْل بَيْته , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه بَعْد و " أَهْل الْبَيْت " نُصِبَ عَلَى الْمَدْح . قَالَ : وَإِنْ شِئْت عَلَى الْبَدَل . قَالَ : وَيَجُوز الرَّفْع وَالْخَفْض . قَالَ النَّحَّاس : إِنْ خُفِضَ عَلَى أَنَّهُ بَدَل مِنْ الْكَاف وَالْمِيم لَمْ يَجُزْ عِنْد أَبِي الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد , قَالَ لَا يُبْدَل مِنْ الْمُخَاطَبَة وَلَا مِنْ الْمُخَاطَب , لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى تَبْيِين . " وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرًا " مَصْدَر فِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيد .
الثَّانِيَة : مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة الْأَمْر بِلُزُومِ الْبَيْت , وَإِنْ كَانَ الْخِطَاب لِنِسَاءِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ دَخَلَ غَيْرهنَّ فِيهِ بِالْمَعْنَى . هَذَا لَوْ لَمْ يَرِد دَلِيل يَخُصّ جَمِيع النِّسَاء , كَيْف وَالشَّرِيعَة طَافِحَة بِلُزُومِ النِّسَاء بُيُوتهنَّ , وَالِانْكِفَاف عَنْ الْخُرُوج مِنْهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع . فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُلَازَمَةِ بُيُوتهنَّ , وَخَاطَبَهُنَّ بِذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُنَّ , وَنَهَاهُنَّ عَنْ التَّبَرُّج , وَأَعْلَمَ أَنَّهُ فِعْل الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى فَقَالَ : " وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّج الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى " . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّج فِي " النُّور " . وَحَقِيقَته إِظْهَار مَا سَتْرُهُ أَحْسَنُ , وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ السَّعَة , يُقَال : فِي أَسْنَانه بَرَج إِذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَة , قَالَهُ الْمُبَرِّد . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي " الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى " فَقِيلَ : هِيَ الزَّمَن الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام , كَانَتْ الْمَرْأَة تَلْبَس الدِّرْع مِنْ اللُّؤْلُؤ , فَتَمْشِي وَسَط الطَّرِيق تَعْرِض نَفْسهَا عَلَى الرِّجَال . وَقَالَ الْحَكَم بْن عُيَيْنَة : مَا بَيْن آدَم وَنُوح , وَهِيَ ثَمَانمِائَةِ سَنَة , وَحُكِيَتْ لَهُمْ سِيَر ذَمِيمَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا بَيْن نُوح وَإِدْرِيس . الْكَلْبِيّ : مَا بَيْن نُوح وَإِبْرَاهِيم . قِيلَ : إِنَّ الْمَرْأَة كَانَتْ تَلْبَس الدِّرْع مِنْ اللُّؤْلُؤ غَيْر مَخِيط الْجَانِبَيْنِ , وَتَلْبَس الثِّيَاب الرِّقَاق وَلَا تُوَارِي بَدَنهَا . وَقَالَتْ فِرْقَة : مَا بَيْن مُوسَى وَعِيسَى . الشَّعْبِيّ : مَا بَيْن عِيسَى وَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو الْعَالِيَة : هِيَ زَمَان دَاوُد وَسُلَيْمَان , كَانَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ قَمِيص مِنْ الدُّرّ غَيْر مَخِيط الْجَانِبَيْنِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد : وَالْجَاهِلِيَّة الْأُولَى كَمَا تَقُول الْجَاهِلِيَّة الْجَهْلَاء , قَالَ : وَكَانَ النِّسَاء فِي الْجَاهِلِيَّة الْجَهْلَاء يُظْهِرْنَ مَا يَقْبُح إِظْهَاره , حَتَّى كَانَتْ الْمَرْأَة تَجْلِس مَعَ زَوْجهَا وَخِلّهَا , فَيَنْفَرِد خِلّهَا بِمَا فَوْق الْإِزَار إِلَى الْأَعْلَى , وَيَنْفَرِد زَوْجهَا بِمَا دُون الْإِزَار إِلَى الْأَسْفَل , وَرُبَّمَا سَأَلَ أَحَدهمَا صَاحِبه الْبَدَل . وَقَالَ مُجَاهِد : كَانَ النِّسَاء يَتَمَشَّيْنَ بَيْن الرِّجَال , فَذَلِكَ التَّبَرُّج . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي يَظْهَر عِنْدِي أَنَّهُ أَشَارَ لِلْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَحِقْنَهَا , فَأُمِرْنَ بِالنَّقْلَةِ عَنْ سِيرَتهنَّ فِيهَا , وَهِيَ مَا كَانَ قَبْل الشَّرْع مِنْ سِيرَة الْكَفَرَة , لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا غَيْرَة عِنْدهمْ وَكَانَ أَمْر النِّسَاء دُون حِجَاب , وَجَعْلُهَا أُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كُنَّ عَلَيْهِ , وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّة أُخْرَى وَقَدْ أُوقِعَ اِسْم الْجَاهِلِيَّة عَلَى تِلْكَ الْمُدَّة الَّتِي قَبْل الْإِسْلَام , فَقَالُوا : جَاهِلِيّ فِي الشُّعَرَاء وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي الْبُخَارِيّ : سَمِعْت أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّة يَقُول , إِلَى غَيْر هَذَا .
قُلْت : وَهَذَا قَوْل حَسَن . وَيُعْتَرَض بِأَنَّ الْعَرَب كَانَتْ أَهْل قَشَف وَضَنْك فِي الْغَالِب , وَأَنَّ التَّنَعُّم وَإِظْهَار الزِّينَة إِنَّمَا جَرَى فِي الْأَزْمَان السَّابِقَة , وَهِيَ الْمُرَاد بِالْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى , وَأَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة مُخَالَفَة مَنْ قَبْلهنَّ مِنْ الْمِشْيَة عَلَى تَغْنِيج وَتَكْسِير وَإِظْهَار الْمَحَاسِن لِلرِّجَالِ , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوز شَرْعًا . وَذَلِكَ يَشْمَل الْأَقْوَال كُلّهَا وَيَعُمّهَا فَيَلْزَمْنَ الْبُيُوت , فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَة إِلَى الْخُرُوج فَلْيَكُنْ عَلَى تَبَذُّل وَتَسَتُّر تَامّ . وَاَللَّه الْمُوَفِّق .
الثَّالِثَة : ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ وَغَيْره : أَنَّ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - كَانَتْ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَة تَبْكِي حَتَّى تَبُلّ خِمَارهَا . وَذَكَرَ أَنَّ سَوْدَة قِيلَ لَهَا : لِمَ لَا تَحُجِّينَ وَلَا تَعْتَمِرِينَ كَمَا يَفْعَل أَخَوَاتك ؟ فَقَالَتْ : قَدْ حَجَجْت وَاعْتَمَرْت , وَأَمَرَنِي اللَّه أَنْ أَقِرَّ فِي بَيْتِي . قَالَ الرَّاوِي : فَوَاَللَّهِ مَا خَرَجَتْ مِنْ بَاب حُجْرَتهَا حَتَّى أُخْرِجَتْ جِنَازَتهَا . رِضْوَان اللَّه عَلَيْهَا قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَقَدْ دَخَلْت نَيِّفًا عَلَى أَلْف قَرْيَة فَمَا رَأَيْت نِسَاء أَصْوَن عِيَالًا وَلَا أَعَفّ نِسَاء مِنْ نِسَاء نَابُلُس , الَّتِي رُمِيَ بِهَا الْخَلِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّارِ , فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا فَمَا رَأَيْت اِمْرَأَة فِي طَرِيق نَهَارًا إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئ الْمَسْجِد مِنْهُنَّ , فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاة وَانْقَلَبْنَ إِلَى مَنَازِلهنَّ لَمْ تَقَع عَيْنَيَّ عَلَى وَاحِدَة مِنْهُنَّ إِلَى الْجُمُعَة الْأُخْرَى . وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِف مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفهنَّ حَتَّى اُسْتُشْهِدْنَ فِيهِ .
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : بُكَاء عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ سَفَرهَا أَيَّام الْجَمَل , وَحِينَئِذٍ قَالَ لَهَا عَمَّار : إِنَّ اللَّه قَدْ أَمَرَك أَنْ تَقِرِّي فِي بَيْتك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : تَعَلَّقَ الرَّافِضَة - لَعَنَهُمْ اللَّه - بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِذْ قَالُوا : إِنَّهَا خَالَفَتْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين خَرَجَتْ تَقُود الْجُيُوش , وَتُبَاشِر الْحُرُوب , وَتَقْتَحِم مَأْزِق الطَّعْن وَالضَّرْب فِيمَا لَمْ يُفْرَض عَلَيْهَا وَلَا يَجُوز لَهَا . قَالُوا : وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَان , فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ لِتَخْرُج إِلَى مَكَّة , فَقَالَ لَهَا مَرْوَان : أَقِيمِي هُنَا يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاع , فَإِنَّ الْإِصْلَاح بَيْن النَّاس خَيْر مِنْ حَجّك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : إِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , نَذَرَتْ الْحَجّ قَبْل الْفِتْنَة , فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّف عَنْ نَذْرهَا , وَلَوْ خَرَجَتْ فِي تِلْكَ الثَّائِرَة لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابًا لَهَا . وَأَمَّا خُرُوجهَا إِلَى حَرْب الْجَمَل فَمَا خَرَجَتْ لِحَرْبٍ , وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاس بِهَا , وَشَكَوْا إِلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عَظِيم الْفِتْنَة وَتَهَارُج النَّاس , وَرَجَوْا بَرَكَتهَا , وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاء مِنْهَا إِذَا وَقَفَتْ إِلَى الْخَلْق , وَظَنَّتْ هِيَ ذَلِكَ فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَة بِاَللَّهِ فِي قَوْله : " لَا خَيْر فِي كَثِير مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلَاح بَيْن النَّاس " [ النِّسَاء : 114 ] , وَقَوْله : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنهمَا " [ الْحُجُرَات : 9 ] وَالْأَمْر بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَب بِهِ جَمِيع النَّاس مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى ; حُرّ أَوْ عَبْد فَلَمْ يُرِدْ اللَّه تَعَالَى بِسَابِقِ قَضَائِهِ وَنَافِذ حُكْمه أَنْ يَقَع إِصْلَاح , وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَات وَجِرَاحَات حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ , فَعَمَدَ بَعْضهمْ إِلَى الْجَمَل فَعَرْقَبَهُ , فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَل لِجَنْبِهِ أَدْرَكَ مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر عَائِشَة رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا , فَاحْتَمَلَهَا إِلَى الْبَصْرَة , وَخَرَجَتْ فِي ثَلَاثِينَ اِمْرَأَة , قَرَنَهُنَّ عَلِيّ بِهَا حَتَّى أَوْصَلُوهَا إِلَى الْمَدِينَة بَرَّة تَقِيَّة مُجْتَهِدَة , مُصِيبَة مَثَابَة فِيمَا تَأَوَّلَتْ , مَأْجُورَة فِيمَا فَعَلَتْ , إِذْ كُلّ مُجْتَهِد فِي الْأَحْكَام مُصِيب . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " النَّحْل " اِسْم هَذَا الْجَمَل , وَبِهِ يُعْرَف ذَلِكَ الْيَوْمُ .
أَيْ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى
قَالَ الزَّجَّاج : قِيلَ يُرَاد بِهِ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ : يُرَاد بِهِ نِسَاؤُهُ وَأَهْله الَّذِينَ هُمْ أَهْل بَيْته , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه بَعْد و " أَهْل الْبَيْت " نُصِبَ عَلَى الْمَدْح . قَالَ : وَإِنْ شِئْت عَلَى الْبَدَل . قَالَ : وَيَجُوز الرَّفْع وَالْخَفْض . قَالَ النَّحَّاس : إِنْ خُفِضَ عَلَى أَنَّهُ بَدَل مِنْ الْكَاف وَالْمِيم لَمْ يَجُزْ عِنْد أَبِي الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد , قَالَ لَا يُبْدَل مِنْ الْمُخَاطَبَة وَلَا مِنْ الْمُخَاطَب , لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى تَبْيِين . " وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرًا " مَصْدَر فِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيد .
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتكُنَّ مِنْ آيَات اللَّه وَالْحِكْمَة " هَذِهِ الْأَلْفَاظ تُعْطِي أَنَّ أَهْل الْبَيْت نِسَاؤُهُ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي أَهْل الْبَيْت , مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ عَطَاء وَعِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس : هُمْ زَوْجَاته خَاصَّة , لَا رَجُل مَعَهُنَّ . وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْبَيْت أُرِيدَ بِهِ مَسَاكِن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتكُنَّ " . وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ الْكَلْبِيّ : هُمْ عَلِيّ وَفَاطِمَة وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن خَاصَّة , وَفِي هَذَا أَحَادِيث . عَنْ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لِيُذْهِب عَنْكُمْ الرِّجْس أَهْل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ " بِالْمِيمِ وَلَوْ كَانَ لِلنِّسَاءِ خَاصَّة لَكَانَ " عَنْكُنَّ وَيُطَهِّركُنَّ " , إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَرَجَ عَلَى لَفْظ الْأَهْل , كَمَا يَقُول الرَّجُل لِصَاحِبِهِ : كَيْف أَهْلك , أَيْ اِمْرَأَتك وَنِسَاؤُك , فَيَقُول : هُمْ بِخَيْرٍ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْر اللَّه رَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْت " [ هُود : 73 ] .
وَاَلَّذِي يَظْهَر مِنْ الْآيَة أَنَّهَا عَامَّة فِي جَمِيع أَهْل الْبَيْت مِنْ الْأَزْوَاج وَغَيْرهمْ . وَإِنَّمَا قَالَ : " وَيُطَهِّركُمْ " لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا كَانَ فِيهِمْ , وَإِذَا اِجْتَمَعَ الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث غُلِّبَ الْمُذَكَّر , فَاقْتَضَتْ الْآيَة أَنَّ الزَّوْجَات مِنْ أَهْل الْبَيْت , لِأَنَّ الْآيَة فِيهِنَّ , وَالْمُخَاطَبَة لَهُنَّ يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام . وَاَللَّه أَعْلَمُ . أَمَّا إِنَّ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي بَيْتِي , فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَة وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا , فَدَخَلَ مَعَهُمْ تَحْت كِسَاء خَيْبَرِيّ وَقَالَ : ( هَؤُلَاءِ أَهْل بَيْتِي ) - وَقَرَأَ الْآيَة - وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْس وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ) فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَة : وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( أَنْتِ عَلَى مَكَانك وَأَنْتِ عَلَى خَيْر ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره وَقَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَالَتْ أُمّ سَلَمَة أَدْخَلْت رَأْسِي فِي الْكِسَاء وَقُلْت : أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : هُمْ بَنُو هَاشِم , فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَيْت يُرَاد بِهِ بَيْت النَّسَب , فَيَكُون الْعَبَّاس وَأَعْمَامه وَبَنُو أَعْمَامه مِنْهُمْ . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ زَيْد بْن أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَعَلَى قَوْل الْكَلْبِيّ يَكُون قَوْله : " وَاذْكُرْنَ " اِبْتِدَاء مُخَاطَبَة اللَّه تَعَالَى , أَيْ مُخَاطَبَة أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَزْوَاجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى جِهَة الْمَوْعِظَة وَتَعْدِيد النِّعْمَة بِذِكْرِ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتهنَّ مِنْ آيَات اللَّه تَعَالَى وَالْحِكْمَة قَالَ أَهْل الْعِلْم بِالتَّأْوِيلِ : " آيَات اللَّه " الْقُرْآن . " وَالْحِكْمَة " السُّنَّة . وَالصَّحِيح أَنَّ قَوْله : " وَاذْكُرْنَ " مَنْسُوق عَلَى مَا قَبْله . وَقَالَ " عَنْكُمْ " لِقَوْلِهِ " أَهْل " فَالْأَهْل مُذَكَّر , فَسَمَّاهُنَّ - وَإِنْ كُنَّ إِنَاثًا - بِاسْمِ التَّذْكِير فَلِذَلِكَ صَارَ " عَنْكُمْ " . وَلَا اِعْتِبَار بِقَوْلِ الْكَلْبِيّ وَأَشْبَاهه , فَإِنَّهُ تُوجَد لَهُ أَشْيَاء فِي هَذَا التَّفْسِير مَا لَوْ كَانَ فِي زَمَن السَّلَف الصَّالِح لَمَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَحَجَرُوا عَلَيْهِ . فَالْآيَات كُلّهَا مِنْ قَوْله : " يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك - إِلَى قَوْله - إِنَّ اللَّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا " مَنْسُوق بَعْضهَا عَلَى بَعْض , فَكَيْف صَارَ فِي الْوَسَط كَلَامًا مُنْفَصِلًا لِغَيْرِهِنَّ وَإِنَّمَا هَذَا شَيْء جَرَى فِي الْأَخْبَار أَنَّ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَة وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن , فَعَمَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسَاء فَلَفَّهَا عَلَيْهِمْ , ثُمَّ أَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْل بَيْتِي اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْس وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ) . فَهَذِهِ دَعْوَة مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بَعْد نُزُول الْآيَة , أَحَبَّ أَنْ يُدْخِلهُمْ فِي الْآيَة الَّتِي خُوطِبَ بِهَا الْأَزْوَاج , فَذَهَبَ الْكَلْبِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ فَصَيَّرَهَا لَهُمْ خَاصَّة , وَهِيَ دَعْوَة لَهُمْ خَارِجَة مِنْ التَّنْزِيل .
الثَّانِيَة : لَفْظ الذِّكْر يَحْتَمِل ثَلَاثَة مَعَانٍ : أَحَدهَا : أَيْ اُذْكُرْنَ مَوْضِع النِّعْمَة , إِذْ صَيَّرَكُنَّ اللَّه فِي بُيُوت تُتْلَى فِيهَا آيَات اللَّه وَالْحِكْمَة . الثَّانِي : اُذْكُرْنَ آيَات اللَّه وَاقْدُرْنَ قَدْرهَا , وَفَكِّرْنَ فِيهَا حَتَّى تَكُون مِنْكُنَّ عَلَى بَال لِتَتَّعِظْنَ بِمَوَاعِظ اللَّه تَعَالَى , وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ يَنْبَغِي أَنْ تَحْسُن أَفْعَاله . الثَّالِث : " اُذْكُرْنَ " بِمَعْنَى اِحْفَظْنَ وَاقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ الْأَلْسِنَة , فَكَأَنَّهُ يَقُول : اِحْفَظْنَ أَوَامِر اللَّه تَعَالَى , وَنَوَاهِيَهُ , وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُتْلَى فِي بُيُوتكُنَّ مِنْ آيَات اللَّه . فَأَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا يُنَزَّل مِنْ الْقُرْآن فِي بُيُوتهنَّ , وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَال النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام , وَيَسْمَعْنَ مِنْ أَقْوَاله حَتَّى يُبَلِّغْنَ ذَلِكَ إِلَى النَّاس , فَيَعْمَلُوا وَيَقْتَدُوا . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز قَبُول خَبَر الْوَاحِد مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الدِّين .
الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فِي هَذِهِ الْآيَة مَسْأَلَة بَدِيعَة , وَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِتَبْلِيغِ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآن , وَتَعْلِيم مَا عَلَّمَهُ مِنْ الدِّين , فَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَى وَاحِد أَوْ مَا اِتَّفَقَ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْض , وَكَانَ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغهُ إِلَى غَيْره , وَلَا يَلْزَمهُ أَنْ يَذْكُرهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَة , وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إِذَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَزْوَاجه أَنْ يَخْرُج إِلَى النَّاس فَيَقُول لَهُمْ نَزَلَ كَذَا وَلَا كَانَ كَذَا , وَلِهَذَا قُلْنَا : يَجُوز الْعَمَل بِخَبَرِ بُسْرَة فِي إِيجَاب الْوُضُوء مِنْ مَسّ الذَّكَر , لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ . وَلَا يَلْزَم أَنْ يُبَلِّغ ذَلِكَ الرِّجَال , كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة , عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَابْن عُمَر .
وَاَلَّذِي يَظْهَر مِنْ الْآيَة أَنَّهَا عَامَّة فِي جَمِيع أَهْل الْبَيْت مِنْ الْأَزْوَاج وَغَيْرهمْ . وَإِنَّمَا قَالَ : " وَيُطَهِّركُمْ " لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا كَانَ فِيهِمْ , وَإِذَا اِجْتَمَعَ الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث غُلِّبَ الْمُذَكَّر , فَاقْتَضَتْ الْآيَة أَنَّ الزَّوْجَات مِنْ أَهْل الْبَيْت , لِأَنَّ الْآيَة فِيهِنَّ , وَالْمُخَاطَبَة لَهُنَّ يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام . وَاَللَّه أَعْلَمُ . أَمَّا إِنَّ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي بَيْتِي , فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَة وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا , فَدَخَلَ مَعَهُمْ تَحْت كِسَاء خَيْبَرِيّ وَقَالَ : ( هَؤُلَاءِ أَهْل بَيْتِي ) - وَقَرَأَ الْآيَة - وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْس وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ) فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَة : وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( أَنْتِ عَلَى مَكَانك وَأَنْتِ عَلَى خَيْر ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره وَقَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَالَتْ أُمّ سَلَمَة أَدْخَلْت رَأْسِي فِي الْكِسَاء وَقُلْت : أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : هُمْ بَنُو هَاشِم , فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَيْت يُرَاد بِهِ بَيْت النَّسَب , فَيَكُون الْعَبَّاس وَأَعْمَامه وَبَنُو أَعْمَامه مِنْهُمْ . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ زَيْد بْن أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَعَلَى قَوْل الْكَلْبِيّ يَكُون قَوْله : " وَاذْكُرْنَ " اِبْتِدَاء مُخَاطَبَة اللَّه تَعَالَى , أَيْ مُخَاطَبَة أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَزْوَاجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى جِهَة الْمَوْعِظَة وَتَعْدِيد النِّعْمَة بِذِكْرِ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتهنَّ مِنْ آيَات اللَّه تَعَالَى وَالْحِكْمَة قَالَ أَهْل الْعِلْم بِالتَّأْوِيلِ : " آيَات اللَّه " الْقُرْآن . " وَالْحِكْمَة " السُّنَّة . وَالصَّحِيح أَنَّ قَوْله : " وَاذْكُرْنَ " مَنْسُوق عَلَى مَا قَبْله . وَقَالَ " عَنْكُمْ " لِقَوْلِهِ " أَهْل " فَالْأَهْل مُذَكَّر , فَسَمَّاهُنَّ - وَإِنْ كُنَّ إِنَاثًا - بِاسْمِ التَّذْكِير فَلِذَلِكَ صَارَ " عَنْكُمْ " . وَلَا اِعْتِبَار بِقَوْلِ الْكَلْبِيّ وَأَشْبَاهه , فَإِنَّهُ تُوجَد لَهُ أَشْيَاء فِي هَذَا التَّفْسِير مَا لَوْ كَانَ فِي زَمَن السَّلَف الصَّالِح لَمَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَحَجَرُوا عَلَيْهِ . فَالْآيَات كُلّهَا مِنْ قَوْله : " يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك - إِلَى قَوْله - إِنَّ اللَّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا " مَنْسُوق بَعْضهَا عَلَى بَعْض , فَكَيْف صَارَ فِي الْوَسَط كَلَامًا مُنْفَصِلًا لِغَيْرِهِنَّ وَإِنَّمَا هَذَا شَيْء جَرَى فِي الْأَخْبَار أَنَّ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَة وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن , فَعَمَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسَاء فَلَفَّهَا عَلَيْهِمْ , ثُمَّ أَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْل بَيْتِي اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْس وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ) . فَهَذِهِ دَعْوَة مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بَعْد نُزُول الْآيَة , أَحَبَّ أَنْ يُدْخِلهُمْ فِي الْآيَة الَّتِي خُوطِبَ بِهَا الْأَزْوَاج , فَذَهَبَ الْكَلْبِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ فَصَيَّرَهَا لَهُمْ خَاصَّة , وَهِيَ دَعْوَة لَهُمْ خَارِجَة مِنْ التَّنْزِيل .
الثَّانِيَة : لَفْظ الذِّكْر يَحْتَمِل ثَلَاثَة مَعَانٍ : أَحَدهَا : أَيْ اُذْكُرْنَ مَوْضِع النِّعْمَة , إِذْ صَيَّرَكُنَّ اللَّه فِي بُيُوت تُتْلَى فِيهَا آيَات اللَّه وَالْحِكْمَة . الثَّانِي : اُذْكُرْنَ آيَات اللَّه وَاقْدُرْنَ قَدْرهَا , وَفَكِّرْنَ فِيهَا حَتَّى تَكُون مِنْكُنَّ عَلَى بَال لِتَتَّعِظْنَ بِمَوَاعِظ اللَّه تَعَالَى , وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ يَنْبَغِي أَنْ تَحْسُن أَفْعَاله . الثَّالِث : " اُذْكُرْنَ " بِمَعْنَى اِحْفَظْنَ وَاقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ الْأَلْسِنَة , فَكَأَنَّهُ يَقُول : اِحْفَظْنَ أَوَامِر اللَّه تَعَالَى , وَنَوَاهِيَهُ , وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُتْلَى فِي بُيُوتكُنَّ مِنْ آيَات اللَّه . فَأَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا يُنَزَّل مِنْ الْقُرْآن فِي بُيُوتهنَّ , وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَال النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام , وَيَسْمَعْنَ مِنْ أَقْوَاله حَتَّى يُبَلِّغْنَ ذَلِكَ إِلَى النَّاس , فَيَعْمَلُوا وَيَقْتَدُوا . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز قَبُول خَبَر الْوَاحِد مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الدِّين .
الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فِي هَذِهِ الْآيَة مَسْأَلَة بَدِيعَة , وَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِتَبْلِيغِ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآن , وَتَعْلِيم مَا عَلَّمَهُ مِنْ الدِّين , فَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَى وَاحِد أَوْ مَا اِتَّفَقَ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْض , وَكَانَ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغهُ إِلَى غَيْره , وَلَا يَلْزَمهُ أَنْ يَذْكُرهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَة , وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إِذَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَزْوَاجه أَنْ يَخْرُج إِلَى النَّاس فَيَقُول لَهُمْ نَزَلَ كَذَا وَلَا كَانَ كَذَا , وَلِهَذَا قُلْنَا : يَجُوز الْعَمَل بِخَبَرِ بُسْرَة فِي إِيجَاب الْوُضُوء مِنْ مَسّ الذَّكَر , لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ . وَلَا يَلْزَم أَنْ يُبَلِّغ ذَلِكَ الرِّجَال , كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة , عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَابْن عُمَر .
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ↓
ت وَالذَّاكِرِينَ اللَّه كَثِيرًا وَالذَّاكِرَات أَعَدَّ اللَّه لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْرًا عَظِيمًا " فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أُمّ عُمَارَة الْأَنْصَارِيَّة أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَتْ : مَا أَرَى كُلّ شَيْء إِلَّا لِلرِّجَالِ , وَمَا أَرَى النِّسَاء يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات " الْآيَة . هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب . و " الْمُسْلِمِينَ " اِسْم " إِنَّ " . " وَالْمُسْلِمَات " عَطْف عَلَيْهِ . وَيَجُوز رَفْعهنَّ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ , فَأَمَّا الْفَرَّاء فَلَا يَجُوز عِنْده إِلَّا فِيمَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب .
الثَّانِيَة : بَدَأَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة بِذِكْرِ الْإِسْلَام الَّذِي يَعُمّ الْإِيمَان وَعَمَل الْجَوَارِح , ثُمَّ ذَكَرَ الْإِيمَان تَخْصِيصًا لَهُ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ عُظْمُ الْإِسْلَامِ وَدِعَامَته . وَالْقَانِت : الْعَابِد الْمُطِيع . وَالصَّادِق : مَعْنَاهُ فِيمَا عُوهِدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفِي بِهِ . وَالصَّابِر عَنْ الشَّهَوَات وَعَلَى الطَّاعَات فِي الْمَكْرَه وَالْمَنْشَط . وَالْخَاشِع : الْخَائِف لِلَّهِ . وَالْمُتَصَدِّق بِالْفَرْضِ وَالنَّفْل . وَقِيلَ . بِالْفَرْضِ خَاصَّة , وَالْأَوَّل أَمْدَحُ . وَالصَّائِم كَذَلِكَ . " وَالْحَافِظِينَ فُرُوجهمْ وَالْحَافِظَات " أَيْ عَمَّا لَا يَحِلّ مِنْ الزِّنَى وَغَيْره . وَفِي قَوْله : " وَالْحَافِظَات " حَذْف يَدُلّ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّم , تَقْدِيره : وَالْحَافِظَاتِهَا , فَاكْتُفِيَ بِمَا تَقَدَّمَ . وَفِي " الذَّاكِرَات " أَيْضًا مِثْله , وَنَظِيره قَوْل الشَّاعِر : وَكُمْتًا مُدَمَّاة كَأَنَّ مُتُونهَا جَرَى فَوْقهَا وَاسْتَشْعَرَتْ لَوْنُ مُذْهَبِ وَرَوَى سِيبَوَيْهِ : " لَوْنَ مُذْهَبِ " بِالنَّصْبِ . وَإِنَّمَا يَجُوز الرَّفْع عَلَى حَذْف الْهَاء , كَأَنَّهُ قَالَ : وَاسْتَشْعَرَتْهُ , فِيمَنْ رَفَعَ لَوْنًا . وَالذَّاكِر قِيلَ فِي أَدْبَار الصَّلَوَات وَغُدُوًّا وَعَشِيًّا , وَفِي الْمَضَاجِع وَعِنْد الِانْتِبَاه مِنْ النَّوْم . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلّه مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعه , وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِد وَالْأَحْكَام , فَأَغْنَى عَنْ الْإِعَادَة . وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . قَالَ مُجَاهِد : لَا يَكُون ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرهُ قَائِمًا وَجَالِسًا وَمُضْطَجِعًا . وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ أَيْقَظَ أَهْله بِاللَّيْلِ وَصَلَّيَا أَرْبَع رَكَعَات كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّه كَثِيرًا وَالذَّاكِرَات .
الثَّانِيَة : بَدَأَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة بِذِكْرِ الْإِسْلَام الَّذِي يَعُمّ الْإِيمَان وَعَمَل الْجَوَارِح , ثُمَّ ذَكَرَ الْإِيمَان تَخْصِيصًا لَهُ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ عُظْمُ الْإِسْلَامِ وَدِعَامَته . وَالْقَانِت : الْعَابِد الْمُطِيع . وَالصَّادِق : مَعْنَاهُ فِيمَا عُوهِدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفِي بِهِ . وَالصَّابِر عَنْ الشَّهَوَات وَعَلَى الطَّاعَات فِي الْمَكْرَه وَالْمَنْشَط . وَالْخَاشِع : الْخَائِف لِلَّهِ . وَالْمُتَصَدِّق بِالْفَرْضِ وَالنَّفْل . وَقِيلَ . بِالْفَرْضِ خَاصَّة , وَالْأَوَّل أَمْدَحُ . وَالصَّائِم كَذَلِكَ . " وَالْحَافِظِينَ فُرُوجهمْ وَالْحَافِظَات " أَيْ عَمَّا لَا يَحِلّ مِنْ الزِّنَى وَغَيْره . وَفِي قَوْله : " وَالْحَافِظَات " حَذْف يَدُلّ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّم , تَقْدِيره : وَالْحَافِظَاتِهَا , فَاكْتُفِيَ بِمَا تَقَدَّمَ . وَفِي " الذَّاكِرَات " أَيْضًا مِثْله , وَنَظِيره قَوْل الشَّاعِر : وَكُمْتًا مُدَمَّاة كَأَنَّ مُتُونهَا جَرَى فَوْقهَا وَاسْتَشْعَرَتْ لَوْنُ مُذْهَبِ وَرَوَى سِيبَوَيْهِ : " لَوْنَ مُذْهَبِ " بِالنَّصْبِ . وَإِنَّمَا يَجُوز الرَّفْع عَلَى حَذْف الْهَاء , كَأَنَّهُ قَالَ : وَاسْتَشْعَرَتْهُ , فِيمَنْ رَفَعَ لَوْنًا . وَالذَّاكِر قِيلَ فِي أَدْبَار الصَّلَوَات وَغُدُوًّا وَعَشِيًّا , وَفِي الْمَضَاجِع وَعِنْد الِانْتِبَاه مِنْ النَّوْم . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلّه مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعه , وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِد وَالْأَحْكَام , فَأَغْنَى عَنْ الْإِعَادَة . وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . قَالَ مُجَاهِد : لَا يَكُون ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرهُ قَائِمًا وَجَالِسًا وَمُضْطَجِعًا . وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ أَيْقَظَ أَهْله بِاللَّيْلِ وَصَلَّيَا أَرْبَع رَكَعَات كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّه كَثِيرًا وَالذَّاكِرَات .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا ↓
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : رَوَى قَتَادَة وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد فِي سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ زَيْنَب بِنْت جَحْش , وَكَانَتْ بِنْت عَمَّته , فَظَنَّتْ أَنَّ الْخِطْبَة لِنَفْسِهِ , فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ يُرِيدهَا لِزَيْدٍ , كَرِهَتْ وَأَبَتْ وَامْتَنَعَتْ , فَنَزَلَتْ الْآيَة . فَأَذْعَنَتْ زَيْنَب حِينَئِذٍ وَتَزَوَّجَتْهُ . فِي رِوَايَة : فَامْتَنَعَتْ وَامْتَنَعَ أَخُوهَا عَبْد اللَّه لِنَسَبِهَا مِنْ قُرَيْش , وَأَنَّ زَيْدًا كَانَ بِالْأَمْسِ عَبْدًا , إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ لَهُ أَخُوهَا : مُرْنِي بِمَا شِئْت , فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْد . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمّ كُلْثُوم بِنْت عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط , وَكَانَتْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْد بْن حَارِثَة , فَكَرِهَتْ ذَلِكَ هِيَ وَأَخُوهَا وَقَالَا : إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَنَا غَيْرَهُ , فَنَزَلَتْ الْآيَة بِسَبَبِ ذَلِكَ , فَأَجَابَا إِلَى تَزْوِيج زَيْد , قَالَهُ اِبْن زَيْد . وَقَالَ الْحَسَن : لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا أَمَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ أَنْ يَعْصِيَاهُ .
الثَّانِيَة : لَفْظَة " مَا كَانَ , وَمَا يَنْبَغِي " وَنَحْوهمَا , مَعْنَاهَا الْحَظْر وَالْمَنْع . فَتَجِيء لِحَظْرِ الشَّيْء وَالْحُكْم بِأَنَّهُ لَا يَكُون , كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة . وَرُبَّمَا كَانَ اِمْتِنَاع ذَلِكَ الشَّيْء عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرهَا " [ النَّمْل : 60 ] وَرُبَّمَا كَانَ الْعِلْم بِامْتِنَاعِهِ شَرْعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّه الْكِتَاب وَالْحُكْم وَالنُّبُوَّة " [ آل عِمْرَان : 79 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب " [ الشُّورَى : 51 ] . وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْمَنْدُوبَات , كَمَا تَقُول : مَا كَانَ لَك يَا فُلَان أَنْ تَتْرُك النَّوَافِل , وَنَحْو هَذَا .
الثَّالِثَة : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل بَلْ نَصّ فِي أَنَّ الْكَفَاءَة لَا تُعْتَبَر فِي الْأَحْسَاب وَإِنَّمَا تُعْتَبَر فِي الْأَدْيَان , خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيّ وَالْمُغِيرَة وَسَحْنُون . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَالِيَ تَزَوَّجَتْ فِي قُرَيْش , تَزَوَّجَ زَيْد زَيْنَب بِنْت جَحْش . وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد ضُبَاعَة بِنْت الزُّبَيْر . وَزَوَّجَ أَبُو حُذَيْفَة سَالِمًا مِنْ فَاطِمَة بِنْت الْوَلِيد بْن عُتْبَة . وَتَزَوَّجَ بِلَال أُخْت عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " أَنْ يَكُون لَهُمْ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرهمْ " قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ : " أَنْ يَكُون " بِالْيَاءِ . وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , لِأَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْن الْمُؤَنَّث وَبَيْن فِعْله . الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ , لِأَنَّ اللَّفْظ مُؤَنَّث فَتَأْنِيث فِعْله حَسَن . وَالتَّذْكِير عَلَى أَنَّ الْخِيَرَة بِمَعْنَى التَّخْيِير , فَالْخِيَرَة مَصْدَر بِمَعْنَى الِاخْتِيَار . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " الْخِيْرَة " بِإِسْكَانِ الْيَاء . وَهَذِهِ الْآيَة فِي ضِمْن قَوْله تَعَالَى : " النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ " [ الْأَحْزَاب : 6 ] . ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ ضَلَّ . وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيل عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ فُقَهَائِنَا , وَفُقَهَاء أَصْحَاب الْإِمَام الشَّافِعِيّ وَبَعْض الْأُصُولِيِّينَ , مِنْ أَنَّ صِيغَة " أَفْعِلْ " لِلْوُجُوبِ فِي أَصْل وَضْعهَا , لِأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفَى خِيَرَة الْمُكَلَّف عِنْد سَمَاع أَمْره وَأَمْر رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ لَهُ خِيَرَة عِنْد صُدُور الْأَمْر اِسْم الْمَعْصِيَة , ثُمَّ عَلَّقَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِذَلِكَ الضَّلَالَ , فَلَزِمَ حَمْل الْأَمْر عَلَى الْوُجُوب . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
الثَّانِيَة : لَفْظَة " مَا كَانَ , وَمَا يَنْبَغِي " وَنَحْوهمَا , مَعْنَاهَا الْحَظْر وَالْمَنْع . فَتَجِيء لِحَظْرِ الشَّيْء وَالْحُكْم بِأَنَّهُ لَا يَكُون , كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة . وَرُبَّمَا كَانَ اِمْتِنَاع ذَلِكَ الشَّيْء عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرهَا " [ النَّمْل : 60 ] وَرُبَّمَا كَانَ الْعِلْم بِامْتِنَاعِهِ شَرْعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّه الْكِتَاب وَالْحُكْم وَالنُّبُوَّة " [ آل عِمْرَان : 79 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب " [ الشُّورَى : 51 ] . وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْمَنْدُوبَات , كَمَا تَقُول : مَا كَانَ لَك يَا فُلَان أَنْ تَتْرُك النَّوَافِل , وَنَحْو هَذَا .
الثَّالِثَة : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل بَلْ نَصّ فِي أَنَّ الْكَفَاءَة لَا تُعْتَبَر فِي الْأَحْسَاب وَإِنَّمَا تُعْتَبَر فِي الْأَدْيَان , خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيّ وَالْمُغِيرَة وَسَحْنُون . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَالِيَ تَزَوَّجَتْ فِي قُرَيْش , تَزَوَّجَ زَيْد زَيْنَب بِنْت جَحْش . وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد ضُبَاعَة بِنْت الزُّبَيْر . وَزَوَّجَ أَبُو حُذَيْفَة سَالِمًا مِنْ فَاطِمَة بِنْت الْوَلِيد بْن عُتْبَة . وَتَزَوَّجَ بِلَال أُخْت عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " أَنْ يَكُون لَهُمْ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرهمْ " قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ : " أَنْ يَكُون " بِالْيَاءِ . وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , لِأَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْن الْمُؤَنَّث وَبَيْن فِعْله . الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ , لِأَنَّ اللَّفْظ مُؤَنَّث فَتَأْنِيث فِعْله حَسَن . وَالتَّذْكِير عَلَى أَنَّ الْخِيَرَة بِمَعْنَى التَّخْيِير , فَالْخِيَرَة مَصْدَر بِمَعْنَى الِاخْتِيَار . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " الْخِيْرَة " بِإِسْكَانِ الْيَاء . وَهَذِهِ الْآيَة فِي ضِمْن قَوْله تَعَالَى : " النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ " [ الْأَحْزَاب : 6 ] . ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ ضَلَّ . وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيل عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ فُقَهَائِنَا , وَفُقَهَاء أَصْحَاب الْإِمَام الشَّافِعِيّ وَبَعْض الْأُصُولِيِّينَ , مِنْ أَنَّ صِيغَة " أَفْعِلْ " لِلْوُجُوبِ فِي أَصْل وَضْعهَا , لِأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفَى خِيَرَة الْمُكَلَّف عِنْد سَمَاع أَمْره وَأَمْر رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ لَهُ خِيَرَة عِنْد صُدُور الْأَمْر اِسْم الْمَعْصِيَة , ثُمَّ عَلَّقَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِذَلِكَ الضَّلَالَ , فَلَزِمَ حَمْل الْأَمْر عَلَى الْوُجُوب . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ↓
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : رَوَى التِّرْمِذِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن حُجْر قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن الزِّبْرِقَان عَنْ دَاوُد بْن أَبِي هِنْد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : لَوْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْي لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَة : " وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ " يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ " وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ " بِالْعِتْقِ فَأَعْتَقْته . " أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك وَاتَّقِ اللَّه وَتُخْفِي فِي نَفْسك مَا اللَّه مُبْدِيه وَتَخْشَى النَّاس وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ - إِلَى قَوْله - وَكَانَ أَمْر اللَّه مَفْعُولًا " وَأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا : تَزَوَّجَ حَلِيلَة اِبْنه , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالكُمْ وَلَكِنْ رَسُول اللَّه وَخَاتَم النَّبِيِّينَ " [ الْأَحْزَاب : 40 ] . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِير , فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا يُقَال لَهُ زَيْد بْن مُحَمَّد , فَأَنْزَلَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى " اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْد اللَّه فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانكُمْ فِي الدِّين وَمَوَالِيكُمْ " [ الْأَحْزَاب : 5 ] فُلَان مَوْلَى فُلَان , وَفُلَان أَخُو فُلَان , هُوَ أَقْسَطُ عِنْد اللَّه يَعْنِي أَعْدَلُ . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث غَرِيب قَدْ رُوِيَ عَنْ دَاوُد بْن أَبِي هِنْد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . قَالَتْ : لَوْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْي لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَة " وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ " هَذَا الْحَرْف لَمْ يُرْوَ بِطُولِهِ .
قُلْت : هَذَا الْقَدْر هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه , وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ هَذِهِ الْآيَة " وَتُخْفِي فِي نَفْسك مَا اللَّه مُبْدِيه " نَزَلَتْ فِي شَأْن زَيْنَب بِنْت جَحْش وَزَيْد بْن حَارِثَة . وَقَالَ عَمْرو بْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَالْحَسَن : مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى رَسُوله آيَة أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ الْحَسَن وَعَائِشَة : لَوْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْي لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَة لِشِدَّتِهَا عَلَيْهِ . وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنَّهُ : أَمْسَى زَيْد فَأَوَى إِلَى فِرَاشه , قَالَتْ زَيْنَب : وَلَمْ يَسْتَطِعْنِي زَيْد , وَمَا أَمْتَنِع مِنْهُ غَيْر مَا مَنَعَهُ اللَّه مِنِّي , فَلَا يَقْدِر عَلَيَّ . هَذِهِ رِوَايَة أَبِي عِصْمَة نُوح بْن أَبِي مَرْيَم , رَفَعَ الْحَدِيث إِلَى زَيْنَب أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ . وَفِي بَعْض الرِّوَايَات : أَنَّ زَيْدًا تَوَرَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ حِين أَرَادَ أَنْ يَقْرَبهَا , فَهَذَا قَرِيب مِنْ ذَلِكَ . وَجَاءَ زَيْد إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ زَيْنَب تُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا وَتَفْعَل وَتَفْعَل ! وَإِنِّي أُرِيد أَنْ أُطَلِّقهَا , فَقَالَ لَهُ : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك وَاتَّقِ اللَّه ) الْآيَة . فَطَلَّقَهَا زَيْد فَنَزَلَتْ : " وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ " الْآيَة .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , فَذَهَبَ قَتَادَة وَابْن زَيْد وَجَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ , مِنْهُمْ الطَّبَرِيّ وَغَيْره - إِلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ مِنْهُ اِسْتِحْسَان لِزَيْنَب بِنْت جَحْش , وَهِيَ فِي عِصْمَة زَيْد , وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقهَا زَيْد فَيَتَزَوَّجهَا هُوَ ; ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يُرِيد فِرَاقهَا , وَيَشْكُو مِنْهَا غِلْظَة قَوْل وَعِصْيَان أَمْر , وَأَذًى بِاللِّسَانِ وَتَعَظُّمًا بِالشَّرَفِ , قَالَ لَهُ : ( اِتَّقِ اللَّه - أَيْ فِيمَا تَقُول عَنْهَا - وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَهُوَ يُخْفِي الْحِرْص عَلَى طَلَاق زَيْد إِيَّاهَا . وَهَذَا الَّذِي كَانَ يُخْفِي فِي نَفْسه , وَلَكِنَّهُ لَزِمَ مَا يَجِب مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ . وَقَالَ مُقَاتِل : زَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ مِنْ زَيْد فَمَكَثَتْ عِنْده حِينًا , ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى زَيْدًا يَوْمًا يَطْلُبهُ , فَأَبْصَرَ زَيْنَب قَائِمَة , كَانَتْ بَيْضَاء جَمِيلَة جَسِيمَة مِنْ أَتَمِّ نِسَاء قُرَيْش , فَهَوِيَهَا وَقَالَ : ( سُبْحَان اللَّه مُقَلِّب الْقُلُوب ) ! فَسَمِعَتْ زَيْنَب بِالتَّسْبِيحَةِ فَذَكَرَتْهَا لِزَيْدٍ , فَفَطِنَ زَيْد فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , اِئْذَنْ لِي فِي طَلَاقهَا , فَإِنَّ فِيهَا كِبْرًا , تَعْظُم عَلَيَّ وَتُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا , فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك وَاتَّقِ اللَّه ) . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه بَعَثَ رِيحًا فَرَفَعَتْ السِّتْر وَزَيْنَب مُتَفَضِّلَة فِي مَنْزِلهَا , فَرَأَى زَيْنَب فَوَقَعَتْ فِي نَفْسه , وَوَقَعَ فِي نَفْس زَيْنَب أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي نَفْس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ يَطْلُب زَيْدًا , فَجَاءَ زَيْد فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ , فَوَقَعَ فِي نَفْس زَيْد أَنْ يُطَلِّقهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " وَتُخْفِي فِي نَفْسك " الْحُبّ لَهَا . " وَتَخْشَى النَّاس " أَيْ تَسْتَحْيِيهِمْ وَقِيلَ : تَخَاف وَتَكْرَه لَائِمَة الْمُسْلِمِينَ لَوْ قُلْت طَلِّقْهَا , وَيَقُولُونَ أَمَرَ رَجُلًا بِطَلَاقِ اِمْرَأَته ثُمَّ نَكَحَهَا حِين طَلَّقَهَا . " وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ " فِي كُلّ الْأَحْوَال . وَقِيلَ وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنْهُ , وَلَا تَأْمُر زَيْدًا بِإِمْسَاكِ زَوْجَته بَعْد أَنْ أَعْلَمَك اللَّه أَنَّهَا سَتَكُونُ زَوْجَتك , فَعَاتَبَهُ اللَّه عَلَى جَمِيع هَذَا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّ زَيْدًا يُطَلِّق زَيْنَب , وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجهَا بِتَزْوِيجِ اللَّه إِيَّاهَا , فَلَمَّا تَشَكَّى زَيْد لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلُقَ زَيْنَب , وَأَنَّهَا لَا تُطِيعهُ , وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُرِيد طَلَاقهَا , قَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَة الْأَدَب وَالْوَصِيَّة : ( اِتَّقِ اللَّه فِي قَوْلك وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا وَيَتَزَوَّجهَا , وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْفَى فِي نَفْسه , وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَأْمُرهُ بِالطَّلَاقِ لِمَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا , وَخَشِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقهُ قَوْل مِنْ النَّاس فِي أَنْ يَتَزَوَّج زَيْنَب بَعْد زَيْد , وَهُوَ مَوْلَاهُ , وَقَدْ أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا , فَعَاتَبَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الْقَدْر مِنْ أَنْ خَشِيَ النَّاس فِي شَيْء قَدْ أَبَاحَهُ اللَّه لَهُ , بِأَنْ قَالَ : " أَمْسِكْ " مَعَ عِلْمه بِأَنَّهُ يُطَلِّق . وَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّه أَحَقُّ بِالْخَشْيَةِ , أَيْ فِي كُلّ حَال . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : وَهَذَا الْقَوْل أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْل التَّحْقِيق مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَالْعُلَمَاء الرَّاسِخِينَ , كَالزُّهْرِيِّ وَالْقَاضِي بَكْر بْن الْعَلَاء الْقُشَيْرِيّ , وَالْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيّ وَغَيْرهمْ . وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَتَخْشَى النَّاس " إِنَّمَا هُوَ إِرْجَاف الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ نَهَى عَنْ تَزْوِيج نِسَاء الْأَبْنَاء وَتَزَوَّجَ بِزَوْجَةِ اِبْنه . فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيَ زَيْنَب اِمْرَأَة زَيْد - وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْض الْمُجَّان لَفْظ عَشِقَ - فَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُر عَنْ جَاهِل بِعِصْمَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْل هَذَا , أَوْ مُسْتَخِفّ بِحُرْمَتِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول , وَأَسْنَدَ إِلَى عَلِيّ بْن الْحُسَيْن قَوْلَهُ : فَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن جَاءَ بِهَذَا مِنْ خِزَانَة الْعِلْم جَوْهَرًا مِنْ الْجَوَاهِر , وَدُرًّا مِنْ الدُّرَر , أَنَّهُ إِنَّمَا عَتَبَ اللَّه عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُ أَنْ سَتَكُونُ هَذِهِ مِنْ أَزْوَاجك , فَكَيْف قَالَ بَعْد ذَلِكَ لِزَيْدٍ : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَأَخَذَتْك خَشْيَة النَّاس أَنْ يَقُولُوا : تَزَوَّجَ اِمْرَأَة اِبْنه , وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ . وَقَالَ النَّحَّاس : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَيْسَ هَذَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيئَة , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَر بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ . وَقَدْ يَكُون الشَّيْء لَيْسَ بِخَطِيئَةٍ إِلَّا أَنَّ غَيْرَهُ أَحْسَنُ مِنْهُ , وَأَخْفَى ذَلِكَ فِي نَفْسه خَشْيَة أَنْ يُفْتَتَن النَّاسُ .
الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ قِيلَ لِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّه أَنَّهَا زَوْجه . قُلْنَا : أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِر مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ عَنْهَا , فَأَبْدَى لَهُ زَيْدٌ مِنْ النُّفْرَة عَنْهَا وَالْكَرَاهَة فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرهَا . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَأْمُرهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْفِرَاق لَا بُدّ مِنْهُ ؟ وَهَذَا تَنَاقُض . قُلْنَا : بَلْ هُوَ صَحِيح لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَة , لِإِقَامَةِ الْحُجَّة وَمَعْرِفَة الْعَاقِبَة , أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَأْمُر الْعَبْد بِالْإِيمَانِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِن , فَلَيْسَ فِي مُخَالَفَة مُتَعَلَّق الْأَمْر لِمُتَعَلَّقِ الْعِلْم مَا يَمْنَع مِنْ الْأَمْر بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا . وَهَذَا مِنْ نَفِيس الْعِلْم فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ وَقَوْله : " وَاتَّقِ اللَّه " أَيْ فِي طَلَاقهَا , فَلَا تُطَلِّقهَا . وَأَرَادَ نَهْي تَنْزِيه لَا نَهْي تَحْرِيم , لِأَنَّ الْأَوْلَى أَلَّا يُطَلِّق . وَقِيلَ : " اِتَّقِ اللَّه " فَلَا تَذُمّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكِبْر وَأَذَى الزَّوْج . " وَتُخْفِي فِي نَفْسك " قِيلَ تَعَلُّق قَلْبِهِ . وَقِيلَ : مُفَارَقَة زَيْد إِيَّاهَا . وَقِيلَ : عِلْمُهُ بِأَنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُهَا , لِأَنَّ اللَّه قَدْ أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ .
الثَّالِثَة : رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِزَيْدٍ : ( مَا أَجِد فِي نَفْسِي أَوْثَقَ مِنْك فَاخْطُبْ زَيْنَب عَلَيَّ ) قَالَ : فَذَهَبْت وَوَلَّيْتهَا ظَهْرِي تَوْقِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَخَطَبْتهَا فَفَرِحَتْ وَقَالَتْ : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي , فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا وَنَزَلَ الْقُرْآن , فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بِهَا .
قُلْت : مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث ثَابِت فِي الصَّحِيح . وَتَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيّ ( صَلَاة الْمَرْأَة إِذَا خُطِبَتْ وَاسْتِخَارَتُهَا رَبَّهَا ) رَوَى الْأَئِمَّة - وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ - عَنْ أَنَس قَالَ : لَمَّا اِنْقَضَتْ عِدَّة زَيْنَب قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ : ( فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ ) قَالَ : فَانْطَلَقَ زَيْد حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّر عَجِينَهَا . قَالَ : فَلَمَّا رَأَيْتهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي , حَتَّى مَا أَسْتَطِيع أَنْ أَنْظُر إِلَيْهَا , أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهَا فَوَلَّيْتهَا ظَهْرِي , وَنَكَصْت عَلَى عَقِبِي , فَقُلْت : يَا زَيْنَب , أَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرك , قَالَتْ , : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي , فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا وَنَزَلَ الْقُرْآن . وَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْن . قَالَ : فَقَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَنَا الْخُبْز وَاللَّحْم حِين اِمْتَدَّ النَّهَار ... الْحَدِيث . فِي رِوَايَة ( حَتَّى تَرَكُوهُ ) . وَفِي رِوَايَة عَنْ أَنَس أَيْضًا قَالَ : مَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى اِمْرَأَة مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَب , فَإِنَّهُ ذَبَحَ شَاة . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِزَيْدٍ : ( فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ ) أَيْ اُخْطُبْهَا , كَمَا بَيَّنَهُ الْحَدِيث الْأَوَّل . وَهَذَا اِمْتِحَان لِزَيْدٍ وَاخْتِبَار لَهُ , حَتَّى يُظْهِر صَبْره وَانْقِيَاده وَطَوْعه .
قُلْت : وَقَدْ يُسْتَنْبَط مِنْ هَذَا أَنْ يَقُول الْإِنْسَان لِصَاحِبِهِ : اُخْطُبْ عَلَيَّ فُلَانَة , لِزَوْجِهِ الْمُطَلَّقَة مِنْهُ , وَلَا حَرَج فِي ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
فِيهِ سِتّ مَسَائِل : الْأُولَى : لَمَّا وَكَّلَتْ أَمْرهَا إِلَى اللَّه وَصَحَّ تَفْوِيضهَا إِلَيْهِ تَوَلَّى اللَّه إِنْكَاحهَا , وَلِذَلِكَ قَالَ : " فَلَمَّا قَضَى زَيْد مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكهَا " . وَرَوَى الْإِمَام جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ آبَائِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَطَرًا زَوَّجْتُكهَا " . وَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّه بِذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْن , وَلَا تَجْدِيد عَقْد وَلَا تَقْرِير صَدَاق , وَلَا شَيْء مِمَّا يَكُون شَرْطًا فِي حُقُوقنَا وَمَشْرُوعًا لَنَا . وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا كَانَتْ زَيْنَب تُفَاخِر نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُول : زَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّه تَعَالَى . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : كَانَتْ زَيْنَب تَفْخَر عَلَى نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُول . إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْكَحَنِي مِنْ السَّمَاء . وَفِيهَا نَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب , وَسَيَأْتِي .
الثَّانِيَة : الْمُنْعَم عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ زَيْد بْن حَارِثَة , كَمَا بَيَّنَّاهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَره فِي أَوَّل السُّورَة . وَرُوِيَ أَنَّ عَمّه لَقِيَهُ يَوْمًا وَكَانَ قَدْ وَرَدَ مَكَّة فِي شُغْل لَهُ , فَقَالَ : مَا اِسْمك يَا غُلَام ؟ قَالَ : زَيْد , قَالَ : اِبْن مَنْ ؟ قَالَ : اِبْن حَارِثَة . قَالَ اِبْن مَنْ ؟ قَالَ : اِبْن شَرَاحِيل الْكَلْبِيّ . قَالَ : فَمَا اِسْم أُمّك ؟ قَالَ : سُعْدَى , وَكُنْت فِي أَخْوَالِي طَيّ , فَضَمَّهُ إِلَى صَدْره . وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ وَقَوْمه فَحَضَرُوا , وَأَرَادُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيم مَعَهُمْ , فَقَالُوا : لِمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : لِمُحَمَّدِ بْن عَبْد اللَّه , فَأَتَوْهُ وَقَالُوا : هَذَا اِبْننَا فَرُدَّهُ عَلَيْنَا . فَقَالَ : ( أَعْرِض عَلَيْهِ فَإِنْ اِخْتَارَكُمْ فَخُذُوا بِيَدِهِ ) فَبَعَثَ إِلَى زَيْد وَقَالَ : ( هَلْ تَعْرِف هَؤُلَاءِ ) ؟ قَالَ نَعَمْ هَذَا أَبِي , وَهَذَا أَخِي , وَهَذَا عَمِّي . فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَيُّ صَاحِبٍ كُنْت لَك ) ؟ فَبَكَى وَقَالَ : لِمَ سَأَلْتنِي عَنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : ( أُخَيِّرك فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَلْحَق بِهِمْ فَالْحَقْ وَإِنْ أَرَدْت أَنْ تُقِيم فَأَنَا مَنْ قَدْ عَرَفْت ) فَقَالَ : مَا أَخْتَار عَلَيْك أَحَدًا . فَجَذَبَهُ عَمّه وَقَالَ : يَا زَيْد , اِخْتَرْت الْعُبُودِيَّة عَلَى أَبِيك وَعَمّك ! فَقَالَ : أَيْ وَاَللَّه الْعُبُودِيَّة عِنْد مُحَمَّد أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُون عِنْدكُمْ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِشْهَدُوا أَنِّي وَارِث وَمَوْرُوث ) . فَلَمْ يَزَلْ يُقَال : زَيْد بْن مُحَمَّد إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : " اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ " [ الْأَحْزَاب : 5 ] وَنَزَلَ " مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالكُمْ " [ الْأَحْزَاب : 40 ] .
الثَّالِثَة : قَالَ الْإِمَام أَبُو الْقَاسِم عَبْد الرَّحْمَن السُّهَيْلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَانَ يُقَال زَيْد بْن مُحَمَّد حَتَّى نَزَلَ " اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ " [ الْأَحْزَاب : 5 ] فَقَالَ : أَنَا زَيْد بْن حَارِثَة . وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول : أَنَا زَيْد بْن مُحَمَّد . فَلَمَّا نُزِعَ عَنْهُ هَذَا الشَّرَف وَهَذَا الْفَخْر , وَعَلِمَ اللَّه وَحْشَته مِنْ ذَلِكَ شَرَّفَهُ بِخِصِّيصَةٍ لَمْ يَكُنْ يَخُصّ بِهَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أَنَّهُ سَمَّاهُ فِي الْقُرْآن , فَقَالَ تَعَالَى : " فَلَمَّا قَضَى زَيْد مِنْهَا وَطَرًا " يَعْنِي مِنْ زَيْنَب . وَمَنْ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِاسْمِهِ فِي الذِّكْر الْحَكِيم حَتَّى صَارَ اِسْمه قُرْآنًا يُتْلَى فِي الْمَحَارِيب , نَوَّهَ بِهِ غَايَة التَّنْوِيه , فَكَانَ فِي هَذَا تَأْنِيس لَهُ وَعِوَض مِنْ الْفَخْر بِأُبُوَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ . أَلَا تَرَى إِلَى قَوْل أُبَيّ بْن كَعْب حِين قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك سُورَة كَذَا ) فَبَكَى وَقَالَ : أَوَذُكِرْت هُنَالِكَ ؟ وَكَانَ بُكَاؤُهُ مِنْ الْفَرَح حِين أُخْبِرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ , فَكَيْف بِمَنْ صَارَ اِسْمه قُرْآنًا يُتْلَى مُخَلَّدًا لَا يَبِيد , يَتْلُوهُ أَهْل الدُّنْيَا إِذَا قَرَءُوا الْقُرْآن , وَأَهْل الْجَنَّة كَذَلِكَ أَبَدًا , لَا يَزَال عَلَى أَلْسِنَة الْمُؤْمِنِينَ , كَمَا لَمْ يَزَلْ مَذْكُورًا عَلَى الْخُصُوص عِنْد رَبّ الْعَالَمِينَ , إِذْ الْقُرْآن كَلَام اللَّه الْقَدِيم , وَهُوَ بَاقٍ لَا يَبِيد , فَاسْم زَيْد هَذَا فِي الصُّحُف الْمُكَرَّمَة الْمَرْفُوعَة الْمُطَهَّرَة , تَذْكُرهُ فِي التِّلَاوَة السَّفَرَة الْكِرَام الْبَرَرَة . وَلَيْسَ ذَلِكَ لِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاء الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا لِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَلِزَيْدِ بْن حَارِثَة تَعْوِيضًا مِنْ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِمَّا نُزِعَ عَنْهُ . وَزَادَ فِي الْآيَة أَنْ قَالَ : " وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ " أَيْ بِالْإِيمَانِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْجَنَّة , عَلِمَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَمُوت , وَهَذِهِ فَضِيلَة أُخْرَى .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " وَطَرًا " الْوَطَر كُلّ حَاجَة لِلْمَرْءِ لَهُ فِيهَا هِمَّة , وَالْجَمْع الْأَوْطَار . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ بَلَغَ مَا أَرَادَ مِنْ حَاجَته , يَعْنِي الْجِمَاع . وَفِيهِ إِضْمَار , أَيْ لَمَّا قَضَى وَطَره مِنْهَا وَطَلَّقَهَا " زَوَّجْنَاكهَا " . وَقِرَاءَة أَهْل الْبَيْت " زَوَّجْتُكهَا " . وَقِيلَ : الْوَطَر عِبَارَة عَنْ الطَّلَاق , قَالَهُ قَتَادَة .
الْخَامِسَة : ذَهَبَ بَعْض النَّاس مِنْ هَذِهِ الْآيَة , وَمِنْ قَوْل شُعَيْب : " إِنِّي أُرِيد أَنْ أُنْكِحَك " [ الْقَصَص : 27 ] إِلَى أَنَّ تَرْتِيب هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُهُور يَنْبَغِي أَنْ يَكُون : " أَنْكَحَهُ إِيَّاهَا " فَتَقَدَّمَ ضَمِير الزَّوْج كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِصَاحِبِ الرِّدَاء ( اِذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآن ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا غَيْر لَازِم , لِأَنَّ الزَّوْج فِي الْآيَة مُخَاطَب فَحَسُنَ تَقْدِيمه , وَفِي الْمُهُور الزَّوْجَانِ سَوَاء , فَقَدِّمْ مَنْ شِئْت , وَلَمْ يَبْقَ تَرْجِيح إِلَّا بِدَرَجَةِ الرِّجَال , وَأَنَّهُمْ الْقَوَّامُونَ .
السَّادِسَة : قَوْله تَعَالَى : " زَوَّجْنَاكهَا " دَلِيل عَلَى ثُبُوت الْوَلِيّ فِي النِّكَاح , وَقَدْ : تَقَدَّمَ الْخِلَاف فِي ذَلِكَ . رُوِيَ أَنَّ عَائِشَة وَزَيْنَب تَفَاخَرَتَا , فَقَالَتْ عَائِشَة : أَنَا الَّتِي جَاءَ بِي الْمَلَك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرَقَة مِنْ حَرِير فَيَقُول : ( هَذِهِ اِمْرَأَتُك ) خَرَّجَهُ الصَّحِيح . وَقَالَتْ زَيْنَب : أَنَا الَّتِي زَوَّجَنِي اللَّه مِنْ فَوْق سَبْع سَمَوَات . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : كَانَتْ زَيْنَب تَقُول لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَدِلّ عَلَيْك بِثَلَاثٍ , مَا مِنْ نِسَائِك اِمْرَأَة تَدِلّ بِهِنَّ : إِنَّ جَدِّي وَجَدّك وَاحِد , وَإِنَّ اللَّه أَنْكَحَك إِيَّايَ مِنْ السَّمَاء , وَإِنَّ السَّفِير فِي ذَلِكَ جِبْرِيل . وَرُوِيَ عَنْ زَيْنَب أَنَّهَا قَالَتْ : لَمَّا وَقَعْت فِي قَلْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَطِعْنِي زَيْد , وَمَا أَمْتَنِعُ مِنْهُ غَيْرَ مَا يَمْنَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنِّي فَلَا يَقْدِر عَلَيَّ .
قُلْت : هَذَا الْقَدْر هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه , وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ هَذِهِ الْآيَة " وَتُخْفِي فِي نَفْسك مَا اللَّه مُبْدِيه " نَزَلَتْ فِي شَأْن زَيْنَب بِنْت جَحْش وَزَيْد بْن حَارِثَة . وَقَالَ عَمْرو بْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَالْحَسَن : مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى رَسُوله آيَة أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ الْحَسَن وَعَائِشَة : لَوْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْي لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَة لِشِدَّتِهَا عَلَيْهِ . وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنَّهُ : أَمْسَى زَيْد فَأَوَى إِلَى فِرَاشه , قَالَتْ زَيْنَب : وَلَمْ يَسْتَطِعْنِي زَيْد , وَمَا أَمْتَنِع مِنْهُ غَيْر مَا مَنَعَهُ اللَّه مِنِّي , فَلَا يَقْدِر عَلَيَّ . هَذِهِ رِوَايَة أَبِي عِصْمَة نُوح بْن أَبِي مَرْيَم , رَفَعَ الْحَدِيث إِلَى زَيْنَب أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ . وَفِي بَعْض الرِّوَايَات : أَنَّ زَيْدًا تَوَرَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ حِين أَرَادَ أَنْ يَقْرَبهَا , فَهَذَا قَرِيب مِنْ ذَلِكَ . وَجَاءَ زَيْد إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ زَيْنَب تُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا وَتَفْعَل وَتَفْعَل ! وَإِنِّي أُرِيد أَنْ أُطَلِّقهَا , فَقَالَ لَهُ : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك وَاتَّقِ اللَّه ) الْآيَة . فَطَلَّقَهَا زَيْد فَنَزَلَتْ : " وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ " الْآيَة .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , فَذَهَبَ قَتَادَة وَابْن زَيْد وَجَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ , مِنْهُمْ الطَّبَرِيّ وَغَيْره - إِلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ مِنْهُ اِسْتِحْسَان لِزَيْنَب بِنْت جَحْش , وَهِيَ فِي عِصْمَة زَيْد , وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقهَا زَيْد فَيَتَزَوَّجهَا هُوَ ; ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يُرِيد فِرَاقهَا , وَيَشْكُو مِنْهَا غِلْظَة قَوْل وَعِصْيَان أَمْر , وَأَذًى بِاللِّسَانِ وَتَعَظُّمًا بِالشَّرَفِ , قَالَ لَهُ : ( اِتَّقِ اللَّه - أَيْ فِيمَا تَقُول عَنْهَا - وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَهُوَ يُخْفِي الْحِرْص عَلَى طَلَاق زَيْد إِيَّاهَا . وَهَذَا الَّذِي كَانَ يُخْفِي فِي نَفْسه , وَلَكِنَّهُ لَزِمَ مَا يَجِب مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ . وَقَالَ مُقَاتِل : زَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ مِنْ زَيْد فَمَكَثَتْ عِنْده حِينًا , ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى زَيْدًا يَوْمًا يَطْلُبهُ , فَأَبْصَرَ زَيْنَب قَائِمَة , كَانَتْ بَيْضَاء جَمِيلَة جَسِيمَة مِنْ أَتَمِّ نِسَاء قُرَيْش , فَهَوِيَهَا وَقَالَ : ( سُبْحَان اللَّه مُقَلِّب الْقُلُوب ) ! فَسَمِعَتْ زَيْنَب بِالتَّسْبِيحَةِ فَذَكَرَتْهَا لِزَيْدٍ , فَفَطِنَ زَيْد فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , اِئْذَنْ لِي فِي طَلَاقهَا , فَإِنَّ فِيهَا كِبْرًا , تَعْظُم عَلَيَّ وَتُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا , فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك وَاتَّقِ اللَّه ) . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه بَعَثَ رِيحًا فَرَفَعَتْ السِّتْر وَزَيْنَب مُتَفَضِّلَة فِي مَنْزِلهَا , فَرَأَى زَيْنَب فَوَقَعَتْ فِي نَفْسه , وَوَقَعَ فِي نَفْس زَيْنَب أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي نَفْس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ يَطْلُب زَيْدًا , فَجَاءَ زَيْد فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ , فَوَقَعَ فِي نَفْس زَيْد أَنْ يُطَلِّقهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " وَتُخْفِي فِي نَفْسك " الْحُبّ لَهَا . " وَتَخْشَى النَّاس " أَيْ تَسْتَحْيِيهِمْ وَقِيلَ : تَخَاف وَتَكْرَه لَائِمَة الْمُسْلِمِينَ لَوْ قُلْت طَلِّقْهَا , وَيَقُولُونَ أَمَرَ رَجُلًا بِطَلَاقِ اِمْرَأَته ثُمَّ نَكَحَهَا حِين طَلَّقَهَا . " وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ " فِي كُلّ الْأَحْوَال . وَقِيلَ وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنْهُ , وَلَا تَأْمُر زَيْدًا بِإِمْسَاكِ زَوْجَته بَعْد أَنْ أَعْلَمَك اللَّه أَنَّهَا سَتَكُونُ زَوْجَتك , فَعَاتَبَهُ اللَّه عَلَى جَمِيع هَذَا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّ زَيْدًا يُطَلِّق زَيْنَب , وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجهَا بِتَزْوِيجِ اللَّه إِيَّاهَا , فَلَمَّا تَشَكَّى زَيْد لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلُقَ زَيْنَب , وَأَنَّهَا لَا تُطِيعهُ , وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُرِيد طَلَاقهَا , قَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَة الْأَدَب وَالْوَصِيَّة : ( اِتَّقِ اللَّه فِي قَوْلك وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا وَيَتَزَوَّجهَا , وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْفَى فِي نَفْسه , وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَأْمُرهُ بِالطَّلَاقِ لِمَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا , وَخَشِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقهُ قَوْل مِنْ النَّاس فِي أَنْ يَتَزَوَّج زَيْنَب بَعْد زَيْد , وَهُوَ مَوْلَاهُ , وَقَدْ أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا , فَعَاتَبَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الْقَدْر مِنْ أَنْ خَشِيَ النَّاس فِي شَيْء قَدْ أَبَاحَهُ اللَّه لَهُ , بِأَنْ قَالَ : " أَمْسِكْ " مَعَ عِلْمه بِأَنَّهُ يُطَلِّق . وَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّه أَحَقُّ بِالْخَشْيَةِ , أَيْ فِي كُلّ حَال . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : وَهَذَا الْقَوْل أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْل التَّحْقِيق مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَالْعُلَمَاء الرَّاسِخِينَ , كَالزُّهْرِيِّ وَالْقَاضِي بَكْر بْن الْعَلَاء الْقُشَيْرِيّ , وَالْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيّ وَغَيْرهمْ . وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَتَخْشَى النَّاس " إِنَّمَا هُوَ إِرْجَاف الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ نَهَى عَنْ تَزْوِيج نِسَاء الْأَبْنَاء وَتَزَوَّجَ بِزَوْجَةِ اِبْنه . فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيَ زَيْنَب اِمْرَأَة زَيْد - وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْض الْمُجَّان لَفْظ عَشِقَ - فَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُر عَنْ جَاهِل بِعِصْمَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْل هَذَا , أَوْ مُسْتَخِفّ بِحُرْمَتِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول , وَأَسْنَدَ إِلَى عَلِيّ بْن الْحُسَيْن قَوْلَهُ : فَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن جَاءَ بِهَذَا مِنْ خِزَانَة الْعِلْم جَوْهَرًا مِنْ الْجَوَاهِر , وَدُرًّا مِنْ الدُّرَر , أَنَّهُ إِنَّمَا عَتَبَ اللَّه عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُ أَنْ سَتَكُونُ هَذِهِ مِنْ أَزْوَاجك , فَكَيْف قَالَ بَعْد ذَلِكَ لِزَيْدٍ : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَأَخَذَتْك خَشْيَة النَّاس أَنْ يَقُولُوا : تَزَوَّجَ اِمْرَأَة اِبْنه , وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ . وَقَالَ النَّحَّاس : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَيْسَ هَذَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيئَة , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَر بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ . وَقَدْ يَكُون الشَّيْء لَيْسَ بِخَطِيئَةٍ إِلَّا أَنَّ غَيْرَهُ أَحْسَنُ مِنْهُ , وَأَخْفَى ذَلِكَ فِي نَفْسه خَشْيَة أَنْ يُفْتَتَن النَّاسُ .
الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ قِيلَ لِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ : ( أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجك ) وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّه أَنَّهَا زَوْجه . قُلْنَا : أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِر مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ عَنْهَا , فَأَبْدَى لَهُ زَيْدٌ مِنْ النُّفْرَة عَنْهَا وَالْكَرَاهَة فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرهَا . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَأْمُرهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْفِرَاق لَا بُدّ مِنْهُ ؟ وَهَذَا تَنَاقُض . قُلْنَا : بَلْ هُوَ صَحِيح لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَة , لِإِقَامَةِ الْحُجَّة وَمَعْرِفَة الْعَاقِبَة , أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَأْمُر الْعَبْد بِالْإِيمَانِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِن , فَلَيْسَ فِي مُخَالَفَة مُتَعَلَّق الْأَمْر لِمُتَعَلَّقِ الْعِلْم مَا يَمْنَع مِنْ الْأَمْر بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا . وَهَذَا مِنْ نَفِيس الْعِلْم فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ وَقَوْله : " وَاتَّقِ اللَّه " أَيْ فِي طَلَاقهَا , فَلَا تُطَلِّقهَا . وَأَرَادَ نَهْي تَنْزِيه لَا نَهْي تَحْرِيم , لِأَنَّ الْأَوْلَى أَلَّا يُطَلِّق . وَقِيلَ : " اِتَّقِ اللَّه " فَلَا تَذُمّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكِبْر وَأَذَى الزَّوْج . " وَتُخْفِي فِي نَفْسك " قِيلَ تَعَلُّق قَلْبِهِ . وَقِيلَ : مُفَارَقَة زَيْد إِيَّاهَا . وَقِيلَ : عِلْمُهُ بِأَنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُهَا , لِأَنَّ اللَّه قَدْ أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ .
الثَّالِثَة : رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِزَيْدٍ : ( مَا أَجِد فِي نَفْسِي أَوْثَقَ مِنْك فَاخْطُبْ زَيْنَب عَلَيَّ ) قَالَ : فَذَهَبْت وَوَلَّيْتهَا ظَهْرِي تَوْقِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَخَطَبْتهَا فَفَرِحَتْ وَقَالَتْ : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي , فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا وَنَزَلَ الْقُرْآن , فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بِهَا .
قُلْت : مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث ثَابِت فِي الصَّحِيح . وَتَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيّ ( صَلَاة الْمَرْأَة إِذَا خُطِبَتْ وَاسْتِخَارَتُهَا رَبَّهَا ) رَوَى الْأَئِمَّة - وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ - عَنْ أَنَس قَالَ : لَمَّا اِنْقَضَتْ عِدَّة زَيْنَب قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ : ( فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ ) قَالَ : فَانْطَلَقَ زَيْد حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّر عَجِينَهَا . قَالَ : فَلَمَّا رَأَيْتهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي , حَتَّى مَا أَسْتَطِيع أَنْ أَنْظُر إِلَيْهَا , أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهَا فَوَلَّيْتهَا ظَهْرِي , وَنَكَصْت عَلَى عَقِبِي , فَقُلْت : يَا زَيْنَب , أَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرك , قَالَتْ , : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي , فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا وَنَزَلَ الْقُرْآن . وَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْن . قَالَ : فَقَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَنَا الْخُبْز وَاللَّحْم حِين اِمْتَدَّ النَّهَار ... الْحَدِيث . فِي رِوَايَة ( حَتَّى تَرَكُوهُ ) . وَفِي رِوَايَة عَنْ أَنَس أَيْضًا قَالَ : مَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى اِمْرَأَة مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَب , فَإِنَّهُ ذَبَحَ شَاة . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِزَيْدٍ : ( فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ ) أَيْ اُخْطُبْهَا , كَمَا بَيَّنَهُ الْحَدِيث الْأَوَّل . وَهَذَا اِمْتِحَان لِزَيْدٍ وَاخْتِبَار لَهُ , حَتَّى يُظْهِر صَبْره وَانْقِيَاده وَطَوْعه .
قُلْت : وَقَدْ يُسْتَنْبَط مِنْ هَذَا أَنْ يَقُول الْإِنْسَان لِصَاحِبِهِ : اُخْطُبْ عَلَيَّ فُلَانَة , لِزَوْجِهِ الْمُطَلَّقَة مِنْهُ , وَلَا حَرَج فِي ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
فِيهِ سِتّ مَسَائِل : الْأُولَى : لَمَّا وَكَّلَتْ أَمْرهَا إِلَى اللَّه وَصَحَّ تَفْوِيضهَا إِلَيْهِ تَوَلَّى اللَّه إِنْكَاحهَا , وَلِذَلِكَ قَالَ : " فَلَمَّا قَضَى زَيْد مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكهَا " . وَرَوَى الْإِمَام جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ آبَائِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَطَرًا زَوَّجْتُكهَا " . وَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّه بِذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْن , وَلَا تَجْدِيد عَقْد وَلَا تَقْرِير صَدَاق , وَلَا شَيْء مِمَّا يَكُون شَرْطًا فِي حُقُوقنَا وَمَشْرُوعًا لَنَا . وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا كَانَتْ زَيْنَب تُفَاخِر نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُول : زَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّه تَعَالَى . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : كَانَتْ زَيْنَب تَفْخَر عَلَى نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُول . إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْكَحَنِي مِنْ السَّمَاء . وَفِيهَا نَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب , وَسَيَأْتِي .
الثَّانِيَة : الْمُنْعَم عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ زَيْد بْن حَارِثَة , كَمَا بَيَّنَّاهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَره فِي أَوَّل السُّورَة . وَرُوِيَ أَنَّ عَمّه لَقِيَهُ يَوْمًا وَكَانَ قَدْ وَرَدَ مَكَّة فِي شُغْل لَهُ , فَقَالَ : مَا اِسْمك يَا غُلَام ؟ قَالَ : زَيْد , قَالَ : اِبْن مَنْ ؟ قَالَ : اِبْن حَارِثَة . قَالَ اِبْن مَنْ ؟ قَالَ : اِبْن شَرَاحِيل الْكَلْبِيّ . قَالَ : فَمَا اِسْم أُمّك ؟ قَالَ : سُعْدَى , وَكُنْت فِي أَخْوَالِي طَيّ , فَضَمَّهُ إِلَى صَدْره . وَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ وَقَوْمه فَحَضَرُوا , وَأَرَادُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيم مَعَهُمْ , فَقَالُوا : لِمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : لِمُحَمَّدِ بْن عَبْد اللَّه , فَأَتَوْهُ وَقَالُوا : هَذَا اِبْننَا فَرُدَّهُ عَلَيْنَا . فَقَالَ : ( أَعْرِض عَلَيْهِ فَإِنْ اِخْتَارَكُمْ فَخُذُوا بِيَدِهِ ) فَبَعَثَ إِلَى زَيْد وَقَالَ : ( هَلْ تَعْرِف هَؤُلَاءِ ) ؟ قَالَ نَعَمْ هَذَا أَبِي , وَهَذَا أَخِي , وَهَذَا عَمِّي . فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَيُّ صَاحِبٍ كُنْت لَك ) ؟ فَبَكَى وَقَالَ : لِمَ سَأَلْتنِي عَنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : ( أُخَيِّرك فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَلْحَق بِهِمْ فَالْحَقْ وَإِنْ أَرَدْت أَنْ تُقِيم فَأَنَا مَنْ قَدْ عَرَفْت ) فَقَالَ : مَا أَخْتَار عَلَيْك أَحَدًا . فَجَذَبَهُ عَمّه وَقَالَ : يَا زَيْد , اِخْتَرْت الْعُبُودِيَّة عَلَى أَبِيك وَعَمّك ! فَقَالَ : أَيْ وَاَللَّه الْعُبُودِيَّة عِنْد مُحَمَّد أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُون عِنْدكُمْ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِشْهَدُوا أَنِّي وَارِث وَمَوْرُوث ) . فَلَمْ يَزَلْ يُقَال : زَيْد بْن مُحَمَّد إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : " اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ " [ الْأَحْزَاب : 5 ] وَنَزَلَ " مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالكُمْ " [ الْأَحْزَاب : 40 ] .
الثَّالِثَة : قَالَ الْإِمَام أَبُو الْقَاسِم عَبْد الرَّحْمَن السُّهَيْلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَانَ يُقَال زَيْد بْن مُحَمَّد حَتَّى نَزَلَ " اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ " [ الْأَحْزَاب : 5 ] فَقَالَ : أَنَا زَيْد بْن حَارِثَة . وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول : أَنَا زَيْد بْن مُحَمَّد . فَلَمَّا نُزِعَ عَنْهُ هَذَا الشَّرَف وَهَذَا الْفَخْر , وَعَلِمَ اللَّه وَحْشَته مِنْ ذَلِكَ شَرَّفَهُ بِخِصِّيصَةٍ لَمْ يَكُنْ يَخُصّ بِهَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أَنَّهُ سَمَّاهُ فِي الْقُرْآن , فَقَالَ تَعَالَى : " فَلَمَّا قَضَى زَيْد مِنْهَا وَطَرًا " يَعْنِي مِنْ زَيْنَب . وَمَنْ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِاسْمِهِ فِي الذِّكْر الْحَكِيم حَتَّى صَارَ اِسْمه قُرْآنًا يُتْلَى فِي الْمَحَارِيب , نَوَّهَ بِهِ غَايَة التَّنْوِيه , فَكَانَ فِي هَذَا تَأْنِيس لَهُ وَعِوَض مِنْ الْفَخْر بِأُبُوَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ . أَلَا تَرَى إِلَى قَوْل أُبَيّ بْن كَعْب حِين قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك سُورَة كَذَا ) فَبَكَى وَقَالَ : أَوَذُكِرْت هُنَالِكَ ؟ وَكَانَ بُكَاؤُهُ مِنْ الْفَرَح حِين أُخْبِرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ , فَكَيْف بِمَنْ صَارَ اِسْمه قُرْآنًا يُتْلَى مُخَلَّدًا لَا يَبِيد , يَتْلُوهُ أَهْل الدُّنْيَا إِذَا قَرَءُوا الْقُرْآن , وَأَهْل الْجَنَّة كَذَلِكَ أَبَدًا , لَا يَزَال عَلَى أَلْسِنَة الْمُؤْمِنِينَ , كَمَا لَمْ يَزَلْ مَذْكُورًا عَلَى الْخُصُوص عِنْد رَبّ الْعَالَمِينَ , إِذْ الْقُرْآن كَلَام اللَّه الْقَدِيم , وَهُوَ بَاقٍ لَا يَبِيد , فَاسْم زَيْد هَذَا فِي الصُّحُف الْمُكَرَّمَة الْمَرْفُوعَة الْمُطَهَّرَة , تَذْكُرهُ فِي التِّلَاوَة السَّفَرَة الْكِرَام الْبَرَرَة . وَلَيْسَ ذَلِكَ لِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاء الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا لِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَلِزَيْدِ بْن حَارِثَة تَعْوِيضًا مِنْ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِمَّا نُزِعَ عَنْهُ . وَزَادَ فِي الْآيَة أَنْ قَالَ : " وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ " أَيْ بِالْإِيمَانِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْجَنَّة , عَلِمَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَمُوت , وَهَذِهِ فَضِيلَة أُخْرَى .
الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : " وَطَرًا " الْوَطَر كُلّ حَاجَة لِلْمَرْءِ لَهُ فِيهَا هِمَّة , وَالْجَمْع الْأَوْطَار . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ بَلَغَ مَا أَرَادَ مِنْ حَاجَته , يَعْنِي الْجِمَاع . وَفِيهِ إِضْمَار , أَيْ لَمَّا قَضَى وَطَره مِنْهَا وَطَلَّقَهَا " زَوَّجْنَاكهَا " . وَقِرَاءَة أَهْل الْبَيْت " زَوَّجْتُكهَا " . وَقِيلَ : الْوَطَر عِبَارَة عَنْ الطَّلَاق , قَالَهُ قَتَادَة .
الْخَامِسَة : ذَهَبَ بَعْض النَّاس مِنْ هَذِهِ الْآيَة , وَمِنْ قَوْل شُعَيْب : " إِنِّي أُرِيد أَنْ أُنْكِحَك " [ الْقَصَص : 27 ] إِلَى أَنَّ تَرْتِيب هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُهُور يَنْبَغِي أَنْ يَكُون : " أَنْكَحَهُ إِيَّاهَا " فَتَقَدَّمَ ضَمِير الزَّوْج كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِصَاحِبِ الرِّدَاء ( اِذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآن ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا غَيْر لَازِم , لِأَنَّ الزَّوْج فِي الْآيَة مُخَاطَب فَحَسُنَ تَقْدِيمه , وَفِي الْمُهُور الزَّوْجَانِ سَوَاء , فَقَدِّمْ مَنْ شِئْت , وَلَمْ يَبْقَ تَرْجِيح إِلَّا بِدَرَجَةِ الرِّجَال , وَأَنَّهُمْ الْقَوَّامُونَ .
السَّادِسَة : قَوْله تَعَالَى : " زَوَّجْنَاكهَا " دَلِيل عَلَى ثُبُوت الْوَلِيّ فِي النِّكَاح , وَقَدْ : تَقَدَّمَ الْخِلَاف فِي ذَلِكَ . رُوِيَ أَنَّ عَائِشَة وَزَيْنَب تَفَاخَرَتَا , فَقَالَتْ عَائِشَة : أَنَا الَّتِي جَاءَ بِي الْمَلَك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرَقَة مِنْ حَرِير فَيَقُول : ( هَذِهِ اِمْرَأَتُك ) خَرَّجَهُ الصَّحِيح . وَقَالَتْ زَيْنَب : أَنَا الَّتِي زَوَّجَنِي اللَّه مِنْ فَوْق سَبْع سَمَوَات . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : كَانَتْ زَيْنَب تَقُول لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَدِلّ عَلَيْك بِثَلَاثٍ , مَا مِنْ نِسَائِك اِمْرَأَة تَدِلّ بِهِنَّ : إِنَّ جَدِّي وَجَدّك وَاحِد , وَإِنَّ اللَّه أَنْكَحَك إِيَّايَ مِنْ السَّمَاء , وَإِنَّ السَّفِير فِي ذَلِكَ جِبْرِيل . وَرُوِيَ عَنْ زَيْنَب أَنَّهَا قَالَتْ : لَمَّا وَقَعْت فِي قَلْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَطِعْنِي زَيْد , وَمَا أَمْتَنِعُ مِنْهُ غَيْرَ مَا يَمْنَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنِّي فَلَا يَقْدِر عَلَيَّ .
مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ↓
هَذِهِ مُخَاطَبَة مِنْ اللَّه تَعَالَى لِجَمِيعِ الْأُمَّة . أَعْلَمَهُمْ أَنَّ هَذَا وَنَحْوه هُوَ السُّنَن الْأَقْدَم فِي الْأَنْبِيَاء أَنْ يَنَالُوا مَا أَحَلَّهُ لَهُمْ , أَيْ سُنَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوْسِعَة عَلَيْهِ فِي النِّكَاح سُنَّة الْأَنْبِيَاء الْمَاضِيَة , كَدَاوُد وَسُلَيْمَان . فَكَانَ لِدَاوُد مِائَة اِمْرَأَة وَثَلَاثمِائَةِ سُرِّيَّة , وَلِسُلَيْمَان ثَلَاثمِائَةِ اِمْرَأَة وَسَبْعمِائَةِ سُرِّيَّة . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ عَنْ مُقَاتِل وَابْن الْكَلْبِيّ أَنَّ الْإِشَارَة إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام , حَيْثُ جَمَعَ اللَّه بَيْنه وَبَيْن مَنْ فُتِنَ بِهَا . و " سُنَّة " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر , أَيْ سَنَّ اللَّه لَهُ سُنَّة وَاسِعَة و " الَّذِينَ خَلَوْا " هُمْ الْأَنْبِيَاء , بِدَلِيلِ وَصْفهمْ بَعْد بِقَوْلِهِ : " الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَات اللَّه " .
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ↓
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ↓
لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَب قَالَ النَّاس : تَزَوَّجَ اِمْرَأَة اِبْنه , فَنَزَلَتْ الْآيَة , أَيْ لَيْسَ هُوَ بِابْنِهِ حَتَّى تُحَرَّم عَلَيْهِ حَلِيلَته , وَلَكِنَّهُ أَبُو أُمَّته فِي التَّبْجِيل وَالتَّعْظِيم , وَأَنَّ نِسَاءَهُ عَلَيْهِمْ حَرَام . فَأَذْهَبَ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَة مَا وَقَعَ فِي نُفُوس الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرهمْ , وَأَعْلَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ أَبَا أَحَد مِنْ الرِّجَال الْمُعَاصِرِينَ لَهُ فِي الْحَقِيقَة . وَلَمْ يَقْصِد بِهَذِهِ الْآيَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَد , فَقَدْ وُلِدَ لَهُ ذُكُور . إِبْرَاهِيم , وَالْقَاسِم , وَالطَّيِّب , وَالْمُطَهَّر , وَلَكِنْ لَمْ يَعِشْ لَهُ اِبْن حَتَّى يَصِير رَجُلًا . وَأَمَّا الْحَسَن وَالْحُسَيْن فَكَانَا طِفْلَيْنِ , وَلَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ مُعَاصِرَيْنِ لَهُ .
" وَلَكِنْ رَسُول اللَّه " قَالَ الْأَخْفَش وَالْفَرَّاء : أَيْ وَلَكِنْ كَانَ رَسُول اللَّه . وَأَجَازَا " وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ " بِالرَّفْعِ . وَكَذَلِكَ قَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة وَبَعْض النَّاس " وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ " بِالرَّفْعِ , عَلَى مَعْنَى هُوَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ " وَلَكِنَّ " بِتَشْدِيدِ النُّون , وَنَصْب " رَسُول اللَّه " عَلَى أَنَّهُ اِسْم " لَكِنَّ " وَالْخَبَر مَحْذُوف " وَخَاتَم " قَرَأَ عَاصِم وَحْده بِفَتْحِ التَّاء , بِمَعْنَى أَنَّهُمْ بِهِ خُتِمُوا , فَهُوَ كَالْخَاتَمِ وَالطَّابَع لَهُمْ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِكَسْرِ التَّاء بِمَعْنَى أَنَّهُ خَتَمَهُمْ , أَيْ جَاءَ آخِرهمْ . وَقِيلَ : الْخَاتَم وَالْخَاتِم لُغَتَانِ , مِثْل طَابَع وَطَابِع , وَدَانَق وَدَانِق , وَطَابَق مِنْ اللَّحْم وَطَابِق
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذِهِ الْأَلْفَاظ عَنْهُ جَمَاعَة عُلَمَاء الْأُمَّة خَلَفًا وَسَلَفًا مُتَلَقَّاة عَلَى الْعُمُوم التَّامّ مُقْتَضِيَة نَصًّا أَنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّب فِي كِتَابه الْمُسَمَّى بِالْهِدَايَةِ : مِنْ تَجْوِيز الِاحْتِمَال فِي أَلْفَاظ هَذِهِ الْآيَة ضَعِيف . وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ بِالِاقْتِصَادِ , إِلْحَاد عِنْدِي , وَتَطَرُّق خَبِيث إِلَى تَشْوِيش عَقِيدَة الْمُسْلِمِينَ فِي خَتْم مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ , فَالْحَذَر الْحَذَر مِنْهُ ! وَاَللَّه الْهَادِي بِرَحْمَتِهِ .
قُلْت : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا نُبُوَّة بَعْدِي إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه ) . قَالَ أَبُو عُمَر : يَعْنِي الرُّؤْيَا - وَاَللَّه أَعْلَمُ - الَّتِي هِيَ جُزْء مِنْهَا , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة ) . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " مِنْ رِجَالكُمْ وَلَكِنْ نَبِيًّا خَتَمَ النَّبِيِّينَ " . قَالَ الرُّمَّانِيّ : خُتِمَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الِاسْتِصْلَاح , فَمَنْ لَمْ يَصْلُح بِهِ فَمَيْئُوس مِنْ صَلَاحه .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( بُعِثْت لِأُتَمِّم مَكَارِم الْأَخْلَاق ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَثَلِي وَمَثَل الْأَنْبِيَاء كَمَثَلِ رَجُل بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِع لَبِنَة فَجَعَلَ النَّاس يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ لَوْلَا مَوْضِع اللَّبِنَة - قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنَا مَوْضِع اللَّبِنَة جِئْت فَخَتَمْت الْأَنْبِيَاء ) . وَنَحْوه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , غَيْر أَنَّهُ قَالَ : فَأَنَا اللَّبِنَة وَأَنَا خَاتَم النَّبِيِّينَ ) .
" وَلَكِنْ رَسُول اللَّه " قَالَ الْأَخْفَش وَالْفَرَّاء : أَيْ وَلَكِنْ كَانَ رَسُول اللَّه . وَأَجَازَا " وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ " بِالرَّفْعِ . وَكَذَلِكَ قَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة وَبَعْض النَّاس " وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ " بِالرَّفْعِ , عَلَى مَعْنَى هُوَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ " وَلَكِنَّ " بِتَشْدِيدِ النُّون , وَنَصْب " رَسُول اللَّه " عَلَى أَنَّهُ اِسْم " لَكِنَّ " وَالْخَبَر مَحْذُوف " وَخَاتَم " قَرَأَ عَاصِم وَحْده بِفَتْحِ التَّاء , بِمَعْنَى أَنَّهُمْ بِهِ خُتِمُوا , فَهُوَ كَالْخَاتَمِ وَالطَّابَع لَهُمْ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِكَسْرِ التَّاء بِمَعْنَى أَنَّهُ خَتَمَهُمْ , أَيْ جَاءَ آخِرهمْ . وَقِيلَ : الْخَاتَم وَالْخَاتِم لُغَتَانِ , مِثْل طَابَع وَطَابِع , وَدَانَق وَدَانِق , وَطَابَق مِنْ اللَّحْم وَطَابِق
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذِهِ الْأَلْفَاظ عَنْهُ جَمَاعَة عُلَمَاء الْأُمَّة خَلَفًا وَسَلَفًا مُتَلَقَّاة عَلَى الْعُمُوم التَّامّ مُقْتَضِيَة نَصًّا أَنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّب فِي كِتَابه الْمُسَمَّى بِالْهِدَايَةِ : مِنْ تَجْوِيز الِاحْتِمَال فِي أَلْفَاظ هَذِهِ الْآيَة ضَعِيف . وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ بِالِاقْتِصَادِ , إِلْحَاد عِنْدِي , وَتَطَرُّق خَبِيث إِلَى تَشْوِيش عَقِيدَة الْمُسْلِمِينَ فِي خَتْم مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ , فَالْحَذَر الْحَذَر مِنْهُ ! وَاَللَّه الْهَادِي بِرَحْمَتِهِ .
قُلْت : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا نُبُوَّة بَعْدِي إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه ) . قَالَ أَبُو عُمَر : يَعْنِي الرُّؤْيَا - وَاَللَّه أَعْلَمُ - الَّتِي هِيَ جُزْء مِنْهَا , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة ) . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " مِنْ رِجَالكُمْ وَلَكِنْ نَبِيًّا خَتَمَ النَّبِيِّينَ " . قَالَ الرُّمَّانِيّ : خُتِمَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الِاسْتِصْلَاح , فَمَنْ لَمْ يَصْلُح بِهِ فَمَيْئُوس مِنْ صَلَاحه .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( بُعِثْت لِأُتَمِّم مَكَارِم الْأَخْلَاق ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَثَلِي وَمَثَل الْأَنْبِيَاء كَمَثَلِ رَجُل بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِع لَبِنَة فَجَعَلَ النَّاس يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ لَوْلَا مَوْضِع اللَّبِنَة - قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنَا مَوْضِع اللَّبِنَة جِئْت فَخَتَمْت الْأَنْبِيَاء ) . وَنَحْوه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , غَيْر أَنَّهُ قَالَ : فَأَنَا اللَّبِنَة وَأَنَا خَاتَم النَّبِيِّينَ ) .
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى عِبَاده بِأَنْ يَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ , وَيُكْثِرُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ . وَجَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ دُون حَدّ لِسُهُولَتِهِ عَلَى الْعَبْد . وَلِعِظَمِ الْأَجْر فِيهِ قَالَ اِبْن , عَبَّاس : لَمْ يُعْذَر أَحَد فِي تَرْك ذِكْر اللَّه إِلَّا مَنْ غُلِبَ عَلَى عَقْله . وَرَوَى أَبُو سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَكْثِرُوا ذِكْر اللَّه حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُون ) . وَقِيلَ : الذِّكْر الْكَثِير مَا جَرَى عَلَى الْإِخْلَاص مِنْ الْقَلْب , وَالْقَلِيل مَا يَقَع عَلَى حُكْم النِّفَاق كَالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ .
أَيْ اِشْغَلُوا أَلْسِنَتكُمْ فِي مُعْظَم أَحْوَالكُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَالتَّحْمِيد وَالتَّكْبِير . قَالَ , مُجَاهِد : وَهَذِهِ كَلِمَات يَقُولهُنَّ الطَّاهِر وَالْمُحْدِث وَالْجُنُب . وَقِيلَ : اُدْعُوهُ . قَالَ جَرِير : فَلَا تَنْسَ تَسْبِيح الضُّحَى إِنَّ يُوسُفًا دَعَا رَبَّهُ فَاخْتَارَهُ حِين سَبَّحَا وَقِيلَ : الْمُرَاد صَلُّوا لِلَّهِ بُكْرَة وَأَصِيلًا , وَالصَّلَاة تُسَمَّى تَسْبِيحًا . وَخُصَّ الْفَجْر وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا , لِاتِّصَالِهَا بِأَطْرَافِ اللَّيْل . وَقَالَ قَتَادَة وَالطَّبَرِيّ : الْإِشَارَة إِلَى صَلَاة الْغَدَاة وَصَلَاة الْعَصْر . وَالْأَصِيل : الْعَشِيّ وَجَمْعه أَصَائِل . وَالْأُصُل بِمَعْنَى الْأَصِيل , وَجَمْعه آصَال , قَالَهُ الْمُبَرِّد . وَقَالَ غَيْره : أُصُل جَمْع أَصِيل , كَرَغِيفٍ وَرُغُف . وَقَدْ تَقَدَّمَ . مَسْأَلَة : هَذِهِ الْآيَة مَدَنِيَّة , فَلَا تَعَلُّق بِهَا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الصَّلَاة إِنَّمَا فُرِضَتْ أَوَّلًا صَلَاتَيْنِ فِي طَرَفَيْ النَّهَار . وَالرِّوَايَة بِذَلِكَ ضَعِيفَة فَلَا اِلْتِفَات إِلَيْهَا وَلَا مُعَوَّل عَلَيْهَا . وَقَالَ مَضَى الْكَلَام فِي كَيْفِيَّة فَرْض الصَّلَاة وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ فِي " الْإِسْرَاء " وَالْحَمْد لِلَّهِ .
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ↓
قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا نَزَلَ " إِنَّ اللَّه وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ " [ الْأَحْزَاب : 56 ] قَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار : هَذَا لَك يَا رَسُول اللَّه خَاصَّة , وَلَيْسَ لَنَا فِيهِ شَيْء , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة .
قُلْت : وَهَذِهِ نِعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّة مِنْ أَكْبَرِ النِّعَم , وَدَلِيل عَلَى فَضْلهَا عَلَى سَائِر الْأُمَم . وَقَدْ قَالَ : " كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " [ آل عِمْرَان : 110 ] . وَالصَّلَاة مِنْ اللَّه عَلَى الْعَبْد هِيَ رَحْمَته لَهُ وَبَرَكَته لَدَيْهِ . وَصَلَاة الْمَلَائِكَة : دُعَاؤُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارهمْ لَهُمْ , كَمَا قَالَ : " وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا " [ غَافِر : 7 ] وَسَيَأْتِي . وَفِي الْحَدِيث : أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام : أَيُصَلِّي رَبّك جَلَّ وَعَزَّ ؟ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ , فَأَوْحَى اللَّه جَلَّ وَعَزَّ : " إِنَّ صَلَاتِي بِأَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي " ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَرَوَتْ فِرْقَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه , كَيْف صَلَاة اللَّه عَلَى عِبَاده . قَالَ : ( سُبُّوح قُدُّوس - رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ) . وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل هَذَا الْقَوْل , فَقِيلَ : إِنَّهُ كَلِمَة مِنْ كَلَام اللَّه تَعَالَى وَهِيَ صَلَاته عَلَى عِبَاده . وَقِيلَ سُبُّوح قُدُّوس مِنْ كَلَام مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدَّمَهُ بَيْن يَدَيْ نُطْقه بِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ صَلَاة اللَّه وَهُوَ ( رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ) مِنْ حَيْثُ فَهِمَ مِنْ السَّائِل أَنَّهُ تَوَهَّمَ فِي صَلَاة اللَّه عَلَى عِبَاده وَجْهًا لَا يَلِيق بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَقَدَّمَ التَّنْزِيه وَالتَّعْظِيم بَيْن يَدَيْ إِخْبَاره .
أَيْ مِنْ الضَّلَالَة إِلَى الْهُدَى . وَمَعْنَى هَذَا التَّثْبِيتُ عَلَى الْهِدَايَة , لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي وَقْت الْخِطَاب عَلَى الْهِدَايَة .
أَخْبَرَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسًا لَهُمْ
قُلْت : وَهَذِهِ نِعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّة مِنْ أَكْبَرِ النِّعَم , وَدَلِيل عَلَى فَضْلهَا عَلَى سَائِر الْأُمَم . وَقَدْ قَالَ : " كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " [ آل عِمْرَان : 110 ] . وَالصَّلَاة مِنْ اللَّه عَلَى الْعَبْد هِيَ رَحْمَته لَهُ وَبَرَكَته لَدَيْهِ . وَصَلَاة الْمَلَائِكَة : دُعَاؤُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارهمْ لَهُمْ , كَمَا قَالَ : " وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا " [ غَافِر : 7 ] وَسَيَأْتِي . وَفِي الْحَدِيث : أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام : أَيُصَلِّي رَبّك جَلَّ وَعَزَّ ؟ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ , فَأَوْحَى اللَّه جَلَّ وَعَزَّ : " إِنَّ صَلَاتِي بِأَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي " ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَرَوَتْ فِرْقَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه , كَيْف صَلَاة اللَّه عَلَى عِبَاده . قَالَ : ( سُبُّوح قُدُّوس - رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ) . وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل هَذَا الْقَوْل , فَقِيلَ : إِنَّهُ كَلِمَة مِنْ كَلَام اللَّه تَعَالَى وَهِيَ صَلَاته عَلَى عِبَاده . وَقِيلَ سُبُّوح قُدُّوس مِنْ كَلَام مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدَّمَهُ بَيْن يَدَيْ نُطْقه بِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ صَلَاة اللَّه وَهُوَ ( رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ) مِنْ حَيْثُ فَهِمَ مِنْ السَّائِل أَنَّهُ تَوَهَّمَ فِي صَلَاة اللَّه عَلَى عِبَاده وَجْهًا لَا يَلِيق بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَقَدَّمَ التَّنْزِيه وَالتَّعْظِيم بَيْن يَدَيْ إِخْبَاره .
أَيْ مِنْ الضَّلَالَة إِلَى الْهُدَى . وَمَعْنَى هَذَا التَّثْبِيتُ عَلَى الْهِدَايَة , لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي وَقْت الْخِطَاب عَلَى الْهِدَايَة .
أَخْبَرَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسًا لَهُمْ
اُخْتُلِفَ فِي الضَّمِير الَّذِي فِي " يَلْقَوْنَهُ " عَلَى مَنْ يَعُود , فَقِيلَ عَلَى اللَّه تَعَالَى , أَيْ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا , فَهُوَ يُؤَمِّنهُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه يَوْم الْقِيَامَة . وَفِي ذَلِكَ الْيَوْم يَلْقَوْنَهُ . و " تَحِيَّتهمْ " أَيْ تَحِيَّة بَعْضهمْ لِبَعْضٍ . " سَلَام " أَيْ سَلَامَة لَنَا وَلَكُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه . وَقِيلَ : هَذِهِ التَّحِيَّة مِنْ اللَّه تَعَالَى , الْمَعْنَى : فَيُسَلِّمهُمْ مِنْ الْآفَات , أَوْ يُبَشِّرهُمْ بِالْأَمْنِ مِنْ الْمُخَافَات " يَوْم يَلْقَوْنَهُ " أَيْ يَوْم الْقِيَامَة بَعْد دُخُول الْجَنَّة . قَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاج , وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : " وَتَحِيَّتهمْ فِيهَا سَلَام " [ يُونُس : 10 ] . وَقِيلَ : " يَوْم يَلْقَوْنَهُ " أَيْ يَوْم يَلْقَوْنَ مَلَك الْمَوْت , وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَقْبِض رُوح مُؤْمِن إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ . رُوِيَ عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : " تَحِيَّتهمْ يَوْم يَلْقَوْنَهُ سَلَام " فَيُسَلِّم مَلَك الْمَوْت عَلَى الْمُؤْمِن عِنْد قَبْض رُوحه , لَا يَقْبِض رُوحه حَتَّى يُسَلِّم عَلَيْهِ .
هَذِهِ الْآيَة فِيهَا تَأْنِيس لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ , وَتَكْرِيم لِجَمِيعِهِمْ . وَهَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتّ أَسْمَاء وَلِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاء كَثِيرَة وَسِمَات جَلِيلَة , وَرَدَ ذِكْرهَا فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَالْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة . وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّه فِي كِتَابه مُحَمَّدًا وَأَحْمَد . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ الثِّقَات الْعُدُول : ( لِي خَمْسَة أَسْمَاء أَنَا مُحَمَّد وَأَنَا أَحْمَد وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّه بِي الْكُفْر وَأَنَا الْحَاشِر الَّذِي يَحْشُر النَّاس عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِب ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم حَدِيث جُبَيْر بْن مُطْعِم : وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّه " رَءُوفًا رَحِيمًا " . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسه أَسْمَاء , فَيَقُول : ( أَنَا مُحَمَّد وَأَحْمَد وَالْمُقَفِّي وَالْحَاشِر وَنَبِيّ التَّوْبَة وَنَبِيّ الرَّحْمَة ) . وَقَدْ تَتَبَّعَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل عِيَاض فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ( بِالشِّفَا ) مَا جَاءَ فِي كِتَاب اللَّه وَفِي سُنَّة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّا نُقِلَ فِي الْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة , وَإِطْلَاق الْأُمَّة أَسْمَاء كَثِيرَة وَصِفَات عَدِيدَة , قَدْ صَدَقَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَمَّيَاتهَا , وَوُجِدَتْ فِيهِ مَعَانِيهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ فِي أَحْكَامه فِي هَذِهِ الْآيَة مِنْ أَسْمَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَة وَسِتِّينَ اِسْمًا وَذَكَرَ صَاحِب ( وَسِيلَة الْمُتَعَبِّدِينَ إِلَى مُتَابَعَة سَيِّد الْمُرْسَلِينَ ) عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَة وَثَمَانِينَ اِسْمًا , مَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا هُنَاكَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة دَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا , فَبَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَن , وَقَالَ : ( اِذْهَبَا فَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا , وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا فَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ ... ) وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة .
قَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : " شَاهِدًا " عَلَى أُمَّته بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ , وَعَلَى سَائِر الْأُمَم بِتَبْلِيغِ أَنْبِيَائِهِمْ , وَنَحْو ذَلِكَ
مَعْنَاهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةِ اللَّه وَبِالْجَنَّةِ
مَعْنَاهُ لِلْعُصَاةِ وَالْمُكَذِّبِينَ مِنْ النَّار وَعَذَاب الْخُلْد .
قَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : " شَاهِدًا " عَلَى أُمَّته بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ , وَعَلَى سَائِر الْأُمَم بِتَبْلِيغِ أَنْبِيَائِهِمْ , وَنَحْو ذَلِكَ
مَعْنَاهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةِ اللَّه وَبِالْجَنَّةِ
مَعْنَاهُ لِلْعُصَاةِ وَالْمُكَذِّبِينَ مِنْ النَّار وَعَذَاب الْخُلْد .
الدُّعَاء إِلَى اللَّه هُوَ تَبْلِيغ التَّوْحِيد وَالْأَخْذ بِهِ , وَمُكَافَحَة الْكَفَرَة .
هُنَا مَعْنَاهُ : بِأَمْرِهِ إِيَّاكَ , وَتَقْدِيره ذَلِكَ فِي وَقْته وَأَوَانه .
هُنَا اِسْتِعَارَة لِلنُّورِ الَّذِي يَتَضَمَّنهُ شَرْعه . وَقِيلَ : " وَسِرَاجًا " أَيْ هَادِيًا مِنْ ظُلْم الضَّلَالَة , وَأَنْتَ كَالْمِصْبَاحِ الْمُضِيء . وَوَصَفَهُ بِالْإِنَارَةِ لِأَنَّ مِنْ السُّرُج مَا لَا يُضِيء , إِذَا قَلَّ سَلِيطه وَدَقَّتْ فَتِيلَته . وَفِي كَلَام بَعْضهمْ : ثَلَاثَة تُضْنِي : رَسُول بَطِيء , وَسِرَاج لَا يُضِيء , وَمَائِدَة يُنْتَظَر لَهَا مَنْ يَجِيء . وَسُئِلَ بَعْضهمْ عَنْ الْمُوحِشَيْنِ فَقَالَ : ظَلَام سَاتِر وَسِرَاج فَاتِر , وَأَسْنَدَ النَّحَّاس قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الرَّازِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن صَالِح الْأَزْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن , بْن مُحَمَّد الْمُحَارِبِيّ عَنْ شَيْبَان النَّحْوِيّ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّه بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " دَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا فَقَالَ : ( اِنْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا فَإِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ اللَّيْلَة آيَة " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا . وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - مِنْ النَّار - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّه - قَالَ - شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه - بِإِذْنِهِ - بِأَمْرِهِ - وَسِرَاجًا مُنِيرًا - قَالَ - بِالْقُرْآنِ " . وَقَالَ الزَّجَّاج : " وَسِرَاجًا " أَيْ وَذَا سِرَاج مُنِير , أَيْ كِتَاب نَيِّر . وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى : وَتَالِيًا كِتَاب اللَّه .
هُنَا مَعْنَاهُ : بِأَمْرِهِ إِيَّاكَ , وَتَقْدِيره ذَلِكَ فِي وَقْته وَأَوَانه .
هُنَا اِسْتِعَارَة لِلنُّورِ الَّذِي يَتَضَمَّنهُ شَرْعه . وَقِيلَ : " وَسِرَاجًا " أَيْ هَادِيًا مِنْ ظُلْم الضَّلَالَة , وَأَنْتَ كَالْمِصْبَاحِ الْمُضِيء . وَوَصَفَهُ بِالْإِنَارَةِ لِأَنَّ مِنْ السُّرُج مَا لَا يُضِيء , إِذَا قَلَّ سَلِيطه وَدَقَّتْ فَتِيلَته . وَفِي كَلَام بَعْضهمْ : ثَلَاثَة تُضْنِي : رَسُول بَطِيء , وَسِرَاج لَا يُضِيء , وَمَائِدَة يُنْتَظَر لَهَا مَنْ يَجِيء . وَسُئِلَ بَعْضهمْ عَنْ الْمُوحِشَيْنِ فَقَالَ : ظَلَام سَاتِر وَسِرَاج فَاتِر , وَأَسْنَدَ النَّحَّاس قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الرَّازِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن صَالِح الْأَزْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن , بْن مُحَمَّد الْمُحَارِبِيّ عَنْ شَيْبَان النَّحْوِيّ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّه بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " دَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا فَقَالَ : ( اِنْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا فَإِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ اللَّيْلَة آيَة " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا . وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - مِنْ النَّار - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّه - قَالَ - شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه - بِإِذْنِهِ - بِأَمْرِهِ - وَسِرَاجًا مُنِيرًا - قَالَ - بِالْقُرْآنِ " . وَقَالَ الزَّجَّاج : " وَسِرَاجًا " أَيْ وَذَا سِرَاج مُنِير , أَيْ كِتَاب نَيِّر . وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى : وَتَالِيًا كِتَاب اللَّه .
قَوْله تَعَالَى : " وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ " الْوَاو عَاطِفَة جُمْلَة عَلَى جُمْلَة , وَالْمَعْنَى مُنْقَطِع مِنْ الَّذِي قَبْله . أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَضْلِ الْكَبِير مِنْ اللَّه تَعَالَى . وَعَلَى قَوْل الزَّجَّاج : ذَا سِرَاج مُنِير , أَوْ وَتَالِيًا سِرَاجًا مُنِيرًا , يَكُون مَعْطُوفًا عَلَى الْكَاف لَا فِي " أَرْسَلْنَاك " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : قَالَ لَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هَذِهِ مِنْ أَرْجَى آيَة عِنْدِي فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى , لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَ نَبِيّه أَنْ يُبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْده فَضْلًا كَبِيرًا , وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْفَضْل الْكَبِير فِي قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فِي رَوْضَات الْجَنَّات لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْد رَبّهمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْل الْكَبِير " [ الشُّورَى : 22 ] . فَالْآيَة الَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَة خَبَر , وَاَلَّتِي فِي " حم . عسق " تَفْسِير لَهَا
وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ↓
أَيْ لَا تُطِعْهُمْ فِيمَا يُشِيرُونَ عَلَيْك مِنْ الْمُدَاهَنَة فِي الدِّين وَلَا تُمَالِئْهُمْ . " الْكَافِرِينَ " : أَبِي سُفْيَان وَعِكْرِمَة وَأَبِي الْأَعْوَر السُّلَمِيّ , قَالُوا : يَا مُحَمَّد , لَا تَذْكُر آلِهَتنَا بِسُوءٍ نَتَّبِعك . " وَالْمُنَافِقِينَ " : عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَعَبْد اللَّه بْن سَعْد وَطُعْمَة بْن أُبَيْرِق , حَثُّوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِجَابَتهمْ بِتَعِلَّةِ الْمَصْلَحَة .
أَيْ دَعْ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ مُجَازَاة عَلَى إِذَايَتِهِمْ إِيَّاكَ . فَأَمَرَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتَرْكِ مُعَاقَبَتهمْ , وَالصَّفْح عَنْ زَلَلهمْ ; فَالْمَصْدَر عَلَى هَذَا مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول . وَنُسِخَ مِنْ الْآيَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل مَا يَخُصّ الْكَافِرِينَ , وَنَاسِخه آيَة السَّيْف . وَفِيهِ مَعْنًى ثَانٍ : أَيْ أَعْرِضْ عَنْ أَقْوَالهمْ وَمَا يُؤْذُونَك , وَلَا تَشْتَغِل بِهِ , فَالْمَصْدَر عَلَى هَذَا التَّأْوِيل مُضَاف إِلَى الْفَاعِل . وَهَذَا تَأْوِيل مُجَاهِد , وَالْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف .
أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَآنَسَهُ بِقَوْلِهِ " وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا " وَفِي قُوَّة الْكَلَام وَعْد بِنَصْرٍ .
وَالْوَكِيل : الْحَافِظ الْقَاسِم عَلَى الْأَمْر .
أَيْ دَعْ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ مُجَازَاة عَلَى إِذَايَتِهِمْ إِيَّاكَ . فَأَمَرَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتَرْكِ مُعَاقَبَتهمْ , وَالصَّفْح عَنْ زَلَلهمْ ; فَالْمَصْدَر عَلَى هَذَا مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول . وَنُسِخَ مِنْ الْآيَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل مَا يَخُصّ الْكَافِرِينَ , وَنَاسِخه آيَة السَّيْف . وَفِيهِ مَعْنًى ثَانٍ : أَيْ أَعْرِضْ عَنْ أَقْوَالهمْ وَمَا يُؤْذُونَك , وَلَا تَشْتَغِل بِهِ , فَالْمَصْدَر عَلَى هَذَا التَّأْوِيل مُضَاف إِلَى الْفَاعِل . وَهَذَا تَأْوِيل مُجَاهِد , وَالْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف .
أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَآنَسَهُ بِقَوْلِهِ " وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا " وَفِي قُوَّة الْكَلَام وَعْد بِنَصْرٍ .
وَالْوَكِيل : الْحَافِظ الْقَاسِم عَلَى الْأَمْر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ↓
فِيهِ سِتّ مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ " لَمَّا جَرَتْ قِصَّة زَيْد وَتَطْلِيقه زَيْنَب , وَكَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا , وَخَطَبَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد اِنْقِضَاء عِدَّتهَا - كَمَا بَيَّنَّاهُ - خَاطَبَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِحُكْمِ الزَّوْجَة تَطْلُق قَبْل الْبِنَاء , وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْحُكْم لِلْأَمَةِ , فَالْمُطَلَّقَة إِذَا لَمْ تَكُنْ مَمْسُوسَة لَا عِدَّة عَلَيْهَا بِنَصِّ الْكِتَاب وَإِجْمَاع الْأُمَّة عَلَى ذَلِكَ . فَإِنْ دُخِلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّة إِجْمَاعًا .
الثَّانِيَة : النِّكَاح حَقِيقَة فِي الْوَطْء , وَتَسْمِيَة الْعَقْد نِكَاحًا لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ طَرِيق إِلَيْهِ . وَنَظِيره تَسْمِيَتهمْ الْخَمْر إِثْمًا لِأَنَّهُ سَبَب فِي اِقْتِرَاف الْإِثْم . وَلَمْ يَرِد لَفْظ النِّكَاح فِي كِتَاب اللَّه إِلَّا فِي مَعْنَى الْعَقْد , لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَطْء , وَهُوَ مِنْ آدَاب الْقُرْآن , الْكِنَايَة عَنْهُ بِلَفْظِ : الْمُلَامَسَة وَالْمُمَاسَّة وَالْقُرْبَان وَالتَّغَشِّي وَالْإِتْيَان .
الثَّالِثَة : اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ " وَبِمُهْلَةِ " ثُمَّ " عَلَى أَنَّ الطَّلَاق لَا يَكُون إِلَّا بَعْد نِكَاح وَأَنَّ مَنْ طَلَّقَ الْمَرْأَة قَبْل نِكَاحهَا وَإِنْ عَيَّنَهَا , فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمهُ . وَقَالَ هَذَا نَيِّف عَلَى ثَلَاثِينَ مِنْ صَاحِب وَتَابِع وَإِمَام . سَمَّى الْبُخَارِيّ مِنْهُمْ اِثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا طَلَاق قَبْل نِكَاح ) وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الطَّلَاق لَا يَقَع حَتَّى يَحْصُل النِّكَاح . قَالَ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت : سُئِلَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ رَجُل قَالَ لِامْرَأَةٍ : إِنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِق ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِشَيْءٍ , ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ النِّكَاح قَبْل الطَّلَاق . وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : إِنَّ طَلَاق الْمُعَيَّنَة الشَّخْص أَوْ الْقَبِيلَة أَوْ الْبَلَد لَازِم قَبْل النِّكَاح , مِنْهُمْ مَالِك وَجَمِيع أَصْحَابه , وَجَمْع عَظِيم مِنْ عُلَمَاء الْأُمَّة . وَقَدْ مَضَى فِي " التَّوْبَة " الْكَلَام فِيهَا وَدَلِيل الْفَرِيقَيْنِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ . فَإِذَا قَالَ : كُلّ اِمْرَأَة أَتَزَوَّجهَا طَالِق وَكُلّ عَبْد أَشْتَرِيه حُرّ , لَمْ يَلْزَمهُ شَيْء . وَإِنْ قَالَ كُلّ اِمْرَأَة أَتَزَوَّجهَا إِلَى عِشْرِينَ سَنَة , أَوْ إِنْ تَزَوَّجْت مِنْ بَلَد فُلَان أَوْ مِنْ بَنِي فُلَان فَهِيَ طَالِق , لَزِمَهُ الطَّلَاق مَا لَمْ يَخَفْ الْعَنَت عَلَى نَفْسه فِي طُول السِّنِينَ , أَوْ يَكُون عُمُره فِي الْغَالِب لَا يَبْلُغ ذَلِكَ , فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّج . وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمهُ الطَّلَاق إِذَا عَمَّمَ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسه الْمَنَاكِح , فَلَوْ مَنَعْنَاهُ أَلَّا يَتَزَوَّج لَحَرِجَ وَخِيفَ عَلَيْهِ الْعَنَت . وَقَدْ قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : إِنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَا يَتَسَرَّر بِهِ لَمْ يَنْكِح , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورَات وَالْأَعْذَار تَرْفَع الْأَحْكَام , فَيَصِير هَذَا مِنْ حَيْثُ الضَّرُورَة كَمَنْ لَمْ يَحْلِف , قَالَهُ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد .
الرَّابِعَة : اِسْتَدَلَّ دَاوُد - وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ - إِنَّ الْمُطَلَّقَة الرَّجْعِيَّة إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتهَا ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا , أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمّ عِدَّتهَا وَلَا عِدَّة مُسْتَقْبَلَة , لِأَنَّهَا مُطَلَّقَة قَبْل الدُّخُول بِهَا . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَفِرْقَة : تَمْضِي فِي عِدَّتهَا مِنْ طَلَاقهَا الْأَوَّل - وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ , الشَّافِعِيّ - ; لِأَنَّ طَلَاقه لَهَا إِذَا لَمْ يَمَسّهَا فِي حُكْم مَنْ طَلَّقَهَا فِي عِدَّتهَا قَبْل أَنْ يُرَاجِعهَا . وَمَنْ طَلَّقَ , اِمْرَأَته فِي كُلّ طُهْر مَرَّة بَنَتْ وَلَمْ تَسْتَأْنِف . وَقَالَ مَالِك : إِذَا فَارَقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا إِنَّهَا لَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتهَا , وَإِنَّهَا تُنْشِئ مِنْ يَوْم طَلَّقَهَا عِدَّة مُسْتَقْبَلَة . وَقَدْ ظَلَمَ زَوْجهَا نَفْسه وَأَخْطَأَ إِنْ كَانَ اِرْتَجَعَهَا وَلَا حَاجَة لَهُ بِهَا . وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْم , لِأَنَّهَا فِي حُكْم الزَّوْجَات الْمَدْخُول بِهِنَّ فِي النَّفَقَة وَالسُّكْنَى وَغَيْر ذَلِكَ , وَلِذَلِكَ تَسْتَأْنِف الْعِدَّة مِنْ يَوْم طَلُقَتْ , وَهُوَ قَوْل جُمْهُور فُقَهَاء الْبَصْرَة وَالْكُوفَة وَمَكَّة وَالْمَدِينَة وَالشَّام . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : أَجْمَعَ الْفُقَهَاء عِنْدنَا عَلَى ذَلِكَ .
الْخَامِسَة : فَلَوْ كَانَتْ بَائِنَة غَيْر مَبْتُوتَة فَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّة ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول فَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَزُفَر وَعُثْمَان الْبَتِّيّ : لَهَا نِصْف الصَّدَاق وَتُتِمّ بَقِيَّة الْعِدَّة الْأُولَى . وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَابْن شِهَاب . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ , : لَهَا مَهْر كَامِل لِلنِّكَاحِ الثَّانِي وَعِدَّة مُسْتَقْبَلَة . جَعَلُوهَا فِي حُكْم الْمَدْخُول بِهَا لِاعْتِدَادِهَا مِنْ مَائِهِ . وَقَالَ دَاوُد : لَهَا نِصْف الصَّدَاق , وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَقِيَّة الْعِدَّة الْأُولَى وَلَا عِدَّة مُسْتَقْبَلَة . وَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ مَالِك وَالشَّافِعِيّ , وَاَللَّه أَعْلَمُ .
السَّادِسَة : هَذِهِ الْآيَة مُخَصَّصَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " [ الْبَقَرَة : 228 ] , وَلِقَوْلِهِ : " وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيض مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتهنَّ ثَلَاثَة أَشْهُر " [ الطَّلَاق : 4 ] . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " , وَمَضَى فِيهَا الْكَلَام فِي الْمُتْعَة , فَأَغْنَى عَنْ الْإِعَادَة هُنَا . " وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا " فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ دَفْع الْمُتْعَة بِحَسَبِ الْمَيْسَرَة وَالْعُسْرَة , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . الثَّانِي : أَنَّهُ طَلَاقهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْر جِمَاع , قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : فَسَرِّحُوهُنَّ بَعْد الطَّلَاق إِلَى أَهْلهنَّ , فَلَا يَجْتَمِع الرَّجُل وَالْمُطَلَّقَة فِي مَوْضِع وَاحِد .
قَالَ سَعِيد : هِيَ مَنْسُوخَة بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْبَقَرَة , وَهِيَ قَوْله : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ " [ الْبَقَرَة : 237 ] أَيْ فَلَمْ يَذْكُر الْمُتْعَة .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَجَابِر بْن زَيْد وَالْحَسَن وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَعَطَاء وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي : الْمُتْعَة وَاجِبَة لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْل الْبِنَاء وَالْفَرْض , وَمَنْدُوبَة فِي حَقّ غَيْرهَا . وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : الْمُتْعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا فِي كُلّ مُطَلَّقَة وَإِنْ دُخِلَ بِهَا , إِلَّا فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا وَقَدْ فُرِضَ لَهَا فَحَسْبهَا مَا فُرِضَ لَهَا وَلَا مُتْعَة لَهَا . قَالَ أَبُو ثَوْر : لَهَا الْمُتْعَة وَلِكُلِّ مُطَلَّقَة . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَض لَهَا وَلَمْ يُدْخَل بِهَا لَا شَيْء لَهَا غَيْر الْمُتْعَة . قَالَ الزُّهْرِيّ : يَقْضِي لَهَا بِهَا الْقَاضِي . وَقَالَ جُمْهُور النَّاس : لَا يَقْضِي بِهَا لَهَا .
قُلْت : هَذَا الْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُرَّة , فَأَمَّا الْأَمَة إِذَا طَلُقَتْ قَبْل الْفَرْض وَالْمَسِيس فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ لَهَا الْمُتْعَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ : لَا مُتْعَة لَهَا لِأَنَّهَا تَكُون لِسَيِّدِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَحِقّ مَالًا فِي مُقَابَلَة تَأَذِّي مَمْلُوكَته بِالطَّلَاقِ . وَأَمَّا رَبْط مَذْهَب مَالِك فَقَالَ اِبْن شَعْبَان : الْمُتْعَة بِإِزَاءِ غَمّ الطَّلَاق , وَلِذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَة وَالْمُلَاعَنَة مُتْعَة قَبْل الْبِنَاء وَلَا بَعْده ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اِخْتَارَتْ الطَّلَاق . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ : لِلْمُخْتَلِعَةِ مُتْعَة . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : لِلْمُلَاعَنَةِ مُتْعَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَلَا مُتْعَة فِي نِكَاح مَفْسُوخ . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَلَا فِيمَا يَدْخُلهُ الْفَسْخ بَعْد صِحَّة الْعَقْد ; مِثْل مِلْك أَحَد الزَّوْجَيْنِ صَاحِبه . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَأَصْل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ " فَكَانَ هَذَا الْحُكْم مُخْتَصًّا بِالطَّلَاقِ دُون الْفَسْخ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ الْمُخَيَّرَة لَهَا الْمُتْعَة بِخِلَافِ الْأَمَة تَعْتِق تَحْت الْعَبْد فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا , فَهَذِهِ لَا مُتْعَة لَهَا . وَأَمَّا الْحُرَّة تُخَيَّر أَوْ تُمْلَك أَوْ يُتَزَوَّج عَلَيْهَا أَمَة فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا فِي ذَلِكَ كُلّه فَلَهَا الْمُتْعَة ; لِأَنَّ الزَّوْج سَبَب لِلْفِرَاقِ .
قَالَ مَالِك : لَيْسَ لِلْمُتْعَةِ عِنْدنَا حَدّ مَعْرُوف فِي قَلِيلهَا وَلَا كَثِيرهَا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذَا ; فَقَالَ اِبْن عُمَر : أَدْنَى مَا يُجْزِئ فِي الْمُتْعَة ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا أَوْ شِبْههَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرْفَعُ الْمُتْعَة خَادِم ثُمَّ كِسْوَة ثُمَّ نَفَقَة . عَطَاء : أَوْسَطُهَا الدِّرْع وَالْخِمَار وَالْمِلْحَفَة . أَبُو حَنِيفَة : ذَلِكَ أَدْنَاهَا . وَقَالَ اِبْن مُحَيْرِيز : عَلَى صَاحِب الدِّيوَان ثَلَاثَة دَنَانِير , وَعَلَى عَبْد الْمُتْعَة . وَقَالَ الْحَسَن : يُمَتِّع كُلّ بِقَدَرِهِ , هَذَا بِخَادِمٍ وَهَذَا بِأَثْوَابٍ وَهَذَا بِثَوْبٍ وَهَذَا بِنَفَقَةٍ ; وَكَذَلِكَ يَقُول مَالِك بْن أَنَس , وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآن فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يُقَدِّرهَا وَلَا حَدَّدَهَا وَإِنَّمَا قَالَ : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " . وَمَتَّعَ الْحَسَن بْن عَلِيّ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزِقَاق مِنْ عَسَل . وَمَتَّعَ شُرَيْح بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَم . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ حَالَة الْمَرْأَة مُعْتَبَرَة أَيْضًا ; قَالَهُ بَعْض الشَّافِعِيَّة , قَالُوا : لَوْ اِعْتَبَرْنَا حَال الرَّجُل وَحْده لَزِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ اِمْرَأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا شَرِيفَة وَالْأُخْرَى دَنِيَّة ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْل الْمَسِيس وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَة فَيَجِب لِلدَّنِيَّةِ مَا يَجِب لِلشَّرِيفَةِ وَهَذَا خِلَاف مَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ " وَيَلْزَم مِنْهُ أَنَّ الْمُوسِر الْعَظِيم الْيَسَار إِذَا تَزَوَّجَ اِمْرَأَة دَنِيَّة أَنْ يَكُون مِثْلهَا ; لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض لَزِمَتْهُ الْمُتْعَة عَلَى قَدْر حَال وَمَهْر مِثْلهَا ; فَتَكُون الْمُتْعَة عَلَى هَذَا أَضْعَاف مَهْر مِثْلهَا ; فَتَكُون قَدْ اِسْتَحَقَّتْ قَبْل الدُّخُول أَضْعَاف مَا تَسْتَحِقّهُ بَعْد الدُّخُول مِنْ مَهْر الْمِثْل الَّذِي فِيهِ غَايَة الِابْتِذَال وَهُوَ الْوَطْء . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَغَيْرهمْ : مُتْعَة الَّتِي تَطْلُق قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض نِصْف مَهْر مِثْلهَا لَا غَيْر ; لِأَنَّ مَهْر الْمِثْل مُسْتَحَقّ بِالْعَقْدِ , وَالْمُتْعَة هِيَ بَعْض مَهْر الْمِثْل ; فَيَجِب لَهَا كَمَا يَجِب نِصْف الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول , وَهَذَا يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " وَهَذَا دَلِيل عَلَى رَفْض التَّحْدِيد ; وَاَللَّه بِحَقَائِق الْأُمُور عَلِيم .
مَنْ جَهِلَ الْمُتْعَة حَتَّى مَضَتْ أَعْوَام فَلْيَدْفَعْ ذَلِكَ إِلَيْهَا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ , وَإِلَى وَرَثَتهَا إِنْ مَاتَتْ , رَوَاهُ اِبْن الْمَوَّاز عَنْ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ أَصْبَغ : لَا شَيْء عَلَيْهِ إِنْ مَاتَتْ لِأَنَّهَا تَسْلِيَة لِلزَّوْجَةِ عَنْ الطَّلَاق وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ . وَوَجْه الْأَوَّل أَنَّهُ حَقّ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَيَنْتَقِل عَنْهَا إِلَى وَرَثَتهَا كَسَائِرِ الْحُقُوق , وَهَذَا يُشْعِر بِوُجُوبِهَا فِي الْمَذْهَب , وَاَللَّه أَعْلَمُ .
طَلِّقُوهُنَّ . وَالتَّسْرِيح كِنَايَة عَنْ الطَّلَاق عِنْد أَبِي حَنِيفَة , لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَل فِي غَيْره فَيَحْتَاج إِلَى النِّيَّة . وَعِنْد الشَّافِعِيّ صَرِيح . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .
" جَمِيلًا " سُنَّة , غَيْر بِدْعَة .
الثَّانِيَة : النِّكَاح حَقِيقَة فِي الْوَطْء , وَتَسْمِيَة الْعَقْد نِكَاحًا لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ طَرِيق إِلَيْهِ . وَنَظِيره تَسْمِيَتهمْ الْخَمْر إِثْمًا لِأَنَّهُ سَبَب فِي اِقْتِرَاف الْإِثْم . وَلَمْ يَرِد لَفْظ النِّكَاح فِي كِتَاب اللَّه إِلَّا فِي مَعْنَى الْعَقْد , لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَطْء , وَهُوَ مِنْ آدَاب الْقُرْآن , الْكِنَايَة عَنْهُ بِلَفْظِ : الْمُلَامَسَة وَالْمُمَاسَّة وَالْقُرْبَان وَالتَّغَشِّي وَالْإِتْيَان .
الثَّالِثَة : اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ " وَبِمُهْلَةِ " ثُمَّ " عَلَى أَنَّ الطَّلَاق لَا يَكُون إِلَّا بَعْد نِكَاح وَأَنَّ مَنْ طَلَّقَ الْمَرْأَة قَبْل نِكَاحهَا وَإِنْ عَيَّنَهَا , فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمهُ . وَقَالَ هَذَا نَيِّف عَلَى ثَلَاثِينَ مِنْ صَاحِب وَتَابِع وَإِمَام . سَمَّى الْبُخَارِيّ مِنْهُمْ اِثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا طَلَاق قَبْل نِكَاح ) وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الطَّلَاق لَا يَقَع حَتَّى يَحْصُل النِّكَاح . قَالَ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت : سُئِلَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ رَجُل قَالَ لِامْرَأَةٍ : إِنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِق ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِشَيْءٍ , ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ النِّكَاح قَبْل الطَّلَاق . وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : إِنَّ طَلَاق الْمُعَيَّنَة الشَّخْص أَوْ الْقَبِيلَة أَوْ الْبَلَد لَازِم قَبْل النِّكَاح , مِنْهُمْ مَالِك وَجَمِيع أَصْحَابه , وَجَمْع عَظِيم مِنْ عُلَمَاء الْأُمَّة . وَقَدْ مَضَى فِي " التَّوْبَة " الْكَلَام فِيهَا وَدَلِيل الْفَرِيقَيْنِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ . فَإِذَا قَالَ : كُلّ اِمْرَأَة أَتَزَوَّجهَا طَالِق وَكُلّ عَبْد أَشْتَرِيه حُرّ , لَمْ يَلْزَمهُ شَيْء . وَإِنْ قَالَ كُلّ اِمْرَأَة أَتَزَوَّجهَا إِلَى عِشْرِينَ سَنَة , أَوْ إِنْ تَزَوَّجْت مِنْ بَلَد فُلَان أَوْ مِنْ بَنِي فُلَان فَهِيَ طَالِق , لَزِمَهُ الطَّلَاق مَا لَمْ يَخَفْ الْعَنَت عَلَى نَفْسه فِي طُول السِّنِينَ , أَوْ يَكُون عُمُره فِي الْغَالِب لَا يَبْلُغ ذَلِكَ , فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّج . وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمهُ الطَّلَاق إِذَا عَمَّمَ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسه الْمَنَاكِح , فَلَوْ مَنَعْنَاهُ أَلَّا يَتَزَوَّج لَحَرِجَ وَخِيفَ عَلَيْهِ الْعَنَت . وَقَدْ قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : إِنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَا يَتَسَرَّر بِهِ لَمْ يَنْكِح , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورَات وَالْأَعْذَار تَرْفَع الْأَحْكَام , فَيَصِير هَذَا مِنْ حَيْثُ الضَّرُورَة كَمَنْ لَمْ يَحْلِف , قَالَهُ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد .
الرَّابِعَة : اِسْتَدَلَّ دَاوُد - وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ - إِنَّ الْمُطَلَّقَة الرَّجْعِيَّة إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتهَا ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا , أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمّ عِدَّتهَا وَلَا عِدَّة مُسْتَقْبَلَة , لِأَنَّهَا مُطَلَّقَة قَبْل الدُّخُول بِهَا . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَفِرْقَة : تَمْضِي فِي عِدَّتهَا مِنْ طَلَاقهَا الْأَوَّل - وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ , الشَّافِعِيّ - ; لِأَنَّ طَلَاقه لَهَا إِذَا لَمْ يَمَسّهَا فِي حُكْم مَنْ طَلَّقَهَا فِي عِدَّتهَا قَبْل أَنْ يُرَاجِعهَا . وَمَنْ طَلَّقَ , اِمْرَأَته فِي كُلّ طُهْر مَرَّة بَنَتْ وَلَمْ تَسْتَأْنِف . وَقَالَ مَالِك : إِذَا فَارَقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا إِنَّهَا لَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتهَا , وَإِنَّهَا تُنْشِئ مِنْ يَوْم طَلَّقَهَا عِدَّة مُسْتَقْبَلَة . وَقَدْ ظَلَمَ زَوْجهَا نَفْسه وَأَخْطَأَ إِنْ كَانَ اِرْتَجَعَهَا وَلَا حَاجَة لَهُ بِهَا . وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْم , لِأَنَّهَا فِي حُكْم الزَّوْجَات الْمَدْخُول بِهِنَّ فِي النَّفَقَة وَالسُّكْنَى وَغَيْر ذَلِكَ , وَلِذَلِكَ تَسْتَأْنِف الْعِدَّة مِنْ يَوْم طَلُقَتْ , وَهُوَ قَوْل جُمْهُور فُقَهَاء الْبَصْرَة وَالْكُوفَة وَمَكَّة وَالْمَدِينَة وَالشَّام . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : أَجْمَعَ الْفُقَهَاء عِنْدنَا عَلَى ذَلِكَ .
الْخَامِسَة : فَلَوْ كَانَتْ بَائِنَة غَيْر مَبْتُوتَة فَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّة ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول فَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَزُفَر وَعُثْمَان الْبَتِّيّ : لَهَا نِصْف الصَّدَاق وَتُتِمّ بَقِيَّة الْعِدَّة الْأُولَى . وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَابْن شِهَاب . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ , : لَهَا مَهْر كَامِل لِلنِّكَاحِ الثَّانِي وَعِدَّة مُسْتَقْبَلَة . جَعَلُوهَا فِي حُكْم الْمَدْخُول بِهَا لِاعْتِدَادِهَا مِنْ مَائِهِ . وَقَالَ دَاوُد : لَهَا نِصْف الصَّدَاق , وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَقِيَّة الْعِدَّة الْأُولَى وَلَا عِدَّة مُسْتَقْبَلَة . وَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ مَالِك وَالشَّافِعِيّ , وَاَللَّه أَعْلَمُ .
السَّادِسَة : هَذِهِ الْآيَة مُخَصَّصَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " [ الْبَقَرَة : 228 ] , وَلِقَوْلِهِ : " وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيض مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتهنَّ ثَلَاثَة أَشْهُر " [ الطَّلَاق : 4 ] . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " , وَمَضَى فِيهَا الْكَلَام فِي الْمُتْعَة , فَأَغْنَى عَنْ الْإِعَادَة هُنَا . " وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا " فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ دَفْع الْمُتْعَة بِحَسَبِ الْمَيْسَرَة وَالْعُسْرَة , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . الثَّانِي : أَنَّهُ طَلَاقهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْر جِمَاع , قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : فَسَرِّحُوهُنَّ بَعْد الطَّلَاق إِلَى أَهْلهنَّ , فَلَا يَجْتَمِع الرَّجُل وَالْمُطَلَّقَة فِي مَوْضِع وَاحِد .
قَالَ سَعِيد : هِيَ مَنْسُوخَة بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْبَقَرَة , وَهِيَ قَوْله : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ " [ الْبَقَرَة : 237 ] أَيْ فَلَمْ يَذْكُر الْمُتْعَة .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَجَابِر بْن زَيْد وَالْحَسَن وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَعَطَاء وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي : الْمُتْعَة وَاجِبَة لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْل الْبِنَاء وَالْفَرْض , وَمَنْدُوبَة فِي حَقّ غَيْرهَا . وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : الْمُتْعَة مَنْدُوب إِلَيْهَا فِي كُلّ مُطَلَّقَة وَإِنْ دُخِلَ بِهَا , إِلَّا فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَل بِهَا وَقَدْ فُرِضَ لَهَا فَحَسْبهَا مَا فُرِضَ لَهَا وَلَا مُتْعَة لَهَا . قَالَ أَبُو ثَوْر : لَهَا الْمُتْعَة وَلِكُلِّ مُطَلَّقَة . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَض لَهَا وَلَمْ يُدْخَل بِهَا لَا شَيْء لَهَا غَيْر الْمُتْعَة . قَالَ الزُّهْرِيّ : يَقْضِي لَهَا بِهَا الْقَاضِي . وَقَالَ جُمْهُور النَّاس : لَا يَقْضِي بِهَا لَهَا .
قُلْت : هَذَا الْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُرَّة , فَأَمَّا الْأَمَة إِذَا طَلُقَتْ قَبْل الْفَرْض وَالْمَسِيس فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ لَهَا الْمُتْعَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ : لَا مُتْعَة لَهَا لِأَنَّهَا تَكُون لِسَيِّدِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَحِقّ مَالًا فِي مُقَابَلَة تَأَذِّي مَمْلُوكَته بِالطَّلَاقِ . وَأَمَّا رَبْط مَذْهَب مَالِك فَقَالَ اِبْن شَعْبَان : الْمُتْعَة بِإِزَاءِ غَمّ الطَّلَاق , وَلِذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَة وَالْمُلَاعَنَة مُتْعَة قَبْل الْبِنَاء وَلَا بَعْده ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اِخْتَارَتْ الطَّلَاق . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ : لِلْمُخْتَلِعَةِ مُتْعَة . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : لِلْمُلَاعَنَةِ مُتْعَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَلَا مُتْعَة فِي نِكَاح مَفْسُوخ . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : وَلَا فِيمَا يَدْخُلهُ الْفَسْخ بَعْد صِحَّة الْعَقْد ; مِثْل مِلْك أَحَد الزَّوْجَيْنِ صَاحِبه . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَأَصْل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ " فَكَانَ هَذَا الْحُكْم مُخْتَصًّا بِالطَّلَاقِ دُون الْفَسْخ . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ الْمُخَيَّرَة لَهَا الْمُتْعَة بِخِلَافِ الْأَمَة تَعْتِق تَحْت الْعَبْد فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا , فَهَذِهِ لَا مُتْعَة لَهَا . وَأَمَّا الْحُرَّة تُخَيَّر أَوْ تُمْلَك أَوْ يُتَزَوَّج عَلَيْهَا أَمَة فَتَخْتَار هِيَ نَفْسهَا فِي ذَلِكَ كُلّه فَلَهَا الْمُتْعَة ; لِأَنَّ الزَّوْج سَبَب لِلْفِرَاقِ .
قَالَ مَالِك : لَيْسَ لِلْمُتْعَةِ عِنْدنَا حَدّ مَعْرُوف فِي قَلِيلهَا وَلَا كَثِيرهَا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذَا ; فَقَالَ اِبْن عُمَر : أَدْنَى مَا يُجْزِئ فِي الْمُتْعَة ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا أَوْ شِبْههَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرْفَعُ الْمُتْعَة خَادِم ثُمَّ كِسْوَة ثُمَّ نَفَقَة . عَطَاء : أَوْسَطُهَا الدِّرْع وَالْخِمَار وَالْمِلْحَفَة . أَبُو حَنِيفَة : ذَلِكَ أَدْنَاهَا . وَقَالَ اِبْن مُحَيْرِيز : عَلَى صَاحِب الدِّيوَان ثَلَاثَة دَنَانِير , وَعَلَى عَبْد الْمُتْعَة . وَقَالَ الْحَسَن : يُمَتِّع كُلّ بِقَدَرِهِ , هَذَا بِخَادِمٍ وَهَذَا بِأَثْوَابٍ وَهَذَا بِثَوْبٍ وَهَذَا بِنَفَقَةٍ ; وَكَذَلِكَ يَقُول مَالِك بْن أَنَس , وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآن فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يُقَدِّرهَا وَلَا حَدَّدَهَا وَإِنَّمَا قَالَ : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " . وَمَتَّعَ الْحَسَن بْن عَلِيّ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزِقَاق مِنْ عَسَل . وَمَتَّعَ شُرَيْح بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَم . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ حَالَة الْمَرْأَة مُعْتَبَرَة أَيْضًا ; قَالَهُ بَعْض الشَّافِعِيَّة , قَالُوا : لَوْ اِعْتَبَرْنَا حَال الرَّجُل وَحْده لَزِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ اِمْرَأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا شَرِيفَة وَالْأُخْرَى دَنِيَّة ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْل الْمَسِيس وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَة فَيَجِب لِلدَّنِيَّةِ مَا يَجِب لِلشَّرِيفَةِ وَهَذَا خِلَاف مَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ " وَيَلْزَم مِنْهُ أَنَّ الْمُوسِر الْعَظِيم الْيَسَار إِذَا تَزَوَّجَ اِمْرَأَة دَنِيَّة أَنْ يَكُون مِثْلهَا ; لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض لَزِمَتْهُ الْمُتْعَة عَلَى قَدْر حَال وَمَهْر مِثْلهَا ; فَتَكُون الْمُتْعَة عَلَى هَذَا أَضْعَاف مَهْر مِثْلهَا ; فَتَكُون قَدْ اِسْتَحَقَّتْ قَبْل الدُّخُول أَضْعَاف مَا تَسْتَحِقّهُ بَعْد الدُّخُول مِنْ مَهْر الْمِثْل الَّذِي فِيهِ غَايَة الِابْتِذَال وَهُوَ الْوَطْء . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَغَيْرهمْ : مُتْعَة الَّتِي تَطْلُق قَبْل الدُّخُول وَالْفَرْض نِصْف مَهْر مِثْلهَا لَا غَيْر ; لِأَنَّ مَهْر الْمِثْل مُسْتَحَقّ بِالْعَقْدِ , وَالْمُتْعَة هِيَ بَعْض مَهْر الْمِثْل ; فَيَجِب لَهَا كَمَا يَجِب نِصْف الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول , وَهَذَا يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره " وَهَذَا دَلِيل عَلَى رَفْض التَّحْدِيد ; وَاَللَّه بِحَقَائِق الْأُمُور عَلِيم .
مَنْ جَهِلَ الْمُتْعَة حَتَّى مَضَتْ أَعْوَام فَلْيَدْفَعْ ذَلِكَ إِلَيْهَا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ , وَإِلَى وَرَثَتهَا إِنْ مَاتَتْ , رَوَاهُ اِبْن الْمَوَّاز عَنْ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ أَصْبَغ : لَا شَيْء عَلَيْهِ إِنْ مَاتَتْ لِأَنَّهَا تَسْلِيَة لِلزَّوْجَةِ عَنْ الطَّلَاق وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ . وَوَجْه الْأَوَّل أَنَّهُ حَقّ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَيَنْتَقِل عَنْهَا إِلَى وَرَثَتهَا كَسَائِرِ الْحُقُوق , وَهَذَا يُشْعِر بِوُجُوبِهَا فِي الْمَذْهَب , وَاَللَّه أَعْلَمُ .
طَلِّقُوهُنَّ . وَالتَّسْرِيح كِنَايَة عَنْ الطَّلَاق عِنْد أَبِي حَنِيفَة , لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَل فِي غَيْره فَيَحْتَاج إِلَى النِّيَّة . وَعِنْد الشَّافِعِيّ صَرِيح . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .
" جَمِيلًا " سُنَّة , غَيْر بِدْعَة .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّلاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ الَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ↓
رَوَى السُّدِّيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أُمّ هَانِئ بِنْت أَبِي طَالِب قَالَتْ : خَطَبَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَذَرْت إِلَيْهِ فَعَذَرَنِي , ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورهنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينك مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْك وَبَنَات عَمّك وَبَنَات عَمَّاتك وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك " قَالَتْ : فَلَمْ أَكُنْ أَحِلّ لَهُ ; لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِر , كُنْت مِنْ الطُّلَقَاء . خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ ضَعِيف جِدًّا وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيث مِنْ طَرِيق صَحِيح يُحْتَجّ بِهَا .
لَمَّا خَيَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ , حُرِّمَ عَلَيْهِ التَّزَوُّج بِغَيْرِهِنَّ وَالِاسْتِبْدَال بِهِنَّ , مُكَافَأَة لَهُنَّ عَلَى فِعْلهنَّ . وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " الْآيَة . وَهَلْ كَانَ يَحِلّ لَهُ أَنْ يُطَلِّق وَاحِدَة مِنْهُنَّ بَعْد ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ : لَا يَحِلّ لَهُ ذَلِكَ عَزَاء لَهُنَّ عَلَى اِخْتِيَارهنَّ لَهُ . وَقِيلَ : كَانَ يَحِلّ لَهُ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ النِّسَاء وَلَكِنْ لَا يَتَزَوَّج بَدَلهَا . ثُمَّ نُسِخَ هَذَا التَّحْرِيم فَأَبَاحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج بِمَنْ شَاءَ عَلَيْهِنَّ مِنْ النِّسَاء , وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْل تَعَالَى : " إِنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك " وَالْإِحْلَال يَقْتَضِي تَقَدُّم حَظْر . وَزَوْجَاته اللَّاتِي فِي حَيَاته لَمْ يَكُنَّ مُحَرَّمَات عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا كَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِ التَّزْوِيج بِالْأَجْنَبِيَّاتِ فَانْصَرَفَ الْإِحْلَال إِلَيْهِنَّ , وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي سِيَاق الْآيَة " وَبَنَات عَمّك وَبَنَات عَمَّاتك " الْآيَة . وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْته أَحَد مِنْ بَنَات عَمّه وَلَا مِنْ بَنَات عَمَّاته وَلَا مِنْ بَنَات خَاله وَلَا مِنْ بَنَات خَالَاته , فَثَبَتَ أَنَّهُ أُحِلَّ لَهُ التَّزْوِيج بِهَذَا اِبْتِدَاء . وَهَذِهِ الْآيَة وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَة فِي التِّلَاوَة فَهِيَ مُتَأَخِّرَة النُّزُول عَلَى الْآيَة الْمَنْسُوخَة بِهَا , كَآيَتَيْ الْوَفَاة فِي " الْبَقَرَة " .
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " إِنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك " فَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج كُلّ اِمْرَأَة يُؤْتِيهَا مَهْرهَا , قَالَ اِبْن زَيْد وَالضَّحَّاك . فَعَلَى هَذَا تَكُون الْآيَة مُبِيحَة جَمِيع النِّسَاء حَاشَا ذَوَات الْمَحَارِم . وَقِيلَ : الْمُرَاد أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك , أَيْ الْكَائِنَات عِنْدك , لِأَنَّهُنَّ قَدْ اِخْتَرْنَك عَلَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , قَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء . وَهُوَ الظَّاهِر , لِأَنَّ قَوْله : " آتَيْت أُجُورهنَّ " مَاضٍ , وَلَا يَكُون الْفِعْل الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَال إِلَّا بِشُرُوطٍ . وَيَجِيءُ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل ضَيِّقًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل مَا قَالَهُ اِبْن عَبَّاس : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّج فِي أَيّ النَّاس شَاءَ , وَكَانَ يَشُقّ ذَلِكَ عَلَى نِسَائِهِ , فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَحُرِّمَ عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاء إِلَّا مَنْ سُمِّيَ , سُرَّ نِسَاؤُهُ بِذَلِكَ .
قُلْت : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى صِحَّته مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ عَطَاء قَالَ : قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : مَا مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّه تَعَالَى لَهُ النِّسَاء . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح .
أَحَلَّ اللَّه تَعَالَى السَّرَارِيّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ مُطْلَقًا , وَأَحَلَّ الْأَزْوَاج لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُطْلَقًا , وَأَحَلَّهُ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ .
أَيْ رَدَّهُ عَلَيْك مِنْ الْكُفَّار . وَالْغَنِيمَة قَدْ تُسَمَّى فَيْئًا , أَيْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْك مِنْ النِّسَاء بِالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْه الْقَهْر وَالْغَلَبَة .
أَيْ أَحْلَلْنَا لَك ذَلِكَ زَائِدًا مِنْ الْأَزْوَاج اللَّاتِي آتَيْت أُجُورهنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينك , عَلَى قَوْل الْجُمْهُور , لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحْلَلْنَا لَك كُلّ اِمْرَأَة تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرهَا , لَمَا قَالَ بَعْد ذَلِكَ : " وَبَنَات عَمّك وَبَنَات عَمَّاتك " لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِل فِيمَا تَقَدَّمَ .
قُلْت : وَهَذَا لَا يَلْزَم , وَإِنَّمَا خُصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
ذَكَرَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَمّ فَرْدًا وَالْعَمَّات جَمْعًا . وَكَذَلِكَ قَالَ : " خَالك " , " وَخَالَاتك " وَالْحِكْمَة فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْعَمّ وَالْخَال فِي الْإِطْلَاق اِسْم جِنْس كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِز , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَمَّة وَالْخَالَة . وَهَذَا عُرْف لُغَوِيّ , فَجَاءَ الْكَلَام عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَان لِرَفْعِ الْإِشْكَال , وَهَذَا دَقِيق فَتَأَمَّلُوهُ , قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ .
فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّل : لَا يَحِلّ لَك مِنْ قَرَابَتك كَبَنَاتِ عَمّك الْعَبَّاس وَغَيْره مِنْ أَوْلَاد عَبْد الْمُطَّلِب , وَبَنَات أَوْلَاد بَنَات عَبْد الْمُطَّلِب , وَبَنَات الْخَال مِنْ وَلَد بَنَات عَبْد مَنَاف بْن زُهْرَة إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْلِم مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانه وَيَده وَالْمُهَاجِر مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ ) . الثَّانِي : لَا يَحِلّ لَك مِنْهُنَّ إِلَّا مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة , لِقَوْلِهِ تَعَالَى . " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتهمْ مِنْ شَيْء حَتَّى يُهَاجِرُوا " وَمَنْ لَمْ يُهَاجِر لَمْ يَكْمُل , وَمَنْ لَمْ يَكْمُل لَمْ يَصْلُح لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ , صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْله تَعَالَى " مَعَك " الْمَعِيَّة هُنَا الِاشْتِرَاك فِي الْهِجْرَة لَا فِي الصُّحْبَة فِيهَا , فَمَنْ هَاجَرَ حَلَّ لَهُ , كَانَ فِي صُحْبَته إِذْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . يُقَال : دَخَلَ فُلَان مَعِي وَخَرَجَ مَعِي , أَيْ كَانَ عَمَله كَعَمَلِي وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِن فِيهِ عَمَلكُمَا . وَلَوْ قُلْت : خَرَجْنَا مَعًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا : الِاشْتِرَاك فِي الْفِعْل , وَالِاقْتِرَان فِيهِ .
عَطْف عَلَى " أَحْلَلْنَا " الْمَعْنَى وَأَحْلَلْنَا كُلّ اِمْرَأَة تَهَب نَفْسهَا مِنْ غَيْر صَدَاق . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى , فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : لَمْ تَكُنْ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة إِلَّا بِعَقْدِ نِكَاح أَوْ مِلْك يَمِين . فَأَمَّا الْهِبَة فَلَمْ يَكُنْ عِنْده مِنْهُنَّ أَحَد . وَقَالَ قَوْم : كَانَتْ عِنْده مَوْهُوبَة .
قُلْت : وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْل وَيَعْضُدهُ , رَوَى مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَغَار عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسهنَّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُول : أَمَا تَسْتَحِي اِمْرَأَة تَهَب نَفْسهَا لِرَجُلٍ ! حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء " [ الْأَحْزَاب : 51 ] فَقُلْت : وَاَللَّه مَا أَرَى رَبّك إِلَّا يُسَارِع فِي هَوَاك . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَتْ خَوْلَة بِنْت حَكِيم مِنْ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسهنَّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ غَيْر وَاحِدَة . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ . الزَّمَخْشَرِيّ : وَقِيلَ الْمُوهِبَات أَرْبَع : مَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث , وَزَيْنَب بِنْت خُزَيْمَة أُمّ الْمَسَاكِين الْأَنْصَارِيَّة , وَأُمّ شَرِيك بِنْت جَابِر , وَخَوْلَة بِنْت حَكِيم .
قُلْت : وَفِي بَعْض هَذَا اِخْتِلَاف . قَالَ قَتَادَة : هِيَ مَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : هِيَ زَيْنَب بِنْت خُزَيْمَة أُمّ الْمَسَاكِين اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار . وَقَالَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل : هِيَ أُمّ شَرِيك بِنْت جَابِر الْأَسَدِيَّة . وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : أُمّ حَكِيم بِنْت الْأَوْقَص السَّلَمِيَّة .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي اِسْم الْوَاهِبَة نَفْسهَا , فَقِيلَ هِيَ أُمّ شُرَيْح الْأَنْصَارِيَّة , اِسْمهَا غُزَيَّة . وَقِيلَ غُزَيْلَة . وَقِيلَ لَيْلَى بِنْت حَكِيم . وَقِيلَ : هِيَ مَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث حِين خَطَبَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَاءَهَا الْخَاطِب وَهِيَ عَلَى بَعِيرهَا فَقَالَتْ : الْبَعِير وَمَا عَلَيْهِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : هِيَ أُمّ شَرِيك الْعَامِرِيَّة , وَكَانَتْ عِنْد أَبِي الْعُكْر الْأَزْدِيّ . وَقِيلَ عِنْد الطُّفَيْل بْن الْحَارِث فَوَلَدَتْ لَهُ شَرِيكًا . وَقِيلَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا , وَلَمْ يَثْبُت ذَلِكَ . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ , ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ . وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَعُرْوَة : وَهِيَ زَيْنَب بِنْت خُزَيْمَة أُمّ الْمَسَاكِين . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَرَأَ جُمْهُور النَّاس " إِنْ وَهَبَتْ " بِكَسْرِ الْأَلِف , وَهَذَا يَقْتَضِي اِسْتِئْنَاف الْأَمْر , أَيْ إِنْ وَقَعَ فَهُوَ حَلَال لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد أَنَّهُمَا قَالَا : لَمْ يَكُنْ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة مَوْهُوبَة , وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى خِلَافه . وَرَوَى الْأَئِمَّة مِنْ طَرِيق سَهْل وَغَيْره فِي الصِّحَاح : أَنَّ اِمْرَأَة قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جِئْت أَهَب لَك نَفْسِي , فَسَكَتَ حَتَّى قَامَ رَجُل فَقَالَ : زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَة . فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْهِبَة غَيْر جَائِزَة لَمَا سَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَقِرّ عَلَى الْبَاطِل إِذَا سَمِعَهُ , غَيْر أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون سُكُوته مُنْتَظِرًا بَيَانًا , فَنَزَلَتْ الْآيَة بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّخْيِير , فَاخْتَارَ تَرْكهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْره . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَكَتَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى قَامَ الرَّجُل لَهَا طَالِبًا . وَقَرَأَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأُبَيّ بْن كَعْب وَالشَّعْبِيّ " أَنْ " بِفَتْحِ الْأَلِف . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَامْرَأَة مُؤْمِنَة وَهَبَتْ " . قَالَ النَّحَّاس : وَكَسْر " إِنْ " أَجْمَعُ لِلْمَعَانِي , لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّهُنَّ نِسَاء . وَإِذَا فُتِحَ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى وَاحِدَة بِعَيْنِهَا , لِأَنَّ الْفَتْح عَلَى الْبَدَل مِنْ اِمْرَأَة , أَوْ بِمَعْنَى لِأَنَّ .
قَوْله تَعَالَى : " مُؤْمِنَة " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَة لَا تَحِلّ لَهُ . قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ : وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيم الْحُرَّة الْكَافِرَة عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح عِنْدِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ . وَبِهَذَا يَتَمَيَّز عَلَيْنَا , فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ جَانِب الْفَضَائِل وَالْكَرَامَة فَحَظّه فِيهِ أَكْثَرُ , وَمَا كَانَ جَانِب النَّقَائِص فَجَانِبه عَنْهَا أَطْهَرُ ; فَجُوِّزَ لَنَا نِكَاح الْحَرَائِر الْكِتَابِيَّات , وَقُصِرَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَلَالَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنَات . وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلّ لَهُ مَنْ لَمْ تُهَاجِر لِنُقْصَانِ فَضْل الْهِجْرَة فَأَحْرَى أَلَّا تَحِلّ لَهُ الْكَافِرَة الْكِتَابِيَّة لِنُقْصَانِ الْكُفْر .
" إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا " دَلِيل عَلَى أَنَّ النِّكَاح عَقْد مُعَاوَضَة عَلَى صِفَات مَخْصُوصَة , قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي " النِّسَاء " وَغَيْرهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَى " إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ " حَلَّتْ . وَقَرَأَ الْحَسَن : " أَنْ وَهَبَتْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب . قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ لِأَنْ . وَقَالَ غَيْره : " أَنْ وَهَبَتْ " بَدَل اِشْتِمَال مِنْ " اِمْرَأَة " .
أَيْ إِذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا وَقَبِلَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّتْ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَقْبَلهَا لَمْ يَلْزَم ذَلِكَ . كَمَا إِذَا وَهَبْت لِرَجُلٍ شَيْئًا فَلَا يَجِب عَلَيْهِ الْقَبُول , بَيْد أَنَّ مِنْ مَكَارِم أَخْلَاق نَبِيّنَا أَنْ يَقْبَل مِنْ الْوَاهِب هِبَته . وَيَرَى الْأَكَارِم أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَة فِي الْعَادَة , وَوَصْمَة عَلَى الْوَاهِب وَأَذِيَّة لِقَلْبِهِ , فَبَيَّنَ اللَّه ذَلِكَ فِي حَقّ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى , لِيَرْفَع عَنْهُ الْحَرَج , وَيُبْطِل بُطْل النَّاس فِي عَادَتهمْ وَقَوْلهمْ .
" أَنْ يَسْتَنْكِحهَا " أَيْ يَنْكِحهَا , يُقَال : نَكَحَ وَاسْتَنْكَحَ , مِثْل عَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ , وَعَجِلَ وَاسْتَعْجَلَ . وَيَجُوز أَنْ يَرِد الِاسْتِنْكَاح بِمَعْنَى طَلَب النِّكَاح , أَوْ طَلَب الْوَطْء . و " خَالِصَة " نُصِبَ عَلَى الْحَال , قَالَ الزَّجَّاج . وَقِيلَ : حَال مِنْ ضَمِير مُتَّصِل بِفِعْلٍ مُضْمَر دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضْمَر , تَقْدِيره : أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك , وَأَحْلَلْنَا لَك اِمْرَأَة مُؤْمِنَة أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَة , بِلَفْظِ الْهِبَة وَبِغَيْرِ صَدَاق وَبِغَيْرِ وَلِيّ
قَوْله تَعَالَى " خَالِصَة لَك " أَيْ هِبَة النِّسَاء أَنْفُسَهُنَّ خَالِصَة وَمَزِيَّة لَا تَجُوز , فَلَا يَجُوز أَنْ تَهَب الْمَرْأَة نَفْسهَا لِرَجُلٍ . وَوَجْه الْخَاصِّيَّة أَنَّهَا لَوْ طَلَبَتْ فَرْض الْمَهْر قَبْل الدُّخُول لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ . فَأَمَّا فِيمَا بَيْننَا فَلِلْمُفَوِّضَةِ طَلَبُ الْمَهْر قَبْل الدُّخُول , وَمَهْر الْمِثْل بَعْد الدُّخُول .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هِبَة الْمَرْأَة نَفْسَهَا غَيْر جَائِز , وَأَنَّ هَذَا اللَّفْظ مِنْ الْهِبَة لَا يَتِمّ عَلَيْهِ نِكَاح , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة وَصَاحِبَيْهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِذَا وَهَبَتْ فَأَشْهَدَ هُوَ عَلَى نَفْسه بِمَهْرٍ فَذَلِكَ جَائِز . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَلَيْسَ فِي قَوْلهمْ إِلَّا تَجْوِيز الْعِبَارَة وَلَفْظَة الْهِبَة , وَإِلَّا فَالْأَفْعَال الَّتِي اِشْتَرَطُوهَا هِيَ أَفْعَال النِّكَاح بِعَيْنِهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي " الْقَصَص " مُسْتَوْفَاة . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
خَصَّ اللَّه تَعَالَى رَسُوله فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد - فِي بَاب الْفَرْض وَالتَّحْرِيم وَالتَّحْلِيل - مَزِيَّة عَلَى الْأُمَّة وُهِبَتْ لَهُ , وَمَرْتَبَة خُصَّ بِهَا , فَفُرِضَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاء مَا فُرِضَتْ عَلَى غَيْره , وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَفْعَال لَمْ تُحَرَّم عَلَيْهِمْ , وَحُلِّلَتْ لَهُ أَشْيَاء لَمْ تُحَلَّل لَهُمْ , مِنْهَا مُتَّفَق عَلَيْهِ وَمُخْتَلَف فِيهِ .
فَأَمَّا مَا فُرِضَ عَلَيْهِ فَتِسْعَة : الْأَوَّل - التَّهَجُّد بِاللَّيْلِ , يُقَال : إِنَّ قِيَام اللَّيْل كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل قُمْ اللَّيْل " [ الْمُزَّمِّل : 1 - 2 ] الْآيَة . وَالْمَنْصُوص أَنَّهُ كَانَ , وَاجِبًا عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك " [ الْإِسْرَاء : 79 ] وَسَيَأْتِي . الثَّانِي : الضُّحَى . الثَّالِث : الْأَضْحَى . الرَّابِع : الْوِتْر , وَهُوَ يَدْخُل فِي قِسْم التَّهَجُّد . الْخَامِس : السِّوَاك . السَّادِس : قَضَاء دَيْن مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا . السَّابِع : مُشَاوَرَة ذَوِي الْأَحْلَام فِي غَيْر الشَّرَائِع . الثَّامِن : تَخْيِير النِّسَاء . التَّاسِع : إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ . زَادَ غَيْره : وَكَانَ يَجِب عَلَيْهِ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا أَنْكَرَهُ وَأَظْهَرَهُ , لِأَنَّ إِقْرَاره لِغَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى جَوَازه , ذَكَرَهُ صَاحِب الْبَيَان .
وَأَمَّا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَجُمْلَته عَشَرَة : الْأَوَّل : تَحْرِيم الزَّكَاة عَلَيْهِ وَعَلَى آله . الثَّانِي : صَدَقَة التَّطَوُّع عَلَيْهِ , وَفِي آلِه تَفْصِيل بِاخْتِلَافٍ . الثَّالِث : خَائِنَة الْأَعْيُن , وَهُوَ أَنْ يُظْهِر خِلَاف مَا يُضْمِر , أَوْ يَنْخَدِع عَمَّا يَجِب . وَقَدْ ذَمَّ بَعْض الْكُفَّار عِنْد إِذْنه ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْل عِنْد دُخُوله . الرَّابِع : حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَخْلَعهَا عَنْهُ أَوْ يَحْكُم اللَّه بَيْنه وَبَيْن مُحَارِبه . الْخَامِس : الْأَكْل مُتَّكِئًا . السَّادِس : أَكْل الْأَطْعِمَة الْكَرِيهَة الرَّائِحَة . السَّابِع : التَّبَدُّل بِأَزْوَاجِهِ , وَسَيَأْتِي . الثَّامِن : نِكَاح اِمْرَأَة تَكْرَه صُحْبَته . التَّاسِع : نِكَاح الْحُرَّة الْكِتَابِيَّة . الْعَاشِر : نِكَاح الْأَمَة .
وَحَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ أَشْيَاء لَمْ يُحَرِّمهَا عَلَى غَيْره تَنْزِيهًا لَهُ وَتَطْهِيرًا . فَحَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْكِتَابَة وَقَوْل الشِّعْر وَتَعْلِيمه , تَأْكِيدًا لِحُجَّتِهِ وَبَيَانًا لِمُعْجِزَتِهِ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك " [ الْعَنْكَبُوت : 48 ] . وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ حَتَّى كَتَبَ , وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور . وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُدّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مُتِّعَ بِهِ النَّاس , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ " [ الْحِجْر : 88 ] الْآيَة .
وَأَمَّا مَا أُحِلَّ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُمْلَته سِتَّة عَشَرَ : الْأَوَّل : صَفِيّ الْمَغْنَم . الثَّانِي : الِاسْتِبْدَاد بِخُمُسِ الْخُمُس أَوْ الْخُمُس . الثَّالِث : الْوِصَال . الرَّابِع : الزِّيَادَة عَلَى أَرْبَع نِسْوَة . الْخَامِس : النِّكَاح بِلَفْظِ الْهِبَة . السَّادِس : النِّكَاح بِغَيْرِ وَلِيّ . السَّابِع : النِّكَاح بِغَيْرِ صَدَاق . الثَّامِن : نِكَاحه فِي حَالَة الْإِحْرَام . التَّاسِع : سُقُوط الْقَسْم بَيْن الْأَزْوَاج عَنْهُ , وَسَيَأْتِي . الْعَاشِر : إِذَا وَقَعَ بَصَره عَلَى اِمْرَأَة وَجَبَ عَلَى زَوْجهَا طَلَاقهَا , وَحَلَّ لَهُ نِكَاحهَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَكَذَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ , وَقَدْ مَضَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي قِصَّة زَيْد مِنْ هَذَا الْمَعْنَى . الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّة وَجَعَلَ عِتْقهَا صَدَاقهَا . الثَّانِي عَشَرَ : دُخُول مَكَّة بِغَيْرِ إِحْرَام , وَفِي حَقّنَا فِيهِ اِخْتِلَاف . الثَّالِث عَشَر : الْقِتَال بِمَكَّة . الرَّابِع عَشَر : أَنَّهُ لَا يُورَث . وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا فِي قِسْم التَّحْلِيل لِأَنَّ الرَّجُل إِذَا قَارَبَ الْمَوْت بِالْمَرَضِ زَالَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِلْكه , وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الثُّلُث خَالِصًا , وَبَقِيَ مِلْك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ بَيَانه فِي آيَة الْمَوَارِيث , وَسُورَة " مَرْيَم " بَيَانه أَيْضًا . الْخَامِسَة عَشَر : بَقَاء زَوْجِيَّته مِنْ بَعْد الْمَوْت . السَّادِس عَشَر : إِذَا طَلَّقَ اِمْرَأَة تَبْقَى حُرْمَته عَلَيْهَا فَلَا تُنْكَح . وَهَذِهِ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة تَقَدَّمَ مُعْظَمُهَا مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعهَا . وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأُبِيحَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَخْذ الطَّعَام وَالشَّرَاب مِنْ الْجَائِع وَالْعَطْشَان , وَإِنْ كَانَ مَنْ هُوَ مَعَهُ يَخَاف عَلَى نَفْسه الْهَلَاك , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ " [ الْأَحْزَاب : 6 ] . وَعَلَى كُلّ أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ . وَأُبِيحَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ . وَأَكْرَمَهُ اللَّه بِتَحْلِيلِ الْغَنَائِم . وَجُعِلَتْ الْأَرْض لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَسْجِدًا وَطَهُورًا . وَكَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاء مَنْ لَا تَصِحّ صَلَاتهمْ إِلَّا فِي الْمَسَاجِد . وَنُصِرَ بِالرُّعْبِ , فَكَانَ يَخَافهُ الْعَدُوّ مِنْ مَسِيرَة شَهْر . وَبُعِثَ إِلَى كَافَّة الْخَلْق , وَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْله مِنْ الْأَنْبِيَاء يُبْعَث الْوَاحِد إِلَى بَعْض النَّاس دُون بَعْض . وَجُعِلَتْ مُعْجِزَاته . كَمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاء قَبْله وَزِيَادَة . وَكَانَتْ مُعْجِزَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الْعَصَا وَانْفِجَار الْمَاء مِنْ الصَّخْرَة . وَقَدْ اِنْشَقَّ الْقَمَر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ الْمَاء مِنْ بَيْن أَصَابِعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مُعْجِزَة عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْيَاء الْمَوْتَى وَإِبْرَاء الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص . وَقَدْ سَبَّحَ الْحَصَى فِي يَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَحَنَّ الْجِذْع إِلَيْهِ , وَهَذَا أَبْلَغُ . وَفَضَّلَهُ اللَّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ الْقُرْآن مُعْجِزَة لَهُ , وَجَعَلَ مُعْجِزَته فِيهِ بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَلِهَذَا جُعِلَتْ نُبُوَّته مُؤَبَّدَة لَا تُنْسَخ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة .
قَوْله تَعَالَى " مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ " فَائِدَته أَنَّ الْكُفَّار وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة عِنْدنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُول لِأَنَّ تَصْرِيف الْأَحْكَام إِنَّمَا يَكُون فِيهِمْ عَلَى تَقْدِير الْإِسْلَام .
فَائِدَته أَنَّ الْكُفَّار وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة عِنْدنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُول , لِأَنَّ تَصْرِيف الْأَحْكَام إِنَّمَا يَكُون فِيهِمْ عَلَى تَقْدِير الْإِسْلَام . أَيْ مَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَهُوَ أَلَّا يَتَزَوَّجُوا إِلَّا أَرْبَع نِسْوَة بِمَهْرٍ وَبَيِّنَة وَوَلِيّ . قَالَ مَعْنَاهُ أُبَيّ بْن كَعْب وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا .
أَيْ ضِيق فِي أَمْر أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاج إِلَى السَّعَة , أَيْ بَيَّنَّا هَذَا الْبَيَان وَشَرَحْنَا هَذَا الشَّرْح " لِكَيْلَا يَكُون عَلَيْك حَرَج " . ف " لِكَيْلَا " مُتَعَلِّق بِقَوْلِهِ : " إِنَّا أَحْلَلْنَا أَزْوَاجك " أَيْ فَلَا يَضِيق قَلْبك حَتَّى يَظْهَر مِنْك أَنَّك قَدْ أَثِمْت عِنْد رَبّك فِي شَيْء .
ثُمَّ آنَسَ تَعَالَى جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ بِغُفْرَانِهِ وَرَحْمَته فَقَالَ تَعَالَى : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا "
لَمَّا خَيَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ , حُرِّمَ عَلَيْهِ التَّزَوُّج بِغَيْرِهِنَّ وَالِاسْتِبْدَال بِهِنَّ , مُكَافَأَة لَهُنَّ عَلَى فِعْلهنَّ . وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " الْآيَة . وَهَلْ كَانَ يَحِلّ لَهُ أَنْ يُطَلِّق وَاحِدَة مِنْهُنَّ بَعْد ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ : لَا يَحِلّ لَهُ ذَلِكَ عَزَاء لَهُنَّ عَلَى اِخْتِيَارهنَّ لَهُ . وَقِيلَ : كَانَ يَحِلّ لَهُ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ النِّسَاء وَلَكِنْ لَا يَتَزَوَّج بَدَلهَا . ثُمَّ نُسِخَ هَذَا التَّحْرِيم فَأَبَاحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج بِمَنْ شَاءَ عَلَيْهِنَّ مِنْ النِّسَاء , وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْل تَعَالَى : " إِنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك " وَالْإِحْلَال يَقْتَضِي تَقَدُّم حَظْر . وَزَوْجَاته اللَّاتِي فِي حَيَاته لَمْ يَكُنَّ مُحَرَّمَات عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا كَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِ التَّزْوِيج بِالْأَجْنَبِيَّاتِ فَانْصَرَفَ الْإِحْلَال إِلَيْهِنَّ , وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي سِيَاق الْآيَة " وَبَنَات عَمّك وَبَنَات عَمَّاتك " الْآيَة . وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْته أَحَد مِنْ بَنَات عَمّه وَلَا مِنْ بَنَات عَمَّاته وَلَا مِنْ بَنَات خَاله وَلَا مِنْ بَنَات خَالَاته , فَثَبَتَ أَنَّهُ أُحِلَّ لَهُ التَّزْوِيج بِهَذَا اِبْتِدَاء . وَهَذِهِ الْآيَة وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَة فِي التِّلَاوَة فَهِيَ مُتَأَخِّرَة النُّزُول عَلَى الْآيَة الْمَنْسُوخَة بِهَا , كَآيَتَيْ الْوَفَاة فِي " الْبَقَرَة " .
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " إِنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك " فَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج كُلّ اِمْرَأَة يُؤْتِيهَا مَهْرهَا , قَالَ اِبْن زَيْد وَالضَّحَّاك . فَعَلَى هَذَا تَكُون الْآيَة مُبِيحَة جَمِيع النِّسَاء حَاشَا ذَوَات الْمَحَارِم . وَقِيلَ : الْمُرَاد أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك , أَيْ الْكَائِنَات عِنْدك , لِأَنَّهُنَّ قَدْ اِخْتَرْنَك عَلَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , قَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء . وَهُوَ الظَّاهِر , لِأَنَّ قَوْله : " آتَيْت أُجُورهنَّ " مَاضٍ , وَلَا يَكُون الْفِعْل الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَال إِلَّا بِشُرُوطٍ . وَيَجِيءُ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل ضَيِّقًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل مَا قَالَهُ اِبْن عَبَّاس : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّج فِي أَيّ النَّاس شَاءَ , وَكَانَ يَشُقّ ذَلِكَ عَلَى نِسَائِهِ , فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَحُرِّمَ عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاء إِلَّا مَنْ سُمِّيَ , سُرَّ نِسَاؤُهُ بِذَلِكَ .
قُلْت : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى صِحَّته مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ عَطَاء قَالَ : قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : مَا مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّه تَعَالَى لَهُ النِّسَاء . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح .
أَحَلَّ اللَّه تَعَالَى السَّرَارِيّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ مُطْلَقًا , وَأَحَلَّ الْأَزْوَاج لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُطْلَقًا , وَأَحَلَّهُ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ .
أَيْ رَدَّهُ عَلَيْك مِنْ الْكُفَّار . وَالْغَنِيمَة قَدْ تُسَمَّى فَيْئًا , أَيْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْك مِنْ النِّسَاء بِالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْه الْقَهْر وَالْغَلَبَة .
أَيْ أَحْلَلْنَا لَك ذَلِكَ زَائِدًا مِنْ الْأَزْوَاج اللَّاتِي آتَيْت أُجُورهنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينك , عَلَى قَوْل الْجُمْهُور , لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحْلَلْنَا لَك كُلّ اِمْرَأَة تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرهَا , لَمَا قَالَ بَعْد ذَلِكَ : " وَبَنَات عَمّك وَبَنَات عَمَّاتك " لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِل فِيمَا تَقَدَّمَ .
قُلْت : وَهَذَا لَا يَلْزَم , وَإِنَّمَا خُصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
ذَكَرَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَمّ فَرْدًا وَالْعَمَّات جَمْعًا . وَكَذَلِكَ قَالَ : " خَالك " , " وَخَالَاتك " وَالْحِكْمَة فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْعَمّ وَالْخَال فِي الْإِطْلَاق اِسْم جِنْس كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِز , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَمَّة وَالْخَالَة . وَهَذَا عُرْف لُغَوِيّ , فَجَاءَ الْكَلَام عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَان لِرَفْعِ الْإِشْكَال , وَهَذَا دَقِيق فَتَأَمَّلُوهُ , قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ .
فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّل : لَا يَحِلّ لَك مِنْ قَرَابَتك كَبَنَاتِ عَمّك الْعَبَّاس وَغَيْره مِنْ أَوْلَاد عَبْد الْمُطَّلِب , وَبَنَات أَوْلَاد بَنَات عَبْد الْمُطَّلِب , وَبَنَات الْخَال مِنْ وَلَد بَنَات عَبْد مَنَاف بْن زُهْرَة إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْلِم مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانه وَيَده وَالْمُهَاجِر مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ ) . الثَّانِي : لَا يَحِلّ لَك مِنْهُنَّ إِلَّا مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة , لِقَوْلِهِ تَعَالَى . " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتهمْ مِنْ شَيْء حَتَّى يُهَاجِرُوا " وَمَنْ لَمْ يُهَاجِر لَمْ يَكْمُل , وَمَنْ لَمْ يَكْمُل لَمْ يَصْلُح لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ , صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْله تَعَالَى " مَعَك " الْمَعِيَّة هُنَا الِاشْتِرَاك فِي الْهِجْرَة لَا فِي الصُّحْبَة فِيهَا , فَمَنْ هَاجَرَ حَلَّ لَهُ , كَانَ فِي صُحْبَته إِذْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . يُقَال : دَخَلَ فُلَان مَعِي وَخَرَجَ مَعِي , أَيْ كَانَ عَمَله كَعَمَلِي وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِن فِيهِ عَمَلكُمَا . وَلَوْ قُلْت : خَرَجْنَا مَعًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا : الِاشْتِرَاك فِي الْفِعْل , وَالِاقْتِرَان فِيهِ .
عَطْف عَلَى " أَحْلَلْنَا " الْمَعْنَى وَأَحْلَلْنَا كُلّ اِمْرَأَة تَهَب نَفْسهَا مِنْ غَيْر صَدَاق . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى , فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : لَمْ تَكُنْ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة إِلَّا بِعَقْدِ نِكَاح أَوْ مِلْك يَمِين . فَأَمَّا الْهِبَة فَلَمْ يَكُنْ عِنْده مِنْهُنَّ أَحَد . وَقَالَ قَوْم : كَانَتْ عِنْده مَوْهُوبَة .
قُلْت : وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْل وَيَعْضُدهُ , رَوَى مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَغَار عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسهنَّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُول : أَمَا تَسْتَحِي اِمْرَأَة تَهَب نَفْسهَا لِرَجُلٍ ! حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء " [ الْأَحْزَاب : 51 ] فَقُلْت : وَاَللَّه مَا أَرَى رَبّك إِلَّا يُسَارِع فِي هَوَاك . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَتْ خَوْلَة بِنْت حَكِيم مِنْ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسهنَّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ غَيْر وَاحِدَة . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ . الزَّمَخْشَرِيّ : وَقِيلَ الْمُوهِبَات أَرْبَع : مَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث , وَزَيْنَب بِنْت خُزَيْمَة أُمّ الْمَسَاكِين الْأَنْصَارِيَّة , وَأُمّ شَرِيك بِنْت جَابِر , وَخَوْلَة بِنْت حَكِيم .
قُلْت : وَفِي بَعْض هَذَا اِخْتِلَاف . قَالَ قَتَادَة : هِيَ مَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : هِيَ زَيْنَب بِنْت خُزَيْمَة أُمّ الْمَسَاكِين اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار . وَقَالَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل : هِيَ أُمّ شَرِيك بِنْت جَابِر الْأَسَدِيَّة . وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : أُمّ حَكِيم بِنْت الْأَوْقَص السَّلَمِيَّة .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي اِسْم الْوَاهِبَة نَفْسهَا , فَقِيلَ هِيَ أُمّ شُرَيْح الْأَنْصَارِيَّة , اِسْمهَا غُزَيَّة . وَقِيلَ غُزَيْلَة . وَقِيلَ لَيْلَى بِنْت حَكِيم . وَقِيلَ : هِيَ مَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث حِين خَطَبَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَاءَهَا الْخَاطِب وَهِيَ عَلَى بَعِيرهَا فَقَالَتْ : الْبَعِير وَمَا عَلَيْهِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : هِيَ أُمّ شَرِيك الْعَامِرِيَّة , وَكَانَتْ عِنْد أَبِي الْعُكْر الْأَزْدِيّ . وَقِيلَ عِنْد الطُّفَيْل بْن الْحَارِث فَوَلَدَتْ لَهُ شَرِيكًا . وَقِيلَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا , وَلَمْ يَثْبُت ذَلِكَ . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ , ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ . وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَعُرْوَة : وَهِيَ زَيْنَب بِنْت خُزَيْمَة أُمّ الْمَسَاكِين . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَرَأَ جُمْهُور النَّاس " إِنْ وَهَبَتْ " بِكَسْرِ الْأَلِف , وَهَذَا يَقْتَضِي اِسْتِئْنَاف الْأَمْر , أَيْ إِنْ وَقَعَ فَهُوَ حَلَال لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد أَنَّهُمَا قَالَا : لَمْ يَكُنْ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة مَوْهُوبَة , وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى خِلَافه . وَرَوَى الْأَئِمَّة مِنْ طَرِيق سَهْل وَغَيْره فِي الصِّحَاح : أَنَّ اِمْرَأَة قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جِئْت أَهَب لَك نَفْسِي , فَسَكَتَ حَتَّى قَامَ رَجُل فَقَالَ : زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَة . فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْهِبَة غَيْر جَائِزَة لَمَا سَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَقِرّ عَلَى الْبَاطِل إِذَا سَمِعَهُ , غَيْر أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون سُكُوته مُنْتَظِرًا بَيَانًا , فَنَزَلَتْ الْآيَة بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّخْيِير , فَاخْتَارَ تَرْكهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْره . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَكَتَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى قَامَ الرَّجُل لَهَا طَالِبًا . وَقَرَأَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأُبَيّ بْن كَعْب وَالشَّعْبِيّ " أَنْ " بِفَتْحِ الْأَلِف . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَامْرَأَة مُؤْمِنَة وَهَبَتْ " . قَالَ النَّحَّاس : وَكَسْر " إِنْ " أَجْمَعُ لِلْمَعَانِي , لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّهُنَّ نِسَاء . وَإِذَا فُتِحَ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى وَاحِدَة بِعَيْنِهَا , لِأَنَّ الْفَتْح عَلَى الْبَدَل مِنْ اِمْرَأَة , أَوْ بِمَعْنَى لِأَنَّ .
قَوْله تَعَالَى : " مُؤْمِنَة " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَة لَا تَحِلّ لَهُ . قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ : وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيم الْحُرَّة الْكَافِرَة عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح عِنْدِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ . وَبِهَذَا يَتَمَيَّز عَلَيْنَا , فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ جَانِب الْفَضَائِل وَالْكَرَامَة فَحَظّه فِيهِ أَكْثَرُ , وَمَا كَانَ جَانِب النَّقَائِص فَجَانِبه عَنْهَا أَطْهَرُ ; فَجُوِّزَ لَنَا نِكَاح الْحَرَائِر الْكِتَابِيَّات , وَقُصِرَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَلَالَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنَات . وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلّ لَهُ مَنْ لَمْ تُهَاجِر لِنُقْصَانِ فَضْل الْهِجْرَة فَأَحْرَى أَلَّا تَحِلّ لَهُ الْكَافِرَة الْكِتَابِيَّة لِنُقْصَانِ الْكُفْر .
" إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا " دَلِيل عَلَى أَنَّ النِّكَاح عَقْد مُعَاوَضَة عَلَى صِفَات مَخْصُوصَة , قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي " النِّسَاء " وَغَيْرهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَى " إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ " حَلَّتْ . وَقَرَأَ الْحَسَن : " أَنْ وَهَبَتْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب . قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ لِأَنْ . وَقَالَ غَيْره : " أَنْ وَهَبَتْ " بَدَل اِشْتِمَال مِنْ " اِمْرَأَة " .
أَيْ إِذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَة نَفْسهَا وَقَبِلَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّتْ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَقْبَلهَا لَمْ يَلْزَم ذَلِكَ . كَمَا إِذَا وَهَبْت لِرَجُلٍ شَيْئًا فَلَا يَجِب عَلَيْهِ الْقَبُول , بَيْد أَنَّ مِنْ مَكَارِم أَخْلَاق نَبِيّنَا أَنْ يَقْبَل مِنْ الْوَاهِب هِبَته . وَيَرَى الْأَكَارِم أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَة فِي الْعَادَة , وَوَصْمَة عَلَى الْوَاهِب وَأَذِيَّة لِقَلْبِهِ , فَبَيَّنَ اللَّه ذَلِكَ فِي حَقّ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى , لِيَرْفَع عَنْهُ الْحَرَج , وَيُبْطِل بُطْل النَّاس فِي عَادَتهمْ وَقَوْلهمْ .
" أَنْ يَسْتَنْكِحهَا " أَيْ يَنْكِحهَا , يُقَال : نَكَحَ وَاسْتَنْكَحَ , مِثْل عَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ , وَعَجِلَ وَاسْتَعْجَلَ . وَيَجُوز أَنْ يَرِد الِاسْتِنْكَاح بِمَعْنَى طَلَب النِّكَاح , أَوْ طَلَب الْوَطْء . و " خَالِصَة " نُصِبَ عَلَى الْحَال , قَالَ الزَّجَّاج . وَقِيلَ : حَال مِنْ ضَمِير مُتَّصِل بِفِعْلٍ مُضْمَر دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضْمَر , تَقْدِيره : أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجك , وَأَحْلَلْنَا لَك اِمْرَأَة مُؤْمِنَة أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَة , بِلَفْظِ الْهِبَة وَبِغَيْرِ صَدَاق وَبِغَيْرِ وَلِيّ
قَوْله تَعَالَى " خَالِصَة لَك " أَيْ هِبَة النِّسَاء أَنْفُسَهُنَّ خَالِصَة وَمَزِيَّة لَا تَجُوز , فَلَا يَجُوز أَنْ تَهَب الْمَرْأَة نَفْسهَا لِرَجُلٍ . وَوَجْه الْخَاصِّيَّة أَنَّهَا لَوْ طَلَبَتْ فَرْض الْمَهْر قَبْل الدُّخُول لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ . فَأَمَّا فِيمَا بَيْننَا فَلِلْمُفَوِّضَةِ طَلَبُ الْمَهْر قَبْل الدُّخُول , وَمَهْر الْمِثْل بَعْد الدُّخُول .
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هِبَة الْمَرْأَة نَفْسَهَا غَيْر جَائِز , وَأَنَّ هَذَا اللَّفْظ مِنْ الْهِبَة لَا يَتِمّ عَلَيْهِ نِكَاح , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة وَصَاحِبَيْهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِذَا وَهَبَتْ فَأَشْهَدَ هُوَ عَلَى نَفْسه بِمَهْرٍ فَذَلِكَ جَائِز . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَلَيْسَ فِي قَوْلهمْ إِلَّا تَجْوِيز الْعِبَارَة وَلَفْظَة الْهِبَة , وَإِلَّا فَالْأَفْعَال الَّتِي اِشْتَرَطُوهَا هِيَ أَفْعَال النِّكَاح بِعَيْنِهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي " الْقَصَص " مُسْتَوْفَاة . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
خَصَّ اللَّه تَعَالَى رَسُوله فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد - فِي بَاب الْفَرْض وَالتَّحْرِيم وَالتَّحْلِيل - مَزِيَّة عَلَى الْأُمَّة وُهِبَتْ لَهُ , وَمَرْتَبَة خُصَّ بِهَا , فَفُرِضَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاء مَا فُرِضَتْ عَلَى غَيْره , وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَفْعَال لَمْ تُحَرَّم عَلَيْهِمْ , وَحُلِّلَتْ لَهُ أَشْيَاء لَمْ تُحَلَّل لَهُمْ , مِنْهَا مُتَّفَق عَلَيْهِ وَمُخْتَلَف فِيهِ .
فَأَمَّا مَا فُرِضَ عَلَيْهِ فَتِسْعَة : الْأَوَّل - التَّهَجُّد بِاللَّيْلِ , يُقَال : إِنَّ قِيَام اللَّيْل كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل قُمْ اللَّيْل " [ الْمُزَّمِّل : 1 - 2 ] الْآيَة . وَالْمَنْصُوص أَنَّهُ كَانَ , وَاجِبًا عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك " [ الْإِسْرَاء : 79 ] وَسَيَأْتِي . الثَّانِي : الضُّحَى . الثَّالِث : الْأَضْحَى . الرَّابِع : الْوِتْر , وَهُوَ يَدْخُل فِي قِسْم التَّهَجُّد . الْخَامِس : السِّوَاك . السَّادِس : قَضَاء دَيْن مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا . السَّابِع : مُشَاوَرَة ذَوِي الْأَحْلَام فِي غَيْر الشَّرَائِع . الثَّامِن : تَخْيِير النِّسَاء . التَّاسِع : إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ . زَادَ غَيْره : وَكَانَ يَجِب عَلَيْهِ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا أَنْكَرَهُ وَأَظْهَرَهُ , لِأَنَّ إِقْرَاره لِغَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى جَوَازه , ذَكَرَهُ صَاحِب الْبَيَان .
وَأَمَّا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَجُمْلَته عَشَرَة : الْأَوَّل : تَحْرِيم الزَّكَاة عَلَيْهِ وَعَلَى آله . الثَّانِي : صَدَقَة التَّطَوُّع عَلَيْهِ , وَفِي آلِه تَفْصِيل بِاخْتِلَافٍ . الثَّالِث : خَائِنَة الْأَعْيُن , وَهُوَ أَنْ يُظْهِر خِلَاف مَا يُضْمِر , أَوْ يَنْخَدِع عَمَّا يَجِب . وَقَدْ ذَمَّ بَعْض الْكُفَّار عِنْد إِذْنه ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْل عِنْد دُخُوله . الرَّابِع : حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَخْلَعهَا عَنْهُ أَوْ يَحْكُم اللَّه بَيْنه وَبَيْن مُحَارِبه . الْخَامِس : الْأَكْل مُتَّكِئًا . السَّادِس : أَكْل الْأَطْعِمَة الْكَرِيهَة الرَّائِحَة . السَّابِع : التَّبَدُّل بِأَزْوَاجِهِ , وَسَيَأْتِي . الثَّامِن : نِكَاح اِمْرَأَة تَكْرَه صُحْبَته . التَّاسِع : نِكَاح الْحُرَّة الْكِتَابِيَّة . الْعَاشِر : نِكَاح الْأَمَة .
وَحَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ أَشْيَاء لَمْ يُحَرِّمهَا عَلَى غَيْره تَنْزِيهًا لَهُ وَتَطْهِيرًا . فَحَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْكِتَابَة وَقَوْل الشِّعْر وَتَعْلِيمه , تَأْكِيدًا لِحُجَّتِهِ وَبَيَانًا لِمُعْجِزَتِهِ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك " [ الْعَنْكَبُوت : 48 ] . وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ حَتَّى كَتَبَ , وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور . وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُدّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مُتِّعَ بِهِ النَّاس , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ " [ الْحِجْر : 88 ] الْآيَة .
وَأَمَّا مَا أُحِلَّ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُمْلَته سِتَّة عَشَرَ : الْأَوَّل : صَفِيّ الْمَغْنَم . الثَّانِي : الِاسْتِبْدَاد بِخُمُسِ الْخُمُس أَوْ الْخُمُس . الثَّالِث : الْوِصَال . الرَّابِع : الزِّيَادَة عَلَى أَرْبَع نِسْوَة . الْخَامِس : النِّكَاح بِلَفْظِ الْهِبَة . السَّادِس : النِّكَاح بِغَيْرِ وَلِيّ . السَّابِع : النِّكَاح بِغَيْرِ صَدَاق . الثَّامِن : نِكَاحه فِي حَالَة الْإِحْرَام . التَّاسِع : سُقُوط الْقَسْم بَيْن الْأَزْوَاج عَنْهُ , وَسَيَأْتِي . الْعَاشِر : إِذَا وَقَعَ بَصَره عَلَى اِمْرَأَة وَجَبَ عَلَى زَوْجهَا طَلَاقهَا , وَحَلَّ لَهُ نِكَاحهَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَكَذَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ , وَقَدْ مَضَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي قِصَّة زَيْد مِنْ هَذَا الْمَعْنَى . الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّة وَجَعَلَ عِتْقهَا صَدَاقهَا . الثَّانِي عَشَرَ : دُخُول مَكَّة بِغَيْرِ إِحْرَام , وَفِي حَقّنَا فِيهِ اِخْتِلَاف . الثَّالِث عَشَر : الْقِتَال بِمَكَّة . الرَّابِع عَشَر : أَنَّهُ لَا يُورَث . وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا فِي قِسْم التَّحْلِيل لِأَنَّ الرَّجُل إِذَا قَارَبَ الْمَوْت بِالْمَرَضِ زَالَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِلْكه , وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الثُّلُث خَالِصًا , وَبَقِيَ مِلْك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ بَيَانه فِي آيَة الْمَوَارِيث , وَسُورَة " مَرْيَم " بَيَانه أَيْضًا . الْخَامِسَة عَشَر : بَقَاء زَوْجِيَّته مِنْ بَعْد الْمَوْت . السَّادِس عَشَر : إِذَا طَلَّقَ اِمْرَأَة تَبْقَى حُرْمَته عَلَيْهَا فَلَا تُنْكَح . وَهَذِهِ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة تَقَدَّمَ مُعْظَمُهَا مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعهَا . وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأُبِيحَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَخْذ الطَّعَام وَالشَّرَاب مِنْ الْجَائِع وَالْعَطْشَان , وَإِنْ كَانَ مَنْ هُوَ مَعَهُ يَخَاف عَلَى نَفْسه الْهَلَاك , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ " [ الْأَحْزَاب : 6 ] . وَعَلَى كُلّ أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ . وَأُبِيحَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ . وَأَكْرَمَهُ اللَّه بِتَحْلِيلِ الْغَنَائِم . وَجُعِلَتْ الْأَرْض لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَسْجِدًا وَطَهُورًا . وَكَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاء مَنْ لَا تَصِحّ صَلَاتهمْ إِلَّا فِي الْمَسَاجِد . وَنُصِرَ بِالرُّعْبِ , فَكَانَ يَخَافهُ الْعَدُوّ مِنْ مَسِيرَة شَهْر . وَبُعِثَ إِلَى كَافَّة الْخَلْق , وَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْله مِنْ الْأَنْبِيَاء يُبْعَث الْوَاحِد إِلَى بَعْض النَّاس دُون بَعْض . وَجُعِلَتْ مُعْجِزَاته . كَمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاء قَبْله وَزِيَادَة . وَكَانَتْ مُعْجِزَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الْعَصَا وَانْفِجَار الْمَاء مِنْ الصَّخْرَة . وَقَدْ اِنْشَقَّ الْقَمَر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ الْمَاء مِنْ بَيْن أَصَابِعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مُعْجِزَة عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْيَاء الْمَوْتَى وَإِبْرَاء الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص . وَقَدْ سَبَّحَ الْحَصَى فِي يَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَحَنَّ الْجِذْع إِلَيْهِ , وَهَذَا أَبْلَغُ . وَفَضَّلَهُ اللَّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ الْقُرْآن مُعْجِزَة لَهُ , وَجَعَلَ مُعْجِزَته فِيهِ بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَلِهَذَا جُعِلَتْ نُبُوَّته مُؤَبَّدَة لَا تُنْسَخ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة .
قَوْله تَعَالَى " مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ " فَائِدَته أَنَّ الْكُفَّار وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة عِنْدنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُول لِأَنَّ تَصْرِيف الْأَحْكَام إِنَّمَا يَكُون فِيهِمْ عَلَى تَقْدِير الْإِسْلَام .
فَائِدَته أَنَّ الْكُفَّار وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة عِنْدنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُول , لِأَنَّ تَصْرِيف الْأَحْكَام إِنَّمَا يَكُون فِيهِمْ عَلَى تَقْدِير الْإِسْلَام . أَيْ مَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَهُوَ أَلَّا يَتَزَوَّجُوا إِلَّا أَرْبَع نِسْوَة بِمَهْرٍ وَبَيِّنَة وَوَلِيّ . قَالَ مَعْنَاهُ أُبَيّ بْن كَعْب وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا .
أَيْ ضِيق فِي أَمْر أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاج إِلَى السَّعَة , أَيْ بَيَّنَّا هَذَا الْبَيَان وَشَرَحْنَا هَذَا الشَّرْح " لِكَيْلَا يَكُون عَلَيْك حَرَج " . ف " لِكَيْلَا " مُتَعَلِّق بِقَوْلِهِ : " إِنَّا أَحْلَلْنَا أَزْوَاجك " أَيْ فَلَا يَضِيق قَلْبك حَتَّى يَظْهَر مِنْك أَنَّك قَدْ أَثِمْت عِنْد رَبّك فِي شَيْء .
ثُمَّ آنَسَ تَعَالَى جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ بِغُفْرَانِهِ وَرَحْمَته فَقَالَ تَعَالَى : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا "
تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ↓
" تُرْجِي مَنْ تَشَاء " قُرِئَ مَهْمُوزًا وَغَيْر مَهْمُوز , وَهُمَا لُغَتَانِ , يُقَال : أَرْجَيْت الْأَمْر وَأَرْجَأْته إِذَا أَخَّرْته . " وَتُؤْوِي " تَضُمّ , يُقَال : آوَى إِلَيْهِ . ( مَمْدُودَة الْأَلِف ) ضَمَّ إِلَيْهِ . وَأَوَى ( مَقْصُورَة الْأَلِف ) اِنْضَمَّ إِلَيْهِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا . التَّوْسِعَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْك الْقَسْم , فَكَانَ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْقَسْم بَيْن زَوْجَاته . وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الَّذِي يُنَاسِب مَا مَضَى , وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , قَالَتْ : كُنْت , أَغَار عَلَى اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسهنَّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُول : أَوَ تَهَب الْمَرْأَة نَفْسهَا لِرَجُلٍ ؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء وَمَنْ اِبْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت " قَالَتْ : قُلْت وَاَللَّه مَا أَرَى رَبّك إِلَّا يُسَارِع فِي هَوَاك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيح هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّل عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى الْمُرَاد : هُوَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَزْوَاجه , إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِم قَسَمَ , وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُك الْقَسْم تَرَكَ . فَخُصَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جُعِلَ الْأَمْر إِلَيْهِ فِيهِ , لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِم مِنْ قِبَل نَفْسه دُون أَنْ يُفْرَض ذَلِكَ عَلَيْهِ , تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِنَّ , وَصَوْنًا لَهُنَّ عَنْ أَقْوَال الْغَيْرَة الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي . وَقِيلَ : كَانَ الْقَسْم وَاجِبًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوب عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَة . قَالَ أَبُو رَزِين : كَانَ رَسُول اللَّه قَدْ هَمَّ بِطَلَاقِ بَعْض نِسَائِهِ فَقُلْنَ لَهُ : اِقْسِمْ لَنَا مَا شِئْت . فَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَة وَحَفْصَة وَأُمّ سَلَمَة وَزَيْنَب , فَكَانَ قِسْمَتهنَّ مِنْ نَفْسه وَمَاله سَوَاء بَيْنهنَّ . وَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَى سَوْدَة وَجُوَيْرِيَة وَأُمّ حَبِيبَة وَمَيْمُونَة وَصَفِيَّة , فَكَانَ يَقْسِم لَهُنَّ مَا شَاءَ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْوَاهِبَات . رَوَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فِي قَوْله : " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ " قَالَتْ : هَذَا فِي الْوَاهِبَات أَنْفُسهنَّ . قَالَ الشَّعْبِيّ : هُنَّ الْوَاهِبَات أَنْفُسَهُنَّ , تَزَوَّجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُنَّ وَتَرَكَ مِنْهُنَّ . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : مَا عَلِمْنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجَأَ أَحَدًا مِنْ أَزْوَاجه , بَلْ آوَاهُنَّ كُلّهنَّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمَعْنَى فِي طَلَاق مَنْ شَاءَ مِمَّنْ حَصَلَ فِي عِصْمَته , وَإِمْسَاك مَنْ شَاءَ . وَقِيلَ غَيْر هَذَا . وَعَلَى كُلّ مَعْنًى فَالْآيَة مَعْنَاهَا التَّوْسِعَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِبَاحَة . وَمَا اِخْتَرْنَاهُ أَصَحُّ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
ذَهَبَ هِبَة اللَّه فِي النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ إِلَى أَنَّ قَوْله : " تُرْجِي مَنْ تَشَاء " الْآيَة , نَاسِخ لِقَوْلِهِ : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " [ الْأَحْزَاب : 52 ] الْآيَة . وَقَالَ : لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه نَاسِخ تَقَدَّمَ الْمَنْسُوخ سِوَى هَذَا . وَكَلَامه يُضَعَّف مِنْ جِهَات . وَفِي " الْبَقَرَة " عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , وَهُوَ نَاسِخ لِلْحَوْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ .
" اِبْتَغَيْت " طَلَبْت , وَالِابْتِغَاء الطَّلَب . و " عَزَلْت " أَزَلْت , وَالْعُزْلَة الْإِزَالَة , أَيْ إِنْ أَرَدْت أَنْ تُؤْوِيَ إِلَيْك اِمْرَأَة مِمَّنْ عَزَلْتهنَّ مِنْ الْقِسْمَة وَتَضُمّهَا إِلَيْك فَلَا بَأْس عَلَيْك فِي ذَلِكَ . كَذَلِكَ حُكْم الْإِرْجَاء , فَدَلَّ أَحَد الطَّرَفَيْنِ عَلَى الثَّانِي .
أَيْ لَا مَيْل , يُقَال : جَنَحَتْ السَّفِينَة أَيْ مَالَتْ إِلَى الْأَرْض . أَيْ لَا مَيْل عَلَيْك بِاللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخ .
قَالَ قَتَادَة وَغَيْره : أَيْ ذَلِكَ التَّخْيِير الَّذِي خَيَّرْنَاك فِي صُحْبَتهنَّ أَدْنَى إِلَى رِضَاهُنَّ إِذْ كَانَ مِنْ عِنْدنَا , لِأَنَّهُنَّ إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ الْفِعْل مِنْ اللَّه قَرَّتْ أَعْيُنهنَّ بِذَلِكَ وَرَضِينَ , لِأَنَّ الْمَرْء إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا حَقّ لَهُ فِي شَيْء كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ . وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا لَمْ يَقْنَعْهُ مَا أُوتِيَ مِنْهُ , وَاشْتَدَّتْ غَيْرَته عَلَيْهِ وَعَظُمَ حِرْصه فِيهِ . فَكَانَ مَا فَعَلَ اللَّه لِرَسُولِهِ مِنْ تَفْوِيض الْأَمْر إِلَيْهِ فِي أَحْوَال أَزْوَاجه أَقْرَبَ إِلَى رِضَاهُنَّ مَعَهُ , وَإِلَى اِسْتِقْرَار أَعْيُنهنَّ بِمَا يَسْمَح بِهِ لَهُنَّ , دُون أَنْ تَتَعَلَّق قُلُوبهنَّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَقُرِئَ : " تُقِرّ أَعْيُنَهُنَّ " بِضَمِّ التَّاء وَنَصْب الْأَعْيُن . " وَتُقَرّ أَعْيُنُهُنَّ " عَلَى الْبِنَاء لِلْمَفْعُولِ . وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ هَذَا يُشَدِّد عَلَى نَفْسه فِي رِعَايَة التَّسْوِيَة بَيْنهنَّ , تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَيَقُول : ( اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِك فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك ) يَعْنِي قَلْبه , لِإِيثَارِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا دُون أَنْ يَكُون يَظْهَر ذَلِكَ فِي شَيْء مِنْ فِعْله . وَكَانَ فِي مَرَضه الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ يُطَاف بِهِ مَحْمُولًا عَلَى بُيُوت أَزْوَاجه , إِلَى أَنْ اِسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُقِيم فِي بَيْت عَائِشَة . قَالَتْ عَائِشَة : أَوَّل مَا اِشْتَكَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْت مَيْمُونَة , فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجه أَنْ يُمَرَّض فِي بَيْتهَا - يَعْنِي فِي بَيْت عَائِشَة - فَأُذِنَ لَهُ ... الْحَدِيث , خَرَّجَهُ الصَّحِيح . وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : إِنْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَتَفَقَّد , يَقُول : ( أَيْنَ أَنَا الْيَوْم أَيْنَ أَنَا غَدًا ) اِسْتِبْطَاء لِيَوْمِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . قَالَتْ : فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّه تَعَالَى بَيْن سَحْرِي وَنَحْرِي , صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
عَلَى الرَّجُل أَنْ يَعْدِل بَيْن نِسَائِهِ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ يَوْمًا وَلَيْلَة , هَذَا قَوْل عَامَّة الْعُلَمَاء . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى وُجُوب ذَلِكَ فِي اللَّيْل دُون النَّهَار . وَلَا يُسْقِط حَقَّ الزَّوْجَةِ مَرَضُهَا وَلَا حَيْضُهَا , وَيَلْزَمهُ الْمُقَام عِنْدهَا فِي يَوْمهَا وَلَيْلَتهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِل بَيْنهنَّ فِي مَرَضه كَمَا يَفْعَل فِي صِحَّته , إِلَّا أَنْ يَعْجِز عَنْ الْحَرَكَة فَيُقِيم حَيْثُ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَرَض , فَإِذَا صَحَّ اِسْتَأْنَفَ الْقَسْم . وَالْإِمَاء وَالْحَرَائِر وَالْكِتَابِيَّات وَالْمُسْلِمَات فِي ذَلِكَ سَوَاء . قَالَ عَبْد الْمَلِك : لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَة . وَأَمَّا السَّرَارِيّ فَلَا قَسْم بَيْنهنَّ وَبَيْن الْحَرَائِر , وَلَا حَظّ لَهُنَّ فِيهِ .
وَلَا يَجْمَع بَيْنهنَّ فِي مَنْزِل وَاحِد إِلَّا بِرِضَاهُنَّ , وَلَا يَدْخُل لِإِحْدَاهُنَّ فِي يَوْم الْأُخْرَى وَلَيْلَتهَا لِغَيْرِ حَاجَة . وَاخْتُلِفَ فِي دُخُوله لِحَاجَةٍ وَضَرُورَة , فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازه , مَالِك وَغَيْره . وَفِي كِتَاب اِبْن حَبِيب مَنْعه . وَرَوَى اِبْن بُكَيْر عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّ مُعَاذ بْن جَبَل كَانَتْ لَهُ اِمْرَأَتَانِ , فَإِذَا كَانَ يَوْم هَذِهِ لَمْ يَشْرَب مِنْ بَيْت الْأُخْرَى الْمَاء . قَالَ اِبْن بُكَيْر : وَحَدَّثَنَا مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّ مُعَاذ بْن جَبَل كَانَتْ لَهُ اِمْرَأَتَانِ مَاتَتَا فِي الطَّاعُون . فَأَسْهَمَ بَيْنهمَا أَيّهمَا تُدْلَى أَوَّلًا .
قَالَ مَالِك : وَيَعْدِل بَيْنهنَّ فِي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة إِذَا كُنَّ مُعْتَدِلَات الْحَال , وَلَا يَلْزَم ذَلِكَ فِي الْمُخْتَلِفَات الْمَنَاصِب . وَأَجَازَ مَالِك أَنْ يُفَضِّل إِحْدَاهُمَا فِي الْكِسْوَة عَلَى غَيْر وَجْه الْمَيْل . فَأَمَّا الْحُبّ وَالْبُغْض فَخَارِجَانِ عَنْ الْكَسْب فَلَا يَتَأَتَّى الْعَدْل فِيهِمَا , وَهُوَ الْمَعْنِيّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَسْمه ( اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِك فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك ) . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد " يَعْنِي الْقَلْب " , وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْن النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ " [ النِّسَاء : 129 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَاَللَّه يَعْلَم مَا فِي قُلُوبكُمْ " . وَهَذَا هُوَ وَجْه تَخْصِيصه بِالذِّكْرِ هُنَا , تَنْبِيهًا مِنْهُ لَنَا عَلَى أَنَّهُ يَعْلَم مَا فِي قُلُوبنَا مِنْ مَيْل بَعْضنَا إِلَى بَعْض مَنْ عِنْدنَا مِنْ النِّسَاء دُون بَعْض , وَهُوَ الْعَالِم بِكُلِّ شَيْء " لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء فِي الْأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء " [ آل عِمْرَان : 5 ] " يَعْلَم السِّرّ وَأَخْفَى " [ طَه : 7 ] لَكِنَّهُ سَمَحَ فِي ذَلِكَ , إِذْ لَا يَسْتَطِيع الْعَبْد أَنْ يَصْرِف قَلْبه عَنْ ذَلِكَ الْمَيْل , وَإِلَى ذَلِكَ يَعُود قَوْله : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " .
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله : " ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرّ أَعْيُنهنَّ " أَيْ ذَلِكَ أَقْرَبُ أَلَّا يَحْزَنَّ إِذَا لَمْ يَجْمَع إِحْدَاهُنَّ مَعَ الْأُخْرَى وَيُعَايِن الْأَثَرَة وَالْمَيْل . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ كَانَتْ لَهُ اِمْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَشِقّه مَائِل )
تَوْكِيد لِلضَّمِيرِ , أَيْ وَيَرْضَيْنَ كُلّهنَّ . وَأَجَازَ أَبُو حَاتِم وَالزَّجَّاج " وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتهنَّ كُلّهنَّ " عَلَى التَّوْكِيد لِلْمُضْمَرِ الَّذِي فِي " آتَيْتهنَّ " . وَالْفَرَّاء لَا يُجِيزهُ , لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَيْهِ , إِذْ كَانَ الْمَعْنَى وَتَرْضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ , وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِمَا أَعْطَيْتهنَّ كُلَّهُنَّ . النَّحَّاس : وَاَلَّذِي قَالَهُ حَسَن .
خَبَر عَامّ , وَالْإِشَارَة إِلَى مَا فِي قَلْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَحَبَّة شَخْص دُون شَخْص . وَكَذَلِكَ يَدْخُل فِي الْمَعْنَى أَيْضًا الْمُؤْمِنُونَ . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْش ذَات السَّلَاسِل , فَأَتَيْته فَقُلْت : أَيّ النَّاس أَحَبُّ إِلَيْك ؟ فَقَالَ : ( عَائِشَة ) فَقُلْت : مِنْ الرِّجَال ؟ قَالَ : ( أَبُوهَا ) قُلْت : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ( عُمَر بْن الْخَطَّاب ... ) فَعَدَّ رِجَالًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي الْقَلْب بِمَا فِيهِ كِفَايَة فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " , وَفِي أَوَّل هَذِهِ السُّورَة . يُرْوَى أَنَّ لُقْمَان الْحَكِيم كَانَ عَبْدًا نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّده : اِذْبَحْ شَاة وَائْتِنِي بِأَطْيَبِهَا بَضْعَتَيْنِ , فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْب . ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاة أُخْرَى فَقَالَ لَهُ : أَلْقِ أَخْبَثَهَا بَضْعَتَيْنِ , فَأَلْقَى اللِّسَان وَالْقَلْب . فَقَالَ : أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا بَضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْب , وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِيَ بِأَخْبَثِهَا بَضْعَتَيْنِ فَأَلْقَيْت اللِّسَان وَالْقَلْب ؟ فَقَالَ : لَيْسَ شَيْء أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا , وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثَا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا . التَّوْسِعَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْك الْقَسْم , فَكَانَ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْقَسْم بَيْن زَوْجَاته . وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الَّذِي يُنَاسِب مَا مَضَى , وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , قَالَتْ : كُنْت , أَغَار عَلَى اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسهنَّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُول : أَوَ تَهَب الْمَرْأَة نَفْسهَا لِرَجُلٍ ؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء وَمَنْ اِبْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت " قَالَتْ : قُلْت وَاَللَّه مَا أَرَى رَبّك إِلَّا يُسَارِع فِي هَوَاك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيح هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّل عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى الْمُرَاد : هُوَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَزْوَاجه , إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِم قَسَمَ , وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُك الْقَسْم تَرَكَ . فَخُصَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جُعِلَ الْأَمْر إِلَيْهِ فِيهِ , لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِم مِنْ قِبَل نَفْسه دُون أَنْ يُفْرَض ذَلِكَ عَلَيْهِ , تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِنَّ , وَصَوْنًا لَهُنَّ عَنْ أَقْوَال الْغَيْرَة الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي . وَقِيلَ : كَانَ الْقَسْم وَاجِبًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوب عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَة . قَالَ أَبُو رَزِين : كَانَ رَسُول اللَّه قَدْ هَمَّ بِطَلَاقِ بَعْض نِسَائِهِ فَقُلْنَ لَهُ : اِقْسِمْ لَنَا مَا شِئْت . فَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَة وَحَفْصَة وَأُمّ سَلَمَة وَزَيْنَب , فَكَانَ قِسْمَتهنَّ مِنْ نَفْسه وَمَاله سَوَاء بَيْنهنَّ . وَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَى سَوْدَة وَجُوَيْرِيَة وَأُمّ حَبِيبَة وَمَيْمُونَة وَصَفِيَّة , فَكَانَ يَقْسِم لَهُنَّ مَا شَاءَ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْوَاهِبَات . رَوَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فِي قَوْله : " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ " قَالَتْ : هَذَا فِي الْوَاهِبَات أَنْفُسهنَّ . قَالَ الشَّعْبِيّ : هُنَّ الْوَاهِبَات أَنْفُسَهُنَّ , تَزَوَّجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُنَّ وَتَرَكَ مِنْهُنَّ . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : مَا عَلِمْنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجَأَ أَحَدًا مِنْ أَزْوَاجه , بَلْ آوَاهُنَّ كُلّهنَّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمَعْنَى فِي طَلَاق مَنْ شَاءَ مِمَّنْ حَصَلَ فِي عِصْمَته , وَإِمْسَاك مَنْ شَاءَ . وَقِيلَ غَيْر هَذَا . وَعَلَى كُلّ مَعْنًى فَالْآيَة مَعْنَاهَا التَّوْسِعَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِبَاحَة . وَمَا اِخْتَرْنَاهُ أَصَحُّ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
ذَهَبَ هِبَة اللَّه فِي النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ إِلَى أَنَّ قَوْله : " تُرْجِي مَنْ تَشَاء " الْآيَة , نَاسِخ لِقَوْلِهِ : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " [ الْأَحْزَاب : 52 ] الْآيَة . وَقَالَ : لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه نَاسِخ تَقَدَّمَ الْمَنْسُوخ سِوَى هَذَا . وَكَلَامه يُضَعَّف مِنْ جِهَات . وَفِي " الْبَقَرَة " عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر , وَهُوَ نَاسِخ لِلْحَوْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ .
" اِبْتَغَيْت " طَلَبْت , وَالِابْتِغَاء الطَّلَب . و " عَزَلْت " أَزَلْت , وَالْعُزْلَة الْإِزَالَة , أَيْ إِنْ أَرَدْت أَنْ تُؤْوِيَ إِلَيْك اِمْرَأَة مِمَّنْ عَزَلْتهنَّ مِنْ الْقِسْمَة وَتَضُمّهَا إِلَيْك فَلَا بَأْس عَلَيْك فِي ذَلِكَ . كَذَلِكَ حُكْم الْإِرْجَاء , فَدَلَّ أَحَد الطَّرَفَيْنِ عَلَى الثَّانِي .
أَيْ لَا مَيْل , يُقَال : جَنَحَتْ السَّفِينَة أَيْ مَالَتْ إِلَى الْأَرْض . أَيْ لَا مَيْل عَلَيْك بِاللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخ .
قَالَ قَتَادَة وَغَيْره : أَيْ ذَلِكَ التَّخْيِير الَّذِي خَيَّرْنَاك فِي صُحْبَتهنَّ أَدْنَى إِلَى رِضَاهُنَّ إِذْ كَانَ مِنْ عِنْدنَا , لِأَنَّهُنَّ إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ الْفِعْل مِنْ اللَّه قَرَّتْ أَعْيُنهنَّ بِذَلِكَ وَرَضِينَ , لِأَنَّ الْمَرْء إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا حَقّ لَهُ فِي شَيْء كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ . وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا لَمْ يَقْنَعْهُ مَا أُوتِيَ مِنْهُ , وَاشْتَدَّتْ غَيْرَته عَلَيْهِ وَعَظُمَ حِرْصه فِيهِ . فَكَانَ مَا فَعَلَ اللَّه لِرَسُولِهِ مِنْ تَفْوِيض الْأَمْر إِلَيْهِ فِي أَحْوَال أَزْوَاجه أَقْرَبَ إِلَى رِضَاهُنَّ مَعَهُ , وَإِلَى اِسْتِقْرَار أَعْيُنهنَّ بِمَا يَسْمَح بِهِ لَهُنَّ , دُون أَنْ تَتَعَلَّق قُلُوبهنَّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَقُرِئَ : " تُقِرّ أَعْيُنَهُنَّ " بِضَمِّ التَّاء وَنَصْب الْأَعْيُن . " وَتُقَرّ أَعْيُنُهُنَّ " عَلَى الْبِنَاء لِلْمَفْعُولِ . وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ هَذَا يُشَدِّد عَلَى نَفْسه فِي رِعَايَة التَّسْوِيَة بَيْنهنَّ , تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَيَقُول : ( اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِك فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك ) يَعْنِي قَلْبه , لِإِيثَارِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا دُون أَنْ يَكُون يَظْهَر ذَلِكَ فِي شَيْء مِنْ فِعْله . وَكَانَ فِي مَرَضه الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ يُطَاف بِهِ مَحْمُولًا عَلَى بُيُوت أَزْوَاجه , إِلَى أَنْ اِسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُقِيم فِي بَيْت عَائِشَة . قَالَتْ عَائِشَة : أَوَّل مَا اِشْتَكَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْت مَيْمُونَة , فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجه أَنْ يُمَرَّض فِي بَيْتهَا - يَعْنِي فِي بَيْت عَائِشَة - فَأُذِنَ لَهُ ... الْحَدِيث , خَرَّجَهُ الصَّحِيح . وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : إِنْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَتَفَقَّد , يَقُول : ( أَيْنَ أَنَا الْيَوْم أَيْنَ أَنَا غَدًا ) اِسْتِبْطَاء لِيَوْمِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . قَالَتْ : فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّه تَعَالَى بَيْن سَحْرِي وَنَحْرِي , صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
عَلَى الرَّجُل أَنْ يَعْدِل بَيْن نِسَائِهِ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ يَوْمًا وَلَيْلَة , هَذَا قَوْل عَامَّة الْعُلَمَاء . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى وُجُوب ذَلِكَ فِي اللَّيْل دُون النَّهَار . وَلَا يُسْقِط حَقَّ الزَّوْجَةِ مَرَضُهَا وَلَا حَيْضُهَا , وَيَلْزَمهُ الْمُقَام عِنْدهَا فِي يَوْمهَا وَلَيْلَتهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِل بَيْنهنَّ فِي مَرَضه كَمَا يَفْعَل فِي صِحَّته , إِلَّا أَنْ يَعْجِز عَنْ الْحَرَكَة فَيُقِيم حَيْثُ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَرَض , فَإِذَا صَحَّ اِسْتَأْنَفَ الْقَسْم . وَالْإِمَاء وَالْحَرَائِر وَالْكِتَابِيَّات وَالْمُسْلِمَات فِي ذَلِكَ سَوَاء . قَالَ عَبْد الْمَلِك : لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَة . وَأَمَّا السَّرَارِيّ فَلَا قَسْم بَيْنهنَّ وَبَيْن الْحَرَائِر , وَلَا حَظّ لَهُنَّ فِيهِ .
وَلَا يَجْمَع بَيْنهنَّ فِي مَنْزِل وَاحِد إِلَّا بِرِضَاهُنَّ , وَلَا يَدْخُل لِإِحْدَاهُنَّ فِي يَوْم الْأُخْرَى وَلَيْلَتهَا لِغَيْرِ حَاجَة . وَاخْتُلِفَ فِي دُخُوله لِحَاجَةٍ وَضَرُورَة , فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازه , مَالِك وَغَيْره . وَفِي كِتَاب اِبْن حَبِيب مَنْعه . وَرَوَى اِبْن بُكَيْر عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّ مُعَاذ بْن جَبَل كَانَتْ لَهُ اِمْرَأَتَانِ , فَإِذَا كَانَ يَوْم هَذِهِ لَمْ يَشْرَب مِنْ بَيْت الْأُخْرَى الْمَاء . قَالَ اِبْن بُكَيْر : وَحَدَّثَنَا مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّ مُعَاذ بْن جَبَل كَانَتْ لَهُ اِمْرَأَتَانِ مَاتَتَا فِي الطَّاعُون . فَأَسْهَمَ بَيْنهمَا أَيّهمَا تُدْلَى أَوَّلًا .
قَالَ مَالِك : وَيَعْدِل بَيْنهنَّ فِي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة إِذَا كُنَّ مُعْتَدِلَات الْحَال , وَلَا يَلْزَم ذَلِكَ فِي الْمُخْتَلِفَات الْمَنَاصِب . وَأَجَازَ مَالِك أَنْ يُفَضِّل إِحْدَاهُمَا فِي الْكِسْوَة عَلَى غَيْر وَجْه الْمَيْل . فَأَمَّا الْحُبّ وَالْبُغْض فَخَارِجَانِ عَنْ الْكَسْب فَلَا يَتَأَتَّى الْعَدْل فِيهِمَا , وَهُوَ الْمَعْنِيّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَسْمه ( اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِك فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك ) . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد " يَعْنِي الْقَلْب " , وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْن النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ " [ النِّسَاء : 129 ] وَقَوْله تَعَالَى : " وَاَللَّه يَعْلَم مَا فِي قُلُوبكُمْ " . وَهَذَا هُوَ وَجْه تَخْصِيصه بِالذِّكْرِ هُنَا , تَنْبِيهًا مِنْهُ لَنَا عَلَى أَنَّهُ يَعْلَم مَا فِي قُلُوبنَا مِنْ مَيْل بَعْضنَا إِلَى بَعْض مَنْ عِنْدنَا مِنْ النِّسَاء دُون بَعْض , وَهُوَ الْعَالِم بِكُلِّ شَيْء " لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء فِي الْأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء " [ آل عِمْرَان : 5 ] " يَعْلَم السِّرّ وَأَخْفَى " [ طَه : 7 ] لَكِنَّهُ سَمَحَ فِي ذَلِكَ , إِذْ لَا يَسْتَطِيع الْعَبْد أَنْ يَصْرِف قَلْبه عَنْ ذَلِكَ الْمَيْل , وَإِلَى ذَلِكَ يَعُود قَوْله : " وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " .
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله : " ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرّ أَعْيُنهنَّ " أَيْ ذَلِكَ أَقْرَبُ أَلَّا يَحْزَنَّ إِذَا لَمْ يَجْمَع إِحْدَاهُنَّ مَعَ الْأُخْرَى وَيُعَايِن الْأَثَرَة وَالْمَيْل . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ كَانَتْ لَهُ اِمْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَشِقّه مَائِل )
تَوْكِيد لِلضَّمِيرِ , أَيْ وَيَرْضَيْنَ كُلّهنَّ . وَأَجَازَ أَبُو حَاتِم وَالزَّجَّاج " وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتهنَّ كُلّهنَّ " عَلَى التَّوْكِيد لِلْمُضْمَرِ الَّذِي فِي " آتَيْتهنَّ " . وَالْفَرَّاء لَا يُجِيزهُ , لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَيْهِ , إِذْ كَانَ الْمَعْنَى وَتَرْضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ , وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِمَا أَعْطَيْتهنَّ كُلَّهُنَّ . النَّحَّاس : وَاَلَّذِي قَالَهُ حَسَن .
خَبَر عَامّ , وَالْإِشَارَة إِلَى مَا فِي قَلْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَحَبَّة شَخْص دُون شَخْص . وَكَذَلِكَ يَدْخُل فِي الْمَعْنَى أَيْضًا الْمُؤْمِنُونَ . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْش ذَات السَّلَاسِل , فَأَتَيْته فَقُلْت : أَيّ النَّاس أَحَبُّ إِلَيْك ؟ فَقَالَ : ( عَائِشَة ) فَقُلْت : مِنْ الرِّجَال ؟ قَالَ : ( أَبُوهَا ) قُلْت : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ( عُمَر بْن الْخَطَّاب ... ) فَعَدَّ رِجَالًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي الْقَلْب بِمَا فِيهِ كِفَايَة فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " , وَفِي أَوَّل هَذِهِ السُّورَة . يُرْوَى أَنَّ لُقْمَان الْحَكِيم كَانَ عَبْدًا نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّده : اِذْبَحْ شَاة وَائْتِنِي بِأَطْيَبِهَا بَضْعَتَيْنِ , فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْب . ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاة أُخْرَى فَقَالَ لَهُ : أَلْقِ أَخْبَثَهَا بَضْعَتَيْنِ , فَأَلْقَى اللِّسَان وَالْقَلْب . فَقَالَ : أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا بَضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْب , وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِيَ بِأَخْبَثِهَا بَضْعَتَيْنِ فَأَلْقَيْت اللِّسَان وَالْقَلْب ؟ فَقَالَ : لَيْسَ شَيْء أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا , وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثَا .
لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ↓
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " عَلَى أَقْوَال سَبْعَة : الْأُولَى : أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِالسُّنَّةِ , وَالنَّاسِخ لَهَا حَدِيث عَائِشَة , قَالَتْ : مَا مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِآيَةٍ أُخْرَى , رَوَى الطَّحَاوِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : لَمْ يَمُتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّه لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج مِنْ النِّسَاء مَنْ شَاءَ , إِلَّا ذَات مَحْرَم , وَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء " . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا وَاَللَّه أَعْلَمُ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْآيَة , وَهُوَ وَقَوْل عَائِشَة وَاحِد فِي النَّسْخ . وَقَدْ يَجُوز أَنْ تَكُون عَائِشَة أَرَادَتْ أُحِلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ . وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْل عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَالضَّحَّاك . وَقَدْ عَارَضَ بَعْض فُقَهَاء الْكُوفِيِّينَ فَقَالَ : مُحَال أَنْ تُنْسَخ هَذِهِ الْآيَة يَعْنِي " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ " " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " وَهِيَ قَبْلهَا فِي الْمُصْحَف الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرُجِّحَ قَوْل مَنْ قَالَ نُسِخَتْ بِالسُّنَّةِ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذِهِ الْمُعَاوَضَة لَا تَلْزَم وَقَائِلهَا غَالِط , لِأَنَّ الْقُرْآن بِمَنْزِلَةِ سُورَة وَاحِدَة , كَمَا صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنْزَلَ اللَّه الْقُرْآن جُمْلَة وَاحِدَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فِي شَهْر رَمَضَان . وَيُبَيِّن لَك أَنَّ اِعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرِض لَا يَلْزَم أَنَّ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج " [ الْبَقَرَة : 240 ] مَنْسُوخَة عَلَى قَوْل أَهْل التَّأْوِيل - لَا نَعْلَم بَيْنهمْ خِلَافًا - بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلهَا " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " [ الْبَقَرَة : 234 ]
الثَّالِثَة : أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُظِرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّج عَلَى نِسَائِهِ , لِأَنَّهُنَّ اِخْتَرْنَ اللَّه وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة , هَذَا قَوْل الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَأَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل يَجُوز أَنْ يَكُون هَكَذَا ثُمَّ نُسِخَ .
الرَّابِع : أَنَّهُ لَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْده حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّج غَيْرهنَّ , قَالَهُ أَبُو أُمَامَة بْن سَهْل اِبْن حُنَيْف .
الْخَامِس : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " أَيْ مِنْ بَعْد الْأَصْنَاف الَّتِي سُمِّيَتْ , قَالَهُ أُبَيّ بْن كَعْب وَعِكْرِمَة وَأَبُو رَزِين , وَهُوَ اِخْتِيَار مُحَمَّد بْن جَرِير . وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْإِبَاحَة كَانَتْ لَهُ مُطْلَقَة قَالَ هُنَا : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء " مَعْنَاهُ لَا تَحِلّ لَك الْيَهُودِيَّات وَلَا النَّصْرَانِيَّات . وَهَذَا تَأْوِيل فِيهِ بُعْد .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة أَيْضًا . وَهُوَ الْقَوْل السَّادِس . قَالَ مُجَاهِد : لِئَلَّا تَكُون كَافِرَةٌ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا الْقَوْل يَبْعُد , لِأَنَّهُ يُقَدِّرهُ : مِنْ بَعْد الْمُسْلِمَات , وَلَمْ يَجْرِ لِلْمُسْلِمَاتِ ذِكْر . وَكَذَلِكَ قُدِّرَ " وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ " أَيْ وَلَا أَنْ تُطَلِّق مُسْلِمَة لِتَسْتَبْدِل بِهَا كِتَابِيَّة .
السَّابِع : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ حَلَال أَنْ يَتَزَوَّج مَنْ شَاءَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ . قَالَ : وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَنْبِيَاء قَبْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ .
قَالَ اِبْن زَيْد : هَذَا شَيْء كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ , يَقُول أَحَدهمْ : خُذْ زَوْجَتِي وَأَعْطِنِي زَوْجَتك , رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : كَانَ الْبَدَل فِي الْجَاهِلِيَّة أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُلِ : اِنْزِلْ لِي عَنْ اِمْرَأَتك وَأَنْزِل لَك عَنْ اِمْرَأَتِي وَأَزِيدك , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاج وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ " قَالَ : فَدَخَلَ عُيَيْنَة بْن حِصْن الْفَزَارِيّ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده عَائِشَة , فَدَخَلَ بِغَيْرِ إِذْن , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عُيَيْنَة فَأَيْنَ الِاسْتِئْذَان ) ؟ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا اِسْتَأْذَنْت عَلَى رَجُل مِنْ مُضَر مُنْذُ أَدْرَكْت . قَالَ : مَنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاء إِلَى جَنْبك ؟ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذِهِ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ ) قَالَ : أَفَلَا أَنْزِل لَك عَنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ . فَقَالَ : ( يَا عُيَيْنَة , إِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ ) . قَالَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَة : يَا رَسُول اللَّه , مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : ( أَحْمَقُ مُطَاع وَإِنَّهُ عَلَى مَا تَرَيْنَ لَسَيِّد قَوْمه ) . وَقَدْ أَنْكَرَ الطَّبَرِيّ وَالنَّحَّاس وَغَيْرهمَا مَا حَكَاهُ اِبْن زَيْد عَنْ الْعَرَب , مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تُبَادِل بِأَزْوَاجِهَا . قَالَ الطَّبَرِيّ : وَمَا فَعَلَتْ الْعَرَب قَطُّ هَذَا . وَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيث عُيَيْنَة بْن حِصْن مِنْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده عَائِشَة ... الْحَدِيث , فَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ , وَلَا أَرَادَ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا اِحْتَقَرَ عَائِشَة لِأَنَّهَا كَانَتْ صَبِيَّة فَقَالَ هَذَا الْقَوْل .
قُلْت : وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِنْ أَنَّ الْبَدَل كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يَدُلّ عَلَى خِلَاف مَا أُنْكِرَ مِنْ ذَلِكَ , وَاَللَّه أَعْلَمُ . قَالَ الْمُبَرِّد : وَقُرِئَ " لَا يَحِلّ " بِالْيَاءِ وَالتَّاء . فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَعَلَى مَعْنَى جَمَاعَة النِّسَاء , وَبِالْيَاءِ مِنْ تَحْت عَلَى مَعْنَى جَمِيع النِّسَاء . وَزَعَمَ الْفَرَّاء قَالَ : اِجْتَمَعَتْ الْقُرَّاء عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَة بِالْيَاءِ , وَهَذَا غَلَط , وَكَيْف يُقَال : اِجْتَمَعَتْ الْقُرَّاء وَقَدْ قَرَأَ أَبُو عَمْرو بِالتَّاءِ بِلَا اِخْتِلَاف عَنْهُ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس , أَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين مَاتَ عَنْهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حُسْنُهَا , فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجهَا , فَنَزَلَتْ الْآيَة , وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز أَنْ يَنْظُر الرَّجُل إِلَى مَنْ يُرِيد زَوَاجهَا . وَقَدْ أَرَادَ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة زَوَاج اِمْرَأَة , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اُنْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَم بَيْنكُمَا ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِآخَرَ : ( اُنْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُن الْأَنْصَار شَيْئًا ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيح . قَالَ الْحُمَيْدِيّ وَأَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ . يَعْنِي صَفْرَاء أَوْ زَرْقَاء . وَقِيلَ رَمْصَاء .
الْأَمْر بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَة إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَة الْإِرْشَاد إِلَى الْمَصْلَحَة , فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا فَلَعَلَّهُ يَرَى مِنْهَا مَا يُرَغِّبهُ فِي نِكَاحهَا . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر عَلَى جِهَة الْإِرْشَاد مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا خَطَبَ أَحَدكُمْ الْمَرْأَة فَإِنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُر مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحهَا فَلْيَفْعَلْ ) . فَقَوْله : ( فَإِنْ اِسْتَطَاعَ فَلْيَفْعَلْ ) لَا يُقَال مِثْله فِي الْوَاجِب . وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ وَغَيْرهمْ وَأَهْل الظَّاهِر . وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ قَوْم لَا مُبَالَاة بِقَوْلِهِمْ , لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة , وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنهنَّ " . وَقَالَ سَهْل بْن أَبِي حَثْمَة : رَأَيْت مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة يُطَارِد ثُبَيْتَة بِنْت الضَّحَّاك عَلَى إِجَّار مِنْ أَجَاجِير الْمَدِينَة فَقُلْت لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا ؟ فَقَالَ نَعَمْ ! قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَلْقَى اللَّه فِي قَلْب أَحَدكُمْ خِطْبَة اِمْرَأَة فَلَا بَأْس أَنْ يَنْظُر إِلَيْهَا ) . الْإِجَّار : السَّطْح , بِلُغَةِ أَهْل الشَّام وَالْحِجَاز . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَجَمَعَ الْإِجَّار أَجَاجِير وَأَجَاجِرَة .
اُخْتُلِفَ فِيمَا يَجُوز أَنْ يَنْظُر مِنْهَا , فَقَالَ مَالِك : يَنْظُر إِلَى وَجْههَا وَكَفَّيْهَا , وَلَا يَنْظُر إِلَّا بِإِذْنِهَا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد : بِإِذْنِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنهَا إِذَا كَانَتْ مُسْتَتِرَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يَنْظُر إِلَيْهَا وَيَجْتَهِد وَيَنْظُر مَوَاضِع اللَّحْم مِنْهَا . قَالَ دَاوُد : يَنْظُر إِلَى سَائِر جَسَدهَا , تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ اللَّفْظ . وَأُصُول الشَّرِيعَة تَرُدّ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيم الِاطِّلَاع عَلَى الْعَوْرَة . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِحْلَال الْأَمَة الْكَافِرَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلَيْنِ : تَحِلّ لِعُمُومِ قَوْل : " إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينك " , قَالَهُ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء وَالْحَكَم . قَالُوا : قَوْله تَعَالَى " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " أَيْ لَا تَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ غَيْر الْمُسْلِمَات , فَأَمَّا الْيَهُودِيَّات وَالنَّصْرَانِيَّات وَالْمُشْرِكَات فَحَرَام عَلَيْك , أَيْ لَا يَحِلّ لَك أَنْ تَتَزَوَّج كَافِرَة فَتَكُون أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنهَا , إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينك , فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا . الْقَوْل الثَّانِي : لَا تَحِلّ , تَنْزِيهًا لِقَدْرِهِ عَنْ مُبَاشَرَة الْكَافِرَة , وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر " [ الْمُمْتَحَنَة : 10 ] فَكَيْف بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . و " مَا " فِي قَوْله : " إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينك " فِي مَوْضِع رَفْع بَدَل مِنْ " النِّسَاء " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى اِسْتِثْنَاء , وَفِيهِ ضَعْف . وَيَجُوز أَنْ تَكُون مَصْدَرِيَّة , وَالتَّقْدِير : إِلَّا مِلْك يَمِينك , وَمِلْك بِمَعْنَى مَمْلُوك , وَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب لِأَنَّهُ اِسْتِثْنَاء مِنْ غَيْر الْجِنْس الْأَوَّل .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِآيَةٍ أُخْرَى , رَوَى الطَّحَاوِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : لَمْ يَمُتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّه لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج مِنْ النِّسَاء مَنْ شَاءَ , إِلَّا ذَات مَحْرَم , وَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء " . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا وَاَللَّه أَعْلَمُ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْآيَة , وَهُوَ وَقَوْل عَائِشَة وَاحِد فِي النَّسْخ . وَقَدْ يَجُوز أَنْ تَكُون عَائِشَة أَرَادَتْ أُحِلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ . وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْل عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَعَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَالضَّحَّاك . وَقَدْ عَارَضَ بَعْض فُقَهَاء الْكُوفِيِّينَ فَقَالَ : مُحَال أَنْ تُنْسَخ هَذِهِ الْآيَة يَعْنِي " تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ " " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " وَهِيَ قَبْلهَا فِي الْمُصْحَف الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرُجِّحَ قَوْل مَنْ قَالَ نُسِخَتْ بِالسُّنَّةِ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذِهِ الْمُعَاوَضَة لَا تَلْزَم وَقَائِلهَا غَالِط , لِأَنَّ الْقُرْآن بِمَنْزِلَةِ سُورَة وَاحِدَة , كَمَا صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنْزَلَ اللَّه الْقُرْآن جُمْلَة وَاحِدَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فِي شَهْر رَمَضَان . وَيُبَيِّن لَك أَنَّ اِعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرِض لَا يَلْزَم أَنَّ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْر إِخْرَاج " [ الْبَقَرَة : 240 ] مَنْسُوخَة عَلَى قَوْل أَهْل التَّأْوِيل - لَا نَعْلَم بَيْنهمْ خِلَافًا - بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلهَا " وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " [ الْبَقَرَة : 234 ]
الثَّالِثَة : أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُظِرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّج عَلَى نِسَائِهِ , لِأَنَّهُنَّ اِخْتَرْنَ اللَّه وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة , هَذَا قَوْل الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَأَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل يَجُوز أَنْ يَكُون هَكَذَا ثُمَّ نُسِخَ .
الرَّابِع : أَنَّهُ لَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْده حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّج غَيْرهنَّ , قَالَهُ أَبُو أُمَامَة بْن سَهْل اِبْن حُنَيْف .
الْخَامِس : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " أَيْ مِنْ بَعْد الْأَصْنَاف الَّتِي سُمِّيَتْ , قَالَهُ أُبَيّ بْن كَعْب وَعِكْرِمَة وَأَبُو رَزِين , وَهُوَ اِخْتِيَار مُحَمَّد بْن جَرِير . وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْإِبَاحَة كَانَتْ لَهُ مُطْلَقَة قَالَ هُنَا : " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء " مَعْنَاهُ لَا تَحِلّ لَك الْيَهُودِيَّات وَلَا النَّصْرَانِيَّات . وَهَذَا تَأْوِيل فِيهِ بُعْد .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة أَيْضًا . وَهُوَ الْقَوْل السَّادِس . قَالَ مُجَاهِد : لِئَلَّا تَكُون كَافِرَةٌ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا الْقَوْل يَبْعُد , لِأَنَّهُ يُقَدِّرهُ : مِنْ بَعْد الْمُسْلِمَات , وَلَمْ يَجْرِ لِلْمُسْلِمَاتِ ذِكْر . وَكَذَلِكَ قُدِّرَ " وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ " أَيْ وَلَا أَنْ تُطَلِّق مُسْلِمَة لِتَسْتَبْدِل بِهَا كِتَابِيَّة .
السَّابِع : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ حَلَال أَنْ يَتَزَوَّج مَنْ شَاءَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ . قَالَ : وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَنْبِيَاء قَبْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ .
قَالَ اِبْن زَيْد : هَذَا شَيْء كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ , يَقُول أَحَدهمْ : خُذْ زَوْجَتِي وَأَعْطِنِي زَوْجَتك , رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : كَانَ الْبَدَل فِي الْجَاهِلِيَّة أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُلِ : اِنْزِلْ لِي عَنْ اِمْرَأَتك وَأَنْزِل لَك عَنْ اِمْرَأَتِي وَأَزِيدك , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاج وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ " قَالَ : فَدَخَلَ عُيَيْنَة بْن حِصْن الْفَزَارِيّ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده عَائِشَة , فَدَخَلَ بِغَيْرِ إِذْن , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عُيَيْنَة فَأَيْنَ الِاسْتِئْذَان ) ؟ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا اِسْتَأْذَنْت عَلَى رَجُل مِنْ مُضَر مُنْذُ أَدْرَكْت . قَالَ : مَنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاء إِلَى جَنْبك ؟ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذِهِ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ ) قَالَ : أَفَلَا أَنْزِل لَك عَنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ . فَقَالَ : ( يَا عُيَيْنَة , إِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ ) . قَالَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَة : يَا رَسُول اللَّه , مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : ( أَحْمَقُ مُطَاع وَإِنَّهُ عَلَى مَا تَرَيْنَ لَسَيِّد قَوْمه ) . وَقَدْ أَنْكَرَ الطَّبَرِيّ وَالنَّحَّاس وَغَيْرهمَا مَا حَكَاهُ اِبْن زَيْد عَنْ الْعَرَب , مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تُبَادِل بِأَزْوَاجِهَا . قَالَ الطَّبَرِيّ : وَمَا فَعَلَتْ الْعَرَب قَطُّ هَذَا . وَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيث عُيَيْنَة بْن حِصْن مِنْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده عَائِشَة ... الْحَدِيث , فَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ , وَلَا أَرَادَ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا اِحْتَقَرَ عَائِشَة لِأَنَّهَا كَانَتْ صَبِيَّة فَقَالَ هَذَا الْقَوْل .
قُلْت : وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِنْ أَنَّ الْبَدَل كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يَدُلّ عَلَى خِلَاف مَا أُنْكِرَ مِنْ ذَلِكَ , وَاَللَّه أَعْلَمُ . قَالَ الْمُبَرِّد : وَقُرِئَ " لَا يَحِلّ " بِالْيَاءِ وَالتَّاء . فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَعَلَى مَعْنَى جَمَاعَة النِّسَاء , وَبِالْيَاءِ مِنْ تَحْت عَلَى مَعْنَى جَمِيع النِّسَاء . وَزَعَمَ الْفَرَّاء قَالَ : اِجْتَمَعَتْ الْقُرَّاء عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَة بِالْيَاءِ , وَهَذَا غَلَط , وَكَيْف يُقَال : اِجْتَمَعَتْ الْقُرَّاء وَقَدْ قَرَأَ أَبُو عَمْرو بِالتَّاءِ بِلَا اِخْتِلَاف عَنْهُ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس , أَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين مَاتَ عَنْهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حُسْنُهَا , فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجهَا , فَنَزَلَتْ الْآيَة , وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز أَنْ يَنْظُر الرَّجُل إِلَى مَنْ يُرِيد زَوَاجهَا . وَقَدْ أَرَادَ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة زَوَاج اِمْرَأَة , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اُنْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَم بَيْنكُمَا ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِآخَرَ : ( اُنْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُن الْأَنْصَار شَيْئًا ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيح . قَالَ الْحُمَيْدِيّ وَأَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ . يَعْنِي صَفْرَاء أَوْ زَرْقَاء . وَقِيلَ رَمْصَاء .
الْأَمْر بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَة إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَة الْإِرْشَاد إِلَى الْمَصْلَحَة , فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا فَلَعَلَّهُ يَرَى مِنْهَا مَا يُرَغِّبهُ فِي نِكَاحهَا . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر عَلَى جِهَة الْإِرْشَاد مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا خَطَبَ أَحَدكُمْ الْمَرْأَة فَإِنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُر مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحهَا فَلْيَفْعَلْ ) . فَقَوْله : ( فَإِنْ اِسْتَطَاعَ فَلْيَفْعَلْ ) لَا يُقَال مِثْله فِي الْوَاجِب . وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ وَغَيْرهمْ وَأَهْل الظَّاهِر . وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ قَوْم لَا مُبَالَاة بِقَوْلِهِمْ , لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة , وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنهنَّ " . وَقَالَ سَهْل بْن أَبِي حَثْمَة : رَأَيْت مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة يُطَارِد ثُبَيْتَة بِنْت الضَّحَّاك عَلَى إِجَّار مِنْ أَجَاجِير الْمَدِينَة فَقُلْت لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا ؟ فَقَالَ نَعَمْ ! قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَلْقَى اللَّه فِي قَلْب أَحَدكُمْ خِطْبَة اِمْرَأَة فَلَا بَأْس أَنْ يَنْظُر إِلَيْهَا ) . الْإِجَّار : السَّطْح , بِلُغَةِ أَهْل الشَّام وَالْحِجَاز . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَجَمَعَ الْإِجَّار أَجَاجِير وَأَجَاجِرَة .
اُخْتُلِفَ فِيمَا يَجُوز أَنْ يَنْظُر مِنْهَا , فَقَالَ مَالِك : يَنْظُر إِلَى وَجْههَا وَكَفَّيْهَا , وَلَا يَنْظُر إِلَّا بِإِذْنِهَا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد : بِإِذْنِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنهَا إِذَا كَانَتْ مُسْتَتِرَة . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يَنْظُر إِلَيْهَا وَيَجْتَهِد وَيَنْظُر مَوَاضِع اللَّحْم مِنْهَا . قَالَ دَاوُد : يَنْظُر إِلَى سَائِر جَسَدهَا , تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ اللَّفْظ . وَأُصُول الشَّرِيعَة تَرُدّ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيم الِاطِّلَاع عَلَى الْعَوْرَة . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِحْلَال الْأَمَة الْكَافِرَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلَيْنِ : تَحِلّ لِعُمُومِ قَوْل : " إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينك " , قَالَهُ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء وَالْحَكَم . قَالُوا : قَوْله تَعَالَى " لَا يَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ بَعْد " أَيْ لَا تَحِلّ لَك النِّسَاء مِنْ غَيْر الْمُسْلِمَات , فَأَمَّا الْيَهُودِيَّات وَالنَّصْرَانِيَّات وَالْمُشْرِكَات فَحَرَام عَلَيْك , أَيْ لَا يَحِلّ لَك أَنْ تَتَزَوَّج كَافِرَة فَتَكُون أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنهَا , إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينك , فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا . الْقَوْل الثَّانِي : لَا تَحِلّ , تَنْزِيهًا لِقَدْرِهِ عَنْ مُبَاشَرَة الْكَافِرَة , وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر " [ الْمُمْتَحَنَة : 10 ] فَكَيْف بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . و " مَا " فِي قَوْله : " إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينك " فِي مَوْضِع رَفْع بَدَل مِنْ " النِّسَاء " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى اِسْتِثْنَاء , وَفِيهِ ضَعْف . وَيَجُوز أَنْ تَكُون مَصْدَرِيَّة , وَالتَّقْدِير : إِلَّا مِلْك يَمِينك , وَمِلْك بِمَعْنَى مَمْلُوك , وَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب لِأَنَّهُ اِسْتِثْنَاء مِنْ غَيْر الْجِنْس الْأَوَّل .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ↓
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى مَعْنَى : إِلَّا بِأَنْ يُؤْذَن لَكُمْ , وَيَكُون الِاسْتِثْنَاء . لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل .
نُصِبَ عَلَى الْحَال , أَيْ لَا تَدْخُلُوا فِي هَذِهِ الْحَال . وَلَا يَجُوز فِي " غَيْر " الْخَفْض عَلَى النَّعْت لِلطَّعَامِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَعْتًا لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ إِظْهَار الْفَاعِلِينَ , وَكَانَ يَقُول : غَيْر نَاظِرِينَ إِنَاهُ أَنْتُمْ . وَنَظِير هَذَا مِنْ النَّحْو : هَذَا رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ مُلَازِمٌ لَهُ , وَإِنْ شِئْت قُلْت : هَذَا رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ مُلَازِمٍ لَهُ هُوَ . وَهَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ قِصَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : الْأَدَب فِي أَمْر الطَّعَام وَالْجُلُوس . وَالثَّانِيَة : أَمْر الْحِجَاب . وَقَالَ حَمَّاد بْن زَيْد : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الثُّقَلَاء . فَأَمَّا الْقِصَّة الْأُولَى فَالْجُمْهُور مِنْ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ : سَبَبهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَب بِنْت جَحْش اِمْرَأَة زَيْد أَوْلَمَ عَلَيْهَا , فَدَعَا النَّاس , فَلَمَّا طَعِمُوا جَلَسَ طَوَائِف مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجَته مُوَلِّيَة وَجْههَا إِلَى الْحَائِط , فَثَقُلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ أَنَس : فَمَا أَدْرِي أَأَنَا أَخْبَرْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَوْم قَدْ خَرَجُوا أَوْ أَخْبَرَنِي . قَالَ : فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْت , فَذَهَبْت أَدْخُل مَعَهُ فَأَلْقَى السِّتْر بَيْنِي وَبَيْنه وَنَزَلَ الْحِجَاب . قَالَ : وَوُعِظَ الْقَوْم بِمَا وُعِظُوا بِهِ , وَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ - إِلَى قَوْله - إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْد اللَّه عَظِيمًا " أَخْرَجَهُ الصَّحِيح . وَقَالَ قَتَادَة وَمُقَاتِل فِي كِتَاب الثَّعْلَبِيّ : إِنَّ هَذَا السَّبَب جَرَى فِي بَيْت أُمّ سَلَمَة . وَالْأَوَّل الصَّحِيح , كَمَا رَوَاهُ الصَّحِيح . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي نَاس مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ طَعَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ قَبْل أَنْ يُدْرِك الطَّعَام , فَيَقْعُدُونَ إِلَى أَنْ يُدْرِك , ثُمَّ يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ . وَقَالَ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي حَكِيم : وَهَذَا أَدَب أَدَّبَ اللَّه بِهِ الثُّقَلَاء . وَقَالَ اِبْن أَبِي عَائِشَة فِي كِتَاب الثَّعْلَبِيّ : حَسْبُك مِنْ الثُّقَلَاء أَنَّ الشَّرْع لَمْ يَحْتَمِلهُمْ . وَأَمَّا قِصَّة الْحِجَاب فَقَالَ أَنَس بْن مَالِك وَجَمَاعَة : سَبَبهَا أَمْر الْقُعُود فِي بَيْت زَيْنَب , الْقِصَّة الْمَذْكُورَة آنِفًا . وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَجَمَاعَة : سَبَبهَا أَنَّ عُمَر قَالَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ نِسَاءَك يَدْخُل عَلَيْهِنَّ الْبَرّ وَالْفَاجِر , فَلَوْ أَمَرْتهنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ , فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَرَوَى الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ عُمَر : وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث : فِي مَقَام إِبْرَاهِيم , وَفِي الْحِجَاب , وَفِي أُسَارَى بَدْر . هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي أَمْر الْحِجَاب , وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ الْأَقْوَال وَالرِّوَايَات فَوَاهِيَة , لَا يَقُوم شَيْء مِنْهَا عَلَى سَاق , وَأَضْعَفُهَا مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود : أَنَّ عُمَر أَمَرَ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ , فَقَالَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش : يَا بْن الْخَطَّاب , إِنَّك تَغَار عَلَيْنَا وَالْوَحْي يَنْزِل فِي بُيُوتنَا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب " وَهَذَا بَاطِل , لِأَنَّ الْحِجَاب نَزَلَ يَوْم الْبِنَاء بِزَيْنَب , كَمَا بَيَّنَّاهُ . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمْ . وَقِيلَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطْعَم وَمَعَهُ بَعْض أَصْحَابه , فَأَصَابَ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَ عَائِشَة , فَكَرِهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكَانَتْ سِيرَة الْقَوْم إِذَا كَانَ لَهُمْ طَعَام وَلِيمَة أَوْ نَحْوه أَنْ يُبَكِّر مَنْ شَاءَ إِلَى الدَّعْوَة يَنْتَظِرُونَ طَبْخ الطَّعَام وَنُضْجه . وَكَذَلِكَ إِذَا فَرَغُوا مِنْهُ جَلَسُوا كَذَلِكَ , فَنَهَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَمْثَال ذَلِكَ فِي بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَدَخَلَ فِي النَّهْي سَائِر الْمُؤْمِنِينَ , وَالْتَزَمَ النَّاس أَدَب اللَّه تَعَالَى لَهُمْ فِي ذَلِكَ , فَمَنَعَهُمْ مِنْ الدُّخُول إِلَّا بِإِذْنٍ عِنْد الْأَكْل , لَا قَبْله لِانْتِظَارِ نُضْج الطَّعَام .
قَوْله تَعَالَى : " بُيُوت النَّبِيّ " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبَيْت لِلرَّجُلِ , وَيُحْكَم لَهُ بِهِ , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتكُنَّ مِنْ آيَات اللَّه وَالْحِكْمَة إِنَّ اللَّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا " [ الْأَحْزَاب : 34 ] قُلْنَا : إِضَافَة الْبُيُوت إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِضَافَة مِلْك , وَإِضَافَة الْبُيُوت إِلَى الْأَزْوَاج إِضَافَة مَحَلّ , بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الْإِذْن لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِذْن إِنَّمَا يَكُون لِلْمَالِكِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي بُيُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ يَسْكُن فِيهَا أَهْله بَعْد مَوْته , هَلْ هِيَ مِلْك لَهُنَّ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَتْ طَائِفَة : كَانَتْ مِلْكًا لَهُنَّ , بِدَلِيلِ أَنَّهُنَّ سَكَنَّ فِيهَا بَعْد مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَفَاتهنَّ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَ ذَلِكَ لَهُنَّ فِي حَيَاته . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِسْكَانًا كَمَا يُسْكِن الرَّجُل أَهْله وَلَمْ يَكُنْ هِبَة , وَتَمَادَى سُكْنَاهُنَّ بِهَا إِلَى الْمَوْت . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , وَهُوَ الَّذِي اِرْتَضَاهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ وَابْن الْعَرَبِيّ وَغَيْرهمْ , فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَئُونَتهنَّ الَّتِي كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَثْنَاهَا لَهُنَّ , كَمَا اِسْتَثْنَى لَهُنَّ نَفَقَاتهنَّ حِين قَالَ : ( لَا تَقْتَسِم وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا , مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة أَهْلِي وَمَئُونَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة ) . هَكَذَا قَالَ أَهْل الْعِلْم , قَالُوا : وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَسَاكِنهنَّ لَمْ يَرِثهَا عَنْهُنَّ وَرَثَتهنَّ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُنَّ كَانَ لَا شَكَّ قَدْ وَرِثَهُ عَنْهُنَّ وَرَثَتهنَّ . قَالُوا : وَفِي تَرْك وَرَثَتهنَّ ذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُنَّ مِلْكًا . وَإِنَّمَا كَانَ لَهُنَّ سَكَن حَيَاتهنَّ , فَلَمَّا تُوُفِّينَ جُعِلَ ذَلِكَ زِيَادَة فِي الْمَسْجِد الَّذِي يَعُمّ الْمُسْلِمِينَ نَفْعه , كَمَا جُعِلَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ لَهُنَّ مِنْ النَّفَقَات فِي تَرِكَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَضَيْنَ لِسَبِيلِهِنَّ , فَزِيدَ إِلَى أَصْل الْمَال فَصُرِفَ فِي مَنَافِع الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَعُمّ جَمِيعهمْ نَفْعُهُ . وَاَللَّه الْمُوَفِّق . قَوْله تَعَالَى : " غَيْر نَاظِرِينَ إِنَاهُ " أَيْ غَيْر مُنْتَظِرِينَ وَقْت نُضْجه . و " إِنَاهُ " مَقْصُور , وَفِيهِ لُغَات : " إِنَى " بِكَسْرِ الْهَمْزَة . قَالَ الشَّيْبَانِيّ : وَكِسْرَى إِذْ تَقَسَّمَهُ بَنُوهُ بِأَسْيَافٍ كَمَا اُقْتُسِمَ اللِّحَام تَمَخَّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ أَنَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة : " غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ " . مَجْرُورًا صِفَة لِـ " ـطَعَام " . الزَّمَخْشَرِيّ : وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ , لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْر مَا هُوَ لَهُ , فَمِنْ حَقّ ضَمِير مَا هُوَ لَهُ أَنْ يَبْرُز إِلَى اللَّفْظ , فَيُقَال : غَيْر نَاظِرِينَ إِنَاهُ أَنْتُمْ , كَقَوْلِك : هِنْد زَيْد ضَارِبَته هِيَ . وَأَنَى ( بِفَتْحِهَا ) , وَأَنَاء ( بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْمَدّ ) قَالَ الْحُطَيْئَة : وَأَخَّرْت الْعَشَاء إِلَى سُهَيْل أَوْ الشِّعْرَى فَطَالَ بِيَ الْأَنَاء يَعْنِي إِلَى طُلُوع سُهَيْل . وَإِنَاه مَصْدَر أَنَى الشَّيْء يَأْنِي إِذَا فَرَغَ وَحَانَ وَأَدْرَكَ .
فَأَكَّدَ الْمَنْع , وَخَصَّ وَقْت الدُّخُول بِأَنْ يَكُون عِنْد الْإِذْن عَلَى جِهَة الْأَدَب , وَحِفْظ الْحَضْرَة الْكَرِيمَة مِنْ الْمُبَاسَطَة الْمَكْرُوهَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَتَقْدِير الْكَلَام : وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ وَأُذِنَ لَكُمْ فِي الدُّخُول فَادْخُلُوا , وَإِلَّا فَنَفْس الدَّعْوَة لَا تَكُون إِذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُول . وَالْفَاء فِي جَوَاب " إِذَا " لَازِمَة لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُجَازَاة .
أَمَرَ تَعَالَى بَعْد الْإِطْعَام بِأَنْ يَتَفَرَّق جَمِيعهمْ وَيَنْتَشِرُوا . وَالْمُرَاد إِلْزَام الْخُرُوج مِنْ الْمَنْزِل عِنْد اِنْقِضَاء الْمَقْصُود مِنْ الْأَكْل . وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُول حَرَام , وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْأَكْل , فَإِذَا اِنْقَضَى الْأَكْل زَالَ السَّبَب الْمُبِيح وَعَادَ التَّحْرِيم إِلَى أَصْله .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الضَّيْف يَأْكُل عَلَى مِلْك الْمُضِيف لَا عَلَى مِلْك نَفْسه , لِأَنَّهُ قَالَ : " فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا " فَلَمْ يَجْعَل لَهُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْل , وَلَا أَضَافَ إِلَيْهِ سِوَاهُ , وَبَقِيَ الْمِلْك عَلَى أَصْله .
عَطْف عَلَى قَوْله : " غَيْر نَاظِرِينَ " و " غَيْر " مَنْصُوبَة عَلَى الْحَال مِنْ الْكَاف وَالْمِيم فِي " لَكُمْ " أَيْ غَيْر نَاظِرِينَ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ , وَالْمَعْنَى الْمَقْصُود : لَا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ كَمَا فَعَلَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلِيمَة زَيْنَب .
أَيْ لَا يَمْتَنِع مِنْ بَيَانه وَإِظْهَاره . وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقَع مِنْ الْبَشَر لِعِلَّةِ الِاسْتِحْيَاء نُفِيَ عَنْ اللَّه تَعَالَى الْعِلَّة الْمُوجِبَة لِذَلِكَ فِي الْبَشَر . وَفِي الصَّحِيح عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : جَاءَتْ أُمّ سُلَيْم إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ اللَّه لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقّ , فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَة مِنْ غُسْل إِذَا اِحْتَلَمَتْ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَأَتْ الْمَاء ) .
رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ عُمَر : وَافَقْت رَبِّي فِي أَرْبَع ... , الْحَدِيث . وَفِيهِ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , لَوْ ضَرَبْت عَلَى نِسَائِك الْحِجَاب , فَإِنَّهُ يَدْخُل عَلَيْهِنَّ الْبَرّ وَالْفَاجِر , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب " .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَتَاع , فَقِيلَ : مَا يُتَمَتَّع بِهِ مِنْ الْعَوَارِيّ وَقِيلَ فَتْوَى . وَقِيلَ صُحُف الْقُرْآن . وَالصَّوَاب أَنَّهُ عَامّ فِي جَمِيع مَا يُمْكِن أَنْ يُطْلَب مِنْ الْمَوَاعِين وَسَائِر الْمَرَافِق لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَذِنَ فِي مَسْأَلَتهنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب فِي حَاجَة تَعْرِض , أَوْ مَسْأَلَة يُسْتَفْتَيْنَ فِيهَا , وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ جَمِيع النِّسَاء بِالْمَعْنَى , وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ أُصُول الشَّرِيعَة مِنْ أَنَّ الْمَرْأَة كُلّهَا عَوْرَة , بَدَنهَا وَصَوْتهَا , كَمَا تَقَدَّمَ , فَلَا يَجُوز كَشْف ذَلِكَ إِلَّا لِحَاجَةٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا , أَوْ دَاء يَكُون بِبَدَنِهَا , أَوْ سُؤَالهَا عَمَّا يَعْرِض وَتَعَيَّنَ عِنْدهَا .
اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِأَخْذِ النَّاس عَنْ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاء حِجَاب عَلَى جَوَاز شَهَادَة الْأَعْمَى , وَبِأَنَّ الْأَعْمَى يَطَأ زَوْجَته بِمَعْرِفَتِهِ بِكَلَامِهَا . وَعَلَى إِجَازَة شَهَادَته أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ , وَلَمْ يُجِزْهَا أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا . قَالَ أَبُو حَنِيفَة : تَجُوز فِي الْأَنْسَاب . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تَجُوز إِلَّا فِيمَا رَآهُ قَبْل ذَهَاب بَصَره .
يُرِيد مِنْ الْخَوَاطِر الَّتِي تَعْرِض لِلرِّجَالِ فِي أَمْر النِّسَاء , وَلِلنِّسَاءِ فِي أَمْر الرِّجَال , أَيْ ذَلِكَ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ وَأَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ وَأَقْوَى فِي الْحِمَايَة . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَثِق بِنَفْسِهِ فِي الْخَلْوَة مَعَ مَنْ لَا تَحِلّ لَهُ ; فَإِنَّ مُجَانَبَة ذَلِكَ أَحْسَنُ لِحَالِهِ وَأَحْصَنُ لِنَفْسِهِ وَأَتَمُّ لِعِصْمَتِهِ .
هَذَا تَكْرَار لِلْعِلَّةِ وَتَأْكِيد لِحُكْمِهَا , وَتَأْكِيد الْعِلَل أَقْوَى فِي الْأَحْكَام .
رَوَى إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَيْد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة أَنَّ رَجُلًا قَالَ : لَوْ قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْت عَائِشَة , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه " الْآيَة . وَنَزَلَتْ : " وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ " [ الْأَحْزَاب 6 ] . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحْمَن : قَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ رَجُل مِنْ سَادَات قُرَيْش مِنْ الْعَشَرَة الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِرَاء - فِي نَفْسه - لَوْ تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَزَوَّجْت عَائِشَة , وَهِيَ بِنْت عَمِّي . قَالَ مُقَاتِل : هُوَ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَنَدِمَ هَذَا الرَّجُل عَلَى مَا حَدَّثَ بِهِ فِي نَفْسه , فَمَشَى إِلَى مَكَّة عَلَى رِجْلَيْهِ وَحَمَلَ عَلَى عَشَرَة أَفْرَاس فِي سَبِيل اللَّه , وَأَعْتَقَ رَقِيقًا فَكَفَّرَ اللَّه عَنْهُ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ بَعْض الصَّحَابَة قَالَ : لَوْ مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَزَوَّجْت عَائِشَة , فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأَذَّى بِهِ , هَكَذَا كَنَّى عَنْهُ اِبْن عَبَّاس بِبَعْضِ الصَّحَابَة . وَحَكَى مَكِّيّ عَنْ مَعْمَر أَنَّهُ قَالَ : هُوَ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه .
قُلْت : وَكَذَا حَكَى النَّحَّاس عَنْ مَعْمَر أَنَّهُ طَلْحَة , وَلَا يَصِحّ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : لِلَّهِ دَرّ اِبْن عَبَّاس ! وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحّ عَلَى طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه . قَالَ شَيْخنَا الْإِمَام أَبُو الْعَبَّاس : وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ بَعْض فُضَلَاء الصَّحَابَة , وَحَاشَاهُمْ عَنْ مِثْله ! وَالْكَذِب فِي نَقْله , وَإِنَّمَا يَلِيق مِثْل هَذَا الْقَوْل بِالْمُنَافِقِينَ الْجُهَّال . يُرْوَى أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَ حِين تَزَوَّجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ سَلَمَة بَعْد أَبِي سَلَمَة , وَحَفْصَة بَعْد خُنَيْس بْن حُذَافَة : مَا بَال مُحَمَّد يَتَزَوَّج نِسَاءَنَا ! وَاَللَّه لَوْ قَدْ مَاتَ لَأَجَلْنَا السِّهَام عَلَى نِسَائِهِ , فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي هَذَا , فَحَرَّمَ اللَّه نِكَاح أَزْوَاجه مِنْ بَعْده , وَجَعَلَ لَهُنَّ حُكْم الْأُمَّهَات . وَهَذَا مِنْ خَصَائِصه تَمْيِيزًا لِشَرَفِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَرْتَبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : وَأَزْوَاجه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ لَا يَحِلّ لِأَحَدٍ نِكَاحهنَّ , وَمَنْ اِسْتَحَلَّ ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجه مِنْ بَعْده أَبَدًا " . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ التَّزَوُّج بِزَوْجَاتِهِ , لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجه فِي الْجَنَّة , وَأَنَّ الْمَرْأَة فِي الْجَنَّة لِآخِرِ أَزْوَاجهَا . قَالَ حُذَيْفَة لِامْرَأَتِهِ : إِنْ سَرَّك أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الْجَنَّة إِنْ جَمَعَنَا اللَّه فِيهَا فَلَا تَزَوَّجِي مِنْ بَعْدِي , فَإِنَّ الْمَرْأَة لِآخِرِ أَزْوَاجهَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي ( كِتَاب التَّذْكِرَة ) مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد مَوْته , هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَمْ زَالَ النِّكَاح بِالْمَوْتِ , وَإِذَا زَالَ النِّكَاح بِالْمَوْتِ فَهَلْ عَلَيْهِنَّ عِدَّة أَمْ لَا ؟ فَقِيلَ : عَلَيْهِنَّ الْعِدَّة , لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ , وَالْعِدَّة عِبَادَة . وَقِيلَ : لَا عِدَّة عَلَيْهِنَّ , لِأَنَّهَا مُدَّة تَرَبُّص لَا يُنْتَظَر بِهَا الْإِبَاحَة . وَهُوَ الصَّحِيح , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة عِيَالِي ) وَرُوِيَ ( أَهْلِي ) وَهَذَا اِسْم خَاصّ بِالزَّوْجِيَّةِ , فَأَبْقَى عَلَيْهِنَّ النَّفَقَة وَالسُّكْنَى مُدَّة حَيَاتهنَّ لِكَوْنِهِنَّ نِسَاءَهُ , وَحُرِّمْنَ عَلَى غَيْره , وَهَذَا هُوَ مَعْنَى بَقَاء النِّكَاح . وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمَوْت فِي حَقّه عَلَيْهِ السَّلَام لَهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُغَيَّب فِي حَقّ غَيْره , لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ فِي الْآخِرَة قَطْعًا بِخِلَافِ سَائِر النَّاس , لِأَنَّ الرَّجُل لَا يُعْلَم كَوْنه مَعَ أَهْله فِي دَار وَاحِدَة , فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدهمَا فِي الْجَنَّة وَالْآخَر فِي النَّار , فَبِهَذَا اِنْقَطَعَ السَّبَب فِي حَقّ الْخَلْق وَبَقِيَ فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( زَوْجَاتِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ زَوْجَاتِي فِي الْآخِرَة ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( كُلّ سَبَب وَنَسَب يَنْقَطِع إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي فَإِنَّهُ بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . فَرْع - فَأَمَّا زَوْجَاته عَلَيْهِ السَّلَام اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاته مِثْل الْكَلْبِيَّة وَغَيْرهَا , فَهَلْ كَانَ يَحِلّ لِغَيْرِهِ نِكَاحهنَّ ؟ فِيهِ خِلَاف . وَالصَّحِيح جَوَاز ذَلِكَ , لَمَّا رُوِيَ أَنَّ الْكَلْبِيَّة الَّتِي فَارَقَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي تَزَوَّجَهَا الْأَشْعَث بْن قَيْس الْكِنْدِيّ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّب : الَّذِي تَزَوَّجَهَا مُهَاجِر بْن أَبِي أُمَيَّة , وَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ أَحَد , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاع .
قَدْ بَيَّنَّا سَبَب نُزُول الْحِجَاب مِنْ حَدِيث أَنَس وَقَوْل عُمَر , وَكَانَ يَقُول لِسَوْدَةَ إِذَا خَرَجَتْ وَكَانَتْ اِمْرَأَة طَوِيلَة : قَدْ رَأَيْنَاك يَا سَوْدَة , حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِل الْحِجَاب , فَأَنْزَلَ اللَّه آيَة الْحِجَاب . وَلَا بُعْد فِي نُزُول الْآيَة عِنْد هَذِهِ الْأَسْبَاب كُلّهَا - وَاَللَّه أَعْلَمُ - بَيْد أَنَّهُ لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش قَالَ : لَا يَشْهَد جِنَازَتهَا إِلَّا ذُو مَحْرَم مِنْهَا , مُرَاعَاة لِلْحِجَابِ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِهَا . فَدَلَّتْهُ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس عَلَى سِتْرهَا فِي النَّعْش فِي الْقُبَّة , وَأَعْلَمَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ ذَلِكَ فِي بِلَاد الْحَبَشَة فَصَنَعَهُ عُمَر . وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ صُنِعَ فِي جِنَازَة فَاطِمَة بِنْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
يَعْنِي أَذِيَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نِكَاح أَزْوَاجه , فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَة الْكَبَائِر وَلَا ذَنْب أَعْظَمُ مِنْهُ .
نُصِبَ عَلَى الْحَال , أَيْ لَا تَدْخُلُوا فِي هَذِهِ الْحَال . وَلَا يَجُوز فِي " غَيْر " الْخَفْض عَلَى النَّعْت لِلطَّعَامِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَعْتًا لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ إِظْهَار الْفَاعِلِينَ , وَكَانَ يَقُول : غَيْر نَاظِرِينَ إِنَاهُ أَنْتُمْ . وَنَظِير هَذَا مِنْ النَّحْو : هَذَا رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ مُلَازِمٌ لَهُ , وَإِنْ شِئْت قُلْت : هَذَا رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ مُلَازِمٍ لَهُ هُوَ . وَهَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ قِصَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : الْأَدَب فِي أَمْر الطَّعَام وَالْجُلُوس . وَالثَّانِيَة : أَمْر الْحِجَاب . وَقَالَ حَمَّاد بْن زَيْد : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الثُّقَلَاء . فَأَمَّا الْقِصَّة الْأُولَى فَالْجُمْهُور مِنْ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ : سَبَبهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَب بِنْت جَحْش اِمْرَأَة زَيْد أَوْلَمَ عَلَيْهَا , فَدَعَا النَّاس , فَلَمَّا طَعِمُوا جَلَسَ طَوَائِف مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجَته مُوَلِّيَة وَجْههَا إِلَى الْحَائِط , فَثَقُلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ أَنَس : فَمَا أَدْرِي أَأَنَا أَخْبَرْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَوْم قَدْ خَرَجُوا أَوْ أَخْبَرَنِي . قَالَ : فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْت , فَذَهَبْت أَدْخُل مَعَهُ فَأَلْقَى السِّتْر بَيْنِي وَبَيْنه وَنَزَلَ الْحِجَاب . قَالَ : وَوُعِظَ الْقَوْم بِمَا وُعِظُوا بِهِ , وَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ - إِلَى قَوْله - إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْد اللَّه عَظِيمًا " أَخْرَجَهُ الصَّحِيح . وَقَالَ قَتَادَة وَمُقَاتِل فِي كِتَاب الثَّعْلَبِيّ : إِنَّ هَذَا السَّبَب جَرَى فِي بَيْت أُمّ سَلَمَة . وَالْأَوَّل الصَّحِيح , كَمَا رَوَاهُ الصَّحِيح . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي نَاس مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ طَعَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ قَبْل أَنْ يُدْرِك الطَّعَام , فَيَقْعُدُونَ إِلَى أَنْ يُدْرِك , ثُمَّ يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ . وَقَالَ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي حَكِيم : وَهَذَا أَدَب أَدَّبَ اللَّه بِهِ الثُّقَلَاء . وَقَالَ اِبْن أَبِي عَائِشَة فِي كِتَاب الثَّعْلَبِيّ : حَسْبُك مِنْ الثُّقَلَاء أَنَّ الشَّرْع لَمْ يَحْتَمِلهُمْ . وَأَمَّا قِصَّة الْحِجَاب فَقَالَ أَنَس بْن مَالِك وَجَمَاعَة : سَبَبهَا أَمْر الْقُعُود فِي بَيْت زَيْنَب , الْقِصَّة الْمَذْكُورَة آنِفًا . وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَجَمَاعَة : سَبَبهَا أَنَّ عُمَر قَالَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ نِسَاءَك يَدْخُل عَلَيْهِنَّ الْبَرّ وَالْفَاجِر , فَلَوْ أَمَرْتهنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ , فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَرَوَى الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ عُمَر : وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث : فِي مَقَام إِبْرَاهِيم , وَفِي الْحِجَاب , وَفِي أُسَارَى بَدْر . هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي أَمْر الْحِجَاب , وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ الْأَقْوَال وَالرِّوَايَات فَوَاهِيَة , لَا يَقُوم شَيْء مِنْهَا عَلَى سَاق , وَأَضْعَفُهَا مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود : أَنَّ عُمَر أَمَرَ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ , فَقَالَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش : يَا بْن الْخَطَّاب , إِنَّك تَغَار عَلَيْنَا وَالْوَحْي يَنْزِل فِي بُيُوتنَا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب " وَهَذَا بَاطِل , لِأَنَّ الْحِجَاب نَزَلَ يَوْم الْبِنَاء بِزَيْنَب , كَمَا بَيَّنَّاهُ . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمْ . وَقِيلَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطْعَم وَمَعَهُ بَعْض أَصْحَابه , فَأَصَابَ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَ عَائِشَة , فَكَرِهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكَانَتْ سِيرَة الْقَوْم إِذَا كَانَ لَهُمْ طَعَام وَلِيمَة أَوْ نَحْوه أَنْ يُبَكِّر مَنْ شَاءَ إِلَى الدَّعْوَة يَنْتَظِرُونَ طَبْخ الطَّعَام وَنُضْجه . وَكَذَلِكَ إِذَا فَرَغُوا مِنْهُ جَلَسُوا كَذَلِكَ , فَنَهَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَمْثَال ذَلِكَ فِي بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَدَخَلَ فِي النَّهْي سَائِر الْمُؤْمِنِينَ , وَالْتَزَمَ النَّاس أَدَب اللَّه تَعَالَى لَهُمْ فِي ذَلِكَ , فَمَنَعَهُمْ مِنْ الدُّخُول إِلَّا بِإِذْنٍ عِنْد الْأَكْل , لَا قَبْله لِانْتِظَارِ نُضْج الطَّعَام .
قَوْله تَعَالَى : " بُيُوت النَّبِيّ " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبَيْت لِلرَّجُلِ , وَيُحْكَم لَهُ بِهِ , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتكُنَّ مِنْ آيَات اللَّه وَالْحِكْمَة إِنَّ اللَّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا " [ الْأَحْزَاب : 34 ] قُلْنَا : إِضَافَة الْبُيُوت إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِضَافَة مِلْك , وَإِضَافَة الْبُيُوت إِلَى الْأَزْوَاج إِضَافَة مَحَلّ , بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الْإِذْن لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِذْن إِنَّمَا يَكُون لِلْمَالِكِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي بُيُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ يَسْكُن فِيهَا أَهْله بَعْد مَوْته , هَلْ هِيَ مِلْك لَهُنَّ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَتْ طَائِفَة : كَانَتْ مِلْكًا لَهُنَّ , بِدَلِيلِ أَنَّهُنَّ سَكَنَّ فِيهَا بَعْد مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَفَاتهنَّ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَ ذَلِكَ لَهُنَّ فِي حَيَاته . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِسْكَانًا كَمَا يُسْكِن الرَّجُل أَهْله وَلَمْ يَكُنْ هِبَة , وَتَمَادَى سُكْنَاهُنَّ بِهَا إِلَى الْمَوْت . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , وَهُوَ الَّذِي اِرْتَضَاهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ وَابْن الْعَرَبِيّ وَغَيْرهمْ , فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَئُونَتهنَّ الَّتِي كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَثْنَاهَا لَهُنَّ , كَمَا اِسْتَثْنَى لَهُنَّ نَفَقَاتهنَّ حِين قَالَ : ( لَا تَقْتَسِم وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا , مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة أَهْلِي وَمَئُونَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة ) . هَكَذَا قَالَ أَهْل الْعِلْم , قَالُوا : وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَسَاكِنهنَّ لَمْ يَرِثهَا عَنْهُنَّ وَرَثَتهنَّ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُنَّ كَانَ لَا شَكَّ قَدْ وَرِثَهُ عَنْهُنَّ وَرَثَتهنَّ . قَالُوا : وَفِي تَرْك وَرَثَتهنَّ ذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُنَّ مِلْكًا . وَإِنَّمَا كَانَ لَهُنَّ سَكَن حَيَاتهنَّ , فَلَمَّا تُوُفِّينَ جُعِلَ ذَلِكَ زِيَادَة فِي الْمَسْجِد الَّذِي يَعُمّ الْمُسْلِمِينَ نَفْعه , كَمَا جُعِلَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ لَهُنَّ مِنْ النَّفَقَات فِي تَرِكَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَضَيْنَ لِسَبِيلِهِنَّ , فَزِيدَ إِلَى أَصْل الْمَال فَصُرِفَ فِي مَنَافِع الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَعُمّ جَمِيعهمْ نَفْعُهُ . وَاَللَّه الْمُوَفِّق . قَوْله تَعَالَى : " غَيْر نَاظِرِينَ إِنَاهُ " أَيْ غَيْر مُنْتَظِرِينَ وَقْت نُضْجه . و " إِنَاهُ " مَقْصُور , وَفِيهِ لُغَات : " إِنَى " بِكَسْرِ الْهَمْزَة . قَالَ الشَّيْبَانِيّ : وَكِسْرَى إِذْ تَقَسَّمَهُ بَنُوهُ بِأَسْيَافٍ كَمَا اُقْتُسِمَ اللِّحَام تَمَخَّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ أَنَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة : " غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ " . مَجْرُورًا صِفَة لِـ " ـطَعَام " . الزَّمَخْشَرِيّ : وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ , لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْر مَا هُوَ لَهُ , فَمِنْ حَقّ ضَمِير مَا هُوَ لَهُ أَنْ يَبْرُز إِلَى اللَّفْظ , فَيُقَال : غَيْر نَاظِرِينَ إِنَاهُ أَنْتُمْ , كَقَوْلِك : هِنْد زَيْد ضَارِبَته هِيَ . وَأَنَى ( بِفَتْحِهَا ) , وَأَنَاء ( بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْمَدّ ) قَالَ الْحُطَيْئَة : وَأَخَّرْت الْعَشَاء إِلَى سُهَيْل أَوْ الشِّعْرَى فَطَالَ بِيَ الْأَنَاء يَعْنِي إِلَى طُلُوع سُهَيْل . وَإِنَاه مَصْدَر أَنَى الشَّيْء يَأْنِي إِذَا فَرَغَ وَحَانَ وَأَدْرَكَ .
فَأَكَّدَ الْمَنْع , وَخَصَّ وَقْت الدُّخُول بِأَنْ يَكُون عِنْد الْإِذْن عَلَى جِهَة الْأَدَب , وَحِفْظ الْحَضْرَة الْكَرِيمَة مِنْ الْمُبَاسَطَة الْمَكْرُوهَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَتَقْدِير الْكَلَام : وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ وَأُذِنَ لَكُمْ فِي الدُّخُول فَادْخُلُوا , وَإِلَّا فَنَفْس الدَّعْوَة لَا تَكُون إِذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُول . وَالْفَاء فِي جَوَاب " إِذَا " لَازِمَة لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُجَازَاة .
أَمَرَ تَعَالَى بَعْد الْإِطْعَام بِأَنْ يَتَفَرَّق جَمِيعهمْ وَيَنْتَشِرُوا . وَالْمُرَاد إِلْزَام الْخُرُوج مِنْ الْمَنْزِل عِنْد اِنْقِضَاء الْمَقْصُود مِنْ الْأَكْل . وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُول حَرَام , وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْأَكْل , فَإِذَا اِنْقَضَى الْأَكْل زَالَ السَّبَب الْمُبِيح وَعَادَ التَّحْرِيم إِلَى أَصْله .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الضَّيْف يَأْكُل عَلَى مِلْك الْمُضِيف لَا عَلَى مِلْك نَفْسه , لِأَنَّهُ قَالَ : " فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا " فَلَمْ يَجْعَل لَهُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْل , وَلَا أَضَافَ إِلَيْهِ سِوَاهُ , وَبَقِيَ الْمِلْك عَلَى أَصْله .
عَطْف عَلَى قَوْله : " غَيْر نَاظِرِينَ " و " غَيْر " مَنْصُوبَة عَلَى الْحَال مِنْ الْكَاف وَالْمِيم فِي " لَكُمْ " أَيْ غَيْر نَاظِرِينَ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ , وَالْمَعْنَى الْمَقْصُود : لَا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ كَمَا فَعَلَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلِيمَة زَيْنَب .
أَيْ لَا يَمْتَنِع مِنْ بَيَانه وَإِظْهَاره . وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقَع مِنْ الْبَشَر لِعِلَّةِ الِاسْتِحْيَاء نُفِيَ عَنْ اللَّه تَعَالَى الْعِلَّة الْمُوجِبَة لِذَلِكَ فِي الْبَشَر . وَفِي الصَّحِيح عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : جَاءَتْ أُمّ سُلَيْم إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ اللَّه لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقّ , فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَة مِنْ غُسْل إِذَا اِحْتَلَمَتْ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَأَتْ الْمَاء ) .
رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ عُمَر : وَافَقْت رَبِّي فِي أَرْبَع ... , الْحَدِيث . وَفِيهِ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , لَوْ ضَرَبْت عَلَى نِسَائِك الْحِجَاب , فَإِنَّهُ يَدْخُل عَلَيْهِنَّ الْبَرّ وَالْفَاجِر , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب " .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَتَاع , فَقِيلَ : مَا يُتَمَتَّع بِهِ مِنْ الْعَوَارِيّ وَقِيلَ فَتْوَى . وَقِيلَ صُحُف الْقُرْآن . وَالصَّوَاب أَنَّهُ عَامّ فِي جَمِيع مَا يُمْكِن أَنْ يُطْلَب مِنْ الْمَوَاعِين وَسَائِر الْمَرَافِق لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا .
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَذِنَ فِي مَسْأَلَتهنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب فِي حَاجَة تَعْرِض , أَوْ مَسْأَلَة يُسْتَفْتَيْنَ فِيهَا , وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ جَمِيع النِّسَاء بِالْمَعْنَى , وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ أُصُول الشَّرِيعَة مِنْ أَنَّ الْمَرْأَة كُلّهَا عَوْرَة , بَدَنهَا وَصَوْتهَا , كَمَا تَقَدَّمَ , فَلَا يَجُوز كَشْف ذَلِكَ إِلَّا لِحَاجَةٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا , أَوْ دَاء يَكُون بِبَدَنِهَا , أَوْ سُؤَالهَا عَمَّا يَعْرِض وَتَعَيَّنَ عِنْدهَا .
اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِأَخْذِ النَّاس عَنْ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاء حِجَاب عَلَى جَوَاز شَهَادَة الْأَعْمَى , وَبِأَنَّ الْأَعْمَى يَطَأ زَوْجَته بِمَعْرِفَتِهِ بِكَلَامِهَا . وَعَلَى إِجَازَة شَهَادَته أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ , وَلَمْ يُجِزْهَا أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا . قَالَ أَبُو حَنِيفَة : تَجُوز فِي الْأَنْسَاب . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تَجُوز إِلَّا فِيمَا رَآهُ قَبْل ذَهَاب بَصَره .
يُرِيد مِنْ الْخَوَاطِر الَّتِي تَعْرِض لِلرِّجَالِ فِي أَمْر النِّسَاء , وَلِلنِّسَاءِ فِي أَمْر الرِّجَال , أَيْ ذَلِكَ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ وَأَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ وَأَقْوَى فِي الْحِمَايَة . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَثِق بِنَفْسِهِ فِي الْخَلْوَة مَعَ مَنْ لَا تَحِلّ لَهُ ; فَإِنَّ مُجَانَبَة ذَلِكَ أَحْسَنُ لِحَالِهِ وَأَحْصَنُ لِنَفْسِهِ وَأَتَمُّ لِعِصْمَتِهِ .
هَذَا تَكْرَار لِلْعِلَّةِ وَتَأْكِيد لِحُكْمِهَا , وَتَأْكِيد الْعِلَل أَقْوَى فِي الْأَحْكَام .
رَوَى إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَيْد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة أَنَّ رَجُلًا قَالَ : لَوْ قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْت عَائِشَة , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه " الْآيَة . وَنَزَلَتْ : " وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ " [ الْأَحْزَاب 6 ] . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحْمَن : قَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ رَجُل مِنْ سَادَات قُرَيْش مِنْ الْعَشَرَة الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِرَاء - فِي نَفْسه - لَوْ تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَزَوَّجْت عَائِشَة , وَهِيَ بِنْت عَمِّي . قَالَ مُقَاتِل : هُوَ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَنَدِمَ هَذَا الرَّجُل عَلَى مَا حَدَّثَ بِهِ فِي نَفْسه , فَمَشَى إِلَى مَكَّة عَلَى رِجْلَيْهِ وَحَمَلَ عَلَى عَشَرَة أَفْرَاس فِي سَبِيل اللَّه , وَأَعْتَقَ رَقِيقًا فَكَفَّرَ اللَّه عَنْهُ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ بَعْض الصَّحَابَة قَالَ : لَوْ مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَزَوَّجْت عَائِشَة , فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأَذَّى بِهِ , هَكَذَا كَنَّى عَنْهُ اِبْن عَبَّاس بِبَعْضِ الصَّحَابَة . وَحَكَى مَكِّيّ عَنْ مَعْمَر أَنَّهُ قَالَ : هُوَ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه .
قُلْت : وَكَذَا حَكَى النَّحَّاس عَنْ مَعْمَر أَنَّهُ طَلْحَة , وَلَا يَصِحّ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : لِلَّهِ دَرّ اِبْن عَبَّاس ! وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحّ عَلَى طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه . قَالَ شَيْخنَا الْإِمَام أَبُو الْعَبَّاس : وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ بَعْض فُضَلَاء الصَّحَابَة , وَحَاشَاهُمْ عَنْ مِثْله ! وَالْكَذِب فِي نَقْله , وَإِنَّمَا يَلِيق مِثْل هَذَا الْقَوْل بِالْمُنَافِقِينَ الْجُهَّال . يُرْوَى أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَ حِين تَزَوَّجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ سَلَمَة بَعْد أَبِي سَلَمَة , وَحَفْصَة بَعْد خُنَيْس بْن حُذَافَة : مَا بَال مُحَمَّد يَتَزَوَّج نِسَاءَنَا ! وَاَللَّه لَوْ قَدْ مَاتَ لَأَجَلْنَا السِّهَام عَلَى نِسَائِهِ , فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي هَذَا , فَحَرَّمَ اللَّه نِكَاح أَزْوَاجه مِنْ بَعْده , وَجَعَلَ لَهُنَّ حُكْم الْأُمَّهَات . وَهَذَا مِنْ خَصَائِصه تَمْيِيزًا لِشَرَفِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَرْتَبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : وَأَزْوَاجه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ لَا يَحِلّ لِأَحَدٍ نِكَاحهنَّ , وَمَنْ اِسْتَحَلَّ ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجه مِنْ بَعْده أَبَدًا " . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ التَّزَوُّج بِزَوْجَاتِهِ , لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجه فِي الْجَنَّة , وَأَنَّ الْمَرْأَة فِي الْجَنَّة لِآخِرِ أَزْوَاجهَا . قَالَ حُذَيْفَة لِامْرَأَتِهِ : إِنْ سَرَّك أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الْجَنَّة إِنْ جَمَعَنَا اللَّه فِيهَا فَلَا تَزَوَّجِي مِنْ بَعْدِي , فَإِنَّ الْمَرْأَة لِآخِرِ أَزْوَاجهَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي ( كِتَاب التَّذْكِرَة ) مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد مَوْته , هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَمْ زَالَ النِّكَاح بِالْمَوْتِ , وَإِذَا زَالَ النِّكَاح بِالْمَوْتِ فَهَلْ عَلَيْهِنَّ عِدَّة أَمْ لَا ؟ فَقِيلَ : عَلَيْهِنَّ الْعِدَّة , لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ , وَالْعِدَّة عِبَادَة . وَقِيلَ : لَا عِدَّة عَلَيْهِنَّ , لِأَنَّهَا مُدَّة تَرَبُّص لَا يُنْتَظَر بِهَا الْإِبَاحَة . وَهُوَ الصَّحِيح , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة عِيَالِي ) وَرُوِيَ ( أَهْلِي ) وَهَذَا اِسْم خَاصّ بِالزَّوْجِيَّةِ , فَأَبْقَى عَلَيْهِنَّ النَّفَقَة وَالسُّكْنَى مُدَّة حَيَاتهنَّ لِكَوْنِهِنَّ نِسَاءَهُ , وَحُرِّمْنَ عَلَى غَيْره , وَهَذَا هُوَ مَعْنَى بَقَاء النِّكَاح . وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمَوْت فِي حَقّه عَلَيْهِ السَّلَام لَهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُغَيَّب فِي حَقّ غَيْره , لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ فِي الْآخِرَة قَطْعًا بِخِلَافِ سَائِر النَّاس , لِأَنَّ الرَّجُل لَا يُعْلَم كَوْنه مَعَ أَهْله فِي دَار وَاحِدَة , فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدهمَا فِي الْجَنَّة وَالْآخَر فِي النَّار , فَبِهَذَا اِنْقَطَعَ السَّبَب فِي حَقّ الْخَلْق وَبَقِيَ فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( زَوْجَاتِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ زَوْجَاتِي فِي الْآخِرَة ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( كُلّ سَبَب وَنَسَب يَنْقَطِع إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي فَإِنَّهُ بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . فَرْع - فَأَمَّا زَوْجَاته عَلَيْهِ السَّلَام اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاته مِثْل الْكَلْبِيَّة وَغَيْرهَا , فَهَلْ كَانَ يَحِلّ لِغَيْرِهِ نِكَاحهنَّ ؟ فِيهِ خِلَاف . وَالصَّحِيح جَوَاز ذَلِكَ , لَمَّا رُوِيَ أَنَّ الْكَلْبِيَّة الَّتِي فَارَقَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي تَزَوَّجَهَا الْأَشْعَث بْن قَيْس الْكِنْدِيّ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّب : الَّذِي تَزَوَّجَهَا مُهَاجِر بْن أَبِي أُمَيَّة , وَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ أَحَد , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاع .
قَدْ بَيَّنَّا سَبَب نُزُول الْحِجَاب مِنْ حَدِيث أَنَس وَقَوْل عُمَر , وَكَانَ يَقُول لِسَوْدَةَ إِذَا خَرَجَتْ وَكَانَتْ اِمْرَأَة طَوِيلَة : قَدْ رَأَيْنَاك يَا سَوْدَة , حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِل الْحِجَاب , فَأَنْزَلَ اللَّه آيَة الْحِجَاب . وَلَا بُعْد فِي نُزُول الْآيَة عِنْد هَذِهِ الْأَسْبَاب كُلّهَا - وَاَللَّه أَعْلَمُ - بَيْد أَنَّهُ لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش قَالَ : لَا يَشْهَد جِنَازَتهَا إِلَّا ذُو مَحْرَم مِنْهَا , مُرَاعَاة لِلْحِجَابِ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِهَا . فَدَلَّتْهُ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس عَلَى سِتْرهَا فِي النَّعْش فِي الْقُبَّة , وَأَعْلَمَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ ذَلِكَ فِي بِلَاد الْحَبَشَة فَصَنَعَهُ عُمَر . وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ صُنِعَ فِي جِنَازَة فَاطِمَة بِنْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
يَعْنِي أَذِيَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نِكَاح أَزْوَاجه , فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَة الْكَبَائِر وَلَا ذَنْب أَعْظَمُ مِنْهُ .
الْبَارِئ سُبْحَانه وَتَعَالَى عَالِم بِمَا بَدَا وَمَا خَفِيَ وَمَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ , لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَاضٍ تَقَضَّى , وَلَا مُسْتَقْبَل يَأْتِي . وَهَذَا عَلَى الْعُمُوم تَمَدُّح بِهِ , وَهُوَ أَهْل الْمَدْح وَالْحَمْد . وَالْمُرَاد بِهِ هَاهُنَا التَّوْبِيخ وَالْوَعِيد لِمَنْ تَقَدَّمَ التَّعْرِيض بِهِ فِي الْآيَة قَبْلهَا , مِمَّنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ : " ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبهنَّ " , وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْله : " وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجه مِنْ بَعْده أَبَدًا " فَقِيلَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة : إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَعْلَم مَا تُخْفُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمُعْتَقَدَات وَالْخَوَاطِر الْمَكْرُوهَة وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا . فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَة مُنْعَطِفَة عَلَى مَا قَبْلهَا مُبَيِّنَة لَهَا . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
لّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ↓
لَمَّا نَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب قَالَ الْآبَاء وَالْأَبْنَاء وَالْأَقَارِب لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَنَحْنُ أَيْضًا نُكَلِّمهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة .
ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة مَنْ يَحِلّ لِلْمَرْأَةِ الْبُرُوز لَهُ , وَلَمْ يَذْكُر الْعَمّ وَالْخَال لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَالِدَيْنِ . وَقَدْ يُسَمَّى الْعَمُّ أَبًا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " نَعْبُد إِلَهك وَإِلَه آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل " [ الْبَقَرَة : 133 ] وَإِسْمَاعِيل كَانَ الْعَمّ . قَالَ الزَّجَّاج : الْعَمّ وَالْخَال رُبَّمَا يَصِفَانِ الْمَرْأَة لِوَلَدَيْهِمَا , فَإِنَّ الْمَرْأَة تَحِلّ لِابْنِ الْعَمّ وَابْن الْخَال فَكُرِهَ لَهُمَا الرُّؤْيَة . وَقَدْ كَرِهَ الشَّعْبِيّ وَعِكْرِمَة أَنْ تَضَع الْمَرْأَة خِمَارهَا عِنْد عَمّهَا أَوْ خَالهَا . وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْض الْمَحَارِم وَذُكِرَ الْجَمِيع فِي سُورَة " النُّور " , فَهَذِهِ الْآيَة بَعْض تِلْكَ , وَقَدْ مَضَى الْكَلَام هُنَاكَ مُسْتَوْفًى , وَالْحَمْد لِلَّهِ .
لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الرُّخْصَة فِي هَذِهِ الْأَصْنَاف وَانْجَزَمَتْ الْإِبَاحَة , عَطَفَ بِأَمْرِهِنَّ بِالتَّقْوَى عَطْف جُمْلَة . وَهَذَا فِي غَايَة الْبَلَاغَة وَالْإِيجَاز , كَأَنَّهُ قَالَ : اِقْتَصِرْنَ عَلَى هَذَا وَاتَّقِينَ اللَّه فِيهِ أَنْ تَتَعَدَّيْنَهُ إِلَى غَيْره . وَخَصَّ النِّسَاء بِالذِّكْرِ وَعَيَّنَهُنَّ فِي هَذَا الْأَمْر , لِقِلَّةِ تَحَفُّظهنَّ وَكَثْرَة اِسْتِرْسَالهنَّ . وَاَللَّه أَعْلَمُ
تَوَعَّدَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : " إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَى كُلّ شَيْء شَهِيدًا " .
ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة مَنْ يَحِلّ لِلْمَرْأَةِ الْبُرُوز لَهُ , وَلَمْ يَذْكُر الْعَمّ وَالْخَال لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَالِدَيْنِ . وَقَدْ يُسَمَّى الْعَمُّ أَبًا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " نَعْبُد إِلَهك وَإِلَه آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل " [ الْبَقَرَة : 133 ] وَإِسْمَاعِيل كَانَ الْعَمّ . قَالَ الزَّجَّاج : الْعَمّ وَالْخَال رُبَّمَا يَصِفَانِ الْمَرْأَة لِوَلَدَيْهِمَا , فَإِنَّ الْمَرْأَة تَحِلّ لِابْنِ الْعَمّ وَابْن الْخَال فَكُرِهَ لَهُمَا الرُّؤْيَة . وَقَدْ كَرِهَ الشَّعْبِيّ وَعِكْرِمَة أَنْ تَضَع الْمَرْأَة خِمَارهَا عِنْد عَمّهَا أَوْ خَالهَا . وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْض الْمَحَارِم وَذُكِرَ الْجَمِيع فِي سُورَة " النُّور " , فَهَذِهِ الْآيَة بَعْض تِلْكَ , وَقَدْ مَضَى الْكَلَام هُنَاكَ مُسْتَوْفًى , وَالْحَمْد لِلَّهِ .
لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الرُّخْصَة فِي هَذِهِ الْأَصْنَاف وَانْجَزَمَتْ الْإِبَاحَة , عَطَفَ بِأَمْرِهِنَّ بِالتَّقْوَى عَطْف جُمْلَة . وَهَذَا فِي غَايَة الْبَلَاغَة وَالْإِيجَاز , كَأَنَّهُ قَالَ : اِقْتَصِرْنَ عَلَى هَذَا وَاتَّقِينَ اللَّه فِيهِ أَنْ تَتَعَدَّيْنَهُ إِلَى غَيْره . وَخَصَّ النِّسَاء بِالذِّكْرِ وَعَيَّنَهُنَّ فِي هَذَا الْأَمْر , لِقِلَّةِ تَحَفُّظهنَّ وَكَثْرَة اِسْتِرْسَالهنَّ . وَاَللَّه أَعْلَمُ
تَوَعَّدَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : " إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَى كُلّ شَيْء شَهِيدًا " .
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ↑
هَذِهِ الْآيَة شَرَّفَ اللَّه بِهَا رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام حَيَاته وَمَوْته , وَذَكَرَ مَنْزِلَته مِنْهُ , وَطَهَّرَ بِهَا سُوء فِعْل مَنْ اِسْتَصْحَبَ فِي جِهَته فِكْرَة سُوء , أَوْ فِي أَمْر زَوْجَاته وَنَحْو ذَلِكَ . وَالصَّلَاة مِنْ اللَّه رَحْمَته وَرِضْوَانه , وَمِنْ الْمَلَائِكَة الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار , وَمِنْ الْأُمَّة الدُّعَاء وَالتَّعْظِيم لِأَمْرِهِ . مَسْأَلَة :
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الضَّمِير فِي قَوْله : " يُصَلُّونَ " فَقَالَتْ فِرْقَة : الضَّمِير فِيهِ لِلَّهِ وَالْمَلَائِكَة , وَهَذَا قَوْل مِنْ اللَّه تَعَالَى شَرَّفَ بِهِ مَلَائِكَته , فَلَا يَصْحَبهُ الِاعْتِرَاض الَّذِي جَاءَ فِي قَوْل الْخَطِيب : مَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ رَشَدَ , وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى . فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ , قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُوله ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيح . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْمَع ذِكْر اللَّه تَعَالَى مَعَ غَيْره فِي ضَمِير , وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَل فِي ذَلِكَ مَا يَشَاء . وَقَالَتْ فِرْقَة : فِي الْكَلَام حَذْف , تَقْدِيره إِنَّ اللَّه يُصَلِّي وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ , وَلَيْسَ فِي الْآيَة اِجْتِمَاع فِي ضَمِير , وَذَلِكَ جَائِز لِلْبَشَرِ فِعْله . وَلَمْ يَقُلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ ) لِهَذَا الْمَعْنَى , وَإِنَّمَا قَالَ لِأَنَّ الْخَطِيب وَقَفَ عَلَى وَمَنْ يَعْصِهِمَا , وَسَكَتَ سَكْتَة . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله وَمَنْ يَعْصِهِمَا . فَقَالَ : ( قُمْ - أَوْ اِذْهَبْ - بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ ) . إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون لَمَّا خَطَّأَهُ فِي وَقْفه وَقَالَ لَهُ : ( بِئْسَ الْخَطِيب ) أَصْلَحَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ جَمِيع كَلَامه , فَقَالَ : ( قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُوله ) كَمَا فِي كِتَاب مُسْلِم . وَهُوَ يُؤَيِّد الْقَوْل الْأَوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يَقِف عَلَى " وَمَنْ يَعْصِهِمَا " . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس : " وَمَلَائِكَتُهُ " بِالرَّفْعِ عَلَى مَوْضِع اِسْم اللَّه قَبْل دُخُول " إِنَّ " . وَالْجُمْهُور بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَكْتُوبَة .
فِيهِ أَرْبَعَة مَسَائِل : الْأُولَى : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى عِبَاده بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون أَنْبِيَائِهِ تَشْرِيفًا لَهُ , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ الصَّلَاة عَلَيْهِ فَرْض فِي الْعُمُر مَرَّة , وَفِي كُلّ حِين مِنْ الْوَاجِبَات وُجُوب السُّنَن الْمُؤَكَّدَة الَّتِي لَا يَسَع تَرْكهَا وَلَا يَغْفُلهَا إِلَّا مَنْ لَا خَيْر فِيهِ . الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت الصَّلَاة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَة أَمْ مَنْدُوب إِلَيْهَا ؟ قُلْت : بَلْ وَاجِبَة . وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي حَال وُجُوبهَا , فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْره . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ ذُكِرْت عِنْده فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فَدَخَلَ النَّار فَأَبْعَدَهُ اللَّه ) . وَيُرْوَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه , أَرَأَيْت قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ اللَّه وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ " فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذَا مِنْ الْعِلْم الْمَكْنُون وَلَوْلَا أَنَّكُمْ سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّه تَعَالَى وَكَّلَ بِي مَلَكَيْنِ فَلَا أُذْكَر عِنْد مُسْلِم فَيُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا قَالَ ذَلِكَ الْمَلَكَانِ غَفَرَ . اللَّه لَك وَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَته جَوَابًا لِذَيْنِك الْمَلَكَيْنِ آمِينَ . وَلَا أُذْكَر عِنْد عَبْد مُسْلِم فَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا قَالَ ذَلِكَ الْمَلَكَانِ لَا غَفَرَ اللَّه لَك وَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَته لِذَيْنِك الْمَلَكَيْنِ آمِينَ ) . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَجِب فِي كُلّ مَجْلِس مَرَّة وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْره , كَمَا قَالَ فِي آيَة السَّجْدَة وَتَشْمِيت الْعَاطِس . وَكَذَلِكَ فِي كُلّ دُعَاء فِي أَوَّله وَآخِره وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي الْعُمُر . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي إِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ . وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه الِاحْتِيَاط : الصَّلَاة عِنْد كُلّ ذِكْر , لِمَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَار فِي ذَلِكَ .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي صِفَة الصَّلَاة عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَى مَالِك عَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَتَانَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَجْلِس سَعْد بْن عُبَادَة , فَقَالَ لَهُ بَشِير بْن سَعْد : أَمَرَنَا اللَّه أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك يَا رَسُول اللَّه , فَكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلهُ , ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم فِي الْعَالَمِينَ إِنَّك حَمِيد مَجِيد وَالسَّلَام كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ طَلْحَة مِثْله , بِإِسْقَاطِ قَوْله : ( فِي الْعَالَمِينَ ) وَقَوْله : ( وَالسَّلَام كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ ) . وَفِي الْبَاب عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة وَأَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأَبِي هُرَيْرَة وَبُرَيْدَة الْخُزَاعِيّ وَزَيْد بْن خَارِجَة , وَيُقَال اِبْن حَارِثَة أَخْرَجَهَا أَئِمَّة أَهْل الْحَدِيث فِي كُتُبهمْ . وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث كَعْب بْن عُجْرَة . خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه مَعَ حَدِيث أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : رَوَى شُعْبَة وَالثَّوْرِيّ عَنْ الْحَكَم بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة قَالَ : لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , هَذَا السَّلَام عَلَيْك قَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْف الصَّلَاة ؟ فَقَالَ : ( قُلْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد ) وَهَذَا لَفْظ حَدِيث الثَّوْرِيّ لَا حَدِيث شُعْبَة وَهُوَ يَدْخُل فِي التَّفْسِير الْمُسْنَد إِلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " فَبَيَّنَ كَيْف الصَّلَاة عَلَيْهِ وَعَلَّمَهُمْ فِي التَّحِيَّات كَيْف السَّلَام عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْله : ( السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته ) . وَرَوَى الْمَسْعُودِيّ عَنْ عَوْن بْن عَبْد اللَّه عَنْ أَبِي فَاخِتَة عَنْ الْأَسْوَد عَنْ عَبْد اللَّه أَنَّهُ قَالَ : إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسِنُوا الصَّلَاة عَلَيْهِ , فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَض عَلَيْهِ . قَالُوا فَعَلَّمَنَا , قَالَ : ( قُولُوا اللَّهُمَّ اِجْعَلْ صَلَوَاتك وَرَحْمَتك وَبَرَكَاتك عَلَى سَيِّد الْمُرْسَلِينَ وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وَخَاتَم النَّبِيِّينَ مُحَمَّد عَبْدك وَنَبِيّك وَرَسُولك إِمَام الْخَيْر وَقَائِد الْخَيْر وَرَسُول الرَّحْمَة . اللَّهُمَّ اِبْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد ) . وَرَوَيْنَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِل فِي كِتَاب ( الشِّفَا ) لِلْقَاضِي عِيَاض عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : عَدَّهُنَّ فِي يَدِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( عَدَّهُنَّ فِي يَدِي جِبْرِيلُ وَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ مِنْ عِنْد رَبّ الْعِزَّة اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا تَرَحَّمْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا تَحَنَّنْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَات صَحِيح وَمِنْهَا سَقِيم , وَأَصَحُّهَا مَا رَوَاهُ مَالِك فَاعْتَمِدُوهُ . وَرِوَايَة غَيْر مَالِك مِنْ زِيَادَة الرَّحْمَة مَعَ الصَّلَاة وَغَيْرهَا لَا يَقْوَى , وَإِنَّمَا عَلَى النَّاس أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَدْيَانهمْ نَظَرَهُمْ فِي أَمْوَالهمْ , وَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيْع دِينَارًا مَعِيبًا , وَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ السَّالِم الطَّيِّب , كَذَلِكَ لَا يُؤْخَذ مِنْ الرِّوَايَات عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَدُهُ , لِئَلَّا يَدْخُل فِي حَيِّز الْكَذِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطْلُب الْفَضْل إِذَا بِهِ قَدْ أَصَابَ النَّقْص , بَلْ رُبَّمَا أَصَابَ الْخُسْرَان الْمُبِين .
الثَّالِثَة : فِي فَضْل الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ) . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : الصَّلَاة عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْعِبَادَات , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى تَوَلَّاهَا هُوَ وَمَلَائِكَته , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ , وَسَائِر الْعِبَادَات لَيْسَ كَذَلِكَ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَل اللَّه حَاجَة فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ يَسْأَل اللَّه حَاجَته , ثُمَّ يَخْتِم بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَل الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدّ مَا بَيْنهمَا . وَرَوَى سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الدُّعَاء يُحْجَب دُون السَّمَاء حَتَّى يُصَلَّى عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا جَاءَتْ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الدُّعَاء . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَسَلَّمَ عَلَيَّ فِي كِتَاب لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَة يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مَا دَامَ اِسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَاب ) .
الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاة , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمّ الْغَفِير وَالْجُمْهُور الْكَثِير : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَن الصَّلَاة وَمُسْتَحَبَّاتهَا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يُسْتَحَبّ أَلَّا يُصَلِّي أَحَد صَلَاة إِلَّا صَلَّى فِيهَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ تَارِك فَصَلَاته مُجْزِيَة فِي مَذَاهِب مَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَهْل الْكُوفَة مِنْ أَصْحَاب الرَّأْي وَغَيْرهمْ . وَهُوَ قَوْل جُلّ أَهْل الْعِلْم . وَحُكِيَ عَنْ مَالِك وَسُفْيَان أَنَّهَا فِي التَّشَهُّد الْأَخِير مُسْتَحَبَّة , وَأَنَّ تَارِكهَا فِي التَّشَهُّد مُسِيء وَشَذَّ الشَّافِعِيّ فَأَوْجَبَ عَلَى تَارِكهَا فِي الصَّلَاة الْإِعَادَةَ وَأَوْجَبَ إِسْحَاق الْإِعَادَة مَعَ تَعَمُّد تَرْكهَا دُون النِّسْيَان . وَقَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ الشَّافِعِيّ إِذَا لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّد الْأَخِير بَعْد التَّشَهُّد وَقَبْل التَّسْلِيم أَعَادَ الصَّلَاة . قَالَ : وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ لَمْ تُجْزِهِ . وَهَذَا قَوْل حَكَاهُ عَنْهُ حَرْمَلَة بْن يَحْيَى , لَا يَكَاد يُوجَد هَكَذَا عَنْ الشَّافِعِيّ إِلَّا مِنْ رِوَايَة حَرْمَلَة عَنْهُ , وَهُوَ مِنْ كِبَار أَصْحَابه الَّذِينَ كَتَبُوا كُتُبه . وَقَدْ تَقَلَّدَهُ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَمَالُوا إِلَيْهِ وَنَاظَرُوا عَلَيْهِ , وَهُوَ عِنْدهمْ تَحْصِيل مَذْهَبه . وَزَعَمَ الطَّحَاوِيّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم غَيْره . وَقَالَ الْخَطَّابِيّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الصَّلَاة , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة الْفُقَهَاء إِلَّا الشَّافِعِيّ , وَلَا أَعْلَمُ لَهُ فِيهَا قُدْوَة . وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فُرُوض , الصَّلَاة عَمَل السَّلَف الصَّالِح قَبْل الشَّافِعِيّ وَإِجْمَاعهمْ عَلَيْهِ , وَقَدْ شُنِّعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة جِدًّا . وَهَذَا تَشَهُّد اِبْن مَسْعُود الَّذِي اِخْتَارَهُ الشَّافِعِيّ وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّد عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اِبْن عُمَر : كَانَ أَبُو بَكْر يُعَلِّمنَا التَّشَهُّد عَلَى الْمِنْبَر كَمَا تُعَلِّمُونَ الصِّبْيَان فِي الْكِتَاب . وَعَلَّمَهُ أَيْضًا عَلَى الْمِنْبَر عُمَر , وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْر الصَّلَاة عَلَى , النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْت : قَدْ قَالَ بِوُجُوبِ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاة مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز مِنْ أَصْحَابنَا فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْقَصَّار وَعَبْد الْوَهَّاب , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح : إِنَّ اللَّه أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك فَكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك ؟ فَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَوَقْتَهَا فَتَعَيَّنَتْ كَيْفِيَّة وَوَقْتًا . وَذَكَر الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن أَنَّهُ قَالَ : لَوْ صَلَّيْت صَلَاة لَمْ أُصَلِّ فِيهَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى أَهْل بَيْته لَرَأَيْت أَنَّهَا لَا تَتِمّ . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْهُ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالصَّوَاب أَنَّهُ قَوْل أَبِي جَعْفَر , قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن بُكَيْر : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ اللَّه أَصْحَابه أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدهمْ أُمِرُوا أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِ عِنْد حُضُورهمْ قَبْره وَعِنْد ذِكْره . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ ذَات يَوْم وَالْبِشْر يُرَى فِي وَجْهه , فَقُلْت : إِنَّا لَنَرَى الْبُشْرَى فِي وَجْهك ! فَقَالَ : ( إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَك فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّ رَبّك يَقُول أَمَا يُرْضِيك أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْك أَحَدٌ إِلَّا صَلَّيْت عَلَيْهِ عَشْرًا وَلَا يُسَلِّم عَلَيْك أَحَد إِلَّا سَلَّمْت عَلَيْهِ عَشْرًا ) . وَعَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد يُسَلِّم عَلَيَّ إِذَا مُتّ إِلَّا جَاءَنِي سَلَامه مَعَ جِبْرِيل يَقُول يَا مُحَمَّد هَذَا فُلَان بْن فُلَان يَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام فَأَقُول وَعَلَيْهِ السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته ) وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَة سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْض يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَام ) . قَالَ الْقُشَيْرِيّ وَالتَّسْلِيم قَوْلك : سَلَام عَلَيْك .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الضَّمِير فِي قَوْله : " يُصَلُّونَ " فَقَالَتْ فِرْقَة : الضَّمِير فِيهِ لِلَّهِ وَالْمَلَائِكَة , وَهَذَا قَوْل مِنْ اللَّه تَعَالَى شَرَّفَ بِهِ مَلَائِكَته , فَلَا يَصْحَبهُ الِاعْتِرَاض الَّذِي جَاءَ فِي قَوْل الْخَطِيب : مَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ رَشَدَ , وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى . فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ , قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُوله ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيح . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْمَع ذِكْر اللَّه تَعَالَى مَعَ غَيْره فِي ضَمِير , وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَل فِي ذَلِكَ مَا يَشَاء . وَقَالَتْ فِرْقَة : فِي الْكَلَام حَذْف , تَقْدِيره إِنَّ اللَّه يُصَلِّي وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ , وَلَيْسَ فِي الْآيَة اِجْتِمَاع فِي ضَمِير , وَذَلِكَ جَائِز لِلْبَشَرِ فِعْله . وَلَمْ يَقُلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ ) لِهَذَا الْمَعْنَى , وَإِنَّمَا قَالَ لِأَنَّ الْخَطِيب وَقَفَ عَلَى وَمَنْ يَعْصِهِمَا , وَسَكَتَ سَكْتَة . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله وَمَنْ يَعْصِهِمَا . فَقَالَ : ( قُمْ - أَوْ اِذْهَبْ - بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ ) . إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون لَمَّا خَطَّأَهُ فِي وَقْفه وَقَالَ لَهُ : ( بِئْسَ الْخَطِيب ) أَصْلَحَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ جَمِيع كَلَامه , فَقَالَ : ( قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُوله ) كَمَا فِي كِتَاب مُسْلِم . وَهُوَ يُؤَيِّد الْقَوْل الْأَوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يَقِف عَلَى " وَمَنْ يَعْصِهِمَا " . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس : " وَمَلَائِكَتُهُ " بِالرَّفْعِ عَلَى مَوْضِع اِسْم اللَّه قَبْل دُخُول " إِنَّ " . وَالْجُمْهُور بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَكْتُوبَة .
فِيهِ أَرْبَعَة مَسَائِل : الْأُولَى : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى عِبَاده بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون أَنْبِيَائِهِ تَشْرِيفًا لَهُ , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ الصَّلَاة عَلَيْهِ فَرْض فِي الْعُمُر مَرَّة , وَفِي كُلّ حِين مِنْ الْوَاجِبَات وُجُوب السُّنَن الْمُؤَكَّدَة الَّتِي لَا يَسَع تَرْكهَا وَلَا يَغْفُلهَا إِلَّا مَنْ لَا خَيْر فِيهِ . الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت الصَّلَاة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَة أَمْ مَنْدُوب إِلَيْهَا ؟ قُلْت : بَلْ وَاجِبَة . وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي حَال وُجُوبهَا , فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْره . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ ذُكِرْت عِنْده فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فَدَخَلَ النَّار فَأَبْعَدَهُ اللَّه ) . وَيُرْوَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه , أَرَأَيْت قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ اللَّه وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ " فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَذَا مِنْ الْعِلْم الْمَكْنُون وَلَوْلَا أَنَّكُمْ سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّه تَعَالَى وَكَّلَ بِي مَلَكَيْنِ فَلَا أُذْكَر عِنْد مُسْلِم فَيُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا قَالَ ذَلِكَ الْمَلَكَانِ غَفَرَ . اللَّه لَك وَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَته جَوَابًا لِذَيْنِك الْمَلَكَيْنِ آمِينَ . وَلَا أُذْكَر عِنْد عَبْد مُسْلِم فَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا قَالَ ذَلِكَ الْمَلَكَانِ لَا غَفَرَ اللَّه لَك وَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَته لِذَيْنِك الْمَلَكَيْنِ آمِينَ ) . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَجِب فِي كُلّ مَجْلِس مَرَّة وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْره , كَمَا قَالَ فِي آيَة السَّجْدَة وَتَشْمِيت الْعَاطِس . وَكَذَلِكَ فِي كُلّ دُعَاء فِي أَوَّله وَآخِره وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي الْعُمُر . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي إِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ . وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه الِاحْتِيَاط : الصَّلَاة عِنْد كُلّ ذِكْر , لِمَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَار فِي ذَلِكَ .
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي صِفَة الصَّلَاة عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَى مَالِك عَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَتَانَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَجْلِس سَعْد بْن عُبَادَة , فَقَالَ لَهُ بَشِير بْن سَعْد : أَمَرَنَا اللَّه أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك يَا رَسُول اللَّه , فَكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلهُ , ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم فِي الْعَالَمِينَ إِنَّك حَمِيد مَجِيد وَالسَّلَام كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ طَلْحَة مِثْله , بِإِسْقَاطِ قَوْله : ( فِي الْعَالَمِينَ ) وَقَوْله : ( وَالسَّلَام كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ ) . وَفِي الْبَاب عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة وَأَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأَبِي هُرَيْرَة وَبُرَيْدَة الْخُزَاعِيّ وَزَيْد بْن خَارِجَة , وَيُقَال اِبْن حَارِثَة أَخْرَجَهَا أَئِمَّة أَهْل الْحَدِيث فِي كُتُبهمْ . وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث كَعْب بْن عُجْرَة . خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه مَعَ حَدِيث أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : رَوَى شُعْبَة وَالثَّوْرِيّ عَنْ الْحَكَم بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة قَالَ : لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , هَذَا السَّلَام عَلَيْك قَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْف الصَّلَاة ؟ فَقَالَ : ( قُلْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد ) وَهَذَا لَفْظ حَدِيث الثَّوْرِيّ لَا حَدِيث شُعْبَة وَهُوَ يَدْخُل فِي التَّفْسِير الْمُسْنَد إِلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " فَبَيَّنَ كَيْف الصَّلَاة عَلَيْهِ وَعَلَّمَهُمْ فِي التَّحِيَّات كَيْف السَّلَام عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْله : ( السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته ) . وَرَوَى الْمَسْعُودِيّ عَنْ عَوْن بْن عَبْد اللَّه عَنْ أَبِي فَاخِتَة عَنْ الْأَسْوَد عَنْ عَبْد اللَّه أَنَّهُ قَالَ : إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسِنُوا الصَّلَاة عَلَيْهِ , فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَض عَلَيْهِ . قَالُوا فَعَلَّمَنَا , قَالَ : ( قُولُوا اللَّهُمَّ اِجْعَلْ صَلَوَاتك وَرَحْمَتك وَبَرَكَاتك عَلَى سَيِّد الْمُرْسَلِينَ وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وَخَاتَم النَّبِيِّينَ مُحَمَّد عَبْدك وَنَبِيّك وَرَسُولك إِمَام الْخَيْر وَقَائِد الْخَيْر وَرَسُول الرَّحْمَة . اللَّهُمَّ اِبْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد ) . وَرَوَيْنَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِل فِي كِتَاب ( الشِّفَا ) لِلْقَاضِي عِيَاض عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : عَدَّهُنَّ فِي يَدِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( عَدَّهُنَّ فِي يَدِي جِبْرِيلُ وَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ مِنْ عِنْد رَبّ الْعِزَّة اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا تَرَحَّمْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد . اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا تَحَنَّنْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حَمِيد مَجِيد ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَات صَحِيح وَمِنْهَا سَقِيم , وَأَصَحُّهَا مَا رَوَاهُ مَالِك فَاعْتَمِدُوهُ . وَرِوَايَة غَيْر مَالِك مِنْ زِيَادَة الرَّحْمَة مَعَ الصَّلَاة وَغَيْرهَا لَا يَقْوَى , وَإِنَّمَا عَلَى النَّاس أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَدْيَانهمْ نَظَرَهُمْ فِي أَمْوَالهمْ , وَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيْع دِينَارًا مَعِيبًا , وَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ السَّالِم الطَّيِّب , كَذَلِكَ لَا يُؤْخَذ مِنْ الرِّوَايَات عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَدُهُ , لِئَلَّا يَدْخُل فِي حَيِّز الْكَذِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطْلُب الْفَضْل إِذَا بِهِ قَدْ أَصَابَ النَّقْص , بَلْ رُبَّمَا أَصَابَ الْخُسْرَان الْمُبِين .
الثَّالِثَة : فِي فَضْل الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ) . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : الصَّلَاة عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْعِبَادَات , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى تَوَلَّاهَا هُوَ وَمَلَائِكَته , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ , وَسَائِر الْعِبَادَات لَيْسَ كَذَلِكَ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَل اللَّه حَاجَة فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ يَسْأَل اللَّه حَاجَته , ثُمَّ يَخْتِم بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَل الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدّ مَا بَيْنهمَا . وَرَوَى سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الدُّعَاء يُحْجَب دُون السَّمَاء حَتَّى يُصَلَّى عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا جَاءَتْ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الدُّعَاء . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَسَلَّمَ عَلَيَّ فِي كِتَاب لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَة يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مَا دَامَ اِسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَاب ) .
الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاة , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمّ الْغَفِير وَالْجُمْهُور الْكَثِير : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَن الصَّلَاة وَمُسْتَحَبَّاتهَا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يُسْتَحَبّ أَلَّا يُصَلِّي أَحَد صَلَاة إِلَّا صَلَّى فِيهَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ تَارِك فَصَلَاته مُجْزِيَة فِي مَذَاهِب مَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَهْل الْكُوفَة مِنْ أَصْحَاب الرَّأْي وَغَيْرهمْ . وَهُوَ قَوْل جُلّ أَهْل الْعِلْم . وَحُكِيَ عَنْ مَالِك وَسُفْيَان أَنَّهَا فِي التَّشَهُّد الْأَخِير مُسْتَحَبَّة , وَأَنَّ تَارِكهَا فِي التَّشَهُّد مُسِيء وَشَذَّ الشَّافِعِيّ فَأَوْجَبَ عَلَى تَارِكهَا فِي الصَّلَاة الْإِعَادَةَ وَأَوْجَبَ إِسْحَاق الْإِعَادَة مَعَ تَعَمُّد تَرْكهَا دُون النِّسْيَان . وَقَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ الشَّافِعِيّ إِذَا لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّد الْأَخِير بَعْد التَّشَهُّد وَقَبْل التَّسْلِيم أَعَادَ الصَّلَاة . قَالَ : وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ لَمْ تُجْزِهِ . وَهَذَا قَوْل حَكَاهُ عَنْهُ حَرْمَلَة بْن يَحْيَى , لَا يَكَاد يُوجَد هَكَذَا عَنْ الشَّافِعِيّ إِلَّا مِنْ رِوَايَة حَرْمَلَة عَنْهُ , وَهُوَ مِنْ كِبَار أَصْحَابه الَّذِينَ كَتَبُوا كُتُبه . وَقَدْ تَقَلَّدَهُ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَمَالُوا إِلَيْهِ وَنَاظَرُوا عَلَيْهِ , وَهُوَ عِنْدهمْ تَحْصِيل مَذْهَبه . وَزَعَمَ الطَّحَاوِيّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم غَيْره . وَقَالَ الْخَطَّابِيّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الصَّلَاة , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة الْفُقَهَاء إِلَّا الشَّافِعِيّ , وَلَا أَعْلَمُ لَهُ فِيهَا قُدْوَة . وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فُرُوض , الصَّلَاة عَمَل السَّلَف الصَّالِح قَبْل الشَّافِعِيّ وَإِجْمَاعهمْ عَلَيْهِ , وَقَدْ شُنِّعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة جِدًّا . وَهَذَا تَشَهُّد اِبْن مَسْعُود الَّذِي اِخْتَارَهُ الشَّافِعِيّ وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّد عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اِبْن عُمَر : كَانَ أَبُو بَكْر يُعَلِّمنَا التَّشَهُّد عَلَى الْمِنْبَر كَمَا تُعَلِّمُونَ الصِّبْيَان فِي الْكِتَاب . وَعَلَّمَهُ أَيْضًا عَلَى الْمِنْبَر عُمَر , وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْر الصَّلَاة عَلَى , النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْت : قَدْ قَالَ بِوُجُوبِ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاة مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز مِنْ أَصْحَابنَا فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْقَصَّار وَعَبْد الْوَهَّاب , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح : إِنَّ اللَّه أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك فَكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك ؟ فَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَوَقْتَهَا فَتَعَيَّنَتْ كَيْفِيَّة وَوَقْتًا . وَذَكَر الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن أَنَّهُ قَالَ : لَوْ صَلَّيْت صَلَاة لَمْ أُصَلِّ فِيهَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى أَهْل بَيْته لَرَأَيْت أَنَّهَا لَا تَتِمّ . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْهُ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالصَّوَاب أَنَّهُ قَوْل أَبِي جَعْفَر , قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن بُكَيْر : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ اللَّه أَصْحَابه أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدهمْ أُمِرُوا أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِ عِنْد حُضُورهمْ قَبْره وَعِنْد ذِكْره . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ ذَات يَوْم وَالْبِشْر يُرَى فِي وَجْهه , فَقُلْت : إِنَّا لَنَرَى الْبُشْرَى فِي وَجْهك ! فَقَالَ : ( إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَك فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّ رَبّك يَقُول أَمَا يُرْضِيك أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْك أَحَدٌ إِلَّا صَلَّيْت عَلَيْهِ عَشْرًا وَلَا يُسَلِّم عَلَيْك أَحَد إِلَّا سَلَّمْت عَلَيْهِ عَشْرًا ) . وَعَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد يُسَلِّم عَلَيَّ إِذَا مُتّ إِلَّا جَاءَنِي سَلَامه مَعَ جِبْرِيل يَقُول يَا مُحَمَّد هَذَا فُلَان بْن فُلَان يَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام فَأَقُول وَعَلَيْهِ السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته ) وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَة سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْض يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَام ) . قَالَ الْقُشَيْرِيّ وَالتَّسْلِيم قَوْلك : سَلَام عَلَيْك .
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ↓
فِيهِ خَمْس مَسَائِل الْأُولَى : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَذِيَّة اللَّه بِمَاذَا تَكُون ؟ فَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ بِالْكُفْرِ وَنِسْبَة الصَّاحِبَة وَالْوَلَد وَالشَّرِيك إِلَيْهِ , وَوَصْفه بِمَا لَا يَلِيق بِهِ , كَقَوْلِ الْيَهُود لَعَنَهُمْ اللَّه : وَقَالَتْ الْيَهُود يَد اللَّه مَغْلُولَة . وَالنَّصَارَى : الْمَسِيح اِبْن اللَّه . وَالْمُشْرِكُونَ : الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه وَالْأَصْنَام شُرَكَاؤُهُ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( كَذَّبَنِي اِبْن آدَم وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ... ) الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " مَرْيَم " وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ( يُؤْذِينِي اِبْن آدَم يَقُول يَا خَيْبَة الدَّهْر فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدكُمْ يَا خَيْبَة الدَّهْر فَإِنِّي أَنَا الدَّهْر أُقَلِّب لَيْله وَنَهَاره فَإِذَا شِئْت قَبَضْتهمَا ) . هَكَذَا جَاءَ هَذَا الْحَدِيث مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَة فِي هَذِهِ الرِّوَايَة . وَقَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا عَنْهُ ( يُؤْذِينِي اِبْن آدَم يَسُبّ الدَّهْر وَأَنَا الدَّهْر أُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار ) أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِم . وَقَالَ عِكْرِمَة : مَعْنَاهُ بِالتَّصْوِيرِ وَالتَّعَرُّض لِفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلهُ إِلَّا اللَّه بِنَحْتِ الصُّوَر وَغَيْرهَا , وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَعَنَ اللَّه الْمُصَوِّرِينَ ) .
قُلْت : وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي قَوْل مُجَاهِد فِي الْمَنْع مِنْ تَصْوِير الشَّجَر وَغَيْرهَا ; إِذْ كُلّ ذَلِكَ صِفَة اِخْتِرَاع وَتَشَبُّه بِفِعْلِ اللَّه الَّذِي اِنْفَرَدَ بِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَة " النَّمْل " وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَتْ فِرْقَة : ذَلِكَ عَلَى حَذْف مُضَاف , تَقْدِيره : يُؤْذُونَ أَوْلِيَاء اللَّه . وَأَمَّا أَذِيَّة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ كُلّ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْأَقْوَال فِي غَيْر مَعْنًى وَاحِد , وَمِنْ الْأَفْعَال أَيْضًا . أَمَّا قَوْلهمْ : " فَسَاحِر . شَاعِر . كَاهِن مَجْنُون . وَأَمَّا فِعْلهمْ : فَكَسْر رَبَاعِيَته وَشَجّ وَجْهه يَوْم أُحُد , وَبِمَكَّة إِلْقَاء السَّلَى عَلَى ظَهْره وَهُوَ سَاجِد " إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَيْهِ حِين اِتَّخَذَ صَفِيَّة بِنْت أَبِي حُيَيّ . وَأَطْلَقَ إِيذَاء اللَّه وَرَسُوله وَقَيَّدَ إِيذَاء الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات , لِأَنَّ إِيذَاء اللَّه وَرَسُوله لَا يَكُون إِلَّا بِغَيْرِ حَقّ أَبَدًا . وَأَمَّا إِيذَاء الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات فَمِنْهُ , وَمِنْهُ . .
الثَّانِيَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالطَّعْن فِي تَأْمِير أُسَامَة بْن زَيْد أَذِيَّة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام . رَوَى الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَة بْن زَيْد فَطَعَنَ النَّاس فِي إِمْرَته ; فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمْرَته فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَة أَبِيهِ مِنْ قَبْل وَأَيْمُ اللَّه إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاس إِلَيَّ بَعْده ) . وَهَذَا الْبَعْث - وَاَللَّه أَعْلَمُ - هُوَ الَّذِي جَهَّزَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُسَامَة وَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْزُوَ " أُبْنَى " وَهِيَ الْقَرْيَة الَّتِي عِنْد مُؤْتَة , الْمَوْضِع الَّذِي قُتِلَ فِيهِ زَيْد أَبُوهُ مَعَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة . فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ بِثَأْرِ أَبِيهِ فَطَعَنَ مَنْ فِي قَلْبه رَيْب فِي إِمْرَته ; مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمَوَالِي , وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ صَغِير السِّنّ ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ اِبْن ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة ; فَمَاتَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَرَزَ هَذَا الْبَعْث عَنْ الْمَدِينَة وَلَمْ يَنْفَصِل بَعْد عَنْهَا ; فَنَفَذَهُ أَبُو بَكْر بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّالِثَة : فِي هَذَا الْحَدِيث أَوْضَحُ دَلِيل عَلَى جَوَاز إِمَامَة الْمَوْلَى وَالْمَفْضُول عَلَى غَيْرهمَا مَا عَدَا الْإِمَامَة الْكُبْرَى . وَقَدَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة عَلَى الصَّلَاة بِقُبَاء , فَكَانَ يَؤُمّهُمْ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَغَيْرهمْ مِنْ كُبَرَاء قُرَيْش . وَرَوَى الصَّحِيح عَنْ عَامِر بْن وَاثِلَة أَنَّ نَافِع بْن عَبْد الْحَارِث لَقِيَ عُمَر بِعُسْفَان , وَكَانَ عُمَر يَسْتَعْمِلهُ عَلَى مَكَّة فَقَالَ : مَنْ اِسْتَعْمَلْت عَلَى هَذَا الْوَادِي ؟ قَالَ : اِبْن أَبْزَى . قَالَ : وَمَنْ اِبْن أَبْزَى ؟ قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا . قَالَ : فَاسْتَخْلَفْت عَلَيْهِمْ مَوْلًى ! قَالَ : إِنَّهُ لَقَارِئ لِكِتَابِ اللَّه وَإِنَّهُ لَعَالِم بِالْفَرَائِضِ - قَالَ - أَمَا إِنَّ نَبِيّكُمْ قَدْ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه يَرْفَع بِهَذَا الْكِتَاب أَقْوَامًا وَيَضَع بِهِ آخَرِينَ ) .
الرَّابِعَة : كَانَ أُسَامَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْحِبّ اِبْن الْحِبّ وَبِذَلِكَ كَانَ يُدْعَى , وَكَانَ أَسْوَد شَدِيد السَّوَاد , وَكَانَ زَيْد أَبُوهُ أَبْيَض مِنْ الْقُطْن . هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَد بْن صَالِح . وَقَالَ غَيْر أَحْمَد : كَانَ زَيْد أَزْهَرَ اللَّوْن وَكَانَ أُسَامَة شَدِيد الْأُدْمَة . وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَسِّن أُسَامَة وَهُوَ صَغِير وَيَمْسَح مُخَاطه , وَيُنَقِّي أَنْفه وَيَقُول : ( لَوْ كَانَ أُسَامَة جَارِيَة لَزَيَّنَّاهُ وَجَهَّزْنَاهُ وَحَبَّبْنَاهُ إِلَى الْأَزْوَاج ) . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ سَبَب اِرْتِدَاد الْعَرَب بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَجَّة الْوَدَاع بِجَبَلِ عَرَفَة عَشِيَّة عَرَفَة عِنْد النَّفْر , اِحْتَبَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلًا بِسَبَبِ أُسَامَة إِلَى أَنْ أَتَاهُ ; فَقَالُوا : مَا اِحْتَبَسَ إِلَّا لِأَجْلِ هَذَا ! تَحْقِيرًا لَهُ . فَكَانَ قَوْلهمْ هَذَا سَبَب اِرْتِدَادهمْ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ بِمَعْنَاهُ . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
الْخَامِسَة : كَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَفْرِض لِأُسَامَة فِي الْعَطَاء خَمْسَة آلَاف , وَلِابْنِهِ عَبْد اللَّه أَلْفَيْنِ ; فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : فَضَّلْت عَلَيَّ أُسَامَة وَقَدْ شَهِدْت مَا لَمْ يَشْهَد ! فَقَالَ : إِنَّ أُسَامَة كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك , وَأَبَاهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِيك , فَفَضَّلَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَحْبُوب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَحْبُوبه . وَهَكَذَا يَجِب أَنْ يُحَبّ مَا أَحَبَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبْغَض مَنْ أَبْغَضَ . وَقَدْ قَابَلَ مَرْوَان هَذَا الْحُبّ بِنَقِيضِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِأُسَامَة بْن زَيْد وَهُوَ يُصَلِّي عِنْد بَاب بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَرْوَان : إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَرَى مَكَانَك , فَقَدْ رَأَيْنَا مَكَانك , فَعَلَ اللَّه بِك ! وَقَالَ قَوْلًا قَبِيحًا . فَقَالَ لَهُ أُسَامَة : إِنَّك آذَيْتنِي , وَإِنَّك فَاحِش مُتَفَحِّش , وَقَدْ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُبْغِض الْفَاحِش الْمُتَفَحِّش ) . فَانْظُرْ مَا بَيْن الْفِعْلَيْنِ وَقِسْ مَا بَيْن الرَّجُلَيْنِ , فَقَدْ آذَى بَنُو أُمَيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْبَابه , وَنَاقَضُوهُ فِي مَحَابِّهِ .
" لَعَنَهُمْ اللَّه " مَعْنَاهُ أُبْعِدُوا مِنْ كُلّ خَيْر . وَاللَّعْن فِي اللُّغَة : الْإِبْعَاد , وَمِنْهُ اللِّعَان .
" وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا " تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي غَيْر مَوْضِع . وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
قُلْت : وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي قَوْل مُجَاهِد فِي الْمَنْع مِنْ تَصْوِير الشَّجَر وَغَيْرهَا ; إِذْ كُلّ ذَلِكَ صِفَة اِخْتِرَاع وَتَشَبُّه بِفِعْلِ اللَّه الَّذِي اِنْفَرَدَ بِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَة " النَّمْل " وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَتْ فِرْقَة : ذَلِكَ عَلَى حَذْف مُضَاف , تَقْدِيره : يُؤْذُونَ أَوْلِيَاء اللَّه . وَأَمَّا أَذِيَّة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ كُلّ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْأَقْوَال فِي غَيْر مَعْنًى وَاحِد , وَمِنْ الْأَفْعَال أَيْضًا . أَمَّا قَوْلهمْ : " فَسَاحِر . شَاعِر . كَاهِن مَجْنُون . وَأَمَّا فِعْلهمْ : فَكَسْر رَبَاعِيَته وَشَجّ وَجْهه يَوْم أُحُد , وَبِمَكَّة إِلْقَاء السَّلَى عَلَى ظَهْره وَهُوَ سَاجِد " إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَيْهِ حِين اِتَّخَذَ صَفِيَّة بِنْت أَبِي حُيَيّ . وَأَطْلَقَ إِيذَاء اللَّه وَرَسُوله وَقَيَّدَ إِيذَاء الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات , لِأَنَّ إِيذَاء اللَّه وَرَسُوله لَا يَكُون إِلَّا بِغَيْرِ حَقّ أَبَدًا . وَأَمَّا إِيذَاء الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات فَمِنْهُ , وَمِنْهُ . .
الثَّانِيَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالطَّعْن فِي تَأْمِير أُسَامَة بْن زَيْد أَذِيَّة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام . رَوَى الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَة بْن زَيْد فَطَعَنَ النَّاس فِي إِمْرَته ; فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمْرَته فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَة أَبِيهِ مِنْ قَبْل وَأَيْمُ اللَّه إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاس إِلَيَّ بَعْده ) . وَهَذَا الْبَعْث - وَاَللَّه أَعْلَمُ - هُوَ الَّذِي جَهَّزَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُسَامَة وَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْزُوَ " أُبْنَى " وَهِيَ الْقَرْيَة الَّتِي عِنْد مُؤْتَة , الْمَوْضِع الَّذِي قُتِلَ فِيهِ زَيْد أَبُوهُ مَعَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة . فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ بِثَأْرِ أَبِيهِ فَطَعَنَ مَنْ فِي قَلْبه رَيْب فِي إِمْرَته ; مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمَوَالِي , وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ صَغِير السِّنّ ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ اِبْن ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة ; فَمَاتَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَرَزَ هَذَا الْبَعْث عَنْ الْمَدِينَة وَلَمْ يَنْفَصِل بَعْد عَنْهَا ; فَنَفَذَهُ أَبُو بَكْر بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّالِثَة : فِي هَذَا الْحَدِيث أَوْضَحُ دَلِيل عَلَى جَوَاز إِمَامَة الْمَوْلَى وَالْمَفْضُول عَلَى غَيْرهمَا مَا عَدَا الْإِمَامَة الْكُبْرَى . وَقَدَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة عَلَى الصَّلَاة بِقُبَاء , فَكَانَ يَؤُمّهُمْ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَغَيْرهمْ مِنْ كُبَرَاء قُرَيْش . وَرَوَى الصَّحِيح عَنْ عَامِر بْن وَاثِلَة أَنَّ نَافِع بْن عَبْد الْحَارِث لَقِيَ عُمَر بِعُسْفَان , وَكَانَ عُمَر يَسْتَعْمِلهُ عَلَى مَكَّة فَقَالَ : مَنْ اِسْتَعْمَلْت عَلَى هَذَا الْوَادِي ؟ قَالَ : اِبْن أَبْزَى . قَالَ : وَمَنْ اِبْن أَبْزَى ؟ قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا . قَالَ : فَاسْتَخْلَفْت عَلَيْهِمْ مَوْلًى ! قَالَ : إِنَّهُ لَقَارِئ لِكِتَابِ اللَّه وَإِنَّهُ لَعَالِم بِالْفَرَائِضِ - قَالَ - أَمَا إِنَّ نَبِيّكُمْ قَدْ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه يَرْفَع بِهَذَا الْكِتَاب أَقْوَامًا وَيَضَع بِهِ آخَرِينَ ) .
الرَّابِعَة : كَانَ أُسَامَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْحِبّ اِبْن الْحِبّ وَبِذَلِكَ كَانَ يُدْعَى , وَكَانَ أَسْوَد شَدِيد السَّوَاد , وَكَانَ زَيْد أَبُوهُ أَبْيَض مِنْ الْقُطْن . هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَد بْن صَالِح . وَقَالَ غَيْر أَحْمَد : كَانَ زَيْد أَزْهَرَ اللَّوْن وَكَانَ أُسَامَة شَدِيد الْأُدْمَة . وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَسِّن أُسَامَة وَهُوَ صَغِير وَيَمْسَح مُخَاطه , وَيُنَقِّي أَنْفه وَيَقُول : ( لَوْ كَانَ أُسَامَة جَارِيَة لَزَيَّنَّاهُ وَجَهَّزْنَاهُ وَحَبَّبْنَاهُ إِلَى الْأَزْوَاج ) . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ سَبَب اِرْتِدَاد الْعَرَب بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَجَّة الْوَدَاع بِجَبَلِ عَرَفَة عَشِيَّة عَرَفَة عِنْد النَّفْر , اِحْتَبَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلًا بِسَبَبِ أُسَامَة إِلَى أَنْ أَتَاهُ ; فَقَالُوا : مَا اِحْتَبَسَ إِلَّا لِأَجْلِ هَذَا ! تَحْقِيرًا لَهُ . فَكَانَ قَوْلهمْ هَذَا سَبَب اِرْتِدَادهمْ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ بِمَعْنَاهُ . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
الْخَامِسَة : كَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَفْرِض لِأُسَامَة فِي الْعَطَاء خَمْسَة آلَاف , وَلِابْنِهِ عَبْد اللَّه أَلْفَيْنِ ; فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : فَضَّلْت عَلَيَّ أُسَامَة وَقَدْ شَهِدْت مَا لَمْ يَشْهَد ! فَقَالَ : إِنَّ أُسَامَة كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك , وَأَبَاهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِيك , فَفَضَّلَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَحْبُوب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَحْبُوبه . وَهَكَذَا يَجِب أَنْ يُحَبّ مَا أَحَبَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبْغَض مَنْ أَبْغَضَ . وَقَدْ قَابَلَ مَرْوَان هَذَا الْحُبّ بِنَقِيضِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِأُسَامَة بْن زَيْد وَهُوَ يُصَلِّي عِنْد بَاب بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَرْوَان : إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَرَى مَكَانَك , فَقَدْ رَأَيْنَا مَكَانك , فَعَلَ اللَّه بِك ! وَقَالَ قَوْلًا قَبِيحًا . فَقَالَ لَهُ أُسَامَة : إِنَّك آذَيْتنِي , وَإِنَّك فَاحِش مُتَفَحِّش , وَقَدْ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُبْغِض الْفَاحِش الْمُتَفَحِّش ) . فَانْظُرْ مَا بَيْن الْفِعْلَيْنِ وَقِسْ مَا بَيْن الرَّجُلَيْنِ , فَقَدْ آذَى بَنُو أُمَيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْبَابه , وَنَاقَضُوهُ فِي مَحَابِّهِ .
" لَعَنَهُمْ اللَّه " مَعْنَاهُ أُبْعِدُوا مِنْ كُلّ خَيْر . وَاللَّعْن فِي اللُّغَة : الْإِبْعَاد , وَمِنْهُ اللِّعَان .
" وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا " تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي غَيْر مَوْضِع . وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ↓
أَذِيَّة الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات هِيَ أَيْضًا بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَال الْقَبِيحَة , كَالْبُهْتَانِ وَالتَّكْذِيب الْفَاحِش الْمُخْتَلَق . وَهَذِهِ الْآيَة نَظِير الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاء : " وَمَنْ يَكْسِب خَطِيئَة أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ اِحْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " [ النِّسَاء : 112 ] كَمَا قَالَ هُنَا . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مِنْ الْأَذِيَّة تَعْيِيره بِحَسَبٍ مَذْمُوم , أَوْ حِرْفَة مَذْمُومَة , أَوْ شَيْء يَثْقُل عَلَيْهِ إِذَا سَمِعَهُ , لِأَنَّ أَذَاهُ فِي الْجُمْلَة حَرَام . وَقَدْ مَيَّزَ اللَّه تَعَالَى بَيْن أَذَاهُ وَأَذَى الرَّسُول وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ فَجَعَلَ الْأَوَّل كُفْرًا وَالثَّانِيَ كَبِيرَة , فَقَالَ فِي أَذَى الْمُؤْمِنِينَ : " فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " وَقَدْ بَيَّنَّاهُ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ لِأُبَيّ بْن كَعْب : قَرَأْت الْبَارِحَة هَذِهِ الْآيَة فَفَزِعْت مِنْهَا " وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا " الْآيَة , وَاَللَّه إِنِّي لَأَضْرِبهُمْ وَأَنْهَرهُمْ . فَقَالَ لَهُ أُبَيّ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , لَسْت مِنْهُمْ , إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّم وَمُقَوِّم . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة أَنَّ عُمَر رَأَى جَارِيَة مِنْ الْأَنْصَار فَضَرَبَهَا وَكَرِهَ مَا رَأَى مِنْ زِينَتهَا , فَخَرَجَ أَهْلهَا فَآذَوْا عُمَر بِاللِّسَانِ ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي عَلِيّ , فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِ . رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ↓
" قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك " قَدْ مَضَى الْكَلَام فِي تَفْصِيل أَزْوَاجه وَاحِدَة وَاحِدَة . قَالَ قَتَادَة : مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تِسْع . خَمْس مِنْ قُرَيْش : عَائِشَة , وَحَفْصَة , وَأُمّ حَبِيبَة , وَسَوْدَة , وَأُمّ سَلَمَة . وَثَلَاث مِنْ سَائِر الْعَرَب : مَيْمُونَة , وَزَيْنَب بِنْت جَحْش , وَجُوَيْرِيَة . وَوَاحِدَة مِنْ بَنِي هَارُون : صَفِيَّة . وَأَمَّا أَوْلَاده فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَاد ذُكُور وَإِنَاث . فَالذُّكُور مِنْ أَوْلَاده : الْقَاسِم , أُمّه خَدِيجَة , وَبِهِ كَانَ يُكْنَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ أَوَّل مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَاده , وَعَاشَ سَنَتَيْنِ . وَقَالَ عُرْوَة : وَلَدَتْ خَدِيجَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه لَيّه وَسَلَّمَ الْقَاسِم وَالطَّاهِر وَعَبْد اللَّه وَالطَّيِّب . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْبَرْقِيّ : وَيُقَال إِنَّ الطَّاهِر هُوَ الطَّيِّب وَهُوَ عَبْد اللَّه . وَإِبْرَاهِيم أُمّه مَارِيَة الْقِبْطِيَّة , وُلِدَ فِي ذِي الْحِجَّة سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة , وَتُوُفِّيَ اِبْن سِتَّة عَشَرَ شَهْرًا , وَقِيلَ ثَمَانِيَة عَشَر ; ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا تُتِمّ رَضَاعه فِي الْجَنَّة ) . وَجَمِيع أَوْلَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَدِيجَة سِوَى إِبْرَاهِيم . وَكُلّ أَوْلَاده مَاتُوا فِي حَيَاته غَيْر فَاطِمَة .
وَأَمَّا الْإِنَاث مِنْ أَوْلَاده فَمِنْهُنَّ : فَاطِمَة الزَّهْرَاء بِنْت خَدِيجَة , وَلَدَتْهَا وَقُرَيْش تَبْنِي الْبَيْت قَبْل النُّبُوَّة بِخَمْسِ سِنِينَ , وَهِيَ أَصْغَرُ بَنَاته , وَتَزَوَّجَهَا عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة فِي رَمَضَان , وَبَنَى بِهَا فِي ذِي الْحِجَّة . وَقِيلَ : تَزَوَّجَهَا فِي رَجَب , وَتُوُفِّيَتْ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ , وَهِيَ أَوَّل مَنْ لَحِقَهُ مِنْ أَهْل بَيْته . رَضِيَ اللَّه عَنْهَا .
وَمِنْهُنَّ : زَيْنَب - أُمّهَا خَدِيجَة - تَزَوَّجَهَا اِبْن خَالَتهَا أَبُو الْعَاصِي بْن الرَّبِيع , وَكَانَتْ أُمّ الْعَاصِي هَالَة بِنْت خُوَيْلِد أُخْت خَدِيجَة . وَاسْم أَبِي الْعَاصِي لَقِيط . وَقِيلَ هَاشِم . وَقِيلَ هُشَيْم . وَقِيلَ مِقْسَم . وَكَانَتْ أَكْبَرَ بَنَات رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتُوُفِّيَتْ سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة , وَنَزَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرهَا .
وَمِنْهُنَّ : رُقَيَّة - أُمّهَا خَدِيجَة - تَزَوَّجَهَا عُتْبَة بْن أَبِي لَهَب قَبْل النُّبُوَّة , فَلَمَّا بُعِثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " [ الْمَسَد : 1 ] قَالَ أَبُو لَهَب لِابْنِهِ : رَأْسِي مِنْ رَأْسك حَرَام إِنْ لَمْ تُطَلِّق اِبْنَته ; فَفَارَقَهَا وَلَمْ يَكُنْ بَنَى بِهَا . وَأَسْلَمَتْ حِين أَسْلَمَتْ أُمّهَا خَدِيجَة , وَبَايَعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وَأَخَوَاتهَا حِين بَايَعَهُ النِّسَاء , وَتَزَوَّجَهَا عُثْمَان بْن عَفَّان , وَكَانَتْ نِسَاء قُرَيْش يَقُلْنَ حِين تَزَوَّجَهَا عُثْمَان : أَحْسَنُ شَخْصَيْنِ رَأَى إِنْسَانُ رُقَيَّةٌ وَبَعْلهَا عُثْمَان وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة الْهِجْرَتَيْنِ , وَكَانَتْ قَدْ أَسْقَطَتْ مِنْ عُثْمَان سَقْطًا , ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْد ذَلِكَ عَبْد اللَّه , وَكَانَ عُثْمَان يُكْنَى بِهِ فِي الْإِسْلَام , وَبَلَغَ سِتّ سِنِينَ فَنَقَرَهُ دِيك فِي وَجْهه فَمَاتَ , وَلَمْ تَلِد لَهُ شَيْئًا بَعْد ذَلِكَ . وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَة وَمَرِضَتْ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّز إِلَى بَدْر فَخَلَّفَ عُثْمَان عَلَيْهَا , فَتُوُفِّيَتْ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ , عَلَى رَأْس سَبْعَة عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَة . وَقَدِمَ زَيْد بْن حَارِثَة بَشِيرًا مِنْ بَدْر , فَدَخَلَ الْمَدِينَة حِين سَوَّى التُّرَاب عَلَى رُقَيَّة . وَلَمْ يَشْهَد دَفْنهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْهُنَّ : أُمّ كُلْثُوم - أُمّهَا خَدِيجَة - تَزَوَّجَهَا عُتَيْبَة بْن أَبِي لَهَب - أَخُو عُتْبَة - قَبْل النُّبُوَّة , وَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ يُفَارِقهَا لِلسَّبَبِ الْمَذْكُور فِي أَمْر رُقَيَّة , وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا , فَلَمْ تَزَلْ بِمَكَّة مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْلَمَتْ حِين أَسْلَمَتْ أُمّهَا , وَبَايَعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخَوَاتهَا حِين بَايَعَهُ النِّسَاء , وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَة حِين هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّة تَزَوَّجَهَا عُثْمَان , وَبِذَلِكَ سُمِّيَ ذَا النُّورَيْنِ . وَتُوُفِّيَتْ فِي حَيَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبَان سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة . وَجَلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرهَا , وَنَزَلَ فِي حُفْرَتهَا عَلِيّ وَالْفَضْل وَأُسَامَة . وَذَكَرَ الزُّبَيْر بْن بَكَّار أَنَّ أَكْبَرَ وَلَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْقَاسِم , ثُمَّ زَيْنَب , ثُمَّ عَبْد اللَّه , وَكَانَ يُقَال لَهُ الطَّيِّب وَالطَّاهِر , وَوُلِدَ بَعْد النُّبُوَّة وَمَاتَ صَغِيرًا ثُمَّ أُمّ كُلْثُوم , ثُمَّ فَاطِمَة , ثُمَّ رُقَيَّة . فَمَاتَ الْقَاسِم بِمَكَّة ثُمَّ مَاتَ عَبْد اللَّه .
لَمَّا كَانَتْ عَادَة الْعَرَبِيَّات التَّبَذُّل , وَكُنَّ يَكْشِفْنَ وُجُوههنَّ كَمَا يَفْعَل الْإِمَاء , وَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيَة إِلَى نَظَر الرِّجَال إِلَيْهِنَّ , وَتَشَعُّب الْفِكْرَة فِيهِنَّ , أَمَرَ اللَّه رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرهُنَّ بِإِرْخَاءِ الْجَلَابِيب عَلَيْهِنَّ إِذَا أَرَدْنَ الْخُرُوج إِلَى حَوَائِجهنَّ , وَكُنَّ يَتَبَرَّزْنَ فِي الصَّحْرَاء قَبْل أَنْ تُتَّخَذ الْكُنُف - فَيَقَع الْفَرْق بَيْنهنَّ وَبَيْن الْإِمَاء , فَتُعْرَف الْحَرَائِر بِسِتْرِهِنَّ , فَيَكُفّ عَنْ مُعَارَضَتهنَّ مَنْ كَانَ عَزَبًا أَوْ شَابًّا . وَكَانَتْ الْمَرْأَة مِنْ نِسَاء الْمُؤْمِنِينَ قَبْل نُزُول هَذِهِ الْآيَة تَتَبَرَّز لِلْحَاجَةِ فَيَتَعَرَّض لَهَا بَعْض الْفُجَّار يَظُنّ أَنَّهَا أَمَة , فَتَصِيح بِهِ فَيَذْهَب , فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتْ الْآيَة بِسَبَبِ ذَلِكَ . قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَن وَغَيْره .
الْجَلَابِيب جَمْع جِلْبَاب , وَهُوَ ثَوْب أَكْبَرُ مِنْ الْخِمَار . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود أَنَّهُ الرِّدَاء . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ الْقِنَاع . وَالصَّحِيح أَنَّهُ الثَّوْب الَّذِي يَسْتُر جَمِيع الْبَدَن . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أُمّ عَطِيَّة : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه . إِحْدَانَا لَا يَكُون لَهَا جِلْبَاب ؟ قَالَ : ( لِتُلْبِسْهَا أُخْتهَا مِنْ جِلْبَابهَا ) .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي صُورَة إِرْخَائِهِ ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَبِيدَة السَّلْمَانِيّ : ذَلِكَ أَنْ تَلْوِيَهُ الْمَرْأَة حَتَّى لَا يَظْهَر مِنْهَا إِلَّا عَيْن وَاحِدَة تُبْصِر بِهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَقَتَادَة : ذَلِكَ أَنْ تَلْوِيه فَوْق الْجَبِين وَتَشُدّهُ , ثُمَّ تَعْطِفهُ عَلَى الْأَنْف , وَإِنْ ظَهَرَتْ عَيْنَاهَا لَكِنَّهُ يَسْتُر الصَّدْر وَمُعْظَم الْوَجْه . وَقَالَ الْحَسَن : تُغَطِّي نِصْف وَجْههَا .
أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه جَمِيع النِّسَاء بِالسَّتْرِ , وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّا بِمَا لَا يَصِف جِلْدهَا , إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعَ زَوْجهَا فَلَهَا أَنْ تَلْبَس مَا شَاءَتْ ; لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِع بِهَا كَيْف شَاءَ . ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَيْقَظَ لَيْلَة فَقَالَ : ( سُبْحَان اللَّه مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَة مِنْ الْفِتَن وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِن مَنْ يُوقِظ صَوَاحِب الْحُجَر رَبّ كَاسِيَة فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَة ) . وَرُوِيَ أَنَّ دِحْيَة الْكَلْبِيّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْد هِرَقْل فَأَعْطَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّة ; فَقَالَ : ( اِجْعَلْ صَدِيعًا لَك قَمِيصًا وَأَعْطِ صَاحِبَتك صَدِيعًا تَخْتَمِر بِهِ ) . وَالصَّدِيع النِّصْف . ثُمَّ قَالَ لَهُ : ( مُرْهَا تَجْعَل تَحْتهَا شَيْئًا لِئَلَّا يَصِف ) . وَذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَة رِقَّة الثِّيَاب لِلنِّسَاءِ فَقَالَ : الْكَاسِيَات الْعَارِيَات النَّاعِمَات الشَّقِيَّات . وَدَخَلَ نِسْوَة مِنْ بَنِي تَمِيم عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَلَيْهِنَّ ثِيَاب رِقَاق , فَقَالَتْ عَائِشَة : إِنْ كُنْتُنَّ مُؤْمِنَات فَلَيْسَ هَذَا بِلِبَاسِ الْمُؤْمِنَات , وَإِنْ كُنْتُنَّ غَيْر مُؤْمِنَات فَتَمَتَّعْنَهُ . وَأُدْخِلَتْ اِمْرَأَة عَرُوس عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَعَلَيْهَا خِمَار قُبْطِيّ مُعَصْفَر , فَلَمَّا رَأَتْهَا قَالَتْ : لَمْ تُؤْمِن بِسُورَةِ " النُّور " اِمْرَأَةٌ تَلْبَس هَذَا . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( نِسَاء كَاسِيَات عَارِيَات مَائِلَات مُمِيلَات رُءُوسهنَّ مِثْل أَسْنِمَة الْبُخْت لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّة وَلَا يَجِدْنَ رِيحهَا ) . وَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَا يَمْنَع الْمَرْأَة الْمُسْلِمَة إِذْ كَانَتْ لَهَا حَاجَة أَنْ تَخْرُج فِي أَطْمَارهَا أَوْ أَطْمَار جَارَتهَا مُسْتَخْفِيَة , لَا يَعْلَم بِهَا أَحَد حَتَّى تَرْجِع إِلَى بَيْتهَا .
أَيْ الْحَرَائِر , حَتَّى لَا يَخْتَلِطْنَ بِالْإِمَاءِ ; فَإِذَا عُرِفْنَ لَمْ يُقَابَلْنَ بِأَدْنَى مِنْ الْمُعَارَضَة مُرَاقَبَة لِرُتْبَةِ الْحُرِّيَّة , فَتَنْقَطِع الْأَطْمَاع عَنْهُنَّ . وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ تُعْرَف الْمَرْأَة حَتَّى تُعْلَم مَنْ هِيَ . وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذَا رَأَى أَمَة قَدْ تَقَنَّعَتْ ضَرَبَهَا بِالدِّرَّةِ , مُحَافَظَة عَلَى زِيّ الْحَرَائِر . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجِب السَّتْر وَالتَّقَنُّع الْآن فِي حَقّ الْجَمِيع مِنْ الْحَرَائِر وَالْإِمَاء . وَهَذَا كَمَا أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعُوا النِّسَاء الْمَسَاجِد بَعْد وَفَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْله : ( لَا تَمْنَعُوا إِمَاء اللَّه مَسَاجِد اللَّه ) حَتَّى قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : لَوْ عَاشَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَقْتنَا هَذَا لَمَنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد كَمَا مُنِعَتْ نِسَاء بَنِي إِسْرَائِيل .
تَأْنِيس لِلنِّسَاءِ فِي تَرْك الْجَلَابِيب قَبْل هَذَا الْأَمْر الْمَشْرُوع .
وَأَمَّا الْإِنَاث مِنْ أَوْلَاده فَمِنْهُنَّ : فَاطِمَة الزَّهْرَاء بِنْت خَدِيجَة , وَلَدَتْهَا وَقُرَيْش تَبْنِي الْبَيْت قَبْل النُّبُوَّة بِخَمْسِ سِنِينَ , وَهِيَ أَصْغَرُ بَنَاته , وَتَزَوَّجَهَا عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة فِي رَمَضَان , وَبَنَى بِهَا فِي ذِي الْحِجَّة . وَقِيلَ : تَزَوَّجَهَا فِي رَجَب , وَتُوُفِّيَتْ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ , وَهِيَ أَوَّل مَنْ لَحِقَهُ مِنْ أَهْل بَيْته . رَضِيَ اللَّه عَنْهَا .
وَمِنْهُنَّ : زَيْنَب - أُمّهَا خَدِيجَة - تَزَوَّجَهَا اِبْن خَالَتهَا أَبُو الْعَاصِي بْن الرَّبِيع , وَكَانَتْ أُمّ الْعَاصِي هَالَة بِنْت خُوَيْلِد أُخْت خَدِيجَة . وَاسْم أَبِي الْعَاصِي لَقِيط . وَقِيلَ هَاشِم . وَقِيلَ هُشَيْم . وَقِيلَ مِقْسَم . وَكَانَتْ أَكْبَرَ بَنَات رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتُوُفِّيَتْ سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة , وَنَزَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرهَا .
وَمِنْهُنَّ : رُقَيَّة - أُمّهَا خَدِيجَة - تَزَوَّجَهَا عُتْبَة بْن أَبِي لَهَب قَبْل النُّبُوَّة , فَلَمَّا بُعِثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " [ الْمَسَد : 1 ] قَالَ أَبُو لَهَب لِابْنِهِ : رَأْسِي مِنْ رَأْسك حَرَام إِنْ لَمْ تُطَلِّق اِبْنَته ; فَفَارَقَهَا وَلَمْ يَكُنْ بَنَى بِهَا . وَأَسْلَمَتْ حِين أَسْلَمَتْ أُمّهَا خَدِيجَة , وَبَايَعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وَأَخَوَاتهَا حِين بَايَعَهُ النِّسَاء , وَتَزَوَّجَهَا عُثْمَان بْن عَفَّان , وَكَانَتْ نِسَاء قُرَيْش يَقُلْنَ حِين تَزَوَّجَهَا عُثْمَان : أَحْسَنُ شَخْصَيْنِ رَأَى إِنْسَانُ رُقَيَّةٌ وَبَعْلهَا عُثْمَان وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة الْهِجْرَتَيْنِ , وَكَانَتْ قَدْ أَسْقَطَتْ مِنْ عُثْمَان سَقْطًا , ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْد ذَلِكَ عَبْد اللَّه , وَكَانَ عُثْمَان يُكْنَى بِهِ فِي الْإِسْلَام , وَبَلَغَ سِتّ سِنِينَ فَنَقَرَهُ دِيك فِي وَجْهه فَمَاتَ , وَلَمْ تَلِد لَهُ شَيْئًا بَعْد ذَلِكَ . وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَة وَمَرِضَتْ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّز إِلَى بَدْر فَخَلَّفَ عُثْمَان عَلَيْهَا , فَتُوُفِّيَتْ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ , عَلَى رَأْس سَبْعَة عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَة . وَقَدِمَ زَيْد بْن حَارِثَة بَشِيرًا مِنْ بَدْر , فَدَخَلَ الْمَدِينَة حِين سَوَّى التُّرَاب عَلَى رُقَيَّة . وَلَمْ يَشْهَد دَفْنهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْهُنَّ : أُمّ كُلْثُوم - أُمّهَا خَدِيجَة - تَزَوَّجَهَا عُتَيْبَة بْن أَبِي لَهَب - أَخُو عُتْبَة - قَبْل النُّبُوَّة , وَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ يُفَارِقهَا لِلسَّبَبِ الْمَذْكُور فِي أَمْر رُقَيَّة , وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا , فَلَمْ تَزَلْ بِمَكَّة مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْلَمَتْ حِين أَسْلَمَتْ أُمّهَا , وَبَايَعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخَوَاتهَا حِين بَايَعَهُ النِّسَاء , وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَة حِين هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّة تَزَوَّجَهَا عُثْمَان , وَبِذَلِكَ سُمِّيَ ذَا النُّورَيْنِ . وَتُوُفِّيَتْ فِي حَيَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبَان سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة . وَجَلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرهَا , وَنَزَلَ فِي حُفْرَتهَا عَلِيّ وَالْفَضْل وَأُسَامَة . وَذَكَرَ الزُّبَيْر بْن بَكَّار أَنَّ أَكْبَرَ وَلَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْقَاسِم , ثُمَّ زَيْنَب , ثُمَّ عَبْد اللَّه , وَكَانَ يُقَال لَهُ الطَّيِّب وَالطَّاهِر , وَوُلِدَ بَعْد النُّبُوَّة وَمَاتَ صَغِيرًا ثُمَّ أُمّ كُلْثُوم , ثُمَّ فَاطِمَة , ثُمَّ رُقَيَّة . فَمَاتَ الْقَاسِم بِمَكَّة ثُمَّ مَاتَ عَبْد اللَّه .
لَمَّا كَانَتْ عَادَة الْعَرَبِيَّات التَّبَذُّل , وَكُنَّ يَكْشِفْنَ وُجُوههنَّ كَمَا يَفْعَل الْإِمَاء , وَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيَة إِلَى نَظَر الرِّجَال إِلَيْهِنَّ , وَتَشَعُّب الْفِكْرَة فِيهِنَّ , أَمَرَ اللَّه رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرهُنَّ بِإِرْخَاءِ الْجَلَابِيب عَلَيْهِنَّ إِذَا أَرَدْنَ الْخُرُوج إِلَى حَوَائِجهنَّ , وَكُنَّ يَتَبَرَّزْنَ فِي الصَّحْرَاء قَبْل أَنْ تُتَّخَذ الْكُنُف - فَيَقَع الْفَرْق بَيْنهنَّ وَبَيْن الْإِمَاء , فَتُعْرَف الْحَرَائِر بِسِتْرِهِنَّ , فَيَكُفّ عَنْ مُعَارَضَتهنَّ مَنْ كَانَ عَزَبًا أَوْ شَابًّا . وَكَانَتْ الْمَرْأَة مِنْ نِسَاء الْمُؤْمِنِينَ قَبْل نُزُول هَذِهِ الْآيَة تَتَبَرَّز لِلْحَاجَةِ فَيَتَعَرَّض لَهَا بَعْض الْفُجَّار يَظُنّ أَنَّهَا أَمَة , فَتَصِيح بِهِ فَيَذْهَب , فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتْ الْآيَة بِسَبَبِ ذَلِكَ . قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَن وَغَيْره .
الْجَلَابِيب جَمْع جِلْبَاب , وَهُوَ ثَوْب أَكْبَرُ مِنْ الْخِمَار . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود أَنَّهُ الرِّدَاء . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ الْقِنَاع . وَالصَّحِيح أَنَّهُ الثَّوْب الَّذِي يَسْتُر جَمِيع الْبَدَن . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أُمّ عَطِيَّة : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه . إِحْدَانَا لَا يَكُون لَهَا جِلْبَاب ؟ قَالَ : ( لِتُلْبِسْهَا أُخْتهَا مِنْ جِلْبَابهَا ) .
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي صُورَة إِرْخَائِهِ ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَبِيدَة السَّلْمَانِيّ : ذَلِكَ أَنْ تَلْوِيَهُ الْمَرْأَة حَتَّى لَا يَظْهَر مِنْهَا إِلَّا عَيْن وَاحِدَة تُبْصِر بِهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَقَتَادَة : ذَلِكَ أَنْ تَلْوِيه فَوْق الْجَبِين وَتَشُدّهُ , ثُمَّ تَعْطِفهُ عَلَى الْأَنْف , وَإِنْ ظَهَرَتْ عَيْنَاهَا لَكِنَّهُ يَسْتُر الصَّدْر وَمُعْظَم الْوَجْه . وَقَالَ الْحَسَن : تُغَطِّي نِصْف وَجْههَا .
أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه جَمِيع النِّسَاء بِالسَّتْرِ , وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّا بِمَا لَا يَصِف جِلْدهَا , إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعَ زَوْجهَا فَلَهَا أَنْ تَلْبَس مَا شَاءَتْ ; لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِع بِهَا كَيْف شَاءَ . ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَيْقَظَ لَيْلَة فَقَالَ : ( سُبْحَان اللَّه مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَة مِنْ الْفِتَن وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِن مَنْ يُوقِظ صَوَاحِب الْحُجَر رَبّ كَاسِيَة فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَة ) . وَرُوِيَ أَنَّ دِحْيَة الْكَلْبِيّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْد هِرَقْل فَأَعْطَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّة ; فَقَالَ : ( اِجْعَلْ صَدِيعًا لَك قَمِيصًا وَأَعْطِ صَاحِبَتك صَدِيعًا تَخْتَمِر بِهِ ) . وَالصَّدِيع النِّصْف . ثُمَّ قَالَ لَهُ : ( مُرْهَا تَجْعَل تَحْتهَا شَيْئًا لِئَلَّا يَصِف ) . وَذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَة رِقَّة الثِّيَاب لِلنِّسَاءِ فَقَالَ : الْكَاسِيَات الْعَارِيَات النَّاعِمَات الشَّقِيَّات . وَدَخَلَ نِسْوَة مِنْ بَنِي تَمِيم عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَلَيْهِنَّ ثِيَاب رِقَاق , فَقَالَتْ عَائِشَة : إِنْ كُنْتُنَّ مُؤْمِنَات فَلَيْسَ هَذَا بِلِبَاسِ الْمُؤْمِنَات , وَإِنْ كُنْتُنَّ غَيْر مُؤْمِنَات فَتَمَتَّعْنَهُ . وَأُدْخِلَتْ اِمْرَأَة عَرُوس عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَعَلَيْهَا خِمَار قُبْطِيّ مُعَصْفَر , فَلَمَّا رَأَتْهَا قَالَتْ : لَمْ تُؤْمِن بِسُورَةِ " النُّور " اِمْرَأَةٌ تَلْبَس هَذَا . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( نِسَاء كَاسِيَات عَارِيَات مَائِلَات مُمِيلَات رُءُوسهنَّ مِثْل أَسْنِمَة الْبُخْت لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّة وَلَا يَجِدْنَ رِيحهَا ) . وَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَا يَمْنَع الْمَرْأَة الْمُسْلِمَة إِذْ كَانَتْ لَهَا حَاجَة أَنْ تَخْرُج فِي أَطْمَارهَا أَوْ أَطْمَار جَارَتهَا مُسْتَخْفِيَة , لَا يَعْلَم بِهَا أَحَد حَتَّى تَرْجِع إِلَى بَيْتهَا .
أَيْ الْحَرَائِر , حَتَّى لَا يَخْتَلِطْنَ بِالْإِمَاءِ ; فَإِذَا عُرِفْنَ لَمْ يُقَابَلْنَ بِأَدْنَى مِنْ الْمُعَارَضَة مُرَاقَبَة لِرُتْبَةِ الْحُرِّيَّة , فَتَنْقَطِع الْأَطْمَاع عَنْهُنَّ . وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ تُعْرَف الْمَرْأَة حَتَّى تُعْلَم مَنْ هِيَ . وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذَا رَأَى أَمَة قَدْ تَقَنَّعَتْ ضَرَبَهَا بِالدِّرَّةِ , مُحَافَظَة عَلَى زِيّ الْحَرَائِر . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجِب السَّتْر وَالتَّقَنُّع الْآن فِي حَقّ الْجَمِيع مِنْ الْحَرَائِر وَالْإِمَاء . وَهَذَا كَمَا أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعُوا النِّسَاء الْمَسَاجِد بَعْد وَفَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْله : ( لَا تَمْنَعُوا إِمَاء اللَّه مَسَاجِد اللَّه ) حَتَّى قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : لَوْ عَاشَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَقْتنَا هَذَا لَمَنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد كَمَا مُنِعَتْ نِسَاء بَنِي إِسْرَائِيل .
تَأْنِيس لِلنِّسَاءِ فِي تَرْك الْجَلَابِيب قَبْل هَذَا الْأَمْر الْمَشْرُوع .
لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا ↓
أَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّ الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة لِشَيْءٍ وَاحِد ; كَمَا رَوَى سُفْيَان بْن سَعِيد عَنْ مَنْصُور عَنْ أَبِي رَزِين قَالَ : " الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَة " قَالَ : هُمْ شَيْء وَاحِد , يَعْنِي أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا هَذِهِ الْأَشْيَاء . وَالْوَاو مُقْحَمَة , كَمَا قَالَ : إِلَى الْمَلِك الْقَرْم وَابْن الْهُمَام وَلَيْث الْكَتِيبَة فِي الْمُزْدَحَم أَرَادَ إِلَى الْمَلِك الْقَرْم اِبْن الْهُمَام لَيْث الْكَتِيبَة , وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " . وَقِيلَ : كَانَ مِنْهُمْ قَوْم يُرْجِفُونَ , وَقَوْم يَتْبَعُونَ النِّسَاء لِلرِّيبَةِ , وَقَوْم يُشَكِّكُونَ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ عِكْرِمَة وَشَهْر بْن حَوْشَب : " الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض " يَعْنِي الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ الزِّنَى . وَقَالَ طَاوُس : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَمْر النِّسَاء . وَقَالَ سَلَمَة بْن كُهَيْل : نَزَلَتْ فِي أَصْحَاب الْفَوَاحِش , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَقِيلَ : الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض شَيْء وَاحِد , عُبِّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظَيْنِ ; دَلِيله آيَة الْمُنَافِقِينَ فِي أَوَّل سُورَة " الْبَقَرَة " . وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَة قَوْم كَانُوا يُخْبِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَسُوءهُمْ مِنْ عَدُوّهُمْ , فَيَقُولُونَ إِذَا خَرَجَتْ سَرَايَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهُمْ قَدْ قُتِلُوا أَوْ هُزِمُوا , وَإِنَّ الْعَدُوّ قَدْ أَتَاكُمْ , قَالَ قَتَادَة وَغَيْره . وَقِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ : أَصْحَاب الصُّفَّة قَوْم عُزَّاب , فَهُمْ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلنِّسَاءِ . وَقِيلَ : هُمْ قَوْم مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنْطِقُونَ بِالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَة حُبًّا لِلْفِتْنَةِ . وَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَاب الْإِفْك قَوْم مُسْلِمُونَ وَلَكِنَّهُمْ خَاضُوا حُبًّا لِلْفِتْنَةِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْإِرْجَاف اِلْتِمَاس الْفِتْنَة , وَالْإِرْجَاف : إِشَاعَة الْكَذِب وَالْبَاطِل لِلِاغْتِمَامِ بِهِ . وَقِيلَ : تَحْرِيك الْقُلُوب , يُقَال : رَجَفَتْ الْأَرْض - أَيْ تَحَرَّكَتْ وَتَزَلْزَلَتْ - تَرْجُف رَجْفًا . وَالرَّجَفَان : الِاضْطِرَاب الشَّدِيد . وَالرَّجَّاف : الْبَحْر , سُمِّيَ بِهِ لِاضْطِرَابِهِ . قَالَ الشَّاعِر : الْمُطْعِمُونَ اللَّحْمَ كُلَّ عَشِيَّةٍ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فِي الرَّجَّافِ وَالْإِرْجَاف : وَاحِدُ أَرَاجِيفِ الْأَخْبَارِ . وَقَدْ أَرَجَفُوا فِي الشَّيْء , أَيْ خَاضُوا فِيهِ . قَالَ الشَّاعِر : فَإِنَّا وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِد وَقَالَ آخَر : أَبَا الْأَرَاجِيفِ يَا بْنَ اللُّؤْمِ تُوعِدُنِي وَفِي الْأَرَاجِيفِ خِلْت اللُّؤْمَ وَالْخَوْرَ فَالْإِرْجَاف حَرَام , لِأَنَّ فِيهِ إِذَايَة . فَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى تَحْرِيم الْإِيذَاء بِالْإِرْجَافِ .
أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ فَتَسْتَأْصِلهُمْ بِالْقَتْلِ , . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ إِيذَاء النِّسَاء وَأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَغْرَاهُ بِهِمْ . ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره " [ التَّوْبَة : 84 ] وَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِلَعْنِهِمْ , وَهَذَا هُوَ الْإِغْرَاء ; وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : قَدْ أَغْرَاهُ بِهِمْ فِي الْآيَة الَّتِي تَلِي هَذِهِ مَعَ اِتِّصَال الْكَلَام بِهَا , وَهُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا " . فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْر بِقَتْلِهِمْ وَأَخْذهمْ ; أَيْ هَذَا حُكْمهمْ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى النِّفَاق وَالْإِرْجَاف وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَمْس يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم ) . فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْر كَالْآيَةِ سَوَاء . النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ قَدْ اِنْتَهَوْا عَنْ الْإِرْجَاف فَلَمْ يُغْرَ بِهِمْ . وَلَام " لَنُغْرِيَنَّكَ " لَام الْقَسَم , وَالْيَمِين وَاقِعَة عَلَيْهَا , وَأُدْخِلَتْ اللَّام فِي " إِنْ " تَوْطِئَة لَهَا .
أَيْ فِي الْمَدِينَة . " إِلَّا قَلِيلًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الضَّمِير فِي " يُجَاوِرُونَك " ; فَكَانَ الْأَمْر كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَقِلَّاء . فَهَذَا أَحَد جَوَابَيْ الْفَرَّاء , وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْده , أَيْ لَا يُجَاوِرُونَك إِلَّا فِي حَال قِلَّتهمْ . وَالْجَوَاب الْآخَر : أَنْ يَكُون الْمَعْنَى إِلَّا وَقْتًا قَلِيلًا , أَيْ لَا يَبْقَوْنَ مَعَك إِلَّا مُدَّة يَسِيرَة , أَيْ لَا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إِلَّا جِوَارًا قَلِيلًا حَتَّى يَهْلِكُوا , فَيَكُون نَعْتًا لِمَصْدَرٍ أَوْ ظَرْف مَحْذُوف . وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَك سَاكِنًا بِالْمَدِينَةِ فَهُوَ جَار . وَقَدْ مَضَى فِي " النِّسَاء " .
أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ فَتَسْتَأْصِلهُمْ بِالْقَتْلِ , . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ إِيذَاء النِّسَاء وَأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَغْرَاهُ بِهِمْ . ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره " [ التَّوْبَة : 84 ] وَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِلَعْنِهِمْ , وَهَذَا هُوَ الْإِغْرَاء ; وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : قَدْ أَغْرَاهُ بِهِمْ فِي الْآيَة الَّتِي تَلِي هَذِهِ مَعَ اِتِّصَال الْكَلَام بِهَا , وَهُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا " . فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْر بِقَتْلِهِمْ وَأَخْذهمْ ; أَيْ هَذَا حُكْمهمْ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى النِّفَاق وَالْإِرْجَاف وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَمْس يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم ) . فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْر كَالْآيَةِ سَوَاء . النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ قَدْ اِنْتَهَوْا عَنْ الْإِرْجَاف فَلَمْ يُغْرَ بِهِمْ . وَلَام " لَنُغْرِيَنَّكَ " لَام الْقَسَم , وَالْيَمِين وَاقِعَة عَلَيْهَا , وَأُدْخِلَتْ اللَّام فِي " إِنْ " تَوْطِئَة لَهَا .
أَيْ فِي الْمَدِينَة . " إِلَّا قَلِيلًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الضَّمِير فِي " يُجَاوِرُونَك " ; فَكَانَ الْأَمْر كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَقِلَّاء . فَهَذَا أَحَد جَوَابَيْ الْفَرَّاء , وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْده , أَيْ لَا يُجَاوِرُونَك إِلَّا فِي حَال قِلَّتهمْ . وَالْجَوَاب الْآخَر : أَنْ يَكُون الْمَعْنَى إِلَّا وَقْتًا قَلِيلًا , أَيْ لَا يَبْقَوْنَ مَعَك إِلَّا مُدَّة يَسِيرَة , أَيْ لَا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إِلَّا جِوَارًا قَلِيلًا حَتَّى يَهْلِكُوا , فَيَكُون نَعْتًا لِمَصْدَرٍ أَوْ ظَرْف مَحْذُوف . وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَك سَاكِنًا بِالْمَدِينَةِ فَهُوَ جَار . وَقَدْ مَضَى فِي " النِّسَاء " .