الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7
لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِسورة آل عمران الآية رقم 181
ذَكَرَ تَعَالَى قَبِيح قَوْل الْكُفَّار وَلَا سِيَّمَا الْيَهُود . وَقَالَ أَهْل التَّفْسِير : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا " [ الْبَقَرَة : 245 ] قَالَ قَوْم مِنْ الْيَهُود - مِنْهُمْ حُيَيّ بْن أَخْطَب ; فِي قَوْل الْحَسَن . وَقَالَ عِكْرِمَة وَغَيْره : هُوَ فنحاص بْن عازوراء - إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء يَقْتَرِض مِنَّا . وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ , لَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا ; لِأَنَّهُمْ أَهْل كِتَاب . وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْل ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَشْكِيك الضُّعَفَاء مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَتَكْذِيب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَيْ إِنَّهُ فَقِير عَلَى قَوْل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ اِقْتَرَضَ مِنَّا .



سَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : سَنَكْتُبُهُ فِي صَحَائِف أَعْمَالهمْ , أَيْ نَأْمُر الْحَفَظَة بِإِثْبَاتِ قَوْلهمْ حَتَّى يَقْرَءُوهُ يَوْم الْقِيَامَة فِي كُتُبهمْ الَّتِي يُؤْتَوْنَهَا ; حَتَّى يَكُون أَوْكَد لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : " وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 94 ] . وَقِيلَ : مَقْصُود الْكِتَابَة الْحِفْظ , أَيْ سَنَحْفَظُ مَا قَالُوا لَنُجَازِيهِمْ . " وَمَا " فِي قَوْله " مَا قَالُوا " فِي مَوْضِع نَصْب " بِسَنَكْتُبُ " . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة " سَيَكْتُبُ " بِالْيَاءِ ; فَيَكُون " مَا " اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَاعْتَبَرَ حَمْزَة ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ اِبْن مَسْعُود : " وَيُقَال ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيق " .

أَيْ وَنَكْتُب قَتْلهمْ الْأَنْبِيَاء , أَيْ رِضَاءَهُمْ بِالْقَتْلِ .

وَالْمُرَاد قَتْل أَسْلَافهمْ الْأَنْبِيَاء ; لَكِنْ لَمَّا رَضُوا بِذَلِكَ صَحَّتْ الْإِضَافَة إِلَيْهِمْ . وَحَسَّنَ رَجُلٌ عِنْد الشَّعْبِيّ , قَتْلَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيّ : شَرَكْت فِي دَمه . فَجَعَلَ الرِّضَا بِالْقَتْلِ قَتْلًا ; رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قُلْت : وَهَذِهِ مَسْأَلَة عُظْمَى , حَيْثُ يَكُون الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَة . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ , الْعُرْس بْن عُمَيْرَة الْكِنْدِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا عُمِلَتْ الْخَطِيئَة فِي الْأَرْض كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - وَقَالَ مَرَّة فَأَنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا ) . وَهَذَا نَصٌّ .

تَعْظِيم لِلشُّنْعَةِ وَالذَّنْب الَّذِي أَتَوْهُ

فَإِنْ قِيلَ : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحّ أَنْ يُقْتَلُوا بِالْحَقِّ ; وَمَعْلُوم أَنَّ الْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْ أَنْ يَصْدُر مِنْهُمْ مَا يُقْتَلُونَ بِهِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ; وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا مَخْرَج الصِّفَة لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْم وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; فَكَانَ هَذَا تَعْظِيمًا لِلشُّنْعَةِ عَلَيْهِمْ ; وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يُقْتَل نَبِيّ بِحَقٍّ , وَلَكِنْ يُقْتَل عَلَى الْحَقّ ; فَصَرَّحَ قَوْله : " بِغَيْرِ الْحَقّ " عَنْ شُنْعَة الذَّنْب وَوُضُوحه ; وَلَمْ يَأْتِ نَبِيّ قَطُّ بِشَيْءٍ يُوجِب قَتْله .

فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُخَلَّى بَيْن الْكَافِرِينَ وَقَتْل الْأَنْبِيَاء قِيلَ : ذَلِكَ كَرَامَة لَهُمْ وَزِيَادَة فِي مَنَازِلهمْ ; كَمِثْلِ مَنْ يُقْتَل فِي سَبِيل اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخِذْلَانٍ لَهُمْ . قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْحَسَن : لَمْ يُقْتَل نَبِيّ قَطُّ مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَر بِقِتَالٍ , وَكُلّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ .


أَيْ يُقَال لَهُمْ فِي جَهَنَّم , أَوْ عِنْد الْمَوْت , أَوْ عِنْد الْحِسَاب هَذَا . ثُمَّ هَذَا الْقَوْل مِنْ اللَّه تَعَالَى , أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَة ; قَوْلَانِ . وَقِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " وَيُقَال " . وَالْحَرِيق اِسْم لِلْمُلْتَهِبَةِ مِنْ النَّار , وَالنَّار تَشْمَل الْمُلْتَهِبَة وَغَيْر الْمُلْتَهِبَة .
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِسورة آل عمران الآية رقم 182
أَيْ ذَلِكَ الْعَذَاب بِمَا سَلَف مِنْ الذُّنُوب . وَخَصَّ الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِيَدُلّ عَلَى تَوَلِّي الْفِعْل وَمُبَاشَرَته ; إِذْ قَدْ يُضَاف الْفِعْل إِلَى الْإِنْسَان بِمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ ; كَقَوْلِهِ : " يُذَبِّح أَبْنَاءَهُمْ " [ الْقَصَص : 4 ] وَأَصْل " أَيْدِيكُمْ " أَيْدِيُكُمْ فَحُذِفَتْ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة آل عمران الآية رقم 183
الَّذِينَ " فِي مَوْضِع خَفْض بَدَلًا مِنْ " الَّذِينَ " فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ " لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْل الَّذِينَ قَالُوا " أَوْ نَعْت " لِلْعَبِيدِ " أَوْ خَبَر اِبْتِدَاء , أَيْ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا . وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَغَيْره . نَزَلَتْ فِي كَعْب بْن الْأَشْرَف , وَمَالِك بْن الصَّيْف , وَوَهْب بْن يَهُوذَا وفنحاص بْن عازوراء وَجَمَاعَة أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالُوا لَهُ : أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّه أَرْسَلَك إِلَيْنَا , وَإِنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابًا عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِ أَلَّا نُؤْمِن لِرَسُولٍ يَزْعُم أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه حَتَّى يَأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلهُ النَّار , فَإِنْ جِئْنَا بِهِ صَدَّقْنَاك . فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . فَقِيلَ : كَانَ هَذَا فِي التَّوْرَاة , وَلَكِنْ كَانَ تَمَام الْكَلَام : حَتَّى يَأْتِيكُمْ الْمَسِيح وَمُحَمَّد فَإِذَا أَتَيَاكُمْ فَآمِنُوا بِهِمَا مِنْ غَيْر قُرْبَانٍ . وَقِيلَ : كَانَ أَمْر الْقَرَابِين ثَابِتًا إِلَى أَنْ نُسِخَتْ عَلَى لِسَان عِيسَى اِبْن مَرْيَم . وَكَانَ النَّبِيّ مِنْهُمْ يَذْبَح وَيَدْعُو فَتَنْزِل نَار بَيْضَاء لَهَا دَوِيّ وَحَفِيف لَا دُخَان لَهَا , فَتَأْكُل الْقُرْبَانِ . فَكَانَ هَذَا الْقَوْل دَعْوَى مِنْ الْيَهُود ; إِذْ كَانَ ثَمَّ اِسْتِثْنَاءٌ فَأَخْفَوْهُ , أَوْ نُسِخَ , فَكَانُوا فِي تَمَسُّكهمْ بِذَلِكَ مُتَعَنِّتِينَ , وَمُعْجِزَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيل قَاطَعَ فِي إِبْطَال دَعْوَاهُمْ , وَكَذَلِكَ مُعْجِزَات عِيسَى ; وَمَنْ وَجَبَ صِدْقه وَجَبَ تَصْدِيقه . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : إِقَامَة لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ .



يَا مُحَمَّد


يَا مَعْشَر الْيَهُود

مِنْ الْقُرْبَانِ



يَعْنِي زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وشعيا , وَسَائِر مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام وَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِمْ . أَرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافهمْ . وَهَذِهِ الْآيَة هِيَ الَّتِي تَلَاهَا عَامِر الشَّعْبِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , فَاحْتَجَّ بِهَا عَلَى الَّذِي حَسَّنَ قَتْل عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى الْيَهُود قَتَلَة لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ أَسْلَافهمْ , وَإِنْ كَانَ بَيْنهمْ نَحْو مِنْ سَبْعمِائَةِ سَنَة . وَالْقُرْبَان مَا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ نُسُك وَصَدَقَة وَعَمَل صَالِح ; وَهُوَ فَعْلَان مِنْ الْقُرْبَة . وَيَكُون اِسْمًا وَمَصْدَرًا ; فَمِثَال الِاسْم السُّلْطَان وَالْبُرْهَان . وَالْمَصْدَر الْعُدْوَان وَالْخُسْرَان . وَكَانَ عِيسَى بْن عُمَر يَقْرَأ " بِقُرُبَانٍ " بِضَمِّ الرَّاء إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَاف ; كَمَا قِيلَ فِي جَمْع ظُلْمَة : ظُلُمَات , وَفِي حُجْرَة حُجُرَات . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ وَمُؤْنِسًا لَهُ .
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِسورة آل عمران الآية رقم 184
أَيْ بِالدَّلَالَاتِ .


يْ الْكُتُب الْمَزْبُورَة , يَعْنِي الْمَكْتُوبَة . وَالزُّبُر جَمْع زَبُور وَهُوَ الْكِتَاب .

وَأَصْله مِنْ زَبَرْت أَيْ كَتَبْت . وَكُلّ زَبُور فَهُوَ كِتَاب ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْته فَشَجَانِي كَخَطِّ زَبُور فِي عَسِيبِ يَمَانِي وَأَنَا أَعْرِف تَزْبِرَتِي أَيْ كِتَابَتِي . وَقِيلَ : الزَّبُور مِنْ الزَّبْر بِمَعْنَى الزَّجْر . وَزَبَرْت الرَّجُل اِنْتَهَرْته . وَزَبَرْت الْبِئْر : طَوَيْتهَا بِالْحِجَارَةِ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " بِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِير " بِزِيَادَةِ بَاءَ فِي الْكَلِمَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِف أَهْل الشَّام


أَيْ الْوَاضِح الْمُضِيء ; مِنْ قَوْلك : أَنَرْت الشَّيْء أُنِيرهُ , أَيْ أَوْضَحْته : يُقَال : نَار الشَّيْء وَأَنَارَهُ وَنَوَّرَهُ وَاسْتَنَارَهُ بِمَعْنًى , وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَجَمَعَ بَيْنَ الزُّبُر وَالْكِتَاب - وَهُمَا بِمَعْنًى - لِاخْتِلَافِ لَفْظِهِمَا , وَأَصْلهَا كَمَا ذَكَرْنَا .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِسورة آل عمران الآية رقم 185
فيه سبع مسائل: الْأُولَى : لَمَّا أَخْبَرَ جَلَّ وَتَعَالَى عَنْ الْبَاخِلِينَ وَكُفْرهمْ فِي قَوْلهمْ : " إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء " وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ فِي قَوْله : " لَتُبْلَوُنَّ " [ آل عِمْرَان : 186 ] الْآيَة - بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَضِي وَلَا يَدُوم ; فَإِنَّ أَمَد الدُّنْيَا قَرِيب , وَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم الْجَزَاء . " ذَائِقَة الْمَوْت " مِنْ الذَّوْق , وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيص عَنْهُ لِلْإِنْسَانِ , وَلَا مَحِيد عَنْهُ لِحَيَوَانٍ . وَقَدْ قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَة يَمُتْ هَرَمًا لِلْمَوْتِ كَأْس وَإِنَّ الْمَرْءَ ذَائِقُهَا وَقَالَ آخَر : الْمَوْت بَاب وَكُلّ النَّاس دَاخِله فَلَيْتَ شَعْرِيَ بَعْد الْبَاب مَا الدَّار الثَّانِيَة : قِرَاءَة الْعَامَّة " ذَائِقَة الْمَوْت " بِالْإِضَافَةِ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَابْن أَبِي إِسْحَاق " ذَائِقَةٌ الْمَوْتَ " بِالتَّنْوِينِ وَنَصْب الْمَوْت . قَالُوا : لِأَنَّهَا لَمْ تَذُقْ بَعْد . وَذَلِكَ أَنَّ اِسْم الْفَاعِل عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُضِيّ . وَالثَّانِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَال ; فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّل لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِضَافَة إِلَى مَا بَعْده ; كَقَوْلِك : هَذَا ضَارِب زَيْد أَمْس , وَقَاتِل بَكْر أَمْس ; لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْم الْجَامِد وَهُوَ الْعَلَم , نَحْو غُلَام زَيْد , وَصَاحِب بَكْر . قَالَ الشَّاعِر : الْحَافِظ عَوْرَة الْعَشِيرَة لَا يَأْ تِيهِمُ مِنْ وَرَائِهِمْ وَكَفُ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِي جَازَ الْجَرّ . وَالنَّصْب وَالتَّنْوِين فِيمَا هَذَا سَبِيله هُوَ الْأَصْل ; لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْفِعْل الْمُضَارِع فَإِنْ كَانَ الْفِعْل غَيْر مُتَعَدٍّ , لَمْ يَتَعَدَّ نَحْو قَائِمٌ زَيْدٌ . وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا عَدَّيْته وَنَصَبْت بِهِ , فَتَقُول : زَيْد ضَارِبٌ عَمْرَوًا بِمَعْنَى يَضْرِب عَمْرَوًا . وَيَجُوز حَذْف التَّنْوِين وَالْإِضَافَة تَخْفِيفًا , كَمَا قَالَ الْمَرَّار " : سَلِّ الْهُمُوم بِكُلِّ مُعْطِي رَأْسه نَاجٍ مُخَالِط صُهْبَة مُتَعَيِّس مُغْتَال أَحْبُله مُبِين عُنُقه فِي مَنْكِب زَبَنَ الْمَطِيّ عَرَنْدَس فَحَذَفَ التَّنْوِين تَخْفِيفًا , وَالْأَصْل : مُعْطٍ رَأْسه بِالتَّنْوِينِ وَالنَّصْب , وَمِثْل هَذَا أَيْضًا فِي التَّنْزِيل قَوْله تَعَالَى " هَلْ هُنَّ كَاشِفَات ضُرّه " [ الزُّمَر : 38 ] وَمَا كَانَ مِثْله .

الثَّالِثَة : ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّ لِلْمَوْتِ أَسْبَابًا وَأَمَارَاتٍ , فَمِنْ عَلَامَات مَوْت الْمُؤْمِن عَرَق الْجَبِين . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث بُرَيْدَة قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " الْمُؤْمِن يَمُوت بِعَرَقِ الْجَبِين " . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " التَّذْكِرَة " فَإِذَا اُحْتُضِرَ لُقِّنَ الشَّهَادَة ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) لِتَكُونَ آخِر كَلَامه فَيُخْتَم لَهُ بِالشَّهَادَةِ ; وَلَا يُعَاد عَلَيْهِ مِنْهَا لِئَلَّا يَضْجَر . وَيُسْتَحَبّ قِرَاءَة " يس " ذَلِكَ الْوَقْت ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : " اِقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَذَكَرَ الْآجُرِيّ فِي كِتَاب النَّصِيحَة مِنْ حَدِيث أُمّ الدَّرْدَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مَيِّت يَقْرَأ عِنْده سُورَة يس إِلَّا هُوِّنَ عَلَيْهِ الْمَوْت ) . فَإِذَا قُضِيَ وَتَبِعَ الْبَصَرُ الرُّوحَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَارْتَفَعَتْ الْعِبَادَات وَزَالَ التَّكْلِيف , تَوَجَّهَتْ عَلَى الْأَحْيَاء أَحْكَام ; مِنْهَا :

تَغْمِيضُهُ .

وَإِعْلَام إِخْوَانه الصُّلَحَاء بِمَوْتِهِ . وَكَرِهَهُ قَوْم وَقَالُوا : هُوَ مِنْ النَّعْي . وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع . وَمِنْهَا الْأَخْذ فِي تَجْهِيزه بِالْغُسْلِ وَالدَّفْن لِئَلَّا يُسْرِع إِلَيْهِ التَّغَيُّر ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ أَخَّرُوا دَفْن مَيِّتهمْ : ( عَجِّلُوا بِدَفْنِ جِيفَتكُمْ ) وَقَالَ : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ ) الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي .

الرَّابِعَة : فَأَمَّا غُسْله فَهُوَ سُنَّة لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ حَاشَا الشَّهِيد عَلَى مَا تَقَدَّمَ . قِيلَ : غُسْله وَاجِب قَالَهُ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب . وَالْأَوَّل : مَذْهَب الْكِتَاب , وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاء . وَسَبَب الْخِلَاف قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِأُمِّ عَطِيَّة فِي غُسْلهَا اِبْنَته زَيْنَب , عَلَى مَا فِي كِتَاب مُسْلِم . وَقِيلَ : هِيَ أُمّ كُلْثُوم , عَلَى مَا فِي كِتَاب أَبِي دَاوُد : ( اِغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ) الْحَدِيث . وَهُوَ الْأَصْل عِنْد الْعُلَمَاء فِي غَسْل الْمَوْتَى . فَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَذَا الْأَمْر بَيَان حُكْم الْغُسْل فَيَكُون وَاجِبًا . وَقِيلَ : الْمَقْصُود مِنْهُ تَعْلِيم كَيْفِيَّة الْغُسْل فَلَا يَكُون فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى الْوُجُوب . قَالُوا وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله : ( إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ) وَهَذَا يَقْتَضِي إِخْرَاج ظَاهِر الْأَمْر عَنْ الْوُجُوب ; لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَى نَظَرهنَّ . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا فِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ رَدّك ( إِنْ رَأَيْتُنَّ ) إِلَى الْأَمْر , لَيْسَ السَّابِق إِلَى الْفَهْم بَلْ السَّابِق رُجُوع هَذَا الشَّرْط إِلَى أَقْرَب مَذْكُور , وَهُوَ ( أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ) أَوْ إِلَى التَّخْيِير فِي الْأَعْدَاد . وَعَلَى الْجُمْلَة فَلَا خِلَاف فِي أَنَّ غُسْل الْمَيِّت مَشْرُوع مَعْمُول بِهِ فِي الشَّرِيعَة لَا يُتْرَك . وَصِفَته كَصِفَةِ غُسْل الْجَنَابَة عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف . وَلَا يُجَاوِز السَّبْع غَسَلَات فِي غُسْل الْمَيِّت بِإِجْمَاعٍ ; عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو عُمَر . فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْء بَعْد السَّبْع غَسَّلَ الْمَوْضِع وَحْده , وَحُكْمه حُكْم الْجُنُب إِذَا أَحْدَثَ بَعْد غُسْله . فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْله كَفَنه فِي ثِيَابه وَهِيَ :

الْخَامِسَة : وَالتَّكْفِين وَاجِب عِنْد عَامَّة الْعُلَمَاء , فَإِنْ كَانَ لَهُ مَال فَمِنْ رَأْس مَاله عِنْد عَامَّة الْعُلَمَاء إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُس أَنَّهُ قَالَ : مِنْ الثُّلُث كَانَ الْمَال قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . فَإِنْ كَانَ الْمَيِّت مِمَّنْ تَلْزَم غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاته مِنْ سَيِّد إِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ أَب أَوْ زَوْج أَوْ اِبْن ; فَعَلَى السَّيِّد بِاتِّفَاقٍ , وَعَلَى الزَّوْج وَالْأَب وَالِابْن بِاخْتِلَافٍ . ثُمَّ عَلَى بَيْت الْمَال أَوْ عَلَى جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكِفَايَة . وَاَلَّذِي يَتَعَيَّن مِنْهُ بِتَعْيِينِ الْفَرْض سَتْر الْعَوْرَة ; فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْل غَيْر أَنَّهُ لَا يَعُمّ جَمِيع الْجَسَد غُطِّيَ رَأْسه وَوَجْهه إِكْرَامًا لِوَجْهِهِ وَسَتْرًا لِمَا يَظْهَر مِنْ تَغَيُّر مَحَاسِنه .

وَالْأَصْل فِي هَذَا قِصَّة مُصْعَب بْن عُمَيْر , فَإِنَّهُ تَرَكَ يَوْم أُحُد نَمِرَة كَانَ إِذَا غُطِّيَ رَأْسه خَرَجَتْ رِجْلَاهُ , وَإِذَا غُطِّيَ رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسه ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسه وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِر ) أَخْرَجَ الْحَدِيث مُسْلِم .

وَالْوِتْر مُسْتَحَبّ عِنْد كَافَّة الْعُلَمَاء فِي الْكَفَن , وَكُلّهمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدّ وَالْمُسْتَحَبّ مِنْهُ الْبَيَاض قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِلْبَسُوا مِنْ ثِيَابكُمْ الْبَيَاض فَإِنَّهَا مِنْ خَيْر ثِيَابكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَكُفِّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب بِيض سَحُولِيَّة مِنْ كُرْسُف . وَالْكَفَن فِي غَيْر الْبَيَاض جَائِز إِلَّا أَنْ يَكُون حَرِيرًا أَوْ خَزًّا .

فَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَة فِي الْكَفَن قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي مِثْل لِبَاسه فِي جُمُعَتِهِ وَأَعْيَاده قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنه ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . إِلَّا أَنْ يُوصِي بِأَقَلّ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ أَوْصَى بِسَرَفٍ قِيلَ : يَبْطُل الزَّائِد . وَقِيلَ : يَكُون فِي الثُّلُث . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تُسْرِفُوا " [ الْأَنْعَام : 141 ] . وَقَالَ أَبُو بَكْر : إِنَّهُ لِلْمُهْلَةِ . فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْله وَتَكْفِينه وَوُضِعَ عَلَى سَرِيره وَاحْتَمَلَهُ الرِّجَال عَلَى أَعْنَاقهمْ وَهِيَ :

السَّادِسَة : فَالْحُكْم الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَة فَخَيْر تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ تَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَشَرّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابكُمْ ) . لَا كَمَا يَفْعَلهُ الْيَوْم الْجُهَّال فِي الْمَشْي رُوَيْدًا وَالْوُقُوف بِهَا الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة , وَقِرَاءَة الْقُرْآن بِالْأَلْحَانِ إِلَى مَا لَا يَحِلّ وَلَا يَجُوز حَسْب مَا يَفْعَلهُ أَهْل الدِّيَار الْمِصْرِيَّة بِمَوْتَاهُمْ . رَوَى النَّسَائِيّ : أَخْبَرْنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا خَالِد قَالَ أَنْبَأَنَا عُيَيْنَة بْن عَبْد الرَّحْمَن قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : شَهِدْت جِنَازَة عَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة وَخَرَجَ زِيَاد يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ السَّرِير , فَجَعَلَ رِجَال مِنْ أَهْل عَبْد الرَّحْمَن وَمَوَالِيهمْ يَسْتَقْبِلُونَ السَّرِير وَيَمْشُونَ عَلَى أَعْقَابهمْ وَيَقُولُونَ : رُوَيْدًا رُوَيْدًا , بَارَكَ اللَّه فِيكُمْ ! فَكَانُوا يَدِبُّونَ دَبِيبًا , حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ طَرِيق الْمِرْيَد لَحِقَنَا أَبُو بَكْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى بَغْلَة فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ يَصْنَعُونَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِبَغْلَتِهِ وَأَهْوَى إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ فَقَالَ : خَلُّوا ! فَوَاَلَّذِي أَكْرَم وَجْه أَبِي الْقَاسِم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ رَأَيْتنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهَا لِنَكَادَ نَرْمُل بِهَا رَمْلًا , فَانْبَسَطَ الْقَوْم . وَرَوَى أَبُو مَاجِدَة عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ سَأَلْنَا نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ عَنْ الْمَشْي مَعَ الْجِنَازَة فَقَالَ : ( دُون الْخَبَب إِنْ يَكُنْ خَيْرًا يُعَجَّل إِلَيْهِ وَإِنْ يَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّار ) الْحَدِيث . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَة الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ الْإِسْرَاع فَوْق السَّجِيَّة قَلِيلًا , وَالْعَجَلَة أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ الْإِبْطَاء . وَيُكْرَهُ الْإِسْرَاع الَّذِي يَشُقّ عَلَى ضَعَفَة النَّاس مِمَّنْ يَتْبَعُهَا . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : بَطِّئُوا بِهَا قَلِيلًا وَلَا تَدِبُّوا دَبِيب الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْم الْإِسْرَاع فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة تَعْجِيل الدَّفْن لَا الْمَشْي , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِمَا ذَكَرْنَا . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .

السَّابِعَة : وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَيْهِ فَهِيَ وَاجِبَة عَلَى الْكِفَايَة كَالْجِهَادِ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذَاهِب الْعُلَمَاء : مَالِك وَغَيْره ; لِقَوْلِهِ فِي النَّجَاشِيّ : ( قُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ ) . وَقَالَ أَصْبَغ : إِنَّهَا سُنَّة . وَرَوَى عَنْ مَالِك . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَة بَيَان فِي " بَرَاءَة " .

الثَّامِنَة : وَأَمَّا دَفْنه فِي التُّرَاب وَدَسّه وَسَتْره فَذَلِكَ وَاجِب ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَبَعَثَ اللَّه غُرَابًا يَبْحَث فِي الْأَرْض لِيُرِيَهُ كَيْف يُوَارِي سَوْأَة أَخِيهِ " [ الْمَائِدَة : 31 ] . وَهُنَاكَ يُذْكَر حُكْم بُنْيَان الْقَبْر وَمَا يُسْتَحَبّ مِنْهُ , وَكَيْفِيَّة جَعْل الْمَيِّت فِيهِ . وَيَأْتِي فِي " الْكَهْف " حُكْم بِنَاء الْمَسْجِد عَلَيْهِ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَهَذِهِ جُمْلَة مِنْ أَحْكَام الْمَوْتَى وَمَا يَجِب لَهُمْ عَلَى الْأَحْيَاء . وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِي سُنَن النَّسَائِيّ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ : ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَالِك بِسُوءٍ فَقَالَ : ( لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ ) .


فَأَجْر الْمُؤْمِن ثَوَاب , وَأَجْر الْكَافِر عِقَاب , وَلَمْ يَعْتَدّ بِالنِّعْمَةِ وَالْبَلِيَّة فِي الدُّنْيَا أَجْرًا وَجَزَاء ; لِأَنَّهَا عَرْصَة الْفَنَاء .



أَيْ أُبْعِد .


ظَفِرَ بِمَا يَرْجُو , وَنَجَا مِمَّا يَخَاف . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ زَيْد بْن وَهْب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد رَبّ الْكَعْبَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَح عَنْ النَّار وَأَنْ يُدْخَل الْجَنَّة فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّته وَهُوَ يَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه وَيَأْتِي إِلَى النَّاس الَّذِي يُحِبّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ) . عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَوْضِع سَوْط فِي الْجَنَّة خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّار وَأُدْخِلَ الْجَنَّة فَقَدْ فَازَ " ) .


أَيْ تَغُرّ الْمُؤْمِن وَتَخْدَعهُ فَيَظُنّ طُول الْبَقَاء وَهِيَ فَانِيَة .

وَالْمَتَاع مَا يُتَمَتَّع بِهِ وَيُنْتَفَع ; كَالْفَأْسِ وَالْقِدْر وَالْقَصْعَة ثُمَّ يَزُول وَلَا يَبْقَى مِلْكَهُ ; قَالَهُ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . قَالَ الْحَسَن : كَخَضِرَةِ النَّبَات , وَلَعِب الْبَنَات لَا حَاصِل لَهُ . وَقَالَ قَتَادَة : هِيَ مَتَاع مَتْرُوك تُوشِك أَنْ تَضْمَحِلّ بِأَهْلِهَا ; فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذ مِنْ هَذَا الْمَتَاع بِطَاعَةِ اللَّه سُبْحَانه مَا اِسْتَطَاعَ . وَلَقَدْ أَحْسَن مَنْ قَالَ هِيَ الدَّار دَار الْأَذَى وَالْقَذَى وَدَار الْفِنَاء وَدَار الْغِيَرْ فَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْخُلُودْ وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ إِذَا أَنْتَ شِبْتَ وَبَانَ الشَّبَابْ فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ وَالْغَرُور ( بِفَتْحِ الْغَيْن ) الشَّيْطَان ; يَغُرّ النَّاس بِالتَّمْنِيَةِ وَالْمَوَاعِيد الْكَاذِبَة . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الْغُرُور مَا رَأَيْت لَهُ ظَاهِرًا تُحِبّهُ , وَفِيهِ بَاطِن مَكْرُوه أَوْ مَجْهُول . وَالشَّيْطَان غَرُور ; لِأَنَّهُ يَحْمِل عَلَى مَحَابّ النَّفْس , وَوَرَاء ذَلِكَ مَا يَسُوء . قَالَ : وَمِنْ هَذَا بَيْع الْغَرَر , وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِر بَيْع يَغُرّ وَبَاطِن مَجْهُول .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِسورة آل عمران الآية رقم 186
هَذَا الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّته وَالْمَعْنَى : لَتُخْتَبَرُنَّ وَلَتُمْتَحَنُنَّ فِي أَمْوَالكُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْأَرْزَاء بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّه وَسَائِر تَكَالِيف الشَّرْع . وَالِابْتِلَاء فِي الْأَنْفُس بِالْمَوْتِ وَالْأَمْرَاض وَفَقْد الْأَحْبَاب . وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْوَال لِكَثْرَةِ الْمَصَائِب بِهَا . " وَلَتَسْمَعُنَّ " إِنْ قِيلَ : لَمَ ثَبَتَتْ الْوَاو فِي " لَتُبْلَوُنَّ " وَحُذِفَتْ مِنْ " وَلَتَسْمَعُنَّ " ; فَالْجَوَاب أَنَّ الْوَاو فِي " لَتُبْلَوُنَّ " قَبْلهَا فَتْحَة فَحُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَخُصَّتْ بِالضَّمَّةِ لِأَنَّهَا وَاو الْجَمْع , وَلَمْ يَجُزْ حَذْفهَا لِأَنَّهَا لَيْسَ قَبْلهَا مَا يَدُلّ عَلَيْهَا , وَحُذِفَتْ مِنْ " وَلَتَسْمَعُنَّ " لِأَنَّ قَبْلهَا مَا يَدُلّ عَلَيْهَا . وَلَا يَجُوز هَمْز الْوَاو فِي " لَتُبْلَوُنَّ " لِأَنَّ حَرَكَتهَا عَارِضَة ; قَالَهُ النَّحَّاس وَغَيْره . وَيُقَال لِلْوَاحِدِ مِنْ الْمُذَكَّر : لَتُبْلَيَنَّ يَا رَجُل . وَلِلِاثْنَيْنِ : لَتُبْلَيَانِّ يَا رَجُلَانِ . وَلِجَمَاعَةِ الرِّجَال : لَتُبْلَوُنَّ . وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَمِعَ يَهُودِيًّا يَقُول : إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء . رَدًّا عَلَى الْقُرْآن وَاسْتِخْفَافًا بِهِ حِين أَنْزَلَ اللَّه " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا " [ الْبَقَرَة : 245 ] فَلَطَمَهُ ; فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ . قِيلَ : إِنَّ قَائِلهَا فنحاص الْيَهُودِيّ ; عَنْ عِكْرِمَة . الزُّهْرِيّ : هُوَ كَعْب بْن الْأَشْرَف نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ ; وَكَانَ شَاعِرًا , وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه , وَيُؤَلِّب عَلَيْهِ كُفَّار قُرَيْش , وَيُشَبِّب بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَصْحَابه فَقَتَلَهُ الْقَتْلَةَ الْمَشْهُورَة فِي السِّيَر وَصَحِيح الْخَبَر . وَقِيلَ غَيْر هَذَا . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَة كَانَ بِهَا الْيَهُود وَالْمُشْرِكُونَ , فَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابه يَسْمَعُونَ أَذًى كَثِيرًا . , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَرَّ بِابْنِ أُبَيّ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى حِمَار فَدَعَاهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ اِبْن أُبَيّ : إِنْ كَانَ مَا تَقُول حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسنَا ! اِرْجِعْ إِلَى رَحْلك , فَمَنْ جَاءَك فَاقْصُصْ عَلَيْهِ . وَقَبَضَ عَلَى أَنْفه لِئَلَّا يُصِيبهُ غُبَار الْحِمَار , فَقَالَ اِبْن رَوَاحَة : نَعَمْ يَا رَسُول اللَّه , فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسنَا فَإِنَّا نُحِبّ ذَلِكَ . وَاسْتَبَّ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا حَوْل اِبْن أُبَيّ وَالْمُسْلِمُونَ , وَمَا زَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَكِّنهُمْ حَتَّى سَكَنُوا . ثُمَّ دَخَلَ عَلَى سَعْد بْن عُبَادَة يَعُودهُ وَهُوَ مَرِيض , فَقَالَ : ( أَلَمْ تَسْمَع مَا قَالَ فُلَان ) فَقَالَ سَعْد : اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ , فَوَاَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب لَقَدْ جَاءَك اللَّه بِالْحَقِّ الَّذِي نَزَلَ , وَقَدْ اِصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبُحَيْرَة عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَعْصِبُوهُ بِالْعِصَابَةِ ; فَلَمَّا رَدَّ اللَّه ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ شَرِقَ بِهِ , فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْت . فَعَفَا عَنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . قِيلَ : هَذَا كَانَ قَبْل نُزُول الْقِتَال , وَنَدَبَ اللَّه عِبَاده إِلَى الصَّبْر وَالتَّقْوَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ عَزْم الْأُمُور . وَكَذَا فِي الْبُخَارِيّ فِي سِيَاق الْحَدِيث , إِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل نُزُول الْقِتَال . وَالْأَظْهَر أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ ; فَإِنَّ الْجِدَال بِالْأَحْسَنِ وَالْمُدَارَاة أَبَدًا مَنْدُوب إِلَيْهَا , وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ الْأَمْر بِالْقِتَالِ يُوَادِع الْيَهُود وَيُدَارِيهِمْ , وَيَصْفَح عَنْ الْمُنَافِقِينَ , وَهَذَا بَيِّن . وَمَعْنَى " عَزْم الْأُمُور " شَدّهَا وَصَلَابَتهَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَسورة آل عمران الآية رقم 187
هَذَا مُتَّصِل بِذِكْرِ الْيَهُود ; فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام وَبَيَان أَمْره , فَكَتَمُوا نَعْته . فَالْآيَة تَوْبِيخ لَهُمْ , ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ هُوَ خَبَر عَامّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ . قَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : هِيَ فِي كُلّ مَنْ أُوتِيَ عِلْم شَيْء مِنْ الْكِتَاب . فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيُعَلِّمْهُ , وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَان الْعِلْم فَإِنَّهُ هَلَكَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : لَا يَحِلّ لِعَالِمٍ أَنْ يَسْكُت عَلَى عِلْمه , وَلَا لِلْجَاهِلِ أَنْ يَسْكُت عَلَى جَهْله ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " الْآيَة . وَقَالَ : " فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْر إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " [ النَّحْل : 42 ] . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : لَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّه عَلَى أَهْل الْكِتَاب مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ ; ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة " وَإِذَا أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " . وَقَالَ الْحَسَن بْن عُمَارَة : أَتَيْت الزُّهْرِيّ بَعْد مَا تَرَكَ الْحَدِيث , فَأَلْفَيْته عَلَى بَابه فَقُلْت : إِنْ رَأَيْت أَنْ تُحَدِّثنِي . فَقَالَ : أَمَّا عَلِمْت أَنِّي تَرَكْت الْحَدِيث ؟ فَقُلْت : إِمَّا أَنْ تُحَدِّثنِي وَإِمَّا أَنْ أُحَدِّثك . قَالَ حَدِّثْنِي . قُلْت : حَدَّثَنِي الْحَكَم بْن عُتَيْبَة عَنْ يَحْيَى بْن الْجَزَّار قَالَ سَمِعْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب يَقُول : مَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْجَاهِلِينَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاء أَنْ يُعَلِّمُوا . قَالَ : فَحَدَّثَنِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا .



الْهَاء فِي قَوْله : " لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ " تَرْجِع إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ . وَقِيلَ : تَرْجِع إِلَى الْكِتَاب ; وَيَدْخُل فِيهِ بَيَان أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ فِي الْكِتَاب .


وَلَمْ يَقُلْ تَكْتُمُنَّهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَال , أَيْ لَتُبَيِّنُنَّهُ غَيْر كَاتِمِينَ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَأَهْل مَكَّة " لَتُبَيِّنُنَّهُ " بِالتَّاءِ عَلَى حِكَايَة الْخِطَاب . وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُمْ غَيْب . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَيُبَيِّنُنَّهُ " . فَيَجِيء قَوْله



عَائِدًا عَلَى النَّاس الَّذِينَ بَيَّنَ لَهُمْ الْأَنْبِيَاء . وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " لَيُبَيِّنُونَهُ " دُون النُّون الثَّقِيلَة . وَالنَّبْذ الطَّرْح . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " الْبَقَرَة " . " بَيَانه أَيْضًا .


مُبَالَغَة فِي الِاطِّرَاح , وَمِنْهُ " وَاِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا " [ هُود : 92 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " بَيَانه أَيْضًا . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْله :


نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّل مَنْ كَفَرَ وَأَلَّا يَأْخُذُوا عَلَى آيَات اللَّه ثَمَنًا أَيْ عَلَى تَغْيِير صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُشًى وَكَانَ الْأَحْبَار يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَنُهُوا عَنْهُ قَالَ قَوْم مِنْ أَهْل التَّأْوِيل مِنْهُمْ الْحَسَن وَغَيْره وَقِيلَ كَانَتْ لَهُمْ مَأْكَل يَأْكُلُونَهَا عَلَى الْعِلْم كَالرَّاتِبِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقُلْ إِنَّ الْأَحْبَار كَانُوا يُعَلِّمُونَ دِينهمْ بِالْأُجْرَةِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَفَى كُتُبهمْ يَا بْن آدَم عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا أَيْ بَاطِلًا بِغَيْرِ أُجْرَة قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَقِيلَ الْمَعْنَى وَلَا تَشْتَرُوا بِأَوَامِر ي وَنَوَاهِيَّ وَآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا يَعْنِي الدُّنْيَا وَمُدَّتهَا وَالْعَيْثَى الَّذِي هُوَ نَزْر لَا خَطَر لَهُ فَسَمَّى مَا اعْتَاضُوهُ عَنْ ذَلِكَ ثَمَنًا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ عِوَضًا فَانْطَلَقَ عَلَيْهِ اِسْم الثَّمَن وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَقَالَ الشَّاعِر إِنْ كُنْت حَاوَلْت ذَنْبًا أَوْ ظَفِرْت بِهِ فَمَا أَصَبْت بِتَرْكِ الْحَجّ مِنْ ثَمَن قُلْت : وَهَذِهِ الْآيَة وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّة بِبَنِي إِسْرَائِيل فَهِيَ تَتَنَاوَل مَنْ فَعَلَ فِعْلهمْ فَمَنْ أَخَذَ رِشْوَة عَلَى تَغْيِير حَقّ أَوْ إِبْطَاله أَوْ اِمْتَنَعَ مِنْ تَعْلِيم مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْ أَدَاء مَا عَلِمَهُ وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذ عَلَيْهِ أَجْرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي مُقْتَضَى الْآيَة وَاَللَّه أَعْلَم وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِد عَرْف الْجَنَّة يَوْم الْقِيَامَة ) يَعْنِي رِيحهَا


قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ اِشْتَرَوْا أَنْفُسهمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه . فَاشْتَرَى بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى اِبْتَاعَ ; وَالْمَعْنَى : بِئْسَ الشَّيْء الَّذِي اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اِسْتَبْدَلُوا الْبَاطِل بِالْحَقِّ , وَالْكُفْر بِالْإِيمَانِ .
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 188
أَيْ بِمَا فَعَلُوا مِنْ الْقُعُود فِي التَّخَلُّف عَنْ الْغَزْو وَجَاءُوا بِهِ مِنْ الْعُذْر . ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْو تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَاف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا , وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ; فَنَزَلَتْ " لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا " الْآيَة . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّ مَرْوَان قَالَ لِبَوَّابِهِ : اِذْهَبْ يَا رَافِع إِلَى اِبْن عَبَّاس فَقُلْ لَهُ : لَئِنْ كَانَ كُلّ اِمْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَد بِمَا لَمْ يَفْعَل مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَة ! إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَهْل الْكِتَاب . ثُمَّ تَلَا اِبْن عَبَّاس " وَإِذَا أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ " و " لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَأَلَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْء فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ , وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ ; فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ , وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانهمْ إِيَّاهُ , وَمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : نَزَلَتْ فِي عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيل الَّذِينَ كَتَمُوا الْحَقّ , وَأَتَوْا مُلُوكهمْ مِنْ الْعِلْم مَا يُوَافِقهُمْ فِي بَاطِلهمْ , " وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " أَيْ بِمَا أَعْطَاهُمْ الْمُلُوك مِنْ الدُّنْيَا ; فَقَالَ اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَاب وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم " . فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بِمَا أَفْسَدُوا مِنْ الدِّين عَلَى عِبَاد اللَّه . وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُلُوكِ إِنَّا نَجِد فِي كِتَابنَا أَنَّ اللَّه يَبْعَث نَبِيّنَا فِي آخِر الزَّمَان يَخْتِم بِهِ النُّبُوَّة ; فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّه سَأَلَهُمْ الْمُلُوك أَهُوَ هَذَا الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابكُمْ ؟ فَقَالَ الْيَهُود طَمَعًا فِي أَمْوَال الْمُلُوك : هُوَ غَيْر ذَلِكَ , فَأَعْطَاهُمْ الْمُلُوك الْخَزَائِن ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا " الْمُلُوكَ مِنْ الْكَذِب حَتَّى يَأْخُذُوا عَرَضَ الدُّنْيَا . وَالْحَدِيث الْأَوَّل خِلَاف مُقْتَضَى الْحَدِيث الثَّانِي . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون نُزُولهَا عَلَى السَّبَبَيْنِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي زَمَن وَاحِد , فَكَانَتْ جَوَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْله : وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ , أَيْ طَلَبُوا أَنْ يُحْمَدُوا . وَقَوْل مَرْوَان : لَئِنْ كَانَ كُلّ اِمْرِئٍ مِنَّا إِلَخْ دَلِيل عَلَى أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا مَخْصُوصَة , وَأَنَّ " الَّذِينَ " مِنْهَا . وَهَذَا مَقْطُوع بِهِ مَنْ تَفَهُّم ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآن وَالسُّنَّة . وَقَوْله تَعَالَى : " وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا " إِذَا كَانَتْ الْآيَة فِي أَهْل الْكِتَاب لَا فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ عَلَى دِين إِبْرَاهِيم وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينه , وَكَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْل الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْكِتَاب ; يُرِيدُونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِذَلِكَ . و " الَّذِينَ " فَاعِل بِيَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ . وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامِر وَابْن كَثِير وَأَبِي عَمْرو ; أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْفَارِحُونَ فَرَحهمْ مُنَجِّيًا لَهُمْ مِنْ الْعَذَاب . وَقِيلَ : الْمَفْعُول الْأَوَّل مَحْذُوف , وَهُوَ أَنْفُسهمْ . وَالثَّانِي " بِمَفَازَةٍ " . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " تَحْسَبَنَّ " بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّد الْفَارِحِينَ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَاب . وَقَوْله " فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ " بِالتَّاءِ وَفَتْح الْبَاء , إِعَادَة تَأْكِيد , وَمَفْعُوله الْأَوَّل الْهَاء وَالْمِيم , وَالْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف ; أَيْ كَذَلِكَ , وَالْفَاء عَاطِفَة أَوْ زَائِدَة عَلَى بَدَل الْفِعْل الثَّانِي مِنْ الْأَوَّل . وَقَرَأَ الضَّحَّاك وَعِيسَى بْن عُمَر بِالتَّاءِ وَضَمّ الْبَاء " فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ " أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَيَحْيَى بْن يَعْمَر بِالْيَاءِ وَضَمّ الْبَاء خَبَرًا عَنْ الْفَارِحِينَ ; أَيْ فَلَا يَحَسَبَنَّ أَنْفُسهمْ ; " بِمَفَازَةٍ " الْمَفْعُول الثَّانِي . وَيَكُون " فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ " تَأْكِيدًا . وَقِيلَ : " الَّذِينَ " فَاعِل " بِيَحْسَبَنَّ " وَمَفْعُولَاهَا مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ " يَحْسَبَنَّهُمْ " عَلَيْهِ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : بِأَيِّ كِتَاب أَمْ بِأَيَّةِ آيَة تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَب اِسْتَغْنَى بِذِكْرِ مَفْعُول الْوَاحِد عَنْ ذِكْر مَفْعُول , الثَّانِي , و " بِمَفَازَةٍ " الثَّانِي , وَهُوَ بَدَل مِنْ الْفِعْل الْأَوَّل فَأَغْنَى لِإِبْدَالِهِ مِنْهُ عَنْ ذِكْر مَفْعُولَيْهِ , وَالْفَاء زَائِدَة . وَقِيلَ : قَدْ تَجِيء هَذِهِ الْأَفْعَال مُلْغَاة لَا فِي حُكْم الْجُمَل الْمُفِيدَة نَحْو قَوْل الشَّاعِر : وَمَا خِلْت أَبْقَى بَيْننَا مِنْ مَوَدَّة عِرَاض الْمَذَاكِي الْمُسْنِفَات الْقَلَائِصَا الْمَذَاكِي : الْخَيْل الَّتِي قَدْ أَتَى عَلَيْهَا بَعْد قُرُوحهَا سَنَة أَوْ سَنَتَانِ ; الْوَاحِد مُذَكٍّ , مِثْل الْمُخْلِف مِنْ الْإِبِل ; وَفِي الْمِثْل جَرْي الْمُذَكَّيَات غِلَاب , وَالْمُسْنِفَات اِسْم مَفْعُول ; يُقَال : سَنَفْت الْبَعِير أَسْنِفُهُ سَنْفًا إِذَا كَفَفْته بِزِمَامِهِ وَأَنْتَ رَاكِبه , وَأَسْنَفَ الْبَعِير لُغَة فِي سَنَفَهُ , وَأَسْنَفَ الْبَعِير بِنَفْسِهِ إِذَا رَفَعَ رَأْسه ; يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى . وَكَانَتْ الْعَرَب تَرْكَب الْإِبِل وَتَجَنَّبُ الْخَيْل ; تَقُول : الْحَرْب لَا تُبْقِي مَوَدَّة . وَقَالَ كَعْب بْن أَبِي سُلْمَى : أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ وَقَرَأَ جُمْهُور الْقُرَّاء السَّبْعَة وَغَيْرهمْ " أَتَوْا " بِقَصْرِ الْأَلِف , أَيْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْكَذِب وَالْكِتْمَان . وَقَرَأَ مَرْوَان بْن الْحَكَم وَالْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ " آتَوْا " بِالْمَدِّ , بِمَعْنَى أَعْطَوْا : وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر " أُوتُوا " عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; أَيْ أُعْطُوا . وَالْمَفَازَة الْمَنْجَاة , مَفْعَلَة مِنْ فَازَ يَفُوز إِذَا نَجَا ; أَيْ لَيْسُوا بِفَائِزِينَ . وَسُمِّيَ مَوْضِع الْمَخَاوِف مَفَازَة عَلَى جِهَة التَّفَاؤُل ; قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا مَوْضِع تَفْوِيز وَمَظِنَّة هَلَاك ; تَقُول الْعَرَب : فُوِّزَ الرَّجُل إِذَا مَاتَ . قَالَ ثَعْلَب : حَكَيْت لِابْنِ الْأَعْرَابِيّ قَوْل الْأَصْمَعِيّ فَقَالَ أَخْطَأَ , قَالَ لِي أَبُو الْمَكَارِم : إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَفَازَة ; لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : سُمِّيَ اللَّدِيغ سَلِيمًا تَفَاؤُلًا . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : لِأَنَّهُ مُسْتَسْلِم لِمَا أَصَابَهُ . وَقِيلَ : لَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَكَانٍ بَعِيد مِنْ الْعَذَاب ; لِأَنَّ الْفَوْز التَّبَاعُد عَنْ الْمَكْرُوه . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة آل عمران الآية رقم 189
هَذَا اِحْتِجَاج عَلَى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء , وَتَكْذِيب لَهُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَظُنَّنَّ الْفَرِحِينَ يَنْجُونَ مِنْ الْعَذَاب ; فَإِنَّ لِلَّهِ كُلَّ شَيْء , وَهُمْ فِي قَبْضَة الْقَدِير ; فَيَكُون مَعْطُوفًا عَلَى , الْكَلَام الْأَوَّل , أَيْ إِنَّهُمْ لَا يَنْجُونَ مِنْ عَذَابه , يَأْخُذهُمْ مَتَى شَاءَ . " وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء " أَيْ مُمْكِن " قَدِير " وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِسورة آل عمران الآية رقم 190
تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة فِي " الْبَقَرَة " فِي غَيْر مَوْضِع . فَخَتَمَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَة بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَال فِي آيَاته ; إِذْ لَا تَصْدُر إِلَّا عَنْ حَيّ قَيُّوم قَدِير وَقُدُّوس سَلَام غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ ; حَتَّى يَكُون إِيمَانهمْ مُسْتَنِدًا إِلَى الْيَقِين لَا إِلَى التَّقْلِيد .

" لَآيَات لِأُولِي الْأَلْبَاب " الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولهمْ فِي تَأَمُّلِ الدَّلَائِل . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّبِيّ قَامَ يُصَلِّي , فَأَتَاهُ بِلَال يُؤْذِنهُ بِالصَّلَاةِ , فَرَآهُ يَبْكِي فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّه لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبك وَمَا تَأَخَّرَ ! فَقَالَ : ( يَا بِلَال , أَفَلَا أَكُون عَبْدًا شَكُورًا وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ اللَّيْلَة آيَة " إِنَّ فِي خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لَآيَات لِأُولِي الْأَلْبَاب " - ثُمَّ قَالَ : ( وَيْل لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّر فِيهَا ) .

قَالَ الْعُلَمَاء : يُسْتَحَبّ لِمَنْ اِنْتَبَهَ مِنْ نَوْمه أَنْ يَمْسَح عَلَى وَجْهه , وَيَسْتَفْتِح قِيَامه بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْعَشْر الْآيَات اِقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا وَسَيَأْتِي ; ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ , فَيَجْمَع بَيْنَ التَّفَكُّر وَالْعَمَل , وَهُوَ أَفْضَل الْعَمَل عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْد هَذَا . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأ عَشْر آيَات مِنْ آخِر سُورَة " آل عِمْرَان " كُلّ لَيْلَة , خَرَّجَهُ أَبُو نَصْر الْوَائِلِيّ السِّجِسْتَانِيّ الْحَافِظ فِي كِتَاب " الْإِبَانَة " مِنْ حَدِيث سُلَيْمَان بْن مُوسَى عَنْ مُظَاهِر بْن أَسْلَمَ الْمَخْزُومِيّ عَنْ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة عَنْ عُثْمَان قَالَ : مَنْ قَرَأَ آخِر آل عِمْرَان فِي لَيْلَة كُتِبَ لَهُ قِيَام لَيْلَة .
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِسورة آل عمران الآية رقم 191
ذَكَرَ تَعَالَى ثَلَاث هَيْئَات لَا يَخْلُو اِبْن آدَم مِنْهَا فِي غَالِب أَمْره , فَكَأَنَّهَا تَحْصُر زَمَانه . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُر اللَّه عَلَى كُلّ أَحْيَانه . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كَوْنه عَلَى الْخَلَاء وَغَيْر ذَلِكَ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا ; فَأَجَازَ ذَلِكَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَابْن سِيرِينَ وَالنَّخَعِيّ , وَكَرِهَ ذَلِكَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ . وَالْأَوَّل أَصَحّ لِعُمُومِ الْآيَة وَالْحَدِيث . قَالَ النَّخَعِيّ : لَا بَأْس بِذِكْرِ اللَّه فِي الْخَلَاء فَإِنَّهُ يَصْعَد . الْمَعْنَى : تَصْعَد بِهِ الْمَلَائِكَة مَكْتُوبًا فِي صُحُفهمْ ; فَحَذَفَ الْمُضَاف . دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " مَا يَلْفِظ مِنْ قَوْل إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عَتِيد " [ ق : 18 ] . وَقَالَ : " وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ " [ الِانْفِطَار : 10 - 11 ] . لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ عِبَاده بِالذِّكْرِ عَلَى كُلّ حَال وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَقَالَ : " اُذْكُرُوا اللَّه ذِكْرًا كَثِيرًا " [ الْأَحْزَاب : 41 ] وَقَالَ : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُركُمْ " [ الْبَقَرَة : 152 ] وَقَالَ : " إِنَّا لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَن عَمَلًا " [ الْكَهْف : 3 ] فَعَمَّ . فَذَاكِر اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلّ حَالَاته مُثَاب مَأْجُور إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن مَالِك حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيع قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَطَاء بْن أَبِي مَرْوَان عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْب الْأَحْبَار قَالَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام : ( يَا رَبّ أَقَرِيب أَنْتَ فَأُنَاجِيك أَمْ بَعِيد فَأُنَادِيك قَالَ : يَا مُوسَى أَنَا جَلِيس مَنْ ذَكَرَنِي قَالَ : يَا رَبّ فَإِنَّا نَكُون مِنْ الْحَال عَلَى حَال نُجِلُّكَ وَنُعَظِّمُكَ أَنْ نَذْكُرك قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : الْجَنَابَة وَالْغَائِط قَالَ : يَا مُوسَى اُذْكُرْنِي عَلَى كُلّ حَال ) . وَكَرَاهِيَة مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ إِمَّا لِتَنْزِيهِ ذِكْر اللَّه تَعَالَى فِي الْمَوَاضِع الْمَرْغُوب عَنْ ذِكْره فِيهَا كَكَرَاهِيَةِ قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحَمَّام , وَإِمَّا إِبْقَاء عَلَى الْكِرَام الْكَاتِبِينَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهُمْ مَوْضِعَ الْأَقْذَار وَالْأَنْجَاس لِكِتَابَةِ مَا يَلْفِظ بِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم . و " قِيَامًا وَقُعُودًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال . " وَعَلَى جَنُوبهمْ " فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ وَمُضْطَجِعِينَ وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا " [ يُونُس : 12 ] عَلَى الْعَكْس ; أَيْ دَعَانَا مُضْطَجِعًا عَلَى جَنْبه . وَذَهَبَ , جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ الْحَسَن وَغَيْره إِلَى أَنَّ قَوْله " يَذْكُرُونَ اللَّه " إِلَى آخِره , إِنَّمَا هُوَ عِبَارَة عَنْ الصَّلَاة ; أَيْ لَا يُضَيِّعُونَهَا , فَفِي حَال الْعُذْر يُصَلُّونَهَا قُعُودًا أَوْ عَلَى جَنُوبهمْ . وَهِيَ مِثْل قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاة فَاذْكُرُوا اللَّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبكُمْ " [ النِّسَاء : 103 ] فِي قَوْل اِبْن مَسْعُود عَلَى , مَا يَأْتِي بَيَانه . وَإِذَا كَانَتْ الْآيَة فِي الصَّلَاة فَفِقْههَا أَنَّ الْإِنْسَان يُصَلِّي قَائِمًا , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبه ; كَمَا ثَبَتَ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ : كَانَ بِي الْبَوَاسِير فَسَأَلْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة فَقَالَ : ( صَلِّ قَائِمًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة : وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا قَبْل مَوْته بِعَامٍ فِي النَّافِلَة ; عَلَى مَا فِي صَحِيح مُسْلِم . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا . قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن : لَا أَعْلَم أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيث غَيْر أَبِي دَاوُد الْحَفَرِيّ وَهُوَ ثِقَة , وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْحَدِيث إِلَّا خَطَأ . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة صَلَاة الْمَرِيض وَالْقَاعِد وَهَيْئَتهَا ; فَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْ مَالِك أَنَّهُ يَتَرَبَّع فِي قِيَامه , وَقَالَهُ الْبُوَيْطِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُود تَهَيَّأَ لِلسُّجُودِ عَلَى قَدْر مَا يُطِيق , قَالَ : وَكَذَلِكَ الْمُتَنَفِّل . وَنَحْوه قَوْل الثَّوْرِيّ , وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة الْمُزَنِيّ : يَجْلِس فِي صَلَاته كُلّهَا كَجُلُوسِ التَّشَهُّد . وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه ; وَالْأَوَّل الْمَشْهُور وَهُوَ ظَاهِر الْمُدَوَّنَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَزُفَر : يَجْلِس كَجُلُوسِ التَّشَهُّد , وَكَذَلِكَ يَرْكَع وَيَسْجُد .

قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْقُعُود صَلَّى عَلَى جَنْبه أَوْ ظَهْره عَلَى التَّخْيِير ; هَذَا مَذْهَب الْمُدَوَّنَة وَحَكَى اِبْن حَبِيب عَنْ اِبْن الْقَاسِم يُصَلِّي عَلَى ظَهْره , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبه الْأَيْمَن ثُمَّ عَلَى جَنْبه الْأَيْسَر . وَفِي كِتَاب اِبْن الْمَوَّاز عَكْسه , يُصَلِّي عَلَى جَنْبه الْأَيْمَن , وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَر , وَإِلَّا فَعَلَى الظَّهْر . وَقَالَ سَحْنُون : يُصَلِّي عَلَى الْأَيْمَن كَمَا يَجْعَل فِي لَحْده , وَإِلَّا فَعَلَى ظَهْره وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَر . وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة : إِذَا صَلَّى مُضْطَجِعًا تَكُون رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَة . وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ : يُصَلِّي عَلَى جَنْبه وَوَجْهه إِلَى الْقِبْلَة .

فَإِنْ قَوِيَ لِخِفَّةِ الْمَرَض وَهُوَ فِي الصَّلَاة ; قَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِنَّهُ يَقُوم فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاته وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَزُفَر وَالطَّبَرِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ يَعْقُوب وَمُحَمَّد فِيمَنْ صَلَّى مُضْطَجِعًا رَكْعَة ثُمَّ صَحَّ : أَنَّهُ يَسْتَقْبِل الصَّلَاة مِنْ أَوَّلهَا , وَلَوْ كَانَ قَاعِدًا يَرْكَع وَيَسْجُد ثُمَّ صَحَّ بَنَى فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَلَمْ يَبْنِ فِي قَوْل مُحَمَّد . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة قَائِمًا ثُمَّ صَارَ إِلَى حَدّ الْإِيمَاء فَلْيَبْنِ ; وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف . وَقَالَ مَالِك فِي الْمَرِيض الَّذِي لَا يَسْتَطِيع الرُّكُوع وَلَا السُّجُود وَهُوَ يَسْتَطِيع الْقِيَام وَالْجُلُوس : إِنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا وَيُومِئ إِلَى الرُّكُوع , فَإِذَا أَرَادَ السُّجُود جَلَسَ وَأَوْمَأَ إِلَى السُّجُود ; وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُف وَقِيَاس قَوْل الشَّافِعِيّ وَقَالَ , أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : يُصَلِّي قَاعِدًا .

وَأَمَّا صَلَاة الرَّاقِد الصَّحِيح فَرُوِيَ عَنْ حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْن زِيَادَة لَيْسَتْ مَوْجُودَة فِي غَيْره , وَهِيَ " صَلَاة الرَّاقِد مِثْل نِصْف صَلَاة الْقَاعِد " . قَالَ أَبُو عُمَر : وَجُمْهُور أَهْل الْعِلْم لَا يُجِيزُونَ النَّافِل مُضْطَجِعًا ; وَهُوَ حَدِيث لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا حُسَيْن الْمُعَلِّم وَهُوَ حُسَيْن بْن ذَكْوَان عَنْ عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَة عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن , وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى حُسَيْن فِي إِسْنَاده وَمَتْنه اِخْتِلَافًا يُوجِب التَّوَقُّف عَنْهُ , وَإِنْ صَحَّ فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهه ; فَإِنْ كَانَ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم قَدْ أَجَازَ النَّافِلَة مُضْطَجِعًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُود أَوْ عَلَى الْقِيَام فَوَجْهه هَذِهِ الزِّيَادَة فِي هَذَا الْخَبَر , وَهِيَ حُجَّة لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ . وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَة النَّافِلَة رَاقِدًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُود أَوْ الْقِيَام , فَحَدِيث حُسَيْن هَذَا إِمَّا غَلَط وَإِمَّا مَنْسُوخ وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْآيَةِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِخَلْقِ السَّمَوَات وَالْأَرْض عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّر لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُغَيِّر , وَذَلِكَ الْمُغَيِّر يَجِب أَنْ يَكُون قَادِرًا عَلَى الْكَمَال , وَلَهُ أَنْ يَبْعَث الرُّسُل , فَإِنْ بَعَثَ رَسُولًا وَدَلَّ عَلَى صِدْقه بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَة لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْر ; فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّه عَلَى كُلّ حَال . وَاَللَّه أَعْلَم .


قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى " وَيَذْكُرُونَ " وَهُوَ إِمَّا ذِكْر بِاللِّسَانِ وَإِمَّا الصَّلَاة فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا ; فَعَطَفَ تَعَالَى عِبَادَة أُخْرَى عَلَى إِحْدَاهُمَا بِعِبَادَةٍ أُخْرَى , وَهِيَ التَّفَكُّر فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى وَمَخْلُوقَاته وَالْعِبَر الَّذِي بَثَّ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَزْيَد بَصَائِرهمْ : وَفِي كُلّ شَيْء لَهُ آيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِد وَقِيلَ : " يَتَفَكَّرُونَ " عَطْفٌ عَلَى الْحَال . وَقِيلَ : يَكُون مُنْقَطِعًا ; وَالْأَوَّل أَشْبَه . وَالْفِكْرَة : تَرَدُّدُ الْقَلْب فِي الشَّيْء ; يُقَال : تَفَكَّرَ , وَرَجُل فَكِير كَثِير الْفِكْر , وَمَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْم يَتَفَكَّرُونَ فِي اللَّه فَقَالَ : ( تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْق , وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِق فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ قَدْره ) وَإِنَّمَا التَّفَكُّر وَالِاعْتِبَار وَانْبِسَاط الذِّهْن فِي الْمَخْلُوقَات كَمَا قَالَ : " وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض " . وَحُكِيَ أَنَّ سُفْيَان الثَّوْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَلَّى خَلْف الْمَقَام رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه إِلَى السَّمَاء فَلَمَّا رَأَى الْكَوَاكِب غُشِيَ عَلَيْهِ , وَكَانَ يَبُول الدَّم مِنْ طُول حُزْنه وَفِكْرَته . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْنَمَا رَجُل مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشه إِذْ رَفَعَ رَأْسه فَنَظَرَ إِلَى النُّجُوم وَإِلَى السَّمَاء فَقَالَ أَشْهَد أَنَّ لَكِ , رَبًّا وَخَالِقًا اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي فَنَظَرَ اللَّه إِلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ ) وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا عِبَادَة كَتَفَكُّرٍ ) . وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( تَفَكُّر سَاعَة خَيْر مِنْ عِبَادَة سَنَة ) . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك قَالَ : قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاء : مَا كَانَ أَكْثَر شَأْن أَبِي الدَّرْدَاء ؟ قَالَتْ : كَانَ أَكْثَر شَأْنه التَّفَكُّر . قِيلَ لَهُ : أَفَتَرَى التَّفَكُّر عَمَل مِنْ الْأَعْمَال ؟ قَالَ : نَعَمْ , هُوَ الْيَقِين . وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيِّب فِي الصَّلَاة بَيْنَ الظُّهْر وَالْعَصْر , قَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَة , إِنَّمَا الْعِبَادَة الْوَرَع عَمَّا حَرَّمَ اللَّه وَالتَّفَكُّر فِي أَمْر اللَّه . وَقَالَ الْحَسَن : تَفَكُّر سَاعَة خَيْر مِنْ قِيَام لَيْلَة ; وَقَالَ اِبْن الْعَبَّاس وَأَبُو الدَّرْدَاء . وَقَالَ الْحَسَن : الْفِكْرَة مِرْآة الْمُؤْمِن يَنْظُر فِيهَا إِلَى حَسَنَاته وَسَيِّئَاته . وَمِمَّا يَتَفَكَّر فِيهِ مَخَاوِف الْآخِرَة مِنْ الْحَشْر وَالنَّشْر وَالْجَنَّة وَنَعِيمهَا وَالنَّار وَعَذَابهَا . وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَخَذَ قَدَح الْمَاء لِيَتَوَضَّأ لِصَلَاةِ اللَّيْل وَعِنْده ضَيْف , فَرَآهُ لَمَّا أَدْخَلَ أُصْبُعه فِي أُذُن الْقَدَح أَقَامَ لِذَلِكَ مُتَفَكِّرًا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْر ; فَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا يَا أَبَا سُلَيْمَان ؟ قَالَ : إِنِّي لَمَّا طَرَحَتْ أُصْبُعِي فِي أُذُن الْقَدَح تَفَكَّرْت فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى " إِذْ الْأَغْلَال فِي أَعْنَاقهمْ وَالسَّلَاسِل يُسْحَبُونَ " [ الْمُؤْمِن : 71 ] تَفَكَّرْتُ , فِي حَالِي وَكَيْف أَتَلَقَّى الْغُلّ إِنْ طُرِحَ فِي عُنُقِي يَوْم الْقِيَامَة , فَمَا زِلْت فِي ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحْت . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : " وَهَذَا نِهَايَة الْخَوْف , وَخَيْر الْأُمُور أَوْسَاطهَا , وَلَيْسَ عُلَمَاء الْأُمَّة الَّذِينَ هُمْ الْحُجَّة عَلَى هَذَا الْمِنْهَاج , وَقِرَاءَة عِلْم كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَمَعَانِي سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَفْهَم وَيُرْجَى نَفْعه أَفْضَل مِنْ هَذَا " . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : اِخْتَلَفَ النَّاس أَيّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَل : التَّفَكُّر أَمْ الصَّلَاة ; فَذَهَبَ الصُّوفِيَّة إِلَى أَنَّ التَّفَكُّر أَفْضَل ; فَإِنَّهُ يُثْمِر الْمَعْرِفَة وَهُوَ أَفْضَل , الْمَقَامَات الشَّرْعِيَّة . وَذَهَبَ الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الصَّلَاة أَفْضَل ; لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث مِنْ الْحَثّ عَلَيْهَا وَالدُّعَاء إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيب فِيهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ بَاتَ عِنْد خَالَته مَيْمُونَة , وَفِيهِ : فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْم عَنْ وَجْهه ثُمَّ قَرَأَ الْآيَات الْعَشْر الْخَوَاتِم مِنْ سُورَة آل عِمْرَان , وَقَامَ إِلَى شَنّ مُعَلَّق فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ صَلَّى ثَلَاث عَشْرَة رَكْعَة ; الْحَدِيث . فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّه إِلَى جَمْعه بَيْنَ التَّفَكُّر فِي الْمَخْلُوقَات ثُمَّ إِقْبَاله عَلَى صَلَاته بَعْده ; وَهَذِهِ السُّنَّة هِيَ الَّتِي يُعْتَمَد عَلَيْهَا . فَأَمَّا طَرِيقَة الصُّوفِيَّة أَنْ يَكُون الشَّيْخ مِنْهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَة وَشَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُر ; فَطَرِيقَة بَعِيدَة عَنْ الصَّوَاب غَيْر لَائِقَة بِالْبَشَرِ , وَلَا مُسْتَمِرَّة عَلَى السُّنَن . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْض عُلَمَاء الْمَشْرِق قَالَ : كُنْت بَائِتًا فِي مَسْجِد الْأَقْدَام بِمِصْرَ فَصَلَّيْت الْعَتَمَة فَرَأَيْت رَجُلًا قَدْ اِضْطَجَعَ فِي كِسَاء لَهُ مُسَجًّى بِكِسَائِهِ حَتَّى أَصْبَحَ , وَصَلَّيْنَا نَحْنُ تِلْكَ اللَّيْلَة ; فَلَمَّا أُقِيمَتْ صَلَاة الصُّبْح قَامَ ذَلِكَ الرَّجُل فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَة وَصَلَّى مَعَ النَّاس , فَاسْتَعْظَمْت جَرَاءَته فِي الصَّلَاة بِغَيْرِ وُضُوء ; فَلَمَّا فَرَغَتْ الصَّلَاة خَرَجَ فَتَبِعْته لِأَعِظهُ , فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهُ سَمِعْته يُنْشِد شِعْرًا : مُسَجَّى الْجِسْم غَائِب حَاضِر مُنْتَبِهُ الْقَلْب صَامِت ذَاكِر مُنْقَبِض فِي الْغُيُوب مُنْبَسِط كَذَاك مَنْ كَانَ عَارِفًا ذَاكِر يَبِيت فِي لَيْله أَخَا فِكْر فَهْوَ مَدَى اللَّيْل نَائِم سَاهِر قَالَ : فَعَلِمْت أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْبُد بِالْفِكْرَةِ , فَانْصَرَفْت عَنْهُ .



أَيْ يَقُولُونَ : مَا خَلَقْته عَبَثًا وَهَزْلًا , بَلْ خَلَقْته دَلِيلًا عَلَى قُدْرَتك وَحِكْمَتك . وَالْبَاطِل : الزَّائِل الذَّاهِب . وَمِنْهُ قَوْل لَبِيد : أَلَا كُلّ شَيْء مَا خَلَا اللَّه بَاطِل أَيْ زَائِل . و " بَاطِلًا " نُصِبَ لِأَنَّهُ نَعْت مَصْدَر مَحْذُوف ; أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ عَلَى نَزْع الْخَافِض , أَيْ مَا خَلَقْتهَا لِلْبَاطِلِ . وَقِيلَ : عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي , وَيَكُون خَلَقَ بِمَعْنَى جَعَلَ . " سُبْحَانك " أَسْنَدَ النَّحَّاس عَنْ مُوسَى بْن طَلْحَة قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَى " سُبْحَان اللَّه " فَقَالَ : ( تَنْزِيه اللَّه عَنْ السُّوء ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَاهُ مُسْتَوْفًى . " وَقِنَا عَذَاب النَّار " أَجِرْنَا مِنْ عَذَابهَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍسورة آل عمران الآية رقم 192
أَيْ أَذْلَلْته وَأَهَنْته . وَقَالَ الْمُفَضَّل أَيْ أَهْلَكْته ; وَأَنْشَدَ : أَخْزَى الْإِلَه مَنْ الصَّلِيب عَبِيده وَاللَّابِسِينَ قَلَانِس الرُّهْبَان وَقِيلَ : فَضَحْته وَأَبْعَدْته ; يُقَال : أَخْزَاهُ اللَّه : أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ . وَالِاسْم الْخِزْي . قَالَ اِبْن السِّكِّيت : خَزِيَ يَخْزَى خِزْيًا إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّة . وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَة أَصْحَاب الْوَعِيد وَقَالُوا : مَنْ أُدْخِلَ النَّار يَنْبَغِي أَلَّا يَكُون مُؤْمِنًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ " فَإِنَّ اللَّه يَقُول : " يَوْم لَا يُخْزِي اللَّه النَّبِيّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ " [ التَّحْرِيم : 8 ] . وَمَا قَالُوهُ مَرْدُود ; لِقِيَامِ الْأَدِلَّة عَلَى أَنَّ مَنْ اِرْتَكَبَ كَبِيرَة لَا يَزُول عَنْهُ اِسْم الْإِيمَان , كَمَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي . وَالْمُرَاد مِنْ قَوْله : " مَنْ تُدْخِل النَّار " مَنْ تُخَلِّد فِي النَّار ; قَالَهُ أَنَس بْن مَالِك . وَقَالَ قَتَادَة : تُدْخِل مَقْلُوب تُخَلِّد , وَلَا نَقُول كَمَا قَالَ أَهْل حَرُورَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : الْآيَة خَاصَّة فِي قَوْم لَا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار ; وَلِهَذَا قَالَ



أَيْ الْكُفَّار . وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي , : الْخِزْي يَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْحَيَاء ; يُقَال : خَزِيَ يَخْزَى خِزَايَة إِذَا اِسْتَحْيَا , فَهُوَ خَزْيَان . قَالَ ذُو الرُّمَّة : خِزَايَة أَدْرَكَتْهُ عِنْد جَوْلَته مِنْ جَانِب الْحَبْل مَخْلُوطًا بِهَا الْغَضَب فَخِزْي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ اِسْتِحْيَاؤُهُمْ فِي دُخُول النَّار مِنْ سَائِر أَهْل الْأَدْيَان إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا . وَالْخِزْي لِلْكَافِرِينَ هُوَ إِهْلَاكهمْ فِيهَا مِنْ غَيْر مَوْت ; وَالْمُؤْمِنُونَ يَمُوتُونَ , فَافْتَرَقُوا . كَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيح السُّنَّة مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ , أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي .
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِسورة آل عمران الآية رقم 193
أَيْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَ قَتَادَة وَمُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : هُوَ الْقُرْآن , وَلَيْسَ كُلّهمْ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . دَلِيل هَذَا الْقَوْل مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنّ إِذْ قَالُوا : " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْد " [ الْجِنّ : 1 - 2 ] . وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : مَنْ سَمِعَ الْقُرْآن فَكَأَنَّمَا لَقِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْنًى . وَأَنَّ مَنْ



فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى حَذْف حَرْف الْخَفْض , أَيْ بِأَنْ آمِنُوا . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي ; عَنْ أَبِي عُبَيْدَة . وَقِيلَ : اللَّام بِمَعْنَى إِلَى , أَيْ إِلَى الْإِيمَان ; كَقَوْلِهِ : " ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ " [ الْمُجَادَلَة : 8 ] . وَقَوْله : " بِأَنَّ رَبّك أَوْحَى لَهَا " [ الزَّلْزَلَة : 5 ] وَقَوْله : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا " [ الْأَعْرَاف : 43 ] أَيْ إِلَى هَذَا , وَمِثْله كَثِير . وَقِيلَ : هِيَ لَام أَجْل , أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَان .



تَأْكِيد وَمُبَالَغَة فِي الدُّعَاء . وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِد ; فَإِنَّ الْغَفْر وَالْكَفْر : السَّتْر .



أَيْ أَبْرَارًا مَعَ الْأَنْبِيَاء , أَيْ فِي جُمْلَتهمْ . وَاحِدهمْ بَرّ وَبَارّ وَأَصْله مِنْ الِاتِّسَاع ; فَكَأَنَّ الْبَرّ مُتَّسِع فِي طَاعَة اللَّه وَمُتَّسِعَة لَهُ رَحْمَة اللَّه .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَسورة آل عمران الآية رقم 194
أَيْ عَلَى أَلْسِنَة رُسُلك ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَالزُّهْرِيّ " رُسْلِكَ " بِالتَّخْفِيفِ , وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنْ اِسْتِغْفَار الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة لِلْمُؤْمِنِينَ ; وَالْمَلَائِكَة يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْض . وَمَا ذُكِرَ مِنْ دُعَاء نُوح لِلْمُؤْمِنِينَ وَدُعَاء إِبْرَاهِيم وَاسْتِغْفَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ .



أَيْ لَا تُعَذِّبنَا وَلَا تُهْلِكنَا وَلَا تَفْضَحنَا , وَلَا تُهِنَّا وَلَا تُبْعِدنَا وَلَا تَمْقُتنَا يَوْم الْقِيَامَة



إِنْ قِيلَ : مَا وَجْه قَوْلهمْ " رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتنَا عَلَى رُسُلك " [ آل عِمْرَان : 194 ] وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخْلِف الْمِيعَاد ; فَالْجَوَاب مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه : الْأَوَّل : أَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَعَدَ مَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ , فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ وَعَدَ بِذَلِكَ دُون الْخِزْي وَالْعِقَاب . الثَّانِي : أَنَّهُمْ دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاء عَلَى جِهَة الْعِبَادَة وَالْخُضُوع ; وَالدُّعَاء مُخّ الْعِبَادَة . وَهَذَا كَقَوْلِهِ " قَالَ رَبّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ " [ الْأَنْبِيَاء : 112 ] وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ . الثَّالِث : سَأَلُوا أَنْ يُعْطَوْا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ النَّصْر عَلَى عَدُوّهُمْ مُعَجَّلًا ; لِأَنَّهَا حِكَايَة عَنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ إِعْزَازًا لِلدِّينِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ وَعَدَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِز لَهُ رَحْمَة وَمَنْ وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ) . وَالْعَرَب تَذُمّ بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْوَعْد وَتَمْدَح بِذَلِكَ فِي الْوَعِيد ; حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ : وَلَا يَرْهَبُ اِبْنُ الْعَمِّ مَا عِشْت صَوْلَتِي وَلَا أَخْتَفِي مِنْ خَشْيَة الْمُتَهَدِّد وَإِنِّي مَتَى أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِز مَوْعِدِي
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِسورة آل عمران الآية رقم 195
أَيْ أَجَابَهُمْ . قَالَ الْحَسَن : مَا زَالُوا يَقُولُونَ رَبّنَا رَبّنَا حَتَّى اِسْتَجَابَ لَهُمْ . وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق : مَنْ حَزَبَهُ أَمْر فَقَالَ خَمْس مَرَّات رَبّنَا أَنْجَاهُ اللَّه مِمَّا يَخَاف وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ . قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبهمْ " إِلَى قَوْله : " إِنَّك لَا تُخْلِف الْمِيعَاد " [ آل عِمْرَان : 191 - 194 ] .

" أَنِّي " أَيْ بِأَنِّي . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " إِنِّي " بِكَسْرِ الْهَمْزَة , أَيْ فَقَالَ : إِنِّي . وَرَوَى الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه فِي صَحِيحه عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , أَلَا أَسْمَع اللَّه ذِكْرَ النِّسَاء فِي الْهِجْرَة بِشَيْءٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهمْ أَنِّي لَا أُضِيع عَمَل عَامِل مِنْكُمْ مِنْ : ذَكَر أَوْ أُنْثَى " الْآيَة . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَدَخَلَتْ " مِنْ " لِلتَّأْكِيدِ ; لِأَنَّ قَبْلهَا حَرْف نَفْي . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : هِيَ لِلتَّفْسِيرِ وَلَا يَجُوز حَذْفهَا ; لِأَنَّهَا دَخَلَتْ لِمَعْنًى لَا يَصْلُح الْكَلَام إِلَّا بِهِ , وَإِنَّمَا تُحْذَف إِذَا كَانَ تَأْكِيدًا لِلْجَحْدِ .


اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ دِينكُمْ وَاحِد . وَقِيلَ : بَعْضكُمْ مِنْ بَعْض فِي الثَّوَاب وَالْأَحْكَام وَالنُّصْرَة وَشَبَه ذَلِكَ . وَقَالَ الضَّحَّاك : رِجَالكُمْ شَكْل نِسَائِكُمْ فِي الطَّاعَة , وَنِسَاؤُكُمْ شَكْل رِجَالكُمْ فِي الطَّاعَة ; نَظِيرهَا قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض " [ التَّوْبَة : 71 ] . وَيُقَال : فُلَان مِنِّي , أَيْ عَلَى مَذْهَبِي وَخُلُقِي .



اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ هَجَرُوا أَوْطَانهمْ وَسَارُوا إِلَى الْمَدِينَة .



فِي طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .


أَيْ وَقَاتَلُوا أَعْدَائِي . "وَقُتِلُوا " أَيْ فِي سَبِيلِي . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن عَامِر : " وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا " عَلَى التَّكْثِير . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا " لِأَنَّ الْوَاو لَا تَدُلّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْد الْأَوَّل . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام إِضْمَار قَدْ , أَيْ قُتِلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَر أَيْ وَقَدْ عَلَاهُ الْكِبَر . وَقِيلَ : أَيْ وَقَدْ قَاتَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ ; تَقُول الْعَرَب : قَتَلْنَا بَنِي تَمِيم , وَإِنَّمَا قُتِلَ بَعْضهمْ . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَإِنْ تُقَاتِلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وَقَرَأَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : " وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا " خَفِيفَة بِغَيْرِ أَلِف .


أَيْ لَأَسْتُرَنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَة , فَلَا أُوَبِّخهُمْ بِهَا وَلَا أُعَاقِبهُمْ عَلَيْهَا .



مَصْدَر مُؤَكَّد عِنْد الْبَصْرِيِّينَ ; لِأَنَّ مَعْنَى " لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار " لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا . الْكِسَائِيّ : اِنْتَصَبَ عَلَى الْقَطْع . الْفَرَّاء : عَلَى التَّفْسِير .



أَيْ حُسْن الْجَزَاء ; وَهُوَ مَا يَرْجِع عَلَى الْعَامِل مِنْ جَرَّاء عَمَله ; مِنْ ثَابَ يَثُوب .
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِسورة آل عمران الآية رقم 196
قِيلَ : الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد الْأُمَّة . وَقِيلَ : لِلْجَمِيعِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : هَؤُلَاءِ الْكُفَّار لَهُمْ تَجَائِر وَأَمْوَال وَاضْطِرَاب فِي الْبِلَاد , وَقَدْ هَلَكْنَا نَحْنُ مِنْ الْجُوع ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ سَلَامَتُهُمْ بِتَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارهمْ .
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُسورة آل عمران الآية رقم 197
أَيْ تَقَلُّبهمْ مَتَاع قَلِيل . وَقَرَأَ يَعْقُوب " يَغُرَّنْكَ " سَاكِنَة النُّون ; وَأَنْشَدَ : لَا يَغُرَّنْكَ عِشَاء سَاكِن قَدْ يُوَافِي بِالْمَنِيَّاتِ السَّحَرْ وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى : " فَلَا يَغْرُرْك تَقَلُّبهمْ فِي الْبِلَاد " [ الْمُؤْمِن : 4 ] . وَالْمَتَاع : مَا يُعَجَّل الِانْتِفَاع بِهِ ; وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ فَانٍ , وَكُلّ فَانٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيل . وَفِي صَحِيح التِّرْمِذِيّ عَنْ الْمُسْتَوْرِد الْفِهْرِيّ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مِثْل مَا يَجْعَل أَحَدكُمْ إِصْبَعه فِي الْيَمّ , فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يَرْجِع ) . قِيلَ : ( يَرْجِع ) بِالْيَاءِ وَالتَّاء .

أَيْ بِئْسَ مَا مَهَدُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ , وَمَا مَهَدَ اللَّه لَهُمْ مِنْ النَّار .

فِي هَذِهِ الْآيَة وَأَمْثَالهَا كَقَوْلِهِ : " أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر " [ آل عِمْرَان : 178 ] الْآيَة . " وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين " [ الْأَعْرَاف : 183 ] . " أَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مَال وَبَنِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 55 ] . " سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ " [ الْأَعْرَاف : 182 ] دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكُفَّار غَيْر مُنْعَم عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ حَقِيقَة النِّعْمَة الْخُلُوص مِنْ شَوَائِب الضَّرَر الْعَاجِلَة وَالْآجِلَة , وَنِعَمُ الْكُفَّار مَشُوبَة بِالْآلَامِ وَالْعُقُوبَات , فَصَارَ كَمَنْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ غَيْره حَلَاوَة مِنْ عَسَل فِيهَا السُّمّ , فَهُوَ وَإِنْ اِسْتَلَذَّ آكِلُهُ لَا يُقَال : أَنْعَمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ رُوحِهِ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء , وَهُوَ قَوْل الشَّيْخ أَبِي الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ . وَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْهُمْ سَيْف السُّنَّة وَلِسَان الْأُمَّة الْقَاضِي أَبُو بَكْر : إِلَى أَنَّ اللَّه أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا . قَالُوا : وَأَصْل النِّعْمَة مِنْ النَّعْمَة بِفَتْحِ النُّون , وَهِيَ لِين الْعَيْش ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَنَعْمَة كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ " [ الدُّخَان : 27 ] . يُقَال : دَقِيق نَاعِم , إِذَا بُولِغَ فِي طَحْنه وَأُجِيدَ سَحْقه . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْكُفَّار أَنْ يَشْكُرُوهُ وَعَلَى جَمِيع الْمُكَلَّفِينَ فَقَالَ : " فَاذْكُرُوا آلَاء اللَّه " [ الْأَعْرَاف : 74 ] . " وَاشْكُرُوا لِلَّهِ " [ الْبَقَرَة : 172 ] وَالشُّكْر لَا يَكُون إِلَّا عَلَى نِعْمَة . وَقَالَ : " وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّه إِلَيْك " [ الْقَصَص : 77 ] وَهَذَا خِطَاب لِقَارُون . وَقَالَ : " وَضَرَبَ اللَّه مَثَلًا قَرْيَة كَانَتْ آمِنَة مُطْمَئِنَّة " [ النَّحْل : 112 ] الْآيَة . فَنَبَّهَ سُبْحَانه أَنَّهُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ نِعْمَة دُنْيَاوِيَّة فَجَحَدُوهَا . وَقَالَ : " يَعْرِفُونَ نِعْمَة اللَّه ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا " [ النَّحْل : 83 ] وَقَالَ : " يَا أَيّهَا النَّاس اُذْكُرُوا نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ " [ فَاطِر : 3 ] . وَهَذَا عَامّ فِي الْكُفَّار وَغَيْرهمْ . فَأَمَّا إِذَا قَدَّمَ لِغَيْرِهِ طَعَامًا فِيهِ سُمّ فَقَدْ رَفَقَ بِهِ فِي الْحَال ; إِذْ لَمْ يُجَرِّعهُ السُّمّ بَحْتًا ; بَلْ دَسَّهُ فِي الْحَلَاوَة , فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَال : قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنِّعَم ضَرْبَانِ : نِعَم نَفْع وَنِعَم دَفْع ; فَنِعَم النَّفْع مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ فَنُون اللَّذَّات , وَنِعَم الدَّفْع مَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَنْوَاع الْآفَات . فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْكُفَّار نِعَم الدَّفْع قَوْلًا وَاحِدًا ; وَهُوَ مَا زُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ الْآلَام وَالْأَسْقَام , وَلَا خِلَاف بَيْنهمْ فِي أَنَّهُ لَمْ يُنْعِم عَلَيْهِمْ نِعْمَة دِينه . وَالْحَمْد لِلَّهِ .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِسورة آل عمران الآية رقم 198
اِسْتِدْرَاك بَعْد كَلَام تَقَدَّمَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْي ; لِأَنَّ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ لَهُمْ فِي تَقَلُّبهمْ فِي الْبِلَاد كَبِير الِانْتِفَاع , لَكِنَّ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ الِانْتِفَاع الْكَبِير وَالْخُلْد الدَّائِم . فَمَوْضِع " لَكِنْ " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . وَقَرَأَ يَزِيد بْن الْقَعْقَاع " لَكِنَّ " بِتَشْدِيدِ النُّون .



نُزُلَا مِثْل ثَوَابًا عِنْد الْبَصْرِيِّينَ , وَعِنْد الْكِسَائِيّ يَكُون مَصْدَرًا . الْفَرَّاء : هُوَ مُفَسِّر . وَقَرَأَ الْحَسَن وَالنَّخَعِيّ " نُزْلًا " بِتَخْفِيفِ الزَّاي اِسْتِثْقَالًا لِضَمَّتَيْنِ , وَثَقَّلَهُ الْبَاقُونَ . وَالنُّزُل مَا يُهَيَّأ لِلنَّزِيلِ , وَالنَّزِيل الضَّيْف . قَالَ الشَّاعِر : نَزِيلُ الْقَوْمِ أَعْظَمُهُمْ حُقُوقًا وَحَقُّ اللَّهِ فِي حَقِّ النَّزِيلِ وَالْجَمْع الْأَنْزَال . وَحَظّ نَزِيل : مُجْتَمِع . وَالنُّزُل : أَيْضًا الرِّيع ; يُقَال ; طَعَام كَثِير النُّزُل وَالنُّزْل . قُلْت : وَلَعَلَّ النُّزُل - وَاَللَّه أَعْلَم - مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث ثَوْبَان مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّة الْحَبْر الَّذِي سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْنَ يَكُون النَّاس يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض وَالسَّمَوَات ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُمْ فِي الظُّلْمَة دُون الْجِسْر ) قَالَ : فَمَنْ أَوَّل النَّاس إِجَازَة ؟ قَالَ : ( فُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ) قَالَ الْيَهُودِيّ : فَمَا تُحْفَتهمْ حِين يَدْخُلُونَ الْجَنَّة ؟ قَالَ ( زِيَادَة كَبِد النُّون ) قَالَ : فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرهَا ؟ فَقَالَ : ( يُنْحَر لَهُمْ ثَوْر الْجَنَّة الَّذِي كَانَ يَأْكُل مِنْ أَطْرَافهَا ) قَالَ : فَمَا شَرَابهمْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : ( مِنْ عَيْن فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلَا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . قَالَ أَهْل اللُّغَة : وَالتُّحْفَة مَا يُتْحَف بِهِ الْإِنْسَان مِنْ الْفَوَاكِه . وَالطَّرَف مَحَاسِنه وَمَلَاطِفه , وَهَذَا مُطَابِق لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي النُّزُل , وَاَللَّه أَعْلَم . وَزِيَادَة الْكَبِد : قِطْعَة مِنْهُ كَالْأُصْبُعِ . قَالَ الْهَرَوِيّ : " نُزُلًا مِنْ عِنْد اللَّه " أَيْ ثَوَابًا . وَقِيلَ رِزْقًا .



أَيْ مِمَّا يَتَقَلَّب بِهِ الْكُفَّار فِي الدُّنْيَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة آل عمران الآية رقم 199
قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَنْسَ وَابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالْحَسَن : نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ نَعَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : ( قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ النَّجَاشِيّ ) ; فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : يَأْمُرنَا أَنْ نُصَلِّي عَلَى عِلْج مِنْ عُلُوج الْحَبَشَة ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ " .

قَالَ الضَّحَّاك : " وَمَا أُنْزِلَ أَلِيكُمْ " الْقُرْآن . " وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ " التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . وَفِي التَّنْزِيل : " أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ " [ الْقَصَص : 54 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : " ثَلَاثَة يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ - فَذَكَرَ - رَجُل مِنْ أَهْل الْكِتَاب آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ أَدْرَكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " الصَّلَاة عَلَيْهِ وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت الْغَائِب , فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ . وَقَالَ مُجَاهِد وَابْن جُرَيْج وَابْن زَيْد : نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب , وَهَذَا عَامّ وَالنَّجَاشِيّ وَاحِد مِنْهُمْ . وَاسْمه أصحمة , وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّة .


أَذِلَّة , وَنُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي " يُؤْمِن " . وَقِيلَ : مِنْ الضَّمِير فِي " إِلَيْهِمْ " أَوْ فِي " إِلَيْكُمْ " . وَمَا فِي الْآيَة بَيِّن , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة آل عمران الآية رقم 200
خَتَمَ تَعَالَى السُّورَة بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَة الْعَاشِرَة مِنْ الْوَصَاة الَّتِي جَمَعَتْ الظُّهُور فِي الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْدَاء وَالْفَوْز بِنَعِيمِ الْآخِرَة ; فَحَضَّ عَلَى الصَّبْر عَلَى الطَّاعَات وَعَنْ الشَّهَوَات , وَالصَّبْر الْحَبْس , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " بَيَانه . وَأَمَرَ بِالْمُصَابَرَةِ فَقِيلَ : مَعْنَاهُ مُصَابَرَة الْأَعْدَاء ; قَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَمَ . وَقَالَ الْحَسَن : عَلَى الصَّلَوَات الْخَمْس . وَقِيلَ : إِدَامَة مُخَالَفَة النَّفْس عَنْ شَهَوَاتهَا فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِع . وَقَالَ عَطَاء وَالْقُرَظِيّ : صَابِرُوا الْوَعْد الَّذِي وَعُدْتُمْ . أَيْ لَا تَيْأَسُوا وَانْتَظِرُوا الْفَرَج ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِنْتِظَار الْفَرَج بِالصَّبْرِ عِبَادَة ) . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل أَبُو عُمَر رَحِمَهُ اللَّه . وَالْأَوَّل قَوْل الْجُمْهُور ; وَمِنْهُ قَوْل عَنْتَرَة : فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْل صَبْرنَا وَلَا كَافَحُوا مِثْل الَّذِينَ نُكَافِح فَقَوْله " صَابَرُوا مِثْل صَبْرنَا " أَيْ صَابَرُوا الْعَدُوّ فِي الْحَرْب وَلَمْ يَبْدُ مِنْهُمْ جُبْن وَلَا خَوَر . وَالْمُكَافَحَة : الْمُوَاجَهَة وَالْمُقَابَلَة فِي الْحَرْب ; وَلِذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْله


فَقَالَ جُمْهُور الْأُمَّة : رَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ بِالْخَيْلِ , أَيْ اِرْتَبَطُوهَا كَمَا يَرْتَبِطهَا أَعْدَاؤُكُمْ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَمِنْ رِبَاط الْخَيْل " [ الْأَنْفَال : 60 ] وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ قَالَ : كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب يَذْكُر لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّوم وَمَا يَتَخَوَّف مِنْهُمْ ; فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر : أَمَّا بَعْد , فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِل بِعَبْدٍ مُؤْمِن مِنْ مَنْزِل شِدَّة يَجْعَل اللَّه لَهُ بَعْدهَا فَرَجًا , وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ , وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " وَقَالَ أَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن : هَذِهِ الْآيَة فِي اِنْتِظَار الصَّلَاة بَعْد الصَّلَاة , وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْو يُرَابَط فِيهِ ; رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه فِي صَحِيحه . وَاحْتَجَّ أَبُو سَلَمَة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَلَا أَدُلّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّه بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَع بِهِ الدَّرَجَات إِسْبَاغ الْوُضُوء عَلَى الْمَكَارِه وَكَثْرَة الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِد وَانْتِظَار الصَّلَاة بَعْد الصَّلَاة فَذَلِكُمْ الرِّبَاط ) ثَلَاثًا ; رَوَاهُ مَالِك . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْقَوْل الصَّحِيح هُوَ أَنَّ الرِّبَاط هُوَ الْمُلَازَمَة فِي سَبِيل اللَّه . أَصْلهَا مِنْ رَبْط الْخَيْل , ثُمَّ سُمِّيَ كُلّ مُلَازِم لِثَغْرِ مِنْ ثُغُور الْإِسْلَام مُرَابِطًا , فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا . وَاللَّفْظ مَأْخُوذ مِنْ الرَّبْط . وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَذَلِكُمْ الرِّبَاط ) إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيه بِالرِّبَاطِ فِي سَبِيل اللَّه . وَالرِّبَاط اللُّغَوِيّ هُوَ الْأَوَّل ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ : ( لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرْعَةِ ) وَقَوْله ( لَيْسَ الْمِسْكِين بِهَذَا الطَّوَّاف ) إِلَى غَيْر ذَلِكَ . قُلْت : قَوْله " وَالرِّبَاط اللُّغَوِيّ هُوَ الْأَوَّل " لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ , فَإِنَّ الْخَلِيل بْن أَحْمَد أَحَد أَئِمَّة اللُّغَة وَثِقَاتهَا قَدْ قَالَ : الرِّبَاط مُلَازَمَة الثُّغُور , وَمُوَاظَبَة الصَّلَاة أَيْضًا , فَقَدْ حَصَلَ أَنَّ اِنْتِظَار الصَّلَاة رِبَاط لُغَوِيّ حَقِيقَة ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَكْثَر مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الشَّيْبَانِيّ أَنَّهُ يُقَال : مَاء مُتَرَابِط أَيْ دَائِم لَا يُنْزَح ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس وَهُوَ يَقْتَضِي تَعْدِيَة الرِّبَاط لُغَة إِلَى غَيْر مَا ذَكَرْنَاهُ . فَإِنَّ الْمُرَابَطَة عِنْد الْعَرَب : الْعَقْد عَلَى الشَّيْء حَتَّى لَا يَنْحَلّ , فَيَعُود إِلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ , فَيَحْبِس الْقَلْب عَلَى النِّيَّة الْحَسَنَة وَالْجِسْم عَلَى فِعْل الطَّاعَة . وَمِنْ أَعْظَمهَا وَأَهَمّهَا اِرْتِبَاط الْخَيْل فِي سَبِيل اللَّه كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيل فِي قَوْله : " وَمِنْ رِبَاط الْخَيْل " [ الْأَنْفَال : 60 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَارْتِبَاط النَّفْس عَلَى الصَّلَوَات كَمَا قَالَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَعَلِيّ وَلَا عِطْر بَعْد عَرُوس .

الْمُرَابِط فِي سَبِيل اللَّه عِنْد الْفُقَهَاء هُوَ الَّذِي يَشْخَص إِلَى ثَغْر مِنْ الثُّغُور لِيُرَابِط فِيهِ مُدَّة مَا ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز وَرَوَاهُ . وَأَمَّا سُكَّان الثُّغُور دَائِمًا بِأَهْلَيْهِمْ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ هُنَالِكَ , فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا حَمَاة فَلَيْسُوا بِمُرَابِطِينَ . قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلِلرِّبَاطِ حَالَتَانِ : حَالَة يَكُون الثَّغْر مَأْمُونًا مَنِيعًا يَجُوز سُكْنَاهُ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَد . وَإِنْ كَانَ غَيْر مَأْمُون جَازَ أَنْ يُرَابِط فِيهِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الْقِتَال , وَلَا يَنْقُل إِلَيْهِ الْأَهْل وَالْوَلَد لِئَلَّا يَظْهَر الْعَدُوّ فَيَسْبِي وَيَسْتَرِق . وَاَللَّه أَعْلَم .

جَاءَ فِي فَضْل الرِّبَاط أَحَادِيث كَثِيرَة , مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : رِبَاط يَوْم فِي سَبِيل اللَّه خَيْر عِنْد اللَّه مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سَلْمَان قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( رِبَاط يَوْم وَلَيْلَة خَيْر مِنْ صِيَام شَهْر وَقِيَامه وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَله الَّذِي كَانَ يَعْمَلهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقه وَأَمِنَ الْفَتَّان ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه عَنْ فَضَالَة بْن عُبَيْد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلّ مَيِّت يُخْتَم عَلَى عَمَله إِلَّا الْمُرَابِط فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيُؤَمَّن مِنْ فَتَّان الْقَبْر ) . وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الرِّبَاط أَفْضَل الْأَعْمَال الَّتِي يَبْقَى ثَوَابهَا بَعْد الْمَوْت ; كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَان اِنْقَطَعَ عَنْهُ عَمَله إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة إِلَّا مِنْ صَدَقَة جَارِيَة أَوْ عِلْم يُنْتَفَع بِهِ أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ) وَهُوَ حَدِيث صَحِيح اِنْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِم ; فَإِنَّ الصَّدَقَة الْجَارِيَة وَالْعِلْم الْمُنْتَفَع بِهِ وَالْوَلَد الصَّالِح يَدْعُو لِأَبَوَيْهِ يَنْقَطِع ذَلِكَ بِنَفَادِ الصَّدَقَات وَذَهَاب الْعِلْم وَمَوْت الْوَلَد . وَالرِّبَاط يُضَاعَف أَجْره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنَّمَاءِ إِلَّا الْمُضَاعَفَة , وَهِيَ غَيْر مَوْقُوفَة عَلَى سَبَب فَتَنْقَطِع بِانْقِطَاعِهِ , بَلْ هِيَ فَضْل دَائِم مِنْ اللَّه تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَهَذَا لِأَنَّ أَعْمَال الْبِرّ كُلّهَا لَا يُتَمَكَّن مِنْهَا إِلَّا بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَدُوّ وَالتَّحَرُّز مِنْهُ بِحِرَاسَةِ بَيْضَة الدِّين وَإِقَامَة شَعَائِر الْإِسْلَام . وَهَذَا الْعَمَل الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ ثَوَابه هُوَ مَا كَانَ يَعْمَلهُ مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة ; خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيل اللَّه أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَجْر عَمَله الصَّالِح الَّذِي كَانَ يَعْمَل وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقه وَأَمِنَ مِنْ الْفَتَّان وَبَعَثَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة آمِنًا مِنْ الْفَزَع ) . وَفِي هَذَا الْحَدِيث قَيْد ثَانٍ وَهُوَ الْمَوْت حَالَة الرِّبَاط . وَاَللَّه أَعْلَم . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ رَابَطَ لَيْلَة فِي سَبِيل اللَّه كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَة صِيَامهَا وَقِيَامهَا ) . وَرُوِيَ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَرِبَاطُ يَوْم فِي سَبِيل اللَّه مِنْ وَرَاء عَوْرَة الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا مِنْ غَيْر شَهْر رَمَضَان أَعْظَم أَجْرًا مِنْ عِبَادَة مِائَة سَنَة صِيَامهَا وَقِيَامهَا وَرِبَاط يَوْم فِي سَبِيل اللَّه مِنْ وَرَاء عَوْرَة الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا مِنْ شَهْر رَمَضَان أَفْضَل عِنْد اللَّه وَأَعْظَم أَجْرًا - أَرَاهُ قَالَ : مِنْ عِبَادَة أَلْف سَنَة صِيَامهَا وَقِيَامهَا فَإِنْ رَدَّهُ اللَّه إِلَى أَهْله سَالِمًا لَمْ تُكْتَب عَلَيْهِ سَيِّئَة أَلْف سَنَة وَتُكْتَب لَهُ الْحَسَنَات وَيُجْرَى لَهُ أَجْر الرِّبَاط إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ رِبَاط يَوْم فِي شَهْر رَمَضَان يُحَصِّل لَهُ مِنْ الثَّوَاب الدَّائِم وَإِنْ لَمْ يَمُتْ مُرَابِطًا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَعَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( حَرْس لَيْلَة فِي سَبِيل اللَّه أَفْضَل مِنْ صِيَام رَجُل وَقِيَامه فِي أَهْله أَلْف سَنَة السَّنَة ثَلَاثمِائَةِ يَوْم وَسِتُّونَ يَوْمًا وَالْيَوْم كَأَلْفِ سَنَة ) . قُلْت : وَجَاءَ فِي اِنْتِظَار الصَّلَاة بَعْد الصَّلَاة أَنَّهُ رِبَاط ; فَقَدْ يَحْصُل لِمُنْتَظِرِ الصَّلَوَات ذَلِكَ الْفَضْل إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الْعَزِيز قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن الْمِنْهَال ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن مَالِك قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيّ عَنْ أَبِي أَيُّوب الْأَزْدِيّ عَنْ نَوْف الْبِكَالِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ذَات لَيْلَة الْمَغْرِب فَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ , فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل أَنْ يَثُوب النَّاس لِصَلَاةِ الْعِشَاء , فَجَاءَ وَقَدْ حَضَرَهُ النَّاس رَافِعًا أُصْبُعه وَقَدْ عَقَدَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يُشِير بِالسِّبَابَةِ إِلَى السَّمَاء فَحَسَرَ ثَوْبه عَنْ رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ يَقُول : ( أَبْشِرُوا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ هَذَا رَبّكُمْ قَدْ فَتْح بَابًا مِنْ أَبْوَاب السَّمَاء يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَة يَقُول يَا مَلَائِكَتِي اُنْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ قَضَوْا فَرِيضَة وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى ) . وَرَوَاهُ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه : أَنَّ نَوْفًا وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو اِجْتَمَعَا فَحَدَّثَ نَوْف عَنْ التَّوْرَاة وَحَدَّثَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بِهَذَا الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .


أَيْ لَمْ تُؤْمَرُوا بِالْجِهَادِ مِنْ غَيْر تَقْوًى .



لِتَكُونُوا عَلَى رَجَاء مِنْ الْفَلَاح . وَقِيلَ : لَعَلَّ بِمَعْنَى لِكَيْ . وَالْفَلَاح الْبَقَاء , وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلّه فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى , وَالْحَمْد لِلَّهِ . نَجَزَ تَفْسِير سُورَة آل عِمْرَان مِنْ ( جَامِع أَحْكَام الْقُرْآن وَالْمُبَيِّن لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ السُّنَّة وَآيِ الْفُرْقَان ) بِحَمْدِ اللَّه وَعَوْنه .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7