الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًاسورة الكهف الآية رقم 91
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًاسورة الكهف الآية رقم 92
" ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ " قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق, قاصدا للشمال, فوصل إلى ما بين السدين, وهما سدان, كانا معروفين في ذلك الزمان.
سدان من سلاسل الجبال, المتصلة يمنة ويسره حتى تتصل بالبحار, بين يأجوج ومأجوج وبين الناس.
وجد من دون السدين قوما, لا يكادون يفقهون قولا, لعجمة ألسنتهم, واستعجام أذهانهم وقلوبهم.
وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية, ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم, وراجعهم, وراجعوه.
فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج, وهما: أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاسورة الكهف الآية رقم 93
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّاسورة الكهف الآية رقم 94
" إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ " بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك.
" فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا " أي جعلا " عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا " ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم, على بنيان السد, وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه, فبذلوا له أجرة, ليفعل ذلك, وذكروا له السبب الداعي, وهو: إفسادهم في الأرض.
فلم يكن ذو القرنين ذا طمع, ولا رغبة في الدنيا, ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية.
بل قصده الإصلاح, فلذلك أجاب طلبتهم, لما فيها من المصلحة, ولم يأخذ منهم أجرة, وشكر ربه على تمكينه واقتداره, فقال لهم:
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًاسورة الكهف الآية رقم 95
" مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ " أي: مما تبذلون لي وتعطوني, وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم " أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا " أي: مانعا من عبورهم عليكم.
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًاسورة الكهف الآية رقم 96
" آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ " أي: قطع الحديد, فأعطوه ذلك.
" حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ " أي: الجبلين اللذين بني بينهما السد " قَالَ انْفُخُوا " أي: أوقدوها إيقادا عظيما, واستعملوا لها المنافيخ, لتشتد, فتذيب النحاس.
فلما ذاب النحاس, الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد " قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا " أي: نحاسا مذابا.
فأفرغ عليه القطر, فاستحكم السد استحكاما هائلا, وامتنع له من وراءه من الناس, من ضرر يأجوج ومأجوج.
فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًاسورة الكهف الآية رقم 97
" فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا " أي: فما لهم استطاعة, ولا قدرة على الصعود عليه, لارتفاعه, ولا على نقبه لإحكامه وقوته.
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّاسورة الكهف الآية رقم 98
فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل, أضاف النعمة إلى موليها وقال: " هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي " أي: من فضله وإحسانه عليَّ.
وهذه حال الخلفاء والصالحين, إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة, ازداد شكرهم وإقرارهم, واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام, لما حضر عنده عرش ملكة سبأ, مع البعد العظيم قال: " هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ " بخلاف أهل التجبر والتكبر, والعلو في الأرض فإن النعم الكبار, تزيدهم أشرا وبطرا.
كما قال قارون لما آتاه الله من الكنوز, ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال: " إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي " وقوله: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي " أي: لخروج يأجوج ومأجوج " جَعَلَهُ " أي: ذلك السد المحكم المتقن " دَكَّاءَ " أي: دكه فانهدم, واستوى هو والأرض " وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا " .
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًاسورة الكهف الآية رقم 99
" وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ " يحتمل أن الضمير, يعود إلى يأجوج ومأجوج.
وأنهم إذا خرجوا على الناس من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها - يموج بعضهم ببعض, كما قال تعالى " حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ " .
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة, وأنهم يجتمعون فيه فيكثرون ويموج بعضهم ببعض, من الأهوال والزلازل العظام, بدليل قوله: " وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ " إلى " لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا " أي: إذا نفخ إسرافيل في الصور, أعاد الله الأرواح إلى الأجساد, ثم حشرهم, وجمعهم لموقف القيامة, الأولين منهم والأخرين, والكافرين والمؤمنين, ليسألوا ويحاسبوا ويجزوا بأعمالهم.
فأما الكافرون على اختلافهم فإن جهنم جزاؤهم, خالدين فيها أبدا.
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًاسورة الكهف الآية رقم 100
ولهذا قال: " وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا " كما قال تعالى: " وإذا الجحيم برزت " أي: عرضت لهم لتكون مأواهم ومنزلهم, وليتمتعوا بأغلالها وسعيرها, وحميمها, وزمهريرها, وليذوقوا من العقاب, ما تبكم له القلوب, وتصم الآذان, وهذا آثار أعمالهم, وجزاء أفعالهم.
فإنهم في الدنيا " كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي " أي: معرضين عن الذكر الحكيم, والقرآن الكريم, وقالوا: " قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ " .
وفي أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات الله النافعة كما قال تعالى: " وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ " .
" وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا " أي: لا يقدرون على سمع آيات الله الموصلة إلى الإيمان, لبغضهم القرآن والرسول.
فإن المبغض, لا يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلام من أبغضه.
فإذا انحجبت عنهم طرق العلم والخير, فليس لهم سمع ولا بصر, ولا عقل نافع فقد كفروا بالله, وجحدوا آياته, وكذبوا رسله, فاستحقوا جهنم, وساءت مصيرا.
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًاسورة الكهف الآية رقم 101
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاسورة الكهف الآية رقم 102
وهذا برهان وبيان, لبطلان دعوى المشركين الكافرين, الذين اتخذوا بعض الأنبياء والأولياء, شركاء لله يعبدونهم, ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء, ينجونهم من عذاب الله, وينيلونهم ثوابه, وهم قد كفروا بالله ورسوله.
يقول الله لهم على وجه الاستفهام والإنكار المتقرر بطلانه في العقول: " أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ " أي: لا يكون ذلك ولا يوالي ولي الله, معاديا لله أبدا.
فإن الأولياء موافقون لله, في محبته, ورضاه, وسخطه, وبغضه.
فيكون على هذا المعنى, مشابها لقوله تعالى " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ " .
فمن زعم أنه يتخذ ولي الله وليا له, وهو معاد لله, فهو كاذب.
ويحتمل - وهو الظاهر - أن المعنى: أفحسب الكفار بالله, المنابذون لرسله, أن يتخذوا من دون الله أولياء ينصرونهم, وينفعونهم من دون الله, ويدفعون عنهم الأذى؟.
هذا حسبان باطل, وظن فاسد, فإن جميع المخلوقين, ليس بيدهم من النفع والضر, شيء.
ويكون هذا, كقوله تعالى: " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا " , " وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ " .
ونحو ذلك من الآيات التي يذكر الله فيها, أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه, ضال خائب الرجاء, غير نائل لبعض مقصوده.
" إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا " أي ضيافة وقرى فبئس النزل نزلهم, وبئست جهنم, ضيافتهم.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاسورة الكهف الآية رقم 103
أي: قل يا محمد, للناس - على وجه التحذير والإنذار-: هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًاسورة الكهف الآية رقم 104
" الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " أي: بطل واضمحل كل ما عملوه, من عمل, وهم يحسبون أنهم محسنون في صنعه.
فكيف بأعمالهم, التي يعلمون أنها باطلة, وأنها محادة لله ورسله, ومعاداة؟!! فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم, فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟ ألا ذلك هو الخسران المبين.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًاسورة الكهف الآية رقم 105
" أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ " أي: جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية, الدالة على وجوب الإيمان به, وملائكته, ورسله, وكتبه, واليوم الآخر.
" فَحَبِطَتْ " بسبب ذلك " أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا " لأن الوزن فائدته, مقابلة الحسنات بالسيئات, والنظر في الراجح منها والمرجوح وهؤلاء, لا حسنات لهم, لعدم شرطها, وهو الإيمان, كما قال تعالى " وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا " .
لكن تعد أعمالهم, وتحصى, ويقررون بها, ويخزون بها على رءوس الأشهاد, ثم يعذبون عليها, ولهذا قال: " ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ "
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًاسورة الكهف الآية رقم 106
" ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ " أي: حبوط أعمالهم, وأنه لا يقام لهم يوم القيامة, وزن, لحقارتهم وخستهم, بكفرهم بآيات الله, واتخاذهم آياته ورسله, هزوا يستهزئون بها, ويسخرون منهم.
مع أن الواجب في آيات الله ورسله, الإيمان التام بها, والتعظيم لها, والقيام بها أتم القيام.
وهؤلاء عكسوا القضية, فانعكس أمرهم, وتعسوا, وانتكسوا في العذاب.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاسورة الكهف الآية رقم 107
ولما بين مآل الكافرين وأعمالهم, بين أعمال المؤمنين ومآلهم فقال: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا " إلى " حِوَلًا " .
أي: إن الذين آمنوا بقلوبهم, وعملوا الصالحات بجوارحهم.
وشمل هذا الوصف جميع الدين, عقائده, وأعماله, أصوله, وفروعه الظاهرة, والباطنة.
فهؤلاء - على اختلاف طبقاتهم من الإيمان, والعمل الصالح - لهم جنات الفردوس.
يحتمل أن المراد بجنات الفردوس, أعلى الجنة, ووسطها, وأفضلها, وأن هذا الثواب, لمن كمل فيه الإيمان, والعمل الصالح, والأنبياء والمقربون.
ويحتمل أن يراد بها, جميع منازل الجنان, فيشمل هذا الثواب, جميع طبقات أهل الإيمان, من المقربين, والمقتصدين كل بحسب حاله.
وهذا أول المعنيين, لعمومه, ولذكر الجنة, بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس, وأن الفردوس يطلق على البستان, المحتوي على الكرم, أو الأشجار الملتفة وهذا صادق على جميع الجنة.
فجنة الفردوس, نزل, وضيافة لأهل الإيمان, والعمل الصالح.
وأي ضيافة أجل, وأكبر, وأعظم, من هذه الضيافة, المحتوية على كل نعيم, للقلوب, والأرواح, والأبدان, وفيها ما تشتهيه الأنفس.
وتلذ الأعين من المنازل الأنيقة, والرياض الناضرة والأشجار المثمرة.
والطيور المغردة الشجية, والمآكل اللذيذة, والمشارب الشهية, والنساء الحسان, والخدم, والولدان, والأنهار السارحة, والمناظر الرائقة, والجمال الحسي والمعنوي, والنعمة الدائمة.
وأعلى ذلك وأفضله وأجله, التنعم بالقرب من الرحمن [ونيل رضاه, الذي هو أكبر نعيم الجنان, والتمتع برؤية وجه الكريم, وسماع الكلام الرءوف الرحيم].
فله تلك الضيافة, ما أجلها وأجملها, وأدومها, وأكملها!! وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق, أو تخطر على القلوب.
فلو علم العباد بعض ذلك النعيم, علما حقيقيا, يصل إلى قلوبهم, لطارت إليها قلوبهم بالأشواق, ولتقطعت أرواحهم, من ألم الفراق, ولساروا إليها زرافات ووحدانا.
ولم يؤثروا عليها دنيا فانية, ولذات منغصة متلاشية.
ولم يفوتوا أوقاتا, تذهب ضائعة خاسرة, يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة.
ولكن الغفلة شملت.
والإيمان ضعف, والعلم قل, والإرادة وهت فكان, ما كان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاسورة الكهف الآية رقم 108
وقوله " خَالِدِينَ فِيهَا " هذا هو تمام النعيم, إن فيها, النعم الكامل, ومن تمامه أنه لا ينقطع " لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا " .
أي: تحولا ولا انتقالا, لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم, ويسرهم ويفرحهم, ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه.
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًاسورة الكهف الآية رقم 109
أي قل لهم مخبرا عن عظمة الباري, وسعة صفاته, وأنها لا يحيط العباد بشيء منها: " لَوْ كَانَ الْبَحْرُ " أي هذه الأبحر الموجودة في العالم.
" مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي " أي: وأشجار الدنيا, من أولها إلى آخرها, من أشجار البلدان والبراري, والبحار, أقلام.
" لَنَفِدَ الْبَحْرُ " وتكسرت الأقلام " قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي " وهذا شيء عظيم, لا يحيط به أحد.
وفي الآية الأخرى " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم " وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان, لأن هذه الأشياء مخلوقة, وجميع المخلوقات, منقضية منتهية.
وأما كلام الله, فإنه من جملة صفاته, وصفاته غير مخلوقة, ولا لها حد ولا منتهى.
فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب, فالله فوق ذلك.
وبهذا سائر صفات الله تعالى, كعلمه, وحكمته, وقدرته, ورحمته.
فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين أهل السماوات وأهل الأرض لكان بالنسبة إلى علم العظيم, أقل من نسبة عصفور, وقع على حافة البحر, فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته.
ذلك بأن الله, له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة, وأن إلى ربك المنتهى.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًاسورة الكهف الآية رقم 110
أي: " قُلْ " يا محمد للكفار وغيرهم: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " أي: لست بإله, ولا لي شركة في الملك, ولا علم بالغيب, ولا عندي خزائن الله.
" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " عبد من عبيد ربي, " يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ " أي: فضلت عليكم بالوحي, الذي يوحيه إلي, الذي أجله الإخبار لكم, أنما إلهكم إله واحد, أي: لا شريك له, ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة, وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه, وينيلكم ثوابه, ويدفع عنكم عقابه.
ولهذا قال: " فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا " وهو الموافق لشرع الله, من واجب ومستحب.
" وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " أي لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى.
فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة, هو الذي ينال ما يرجو ويطلب.
وأما من عدا ذلك, فإنه خاسر في دنياه وأخراه, وقد فاته القرب من مولاه, ونيل رضاه.
آخر تفسير سورة الكهف, ولله الحمد.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4