الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6
أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًاسورة النساء الآية رقم 151
وكذلك من كفر برسول, فقد كفر بجميع الرسل, بل بالرسول, الذي يزعم أنه به مؤمن, ولهذا قال: " أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا " .
وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة, بين الإيمان والكفر.
ووجه كونهم كافرين - حتى بمن زعموا الإيمان به - أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به, موجود هو أو مثله, أو ما هو فوقه للنبي الذي كفروا به.
وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به, موجود مثلها, أو أعظم منها, فيمن آمنوا به.
فلم يبق بعد ذلك, إلا التشهي والهوى, ومجرد الدعوى, التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها.
ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا, ذكر عقابا شاملا لهم, ولكل كافر فقال: " وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا " كما تكبروا عن الإيمان بالله, أهانهم بالعذاب الأليم المخزي.
وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًاسورة النساء الآية رقم 152
" وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ " وهذا يتضمن الإيمان, بكل ما أخبر الله به عن نفسه, وبكل ما جاءت به الرسل من الأخبار والأحكام.
" وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ " بل آمنوا بهم كلهم.
فهذا هو الإيمان الحقيقي, واليقين المبني على البرهان.
" أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ " أي: جزاء إيمانهم, وما ترتب عليه, من عمل صالح, وقول حسن, وخلق جميل, كُلٌّ على حسب حاله.
ولعل هذا, هو السر في إضافة الأجور إليهم.
" وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " يغفر السيئات ويتقبل الحسنات.
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًاسورة النساء الآية رقم 153
هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب, للرسول محمد صلى الله عليه وسلم, على وجه العناد والاقتراح, وجعلهم هذا السؤال.
يتوقف عليه تصديقهم, أو تكذيبهم.
وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة, كما نزلت التوراة والإنجيل.
وهذا غاية الظلم منهم, فإن الرسول, بشر عبد, مدبر, ليس في يده من الأمر شيء, بل الأمر كله لله.
وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده, كما قال تعالى عن الرسول, لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين عليه صلى الله عليه وسلم.
" قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا " .
وكذلك جعلهم الفارق, بين الحق والباطل, مجرد إنزال الكتاب جملة, أو مفرقا, مجرد دعوى, لا دليل عليها, ولا مناسبة, بل ولا شبهة.
فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء, أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب, نزل مفرقا, فلا تؤمنوا به, ولا تصدقوه؟ بل نزول القرآن مفرقا بحسب الأحوال, مما يدل على عظمته, واعتناء الله بمن أنزل عليه كما قال تعالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " فلما ذكر اعتراضهم الفاسد, أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم.
بل سبق لهم من المقدمات القبيحة, ما هو أعظم مما سلكوا مع الرسول, الذي يزعمون أنهم آمنوا به, من سؤالهم له, رؤية الله عيانا, واتخاذهم العجل إلها يعبدونه, من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم, ما لم يره غيرهم.
ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم, وهو التوراة, حتى رفع الطور من فوق رءوسهم, وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا, أسقط عليهم, فقبلوا ذلك على وجه الإغماض, والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري.
ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية, التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين, فخالفوا القول والفعل.
ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت, فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة.
وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم, فنبذوه وراء ظهورهم, وكفروا بآيات الله, وقتلوا رسله بغير حق.
ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه.
والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه, بل شُبِّه لهم غيره, فقتلوا غيره وصلبوه.
وادعائهم بأن قلوبهم غلف, لا تفقه ولا تقول لهم, ولا تفهمه.
وبصدهم الناس عن سبيل الله, فصدوهم عن الحق, ودعوتهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي.
وبأخذهم السحت, والربا, مع نهي الله لهم عنه, والتشديد فيه.
فالذين فعلوا هذه الأفاعيل, لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا, أن ينزل عليهم كتابا من السماء.
وهذه الطريقة, من أحسن الطرق, لمحاجة الخصم المبطل.
وهو: أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل, ما جعله شبهة له ولغيره, في رد الحق, أن يبين من حاله الخبيثة, وأفعاله الشنيعة, ما هو من أقبح ما صدر منه, ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس, وأن له مقدمات يجعل هذا معها.
وكذلك كل اعتراض يعترضون به, على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, يمكن أن يقابل بمثله, أو ما هو أقوى منه, في نبوة من يدعون إيمانهم به, ليكتفي بذلك شرهم, وينقمع باطلهم.
وكل حجة سلكوها, في تقريرهم لنبوة من آمنوا به, فإنها ونظيرها, وما هو أقوى منها, دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة, لم يبسطها في هذا الموضع, بل أشار إليها, وأحال على مواضعها, وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها.
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًاسورة النساء الآية رقم 154
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاًسورة النساء الآية رقم 155
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًاسورة النساء الآية رقم 156
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًاسورة النساء الآية رقم 157
بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًاسورة النساء الآية رقم 158
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًاسورة النساء الآية رقم 159
وقوله " وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " .
يحتمل أن الضمير هنا في قوله " قَبْلَ مَوْتِهِ " يعود إلى أهل الكتاب.
فيكون - على هذا - كل كتابي يحضره الموت, ويعاين الأمر حقيقة, فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام, ولكنه إيمان لا ينفع, لأنه إيمان اضطرار.
فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد, أن لا يستمروا على هذه الحال, التي سيندمون عليها قبل مماتهم فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟!! ويحتمل أن الضمير في قوله " قَبْلَ مَوْتِهِ " راجع إلى عيسى عليه السلام.
فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب, إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح, وذلك يكون عند اقتراب الساعة, وظهور علاماتها الكبار.
فإنها تكاثرت الأحاديث في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة.
يقتل الدجال, ويضع الجزية, ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين.
ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا, يشهد عليهم بأعمالهم, وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟.
وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه, مما هو مخالف لشريعة القرآن.
ولما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم علمنا بذلك, لعلمنا بكمال عدالة المسيح عليه السلام, وصدقه, وأنه لا يشهد إلا بالحق.
إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, هو الحق, وما عداه, فهو ضلال وباطل.
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًاسورة النساء الآية رقم 160
ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب, كثيرا من الطيبات, التي كانت حلالا عليهم.
وهذا تحريم عقوبة, بسبب ظلمهم واعتدائهم, وصدهم الناس عن سبيل الله, ومنعهم إياهم من الهدى, وبأخذهم الربا, وقد نهوا عنه.
فمنعوا المحتاجين, ممن يبايعونه عن العدل.
فعاقبهم الله من جنس فعلهم, فمنعهم من كثير من الطيبات, التي كانوا بصدد حلها, لكونها طيبة.
وأما التحريم الذي على هذه الأمة, فإنه تحريم, تنزيها لهم عن الخبائث التي تضرهم, في دينهم ودنياهم.
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًاسورة النساء الآية رقم 161
لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًاسورة النساء الآية رقم 162
لما ذكر معايب أهل الكتاب, ذكر الممدوحين منهم فقال: " لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ " أي: الذين ثبت العلم في قلوبهم, ورسخ الإيقان في أفئدتهم, فأثمر لهم الإيمان التام العام " بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ " .
وأثمر لهم الأعمال الصالحة, من إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, اللذين هما أفضل الأعمال.
وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود, والإحسان إلى العبيد.
وآمنوا باليوم الآخر, فخافوا الوعيد, ورجو الوعد.
" أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا " لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان, والعمل الصالح, والإيمان بالكتب, والرسل السابقة واللاحقة.
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًاسورة النساء الآية رقم 163
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله, من الشرع العظيم, والأخبار الصادقة, ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء, عليهم الصلاة والسلام, وفي هذا عدة فوائد: منها أن محمدا صلى الله عليه وسلم, ليس ببدع من الرسل, بل أرسل الله قبله من المرسلين, العدد الكثير, والجم الغفير, فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد.
ومنها: أنه أوحى إليه, كما أوحى إليهم, في الأصول, والعدل الذي اتقوا عليه, وأن بعضهم يصدق بعضا, ويوافق بعضهم بعضا.
ومنها: أنه من جنس هؤلاء الرسل, فليعتبره المعتبر, بإخوانه المرسلين.
فدعوته, دعوتهم; وأخلاقهم; متفقة; ومصدرهم واحد; وغايتهم واحدة.
فلم يقرنه بالمجهولين; ولا بالكذابين, ولا بالملوك الظالمين.
ومنها: أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم, من التنويه بهم, والثناء الصادق عليهم, وشرح أحوالهم, مما يزداد به المؤمن, إيمانا بهم, ومحبة لهم, واقتداء بهديهم, واستنانا بسنتهم, ومعرفة بحقوقهم, ويكون ذلك مصداقا لقوله: " سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ " " سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ " " سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ " " سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ " .
فكل محسن, له من الثناء الحسن بين الأنام, بحسب إحسانه.
والرسل - خصوصا هؤلاء المسمون - في المرتبة العليا من الإحسان.
ولما ذكر اشتراكهم بوحيه, ذكر تخصيص بعضهم.
فذكر أنه: آتى داود الزبور, وهو الكتاب المعروف, المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام, لفضله وشرفه.
وأنه كلم موسى تكليما, أي: مشافهة منه إليه, لا بواسطة, حتى اشتهر بهذا عند العالمين, فيقال " موسى كليم الرحمن " .
وذكر أن الرسل, منهم من قصه الله على رسوله, ومنهم من لم يقصصه عليه.
وهذا يدل على كثرتهم, وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم, بالسعادة الدنيوية والأخروية, ومنذرين من عصى الله, وخالفهم بشقاوة الدارين, لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا: " مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ " .
فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى, يبينون لهم أمر دينهم, ومراضي ربهم ومساخطه, وطرق الجنة وطرق النار.
فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وهذا من كمال عزته تعالى, وحكمته, أن أرسل إليهم الرسل, وأنزل عليهم الكتب.
وذلك أيضا من فضله وإحسانه, حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء, أعظم ضرورة تقدر, فأزال هذا الاضطرار, فله الحمد والشكر.
ونسأله, كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم, أن يتمها بالتوفيق, لسلوك طريقهم.
إنه جواد كريم.
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًاسورة النساء الآية رقم 164
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًاسورة النساء الآية رقم 165
لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًاسورة النساء الآية رقم 166
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين, أخبر هنا, بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به.
و " أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ " يحتمل أن يكون المراد, أنزله مشتملا على علمه, أي: فيه من العلوم الإلهية, والأحكام الشرعية, والأخبار الغيبية, ما هو من علم الله تعالى, الذي علم به عباده.
ويحتمل أن يكون المراد: أنزله, صادرا عن علمه.
ويكون في ذلك إشارة وتنبيه, على وجه شهادته.
وأن المعنى: إذا كان تعالى, أنزل هذا القرآن, المشتمل على الأوامر والنواهي, وهو يعلم ذلك, ويعلم حالة الذي أنزله عليه, وأنه دعا الناس إليه, فمن أجابه وصدقه, كان وليه, ومن كذبه وعاداه, كان عدوه, واستباح ماله ودمه, والله تعالى يمكنه, ويوالي نصره, ويجيب دعواته, ويخذل أعداءه, وينصر أولياءه.
فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟!! ولا يمكن القدح في هذه الشهادة, إلا بعد القدح بعلم الله, وقدرته, وحكمته, وإخباره تعالى, بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله, لكمال إيمانهم, ولجلالة هذا المشهود عليه.
فإن الأمور العظيمة, لا يستشهد عليها, إلا الخواص, كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد: " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " وكفى بالله شهيدا.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلالاً بَعِيدًاسورة النساء الآية رقم 167
لما أخبر عن رسالة الرسل, صلوات الله وسلامه عليهم, وأخبر برسالة خاتمهم محمد, وشهد بها, وشهدت ملائكته - لزم من ذلك, ثبوت الأمر المقرر, والمشهود به, فوجب تصديقهم, والإيمان بهم واتباعهم.
ثم توعد من كفر بهم فقال: " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " .
أي جمعوا بين الكفر بأنفسهم, وصدهم الناس عن سبيل الله.
وهؤلاء أئمة الكفر, ودعاة الظلال " قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا " .
وأي: ضلال, أعظم من ضلال من ضل بنفسه, وأضل غيره, فباء بالإثمين, ورجع بالخسارتين, وفاتته الهدايتان, ولهذا قال: " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا "
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًاسورة النساء الآية رقم 168
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا " وهذا الظلم هو زيادة على كفرهم, وإلا فالكفر - عند إطلاق الظلم - يدخل فيه.
والمراد بالظلم هنا, أعمال الكفر والاستغراق فيه.
فهؤلاء بعيدون من المغفرة, والهداية للصراط المستقيم.
ولهذا قال: " لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ " .
وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية, لأنهم استمروا في طغيانهم, وازدادوا في كفرهم, فطبع على قلوبهم, وانسدت عليهم طرق الهداية, بما كسبوا.
" وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " .
إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًاسورة النساء الآية رقم 169
" وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا " أي: لا يبالي الله بهم, ولا يعبأ, لأنهم لا يصلحون للخير, ولا يليق بهم, إلا الحالة التي اختاروها لأنفسهم.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًاسورة النساء الآية رقم 170
يأمر تعالى جميع الناس, أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وذكر السبب الموجب للإيمان به, والفائدة في الإيمان والمضرة, في عدم الإيمان به.
فالسبب الموجب, هو: إخباره بأنه جاءهم بالحق.
فمجيئه نفسه حق, وما جاء به من الشرع حق.
فإن العاقل, يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون, وفي كفرهم يترددون, والرسالة قد انقطعت عنهم, غير لائق بحكمة الله ورحمته.
فمن حكمته ورحمته العظيمة, نفس إرسال الرسول إليهم, ليعرفهم الهدى من الضلال, والغي من الرشد.
فمجرد النظر في رسالته, دليل قاطع على صحة نبوته.
وكذلك النظر إلى ما جاء به, من الشرع العظيم, والصراط المستقيم.
فإنه فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة, والخبر عن الله, وعن اليوم الآخر - ما لا يعرفه أحد إلا بالوحي والرسالة.
وما فيه من الأمر, بكل خير وصلاح, ورشد, وعدل, وإحسان, وصدق, وبر, وصلة, وحسن خلق, ومن النهي عن الشر والفساد, والبغي والظلم, وسوء الخلق, والكذب والعقوق, مما يقطع به أنه من عند الله.
وكلما ازداد به العبد بصيرة, ازداد إيمانه ويقينه, فهذا السبب الداعي للإيمان.
وأما الفائدة في الإيمان فأخبر أنه " خَيْرًا لَكُمْ " والخير, ضد الشر.
فالإيمان, خير للمؤمنين, في أبدانهم, وقلوبهم, وأرواحهم, ودنياهم, وأخراهم.
وذلك لما يترتب عليه, من المصالح والفوائد.
فكل ثواب, عاجل وآجل, فمن ثمرات الإيمان.
فالنصر, والهدى, والعلم, والعمل الصالح, والسرور, والأفراح, والجنة, وما اشتملت عليه, من النعيم - كل ذلك, سبب عن الإيمان.
كما أن الشقاء الدنيوي, والأخروي, من عدم الإيمان, أو نقصه.
وأما مضرة عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم, فيعرف بضد ما يترتب على الإيمان.
وأن العبد لا يضر إلا نفسه, والله تعالى, غني عنه, لا تضره معصية العاصين.
ولهذا قال: " فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: الجميع خلقه وملكه, وتحت تدبيره وتصريفه " وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا " بكل شيء " حَكِيمًا " في خلقه وأمره.
فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية, الحكيم في وضع الهداية والغواية, موضعهما.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاًسورة النساء الآية رقم 171
ينهى تعالى, أهل الكتاب عن الغلو في الدين, وهو: مجاوزة الحد, والقدر المشروع, إلى ما ليس بمشروع.
وذلك كقول النصارى, في غلوهم بعيسى عليه السلام, ورفعه عن مقام النبوة, والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله فكما أن التقصير والتفريط, من المنهيات, فالغلو كذلك.
ولهذا قال " وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ " وهذا الكلام, يتضمن ثلاثة أشياء.
أمرين منهي عنهما, وهما قول الكذب على الله, والقول بلا علم, في أسمائه, وصفاته, وأفعاله, وشرعه, ورسله.
والثالث: مأمور وهو: قول الحق في هذه الأمور.
ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية, وكان السياق في شأن عيسى عليه السلام, نصا على قول الحق فيه, المخالف للطريقة اليهودية والنصرانية قال: " إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ " أي: غاية المسيح عليه السلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال, أعلى حالة تكون للمخلوقين, وهي درجة الرسالة, التي هي أعلى الدرجات, وأجلّ المثوبات.
وأنه " وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ " أي: كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى, ولم يكن تلك الكلمة, وإنما كان بها, وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم.
وكذلك قوله " وَرُوحٌ مِنْهُ " أي: من الأرواح التي خلقها, وكملها بالصفات الفاضلة, والأخلاق الكاملة.
أرسل الله روحه, جبريل عليه السلام, فنفخ في فرج مريم عليهما السلام.
فحملت بإذن الله, بعيسى عليه السلام.
فلما بيّن حقيقة عيسى عليه السلام, أمر أهل الكتاب بالإيمان به, وبرسله, ونهاهم أن يجعلوا الله, ثالث ثلاثة, أحدهم عيسى, والثاني مريم فهذه مقالة النصارى, قبحهم الله.
فأمرهم أن ينتهوا, وأخبر أن ذلك, خير لهم, لأنه الذي يتعين, أنه سبيل النجاة, وما سواه, فهو طرق الهلاك.
ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال: " إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ " أي: هو المنفرد بالألوهية, الذي لا تنبغي العبادة إلا له.
" سُبْحَانَهُ " أي: تنزه وتقدس " أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ " لأن: " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " فالكل مملوكون له, مفتقرون إليه, فمحال أن يكون له شريك منهم, أو ولد.
ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي, أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها, ومجازيها فقال تعالى: " لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ " إلى قوله " وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا " .
لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًاسورة النساء الآية رقم 172
لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام, وذكر أنه عبده ورسوله, ذكر هنا, أنه لا يستنكف عن عبادة ربه, أي: لا يمتنع عنها رغبة عنها لا هو " وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ " .
فنزههم عن الاستنكاف, وتنزيههم عن الاستكبار, من باب أولى.
ونفي الشيء فيه إثبات ضده.
أي: فعيسى والملائكة المقربون, قد رغبوا في عبادة ربهم, وأحبوها وسعوا فيها, بما يليق بأحوالهم, فأوجب لهم ذلك, الشرف العظيم, والفوز العظيم.
فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته, ولا لإلهيته, بل يرون افتقارهم لذلك, فوق كل افتقار.
ولا يظن أن رفع عيسى, أو غيره من الخلق, فوق مرتبته, التي أنزله الله فيها, وترفعه عن العبادة كمالا, بل هو النقص بعينه, وهو محل الذم والعقاب, ولهذا قال: " وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا " أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه, المستنكفين, والمستكبرين وعباده المؤمنين, فيحكم بينهم, بحكمه العدل, وجزائه الفصل.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًاسورة النساء الآية رقم 173
ثم فصل حكمه فيهم فقال: " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: جمعوا بين الإيمان المأمور به, وعمل الصالحات, من واجبات, ومستحبات, في حقوق الله, وحقوق عباده.
" فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ " أي: الأجور التي رتبها على الأعمال, كُلٌّ بحسب إيمانه وعمله.
" وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ " من الثواب, الذي لم تنله أعمالهم, ولم تصل إليه أفعالهم, ولم يخطر على قلوبهم.
ودخل في ذلك, كل ما في الجنة, من المآكل, والمشارب, والمناكح والمناظر, والسرور, ونعيم القلب والروح, ونعيم البدن.
بل يدخل في ذلك, كل خير, ديني, ودنيوي, رتب على الإيمان, والعمل الصالح.
" وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا " أي عن عبادة الله تعالى " فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " وهو سخط الله وغضبه, والنار الموقدة, التي تطلع على الأفئدة.
" وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا " أي: لا يجدون أحدا من الخلق, يتولاهم, فيحصل لهم المطلوب, ولا من ينصرهم, فيدفع عنهم المرهوب.
بل قد تخلى عنهم, أرحم الراحمين, وتركهم في عذابهم خالدين.
وما حكم به تعالى, فلا رادّ لحكمه, ولا مغيّر لقضائه.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًاسورة النساء الآية رقم 174
يمتن تعالى, على سائر الناس, بما أوصل إليهم, من البراهين القاطعة, والأنوار الساطعة, ويقيم عليهم الحجة, ويوضح لهم المحجة فقال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ " أي حجج قاطعة على الحق, تبينه وتوضحه, وتبين ضده وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية الآيات الأفقية, والنفسية " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ " .
وفي قوله " مِنْ رَبِّكُمْ " ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته, حيث كان من ربكم, الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية.
فمن تربيته لكم, التي يحمد عليها ويشكر, أن أوصل إليكم البينات, ليهديكم إلى الصراط المستقيم, والوصول إلى جنات النعيم.
" وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا " وهو هذا القرآن العظيم, الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين, والأخبار الصادقة النافعة, والأمر بكل عدل وإحسان وخير, والنهي عن كل ظلم وشر.
فالناس في ظلمة, إن لم يستضيئوا بأنواره, وفي شقاء عظيم, إن لم يقتبسوا من خيره.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًاسورة النساء الآية رقم 175
ولكن انقسم الناس - بحسب الإيمان بالقرآن, والانتفاع به - قسمين.
" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ " أي: اعترفوا بوجوده, واتصافه بكل وصف كامل, وتنزيهه من كل نقص وعيب.
" وَاعْتَصَمُوا بِهِ " أي: لجأوا إلى الله, واعتمدوا عليه, وتبرأوا من حولهم وقوتهم, واستعانوا بربهم.
" فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ " أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة, فيوفقهم للخيرات, ويجزل لهم المثوبات, ويدفع عنهم البليات.
" وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا " أي: يوفقهم للعلم والعمل ومعرفة الحق والعمل به.
أي: ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به, ويتمسك بكتابه, منعهم من رحمته, وحرمهم من فضله, وخلى بينهم وبين أنفسهم, فلم يهتدوا, بل ضلوا ضلالا مبينا, عقوبة لهم على تركهم الإيمان, فحصلت لهم الخيبة والحرمان.
نسأله تعالى, العفو, والعافية, والمعافاة.
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة النساء الآية رقم 176
أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى الله عليه وسلم أي: في الكلالة بدليل قوله: " قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ " وهي: الميت يموت, وليس له ولد صلب, ولا ولد ابن, ولا أب, ولا جد, ولهذا قال: " إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ " أي: لا ذكر ولا أنثى, لا ولد صلب, ولا ولد ابن.
وكذلك, ليس له والد, بدليل أنه ورث فيه الإخوة والإخوة بالإجماع, لا يرثون مع الوالد.
فإذا هلك, وليس له ولد, ولا والد " وَلَهُ أُخْتٌ " أي: شقيقة, أو لأب, لا لأم, فإنه قد تقدم حكمها.
" فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ " أي نصف متروكات أخيها, من نقود, وعقار, وأثاث, وغير ذلك, وذلك من بعد الدين والوصية كما تقدم.
" وَهُوَ " أي: أخوها الشقيق, أو الذي للأب " يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ " ولم يقدر له إرث, لأنه عاصب فيأخذ مالها كله, إن لم يكن صاحب فرض ولا عاصب يشاركه, أو ما أبقت الفروض.
" فَإِنْ كَانَتَا " أي الأختان " اثْنَتَيْنِ " أي: فما فوق " فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً " أي: اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم, مع الإناث " فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " فيسقط فرض الإناث, ويعصبهن إخوتهن.
" يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا " أي: يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها, ويوضحها, ويشرحها لكم, فضلا منه وإحسانا, لكي تهتدوا ببيانه, وتعملوا بأحكامه, ولئلا تضلوا عن الصراط المستقيم, بسبب جهلكم, وعدم علمكم.
" وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " أي: عالم بالغيب والشهادة, والأمور الماضية والمستقبلة ويعلم حاجتكم إلى بيانه, وتعليمه, فيعلم من علمه الذي ينفعكم على الدوام, في جميع الأزمنة والأمكنة.
آخر تفسير سورة النساء.
فلله الحمد والشكر
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6