الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 31
هذء الآية هي الميزان, التي يعرف بها من أحب الله حقيقة, ومن ادعى ذلك دعوى مجردة.
فعلامة محبة الله, اتباع محمد صلى الله عليه وسلم, الذي جعل متابعته, وجميع ما يدعو إليه, طريقا إلى محبته ورضوانه.
فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه, إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما, واجتناب نهيهما.
فمن فعل ذلك, أحبه الله, وجازاه جزاء المحبين, وغفر له ذنوبه, وستر عليه عيوبه.
فكأنه قيل: ومع ذلك, فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟
قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 32
فأجاب بقوله.
" قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ " بامتثال الأمر, واجتناب النهي وتصديق الخبر.
" فَإِنْ تَوَلَّوْا " عن ذلك, فهذا هو الكفر والله " لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ " .
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَسورة آل عمران الآية رقم 33
لله تعالى من عباده أصفياء, يصطفيهم ويختارهم, ويمن عليهم بالفضائل العالية, والنعوت السامية, والعلوم النافعة, والأعمال الصالحة, والخصائص المتنوعة.
فذكر هذه البيوت الكبار, وما احتوت عليه من كملة الرجال, الذين حازوا أوصاف الكمال, وأن الفضل والخير, تسلسل في ذراريهم وشمل ذكورهم ونساءهم.
وهذا من أجل مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه.
" وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " يعلم من يستحق الفضل والتفضيل, فيضع فضله حيث اقتضت حكمته.
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 34
فلما قرر عظمة هذه البيوت, ذكر قصة مريم وابنها عيسى صلى الله عليه وسلم, وكيف تسلسلا من هذه البيوت الفاضلة, وكيف تنقلت بهما الأحوال, من ابتداء أمرهما إلى آخره, وأن امرأة عمران قالت - متضرعة إلى ربها, متقربة إليه بهذه القربة التي يحبها, التي فيها تعظيم بيته وملازمة طاعته: " إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا " أي: خادما لبيت العبادة, المشحون بالمتعبدين.
" فَتَقَبَّلْ مِنِّي " هذا العمل أي: اجعله مؤسسا على الإيمان والإخلاص, مثمرا للخير والثواب.
" إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى " كان في هذا الكلام, نوع تضرع منها, وانكسار نفس حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرا, يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك, ما يحصل من أهل القوة, والأنثى بخلاف ذلك.
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُسورة آل عمران الآية رقم 35
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِسورة آل عمران الآية رقم 36
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍسورة آل عمران الآية رقم 37
فجبر الله قلبها, وتقبل الله نذرها, وصارت هذه الأنثى, أكمل وأتم من كثير من الذكور, بل من أكثرهم.
وحصل بها من المقاصد, أعظم مما يحصل بالذكر, ولهذا قال: " فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا " أي: ربيت تربية عجيبة, دينية, أخلاقية, أدبية كملت بها أحوالها, وصلحت بها أقوالها وأفعالها, ونما فيها كمالها, ويسر الله لها زكريا كافلا.
وهذا من منة الله على العبد, أن يجعل من يتولى تربيته من الكاملين المصلحين.
ثم إن الله تعالى أكرم مريم وزكريا, حيث يسر لمريم من الرزق الحاصل بلا كد ولا تعب, وإنما هو كرامة أكرمها الله به.
إذ " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ " وهو محل العبادة.
وفيه إشارة إلى كثرة صلاتها وملازمتها لمحرابها " وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا " هنيئا معدا.
" قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " .
فلما رأى زكريا هذه الحال, والبر واللطف من الله بها, ذكره أن يسأل الله تعالى حصول الولد, على حين اليأس منه فقال: " رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ " اسمه أي: الكلمة التي من الله " عيسى بن مريم " : فكانت بشارته بهذا النبي الكريم, تتضمن البشارة بـ " عيسى " ابن مريم, والتصديق له, والشهادة له بالرسالة.
فهذه الكلمة من الله, كلمة شريفة, اختص الله بها عيسى بن مريم.
وإلا, فهي من جملة كلماته التي أوجد بها المخلوقات, كما قال تعالى: " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " وقوله " وَسَيِّدًا وَحَصُورًا " .
أي: هذا المبشر به وهو يحيى, سيد من فضلاء الرسل وكرامهم: " والحصور " قيل: هو الذي لا يولد له, ولا شهوة له في النساء, وقيل: هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة.
وهذا أليق المعنيين: " وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ " الذين بلغوا في الصلاح ذروته العالية.
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءسورة آل عمران الآية رقم 38
فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَسورة آل عمران الآية رقم 39
قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءسورة آل عمران الآية رقم 40
" قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ " .
فهذان مانعان.
فمن أي طريق - يا رب - يحصل لي ذلك, مع ما ينافي ذلك؟!.
" قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " فإنه - كما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة - فإنه قد يخرق ذلك, لأنه الفعال لما يريد, الذي قد انقادت الأسباب لقدرته, ونفذت فيها مشيئته وإرادته, فلا يتعاصى على قدرته, شيء من الأسباب, ولو بلغت في القوة, ما بلغت.
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِسورة آل عمران الآية رقم 41
" قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً " ليحصل السرور والاستبشار.
وإن كنت - يا رب - متيقنا ما أخبرتني به, ولكن النفس تفرح, ويطمئن القلب, إلى مقدمات الرحمة واللطف.
" قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا " .
وفي هذه المدة اذكر " رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ " أول النهار وآخره.
فمنع من الكلام في هذه المدة, فكان في هذا, مناسبة لحصول الولد من بين الشيخ الكبير, والمرأة العاقر.
وكونه لا يقدر على مخاطبة الآدميين, ولسانه منطلق بذكر الله وتسبيحه, آية أخرى.
فحينئذ حصل له الفرح والاستبشار, وشكر الله, وأكثر من الذكر والتسبيح, بالعشايا والأبكار.
وكان هذا المولود, من بركات مريم بنت عمران, على زكريا.
فإن ما من الله به عليها, من ذلك الرزق الهني, الذي يحصل بغير حساب, ذكره وهيجه على التضرع والسؤال.
والله تعالى هو المتفضل بالسبب والمسبب, ولكنه يقدر أمورا محبوبة على يد من يحبه, ليرفع الله قدره, ويعظم أجره.
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَسورة آل عمران الآية رقم 42
ثم عاد تعالى, إلى ذكر مريم وأنها بلغت في العبادة والكمال, مبلغا عظيما فقال تعالى: " وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ " أي اختارك, ووهب للك من الصفات الجليلة, والأخلاق الجميلة.
" وَطَهَّرَكِ " من الأخلاق الرذيلة " وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ " .
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " كمل من الرجال كثير, ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران, وآسية بنت مزاحم, وخديجة بنت خويلد, وفضل عائشة على النساء, كفضل الثريد على سائر الطعام.
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَسورة آل عمران الآية رقم 43
فنادتها الملائكة عن أمر الله لها بذلك, لتغتبط بنعم الله, وتشكر الله, وتقوم بحقوقه, وتشتغل بخدمته, ولهذا قالت الملائكة.
" يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ " أي: أكثري من الطاعة, والخضوع والخشوع لربك, وأديمي ذلك " وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ " أي: صلي مع المصلين.
فقامت بكل ما أمرت به, وبرزت, وفاقت في كمالها.
ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَسورة آل عمران الآية رقم 44
ولما كانت هذه القصة وغيرها, من أكبر الأدلة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, حيث أخبر بها مفصلة محققة, لا زيادة فيها ولا نقص, وما ذاك إلا لأنه وحي من الله العزيز الحكيم, لا بتعلم من الناس - قال تعالى: " ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ " حيث جاءت بها أمها, فاختصموا أيهم يكفلها, لأنها بنت إمامهم ومقدمهم, وكلهم يريد الخير والأجر من الله, حتى وصلت بهم الخصومة إلى أن اقترعوا عليها, فألقوا أقلامهم مقترعين, فأصابت القرعة زكريا, رحمة من الله به وبها.
فأنت - يا أيها الرسول - لم تحضر تلك الحالة لتعرفها, فتقصها على الناس, وإنما الله نبأك بها.
وهذا هو المقصود الأعظم, من سياق القصص أنه يحصل بها العبرة.
وأعظم العبر, الاستدلال بها على التوحيد والرسالة, والبعث, وغيرها من الأصول الكبار.
إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَسورة آل عمران الآية رقم 45
" إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " .
أي: له الوجاهة, والجاه العظيم في الدنيا والآخرة عند الخلق.
ومع ذلك فهو - عند الله - من المقربين, الذين هم أقرب الخلائق إلى الله, وأعلاهم درجة.
وهذه بشارة لا يشبهها شيء من البشارات.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَسورة آل عمران الآية رقم 46
ومن تمام هذه البشارة أنه " وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ " فيكون تكليمه آية من آيات الله, ورحمة منه بأمه وبالخلق, وكذلك يكلمهم " وَكَهْلًا " أي في حال كهولته.
وهذا تكليم النبوة والدعوة, والإرشاد.
فكلامه في المهد, فيه آيات وبراهين, على صدقه, ونبوته, وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة.
وكلامه في كهولته, فيه نفعه العظيم للخلق, وكونه واسطة بينهم وبين ربهم, في وحيه, وتبليغ دينه وشرعه.
ومع ذلك فهو " مِنَ الصَّالِحِينَ " الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه, وألسنتهم, بالثناء عليه وذكره, وجوارحهم بطاعته وخدمته.
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُسورة آل عمران الآية رقم 47
" قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ " وهذا من الأمور المستغربة " قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ " ليعلم العباد أنه على كل شيء قدير, وأنه لا ممانع لإرادته.
" إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَسورة آل عمران الآية رقم 48
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ " .
أي: جنس الكتب السابقة, والحكم بين الناس, ويعطيه النبوة.
وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة آل عمران الآية رقم 49
ويجعله رسولا " إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ " ويؤيده بالآيات البينات, والأدلة القاهرة حيث قال: " أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ " تدلكم أني رسول الله حقا.
وذلك " أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ " وهو ممسوح العينين, الذي فقد بصره وعيناه " وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ " المذكور " لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "
وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِسورة آل عمران الآية رقم 50
" وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ " فأيده الله بجنسين من الآيات, والبراهين والخوارق المستغربة, التي لا يمكن لغير الأنبياء, الإتيان بها, والرسالة والدعوة, والدين الذي جاء به, وأنه دين التوراة, ودين الأنبياء السابقين, وهذا أكبر الأدلة على صدق الصادقين.
فإنه لو كان من الكاذبين, لخالف ما جاءت به الرسل, ولناقضهم في أصولهم وفروعهم.
فعلم بذلك أنه رسول الله, وأن ما جاء به حق لا ريب فيه.
وأيضا فقوله " وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ " أي: لأخفف عنكم بعض الآصار والأغلال.
" فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 51
" إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ " .
وهذا ما يدعو إليه جميع الرسل, عبادة الله وحده لا شريك له; وطاعتهم.
وهذا هو الصراط المستقيم, الذي من يسلكه, أوصله إلى جنات النعيم.
فحينئذ اختلفت أحزاب بني إسرائيل في عيسى.
فمنهم من آمن به واتبعه.
ومنهم من كفر به وكذبه, ورمى أمه بالفاحشة كاليهود.
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَسورة آل عمران الآية رقم 52
" فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ " والاتفاق على رد دعوته " قَالَ " نادبا لبني إسرائيل على مؤازرته " مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ " .
أي: الأنصار: " نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " وهذا من منة الله عليهم, وعلى عيسى, حيث ألهم هؤلاء الحواريين, الإيمان به, والانقياد لطاعته, والنصرة لرسوله.
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَسورة آل عمران الآية رقم 53
" رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ " وهذا التزام تام للإيمان, بكل ما أنزل الله, ولطاعة رسوله.
" فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " لك بالوحدانية, ولنبيك بالرسالة, ولدينك بالحق والصدق.
وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 54
" فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ " وهم جمهور بني إسرائيل, فإنهم " وَمَكَرُوا " بعيسى " وَمَكَرَ اللَّهُ " بهم " وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " .
فاتفقوا على قتله وصلبه, وشبه لهم عيسى.
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَسورة آل عمران الآية رقم 55
فقبضوا على من شبه لهم به وقال الله لعيسى " إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " .
فرفعه الله إليه, وطهره من الذين كفروا, وصلبوا من قتلوه, ظانين أنه عيسى, وباءوا بالإثم العظيم.
وسينزل عيسى بن مربم, في آخر هذه الأمة حكما عدلا, يقتل الخنزير, ويكسر الصليب, ويتبع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ويعلم الكاذبون غرورهم وخداعهم, وأنهم مغرورون مخدوعون.
وقوله " وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " المراد بمن اتبعه: الطائفة التي آمنت به ونصرهم الله على من انحرف عن دينه.
ثم لما جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فكانوا هم أتباعه حقا, فأيدهم الله ونصرهم على الكفار كلهم, وأظهرهم بالدين الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ " الآية.
ولكن حكمة الله عادلة, فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين, نصره الله النصر المبين.
وأن من ترك أمره ونهيه, ونبذ شرعه, وتجرأ على معاصيه, أن يعاقبه ويسلط عليه الأعداء, " وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " .
وقوله " ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ " .
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 56
ثم بين ما يفعله بهم فقال: " فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا " الآيتين.
وهذا الجزاء عام لكل من اتصف بهذه الأوصاف, من جميع أهل الأديان السابقة.
ثم لما بعث سيد المرسلين, وخاتم النبيين, ونسخت رسالته, الرسالات كلها, ونسخ دينه, جميع الأديان, صار المتمسك بغير هذا الدين, من الهالكين.
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَسورة آل عمران الآية رقم 57
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِسورة آل عمران الآية رقم 58
وقوله تعالى " ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ " الآية.
أي: هذا القرآن العظيم, الذي فيه نبأ الأولين والآخرين, والأنبياء والمرسلين - هو آيات الله البينات, وهو الذي يذكر العباد كل ما يحتاجونه, وهو الحكيم المحكم, صادق الأخبار, حسن الأحكام.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُسورة آل عمران الآية رقم 59
لما ذكر قصة مريم وعيسى ونبأهما الحق وأنه عبد أنعم الله عليه, وأن من زعم أن فيه شيئا من الإلهية, فقد كذب على الله, وكذب جميع أنبيائه, وكذب عيسى صلى الله عليه وسلم.
فإن الشبهة التي عرضت لمن اتخذه إلها, شبهة باطلة.
فلو كان لها وجه صحيح, لكان آدم أحق منه, فإنه خلق من دون أم ولا أب.
ومع ذلك, فاتفق البشر كلهم, على أنه عبد من عباد الله.
فدعوى إلهية عيسى, بكونه خلق من أم بلا أب, دعوى من أبطل الدعاوى.
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَسورة آل عمران الآية رقم 60
وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه, أن عيسى - كما قال عن نفسه: " مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ " .
وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران, وقد تصلبوا على باطلهم, بعد ما أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم البراهين, بأن عيسى عبد الله ورسوله, حيث زعموا إلهيته.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7