الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 91
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 92
يعني: لن تنالوا وتدركوا البر, الذي هو: اسم جامع للخيرات, وهو الطريق الموصل إلى الجنة حتى تنفقوا مما تحبون, من أطيب أموالكم وأزكاها.
فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس, من أكبر الأدلة على سماحة النفس, واتصافها بمكارم الأخلاق, ورحمتها, ورقتها.
ومن أول الدلائل على محبة الله, وتقديم محبته على محبة الأموال, التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها.
فمن آثر محبة الله على محبة نفسه, فقد بلغ الذروة العليا من الكمال.
وكذلك من أنفق الطيبات, وأحسن إلى عباد الله, أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا, لا تحصل بدون هذه الحالة.
وأيضا فمن قام بهذه النفقة على هذا الوجه, كان قيامه ببقية الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة, من طريق الأولى والأحرى.
ومع أن النفقة من الطيبات, هي أكمل الحالات.
فمهما أنفق العبد, من نفقة قليلة أو كثيرة, من طيب أو غيره, فإن الله به عليم.
وسيجزي كل منفق, بحسب عمله, سيجزيه في الدنيا بالخلف العاجل, وفي الآخرة بالنعيم الآجل.
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة آل عمران الآية رقم 93
من جملة الأمور التي قدح فيها اليهود بنبوة عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم, أنهم زعموا أن النسخ باطل وأنه لا يمكن أن يأتي نبي يخالف النبي الذي قبله.
فكذبهم الله بأمر يعرفونه, فإنهم يعترفون بأن جميع الطعام - قبل نزول التوراة - كان حلالا لبني إسرائيل, إلا أشياء يسيرة حرمها إسرائيل وهو: يعقوب عليه السلام - على نفسه ومنعها إياه لمرض أصابه.
ثم إن التوراة, فيها من التحريمات التي نسخت, ما كان حلالا قبل ذلك, شيء كثير.
قل لهم - إن أنكروا ذلك - " فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " بزعمكم أنه لا نسخ ولا تحليل ولا تحريم.
وهذا من أبلغ الحجج, أن يحتج على الإنسان بأمر يقوله ويعترف به ولا ينكره.
فإن انقاد للحق, فهو الواجب.
فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة آل عمران الآية رقم 94
وإن أبى ولم ينقد بعد هذا البيان, تبين كذبه وافتراؤه, وظلمه وبطلان ما هو عليه, وهو الواقع من اليهود.
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَسورة آل عمران الآية رقم 95
أي: قل صدق الله في كل ما قاله, ومن أصدق من الله قيلا وحديثا.
وقد بين في هذه الآيات, من الأدلة على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, وبراهين دعوته, وبطلان ما عليه المنحرفون من أهل الكتاب, الذين كذبوا رسوله, وردوا دعوته.
فقد صدق الله في ذلك, وأقنع عباده على ذلك, ببراهين وحجج, تتصدع لها الجبال, وتخضع لها الرجال.
فتعين عند ذلك على الناس كلهم, اتباع ملة إبراهيم, من توحيد الله وحده لا شريك له, وتصديق كل رسول أرسله الله, وكل كتاب أنزله.
والإعراض عن الأديان الباطلة المنحرفة.
فإن إبراهيم كان معرضا عن كل ما يخالف التوحيد, متبرئا من الشرك وأهله.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَسورة آل عمران الآية رقم 96
يخبر تعالى بعظمة بيته الحرام, وأنه أول البيوت التي وضعها الله في الأرض لعبادته, وإقامة ذكره, وأن فيه من البركات, وأنواع الهدايات, وتنوع المصالح والمنافع للعالمين - شيء كثير, وفضل غزير, وأن فيه آيات بينات, تذكر بمقامات إبراهيم الخليل, وتنقلاته في الحج.
ومن بعده, تذكر بمقامات سيد الرسل وإمامهم.
وفيه الحرم الذي من دخله كان آمنا قدرا, مؤمنا شرعا ودينا.
فلما احتوى على هذه الأمور التي هذه مجملاتها, وتكثر تفصيلاتها - أوجب الله حجه على المكلفين المستطيعين إليه سبيلا, وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه, وزاد يتزوده.
ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكن تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة, والتي ستحدث.
وهذا من آيات القرآن, حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال, ولا يمكن الصلاح التام بدونها.
فمن أذعن لذلك وقام به, فهو من المهتدين المؤمنين.
ومن كفر, فلم يلتزم حج بيته, فهو خارج عن الدين.
ومن كفر, فإن الله غني عن العالمين.
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَسورة آل عمران الآية رقم 97
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَسورة آل عمران الآية رقم 98
لما أقام فيما تقدم, الحجج على أهل الكتاب - فمع أنهم قبل ذلك, يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم - وبخ المعاندين منهم بكفرهم بآيات الله, وصدهم الخلق عن سبيل الله, لأن عوامهم تبع لعلمائهم.
والله تعالى, يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك, أتم الجزاء وأوفاه.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَسورة آل عمران الآية رقم 99
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 100
لما أقام الحجج على أهل الكتاب, ووبخهم بكفرهم وعنادهم.
حذر عباده المؤمنين عن الاغترار بهم, وبين لهم أن هذا الفريق منهم, حريصون على إضراركم وردكم إلى الكفر بعد الإيمان.
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍسورة آل عمران الآية رقم 101
ولكن - ولله الحمد - أنتم - يا معشر المؤمنين - بعد ما من الله عليكم بالدين, ورأيتم آياته ومحاسنه, ومناقبه وفضائله, وفيكم رسول الله الذي أشدكم إلى جميع مصالحكم, واعتصمتم بالله وبحبله, الذي هو دينه - يستحيل أن يردوكم عن دينكم, لأن الدين الذي بنى على هذه الأصول والدعائم الثابتة الأساس, المشرقة الأنوار, تنجذب إليه الأفئدة, ويأخذ بمجامع القلوب, ويوصل العباد إلى أجل غاية, وأفضل مطلوب.
" وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ " أي: يتوكل عليه, ويحتمي بحماه.
" فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " وهذا فيه الحث على الاعتصام به, وأنه السبيل إلى السلامة والهداية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران الآية رقم 102
هذه الآيات, فيها حث الله عباده المؤمنين, أن يقوموا بشكر نعمه العظيمة, بأن يتقوه كل تقواه, وأن يقوموا بطاعته, وترك معصيته, مخلصين له بذلك.
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَسورة آل عمران الآية رقم 103
وأن يقيموا دينهم, ويستمسكوا بحبله الذي أوصله إليهم, وجعله السبب بينهم وبينه, وهو دينه وكتابه, والاجتماع على ذلك وعدم التفرق.
وأن يستديموا ذلك إلى الممات.
وذكرهم ما هم عليه قبل هذه النعمة, وهو: أنهم كانوا أعداء متفرقين.
فجمعهم بهذا الدين, وألف بين قلوبهم, وجعلهم إخوانا, وكانوا على شفا حفرة من النار, فأنقذهم من الشقاء.
ونهج بهم طريق السعادة.
" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " إلى شكر الله والتمسك بحبله.
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة آل عمران الآية رقم 104
وأمرهم بتتميم هذه الحالة, والسبب الأقوى الذي يتمكنون به من إقامة دينهم, بأن يتصدى منهم طائفة يحصل فيها الكفاية.
" يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ " وهو الدين, أصوله, وفروعه, وشرائعه.
" وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ " وهو ما عرف حسنه شرعا وعقلا.
" وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ " وهو ما عرف قبحه, شرعا وعقلا.
" أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " المدركون لكل مطلوب, الناجون من كل مرهوب.
ويدخل في هذه الطائفة, أهل العلم والتعليم, والمتصدون للخطابة ووعظ الناس, عموما وخصوصا, والمحتسبون الذين يقومون بإلزام الناس بإقامة الصلوات, وإيتاء الزكاة, والقيام بشرائع الدين, وينهونهم عن المنكرات.
فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم, أو على وجه الخصوص, أو قام بنصيحة عامة أو خاصة, فإنه داخل في هذه الآية الكريمة.
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 105
ثم نهاهم عن سلوك مسلك المتفرقين, الذين جاءهم الدين والبينات, الموجب لقيامهم به, واجتماعهم, فتفرقوا واختلفوا وصاروا شيعا.
ولم يصدر ذلك عن جهل وضلال, وإنما صدر عن علم وقصد سيئ, وبغي من بعضهم على بعض.
ولهذا قال " وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَسورة آل عمران الآية رقم 106
ثم بين متى يكون هذا العذاب العظيم, ويمسهم هذا العذاب الأليم فقال: " يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ " الآيتين.
يخبر تعالى, بتفاوت الخلق يوم القيامة, في السعادة والشقاوة.
وأنه تبيض وجوه أهل السعادة, الذين آمنوا بالله, وصدقوا رسله, وامتثلوا أمره, واجتنبوا نهيه.
وأن الله تعالى, يدخلهم الجنات, ويفيض عليهم أنواع الكرامات, وهم فيها خالدون.
وتسود وجوه أهل الشقاوة, الذين كذبوا رسله, وعصوا أمره, وفرقوا دينهم شيعا وأنهم يوبخون فيقال لهم " أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " فكيف اخترتم الكفر على الإيمان؟!.
" فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ " .
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة آل عمران الآية رقم 107
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَسورة آل عمران الآية رقم 108
يثني تعالى, على ما قصه على نبيه من آياته, التي حصل بها الفرقان بين الحق والباطل, وبين أولياء الله وأعدائه, وما أعده لهؤلاء من الثواب, وللآخرين من العقاب.
وأن ذلك مقتضى فضله وعدله, وحكمته.
وأنه لم يظلم عباده, ولم ينقصهم من أعمالهم, أو يعذب أحدا بغير ذنبه, أو يحمل عليه وزر غيره.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُسورة آل عمران الآية رقم 109
ولما ذكر أن له الأمر والشرع, ذكر أن له تمام الملك والتصرف والسلطان فقال: " وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ " فيجازي المحسنين بإحسانهم والمسيئين بعصيانهم.
وكثيرا ما يذكر الله أحكامه الثلاثة مجتمعة ليبين لعباده أنه الحاكم المطلق, فله الأحكام القدرية والأحكام الشرعية, والأحكام الجزائية.
فهو الحاكم بين عباده, في الدنيا والآخرة.
ومن سواه من المخلوقات, محكوم عليها ليس لها من الأمر شيء.
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَسورة آل عمران الآية رقم 110
هذا تفضيل من الله لهذه الأمة بهذه الأسباب, التي تميزوا بهذا وفاقوا بها سائر الأمم, وأنهم خير الناس للناس, نصحا, ومحبة للخير, ودعوة, وتعليما, وإرشادا, وأمرا بالمعروف, ونهيا عن المنكر, وجمعا بين تكميل الخلق, والسعي في منافعهم, بحسب الإمكان, وبين تكميل النفس بالإيمان بالله, والقيام بحقوق الإيمان.
وأن أهل الكتاب, لو آمنوا بمثل ما آمنتم به, لاهتدوا وكان خيرا لهم.
ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل.
وأما الكثير, فهم فاسقون, خارجون عن طاعة الله, وطاعة رسوله, محاربون للمؤمنين, ساعون في إضراراهم بكل مقدورهم.
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَسورة آل عمران الآية رقم 111
ومع ذلك, فلن يضروا المؤمنين إلا أذى باللسان.
وإلا, فلو قاتلوهم, لولوا الأدبار, ثم لا ينصرون.
وقد وقع ما أخبر الله به.
فإنهم لما قاتلوا المسلمين, ولوا الأدبار ونصر الله المسلمين عليهم.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَسورة آل عمران الآية رقم 112
هذا إخبار من الله تعالى أن اليهود ضربت عليهم الذلة, فهم خائفون أينما ثقفوا.
ولا يؤمنهم شيء إلا معاهدة, وسبب يأمنون به, يرضخون لأحكام الإسلام, ويعترفون بالجزية.
أو " وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ " أي: إذا كانوا تحت ولاية غيرهم ونظارتهم, كما شوهد حالهم سابقا ولاحقا.
فإنهم لم يتمكنوا في الوقت الأخير من الملك المؤقت في فلسطين, إلا بنصر الدول الكبرى, وتمهيدها لهم كل سبب.
" وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ " أي: قد غضب الله عليهم, وعاقبهم بالذلة والمسكنة.
والسبب في ذلك, كفرهم بآيات الله, وقتلهم الأنبياء بغير حق.
أي: ليس ذلك عن جهل, وإنما هو بغي وعناد.
تلك العقوبات المتنوعة عليهم " بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " .
فالله تعالى, لم يظلمهم ويعاقبهم بغير ذنب.
وإنما الذي أجراه عليهم بسبب بغيهم وعدوانهم, وكفرهم وتكذيبهم للرسل, وجناياتهم الفظيعة.
لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَسورة آل عمران الآية رقم 113
لما ذكر الله المنحرفين من أهل الكتاب, بين حالة المستقيمن منهم, وأن منهم أمة مقيمين لأصول الدين وفروعه.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَسورة آل عمران الآية رقم 114
" يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ " وهو الخير كله, وينهون عن المنكر وهو جميع الشر.
كما قال تعالى " وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " .
و " يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ " والمسارعة إلى الخيرات, قدر زائد على مجرد فعلها.
فهو وصف لهم بفعل الخيرات, والمبادرة إليها, وتكميلها بكل ما تم به من واجب ومستحب.
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَسورة آل عمران الآية رقم 115
ثم بين تعالى أن كل ما فعلوه, من خير, قليل أو كثير, فإن الله سيقبله, حيث كان صادرا عن إيمان وإخلاص.
" فَلَنْ يُكْفَرُوهُ " يعني: لن ينكر ما عملوه, ولن يهدر.
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ " وهم الذين قاموا بالخيرات, وتركوا المحرمات, لقصد رضا الله, وطلب ثوابه.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة آل عمران الآية رقم 116
بين تعالى: أن الكفار, والذين كفروا بآيات الله, وكذبوا رسله, أنه لا ينقذهم من عذاب الله منقذ, ولا ينفعهم نافع, ولا يشفع لهم عند الله شافع.
وأن أموالهم وأولادهم, التي كانوا يعدونها للشدائد والمكاره, لا تفيدهم شيئا.
وأن نفقاتهم التي أنفقوها في الدنيا, لنصر باطلهم, ستضمحل.
مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَسورة آل عمران الآية رقم 117
وأن مثلها " كَمَثَلِ " حرث أصابته " رِيحٍ " شديدة " فِيهَا صِرٌّ " أي: برد شديد, أو نار محرقة, فأهلكت ذلك الحرث, وذلك بظلمهم فلم يظلمهم الله ويعاقبهم بغير ذنب, وإنما ظلموا أنفسهم.
وهذه كقوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَسورة آل عمران الآية رقم 118
هذا تحذير من الله لعباده عن ولاية الكفار, واتخاذهم بطانة, أو خصيصة وأصدقاء, يسرون إليهم, ويفضون لهم بأسرار المؤمنين.
فوضح لعباده المؤمنين, الأمور الموجبة للبراءة من اتخاذهم بطانة بأنهم لا يألونكم خبالا.
أي: هم حريصون غير مقصرين, في إيصال الضرر بكم, وقد بدت البغضاء من كلامهم, وفلتات ألسنتهم, وما تخفيه صدورهم, من البغضاء والعداوة, أكبر مما ظهر لكم من أقوالهم وأفعالهم.
فإن كانت لكم, فهوم وعقول, فقد وضح الله لكم أمرهم.
هَاأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِسورة آل عمران الآية رقم 119
وأيضا فما الموجب لمحبتهم واتخاذهم أولياء وبطانة, وقد تعلمون منهم الانحراف العظيم في الدين وفي مقابلة إحسانكم؟.
فأنتم مستقيمون على أديان الرسل, تؤمنون بكل رسول أرسله الله, وبكل كتاب أنزله الله.
وهم يكفرون بأجل الكتب, وأشرف الرسل, وأنتم تبذلون لهم من الشفقة والمحبة, ما لا يكافئونكم على أقل القليل منه.
فكيف تحبونهم, وهم لا يحبونكم, وهم يداهنونكم وينافقونكم.
فإذا لقوكم, قالوا: آمنا, وإذا خلوا مع بني جنسهم, عضوا عليكم الأنامل من شدة الغيظ والبغض لكم ولدينكم.
قال تعالى " قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ " أي: سترون من عز الإسلام, وذل الكفر, ما يسوءكم, وتموتون بغيظكم, فلن تدركوا شفاء ذلك بما تقصدون.
" إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " فلذلك بين لعباده المؤمنين, ما تنطوي عليه صدور أعداء الدين من الكفار والمنافقين.
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌسورة آل عمران الآية رقم 120
" إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ " عز ونصر وعافية وخير " تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ " من إدالة العدو, أو حصول بعض المصائب الدنيوية " يَفْرَحُوا بِهَا " .
وهذا وصف العدو الشديدة عداوته.
لما بين تعالى شدة عداوتهم, وشرح ما هم عليه من الصفات الخبيثة, أمر عباده المؤمنين بالصبر, ولزوم التقوى.
وأنهم إذا قاموا بذلك, فلن يضرهم كيد أعدائهم شيئا, فإن الله محيط بهم وبأعمالهم وبمكائدهم, التي يكيدونكم فيها.
وقد وعدكم عند القيام بالتقوى, أنهم لا يضرونكم شيئا, فلا تشكوا في حصول ذلك.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7