الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 121
" وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ " إلى آخر القصة.
وذلك يوم " أحد " حين خرج صلى الله عليه وسلم بالمسلمين, حين وصل المشركون - بجمعهم - إلى قريب من " أحد " .
فنزلهم صلى الله عليه وسلم منازلهم, ورتبهم في مقاعدهم, ونظمهم تنظيما عجيبا, يدل على كمال رأيه وبراعته الكاملة في فنون السياسة والحرب, كما كان كاملا في كل المقامات.
" وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " لا يخفى عليه شيء من أموركم.
إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَسورة آل عمران الآية رقم 122
" إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا " وهم بنو سلمة, وبنو حارثة.
لكن تولاهما الباري بلطفه ورعايته, وتوفيقه.
" وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " فإنهم إذا توكلوا عليه, كفاهم وأعانهم, وعصمهم من وقوع ما يضرهم, في دينهم ودنياهم.
وفي هذه الآية ونحوها, وجوب التوكل وأنه على حسب إيمان العبد, يكون توكله.
والتوكل.
هو: اعتماد العبد على ربه, في حصول منافعه, ودفع مضاره.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة آل عمران الآية رقم 123
فلما ذكر حالهم في " أحد " وما جرى عليهم من المصيبة, أدخل فيها تذكيرهم بنصره, ونعمته عليهم, يوم " بدر " ليكونوا شاكرين لربهم, وليخفف هذا هذا فقال: " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ " في عددكم وعددكم, فكانوا ثلثمائة, وبضعة عشر, في قلة ظهر, ورثاثة سلاح.
وأعداؤهم, يناهزون الألف, في كمال العدة والسلاح.
" فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " الذي أنعم عليكم بنصره.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَسورة آل عمران الآية رقم 124
" إِذْ تَقُولُ " مبشرا " لِلْمُؤْمِنِينَ " مثبتا لجنانهم: " أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ "
بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَسورة آل عمران الآية رقم 125
" بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا " أي: من حملتهم هذه بهذا الوجه.
" يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ " أي: معلمين علامة الشجعان.
واختلف الناس, هل كان هذا الإمداد حصل فيه من الملائكة, مباشرة للقتال, كما قاله بعضهم, أو أن ذلك تثبيت من الله لعباده المؤمنين, وإلقاء الرعب في قلوب المشركين, كما قاله كثير من المفسرين.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِسورة آل عمران الآية رقم 126
ويدل عليه قوله " وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " , وفي هذا أن الأسباب لا يعتمد عليها العبد, بل يعتمد على الله.
وإنما الأسباب وتوفرها, فيها طمأنينة للقلوب, وثبات كل على الخير.
لْيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَسورة آل عمران الآية رقم 127
" لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ " أي: نصر الله لعباده المؤمنين, لا يعدو أن يكون قطعا لطرف من الكفار.
أو ينقلبوا بغيظهم, لم ينالوا خيرا, كما أرجعهم يوم الخندق, بعد ما كانوا قد أتوا على حرد قادرين, أرجعهم الله بغيظهم خائبين:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَسورة آل عمران الآية رقم 128
لما أصيب صلى الله عليه وسلم يوم " أحد " وكسرت رباعيته, وشج في رأسه, جعل يقول: كيف يفلح قوم, شجوا وجه نبيهم, وكسروا رباعيته.
فأنزل الله تعالى هذه الآية, وبين أن الأمر كله لله, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم, ليس له من الأمر شيء, لأنه عبد من عبيد الله, والجميع تحت عبودية ربهم, مدبرون لا مدبرون.
وهؤلاء الذين دعوت عليهم, أيها الرسول, أو استبعدت فلاحهم وهدايتهم, إن شاء الله تاب عليهم, ووفقهم للدخول في الإسلام, وقد فعل, فإن أكثر أولئك, هداهم الله فأسلموا.
وإن شاء الله عذبهم, فإنهم ظالمون, مستحقون لعقوبات الله وعذابه.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة آل عمران الآية رقم 129
يخبر تعالى, أنه هو المتصرف في العالم العلوي والسفلي, وأنه يتوب على من يشاء, فيغفر له, ويخذل من يشاء, فيعذبه.
" وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فمن صفته اللازمة, كمال المغفرة والرحمة, ووجود مقتضياتهما في الخلق والأمر, يغفر للتائبين, ويرحم من قام بالأسباب الموجبة للرحمة.
قال تعالى " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة آل عمران الآية رقم 130
تقدم في مقدمة هذا التفسير, أن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي, في نفسه وفي غيره.
وأن الله تعالى إذا أمره بأمر, وجب عليه - أولا - أن يعرف حده, وما هو الذي أمر به, ليتمكن بذلك من امتثاله.
فإذا عرف ذلك, اجتهد, واستعان بالله على امتثاله, في نفسه وفي غيره, بحسب قدرته وإمكانه.
وكذلك إذا نهى عن أمر, عرف حده, وما يدخل فيه, وما لا يدخل, ثم اجتهد واستعان بربه في تركه.
وأن هذا ينبغي مراعاته, في جميع الأوامر الإلهية والنواهي.
[وهذه الآيات الكريمات, وقد اشتملت على أوامر وخصال من خصال الخير: أمر الله بها, وحث على فعلها, وأخبر عن جزاء أهلها.
وعلى نواهي, حث على تركها.
ولعل الحكمة - والله أعلم - في إدخال هذه الآيات, أثناء قصة " أحد " أنه قد تقدم أن الله تعالى, وعد عباده المؤمنين, أنهم - إذا صبروا, واتقوا - نصرهم على أعدائهم, وخذل الأعداء عنهم كما في قوله تعالى: " وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا " ثم قال: " بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ " الآيات.
فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى, التي يحصل بها النصر والفلاح, والسعادة, فذكر الله في هذه الآيات, أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها, فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى.
ويدل على ما قلنا, أن الله ذكر لفظ " التقوى " في هذه الآيات, ثلاث مرات.
مرة مطلقة وهي قوله " أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ " .
ومرتين مقيدتين فقال " وَاتَّقُوا اللَّهَ " .
" وَاتَّقُوا النَّارَ " .
فقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " كل ما في القرآن من قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا " افعلوا كذا, أو اتركوا كذا, يدل على أن الإيمان, هو السبب الداعي والموجب لامتثال ذلك الأمر, واجتناب ذلك النهي.
لأن الإيمان هو: التصديق الكامل, بما يجب التصديق به, المستلزم لأعمال الجوارح.
فنهاهم عن أكل الربا, أضعافا مضاعفة, وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية, ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية.
من أنه إذا حل الدين على المعسر, ولم يحصل منه شيء, قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين, وإما أن نزيد في المدة, وتزيد ما في ذمتك.
فيضطر الفقير, ويستدفع غريمه, ويلتزم ذلك, اغتناما لراحته الحاضرة.
فيزداد - بذلك - ما في ذمته أضعافا مضاعفة, من غير نفع وانتفاع.
ففي قوله " أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً " تنبيه على شدة شناعته بكثرته, وتنبيه لحكمة تحريمه.
وأن تحريم الربا, حكمته: أن الله منع منه, لما فيه من الظلم.
وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر, وبقاء ما في ذمته من غير زيادة.
فإلزامه بما فوق ذلك, ظلم متضاعف.
فيتعين على المؤمن المتقي, تركه, وعدم قربانه, لأن تركه, من موجبات التقوى.
والفلاح, متوقف على التقوى, فلهذا قال: " وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " بترك ما يوجب دخولها, من الكفر, والمعاصي, على اختلاف درجاتها.
فإن المعاصي كلها - وخصوصا المعاصي الكبار - تجر إلى الكفر, بل هي من خصال الكفر, الذي أعد الله النار لأهله.
فترك المعاصي, ينجي من النار, ويقي من سخط الجبار.
وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 131
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَسورة آل عمران الآية رقم 132
وأفعال الخير والطاعة, توجب رضا الرحمن, ودخول الجنان, وحصول الرحمة ولهذا قال: " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ " بفعل الأوامر وامتثالها, واجتناب النواهي " لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " .
فطاعة الله وطاعة رسوله, من أسباب حصول الرحمة, كما قال تعالى: " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " الآيات.
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَسورة آل عمران الآية رقم 133
ثم أمرهم تعالى, بالمسارعة إلى مغفرته, وإدراك جنته, التي عرضها السماوات والأرض, فكيف بطولها التي أعدها الله للمتقين, فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها.
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَسورة آل عمران الآية رقم 134
ثم وصف المتقين وأعمالهم فقال: " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ " أي: في عسرهم ويسرهم.
إن أيسروا, أكثروا من النفقة.
وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا, ولو قل.
" وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ " أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم - وهو امتلاء قلوبهم من الخنق, الموجب للانتقام بالقول والفعل - هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية, بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ, ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
" وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ " يدخل في العفو عن الناس, العفو عن كل من أساء إليك بقول, أو فعل.
والعفو أبلغ من الكظم, لأن العفو ترك المؤاخذة, مع السماحة عن المسيء.
وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة وتخلى عن الأخلاق الرذيلة وممن تاجر مع الله, وعفا عن عباد الله, رحمة بهم, وإحسانا إليهم, وكراهة لحصول الشر عليهم, وليعفو الله عنه, ويكون أجره على ربه الكريم, لا على العبد الفقير, كما قال تعالى " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " .
ثم ذكر حالة أعم من غيرها, وأحسن, وأعلى, وأجل, وهي الإحسان.
فقال تعالى: " وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " والإحسان نوعان.
الإحسان في عبادة الخالق, والإحسان إلى المخلوق.
فالإحسان في عبادة الخالق, فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لقوله " أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
وأما الإحسان إلى المخلوق, فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم, ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم.
فيدخل في ذلك, أمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر, وتعليم جاهلهم, ووعظ غافلهم, والنصيحة لعامتهم وخاصتهم, والسعي في جمع كلمتهم.
وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم, على اختلاف أحوالهم, وتباين أوصافهم.
فيدخل في ذلك, بذل الندى, وكف الأذى, واحتمال الأذى, كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات.
فمن قام بهذه الأمور, فقد قام بحق الله وحق عبيده.
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَسورة آل عمران الآية رقم 135
ثم ذكر اعتذارهم لربهم, من جناياتهم وذنوبهم فقال: " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ " أي: صدر منهم أعمال سيئة كبيرة أو ما دون ذلك, بادروا إلى التوبة والاستغفار, وذكروا ربهم, وما توعد به العاصين, ووعد به المتقين.
فسألوه المغفرة لذنوبهم, والستر لعيوبهم, مع إقلاعهم عنها, وندمهم عليها.
فلهذا قال " وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .
أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَسورة آل عمران الآية رقم 136
" أُولَئِكَ " الموصوفون بتلك الصفات " جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ " تزيل عنهم كل محذور.
" وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " فيها من النعيم المقيم, والبهجة والحبور والبهاء, والخير والسرور, والقصور, والمنازل الأنيقة العاليات, والأشجار المثمرة البهية, والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات.
" خَالِدِينَ فِيهَا " لا يحولون عنها, ولا يبغون بها بدلا, ولا يغير ما هم فيه من النعيم.
" وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ " عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا فـ " عند الصباح يحمد القوم السري " وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا.
وهذه الآيات الكريمات, من أدلة أهل السنة والجماعة, على أن الأعمال تدخل في الإيمان, خلافا للمرجئة.
وجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية, التي في سورة الحديد, نظير هذه الآيات وهي قوله: " سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ " فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله, وهناك قال " أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ " .
ثم وصف المتقين, بهذه الأعمال المالية والبدنية.
فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات, هم أولئك المؤمنون.
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَسورة آل عمران الآية رقم 137
ثم قال تعالى: " قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ " الآيات.
وهذه الآيات الكريمات, وما بعدها في قصة " أحد " يعزي تعالى, عباده المؤمنين ويسليهم, ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم, امتحنوا, وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين, فلم يزالوا في مداولة ومجاولة, حتى جعل الله العاقبة للمتقين, والنصر لعباده المؤمنين.
وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين, وخذلهم الله بنصر رسله, وأتباعهم.
" فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ " بأبدانكم وقلوبكم " فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين, بأنواع العقوبات الدنيوية.
قد خوت ديارهم, وتبين لكل أحد خسارهم, وذهب عزهم وملكهم, وزال بذخهم وفخرهم.
أفليس في هذا, أعظم دليل, وأكبر شاهد, على صدق ما جاءت به الرسل؟!! وحكمة الله التي يمتحن بها عباده, ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم.
هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَسورة آل عمران الآية رقم 138
ولهذا قال تعالى: " هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ " أي: دلالة ظاهرة, تبين للناس الحق من الباطل, وأهل السعادة من أهل الشقاوة, وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين.
" وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ " لأنهم هم المنتفعون بالآيات.
فتهديهم إلى سبيل الرشاد, وتعظهم وتزجرهم, عن طريق الغنى.
وأما باقي الناس, فهي بيان لهم, تقوم به عليهم الحجة من الله, ليهلك من هلك عن بينة.
ويحتمل أن الإشارة في قوله " هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ " للقرآن العظيم, والذكر الحكيم, وأنه بيان للناس عموما, وهدى وموعظة للمتقين, خصوصا, وكلا المعنيين, حق.
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة آل عمران الآية رقم 139
يقول تعالى: مشجعا لعباده المؤمنين, ومقويا لعزائمهم ومنهضا لهممهم: " وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا " أي: ولا تهنوا وتضعفوا, في أبدانكم, ولا تحزنوا في قلوبكم, عندما أصابتكم المصيبة, وابتليتم بهذه البلوى.
فإن الحزن في القلوب, والوهن على الأبدان, زيادة مصيبة عليكم, وأعون, لعدوكم عليكم.
بل شجعوا قلوبكم, وصبروها, وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم.
وذكر تعالى أنه لا يليق بهم الوهن والحزن, وهم الأعلون, في الإيمان ورجاء نصر الله وثوابه.
فالمؤمن المبتغي ما وعده الله, من الثواب الدنيوي والأخري, لا ينبغي له ذلك.
ولهذا قال تعالى: " وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " .
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَسورة آل عمران الآية رقم 140
ثم سلاهم بما حصل لهم من الهزيمة, وبين الحكم العظيمة المترتبة على ذلك, فقال تعالى: " إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ " فأنتم وهم, قد تساويتم في القرح, ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى: " إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ " .
ومن الحكم في ذلك, أن هذه الدار, يعطي الله منها المؤمن والكافر, والبر والفاجر, فيداول الله الأيام بين الناس: يوم لهذه الطائفة, ويوم للطائفة الأخرى.
لأن هذه الدار الدنيا, منقضية فانية.
وهذا بخلاف الدار الآخرة, فإنها خالصة للذين آمنوا.
" وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا " هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء, ليتبين المؤمن من المنافق.
لأنه لو استمر النصر للمؤمنين, في جميع الوقائع, لدخل في الإسلام, من لا يريده.
فإذا حصل في بعض الوقائع, بعض أنواع الابتلاء, تبين المؤمن حقيقة, الذي يرغب في الإسلام, في الضراء والسراء, واليسر والعسر, ممن ليس كذلك.
" وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ " وهذا أيضا من بعض الحكم, لأن الشهادة عند الله, من أرفع المنازل, ولا سبيل لنيلها, إلا بما يحصل من وجود أسبابها.
فهذا من رحمته بعباده المؤمنين, أن قيض لهم من الأسباب, ما تكرهه النفوس, لينيلهم ما يحبون, من المنازل العالية, والنعيم المقيم.
" وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " الذين ظلموا أنفسهم, وتقاعدوا عن القتال في سبيله.
" ولو أرادوا الخروج, لأعدوا له عدة, ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " .
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 141
" وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا " وهذا أيضا من الحكم, أن الله يمحص بذلك المؤمنين, من ذنوبهم وعيوبهم.
يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله, تكفر الذنوب, وتزيل العيوب.
ويمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين, فيتخلصون منهم, ويعرفون المؤمن من المنافق.
ومن الحكم أيضا أن يقدر ذلك, ليمحق الكافرين.
أي: ليكون سببا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة, فإنهم إذا انتصروا, بغوا, وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم; يستحقون به المعاجلة بالعقوبة, رحمة بعباده المؤمنين.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 142
ثم قال تعالى: " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " هذا استفهام إنكاري.
أي: لا تظنوا, ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة, من دون مشقة, واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
فإن الجنة, أعلى المطالب, وأفضل ما به يتنافس المتنافسون.
وكلما عظم المطلوب, عظمت وسيلته, والعمل الموصل إليه.
فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة, ولا يدرك النعيم, إلا بترك النعيم.
ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله - عند توطين النفس لها, وتمرينها عليها, ومعرفة ما تئول إليه تنقلب - عند أرباب البصائر - منحا يسرون بها, ولا يبالون بها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَسورة آل عمران الآية رقم 143
ثم وبخهم تعالى, على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه, ويودون حصوله فقال: " وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ " وذلك أن كثيرا من الصحابة " 4 ممن فاته بدر, كانوا يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا, يبذلون فيه جهدهم.
قال الله تعالى لهم " فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ " أي: ما تمنيتم بأعينكم " وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ " فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق, ولا تحسن, خصوصا لمن تمنى ذلك, وحصل له ما تمنى.
فإن الواجب عليه, بذل الجهد, واستفراغ الوسع في ذلك.
وفي هذه الآية, دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة.
ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم, ولم ينكر عليهم.
وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها, والله أعلم.
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 144
ثم قال تعالى: " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ " إلى " وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ " .
يقول تعالى " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ " .
أي.
ليس ببدع من الرسل, بل هو من جنس الرسل الذين قبله.
وظيفتهم تبليغ رسالة ربهم, وتنفيذ أوامره.
ليسوا بمخلدين, وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله.
بل الواجب على الأمم, عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال.
ولهذا قال " أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " بترك ما جاءكم به, من إيمان أو جهاد, أو غير ذلك.
قال الله تعالى " وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا " إنما يضر نفسه.
وإلا, فالله تعالى غني عنه, وسيقيم دينه, ويعز عباده المؤمنين.
فلما وبخ تعالى, من انقلب على عقبيه, مدح من ثبت مع رسوله, وامتثل أمر ربه فقال " وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " .
والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى, في كل حال.
وفي هذه الآية الكريمة, إرشاد من الله تعالى لعباده, أن يكونوا بحالة, لا يزعزعها عن إيمانهم, أو عن بعض لوازمه, فقد رئيس ولو عظم.
وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين, بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه, إذا فقد أحدهم, قام به غيره.
وأن يكون عموم المؤمنين, قصدهم إقامة دين الله, والجهاد عنه, بحسب الإمكان.
لا يكون لهم قصد, في رئيس دون رئيس.
فبهذه الحال, يستتب لهم أمرهم, وتستقيم أمورهم.
وفي هذه الآية أيضا, أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر, أبي بكر, وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأنهم هم سادات الشاكرين.
ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها, معلقة بآجالها, بإذن الله.
وقدره وقضائه.
فمن حتم عليه بالقدر أن يموت, مات ولو بغير سبب.
ومن أراد بقاءه, فلو وقع من الأسباب كل سبب, لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله.
وذلك أن الله قضاه, وقدره, وكتبه إلى أجل مسمى.
" إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون " .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 145
ثم أخبر تعالى, أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة, ما تعلقت به إراداتهم, فقال: " وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا " .
قال الله تعالى " كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا " .
" وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ " ولم يذكر جزاءهم, ليدل ذلك على كثرته وعظمته, وليعلم أن الجزاء, على قدر الشكر, قلة وكثرة, وحسنا.
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 146
هذا تسلية للمؤمنين, وحث على الاقتداء بهم, والفعل كفعلهم, وأن هذا, أمر قد كان متقدما, لم تزل سنة الله جارية بذلك فقال: " وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ " أي: وكم من نبي " قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ " .
أي: جماعات كثيرون من أتباعهم, الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان, والأعمال الصالحة, فأصابهم, قتل وجراح, وغير ذلك.
" فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا " .
أي: ما ضعفت قلوبهم, ولا وهنت أبدانهم, ولا استكانوا.
أي: ذلوا لعدوهم.
بل صبروا وثبتوا, وشجعوا أنفسهم, ولهذا قال: " وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ " .
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 147
ثم ذكر قولهم, واستنصارهم لربهم فقال: " وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ " أي: في تلك المواطن الصعبة " إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا " .
والإسراف هو: مجاوزة الحد, إلى ما حرم.
علموا أن الذنوب والإسراف, من أعظم أسباب الخذلان, وأن التخلي منها, من أسباب النصر, فسألوا ربهم مغفرتها.
ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به, من الصبر, بل اعتمدوا على الله, وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين, وأن ينصرهم عليهم.
فجمعوا بين الصبر, وترك ضده, والتوبة والاستغفار والاستنصار بربهم.
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَسورة آل عمران الآية رقم 148
لا جرم أن الله نصرهم, وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة ولهذا قال: " فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا " من النصر والظفر والغنيمة.
" وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ " وهو الفوز برضا ربهم, والنعيم المقيم, الذي قد سلم من جميع المنكدات.
وما ذاك, إلا أنهم أحسنوا له الأعمال, فجازاهم بأحسن الجزاء, فلهذا قال: " وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " في عبادة الخالق, ومعاملة الخلق.
ومن الإحسان, أن يفعل عند جهاد الأعداء, كفعل هؤلاء المؤمنين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 149
ثم قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا " إلى " وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ " .
وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين, من المنافقين والمشركين.
فإنهم, إذا أطاعوهم, لم يريدوا لهم إلا الشر, وهم قصدهم ردهم إلى الكفر, الذي عاقبته الخيبة والخسران.
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَسورة آل عمران الآية رقم 150
ثم أخبر أنه مولاهم وناصرهم, ففيه إخبار لهم بذلك, وبشارة بأنه يتولى أمورهم, بلطفه, ويعصمهم من أنواع الشرور.
وفي ضمن ذلك, الحث لهم, على اتخاذه وحده, وليا وناصرا, من دون كل أحد.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7