الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 91
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنَزَلَ اللَّه قَالُوا نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } وَإِذَا قِيلَ لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيل لِلَّذِينَ كَانُوا بَيْن ظَهْرَانَيْ مُهَاجِر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { آمِنُوا } أَيْ صَدِّقُوا , { بِمَا أَنَزَلَ اللَّه } يَعْنِي بِمَا أَنَزَلَ اللَّه مِنْ الْقُرْآن عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { قَالُوا نُؤْمِن } أَيْ نُصَدِّق , { بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنَزَلَهَا اللَّه عَلَى مُوسَى .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } . يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } وَيَجْحَدُونَ بِمَا وَرَاءَهُ , يَعْنِي بِمَا وَرَاء التَّوْرَاة . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَتَأْوِيل " وَرَاءَهُ " فِي هَذَا الْمَوْضِع " سِوَى " كَمَا يُقَال لِلرَّجُلِ الْمُتَكَلِّم بِالْحَسَنِ : مَا وَرَاء هَذَا الْكَلَام شَيْء , يُرَاد بِهِ لَيْسَ عِنْد الْمُتَكَلِّم بِهِ شَيْء سِوَى ذَلِكَ الْكَلَام ; فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أَيْ بِمَا سِوَى التَّوْرَاة وَبِمَا بَعْده مِنْ كُتُب اللَّه الَّتِي أَنَزَلَهَا إلَى رُسُله . كَمَا : 1285 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يَقُول : بِمَا بَعْده . 1286 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أَيْ بِمَا بَعْده , يَعْنِي بِمَا بَعْد التَّوْرَاة . 1287 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يَقُول : بِمَا بَعْده .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الْحَقّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَهُوَ الْحَقّ مُصَدِّقًا } أَيْ مَا وَرَاء الْكِتَاب الَّذِي أَنَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُتُب الَّتِي أَنَزَلَهَا اللَّه إلَى أَنْبِيَائِهِ الْحَقّ . وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْره الْقُرْآن الَّذِي أَنَزَلَهُ إلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَمَا : 1288 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنَزَلَ اللَّه قَالُوا نُؤْمِن بِمَا عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } وَهُوَ الْقُرْآن . يَقُول اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَهُوَ الْحَقّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } . وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } لِأَنَّ كُتُب اللَّه يُصَدِّق بَعْضهَا بَعْضًا ; فَفِي الْإِنْجِيل وَالْقُرْآن مِنْ الْأَمْر بِاتِّبَاعِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَان بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ , مِثْل الَّذِي مِنْ ذَلِكَ فِي تَوْرَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ; فَلِذَلِكَ قَالَ حَجّ ثَنَاؤُهُ لِلْيَهُودِ إذْ خَبَرهمْ عَمَّا وَرَاء كِتَابهمْ الَّذِي أَنَزَلَهُ عَلَى مُوسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الْكُتُب الَّتِي أَنَزَلَهَا إلَى أَنْبِيَائِهِ : إنَّهُ الْحَقّ مُصَدِّقًا لِلْكِتَابِ الَّذِي مَعَهُمْ , يَعْنِي أَنَّهُ لَهُ مُوَافِق فِيمَا الْيَهُود بِهِ مُكَذِّبُونَ . قَالَ : وَذَلِكَ خَبَر مِنْ اللَّه أَنَّهُمْ مِنْ التَّكْذِيب بِالتَّوْرَاةِ عَلَى مِثْل الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْذِيب بِالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَان , عِنَادًا لِلَّهِ وَخِلَافًا لِأَمْرِهِ وَبَغْيًا عَلَى رُسُله صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه } يَعْنِي جَلَّ ذِكْره بِقَوْلِهِ : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُوا أَنْبِيَاء اللَّه } : قُلْ يَا مُحَمَّد لِيَهُودِ بَنِي إسْرَائِيل الَّذِينَ إذَا قُلْت لَهُمْ : { آمِنُوا بِمَا أَنَزَلَ اللَّه قَالُوا نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فَلِمَ تَقْتُلُونَ } إنْ كُنْتُمْ يَا مَعْشَر الْيَهُود مُؤْمِنِينَ بِمَا أَنَزَلَ اللَّه عَلَيْكُمْ { أَنْبِيَاء } وَقَدْ حَرَّمَ اللَّه فِي الْكِتَاب الَّذِي أَنَزَلَ عَلَيْكُمْ قَتْلهمْ , بَلْ أَمَرَكُمْ فِيهِ بِاتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتهمْ وَتَصْدِيقهمْ . وَذَلِكَ مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيب لَهُمْ فِي قَوْلهمْ : { نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } وَتَعْيِير لَهُمْ . كَمَا : 1289 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : قَالَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره وَهُوَ يُعَيِّرهُمْ , يَعْنِي الْيَهُود : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ قِيلَ لَهُمْ : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل } فَابْتَدَأَ الْخَبَر عَلَى لَفْظ الْمُسْتَقْبَل , ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَضَى ؟ قِيلَ : إنَّ أَهْل الْعَرَبِيَّة مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيل ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ : مَعْنَى ذَلِكَ : فَلِمَ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل ؟ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين } 2 102 أَيْ مَا تَلَتْ , وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَلَقَدْ أَمُرّ عَلَى اللَّئِيم يَسُبّنِي فَمَضَيْت عَنْهُ وَقُلْت لَا يَعْنِينِي يُرِيد بِقَوْلِهِ : " وَلَقَدْ أَمُرّ " : وَلَقَدْ مَرَرْت . وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " فَمَضَيْت عَنْهُ " , وَلَمْ يَقُلْ : " فَأَمْضِي عَنْهُ " . وَزَعَمَ أَنَّ " فَعَلَ وَيَفْعَل " قَدْ تَشْتَرِك فِي مَعْنًى وَاحِد , وَاسْتُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِر : وَإِنِّي لَآتِيكُمْ تَشَكُّر مَا مَضَى مِنْ الْأَمْر وَاسْتِيجَاب مَا كَانَ فِي غَد يَعْنِي بِذَلِكَ : مَا يَكُون فِي غَد . وَبِقَوْلِ الْحُطَيْئَة : شَهْد الْحُطَيْئَة يَوْم يَلْقَى رَبّه أَنَّ الْوَلِيد أَحَقّ بِالْعُذْرِ يَعْنِي : يَشْهَد . وَكَمَا قَالَ الْآخَر : فَمَا أُضْحِي وَلَا أَمْسَيْت إلَّا أَرَانِي مِنْكُمْ فِي كَوَّفَان فَقَالَ : أُضْحِي , ثُمَّ قَالَ : وَلَا أَمْسَيْت . وَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ : إنَّمَا قِيلَ : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل } فَخَاطَبَهُمْ بِالْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْفِعْل وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي , كَمَا يُعَنِّف الرَّجُل الرَّجُل عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ فِعْل , فَيَقُول لَهُ : وَيْحك لِمَ تُكَذِّب وَلِمَ تُبْغِض نَفْسك إلَى النَّاس ؟ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : إذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدنِي لَئِيمَة وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدًّا فَالْجَزَاء لِلْمُسْتَقْبِلِ , وَالْوِلَادَة كُلّهَا قَدْ مَضَتْ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوف , فَجَازَ ذَلِكَ . قَالَ : وَمِثْله فِي الْكَلَام إذَا نَظَرْت فِي سِيرَة عُمَر لَمْ تَجِدهُ يُسِيء , الْمَعْنَى : لَمْ تَجِدهُ أَسَاءَ , فَلَمَّا كَانَ أَمْر عُمَر لَا يَشُكّ فِي مُضِيّه لَمْ يَقَع فِي الْوَهْم أَنَّهُ مُسْتَقْبَل , فَلِذَلِكَ صَلُحَتْ مِنْ قَبْل مَعَ قَوْله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل } . قَالَ : وَلَيْسَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقَتْلِ هُمْ الْقَتَلَة , إنَّمَا قَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ أَسْلَافُهُمْ الَّذِينَ مَضَوْا , فَتَوَلَّوْهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَرَضُوا فَنَسَبَ الْقَتْل إلَيْهِمْ . وَالصَّوَاب فِيهِ مِنْ الْقَوْل عِنْدنَا أَنَّ اللَّه خَاطَبَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُود بَنِي إسْرَائِيل , بِمَا خَاطَبَهُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة وَغَيْرهَا مِنْ سَائِر السُّوَر , بِمَا سَلَفَ مِنْ إحْسَانه إلَى أَسْلَافهمْ , وَبِمَا سَلَفَ مِنْ كُفْرَان أَسْلَافهمْ نِعَمه , وَارْتِكَابهمْ مَعَاصِيه , وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ , وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ; نَظِير قَوْل الْعَرَب بَعْضهَا لِبَعْضٍ : فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْم كَذَا وَكَذَا , وَفَعَلْتُمْ بِنَا يَوْم كَذَا كَذَا وَكَذَا , عَلَى نَحْو مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْر مَوْضِع مِنْ كِتَابنَا هَذَا ; يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ أَسْلَافنَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَسْلَافِكُمْ وَأَنَّ أَوَائِلنَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَوَائِلِكُمْ . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل } إذْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَلَى لَفْظ الْخَبَر عَنْ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ خَبَرًا مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ فِعْل السَّالِفِينَ مِنْهُمْ عَلَى نَحْو الَّذِي بَيَّنَّا , جَازَ أَنْ يُقَال مِنْ قَبْل إذْ كَانَ مَعْنَاهُ : قُلْ فَلِمَ يَقْتُل أَسْلَافكُمْ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل ؟ وَكَانَ مَعْلُومًا بِأَنَّ قَوْله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه مِنْ قَبْل } إنَّمَا هُوَ خَبَر عَنْ فِعْل سَلَفهمْ . وَتَأْوِيل قَوْله : { مِنْ قَبْل } أَيْ مِنْ قَبْل الْيَوْم .

أَمَّا قَوْله : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَإِنَّهُ يَعْنِي إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أَنَزَلَ اللَّه عَلَيْكُمْ كَمَا زَعَمْتُمْ . وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الْيَهُود الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْلَافهمْ , إنْ كَانُوا وَكُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ أَيّهَا الْيَهُود مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّمَا عَيَّرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَتْلِ أَوَائِلهمْ أَنْبِيَاءَهُ عِنْد قَوْلهمْ حِين قِيلَ لَهُمْ : { آمِنُوا بِمَا أَنَزَلَ اللَّه قَالُوا نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } لِأَنَّهُمْ كَانُوا لِأَوَائِلِهِمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْل أَنْبِيَاء اللَّه مَعَ قِيلهمْ : { نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } مُتَوَلِّينَ , وَبِفِعْلِهِمْ رَاضِينَ , فَقَالَ لَهُمْ : إنْ كُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ مُؤْمِنِينَ بِمَا أَنَزَلَ عَلَيْكُمْ , فَلِمَ تَتَوَلَّوْنَ قَتَلَة أَنْبِيَاء اللَّه ؟ أَيْ تَرْضُونَ أَفْعَالهمْ .
وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَسورة البقرة الآية رقم 92
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } أَيْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّة عَلَى صِدْقه وَحَقِّيَّة نُبُوَّته ; كَالْعَصَا الَّتِي تَحَوَّلَتْ ثُعْبَانًا مُبِينًا , وَيَده الَّتِي أَخْرَجَهَا بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ , وَفَلَق الْبَحْر , وَمَصِير أَرْضه لَهُ طَرِيقًا يَبْسًا , وَالْجَرَاد وَالْقَمْل وَالضَّفَادِع , وَسَائِر الْآيَات الَّتِي بَيَّنَتْ صِدْقه وَحَقِّيَّة نُبُوَّته . وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّه بَيِّنَات لِتُبَيِّنهَا لِلنَّاظِرِينَ إلَيْهَا أَنَّهَا مُعْجِزَة لَا يَقْدِر عَلَى أَنْ يَأْتِي بِهَا بَشَر إلَّا بِتَسْخِيرٍ اللَّه ذَلِكَ لَهُ , وَإِنَّمَا هِيَ جَمْع بَيِّنَة مِثْل طَيِّبَة وَطَيِّبَات . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَمَعْنَى الْكَلَام : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يَا مَعْشَر يَهُود بَنِي إسْرَائِيل مُوسَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَات عَلَى أَمْره وَصِدْقه وَحَقِّيَّة نُبُوَّته .

يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ : ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْل مِنْ بَعْد مُوسَى إلَهًا , فَالْهَاء الَّتِي فِي قَوْله : " مِنْ بَعْده " مِنْ ذِكْر مُوسَى . وَإِنَّمَا قَالَ : " مِنْ بَعْد مُوسَى " , لِأَنَّهُمْ اتَّخَذُوا الْعِجْل مِنْ بَعْد أَنْ فَارَقَهُمْ مُوسَى مَاضِيًا إلَى رَبّه لِمَوْعِدِهِ , عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا . وَقَدْ يَجُوز أَنْ تَكُون " الْهَاء " الَّتِي فِي " بَعْده " إلَى ذِكْر الْمَجِيء , فَيَكُون تَأْوِيل الْكَلَام حِينَئِذٍ : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْل مِنْ بَعْد مَجِيء الْبَيِّنَات وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ , كَمَا تَقُول : جِئْتنِي فَكَرِهْته ; يَعْنِي كَرِهْت مَجِيئُك .

وَأَمَّا قَوْله : { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ عِبَادَة الْعِجْل , وَلَيْسَ ذَلِكَ لَكُمْ وَعَبَدْتُمْ غَيْر الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ ; لِأَنَّ الْعِبَادَة لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِ اللَّه . وَهَذَا تَوْبِيخ مِنْ اللَّه لِلْيَهُودِ , وَتَعْيِير مِنْهُ لَهُمْ , وَإِخْبَار مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ اتِّخَاذ الْعِجْل إلَهًا وَهُوَ لَا يَمْلِك لَهُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا , بَعْد الَّذِي عَلِمُوا أَنَّ رَبّهمْ هُوَ الرَّبّ الَّذِي يَفْعَل مِنْ الْأَعَاجِيب وَبَدَائِع الْأَفْعَال مَا أَجْرَاهُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُور الَّتِي لَا يَقْدِر عَلَيْهَا أَحَد مِنْ خَلْق اللَّه , وَلَمْ يَقْدِر عَلَيْهَا فِرْعَوْن وَجُنْده مَعَ بَطْشه وَكَثْرَة أَتْبَاعه , وَقُرْب عَهْدهمْ بِمَا عَايَنُوا مِنْ عَجَائِب حُكْم اللَّه ; فَهُمْ إلَى تَكْذِيب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُحُود مَا فِي كُتُبهمْ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهَا مُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَته وَنَعْته مَعَ بُعْد مَا بَيْنهمْ وَبَيْن عَهْد مُوسَى مِنْ الْمُدَّة أَسْرَع , وَإِلَى التَّكْذِيب بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ أَقْرَب .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 93
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقكُمْ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقكُمْ } . وَاذْكُرُوا إذْ أَخَذْنَا عُهُودكُمْ بِأَنْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ التَّوْرَاة الَّتِي أَنَزَلْتهَا إلَيْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِي , وَتَنْتَهُوا عَمَّا نَهَيْتُكُمْ فِيهَا بِجِدٍّ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ وَنَشَاط , فَأُعْطِيتُمْ عَلَى الْعَمَل بِذَلِكَ مِيثَاقكُمْ , إذْ رَفَعْنَا فَوْقكُمْ الْجَبَل .

أَمَّا قَوْله : { وَاسْمَعُوا } فَإِنَّ مَعْنَاهُ : وَاسْمَعُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ , وَتَقْبَلُوهُ بِالطَّاعَةِ ; كَقَوْلِ الرَّجُل لِلرَّجُلِ يَأْمُرهُ بِالْأَمْرِ : سَمِعْت وَأَطَعْت , يَعْنِي بِذَلِكَ : سَمِعْت قَوْلك وَأَطَعْت أَمْرك . كَمَا قَالَ الرَّاجِز : السَّمْع وَالطَّاعَة وَالتَّسْلِيم خَيْر وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيم يَعْنِي بِقَوْلِهِ السَّمْع : قَبُول مَا يَسْمَع وَالطَّاعَة لِمَا يُؤْمَر . فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله : { وَاسْمَعُوا } اقْبَلُوا مَا سَمِعْتُمْ وَاعْمَلُوا بِهِ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَمَعْنَى الْآيَة : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقكُمْ أَنْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ , وَاعْمَلُوا بِمَا سَمِعْتُمْ , وَأَطِيعُوا اللَّه , وَرَفَعْنَا فَوْقكُمْ الطُّور مِنْ أَجْل ذَلِكَ .

وَأَمَّا قَوْله : { قَالُوا سَمِعْنَا } فَإِنَّ الْكَلَام خَرَجَ مَخْرَج الْخَبَر عَنْ الْغَائِب بَعْد أَنْ كَانَ الِابْتِدَاء بِالْخِطَابِ , فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ ابْتِدَاء الْكَلَام إذَا كَانَ حِكَايَة فَالْعَرَب تُخَاطِب فِيهِ ثُمَّ تَعُود فِيهِ إلَى الْخَبَر عَنْ الْغَائِب وَتُخْبِر عَنْ الْغَائِب ثُمَّ تُخَاطِب كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْل . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّ قَوْله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقكُمْ } بِمَعْنَى : قُلْنَا لَكُمْ فَأَجَبْتُمُونَا . وَأَمَّا قَوْله : { قَالُوا سَمِعْنَا } فَإِنَّهُ خَبَر مِنْ اللَّه عَنْ الْيَهُود الَّذِينَ أَخَذَ مِيثَاقهمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاة وَأَنْ يُطِيعُوا اللَّه فِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا حِين قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ : سَمِعْنَا قَوْلك وَعَصَيْنَا أَمْرك .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل بِكُفْرِهِمْ } . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ حُبّ الْعِجْل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1290 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : ثنا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل } قَالَ : أُشْرِبُوا حُبّه حَتَّى خَلَصَ ذَلِكَ إلَى قُلُوبهمْ . 1291 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل } قَالَ : أُشْرِبُوا حُبّ الْعِجْل بِكُفْرِهِمْ . 1292 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل } قَالَ : أُشْرِبُوا حُبّ الْعِجْل فِي قُلُوبهمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ سُقُوا الْمَاء الَّذِي ذُرِيَ فِيهِ سِحَالَة الْعِجْل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ . 1293 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمه أَخَذَ الْعِجْل الَّذِي وَجَدَهُمْ عَاكِفِينَ عَلَيْهِ فَذَبَحَهُ , ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالْمِبْرَدِ , ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْيَمّ , فَلَمْ يَبْقَ بَحْر يَوْمئِذٍ يَجْرِي إلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْء مِنْهُ . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى : اشْرَبُوا مِنْهُ ! فَشَرِبُوا مِنْهُ , فَمَنْ كَانَ يُحِبّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبه الذَّهَب ; فَذَلِكَ حِين يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل بِكُفْرِهِمْ } . 1294 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : لَمَّا سُحِلَ فَأُلْقِيَ فِي الْيَمّ اسْتَقْبَلُوا جِرْيَة الْمَاء , فَشَرِبُوا حَتَّى مَلِئُوا بُطُونهمْ , فَأَوْرَثَ ذَلِكَ مِنْ فِعْله مِنْهُمْ جُبْنًا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْت بِقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل } تَأْوِيل مَنْ قَالَ : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ حُبّ الْعِجْل ; لِأَنَّ الْمَاء لَا يُقَال مِنْهُ : أُشْرِب فُلَان فِي قَلْبه , وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِكَ فِي حُبّ الشَّيْء , فَيُقَال مِنْهُ : أُشْرِبَ قَلْب فُلَان حُبّ كَذَا , بِمَعْنَى سُقِيَ ذَلِكَ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَخَالَطَ قَلْبه ; كَمَا قَالَ زُهَيْر : فَصَحَوْت عَنْهَا بَعْد حُبّ دَاخِل وَالْحُبّ يُشْرِبهُ فُؤَادك دَاء قَالَ : وَلَكِنَّهُ تَرَكَ ذِكْر الْحُبّ اكْتِفَاء بِفَهْمِ السَّامِع لِمَعْنَى الْكَلَام , إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْعِجْل لَا يُشْرِب الْقَلْب , وَأَنَّ الَّذِي يُشْرِب الْقَلْب مِنْهُ حُبّه , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَة الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَة الْبَحْر } 7 163 { وَاسْأَلْ الْقَرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِير الَّتِي أَقَبْلنَا فِيهَا } 12 82 وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر : أَلَا إنَّنِي سُقِّيتُ أَسْوَد حَالِكًا أَلَا بَجَلِي مِنْ الشَّرَاب أَلَا بَجَل يَعْنِي بِذَلِكَ سُمًّا أَسْوَد , فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَسْوَد عَنْ ذِكْر السُّمّ لِمَعْرِفَةِ السَّامِع مَعْنَى مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " سُقِّيتُ أَسْوَد " , وَيُرْوَى : أَلَا إنَّنِي سُقِّيتُ أَسْوَد سَالِخًا وَقَدْ تَقُول الْعَرَب : إذَا سَرَّك أَنْ تَنْظُر إلَى السَّخَاء فَانْظُرْ إلَى هَرَم أَوْ إلَى حَاتِم , فَتَجْتَزِئ بِذِكْرِ الِاسْم مِنْ ذِكْر فِعْله إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِشَجَاعَةٍ أَوْ سَخَاء أَوْ مَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ الصِّفَات . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : يَقُولُونَ جَاهِدْ يَا جَمِيل بِغَزْوَةٍ وَإِنَّ جِهَادًا طَيِّء وَقِتَالهَا

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُركُمْ بِهِ إيمَانكُمْ } . يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : قُلْ يَا مُحَمَّد لِيَهُودِ بَنِي إسْرَائِيل : بِئْسَ الشَّيْء يَأْمُركُمْ بِهِ إيمَانكُمْ إنْ كَانَ يَأْمُركُمْ بِقَتْلِ أَنْبِيَاء اللَّه وَرُسُله , وَالتَّكْذِيب بِكُتُبِهِ , وَجُحُود مَا جَاءَ مِنْ عِنْده . وَمَعْنَى إيمَانهمْ تَصْدِيقهمْ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ مِنْ كِتَاب اللَّه , إذْ قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا بِمَا أَنَزَلَ اللَّه , فَقَالُوا : نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا .

وَقَوْله : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ إنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ كَمَا زَعَمْتُمْ بِمَا أَنَزَلَ اللَّه عَلَيْكُمْ . وَإِنَّمَا كَذَّبَهُمْ اللَّه بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْرَاة تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ كُلّه وَتَأْمُر بِخِلَافِهِ , فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ تَصْدِيقهمْ بِالتَّوْرَاةِ إنْ كَانَ يَأْمُرهُمْ بِذَلِكَ فَبِئْسَ الْأَمْر تَأْمُر بِهِ . وَإِنَّمَا ذَلِكَ نَفْي مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ التَّوْرَاة أَنْ تَكُون تَأْمُر بِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَههُ اللَّه مِنْ أَفْعَالهمْ , وَأَنْ يَكُون التَّصْدِيق بِهَا يَدُلّ عَلَى شَيْء مِنْ مُخَالَفَة أَمْر اللَّه , وَإِعْلَام مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرهُمْ بِذَلِكَ أَهْوَاؤُهُمْ , وَاَلَّذِي يَحْمِلهُمْ عَلَيْهِ الْبَغْي وَالْعُدْوَان .
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة البقرة الآية رقم 94
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْأَخِرَة عِنْد اللَّه خَالِصَة مِنْ دُون النَّاس فَتَمَنَّوْا الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذِهِ الْآيَة مِمَّا احْتَجَّ اللَّه بِهَا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا بَيْن ظَهْرَانَيْ مُهَاجِره , وَفَضَحَ بِهَا أَحْبَارهمْ وَعُلَمَاءَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى قَضِيَّة عَادِلَة بَيْنه وَبَيْنهمْ فِيمَا كَانَ بَيْنه وَبَيْنهمْ مِنْ الْخِلَاف , كَمَا أَمَرَهُ اللَّه أَنْ يَدْعُو الْفَرِيق الْآخَر مِنْ النَّصَارَى إذْ خَالَفُوهُ فِي عِيسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ وَجَادَلُوا فِيهِ إلَى فَاصِلَة بَيْنه وَبَيْنهمْ مِنْ الْمُبَاهَلَة . وَقَالَ لِفَرِيقِ الْيَهُود : إنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فَتَمَنَّوْا الْمَوْت , فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْر ضَارّكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِيمَا تَدْعُونَ مِنْ الْإِيمَان وَقُرْب الْمَنْزِلَة مِنْ اللَّه , بَلْ إنْ أُعْطِيتُمْ أَمُنْيَتكُمْ مِنْ الْمَوْت إذَا تَمَنَّيْتُمْ فَإِنَّمَا تَصِيرُونَ إلَى الرَّاحَة مِنْ تَعَب الدُّنْيَا وَنَصَبهَا وَكَدَر عَيْشهَا وَالْفَوْز بِجِوَارِ اللَّه فِي جِنَانه , إنْ كَانَ الْأَمْر كَمَا تَزْعُمُونَ أَنَّ الدَّار الْآخِرَة لَكُمْ خَالِصَة دُوننَا . وَإِنْ لَمْ تُعْطُوهَا عَلِمَ النَّاس أَنَّكُمْ الْمُبْطِلُونَ وَنَحْنُ الْمُحِقُّونَ فِي دَعْوَانَا وَانْكَشَفَ أَمْرنَا وَأَمْركُمْ لَهُمْ . فَامْتَنَعَتْ الْيَهُود مِنْ إجَابَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ذَلِكَ ; لِعِلْمِهَا أَنَّهَا تَمَنَّتْ الْمَوْت هَلَكَتْ فَذَهَبَتْ دُنْيَاهَا وَصَارَتْ إلَى خِزْي الْأَبَد فِي آخِرَتهَا . كَمَا امْتَنَعَ فَرِيق النَّصَارَى الَّذِينَ جَادَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى - إذْ دُعُوا إلَى الْمُبَاهَلَة - مِنْ الْمُبَاهَلَة ; فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَوْ أَنَّ الْيَهُود تَمَنَّوْا الْمَوْت لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقَاعِدهمْ مِنْ النَّار , وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا " . 1295 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْن عَدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عَمْرو , عَنْ عَبْد الْكَرِيم , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس , عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 1296 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَثَّام بْن عَلَيَّ , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { فَتَمَنَّوْا الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ : لَوْ تَمَنَّوْا الْمَوْت لَشَرَقَ أَحَدهمْ بِرِيقِهِ . 1297 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ عَبْد الْكَرِيم الْجَزَرِيّ , عَنْ عِكْرِمَة فِي قَوْله : { فَتَمَنَّوْا الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : لَوْ تَمَنَّى الْيَهُود الْمَوْت لَمَاتُوا . * - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , عَنْ ابْن عَبَّاس , مِثْله . 1298 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , قَالَ أَبُو جَعْفَر فِيمَا أَرْوِي : أَنْبَأَنَا عَنْ سَعِيد أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : لَوْ تَمَنَّوْهُ يَوْم قال لهم ذَلِكَ , مَا بَقِيَ عَلَى ظَهْر الْأَرْض يَهُودِيّ إلَّا مَاتَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَانْكَشَفَ , لِمَنْ كَانَ مُشْكِلًا عَلَيْهِ أَمْر الْيَهُود يَوْمئِذٍ , كَذِبهمْ وَبُهْتهمْ وَبَغْيهمْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَظَهَرَتْ حُجَّة رَسُول اللَّه وَحُجَّة أَصْحَابه عَلَيْهِمْ , وَلَمْ تَزَلْ وَالْحَمْد لِلَّهِ ظَاهِرَة عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرهمْ مِنْ سَائِر أَهْل الْمِلَل . وَإِنَّمَا أُمِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُول لَهُمْ : { فَتَمَنَّوْا الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } لِأَنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا { قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ } 5 18 وَقَالُوا : { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } 2 111 فَقَالَ اللَّه لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ لَهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَزْعُمُونَ فَتَمَنَّوْا الْمَوْت ! فَأَبَانَ اللَّه كَذِبهمْ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ تَمَّنِي ذَلِكَ , وَأَفْلَجَ حُجَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله أَمَرَ اللَّه نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُو الْيَهُود أَنْ يَتَمَنَّوْا الْمَوْت , وَعَلَى أَيّ وَجْه أُمِرُوا أَنْ يَتَمَنَّوْهُ . فَقَالَ بَعْضهمْ : أُمِرُوا أَنْ يَتَمَنَّوْهُ عَلَى وَجْه الدُّعَاء عَلَى الْفَرِيق الْكَاذِب مِنْهُمَا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1299 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ سَعِيد أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : قَالَ اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللِّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي اُدْعُوا بِالْمَوْتِ على أَيّ الفريقين أَكْذَب . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1300 - حَدَّثَنِي بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة عِنْد اللَّه خَالِصَة مِنْ دُون النَّاس } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ { قَالُوا لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } 2 111 وَقَالُوا : { نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ } 5 18 فَقِيلَ لَهُمْ : { فَتَمَنَّوْا الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . 1301 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا آدَم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة , قَالَ : قَالَتْ الْيَهُود : { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وَقَالُوا : { نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ } فَقَالَ اللَّه : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة عِنْد اللَّه خَالِصَة مِنْ دُون النَّاس فَتَمَنَّوْا الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَلَمْ يَفْعَلُوا . 1302 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع قَوْله : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة عِنْد اللَّه خَالِصَة } الْآيَة , وَذَلِكَ بِأَنَّهُمْ { قَالُوا لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وَقَالُوا : { نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ } . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة عِنْد اللَّه خَالِصَة } فَإِنَّهُ يَقُول : قُلْ يَا مُحَمَّد إنْ كَانَ نَعِيم الدَّار الْآخِرَة وَلِذَاتِهَا لَكُمْ يَا مَعْشَر الْيَهُود عِنْد اللَّه . فَاكْتَفَى بِذَكَرِ " الدَّار " مِنْ ذِكْر نَعِيمهَا لِمُعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ مَعْنَاهَا . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الدَّار الْآخِرَة فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { خَالِصَة } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ صَافِيَة , كَمَا يُقَال : خَلَصَ لِي فُلَان بِمَعْنَى صَارَ فِي وَحْدِي وَصْفًا لِي ; يُقَال مِنْهُ : خَلَصَ فِي هَذَا الشَّيْء , فَهُوَ يَخْلُص خُلُوصًا وَخَالِصَة , وَالْخَالِصَة مَصْدَر مِثْل الْعَافِيَة , وَيُقَال لِلرَّجُلِ : هَذَا خَلَصَانِي , يَعْنِي خَالِصَتِي مِنْ دُون أَصْحَابِي . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّل قَوْله : { خَالِصَة } خَاصَّة , وَذَلِكَ تَأْوِيل قَرِيب مِنْ مَعْنَى التَّأْوِيل الَّذِي قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ . 1303 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة } قَالَ : قُلْ يَا مُحَمَّد لَهُمْ - يَعْنِي الْيَهُود - إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة - يَعْنِي الْخَيْر - { عِنْد اللَّه خَالِصَة } يَقُول : خَاصَّة لَكُمْ . وَأَمَّا قَوْله : { مِنْ دُون النَّاس } فَإِنَّ الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ ظَاهِر التَّنْزِيل أَنَّهُمْ قَالُوا : لَنَا الدَّار الْآخِرَة عِنْد اللَّه خَالِصَة مِنْ دُون جَمِيع النَّاس . وَيُبَيِّن أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَوْلهمْ مِنْ غَيْر اسْتِثْنَاء مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَم إخْبَار اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } . إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْل غَيْر ذَلِكَ . 1304 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { مِنْ دُون النَّاس } يَقُول : مِنْ دُون مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه الَّذِينَ اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِمْ , وَزَعَمْتُمْ أَنَّ الْحَقّ فِي أَيْدِيكُمْ , وَأَنَّ الدَّار الْآخِرَة لَكُمْ دُونهمْ . وَأَمَّا قَوْله : { فَتَمَنَّوْا الْمَوْت } فَإِنَّ تَأْوِيله : تَشَهُّوهُ وَأَرِيدُوهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْوِيله : " فَسَلُوا الْمَوْت " . وَلَا يُعْرَف التَّمَنِّي بِمَعْنَى الْمَسْأَلَة فِي كَلَام الْعَرَب , وَلَكِنْ أَحْسِب أَنَّ ابْن عَبَّاس وَجَّهَ مَعْنَى الْأُمْنِيَّة إذْ كَانَتْ مَحَبَّة النَّفْس وَشَهْوَتهَا إلَى مَعْنَى الرَّغْبَة وَالْمَسْأَلَة , إذْ كَانَتْ الْمَسْأَلَة هِيَ رَغْبَة السَّائِل إلَى اللَّه فِيمَا سَأَلَهُ . 1305 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس : { فَتَمَنَّوْا الْمَوْت } فَسَلُوا الْمَوْت { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 95
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ } وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ الْيَهُود وَكَرَاهَتهمْ الْمَوْت وَامْتِنَاعهمْ عَنْ الْإِجَابَة إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ تَمَّنِي الْمَوْت , لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَالْوَعِيد بِهِمْ نَازِل وَالْمَوْت بِهِمْ حَال , وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَسُول مِنْ اللَّه إلَيْهِمْ مُرْسَل وَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ , وَأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرهُمْ خَبَرًا إلَّا كَانَ حَقًّا كَمَا أَخْبَرَ , فَهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَتَمَنَّوْا الْمَوْت خَوْفًا أَنْ يَحِلّ بِهِمْ عِقَاب اللَّه بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهمْ مِنْ الذُّنُوب , كَاَلَّذِي : 1306 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة } الْآيَة , أَيْ اُدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَب , فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يَقُول اللَّه لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ } أَيْ لِعِلْمِهِمْ بِمَا عِنْدهمْ مِنْ الْعِلْم بِك وَالْكُفْر بِذَلِكَ . 1307 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } يَقُول : يَا مُحَمَّد وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ , وَلَوْ كَانُوا صَادِقِينَ لَتَمَنَّوْهُ وَرَغِبُوا فِي التَّعْجِيل إلَى كَرَامَتِي , فَلَيْسَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ . 1308 - حَدَّثَنِي الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قَوْله : { فَتَمَنَّوْا الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَكَانَتْ الْيَهُود أَشَدّ فِرَارًا مِن الْمَوْت , وَلَمْ يَكُونُوا لِيَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ بِمَا أَسْلَفَتْهُ أَيْدِيهمْ . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَل عَلَى نَحْو مَا تَتَمَثَّل بِهِ الْعَرَب فِي كَلَامهَا , فَتَقُول لِلرَّجُلِ يُؤْخَذ بِجَرِيرَةٍ جَرَّهَا أَوْ جِنَايَة جَنَاهَا فَيُعَاقَب عَلَيْهَا : نَالَك هَذَا بِمَا جَنَتْ يَدَاك , وَبِمَا كَسَبَتْ يَدَاك , وَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك ; فَتُضِيف ذَلِكَ إلَى الْيَد , وَلَعَلَّ الْجِنَايَة الَّتِي جَنَاهَا فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْعُقُوبَة كَانَتْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْفَرْجِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَاء جَسَده سِوَى الْيَد . قَالَ : وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِإِضَافَتِهِ إلَى الْيَد ; لِأَنَّ عِظَم جِنَايَات النَّاس بِأَيْدِيهِمْ , فَجَرَى الْكَلَام بِاسْتِعْمَالِ إضَافَة الْجِنَايَات الَّتِي يَجْنِيهَا النَّاس إلَى أَيْدِيهمْ حَتَّى أُضِيفَ كُلّ مَا عُوقِبَ عَلَيْهِ الْإِنْسَان مِمَّا جَنَاه بِسَائِرِ أَعْضَاء جَسَده إلَى أَنَّهَا عُقُوبَة عَلَى مَا جَنَّته يَده , فَلِذَلِكَ قَالَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْعَرَبِ : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ } يَعْنِي بِهِ : وَلَنْ يَتَمَنَّى الْيَهُود الْمَوْت بِمَا قَدَّمُوا أَمَامهمْ مِنْ حَيَاتهمْ مِنْ كُفْرهمْ بِاَللَّهِ فِي مُخَالَفَتهمْ أَمْره وَطَاعَته فِي اتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة , وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيّ مَبْعُوث . فَأَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبهمْ وَأَضْمَرَتْهُ أَنْفُسهمْ وَنَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتهمْ مِنْ حَسَد مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْبَغْي عَلَيْهِ , وَتَكْذِيبه , وَجُحُود رِسَالَته إلَى أَيْدِيهمْ , وَأَنَّهُ مِمَّا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهمْ , لِعِلْمِ الْعَرَب مَعْنَى ذَلِكَ فِي مَنْطِقهَا وَكَلَامهَا , إذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَنَزَلَ الْقُرْآن بِلِسَانِهَا وَبَلَغَتْهَا . وَرُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس فِي ذَلِكَ مَا : 1309 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ } يَقُول : بِمَا أَسْلَفَتْ أيديهم . 1310 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ } قَالَ : إنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيّ فَكَتَمُوهُ .

وَأَمَّا قَوْله : { وَاَللَّه عَلِيم بِالظَّالِمِينَ } فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَاَللَّه ذُو عِلْم بِظُلْمَةِ بَنِي آدَم : يَهُودِهَا وَنَصَارَاهَا وَسَائِر أَهْل الْمِلَل غَيْرهَا , وَمَا يَعْمَلُونَ . وَظُلْم الْيَهُود كُفْرهمْ بِاَللَّهِ فِي خِلَافهمْ أَمْره وَطَاعَته فِي اتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد أَنْ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ وَبِمَبْعَثِهِ , وَجُحُودهمْ نُبُوَّته وَهُمْ عَالِمُونَ أَنَّهُ نَبِيّ اللَّه وَرَسُوله إلَيْهِمْ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الظَّالِم فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته .
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَسورة البقرة الآية رقم 96
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة } الْيَهُود يَقُول : يَا مُحَمَّد لَتَجِدَنَّ أَشَدّ النَّاس حِرْصًا عَلَى الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا وَأَشَدّهمْ كَرَاهَة لِلْمَوْتِ الْيَهُود . كَمَا : 1311 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَر عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة } يَعْنِي الْيَهُود . 1312 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة } يَعْنِي الْيَهُود . 1313 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , مِثْله . 1314 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . وَإِنَّمَا كَرَاهَتهمْ الْمَوْت لِعِلْمِهِمْ بِمَا لَهُمْ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخِزْي وَالْهَوَان الطَّوِيل .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } . يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } وَأَحْرَص مِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عَلَى الْحَيَاة , كَمَا يُقَال : هُوَ أَشْجَع النَّاس وَمِنْ عَنْتَرَة , بِمَعْنَى : هُوَ أَشْجَع مِنْ النَّاس وَمِنْ عَنْتَرَة , فَكَذَلِكَ قَوْله : { وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : وَلَتَجِدَنَّ يَا مُحَمَّد الْيَهُود مِنْ بَنِي إسْرَائِيل أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا . فَلَمَّا أُضِيفَ " أَحْرَص " إلَى " النَّاس " , وَفِيهِ تَأْوِيل " مِنْ " أُظْهِرَتْ بَعْد حَرْف الْعَطْف رَدًّا عَلَى التَّأْوِيل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْيَهُود بِأَنَّهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى الْحَيَاة لِعِلْمِهِمْ بِمَا قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَة عَلَى كُفْرهمْ بِمَا لَا يُقِرّ بِهِ أَهْل الشِّرْك , فَهُمْ لِلْمَوْتِ أَكْرَه مِنْ أَهْل الشِّرْك الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ ; لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ , وَيَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ هُنَالِكَ مِنْ الْعَذَاب , وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ , وَلَا الْعِقَاب . فَالْيَهُود أَحْرَص مِنْهُمْ عَلَى الْحَيَاة وَأَكْرَه لِلْمَوْتِ . وَقِيلَ : إنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَنَّ الْيَهُود أَحْرَص مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَى الْحَيَاة هُمْ الْمَجُوس الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ . ذِكْر مَنْ قَالَ هُمْ الْمَجُوس : 1315 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } يَعْنِي الْمَجُوس . 1316 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع { وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } قَالَ : الْمَجُوس . 1317 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } قَالَ : يَهُود أَحْرَص مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَيَاة . ذِكْر مَنْ قَالَ : هُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْث : 1318 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثنا ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِك لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْد الْمَوْت فَهُوَ يُحِبّ طُول الْحَيَاة , وَأَنَّ الْيَهُودِيّ قَدْ عَرَفَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخِزْي بِمَا ضَيَّعَ مِمَّا عِنْده مِنْ الْعِلْم .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } . هَذَا خَبَر مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ عَنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا , الَّذِينَ أَخْبَرَ أَنَّ الْيَهُود أَحْرَص مِنْهُمْ عَلَى الْحَيَاة , يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : يَوَدّ أَحَد هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إلَّا بَعْد فَنَاء دُنْيَاهُ وَانْقِضَاء أَيَّام حَيَاته أَنْ يَكُون لَهُ بَعْد ذَلِكَ نَشُور أَوْ مَحْيَا أَوْ فَرَح أَوْ سُرُور لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة ; حَتَّى جَعَلَ بَعْضهمْ تَحِيَّة بَعْض عَشَرَة آلَاف عَام حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الْحَيَاة . كَمَا : 1319 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحَسَن بْن شَقِيق , قَالَ : سَمِعْت أَبِي عَلِيًّا , أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَة , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } قَالَ : هُوَ قَوْل الْأَعَاجِم سال زه نوروز مهرجان حر . 1320 - وَحُدِّثْت عَنْ نُعَيْم النَّحْوِيّ , عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر : { يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } قَالَ : هُوَ قَوْل أَهْل الشِّرْك بَعْضهمْ لِبَعْضٍ إذَا عَطَسَ : زه هزار سال . 1321 - حَدَّثَنَا إبْرَاهِيم بْن سَعِيد وَيَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَا : ثنا إسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } قَالَ : حُبِّبَتْ إلَيْهِمْ الْخَطِيئَة طُول الْعُمْر . * - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن مَعْبَد , عَنْ ابْن عُلَيَّة , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح فِي قَوْله : { يَوَدّ أَحَدهمْ } فَذَكَرَ مِثْله. 1322 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { وَلَتَجِدَنهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة } حَتَّى بَلَغَ : { لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } يَهُود أَحْرَص مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَيَاة , وَقَدْ وَدَّ هَؤُلَاءِ لَوْ يُعَمَّر أَحَدهمْ أَلْف سَنَة . 1323 - وَحُدِّثْت عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ سَعِيد , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة } قَالَ : هُوَ قَوْل أَحَدهمْ إذَا عَطَسَ زه هزار سال , يَقُول : عَشْرَة آلَاف سَنَة .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب أَنْ يُعَمَّر } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب أَنْ يُعَمَّر } وَمَا التَّعْمِير - وَهُوَ طُول الْبَقَاء - بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ عَذَاب اللَّه . وَقَوْله : { هُوَ } عِمَاد لِطَلَبِ " وَمَا " الِاسْم أَكْثَر مِنْ طَلَبهَا الْفِعْل , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَهَلْ هُوَ مَرْفُوع بِمَا هَهُنَا رَأْس و " أَنَّ " الَّتِي فِي : { أَنْ يُعَمَّر } رُفِعَ بِمُزَحْزِحِهِ , أَوْ هُوَ الَّذِي مَعَ " مَا " تَكْرِير عِمَاد لِلْفِعْلِ لَا لِاسْتِقْبَاحِ الْعَرَب النَّكِرَة قَبْل الْمَعْرِفَة . وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ إنَّ " هُوَ " الَّذِي مَعَ " مَا " كِنَايَة ذِكْر الْعُمْر , كَأَنَّهُ قَالَ : يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة , وَمَا ذَلِك الْعُمْر بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب . وَجَعَلَ " أَنْ يُعَمَّر " مُتَرْجِمًا عَنْ " هُوَ " , يُرِيد : مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ التَّعْمِير . وَقَالَ بَعْضهمْ : قَوْله : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب أَنْ يُعَمَّر } نَظِير قَوْلك : مَا زَيْد بِمُزَحْزِحِهِ أَنْ يُعَمَّر . وَأَقْرَب هَذِهِ الْأَقْوَال عِنْدنَا إلَى الصَّوَاب مَا قُلْنَا , وَهُوَ أَنْ يَكُون هُوَ عِمَادًا نَظِير قَوْلك : مَا هُوَ قَائِم عَمْرو . وَقَدْ قَالَ قَوْم مِنْ أَهْل التَّأْوِيل : إنَّ " أَنْ " الَّتِي فِي قَوْله : " أَنْ يُعَمَّر " بِمَعْنَى : وَإِنْ عَمَّرَ , وَذَلِك قَوْل لِمَعَانِي كَلَام الْعَرَب الْمَعْرُوف مُخَالِف . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1324 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب أَنْ يُعَمَّر } يَقُول : وَإِنْ عَمَّرَ . * - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع مِثْله . 1325 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : أَنْ يُعَمَّر وَلَوْ عَمَّرَ . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { بِمُزَحْزِحِهِ } فَإِنَّهُ بِمُبْعِدِهِ وَمُنَحِّيه , كَمَا قَالَ الْحُطَيْئَة : وَقَالُوا تَزَحْزَحْ مَا بِنَا فَضْل حَاجَة إلَيْك وَمَا مِنَّا لِوَهْيِك رَاقِع يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَزَحْزَحْ : تَبَاعَدْ , يُقَال مِنْهُ : زَحْزَحَهُ يُزَحْزِحهُ زَحْزَحَة وَزِحْزَاحًا , وَهُوَ عَنْك مُتَزَحْزِح : أَيْ مُتَبَاعِد . فَتَأْوِيل الْآيَة : وَمَا طُول الْعُمْر بِمُبْعِدِهِ مِنْ عَذَاب اللَّه وَلَا مُنَحِّيه مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَا بُدّ لِلْعُمْرِ مِنْ الْفَنَاء وَمَصِيره إلَى اللَّه . كَمَا : 1326 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد فِيمَا أُرْوِيَ , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , أَوْ عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب أَنْ يُعَمَّر } أَيْ مَا هُوَ بِمُنَحِّيهِ مِنْ الْعَذَاب . 1327 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب أَنْ يُعَمَّر } يَقُول : وَإِنْ عَمَّرَ , فَمَا ذَاكَ بِمُغِيثِهِ مِنْ الْعَذَاب وَلَا مُنَحِّيه . * - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , مِثْله . 1328 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي , قَالَ : ثني أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس : { يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب } فَهُمْ الَّذِينَ عَادُوا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . 1329 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { يَوَدّ أَحَدهمْ لَوْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب أَنْ يُعَمَّر } وَيَهُود أَحْرَص عَلَى الْحَيَاة مِنْ هَؤُلَاءِ , وَقَدْ وَدَّ هَؤُلَاءِ لَوْ يُعَمَّر أَحَدهمْ أَلْف سَنَة , وَلَيْسَ ذَلِك بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَاب لَوْ عَمَّرَ كَمَا عَمَّرَ إبْلِيس لَمْ يَنْفَعهُ ذَلِك , إذْ كَانَ كَافِرًا وَلَمْ يُزَحْزِحهُ ذَلِك عَنْ الْعَذَاب .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّه بَصِير بِمَا يَعْلَمُونَ } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَاَللَّه بَصِير بِمَا يَعْلَمُونَ } وَاَللَّه ذُو إبْصَار بِمَا يَعْمَلُونَ , لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَعْمَالهمْ , بَلْ هُوَ بِجَمِيعِهَا مُحِيط وَلَهَا حَافِظ ذَاكِر حَتَّى يُذِيقهُمْ بِهَا الْعِقَاب جَزَاءَهَا . وَأَصْل بَصِير مُبْصِر مِنْ قَوْل الْقَائِل : أَبْصَرْت فَأَنَا مُبْصِر ; وَلَكِنْ صُرِفَ إلَى فَعِيل , كَمَا صُرِفَ مُسْمِع إلَى سَمِيع , وَعَذَاب مُؤْلِم إلَى أَلِيم , وَمُبْدِع السَّمَوَات إلَى بَدِيع , وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ .
قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 97
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه } أَجْمَع أَهْل الْعِلْم بِالتَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيل , إذْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيل عَدُوّ لَهُمْ , وَأَنَّ مِيكَائِيل وَلِيّ لَهُمْ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله قَالُوا ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : إنَّمَا كَانَ سَبَب قَيْلهمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْل مُنَاظَرَة جَرَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْر نُبُوَّته ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1330 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا يُونُس , عَنْ بُكَيْر , عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن بَهْرَام , عَنْ شَهْر بْن حَوْشَبٍ , عَنْ ابْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : حَضَرَتْ عِصَابَة مِنْ الْيَهُود رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِم حَدِّثْنَا عَنْ خِلَال نَسْأَلك عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمهُنَّ إلَّا نَبِيّ ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ , وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمَّة اللَّه وَمَا أَخَذَ يَعْقُوب عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعَنِّي عَلَى الْإِسْلَام " . فَقَالُوا : ذَلِكَ لَك . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ " فَقَالُوا أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَع خِلَال نَسْأَلك عَنْهُنَّ ! أَخْبِرْنَا أَيّ الطَّعَام حَرَّمَ إسْرَائِيل عَلَى نَفْسه مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزَّل التَّوْرَاة ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْف مَاء الْمَرْأَة وَمَاء الرَّجُل , وَكَيْف يَكُون الذَّكَر مِنْهُ وَالْأُنْثَى ؟ وَأَخْبَرَنَا بِهَذَا النَّبِيّ الْأُمِّيّ فِي النَّوْم وَمَنْ وَلِيّه مِنْ الْمَلَائِكَة ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَلَيْكُمْ عَهْد اللَّه لَئِنْ أَنَا أَنْبَأْتُكُمْ لَتُتَابِعَنِّي " . فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْد وَمِيثَاق , فَقَالَ : " نَشَدْتُكُمْ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إسْرَائِيل مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سَقَمه مِنْهُ , فَنَذَرَ نَذْرًا لَئِنْ عَافَاهُ اللَّه مِنْ سَقَمه لَيُحَرِّمَن أَحَبَّ الطَّعَام وَالشَّرَاب إلَيْهِ وَكَانَ أَحَبّ الطَّعَام إلَيْهِ لَحْم الْإِبِل ؟ " - قَالَ أَبُو جَعْفَر : فِيمَا أُرَى : " وَأَحَبّ الشَّرَاب إلَيْهِ أَلْبَانهَا " - فَقَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُشْهِد اللَّه عَلَيْكُمْ وَأَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَه إلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاء الرَّجُل أَبْيَض غَلِيظ , وَأَنَّ مَاء الْمَرْأَة أَصْفَر رَقِيق , فَأَيّهمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَد وَالشَّبِيه بِإِذْنِ اللَّه , فَإِذَا عَلَا مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة كَانَ الْوَلَد ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّه وَإِذَا عَلَا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل كَانَ الْوَلَد أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّه ؟ " . قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ ! قَالَ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " . قَالَ : " وَأَنْشُدكُمْ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيّ الْأُمِّيّ تَنَام عَيْنَاهُ وَلَا يَنَام قَلْبه ؟ " . قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ ! قَالَ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " . قَالُوا : أَنْت الْآن تُحَدِّثنَا مَنْ وَلِيّك مِنْ الْمَلَائِكَة ؟ فَعِنْدهَا نُتَابِعك أَوْ نُفَارِقك . قَالَ : " فَإِنَّ وَلِيِّي جِبْرِيل , وَلَمْ يَبْعَث اللَّه نَبِيًّا قَطُّ إلَّا وَهُوَ وَلِيّه " . قَالُوا : فَعِنْدهَا نُفَارِقك , لَوْ كَانَ وَلِيّك سِوَاهُ مِنْ الْمَلَائِكَة تَابَعْنَاك وَصَدَّقْنَاك . قَالَ : " فَمَا يَمْنَعكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ ؟ " قَالُوا : إنَّهُ عَدُوّنَا . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه } إلَى قَوْله : { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } . فَعِنْدهَا بَاءُوا بِغَضَبِ عَلَى غَضَب . 1331 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي الْحُسَيْن , يَعْنِي الْمَكِّيّ , عَنْ شَهْر بْن حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيّ : أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْيَهُود جَاءُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَع نَسْأَلك عَنْهُنَّ فَإِنْ فَعَلْت اتَّبَعْنَاك وَصَدَّقْنَاك وَآمَنَّا بِك ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَلَيْكُمْ بِذَلِك عَهْد اللَّه وَمِيثَاقه لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِك لَتُصَدِّقَنِّي " قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : " فَاسْأَلُوا عَمَّا بَدَا لَكُمْ " . فَقَالُوا : أَخْبِرْنَا كَيْف يُشْبِه الْوَلَد أُمّه وَإِنَّمَا النُّطْفَة مِنْ الرَّجُل ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْد بَنِي إسْرَائِيل هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ نُطْفَة الرَّجُل بَيْضَاء غَلِيظَة , وَنُطْفَة الْمَرْأَة صَفْرَاء رَقِيقَة , فَأَيّهمَا غَلَبَتْ صَاحِبَتهَا كَانَ لَهَا الشَّبَه : نَعَمْ . قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا كَيْف نَوْمك ؟ قَالَ : " أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْد بَنِي إسْرَائِيل هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ نُطْفَة الرَّجُل بَيْضَاء غَلِيظَة , وَنُطْفَة الْمَرْأَة صَفْرَاء رَقِيقَة , فَأَيّهمَا غَلَبَتْ صَاحِبَتهَا كَانَ لَهَا الشَّبَه ؟ " قَالُوا : نَعَمْ . قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا كَيْف نَوْمك ؟ قَالَ " قَالَ " : أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْد بَنِي إسْرَائِيل , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيّ الْأُمِّيّ تَنَام عَيْنَاهُ وَلَا يَنَام قَلْبه ؟ " قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ . قَالَ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " قَالُوا : أَخْبِرْنَا أَيّ الطَّعَام حَرَّمَ إسْرَائِيل عَلَى نَفْسه مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزَّل التَّوْرَاة ؟ قَالَ : " هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبّ الطَّعَام وَالشَّرَاب إلَيْهِ أَلْبَان الْإِبِل وَلُحُومهَا , وَأَنَّهُ اشْتَكَى شَكْوَى فَعَافَاهُ اللَّه مِنْهَا , فَحَرَّمَ أَحَبّ الطَّعَام وَالشَّرَاب إلَيْهِ شُكْرًا لِلَّهِ فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسه لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا ؟ " قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ . قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا عَنْ الرُّوح ! قَالَ : " أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْد بَنِي إسْرَائِيل , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ جِبْرِيل وَهُوَ الَّذِي يَأْتِينِي ؟ " قَالُوا : نَعَمْ , وَلَكِنَّهُ لَنَا عَدُوّ , وَهُوَ مَلَك إنَّمَا يَأْتِي بِالشِّدَّةِ وَسَفْك الدِّمَاء , فَلَوْلَا ذَلِكَ اتَّبَعْنَاك . فَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك } إلَى قَوْله : { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } . 1332 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : حَدَّثَنِي الْقَاسِم بْن أَبِي بِزَّة : أَنَّ يَهُود سَأَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَاحِبه الَّذِي يَنْزِل عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ , فَقَالَ : " جِبْرِيل " . قَالُوا : فَإِنَّهُ لَنَا عَدُوّ وَلَا يَأْتِي إلَّا بِالْحَرْبِ وَالشِّدَّة وَالْقِتَال . فَنَزَلَ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل } الْآيَة . قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : وَقَالَ مُجَاهِد : قَالَتْ يَهُود : يَا مُحَمَّد مَا يَنْزِل جِبْرِيل إلَّا بِشِدَّةِ وَحَرْب , وَقَالُوا : إنَّهُ لَنَا عَدُوّ ; فَنَزَلَ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل } الْآيَة . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ كَانَ سَبَب قَيْلهمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْل مُنَاظَرَة جَرَتْ بَيْن عُمَر بْن الْخُطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَبَيْنهمْ فِي أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1333 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا رِبْعِي بْن عُلَيَّة , عَنْ دَاوُد بْن أَبِي هِنْد , عَنْ الشَّعْبِيّ , قَالَ : نَزَلَ عُمَر الرَّوْحَاء , فَرَأَى رِجَالًا يَبْتَدِرُونَ أَحْجَارًا يُصَلُّونَ إلَيْهَا , فَقَالَ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا : يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى هَهُنَا . فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاة بِوَادٍ فَصَلَّى ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَهُ . ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثهُمْ فَقَالَ : كُنْت أَشْهَد الْيَهُود يَوْم مِدْرَاسهمْ فَأَعْجَبَ مِنْ التَّوْرَاة كَيْف تُصَدِّق الْفُرْقَان وَمِنْ الْفُرْقَان كَيْف يُصَدِّق التَّوْرَاة , فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدهمْ ذَات يَوْم قَالُوا : يَا ابْن الْخَطَّاب مَا مِنْ أَصْحَابك أَحَد أَحَبّ إلَيْنَا مِنْك ! قُلْت : وَلِمَ ذَلِكَ ؟ قَالُوا : إنَّك تَغْشَانَا وَتَأْتِينَا . قَالَ : قُلْت إنِّي آتِيكُمْ فَأَعْجَب مِنْ الْفُرْقَان كَيْف يُصَدِّق التَّوْرَاة وَمِنْ التَّوْرَاة كَيْف تُصَدِّق الْفُرْقَان ! قَالَ : وَمَرَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا ابْن الْخَطَّاب ذَاكَ صَاحِبكُمْ فَالْحَقْ بِهِ ! قَالَ : فَقُلْت لَهُمْ عِنْد ذَلِكَ : أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَه إلَّا هُوَ وَمَا اسْتَرْعَاكُمْ مِنْ حَقّه وَاسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ كِتَابه , أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : فَسَكَتُوا . قَالَ : فَقَالَ عَالِمهمْ وَكَبِيرهمْ : إنَّهُ قَدْ عَظَّمَ عَلَيْكُمْ فَأَجِيبُوهُ ! قَالُوا : أَنْت عَالِمنَا وَسَيِّدنَا فَأَجِبْهُ أَنْت . قَالَ : أَمَا إذْ أَنَشَدْتنَا بِهِ , فَإِنَّا نَعْلَم أَنَّهُ رَسُول اللَّه . قَالَ : قُلْت : وَيْحكُمْ ! إذًا هَلَكْتُمْ . قَالُوا إنَّا لَمْ نَهْلَك . قَالَ : قُلْت : كَيْف ذَاكَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ لَا تَتَّبِعُونَهُ , وَلَا تُصَدِّقُونَهُ ؟ قَالُوا : إنَّ لَدِينًا عَدُوًّا مِنْ الْمَلَائِكَة وَسِلْمًا مِنْ الْمَلَائِكَة , وَإِنَّهُ قَرَنَ بَهْ عَدُوّنَا مِنْ الْمَلَائِكَة . قَالَ : قُلْت : وَمَنْ عَدُوّكُمْ وَمَنْ سِلْمكُمْ ؟ قَالُوا : عَدُوّنَا جِبْرِيل وَسِلْمنَا مِيكَائِيل . قَالَ : قُلْت : وَفِيمَ عَادَيْتُمْ جِبْرِيل وَفِيمَ سَالَمْتُمْ مِيكَائِيل ؟ قَالُوا : إنَّ جِبْرِيل مَلَك الْفَظَاظَة وَالْغِلْظَة وَالْإِعْسَار وَالتَّشْدِيد وَالْعَذَاب وَنَحْو هَذَا , وَإِنَّ مِيكَائِيل مَلَك الرَّأْفَة وَالرَّحْمَة وَالتَّخْفِيف وَنَحْو هَذَا . قَالَ : قُلْت : وَمَا مَنْزِلَتهمَا مِنْ رَبّهمَا ؟ قَالُوا : أَحَدهمَا عَنْ يَمِينه وَالْآخَر عَنْ يَسَاره , قَالَ : قُلْت : فَوَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَه إلَّا هُوَ إنَّهُمَا وَاَلَّذِي بَيْنهمَا لَعَدُوّ لِمَنْ عَادَاهُمَا وَسِلْم لِمَنْ سَالَمَهُمَا , مَا يَنْبَغِي لِجِبْرِيل أَنْ يُسَالِم عَدُوّ مِيكَائِيل , وَلَا لِمِيكَائِيل أَنْ يُسَالِم عَدُوّ جِبْرِيل . قَالَ : ثُمَّ قُمْت فَاتَّبَعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَحِقْته وَهُوَ خَارِج مِنْ مَخْرَفَة لِبَنِي فُلَان فَقَالَ لِي : " يَا ابْن الْخَطَّاب أَلَا أُقْرِئك آيَات نَزَلْنَ ؟ " فَقَرَأَ عَلَيَّ : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ } حَتَّى قَرَأَ الْآيَات . قَالَ : قُلْت : بِأَبِي أَنْت وَأُمِّي يَا رَسُول اللَّه وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَقَدْ جِئْت وَأَنَا أُرِيد أَنْ أُخْبِرك الْخَبَر فَأَسْمَع اللَّطِيف الْخَبِير قَدْ سَبَقَنِي إلَيْك بِالْخَبَرِ . * - حَدَّثَنِي يَعْقُوب , قَالَ : ثنا إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا ابْن عُلَيَّة , عَنْ دَاوُد , عَنْ الشَّعْبِيّ , قَالَ : قَالَ عُمَر : كُنْت رَجُلًا أَغْشَى الْيَهُود فِي يَوْم مِدْرَاسهمْ ; ثُمَّ ذَكَر نَحْو حَدِيث رِبْعِي . 1334 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَالَ : ذَكَر لَنَا أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب انْطَلَقَ ذَات يَوْم إلَى الْيَهُود , فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ رَحَّبُوا بِهِ , فَقَالَ لَهُمْ عُمَر : أَمَا وَاَللَّه مَا جِئْت لِحُبِّكُمْ وَلَا لِلرَّغْبَةِ فِيكُمْ , وَلَكِنْ جِئْت لِأَسْمَع مِنْكُمْ ! فَسَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ , فَقَالُوا مَنْ صَاحِب صَاحِبكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُمْ : جِبْرِيل . فَقَالُوا : ذَاكَ عَدُوّنَا مِنْ أَهْل السَّمَاء يُطْلِع مُحَمَّدًا عَلَى سِرّنَا , وَإِذَا جَاءَ جَاءَ بِالْحَرْبِ وَالسَّنَة , وَلَكِنْ صَاحِب صَاحِبنَا مِيكَائِيل , وَكَانَ إذَا جَاءَ جَاءَ بِالْخِصْبِ وَبِالسِّلْمِ , فَقَالَ لَهُمْ عُمَر : أَفَتَعْرِفُونَ جِبْرِيل وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّدًا ! فَفَارَقَهُمْ عُمَر عِنْد ذَلِكَ وَتَوَجَّهَ نَحْو رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحَدِّثهُ حَدِيثهمْ , فَوَجَدَهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه } . * - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر عَنْ قَتَادَة , قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَقْبَلَ عَلَى الْيَهُود يَوْمًا فَذَكَر نَحْوه . 1335 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل } قَالَ : قَالَتْ الْيَهُود : إنَّ جِبْرِيل هُوَ عَدُوّنَا لِأَنَّهُ يَنْزِل بِالشِّدَّةِ وَالْحَرْب وَالسَّنَة , وَإِنَّ مِيكَائِيل يَنْزِل بِالرَّخَاءِ وَالْعَافِيَة وَالْخِصْب , فَجِبْرِيل عَدُوّنَا . فَقَالَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل } . 1336 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ } قَالَ : كَانَ لِعُمَر بْن الْخَطَّاب أَرْض بِأَعْلَى الْمَدِينَة , فَكَانَ يَأْتِيهَا , وَكَانَ مَمَرّه عَلَى طَرِيق مِدْرَاس الْيَهُود , وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ سَمِعَ مِنْهُمْ . وَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِمْ ذَات يَوْم , فَقَالُوا : يَا عُمَر مَا فِي أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَد أَحَبّ إلَيْنَا مِنْك ! إنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِنَا فَيُؤْذُونَنَا , وَتَمُرّ بِنَا فَلَا تُؤْذِينَا , وَإِنَّا لَنَطْمَع فِيك . فَقَالَ لَهُمْ عُمَر : أَيّ يَمِين فِيكُمْ أَعْظَم ؟ قَالُوا : الرَّحْمَن الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى بِطُورِ سَيْنَاء . فَقَالَ لَهُمْ عُمَر : فَأُنْشِدكُمْ بِالرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى بِطُورِ سَيْنَاء , أَتَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدكُمْ ؟ فَأَسْكَتُوا . فَقَالَ : تَكَلَّمُوا مَا شَأْنكُمْ ؟ فَوَاَللَّهِ مَا سَأَلْتُكُمْ وَأَنَا شَاكّ فِي شَيْء مِنْ دِينِي ! فَنَظَرَ بَعْضهمْ إلَى بَعْض , فَقَامَ رَجُل مِنْهُمْ فَقَالَ : أَخْبِرُوا الرَّجُل لَتُخْبِرَنهُ أَوْ لَأُخْبِرَنهُ ! قَالُوا : نَعَمْ , إنَّا نَجِدهُ مَكْتُوبًا عِنْدنَا وَلَكِنْ صَاحِبه مِنْ الْمَلَائِكَة الَّذِي يَأْتِيه بِالْوَحْيِ هُوَ جِبْرِيل وَجِبْرِيل عَدُوّنَا , وَهُوَ صَاحِب كُلّ عَذَاب أَوْ قِتَال أَوْ خَسْف , وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ وَلِيّه مِيكَائِيل إذًا لَآمَنَّا بِهِ , فَإِنَّ مِيكَائِيل صَاحِب كُلّ رَحْمَة وَكُلّ غَيْث . فَقَالَ لَهُمْ عُمَر : فَأُنْشِدكُمْ بِالرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى بِطُورِ سَيْنَاء , أَيْنَ مَكَان جِبْرِيل مِنْ اللَّه ؟ قَالُوا : جِبْرِيل عَنْ يَمِينه , وَمِيكَائِيلَ عَنْ يَسَاره . قَالَ عُمَر : فَأُشْهِدكُمْ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَدُوّ لِلَّذِي عَنْ يَمِينه عَدُوّ لِلَّذِي هُوَ عَنْ يَسَاره , وَاَلَّذِي هُوَ عَدُوّ لِلَّذِي هُوَ عَنْ يَسَاره عَدُوّ لِلَّذِي هُوَ عَنْ يَمِينه , وَأَنَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوّهُمَا فَإِنَّهُ عَدُوّ اللَّه . ثُمَّ رَجَعَ عُمَر لَيُخْبِر النَّبِيّ , فَوَجَدَ جِبْرِيل قَدْ سَبَقَهُ بِالْوَحْيِ , فَدَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ , فَقَالَ عُمَر : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ , لَقَدْ جِئْتُك وَمَا أُرِيد إلَّا أَنْ أُخْبِرك . 1337 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج الرَّازِّي , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَغْرَاء , قَالَ : ثنا زُهَيْر , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ الشَّعْبِيّ , قَالَ : انْطَلَقَ عُمَر إلَى يَهُود , فَقَالَ : إنِّي أَنْشُدكُمْ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى هَلْ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كِتَابكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : فَمَا يَمْنَعكُمْ أَنْ تَتَّبِعُوهُ ؟ قَالُوا : إنَّ اللَّه لَمْ يَبْعَث رَسُولًا إلَّا كَانَ لَهُ كِفْل مِنْ الْمَلَائِكَة , وَإِنَّ جِبْرِيل هُوَ الَّذِي يَتَكَفَّل لِمُحَمَّدِ , وَهُوَ عَدُوّنَا مِنْ الْمَلَائِكَة , وَمِيكَائِيلَ سِلْمنَا ; فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَأْتِيه اتَّبَعْنَاهُ . قَالَ : فَإِنِّي أَنْشُدكُمْ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى , مَا مَنْزِلَتهمَا مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالُوا : جِبْرِيل عَنْ يَمِينه , وَمِيكَائِيلَ عَنْ جَانِبه الْآخَر . فَقَالَ : إنِّي أَشْهَد مَا يَقُولَانِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّه , وَمَا كَانَ لِمِيكَائِيل أَنْ يُعَادِي سِلْم جِبْرِيل , وَمَا كَانَ جِبْرِيل لِيُسَالَم عَدُوّ مِيكَائِيل . فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدهمْ إذْ مَرَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا : هَذَا صَاحِبك يَا ابْن الْخَطَّاب . فَقَامَ إلَيْهِ فَأَتَاهُ وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه } إلَى قَوْله : { فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ } . 1338 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا حُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى فِي قَوْله : { فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ } قَالَ : قَالَتْ الْيَهُود لِلْمُسْلِمِينَ : لَوْ أَنَّ مِيكَائِيل كَانَ الَّذِي يَنْزِل عَلَيْكُمْ لَاتَّبَعْنَاكُمْ , فَإِنَّهُ يَنْزِل بِالرَّحْمَةِ وَالْغَيْث , وَإِنَّ جِبْرِيل يَنْزِل بِالْعَذَابِ وَالنِّقْمَة وَهُوَ لَنَا عَدُوّ . قَالَ : فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل } . 1339 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب , قَالَ : ثنا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الْمَلِك , عَنْ عَطَاء بِنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا تَأْوِيل الْآيَة , أَعْنِي قَوْله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه } فَهُوَ أَنَّ اللَّه يَقُول لِنَبِيِّهِ : قُلْ يَا مُحَمَّد - لِمَعَاشِر الْيَهُود مِنْ بَنِي إسْرَائِيل الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيل لَهُمْ عَدُوّ مِنْ أَجْل أَنَّهُ صَاحِب سَطَوَات وَعَذَاب وَعُقُوبَات لَا صَاحِب وَحْي وَتَنْزِيل وَرَحْمَة , فَأَبَوْا اتِّبَاعك وَجَحَدُوا نُبُوَّتك , وَأَنْكَرُوا مَا جِئْتهمْ بِهِ مِنْ آيَاتِي وَبَيِّنَات حُكْمِي مِنْ أَجْل أَنَّ جِبْرِيل وَلِيّك وَصَاحِب وَحْيِي إلَيْك , وَزَعَمُوا أَنَّهُ عَدُوّ لَهُمْ - : مَنْ يَكُنْ مِنْ النَّاس لِجِبْرِيل عَدُوًّا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُون صَاحِب وَحْي اللَّه إلَى أَنْبِيَائِهِ وَصَاحِب رَحْمَته فَإِنِّي لَهُ وَلِيّ وَخَلِيل , وَمُقِرّ بِأَنَّهُ صَاحِب وَحْي إلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُله , وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْزِل وَحْي اللَّه عَلَى قَلْبِي مِنْ عِنْد رَبِّي بِإِذْنِ رَبِّي لَهُ بِذَلِك يَرْبِط بِهِ عَلَى قَلْبِي وَيَشُدّ فُؤَادِي . كَمَا : 1340 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ ثنا بِشْر بْن عِمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل } قَالَ : وَذَلِك أَنَّ الْيَهُود قَالَتْ حِين سَأَلَتْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاء كَثِيرَة , فَأَخْبَرَهُمْ بِهَا عَلَى مَا هِيَ عِنْدهمْ إلَّا جِبْرِيل , فَإِنَّ جِبْرِيل كَانَ عِنْد الْيَهُود صَاحِب عَذَاب وَسَطْوَة , وَلَمْ يَكُنْ عِنْدهمْ صَاحِب وَحْي - يَعْنِي تَنْزِيل مِنْ اللَّه عَلَى رُسُله - وَلَا صَاحِب رَحْمَة - فَأَخْبَرَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ أَنَّ جِبْرِيل صَاحِب وَحْي اللَّه , وَصَاحِب نِقْمَته . وَصَاحِب رَحْمَته . فَقَالُوا : لَيْسَ بِصَاحِبِ وَحْي وَلَا رَحْمَة هُوَ لَنَا عَدُوّ . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ إكْذَابًا لَهُمْ : { قُلْ } يَا مُحَمَّد { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك } يَقُول : فَإِنَّ جِبْرِيل نَزَّلَهُ . يَقُول : نَزَلَ الْقُرْآن بِأَمْرِ اللَّه يَشُدّ بَهْ فُؤَادك وَيَرْبِط بِهِ عَلَى قَلْبك , يَعْنِي بِوَحْيِنَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْك مِنْ عِنْد اللَّه , وَكَذَلِك يَفْعَل بِالْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلك . 1341 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه } يَقُول : أُنْزِلَ الْكِتَاب عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه . 1342 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك } يَقُول : نَزَّلَ الْكِتَاب عَلَى قَلْبك جِبْرِيل . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَإِنَّمَا قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك } وَهُوَ يَعْنِي بِذَلِك قَلْب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ أَمَرَ مُحَمَّدًا فِي أَوَّل الْآيَة أَنْ يُخْبِر الْيَهُود بِذَلِك عَنْ نَفْسه , وَلَمْ يَقُلْ : فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِي . وَلَوْ قِيلَ " عَلَى قَلْبِي " كَانَ صَوَابًا مِنْ الْقَوْل ; لِأَنَّ مِنْ شَأْن الْعَرَب إذَا أَمَرَتْ رَجُلًا أَنْ يَحْكِي مَا قِيلَ لَهُ عَنْ نَفْسه أَنْ تُخْرِج فِعْل الْمَأْمُور مَرَّة مُضَافًا إلَى كِنَايَة نَفْس الْمُخْبِر عَنْ نَفْسه , إذْ كَانَ الْمُخْبِر عَنْ نَفْسه وَمَرَّة مُضَافًا إلَى اسْمه كَهَيْئَةِ كِنَايَة اسْم الْمُخَاطَب لِأَنَّهُ بِهِ مُخَاطَب ; فَتَقُول فِي نَظِير ذَلِكَ : " قُلْ لِلْقَوْمِ إنَّ الْخَيْر عِنْدِي كَثِير " فَتَخْرَج كِنَايَة اسْم الْمُخْبِر عَنْ نَفْسه لِأَنَّهُ الْمَأْمُور أَنْ يُخْبِر بِذَلِك عَنْ نَفْسه . و " قُلْ لِلْقَوْمِ : إنَّ الْخَيْر عِنْدك كَثِير " فَتَخْرُج كِنَايَة اسْمه كَهَيْئَةِ كِنَايَة اسْم الْمُخَاطَب ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِقَيْلِ ذَلِكَ فَهُوَ مُخَاطَب مَأْمُور بِحِكَايَةِ مَا قِيلَ لَهُ . وَكَذَلِك : " لَا تَقُلْ لِلْقَوْمِ : إنِّي قَائِم " و " لَا تَقُلْ لَهُمْ إنَّك قَائِم " , وَالْيَاء مِنْ إنِّي اسْم الْمَأْمُور يَقُول ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ } و { تُغْلَبُونَ } 3 12 بِالْيَاءِ وَالتَّاء . وَأَمَّا جِبْرِيل , فَإِنَّ لِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَات . فَأَمَّا أَهْل الْحِجَاز فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ جِبْرِيل وَمِيكَال بِغَيْرِ هَمْز بِكَسْرِ الْجِيم وَالرَّاء مِنْ جِبْرِيل وَبِالتَّخْفِيفِ ; وَعَلَى الْقِرَاءَة بِذَلِك عَامَّة قُرَّاء أَهْل الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة . أَمَّا تَمِيم وَقَيْس وَبَعْض نَجْد فَيَقُولُونَ جبرئيل وَمِيكَائِيلَ , عَلَى مِثَال جبرعيل وميكاعيل بِفَتْحِ الْجِيم وَالرَّاء وَبِهَمْزِ وَزِيَادَة يَاء بَعْد الْهَمْزَة . وَعَلَى الْقِرَاءَة بِذَلِك عَامَّة قُرَّاء أَهْل الْكُوفَة , كَمَا قَالَ جَرِير بْن عَطِيَّة : عَبَدُوا الصَّلِيب وَكَذَبُوا بِمُحَمَّدِ وَبِجِبْرِيل وَكَذَّبُوا ميكالا وَقَدْ ذَكَر عَنْ الْحَسَن الْبَصَرِيّ وَعَبْد اللَّه بْن كَثِير أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِ : " جِبْرِيل " بِفَتْحِ الْجِيم . وَتَرْك الْهَمْز . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهِيَ قِرَاءَة غَيْر جَائِزَة الْقِرَاءَة بِهَا , لِأَنَّ " فَعِيل " فِي كَلَام الْعَرَب غَيْر مَوْجُود . وَقَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ بَعْضهمْ , وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْم أَعْجَمِيّ كَمَا يُقَال : سمويل , وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ : بِحَيْثُ لَوْ وُزِنَتْ لَخْم بِأَجْمَعِهَا مَا وَازَنَتْ رِيشَة مِنْ رِيش سمويلا وَأَمَّا بَنُو أَسَد فَإِنَّهَا تَقُول " جبرين " بِالنُّونِ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْض الْعَرَب أَنَّهَا تَزِيد فِي جِبْرِيل أَلِفًا فَتَقُول : جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيلَ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمُر أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ " جبرئل " بِفَتْحِ الْجِيم وَالْهَمْز وَتَرْك الْمَدّ وَتَشْدِيد اللَّام , فَأَمَّا " جَبْر " و " ميك " فَإِنَّهُمَا هُمَا الِاسْمَانِ اللَّذَانِ أَحَدهمَا بِمَعْنَى عَبْد وَالْآخَر بِمَعْنَى عَبِيد , وَأَمَّا " إِيل " فَهُوَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره . كَمَا : 1343 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا جَرِير بْن نُوح الْحَمَّانِي , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ الْمِنْهَال , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : جِبْرِيل وَمِيكَائِيلَ كَقَوْلِك عَبْد اللَّه . 1344 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن بْن وَاقِد , عَنْ يَزِيد النَّحْوِيّ , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : جِبْرِيل : عَبْد اللَّه , وَمِيكَائِيلَ : عُبَيْد اللَّه , وَكُلّ اسْم إِيل فَهُوَ اللَّه . 1345 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا جَرِير , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ إسْمَاعِيل بْن رَجَاء , عَنْ عُمَيْر مَوْلَى ابْن عَبَّاس : أَنَّ إسْرَائِيل وَمِيكَائِيلَ وَجِبْرِيل وَإِسْرَافِيل , كَقَوْلِك عَبْد اللَّه . 1346 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا جَرِير , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ الْمِنْهَال بْن عَمْرو , عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث , قَالَ : " إِيل " اللَّه بالعبرانية . 1347 - حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن يَزِيد الضَّحَّاك , قَالَ : ثنا إسْحَاق بْن مَنْصُور , قَالَ : ثنا قَيْس , عَنْ عَاصِم , عَنْ عِكْرِمَة , قَالَ : جِبْرِيل اسْمه عَبْد اللَّه , وَمِيكَائِيلَ اسْمه عُبَيْد اللَّه , إِيل : اللَّه . 1348 - حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَمْرو بْن مُحَمَّد العنقزي , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَطَاء , عَنْ عَلِيّ بْن حُسَيْن , قَالَ : اسْم جِبْرِيل عَبْد اللَّه , وَاسْم مِيكَائِيل عُبَيْد اللَّه , وَاسْم إسْرَافِيل عَبْد الرَّحْمَن ; وَكُلّ مُعَبَّد بِإِيل فَهُوَ عَبْد اللَّه . 1349 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا قَبِيصَة بْن عُقْبَة , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ مُحَمَّد الْمَدَنِيّ - قَالَ الْمُثَنَّى , قَالَ قَبِيصَة : أُرَاهُ مُحَمَّد بْن إسْحَاق - عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَطَاء , عَنْ عَلِيّ بْن حُسَيْن , قَالَ : مَا تَعُدُّونَ جِبْرِيل فِي أَسْمَائِكُمْ ؟ قَالَ : جِبْرِيل عَبْد اللَّه , وَمِيكَائِيلَ عُبَيْد اللَّه , وَكُلّ اسْم فِيهِ إِيل فَهُوَ مُعَبَّد لِلَّهِ . 1350 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن عَطَاء , عَنْ عَلِيّ بْن حُسَيْن , قَالَ : قَالَ لِي : هَلْ تَدْرِي مَا اسْم جِبْرِيل مِنْ أَسْمَائِكُمْ ؟ قُلْت : لَا , قَالَ : عَبْد اللَّه , قَالَ : فَهَلْ تَدْرِي مَا اسْم مِيكَائِيل مِنْ أَسْمَائِكُمْ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : عُبَيْد اللَّه . وَقَدْ سَمَّى لِي إسْرَائِيل بِاسْمِ نَحْو ذَلِكَ فَنَسِيته , إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ لِي : أَرَأَيْت كُلّ اسْم يَرْجِع إلَى إِيل فَهُوَ مُعَبَّد بِهِ . * - حَدَّثَنَا ابْن وَكِيع , قَالَ : ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَان , عَنْ خَصِيف , عَنْ عِكْرِمَة فِي قَوْله : { جِبْرِيل } قَالَ : جَبْر : عَبْد , إِيل : اللَّه , وميكا قَالَ : عَبْد , إِيل : اللَّه . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَهَذَا تَأْوِيل مَنْ قَرَأَ جَبْرَائِيلَ بِالْفَتْحِ وَالْهَمْز وَالْمَدّ , وَهُوَ إنْ شَاءَ اللَّه مَعْنَى مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَتَرْك الْهَمْز . وَأَمَّا تَأْوِيل مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْهَمْزِ وَتَرْك الْمُدّ وَتَشْدِيد اللَّام , فَإِنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ كَذَلِك إلَى إضَافَة " جَبْر " و " ميكا " إلَى اسْم اللَّه الَّذِي يُسَمَّى بَهْ بِلِسَانِ الْعَرَب دُون السُّرْيَانِيّ وَالْعِبْرَانِيّ ; وَذَلِك أَنَّ الْإِلّ بِلِسَانِ الْعَرَب اللَّه كَمَا قَالَ : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِن إلًّا وَلَا ذِمَّة } 9 10 فَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : الْإِلّ : هُوَ اللَّه . وَمِنْهُ قَوْل أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِوَفْدِ بَنِي حَنِيفَة حَيْن سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ مُسَيْلِمَة يَقُول , فَأَخْبَرُوهُ , فَقَالَ لَهُمْ : وَيْحكُمْ أَيْنَ ذَهَبَ بِكُمْ وَاَللَّه , إنَّ هَذَا الْكَلَام مَا خَرَجَ مِنْ إلّ وَلَا بَرّ . يَعْنِي مِنْ إلّ : مِنْ اللَّه . وَقَدْ : 1351 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا ابْن عُلَيَّة , عَنْ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ , عَنْ أَبِي مِجْلَز فِي قَوْله : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِن إلًّا وَلَا ذِمَّة } 9 10 قَالَ : قَوْل جِبْرِيل وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيل , كَأَنَّهُ يَقُول حِين يُضِيف " جَبْر " و " ميكا " و " إسرا " إلَى " إِيل " يَقُول : عَبْد اللَّه , { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِن إلًّا } 9 10 كَأَنَّهُ يَقُول : لَا يَرْقُبُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ } الْقُرْآن . وَنُصِبَ مُصَدِّقًا عَلَى الْقَطْع مِنْ الْهَاء الَّتِي فِي قَوْله : { نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك } . فَمَعْنَى الْكَلَام : فَإِنَّ جِبْرِيل نَزَّلَ الْقُرْآن عَلَى قَلْبك يَا مُحَمَّد مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْ الْقُرْآن , يَعْنِي بِذَلِك مُصَدِّقًا لِمَا سَلَف مِنْ كُتُب اللَّه أَمَامه , وَنَزَلَتْ عَلَى رُسُله الَّذِينَ كَانُوا قَبْل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقه إيَّاهَا مُوَافَقَة مَعَانِيه مَعَانِيهَا فِي الْأَمْر بِاتِّبَاعِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , وَهِيَ تُصَدِّقهُ . كَمَا : 1352 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عِمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس . { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ } يَقُول : لِمَا قَبْله مِنْ الْكُتُب الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّه وَالْآيَات وَالرُّسُل الَّذِينَ بَعَثَهُمْ اللَّه بِالْآيَاتِ نَحْو مُوسَى وَنُوح وَهُود وَشُعَيْب وَصَالِح وَأَشْبَاههمْ مِنْ الرُّسُل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمْ . 1353 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل } . 1354 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , مِثْله .


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَهُدَى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَهُدَى } وَدَلِيل وَبُرْهَان . وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ " هُدَى " لِاهْتِدَاءِ الْمُؤْمِن بِهِ , وَاهْتِدَاؤُهُ بِهِ اتِّخَاذه إيَّاهُ هَادِيًا يَتْبَعهُ وَقَائِدًا يَنْقَاد لِأَمْرِهِ وَنَهْيه وَحَلَاله وَحَرَامه . وَالْهَادِي مِنْ كُلّ شَيْء مَا تَقَدَّمَ أَمَامه , وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِأَوَائِل الْخَيْل : هَوَادِيهَا , وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ أَمَامهَا , وَكَذَلِك قِيلَ لِلْعُنُقِ : الْهَادِي , لِتَقَدُّمِهَا أَمَام سَائِر الْجَسَد . وَأَمَّا الْبُشْرَى فَإِنَّهَا الْبِشَارَة . أَخْبَرَ اللَّه عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْقُرْآن لَهُمْ بُشْرَى مِنْهُ ; لِأَنَّهُ أَعْلَمهُمْ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنْ الْكَرَامَة عِنْده فِي جَنَّاته , وَمَا هُمْ إلَيْهِ صَائِرُونَ فِي مُعَادهمْ مِنْ ثَوَابه . وَذَلِك هُوَ الْبُشْرَى الَّتِي بَشَّرَ اللَّه بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابه ; لِأَنَّ الْبِشَارَة فِي كَلَام الْعَرَب هِيَ إعْلَام الرَّجُل بِمَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَالِمًا مِمَّا يَسُرّهُ مِنْ الْخَيْر قَبْل أَنْ يَسْمَعهُ مِنْ غَيْره أَوْ يَعْلَمهُ مِنْ قَبْل غَيْره . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ قَتَادَة قَوْل قَرِيب الْمَعْنَى مِمَّا قُلْنَاهُ . 1355 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { هُدَى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } لِأَنَّ الْمُؤْمِن إذَا سَمِعَ الْقُرْآن حَفِظَهُ وَرَعَاهُ وَانْتَفَعَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إلَيْهِ وَصَدَّقَ بِمَوْعُودِ اللَّه الَّذِي وَعَدَ فِيهِ , وَكَانَ عَلَى يَقِين مِنْ ذَلِكَ .
مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 98
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وَمِيكَال فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ } وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ } مَنْ عَادَاهُ وَعَادَى جَمِيع مَلَائِكَته وَرُسُله , وَإِعْلَام مِنْهُ أَنَّ مَنْ عَادَى جِبْرِيل فَقَدْ عَادَاهُ وَعَادَى مِيكَائِيل وَعَادَى جَمِيع مَلَائِكَته وَرُسُله ; لِأَنَّ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَة هُمْ أَوْلِيَاء اللَّه وَأَهْل طَاعَته , وَمَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا فَقَدْ عَادَى اللَّه وَبَارَزَهُ بِالْمُحَارَبَةِ , وَمَنْ عَادَى اللَّه فَقَدْ عَادَى جَمِيع أَهْل طَاعَته وَوِلَايَته ; لِأَنَّ الْعَدُوّ لِلَّهِ عَدُوّ لِأَوْلِيَائِهِ , وَالْعَدُوّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّه عَدُوّ لَهُ . فَكَذَلِك قَالَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ جِبْرِيل عَدُوّنَا مِنْ الْمَلَائِكَة , وَمِيكَائِيلَ وَلِيّنَا مِنْهُمْ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وَمِيكَال فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ } مِنْ أَجْل أَنَّ عَدُوّ جِبْرِيل عَدُوّ كُلّ وَلِيّ لِلَّهِ . فَأَخْبَرَهُمْ جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل فَهُوَ لِكُلِّ مَنْ ذَكَره مِنْ مَلَائِكَته وَرُسُله وَمِيكَال عَدُوّ , وَكَذَلِك عَدُوّ بَعْض رُسُل اللَّه عَدُوّ لِلَّهِ وَلِكُلِّ وَلِيّ . وَقَدْ : 1356 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ : ثنا عُبَيْد اللَّه - يَعْنِي الْعَتَكِيّ - عَنْ رَجُل مِنْ قُرَيْش , قَالَ : سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُود فَقَالَ : " أَسْأَلكُمْ بِكِتَابِكُمْ الَّذِي تَقْرَءُونَ هَلْ تَجِدُونَ بِهِ قَدْ بَشَّرَ عِيسَى ابْن مَرْيَم أَنْ يَأْتِيكُمْ رَسُول اسْمه أَحْمَد ؟ " فَقَالُوا : اللَّهُمَّ وَجَدْنَاك فِي كِتَابنَا وَلَكِنَّا كَرِهْنَاك لِأَنَّك تَسْتَحِلّ الْأَمْوَال وَتَهْرِيق الدِّمَاء ! فَأَنْزَلَ اللَّه : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَته } الْآيَة . 1357 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ حُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى , قَالَ : إنَّ يَهُودِيًّا لَقِيَ عُمَر فَقَالَ لَهُ إنَّ جِبْرِيل الَّذِي يَذْكُرهُ صَاحِبك هُوَ عَدُوّ لَنَا . فَقَالَ لَهُ عُمَر : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وَمِيكَال فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ } قَالَ : فَنَزَلَتْ عَلَى لِسَان عُمَر . وَهَذَا الْخَبَر يَدُلّ عَلَى أَنَّ اللَّه أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَة تَوْبِيخًا لِلْيَهُودِ فِي كُفْرهمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِخْبَارًا مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِمُحَمَّدِ فَاَللَّه لَهُ عَدُوّ , وَأَنَّ عَدُوّ مُحَمَّد مِنْ النَّاس كُلّهمْ لَمِنْ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ الْجَاحِدِينَ آيَاته . فَإِنْ قَالَ قَائِل : أَوَ لَيْسَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل مِنْ الْمَلَائِكَة ؟ قِيلَ : بَلَى . فَإِنْ قَالَ : فَمَا مَعْنَى تَكْرِير ذِكْرهمَا بِأَسْمَائِهِمَا , وَقَدْ مَضَى ذِكْرهمَا فِي الْآيَة فِي جُمْلَة أَسْمَاء الْمَلَائِكَة ؟ قِيلَ : مَعْنَى إفْرَاد ذِكْرهمَا بِأَسْمَائِهِمَا أَنَّ الْيَهُود لَمَّا قَالَتْ : جِبْرِيل عَدُوّنَا وَمِيكَائِيل وَلِيّنَا , وَزَعَمَتْ أَنَّهَا كَفَرَتْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْل أَنَّ جِبْرِيل صَاحِب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَعْلَمهُمْ اللَّه أَنَّ مَنْ كَانَ لِجِبْرِيل عَدُوًّا , فَإِنَّ اللَّه لَهُ عَدُوّ , وَأَنَّهُ مِنْ الْكَافِرِينَ . فَنَصَّ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ , وَعَلَى مِيكَائِيل بِاسْمِهِ , لِئَلَّا يَقُول مِنْهُمْ قَائِل : إنَّمَا قَالَ اللَّه مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَته وَرُسُله , وَلَسْنَا لِلَّهِ وَلَا لِمَلَائِكَتِهِ وَرُسُله أَعْدَاء , لِأَنَّ الْمَلَائِكَة اسْم عَامّ مُحْتَمِل خَاصًّا وَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل غَيْر دَاخِلَيْنِ فِيهِ . وَكَذَلِك قَوْله : { وَرُسُله } فَلَسْت يَا مُحَمَّد دَاخِلًا فِيهِمْ . فَنَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَسْمَاء مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ بِأَعْيَانِهِمْ لِيَقْطَع بِذَلِك تَلْبِيسهمْ عَلَى أَهْل الضَّعْف مِنْهُمْ , وَيَحْسِم تَمْوِيههمْ أُمُورهمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ . وَأَمَّا إظْهَار اسْم اللَّه فِي قَوْله : { فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ } وَتَكْرِيره فِيهِ . وَقَدْ ابْتَدَأَ أَوَّل الْخَبَر بِذِكْرِهِ فَقَالَ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَته } فَلِئَلَّا يَلْتَبِس - لَوْ ظَهَرَ ذَلِكَ بِكِنَايَةِ , فَقِيلَ : فَإِنَّهُ عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ - عَلَى سَامِعه مِنْ الْمَعْنِيّ بِالْهَاءِ الَّتِي فِي " فَإِنَّهُ " آللَّه أَمْ رُسُل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ , أَمْ جِبْرِيل , أَمْ مِيكَائِيل ؟ إذْ لَوْ جَاءَ ذَلِكَ بِكِنَايَةِ عَلَى مَا وَصَفْت . فَإِنَّهُ يَلْتَبِس مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يُوقَف عَلَى الْمَعْنَى بِذَلِك لِاحْتِمَالِ الْكَلَام مَا وَصَفْت . وَقَدْ كَانَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة يُوَجِّه ذَلِكَ إلَى نَحْو قَوْل الشَّاعِر : لَيْتَ الْغُرَاب غَدَاة يَنْعَب دَائِبًا كَانَ الْغُرَاب مُقَطَّع الْأَوْدَاج وَأَنَّهُ إظْهَار الِاسْم الَّذِي حَظّه الْكِنَايَة عَنْهُ . وَالْأَمْر فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَالَ ; وَذَلِك أَنَّ الْغُرَاب الثَّانِي لَوْ كَانَ مَكْنِيًّا عَنْهُ لَمَا الْتَبَسَ عَلَى أَحَد يَعْقِل كَلَام الْعَرَب أَنَّهُ كِنَايَة اسْم الْغُرَاب الْأَوَّل , إذْ كَانَ لَا شَيْء قَبْله يَحْتَمِل الْكَلَام أَنْ يُوَجَّه إلَيْهِ غَيْر كِنَايَة اسْم الْغُرَاب الْأَوَّل ; وَأَنَّ قَبْل قَوْله : { فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ } أَسْمَاء لَوْ جَاءَ اسْم اللَّه تَعَالَى ذِكْره مَكْنِيًّا عَنْهُ لَمْ يَعْلَم مِنْ الْمَقْصُود إلَيْهِ بِكِنَايَةِ الِاسْم إلَّا بِتَوْقِيفِ مِنْ حُجَّة , فَلِذَلِك اخْتَلَفَ أَمْرَاهُمَا .
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَسورة البقرة الآية رقم 99
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْك آيَات بَيِّنَات } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْك آيَات } أَيْ أَنْزَلْنَا إلَيْك يَا مُحَمَّد عَلَامَات وَاضِحَات دَالَّات عَلَى نُبُوَّتك . وَتِلْكَ الْآيَات هِيَ مَا حَوَاهُ كِتَاب اللَّه الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَفَايَا عُلُوم الْيَهُود وَمَكْنُون سَرَائِر أَخْبَارهمْ وَأَخْبَار أَوَائِلهمْ مِنْ بَنِي إسْرَائِيل , وَالنَّبَأ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبهمْ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمهَا إلَّا أَحْبَارهمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ , وَمَا حَرَّفَهُ أَوَائِلهمْ وَأَوَاخِرهمْ وَبَذَلُوهُ مِنْ أَحْكَامهمْ , الَّتِي كَانَتْ فِي التَّوْرَاة , فَأَطْلَعَهَا اللَّه فِي كِتَابه الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْره الْآيَات الْبَيِّنَات لِمَنْ أَنْصَفَ نَفْسه وَلَمْ يَدْعُهُ إلَى إهْلَاكهَا الْحَسَد وَالْبَغْي , إذْ كَانَ فِي فِطْرَة كُلّ ذِي فِطْرَة صَحِيحَة تَصْدِيق مَنْ أَتَى بِمِثْلِ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْآيَات الْبَيِّنَات الَّتِي وُصِفَتْ مِنْ غَيْر تَعَلُّم تَعَلَّمَهُ مِنْ بَشَر وَلَا أُخِذَ شَيْء مِنْهُ عَنْ آدَمِيّ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَر عَنْ ابْن عَبَّاس . 1358 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عِمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْك آيَات بَيِّنَات } يَقُول : فَأَنْت تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَتُخْبِرهُمْ بِهِ غَدْوَة وَعَشِيَّة وَبَيْن ذَلِكَ , وَأَنْت عِنْدهمْ أُمِّيّ لَمْ تَقْرَأ كِتَابًا , وَأَنْت تُخْبِرهُمْ بِمَا فِي أَيْدِيهمْ عَلَى وَجْهه . يَقُول اللَّه : فَفِي ذَلِكَ لَهُمْ عِبْرَة وَبَيَان وَعَلَيْهِمْ حُجَّة لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . 1359 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثنا ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة مَوْلَى ابْن عَبَّاس , وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : قَالَ ابْن صُورِيَّا الفطيوني لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّد مَا جِئْتنَا بِشَيْءِ نَعْرِفهُ , وَمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك مِنْ آيَة بَيِّنَة فَنَتَّبِعك بِهَا ! فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْك آيَات بَيِّنَات وَمَا يَكْفُر بِهَا إلَّا الْفَاسِقُونَ } . * - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا يُونُس بْن بُكَيْر , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ ابْن صُورِيَّا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَذَكَر مِثْله .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَكْفُر بِهَا إلَّا الْفَاسِقُونَ } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا يَكْفُر بِهَا إلَّا الْفَاسِقُونَ } وَمَا يَجْحَد بِهَا . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْكُفْر الْجُحُود بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته هَاهُنَا . وَكَذَلِك بَيَّنَّا مَعْنَى الْفِسْق وَأَنَّهُ الْخُرُوج عَنْ الشَّيْء إلَى غَيْره . فَتَأْوِيل الْآيَة : وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْك فِيمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك مِنْ الْكِتَاب عَلَامَات وَاضِحَات تُبَيِّن لِعُلَمَاء بَنِي إسْرَائِيل وَأَحْبَارهمْ الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتك وَالْمُكَذِّبِينَ رِسَالَتك أَنَّك لِي رَسُول إلَيْهِمْ وَنَبِيّ مَبْعُوث , وَمَا يَجْحَد تَلِك الْآيَات الدَّالَّات عَلَى صِدْقك وَنُبُوَّتك الَّتِي أَنْزَلْتهَا إلَيْك فِي كِتَابِي فَيُكَذِّب بِهَا مِنْهُمْ , إلَّا الْخَارِج مِنْهُمْ مِنْ دِينه , التَّارِك مِنْهُمْ فَرَائِضِي عَلَيْهِ فِي الْكِتَاب الَّذِي تَدِين بِتَصْدِيقِهِ . فَأَمَّا الْمُتَمَسِّك مِنْهُمْ بِدِينِهِ وَالْمُتَّبِع مِنْهُمْ حُكْم كِتَابه , فَإِنَّهُ بِاَلَّذِي أَنْزَلْت إلَيْك مِنْ آيَاتِي مُصَدِّق . وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا آمَنُوا بِاَللَّهِ وَصَدَّقُوا رَسُوله مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُود بَنِي إسْرَائِيل .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَسورة البقرة الآية رقم 100
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا } اخْتَلَفَ أَهْل الْعَرَبِيَّة فِي حُكْم " الْوَاو " الَّتِي فِي قَوْله : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا } فَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرِيِّينَ : هِيَ وَاو تُجْعَل مَعَ حُرُوف الِاسْتِفْهَام , وَهِيَ مِثْل " الْفَاء " فِي قَوْله : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُول بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ } 2 87 قَالَ : وَهُمَا زَائِدَتَانِ فِي هَذَا الْوَجْه , وَهِيَ مِثْل " الْفَاء " الَّتِي فِي قَوْله : فَاَللَّه لَتَصْنَعَن كَذَا وَكَذَا , وَكَقَوْلِك لِلرَّجُلِ : أَفَلَا تَقُوم ; وَإِنْ شِئْت جَعَلْت الْفَاء وَالْوَاو هَهُنَا حَرْف عَطْف . وَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ : هِيَ حَرْف عَطْف أُدْخِل عَلَيْهَا حَرْف الِاسْتِفْهَام . وَالصَّوَاب فِي ذَلِكَ عِنْدِي مِنْ الْقَوْلَة أَنَّهَا وَاو عَطْف أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا أَلِف الِاسْتِفْهَام , كَأَنَّهُ قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقكُمْ الطُّور خُذُوا مَا أَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةِ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } 2 93 { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيق مِنْهُمْ } ثُمَّ أَدْخَلَ أَلِف الِاسْتِفْهَام عَلَى " وَكُلَّمَا " , فَقَالَ : { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيق مِنْهُمْ } وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّهُ غَيْر جَائِز أَنْ يَكُون فِي كِتَاب اللَّه حَرْف لَا مَعْنَى لَهُ , فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَة الْبَيَان عَلَى فَسَاد قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوَاو وَالْفَاء مِنْ قَوْله , { أَوَ كُلَّمَا } و { أَفَكُلَّمَا } زَائِدَتَانِ لَا مَعْنَى لَهُمَا . وَأَمَّا الْعَهْد : فَإِنَّهُ الْمِيثَاق الَّذِي أَعْطَتْهُ بَنُو إسْرَائِيل رَبّهمْ لِيَعْمَلُنَّ بِهَا فِي التَّوْرَاة مَرَّة بَعْد أُخْرَى , ثُمَّ نَقَضَ بَعْضهمْ ذَلِكَ مَرَّة بَعْد أُخْرَى . فَوَبَّخَهُمْ جَلّ ذِكْره بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَعَيَّرَ بِهِ أَبْنَاءَهُمْ إذْ سَلَكُوا مِنْهَاجهمْ فِي بَعْض مَا كَانَ جَلّ ذِكْره أَخَذَ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ مِنْ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَهْد وَالْمِيثَاق فَكَفَرُوا وَجَحَدُوا مَا فِي التَّوْرَاة مِنْ نَعْته وَصِفَته , فَقَالَ تَعَالَى ذِكْره : أَوَ كُلَّمَا عَاهَدَ الْعُهُود مِنْ بَنِي إسْرَائِيل رَبّهمْ عَهْدًا وَأَوْثَقُوهُ . مِيثَاقًا نَبَذَهُ فَرِيق مِنْهُمْ فَتَرَكَهُ وَنَقَضَهُ ؟ كَمَا : 1360 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ ثنا يُونُس بْن بُكَيْر . قَالَ : ثنا ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : قَالَ مَالِك بْن الصَّيْف حِين بُعِثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَر مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاق وَمَا عَهِدَ اللَّه إلَيْهِمْ فِيهِ : وَاَللَّه مَا عَهِدَ إلَيْنَا فِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَخَذَ لَهُ عَلَيْنَا مِيثَاقًا ! فَأَنْزَلَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيق مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرهمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . * - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ , حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى آل زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة مَوْلَى ابْن عَبَّاس , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس مِثْله .

قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَمَّا النَّبْذ فَإِنَّ أَصْله فِي كَلَام الْعَرَب الطَّرْح , وَلِذَلِك قِيلَ لِلْمَلْقُوطِ الْمَنْبُوذ لِأَنَّهُ مَطْرُوح مَرْمِيّ بِهِ , وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّبِيذ نَبِيذًا , لِأَنَّهُ زَبِيب أَوْ تَمْر يُطْرَح فِي وِعَاء ثُمَّ يُعَالَج بِالْمَاءِ . وَأَصْله مَفْعُول صُرِفَ إلَى فَعِيل , أَعْنِي أَنَّ النَّبِيذ أَصْله مَنْبُوذ ثُمَّ صُرِفَ إلَى فَعِيل , فَقِيلَ نَبِيذ كَمَا قِيلَ كَفّ خَضِيب وَلِحْيَة دَهِين , يَعْنِي مَخْضُوبَة وَمَدْهُونَة ; يُقَال مِنْهُ : نَبَذْته أَنْبِذهُ نَبْذًا , كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَد الدُّؤَلِيّ : نَظَرْت إلَى عِنْوَانه فَنَبَذْته كَنَبْذِك نَعْلًا أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا فَمَعْنَى قَوْله جَلّ ذِكْره : { نَبَذَهُ فَرِيق مِنْهُمْ } طَرَحَهُ فَرِيق مِنْهُمْ فَتَرَكَهُ وَرَفَضَهُ وَنَقَضَهُ . كَمَا : 1361 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { نَبَذَهُ فَرِيق مِنْهُمْ } يَقُول : نَقَضَهُ فَرِيق مِنْهُمْ . 1362 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قَوْله : { نَبَذَهُ فَرِيق مِنْهُمْ } قَالَ : لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْض عَهْد يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ إلَّا نَقَضُوهُ , وَيُعَاهِدُونَ الْيَوْم وَيَنْقُضُونَ غَدًا . قَالَ : وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه : { نَقَضَهُ فَرِيق مِنْهُمْ } . وَالْهَاء الَّتِي فِي قَوْله : { نَبَذَهُ } مِنْ ذِكْر الْعَهْد , فَمَعْنَاهُ : أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَ ذَلِكَ الْعَهْد فَرِيق مِنْهُمْ . وَالْفَرِيق الْجَمَاعَة لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه بِمَنْزِلَةِ الْجَيْش وَالرَّهْط الَّذِي لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه . وَالْهَاء وَالْمِيم اللَّتَانِ فِي قَوْله : { فَرِيق مِنْهُمْ } مِنْ ذِكْر الْيَهُود مِنْ بَنِي إسْرَائِيل .

وَأَمَّا قَوْله : { بَلْ أَكْثَرهمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ : بَلْ أَكْثَر هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُلَّمَا عَاهَدُوا اللَّه عَهْدًا وَوَاثَقُوهُ مَوْثِقًا نَقَضَهُ فَرِيق مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلِذَلِك وَجْهَانِ مِنْ التَّأْوِيل : أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون الْكَلَام دَلَالَة عَلَى الزِّيَادَة وَالتَّكْثِير فِي عَدَد الْمُكَذِّبِينَ النَّاقِضِينَ عَهْد اللَّه عَلَى عَدَد الْفَرِيق , فَيَكُون الْكَلَام حِينَئِذٍ مَعْنَاهُ : أَوَ كُلَّمَا عَاهَدَتْ الْيَهُود مِنْ بَنِي إسْرَائِيل رَبّهَا عَهْدًا نَقَضَ فَرِيق مِنْهُمْ ذَلِكَ الْعَهْد ؟ لَا مَا يَنْقُض ذَلِكَ فَرِيق مِنْهُمْ , وَلَكِنْ الَّذِي يَنْقُض ذَلِكَ فَيَكْفُر بِاَللَّهِ أَكْثَرهمْ لَا الْقَلِيل مِنْهُمْ . فَهَذَا أَحَد وَجْهَيْهِ . وَالْوَجْه الْآخَر : أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ : أَوَ كُلَّمَا عَاهَدَتْ الْيَهُود رَبّهَا عَهْدًا نَبَذَ ذَلِكَ الْعَهْد فَرِيق مِنْهُمْ ؟ لَا مَا يَنْبِذ ذَلِكَ الْعَهْد فَرِيق مِنْهُمْ فَيَنْقُضهُ عَلَى الْإِيمَان مِنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْر جَائِز لَهُمْ , وَلَكِنَّ أَكْثَرهمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِاَللَّهِ وَرُسُله , وَلَا وَعْده وَوَعِيده . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا عَلَى مَعْنَى الْإِيمَان وَأَنَّهُ التَّصْدِيق .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 101
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُول مِنْ عِنْد اللَّه مُصَدِّق لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيق مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } أَحْبَار الْيَهُود وَعُلَمَاءَهَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيل { رَسُول } يَعْنِي بِالرَّسُولِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَمَا : 1363 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي قَوْله : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُول } قَالَ : لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا قَوْله : { مُصَدِّق لِمَا مَعَهُمْ } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّق التَّوْرَاة , وَالتَّوْرَاة تُصَدِّقهُ فِي أَنَّهُ لِلَّهِ نَبِيّ مَبْعُوث إلَى خَلْقه . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُول مِنْ عِنْد اللَّه مُصَدِّق لِمَا مَعَهُمْ } فَإِنَّهُ لِلَّذِي هُوَ مَعَ الْيَهُود , وَهُوَ التَّوْرَاة . فَأَخْبَرَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْيَهُود لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّه بِتَصْدِيقِ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ التَّوْرَاة أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيّ اللَّه , { نَبَذَ فَرِيق } , يَعْنِي بِذَلِك أَنَّهُمْ جَحَدُوهُ وَرَفَضُوهُ بَعْد أَنْ كَانُوا بِهِ مُقِرِّينَ حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُ وَبَغْيًا عَلَيْهِ . وَقَوْله : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب } وَهُمْ عُلَمَاء الْيَهُود الَّذِينَ أَعْطَاهُمْ اللَّه الْعِلْم بِالتَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { كِتَاب اللَّه } التَّوْرَاة , وَقَوْله : { نَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورهمْ } حَمَلُوهُ وَرَاء ظُهُورهمْ ; وَهَذَا مَثَل يُقَال لِكُلِّ رَافِض أَمْرًا كَانَ مِنْهُ عَلَى بَال : قَدْ جَعَلَ فُلَان هَذَا الْأَمْر مِنْهُ بِظَهْرِ وَجَعَلَهُ وَرَاء ظَهْره , يَعْنِي بِهِ أَعْرَض عَنْهُ وَصَدَّ وَانْصَرَفَ . كَمَا : 1364 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُول مِنْ عِنْد اللَّه مُصَدِّق لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيق مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ } قَالَ : لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ فَخَاصَمُوهُ بِهَا , فَاتَّفَقَتْ التَّوْرَاة وَالْقُرْآن , فَنَبَذُوا التَّوْرَاة وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصف وَسِحْر هَارُوت وَمَارُوت ; فَذَلِك قَوْل اللَّه : { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } . وَمَعْنَى قَوْله : { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَبَذُوا كِتَاب اللَّه مِنْ عُلَمَاء الْيَهُود فَنَقَضُوا عَهْد اللَّه بِتَرْكِهِمْ الْعَمَل بِمَا وَاثَقُوا اللَّه عَلَى أَنْفُسهمْ الْعَمَل بِمَا فِيهِ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّوْرَاة مِنْ الْأَمْر بِاتِّبَاعِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقه . وَهَذَا مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ إخْبَار عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَحَدُوا الْحَقّ عَلَى عِلْم مِنْهُمْ بِهِ وَمَعْرِفَة , وَأَنَّهُمْ عَانَدُوا أَمْر اللَّه فَخَالَفُوا عَلَى عِلْم مِنْهُمْ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ . كَمَا : 1365 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { نَبَذَ فَرِيق مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب } يَقُول : نَقَضَ فَرِيق { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أَيْ أَنَّ الْقَوْم كَانُوا يَعْلَمُونَ . وَلَكِنَّهُمْ أَفْسَدُوا عِلْمهمْ وَجَحَدُوا وَكَفَرُوا وَكَتَمُوا .
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 102
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } الْفَرِيق مِنْ أَحْبَار الْيَهُود وَعُلَمَائِهَا الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمْ نَبَذُوا كِتَابه الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى وَرَاء ظُهُورهمْ , تَجَاهُلًا مِنْهُمْ وَكُفْرًا بِمَا هُمْ بِهِ عَالِمُونَ , كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَفَضُوا كِتَابه الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّل مِنْ عِنْده عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَقَضُوا عَهْده الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَل بِمَا فِيهِ , وَآثَرُوا السِّحْر الَّذِي تَلَتْهُ الشَّيَاطِين فِي مُلْك سُلَيْمَان بْن دَاوُد فَاتَّبَعُوهُ ; وَذَلِك هُوَ الْخَسَار وَالضَّلَال الْمُبِين . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } . فَقَالَ بَعْضهمْ : عَنَى اللَّه بِذَلِك الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا بَيْن ظَهَرَانِي مُهَاجِر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُمْ خَاصَمُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ , فَوَجَدُوا التَّوْرَاة لِلْقُرْآنِ مُوَافِقَة , تَأْمُرهُ مِنْ اتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقه بِمِثْلِ الَّذِي يَأْمُر بِهِ الْقُرْآن , فَخَاصَمُوا بِالْكُتُبِ الَّتِي كَانَ النَّاس اكْتَتَبُوهَا مِنْ الْكَهَنَة عَلَى عَهْد سُلَيْمَان . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1366 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } عَلَى عَهْد سُلَيْمَان . قَالَ : كَانَتْ الشَّيَاطِين تَصْعَد إلَى السَّمَاء , فَتَقْعُد مِنْهَا مَقَاعِد لِلسَّمْعِ , فَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كَلَام الْمَلَائِكَة فِيمَا يَكُون فِي الْأَرْض مِنْ مَوْت أَوْ غَيْث أَوْ أَمْر , فَيَأْتُونَ الْكَهَنَة فَيُخْبِرُونَهُمْ , فَتُحَدِّث الْكَهَنَة النَّاس فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالُوا . حَتَّى إذَا أَمَّنَتْهُمْ الْكَهَنَة كَذَبُوا لَهُمْ , فَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْره فَزَادُوا مَعَ كُلّ كَلِمَة سَبْعِينَ كَلِمَة . فَاكْتَتَبَ النَّاس ذَلِكَ الْحَدِيث فِي الْكُتُب وَفَشَا فِي بَنِي إسْرَائِيل أَنَّ الْجِنّ تَعْلَم الْغَيْب . فَبَعَثَ سُلَيْمَان فِي النَّاس , فَجَمَعَ تَلِك الْكُتُب فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوق , ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْت كُرْسِيّه , وَلَمْ يَكُنْ أَحَد مِنْ الشَّيَاطِين يَسْتَطِيع أَنْ يَدْنُو مِنْ الْكُرْسِيّ إلَّا احْتَرَقَ , وَقَالَ : " لَا أَسْمَع أَحَدًا يَذْكُر أَنَّ الشَّيَاطِين تَعْلَم الْغَيْب إلَّا ضَرَبْت عُنُقه " . فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان , وَذَهَبَتْ الْعُلَمَاء الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْر سُلَيْمَان , وَخَلَفَ بَعْد ذَلِكَ خَلَف , تَمَثَّلَ الشَّيْطَان فِي صُورَة إنْسَان , ثُمَّ أَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيل , فَقَالَ : هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى كَنْز لَا تَأْكُلُونَهُ أَبَدًا ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : فَاحْفِرُوا تَحْت الْكُرْسِيّ وَذَهَبَ مَعَهُمْ فَأَرَاهُمْ الْمَكَان . فَقَامَ نَاحِيَة , فَقَالُوا لَهُ : فَادْنُ ! قَالَ : لَا وَلَكِنِّي هَاهُنَا فِي أَيْدِيكُمْ , فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَاقْتُلُونِي . فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا تِلْكَ الْكُتُب , فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا قَالَ الشَّيْطَان : إنَّ سُلَيْمَان إنَّمَا كَانَ يَضْبِط الْإِنْس وَالشَّيَاطِين وَالطَّيْر بِهَذَا السِّحْر . ثُمَّ طَارَ فَذَهَبَ . وَفَشَا فِي النَّاس أَنَّ سُلَيْمَان كَانَ سَاحِرًا وَاِتَّخَذَتْ بَنُو إسْرَائِيل تِلْكَ الْكُتُب . فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَمُوهُ بِهَا , فَذَلِكَ حِين يَقُول : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . 1367 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } قَالُوا : إنَّ الْيَهُود سَأَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَانًا عَنْ أُمُور مِنْ التَّوْرَاة , لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْء مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ فَيَخُصّهُمْ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا : هَذَا أَعْلَم بِمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنَّا . وَإِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ السِّحْر وَخَاصَمُوهُ بِهِ , فَأَنْزَلَ اللَّه جَلّ وَعَزَّ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . وَإِنَّ الشَّيَاطِين عَمَدُوا إلَى كِتَاب فَكَتَبُوا فِيهِ السِّحْر وَالْكَهَانَة وَمَا شَاءَ اللَّه مِنْ ذَلِكَ , فَدَفَنُوهُ تَحْت مَجْلِس سُلَيْمَان , وَكَانَ سُلَيْمَان لَا يَعْلَم الْغَيْب , فَلَمَّا فَارَقَ سُلَيْمَان الدُّنْيَا اسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ السِّحْر , وَخَدَعُوا بِهِ النَّاس وَقَالُوا : هَذَا عِلْم كَانَ سُلَيْمَان يَكْتُمهُ وَيَحْسُد النَّاس عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيث . فَرَجَعُوا مِنْ عِنْده , وَقَدْ حَزِنُوا وَأَدْحَض اللَّه حُجَّتهمْ . 1368 - وَحَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } قَالَ : لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ { نَبَذَ فَرِيق مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب } الْآيَة . قَالَ : اتَّبَعُوا السِّحْر , وَهُمْ أَهْل الْكِتَاب . فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَنَى اللَّه بِذَلِك الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْد سُلَيْمَان . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ . 1369 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : تَلَتْ الشَّيَاطِين السِّحْر عَلَى الْيَهُود عَلَى مُلْك سُلَيْمَان فَاتَّبَعَتْهُ الْيَهُود عَلَى مُلْكه ; يَعْنِي اتَّبَعُوا السِّحْر عَلَى مُلْك سُلَيْمَان . 1370 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق , قَالَ : عَمَدَتْ الشَّيَاطِين حِين عَرَفَتْ مَوْت سُلَيْمَان بْن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام , فَكَتَبُوا أَصْنَاف السِّحْر : مَنْ كَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْلُغ كَذَا وَكَذَا , فَلْيَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا . حَتَّى إذَا صَنَعُوا أَصْنَاف السِّحْر , جَعَلُوهُ فِي كِتَاب . ثُمَّ خَتَمُوا عَلَيْهِ بِخَاتَمِ عَلَى نَقْش خَاتَم سُلَيْمَان , وَكَتَبُوا فِي عِنْوَانه : " هَذَا مَا كَتَبَ آصف بْن برخيا الصِّدِّيق لِلْمَلَكِ سُلَيْمَان بْن دَاوُد مِنْ ذَخَائِر كُنُوز الْعِلْم " . ثُمَّ دَفَنُوهُ تَحْت كُرْسِيّه , فَاسْتَخْرَجَتْهُ بَعْد ذَلِكَ بَقَايَا بَنِي إسْرَائِيل حِين أَحْدَثُوا مَا أَحْدَثُوا , فَلَمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ قَالُوا : مَا كَانَ سُلَيْمَان بْن دَاوُد إلَّا بِهَذَا . فَأَفْشَوْا السِّحْر فِي النَّاس وَتَعَلَّمُوهُ وَعَلَّمُوهُ , فَلَيْسَ فِي أَحَد أَكْثَر مِنْهُ فِي يَهُود . فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّه سُلَيْمَان بْن دَاوُد وَعَدَّهُ فِيمَنْ عَدَّهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ , قَالَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ يَهُود : أَلَا تَعْجَبُونَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُم أَنَّ سُلَيْمَان بْن دَاوُد كَانَ نَبِيًّا ! وَاَللَّه مَا كَانَ إلَّا سَاحِرًا ! فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } قَالَ : كَانَ حِين ذَهَبَ مُلْك سُلَيْمَان ارْتَدَّ فِئَام مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات . فَلَمَّا رَجَّعَ اللَّه إلَى سُلَيْمَان مُلْكه , قَامَ النَّاس عَلَى الدِّين كَمَا كَانُوا . وَإِنَّ سُلَيْمَان ظَهَرَ عَلَى كُتُبهمْ فَدَفَنَهَا تَحْت كُرْسِيّه . وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَان حِدْثَان ذَلِكَ , فَظَهَرَتْ الْجِنّ وَالْإِنْس عَلَى الْكُتُب بَعْد وَفَاة سُلَيْمَان , وَقَالُوا : هَذَا كِتَاب مِنْ اللَّه نَزَلَ عَلَى سُلَيْمَان أَخْفَاهُ مِنَّا . فَأَخَذُوا بِهِ فَجَعَلُوهُ دِينًا , فَأَنْزَلَ اللَّه : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُول مِنْ عِنْد اللَّه مُصَدِّق لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيق مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } وَهِيَ الْمَعَازِف وَاللَّعِب وَكُلّ شَيْء يَصُدّ عَنْ ذِكْر اللَّه . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } أَنَّ ذَلِكَ تَوْبِيخ مِنْ اللَّه لِأَحْبَارِ الْيَهُود الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَحَدُوا نُبُوَّته وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُول مُرْسَل , وَتَأْنِيب مِنْهُ لَهُمْ فِي رَفْضهمْ تَنْزِيله , وَهَجْرهمْ الْعَمَل بِهِ وَهُوَ فِي أَيْدِيهمْ يَعْلَمُونَهُ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُ كِتَاب اللَّه , وَاتِّبَاعهمْ وَاتِّبَاع أَوَائِلهمْ وَأَسْلَافهمْ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين فِي عَهْد سُلَيْمَان . وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْه جَوَاز إضَافَة أَفْعَال أَسْلَافهمْ إلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى , فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا التَّأْوِيل لِأَنَّ الْمُتَّبِعَة مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين فِي عَهْد سُلَيْمَان وَبَعْده إلَى أَنْ بَعَثَ اللَّه نَبِيّه بِالْحَقِّ وَأَمْر السِّحْر لَمْ يَزَلْ فِي الْيَهُود , وَلَا دَلَالَة فِي الْآيَة أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ بِقَوْلِهِ : { وَاتَّبَعُوا } بَعْضًا مِنْهُمْ دُون بَعْض , إذْ كَانَ جَائِزًا فَصِيحًا فِي كَلَام الْعَرَب إضَافَة مَا وَصَفْنَا مِنْ اتِّبَاع أَسْلَاف الْمُخْبِر عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } إلَى أَخْلَافهمْ بَعْدهمْ . وَلَمْ يَكُنْ بِخُصُوصِ ذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثَر مَنْقُول , وَلَا حُجَّة تَدُلّ عَلَيْهِ , فَكَانَ الْوَاجِب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال : كُلّ مُتَّبِع مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين عَلَى عَهْد سُلَيْمَان مِنْ الْيَهُود دَاخِل فِي مَعْنَى الْآيَة , عَلَى النَّحْو الَّذِي قُلْنَا . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } الَّذِي تَتْلُو . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذًا : وَاتَّبَعُوا الَّذِي تَتْلُو الشَّيَاطِين . وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل قَوْله : { تَتْلُوا } فَقَالَ بَعْضهمْ : يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { تَتْلُوا } تُحَدِّث وَتَرْوِي وَتَتَكَلَّم بِهِ وَتُخْبِر , نَحْو تِلَاوَة الرَّجُل لِلْقُرْآنِ وَهِيَ قِرَاءَته . وَوَجْه قَائِلُو هَذَا الْقَوْل تَأْوِيلهمْ ذَلِكَ إلَى أَنَّ الشَّيَاطِين هِيَ الَّتِي عَلَّمَتْ النَّاس السِّحْر وَرَوَتْهُ لَهُمْ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1371 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ عَمْرو , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } قَالَ : كَانَتْ الشَّيَاطِين تَسْمَع الْوَحْي , فَمَا سَمِعُوا مِنْ كَلِمَة زَادُوا فِيهَا مِائَتَيْنِ مِثْلهَا , فَأَرْسَلَ سُلَيْمَان إلَى مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَهُ . فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَان وَجَدَتْهُ الشَّيَاطِين فَعَلَّمَتْهُ النَّاس ; وَهُوَ السِّحْر . 1372 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } مِنْ الْكَهَانَة وَالسِّحْر ; وَذَكَر لَنَا وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ الشَّيَاطِين ابْتَدَعَتْ كِتَابًا فِيهِ سِحْر وَأَمْر عَظِيم , ثُمَّ أَفْشَوْهُ فِي النَّاس وَعَلَّمُوهُمْ إيَّاهُ . 1373 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ عَطَاء : قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } قَالَ : نَرَاهُ مَا تُحَدِّث . 1374 - حَدَّثَنِي سَلَم بْن جُنَادَةَ السُّوَائِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو مُعَاوِيَة , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ الْمِنْهَال , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : انْطَلَقَتْ الشَّيَاطِين فِي الْأَيَّام الَّتِي اُبْتُلِيَ فِيهَا سُلَيْمَان , فَكَتَبَتْ فِيهَا كُتُبًا فِيهَا سِحْر وَكُفْر , ثُمَّ دَفَنُوهَا تَحْت كُرْسِيّ سُلَيْمَان , ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فَقَرَءُوهَا عَلَى النَّاس . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى قَوْله : { مَا تَتْلُوا } مَا تَتَّبِعهُ وَتَرْوِيه وَتَعْمَل بِهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1375 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَمْرو العنقزي , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , عَنْ أَبِي مَالِك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { تَتْلُوا } قَالَ : تَتْبَع . 1376 - حَدَّثَنِي نَصْر بْن عَبْد الرَّحْمَن الْأَزْدِيّ , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن إبْرَاهِيم , عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ , عَنْ مَنْصُور , عَنْ أَبِي رَزِين مِثْله . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال : إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلّ أَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين عَلَى عَهْد سُلَيْمَان بِاتِّبَاعِهِمْ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين . وَلِقَوْلِ الْقَائِل : " هُوَ يَتْلُو كَذَا " فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَيَانِ : أَحَدهمَا الِاتِّبَاع , كَمَا يُقَال : تَلَوْت فُلَانًا إذَا مَشَيْت خَلْفه وَتَبِعْت أَثَره , كَمَا قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلّ نَفْس مَا أَسْلَفَتْ } 10 30 يَعْنِي بِذَلِك تَتْبَع . وَالْآخَر : الْقِرَاءَة وَالدِّرَاسَة , كَمَا تَقُول : فُلَان يَتْلُو الْقُرْآن , . بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ وَيَدْرُسهُ , كَمَا قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت : نَبِيّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاس حَوْله وَيَتْلُو كِتَاب اللَّه فِي كُلّ مَشْهَد وَلَمْ يُخْبِرنَا اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بِأَيِّ مَعْنَى التِّلَاوَة كَانَتْ تِلَاوَة الشَّيَاطِين الَّذِينَ تَلُوا مَا تَلَوْهُ مِنْ السِّحْر عَلَى عَهْد سُلَيْمَان بِخَبَرِ يَقْطَع الْعُذْر . وَقَدْ يَجُوز أَنْ تَكُون الشَّيَاطِين تَلَتْ ذَلِكَ دِرَاسَة وَرِوَايَة وَعَمَلًا , فَتَكُون كَانَتْ مُتَّبِعَته بِالْعَمَلِ , وَدِرَاسَته بِالرِّوَايَةِ , فَاتَّبَعَتْ الْيَهُود مِنْهَاجهَا فِي ذَلِكَ وَعَمِلَتْ بِهِ وَرَوَتْهُ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } فِي مُلْك سُلَيْمَان ; وَذَلِك أَنَّ الْعَرَب تَضَع " فِي " مَوْضِع " عَلَى " و " عَلَى " فِي مَوْضِع " فِي " , مِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَلَأُصَلِّبَنكُمْ فِي جُذُوع النَّخْل } 20 71 يَعْنِي بِهِ : عَلَى جُذُوع النَّخْل , وَكَمَا قَالَ : " فَعَلْت كَذَا فِي عَهْد كَذَا وَعَلَى عَهْد كَذَا " بِمَعْنَى وَاحِد . وَبِمَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ كَانَ ابْن جُرَيْجٍ وَابْن إسْحَاق يَقُولَانِ فِي تَأْوِيله . 1377 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ , حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : ابْن جُرَيْجٍ : { عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } يَقُول : فِي مُلْك سُلَيْمَان . 1378 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : قَالَ ابْن أَبِي إسْحَاق فِي قَوْله : { عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } أَيْ فِي مُلْك سُلَيْمَان .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . إنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَمَا هَذَا الْكَلَام مِنْ قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } وَلَا خَبَر مَعَنَا قَبْل عَنْ أَحَد أَنَّهُ أَضَافَ الْكُفْر إلَى سُلَيْمَان , بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ اتِّبَاع مَنْ اتَّبَعَ مِنْ الْيَهُود مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين ؟ فَمَا وَجْه نَفْي الْكُفْر عَنْ سُلَيْمَان بِعَقِبِ الْخَبَر عَنْ اتِّبَاع مَنْ اتَّبَعَتْ الشَّيَاطِين فِي الْعَمَل بِالسِّحْرِ وَرِوَايَته مِنْ الْيَهُود ؟ قِيلَ : وَجْه ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ أَضَافَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ إلَيْهِمْ اتِّبَاع مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين عَلَى عَهْد سُلَيْمَان مِنْ السِّحْر وَالْكُفْر مِنْ الْيَهُود , نَسَبُوا مَا أَضَافَهُ اللَّه تَعَالَى ذِكْره إلَى الشَّيَاطِين مِنْ ذَلِكَ إلَى سُلَيْمَان بْن دَاوُد , وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عِلْمه وَرِوَايَته , وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَسْتَعْبِد مَنْ يَسْتَعْبِد مِنْ الْإِنْس وَالْجِنّ وَالشَّيَاطِين وَسَائِر خَلْق اللَّه بِالسِّحْرِ . فَحَسَّنُوا بِذَلِك - مِنْ رُكُوبهمْ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ السِّحْر - أَنْفُسهمْ عِنْد مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَمْرِ اللَّه وَنَهْيه , وَعِنْد مَنْ كَانَ لَا عِلْم لَهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ التَّوْرَاة , وَتَبَرَّأَ بِإِضَافَةِ ذَلِكَ إلَى سُلَيْمَان - مِنْ سُلَيْمَان , وَهُوَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ - بَشَر , وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُون كَانَ لِلَّهِ رَسُولًا , وَقَالُوا : بَلْ كَانَ سَاحِرًا . فَبَرَّأَ اللَّه سُلَيْمَان بْن دَاوُد مِنْ السِّحْر وَالْكُفْر عِنْد مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَنْسُبهُ إلَى السِّحْر وَالْكُفْر لِأَسْبَابِ ادَّعَوْهَا عَلَيْهِ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضهَا , وَسَنَذْكُرُ بَاقِي مَا حَضَرَنَا ذِكْره مِنْهَا . وَأَكْذَب الْآخَرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالسِّحْرِ , مُتَزَيِّنِينَ عِنْد أَهْل الْجَهْل فِي عَمَلهمْ ذَلِكَ بِأَنَّ سُلَيْمَان كَانَ يَعْمَلهُ . فَنَفَى اللَّه عَنْ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يَكُون كَانَ سَاحِرًا أَوْ كَافِرًا , وَأَعْلَمهُمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا اتَّبَعُوا فِي عَمَلهمْ السِّحْر مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين فِي عَهْد سُلَيْمَان , دُون مَا كَانَ سُلَيْمَان يَأْمُرهُمْ مِنْ طَاعَة اللَّه وَاتِّبَاع مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي كِتَابه الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ . ذِكْر الدَّلَائِل عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَا مِنْ الْأَخْبَار وَالْآثَار : 1379 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا يَعْقُوب الْقَمِّيّ , عَنْ جَعْفَر بْن أَبِي الْمُغِيرَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ : كَانَ سُلَيْمَان يَتَتَبَّع مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِين مِنْ السِّحْر , فَيَأْخُذهُ فَيَدْفِنهُ تَحْت كُرْسِيّه فِي بَيْت خِزَانَته . فَلَمْ تَقْدِر الشَّيَاطِين أَنْ يَصِلُوا إلَيْهِ , فَدَنَتْ إلَى الْإِنْس , فَقَالُوا لَهُمْ : أَتُرِيدُونَ الْعِلْم الَّذِي كَانَ سُلَيْمَان يُسَخِّر بِهِ الشَّيَاطِين وَالرِّيَاح وَغَيْر ذَلِكَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالُوا : فَإِنَّهُ فِي بَيْت خِزَانَته وَتَحْت كُرْسِيّه . فَاسْتِثَارَته الْإِنْس فَاسْتَخْرَجُوهُ فَعَمِلُوا بِهِ . فَقَالَ أَهْل الْحِجَاز : كَانَ سُلَيْمَان يَعْمَل بِهَذَا وَهَذَا سِحْر . فَأَنْزَلَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَلَى لِسَان نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَاءَة سُلَيْمَان , فَقَالَ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } الْآيَة , فَأَنْزَلَ اللَّه بَرَاءَة سُلَيْمَان عَلَى لِسَان نَبِيّه عَلَيْهِمَا السَّلَام . 1380 - حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِب السُّوَائِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو مُعَاوِيَة , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ الْمِنْهَال , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : كَانَ الَّذِي أَصَابَ سُلَيْمَان بْن دَاوُد فِي سَبَب أُنَاس مِنْ أَهْل امْرَأَة يُقَال لَهَا جَرَادَة , وَكَانَتْ مِنْ أَكْرَم نِسَائِهِ عَلَيْهِ , قَالَ : فَكَانَ هَوَى سُلَيْمَان أَنْ يَكُون الْحَقّ لِأَهْلِ الْجَرَادَة فَيَقْضِي لَهُمْ , فَعُوقِبَ حِين لَمْ يَكُنْ هَوَاهُ فِيهِمْ وَاحِد . قَالَ : وَكَانَ سُلَيْمَان بْن دَاوُد إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُل الْخَلَاء أَوْ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ أَعْطَى الْجَرَادَة خَاتَمه . فَلَمَّا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِي سُلَيْمَان بِاَلَّذِي ابْتَلَاهُ بِهِ , أَعْطَى الْجَرَادَة ذَات يَوْم خَاتَمه , فَجَاءَ الشَّيْطَان فِي صُورَة سُلَيْمَان فَقَالَ لَهَا : هَاتِي خَاتَمِي ! فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ , فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الشَّيَاطِين وَالْجِنّ وَالْإِنْس . قَالَ : فَجَاءَهَا سُلَيْمَان فَقَالَ : هَاتِي خَاتَمِي ! فَقَالَتْ : كَذَبْت لَسْت بِسُلَيْمَان . قَالَ : فَعَرَفَ سُلَيْمَان أَنَّهُ بَلَاء اُبْتُلِيَ بِهِ . قَالَ : فَانْطَلَقَتْ الشَّيَاطِين فَكَتَبَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّام كُتُبًا فِيهَا سِحْر وَكُفْر ثُمَّ دَفَنُوهَا تَحْت كُرْسِيّ سُلَيْمَان , ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فَقَرَءُوهَا عَلَى النَّاس وَقَالُوا : إنَّمَا كَانَ سُلَيْمَان يَغْلِب النَّاس بِهَذِهِ الْكُتُب . قَالَ : فَبَرِئَ النَّاس مِنْ سُلَيْمَان وَأَكْفَرُوهُ , حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَنْزَلَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } يَعْنِي الَّذِي كَتَبَ الشَّيَاطِين مِنْ السِّحْر وَالْكُفْر { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } فَأَنْزَلَ اللَّه جَلّ وَعَزَّ وَعَذَرَهُ . 1381 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ , قَالَ : ثنا الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان , قَالَ : سَمِعْت عِمْرَان بْن حُدَيْر , عَنْ أَبِي مِجْلَز , قَالَ : أَخَذَ سُلَيْمَان مِنْ كُلّ دَابَّة عَهْدًا , فَإِذَا أُصِيب رَجُل فَسُئِلَ بِذَلِك الْعَهْد خُلِّيَ عَنْهُ , فَرَأَى النَّاس السَّجْع وَالسِّحْر وَقَالُوا : هَذَا كَانَ يَعْمَل بِهِ سُلَيْمَان ; فَقَالَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . 1382 - حَدَّثَنَا أَبُو حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا جَرِير , عَنْ حُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ عِمْرَان بْن الْحَارِث , قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْد ابْن عَبَّاس إذْ جَاءَهُ رَجُل , فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس : مِنْ أَيْنَ جِئْت ؟ قَالَ : مِنْ الْعِرَاق , قَالَ : مِنْ أَيّهِ ؟ قَالَ : مِنْ الْكُوفَة . قَالَ : فَمَا الْخَبَر ؟ قَالَ : تَرَكْتهمْ يَتَحَدَّثُونَ عَلِيًّا خَارِج إلَيْهِمْ . فَفَزِعَ فَقَالَ : مَا تَقُول لَا أَبَا لَك ! لَوْ شَعَرنَا مَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مِيرَاثه , أَمَا إنِّي أُحَدِّثكُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ الشَّيَاطِين يَسْتَرِقُونَ السَّمْع مِنْ السَّمَاء فَيَأْتِي أَحَدهمْ بِكَلِمَةِ حَقّ قَدْ سَمِعَهَا , فَإِذَا حَدَثَ مِنْهُ صِدْق كَذَبَ مَعَهَا سَبْعِينَ كِذْبَة , قَالَ : فَيَشْرَبهَا قُلُوب النَّاس ; فَأَطْلَعَ اللَّه عَلَيْهَا سُلَيْمَان فَدَفَنَهَا تَحْت كُرْسِيّه . فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَان بْن دَاوُد قَامَ شَيْطَان بِالطَّرِيقِ فَقَالَ : أَلَا أَدُلّكُمْ عَلَى كَنْزه الْمُمَنَّع الَّذِي لَا كَنْز مِثْله ؟ تَحْت الْكُرْسِيّ . فَأَخْرَجُوهُ فَقَالُوا : هَذَا سِحْر . فَتَنَاسَخَهَا الْأُمَم , حَتَّى بَقَايَاهُمْ مَا يَتَحَدَّث بِهِ أَهْل الْعِرَاق . فَأَنْزَلَ اللَّه عُذْر سُلَيْمَان : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . 1383 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَالَ : ذُكِرَ لَنَا وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ الشَّيَاطِين ابْتَدَعَتْ كِتَابًا فِيهِ سِحْر وَأَمْر عَظِيم , ثُمَّ أَفْشَوْهُ فِي النَّاس وَأَعْلَمُوهُمْ إيَّاهُ . فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِك سُلَيْمَان نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَبَّعَ تِلْكَ الْكُتُب , فَأَتَى بِهَا فَدَفَنَهَا تَحْت كُرْسِيّه كَرَاهِيَة أَنْ يَتَعَلَّمهَا النَّاس . فَلَمَّا قَبَضَ اللَّه نَبِيّه سُلَيْمَان عَمَدَتْ الشَّيَاطِين فَاسْتَخْرَجُوهَا مِنْ مَكَانهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ فَعَلَّمُوهَا النَّاس , فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ هَذَا عِلْم كَانَ يَكْتُمهُ سُلَيْمَان وَيَسْتَأْثِر بِهِ . فَعَذَرَ اللَّه نَبِيّه سُلَيْمَان وَبَرَّأَهُ مِنْ ذَلِكَ , فَقَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } . * - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة , قَالَ : كَتَبَتْ الشَّيَاطِين كُتُبًا فِيهَا سِحْر وَشِرْك , ثُمَّ دَفَنَتْ تِلْكَ الْكُتُب تَحْت كُرْسِيّ سُلَيْمَان . فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان اسْتَخْرَجَ النَّاس تِلْكَ الْكُتُب , فَقَالُوا : هَذَا عِلْم كَتَمْنَاهُ سُلَيْمَان . فَقَالَ اللَّه جَلّ وَعَزَّ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . 1384 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا حَجَّاج , حَدَّثَنَا الْحُسَيْن قَالَ : عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } قَالَ : كَانَتْ الشَّيَاطِين تَسْتَمِع الْوَحْي مِنْ السَّمَاء , فَمَا سَمِعُوا مِنْ كَلِمَة زَادُوا فِيهَا مِثْلهَا . وَإِنَّ سُلَيْمَان أَخَذَ مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَنَهُ تَحْت كُرْسِيّه ; فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَجَدَتْهُ الشَّيَاطِين فَعَلَّمَتْهُ النَّاس . 1385 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ أَبِي بَكْر , عَنْ شَهْر بْن حَوْشَبٍ , قَالَ : لَمَّا سُلِبَ سُلَيْمَان مُلْكه كَانَتْ الشَّيَاطِين تَكْتُب السِّحْر فِي غَيْبَة سُلَيْمَان , فَكَتَبَتْ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِي كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَقْبِلْ الشَّمْس وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَدْبِرْ الشَّمْس وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا . فَكَتَبَتْهُ وَجَعَلَتْ عِنْوَانه : " هَذَا مَا كَتَبَ آصف بْن برخيا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَان بْن دَاوُد مِنْ ذَخَائِر كُنُوز الْعِلْم " , ثُمَّ دَفَنَتْهُ تَحْت كُرْسِيّه . فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان قَامَ إبْلِيس خَطِيبًا فَقَالَ : يَا أَيّهَا النَّاس إنَّ سُلَيْمَان لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا , وَإِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا , فَالْتَمِسُوا سِحْره فِي مَتَاعه وَبُيُوته ! ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى الْمَكَان الَّذِي دُفِنَ فِيهِ , فَقَالُوا : وَاَللَّه لَقَدْ كَانَ سُلَيْمَان سَاحِرًا , هَذَا سِحْره , بِهَذَا تَعَبَّدَنَا , وَبِهَذَا قَهَرَنَا . فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ : بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُؤْمِنًا . فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه النَّبِيّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَذْكُر الْأَنْبِيَاء حَتَّى ذَكَرَ دَاوُد وَسُلَيْمَان , فَقَالَتْ الْيَهُود : اُنْظُرُوا إلَى مُحَمَّد يَخْلِط الْحَقّ بِالْبَاطِلِ , يَذْكُر سُلَيْمَان مَعَ الْأَنْبِيَاء , وَإِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا يَرْكَب الرِّيح . فَأَنْزَلَ اللَّه عُذْر سُلَيْمَان : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } الْآيَة . 1386 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } وَذَلِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي لَمَّا ذَكَرَ سُلَيْمَان بْن دَاوُد فِي الْمُرْسَلِينَ , قَالَ بَعْض أَحْبَار الْيَهُود : أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّد يَزْعُم أَنَّ ابْن دَاوُد كَانَ نَبِيًّا , وَاَللَّه مَا كَانَ إلَّا سَاحِرًا ! فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } أَيْ بِاتِّبَاعِهِمْ السِّحْر وَعَمَلهمْ بِهِ { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِذَا كَانَ الْأَمْر فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَتَأْوِيل قَوْله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } مَا ذَكَرْنَا ; فَتَبَيَّنَ أَنَّ فِي الْكَلَام مَتْرُوكًا تُرِكَ ذِكْره اكْتِفَاء بِمَا ذُكِرَ مِنْهُ , وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين } مِنْ السِّحْر { عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } فَتُضِيفهُ إلَى سُلَيْمَان , { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان } فَيَعْمَل بِالسِّحْرِ { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } . وَقَدْ كَانَ قَتَادَة يَتَأَوَّل قَوْله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } عَلَى مَا قُلْنَا . 1387 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } يَقُول : مَا كَانَ عَنْ مَشُورَته , وَلَا عَنْ رِضَا مِنْهُ ; وَلَكِنَّهُ شَيْء افْتَعَلَتْهُ الشَّيَاطِين دُونه . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى اخْتِلَاف الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى " تَتْلُو " , وَتَوْجِيه مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إلَى أَنَّ " تَتْلُوا " بِمَعْنَى تَلَتْ , إذْ كَانَ الَّذِي قَبْله خَبَرًا مَاضِيًا وَهُوَ قَوْله : { وَاتَّبَعُوا } وَتَوْجِيه الَّذِينَ وَجَّهُوا ذَلِكَ إلَى خِلَاف ذَلِكَ . وَبَيَّنَّا فِيهِ وَفِي نَظِيره الصَّوَاب مِنْ الْقَوْل , فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع . وَأَمَّا مَعْنَى قَوْله : { مَا تَتْلُوا } فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي تَتْلُو وَهُوَ السِّحْر . 1388 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان } أَيْ السِّحْر . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُول : أَوَ مَا كَانَ السِّحْر إلَّا أَيَّام سُلَيْمَان ؟ قِيلَ لَهُ : بَلَى قَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل ذَلِكَ , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ سَحَرَة فِرْعَوْن مَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ , وَقَدْ كَانُوا قَبْل سُلَيْمَان , وَأَخْبَرَ عَنْ قَوْم نُوح أَنَّهُمْ قَالُوا لِنُوحِ إنَّهُ سَاحِر ; قَالَ : فَكَيْف أَخْبَرَ عَنْ الْيَهُود أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين عَلَى عَهْد سُلَيْمَان ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا ذَلِكَ إلَى سُلَيْمَان عَلَى مَا قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَان عَنْهُ , فَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره تَبْرِئَة سُلَيْمَان مِمَّا نَحَلُوهُ وَأَضَافُوا إلَيْهِ مِمَّا كَانُوا وَجَدُوهُ إمَّا فِي خَزَائِنه وَإِمَّا تَحْت كُرْسِيّه , عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَار الَّتِي قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِنْ ذَلِكَ . فَحَصَرَ الْخَبَر عَمَّا كَانَتْ الْيَهُود اتَّبَعَتْهُ فِيمَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِين أَيَّام سُلَيْمَان دُون غَيْره لِذَلِك السَّبَب . وَإِنْ كَانَ الشَّيَاطِين قَدْ كَانَتْ تَالِيَة لِلسِّحْرِ وَالْكُفْر قَبْل ذَلِكَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } . اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي تَأْوِيل " مَا " الَّتِي فِي قَوْله : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَاهُ الْجَحْد وَهِيَ بِمَعْنَى " لَمْ " . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1389 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي , قَالَ , حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } فَإِنَّهُ يَقُول : لَمْ يُنْزِل اللَّه السِّحْر . 1390 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنِي حكام عَنْ أَبِي جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قَالَ : مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِمَا السِّحْر . فَتَأْوِيل الْآيَة عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْن عَبَّاس وَالرَّبِيع مِنْ تَوْجِيههمَا مَعْنَى قَوْله : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } إلَى : وَلَمْ يَنْزِل عَلَى الْمَلَكَيْنِ , وَاتَّبَعُوا الَّذِي تَتْلُوا الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان مِنْ السِّحْر , وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَا أَنْزَلَ اللَّه السِّحْر عَلَى الْمَلَكَيْنِ { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر } بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت , فَيَكُون حِينَئِذٍ قَوْله : { بِبَابِل وَهَارُوت وَمَارُوت } مِنْ الْمُؤَخَّر الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيم . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْف وَجْه تَقْدِيم ذَلِكَ ؟ قِيلَ : وَجْه تَقْدِيمه أَنْ يُقَال : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين عَلَى مُلْك سُلَيْمَان وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ , وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت . فَيَكُون مَعْنِيًّا بِالْمَلَكَيْنِ : جِبْرِيل وَمِيكَائِيل ; لِأَنَّ سَحَرَة الْيَهُود فِيمَا ذُكِرَ كَانَتْ تَزْعُم أَنَّ اللَّه أَنْزَلَ السِّحْر عَلَى لِسَان جِبْرِيل وَمِيكَائِيل إلَى سُلَيْمَان بْن دَاوُد . فَأَكْذَبَهَا اللَّه بِذَلِك وَأَخْبَرَ نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل لَمْ يَنْزِلَا بِسِحْرِ قَطُّ , وَبَرَّأَ سُلَيْمَان مِمَّا نَحَلُوهُ مِنْ السِّحْر , فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْر مِنْ عَمَل الشَّيَاطِين , وَأَنَّهَا تُعَلِّم النَّاس بِبَابِل , وَأَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ اسْم أَحَدهمَا هَارُوت وَاسْم الْآخَر مَارُوت ; فَيَكُون هَارُوت وَمَارُوت عَلَى هَذَا التَّأْوِيل تَرْجَمَة عَلَى النَّاس وَرَدًّا عَلَيْهِمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ تَأْوِيل " مَا " الَّتِي فِي قَوْله : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } " الَّذِي " . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1391 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : قَالَ مَعْمَر , قَالَ قَتَادَة وَالزُّهْرِيّ عَنْ عَبْد اللَّه : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } كَانَا مَلَكَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَة فَأُهْبِطَا لِيَحْكُمَا بَيْن النَّاس . وَذَلِك أَنَّ الْمَلَائِكَة سَخِرُوا مِنْ أَحْكَام بَنِي آدَم , قَالَ : فَحَاكَمَتْ إلَيْهِمَا امْرَأَة فَحَافَا لَهَا , ثُمَّ ذَهَبَا يَصْعَدَانِ , فَحِيلَ بَيْنهمَا وَبَيْن ذَلِكَ وَخُيِّرَا بَيْن عَذَاب الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة , فَاخْتَارَا عَذَاب الدُّنْيَا . قَالَ مَعْمَر : قَالَ قَتَادَة : فَكَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاس السِّحْر , فَأَخَذَ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا : إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة فَلَا تَكْفُر . 1392 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : أَمَّا قَوْله : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } فَهَذَا سِحْر آخَر خَاصَمُوهُ بِهِ أَيْضًا ; يَقُول : خَاصَمُوهُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَإِنَّ كَلَام الْمَلَائِكَة فِيمَا بَيْنهمْ إذَا عَلَّمَتْهُ الْإِنْس فَصَنَعَ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ سِحْرًا . 1393 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى النَّاس بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } فَالسِّحْر سِحْرَانِ : سِحْر تُعَلِّمهُ الشَّيَاطِين , وَسِحْر يُعَلِّمهُ هَارُوت وَمَارُوت . 1394 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } قَالَ : التَّفْرِيق بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه . 1395 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ : { فَلَا تَكْفُر } قَالَ : الشَّيَاطِين وَالْمَلَكَانِ يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَمَعْنَى الْآيَة عَلَى تَأْوِيل هَذَا الْقَوْل الَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ : وَاتَّبَعَتْ الْيَهُود الَّذِي تَلَتْ الشَّيَاطِين فِي مُلْك سُلَيْمَان الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل وَهَارُوت وَمَارُوت . وَهُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَة اللَّه , سَنَذْكُرُ مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَار فِي شَأْنهمَا إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالُوا : إنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَهَلْ يَجُوز أَنْ يُنْزِل اللَّه السِّحْر , أَمْ هَلْ يَجُوز لِمَلَائِكَتِهِ أَنْ تُعَلِّمهُ النَّاس ؟ قُلْنَا لَهُ : إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلّ قَدْ أَنْزَلَ الْخَيْر وَالشَّرّ كُلّه , وَبَيْن جَمِيع ذَلِكَ لِعِبَادِهِ , فَأَوْحَاهُ إلَى رُسُله وَأَمَرَهُمْ بِتَعْلِيمِ خَلْقه وَتَعْرِيفهمْ مَا يَحِلّ لَهُمْ مِمَّا يَحْرُم عَلَيْهِمْ ; وَذَلِك كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَسَائِر الْمَعَاصِي الَّتِي عَرَفَهُمُوهَا وَنَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبهَا , فَالسِّحْر أَحَد تِلْكَ الْمَعَاصِي الَّتِي أَخْبَرَهُمْ بِهَا وَنَهَاهُمْ عَنْ الْعَمَل بِهَا . قَالُوا : لَيْسَ فِي الْعِلْم بِالسِّحْرِ إثْم , كَمَا لَا إثْم فِي الْعِلْم بِصَنْعَةِ الْخَمْر وَنَحْت الْأَصْنَام وَالطَّنَابِير وَالْمَلَاعِب , وَإِنَّمَا الْإِثْم فِي عَمَله وَتَسْوِيَته . قَالُوا : وَكَذَلِك لَا إثْم فِي الْعِلْم بِالسِّحْرِ , وَإِنَّمَا الْإِثْم فِي الْعَمَل بِهِ وَأَنْ يَضُرّ بِهِ مَنْ لَا يَحِلّ ضُرّه بِهِ . قَالُوا : فَلَيْسَ فِي إنْزَال اللَّه إيَّاهُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلَا فِي تَعْلِيم الْمَلَكَيْنِ مَنْ عَلَّمَاهُ مِنْ النَّاس إثْم إذَا كَانَ تَعْلِيمهمَا مَنْ عَلَّمَاهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّه لَهُمَا بِتَعْلِيمِهِ بَعْد أَنْ يُخْبِرَاهُ بِأَنَّهُمَا فِتْنَة وَيَنْهَاهُ عَنْ السِّحْر وَالْعَمَل بِهِ وَالْكُفْر ; وَإِنَّمَا الْإِثْم عَلَى مَنْ يَتَعَلَّمهُ مِنْهُمَا وَيَعْمَل بِهِ , إذْ كَانَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره قَدْ نَهَاهُ عَنْ تَعَلُّمه وَالْعَمَل بِهِ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ اللَّه أَبَاحَ لِبَنِي آدَم أَنْ يَتَعَلَّمُوا ذَلِكَ , لَمْ يَكُنْ مِنْ تَعَلُّمه حَرَجًا , كَمَا لَمْ يَكُونَا حَرِجَيْنِ لِعِلْمِهِمَا بِهِ , إذْ كَانَ عِلْمهمَا بِذَلِك عَنْ تَنْزِيل اللَّه إلَيْهِمَا . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى " مَا " مَعْنَى " الَّذِي " , وَهِيَ عَطْف عَلَى " مَا " الْأُولَى , غَيْر أَنَّ الْأُولَى فِي مَعْنَى السِّحْر وَالْآخِرَة فِي مَعْنَى التَّفْرِيق بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه . فَتَأْوِيل الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل : وَاتَّبَعُوا السِّحْر الَّذِي تَتْلُو الشَّيَاطِين فِي مُلْك سُلَيْمَان , وَالتَّفْرِيق الَّذِي بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1396 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح . عَنْ مُجَاهِد : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت } وَهُمَا يَعْلَمَانِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه , وَذَلِك قَوْل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا } وَكَانَ يَقُول : أَمَّا السِّحْر فَإِنَّمَا يَعْلَمهُ الشَّيَاطِين , وَأَمَّا الَّذِي يَعْلَم الْمَلَكَانِ فَالتَّفْرِيق بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ آخَرُونَ : جَائِز أَنْ تَكُون " مَا " بِمَعْنَى " الَّذِي " , وَجَائِز أَنْ تَكُون " مَا " بِمَعْنَى " لَمْ " . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ . 1397 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ : حَدَّثَنِي اللَّيْث بْن سَعْد , عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد , عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد , وَسَأَلَهُ رَجُل عَنْ قَوْل اللَّه { يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بَابِل هَارُوت وَمَارُوت } فَقَالَ الرَّجُل : يُعَلِّمَانِ النَّاس مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا , أَمْ يُعَلِّمَانِ النَّاس مَا لَمْ يَنْزِل عَلَيْهِمَا ؟ قَالَ الْقَاسِم : مَا أُبَالِي أَيَّتهمَا كَانَتْ . * - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عِيَاض , عَنْ بَعْض أَصْحَابه , أَنَّ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد سُئِلَ عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } فَقِيلَ لَهُ : أُنْزِلَ أَوْ لَمْ يُنْزِل ؟ فَقَالَ : لَا أُب
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 103
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِنْ عِنْد اللَّه خَيْر لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا } لَوْ أَنَّ الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ مِنْ الْمَلَكَيْنِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه آمَنُوا , فَصَدَّقُوا اللَّه وَرَسُوله وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّهمْ , وَاتَّقَوْا رَبّهمْ فَخَافُوهُ فَخَافُوا عِقَابه , فَأَطَاعُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضه وَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيه ; لَكَانَ جَزَاء اللَّه إيَّاهُمْ وَثَوَابه لَهُمْ عَلَى إيمَانهمْ بِهِ وَتَقْوَاهُمْ إيَّاهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ السِّحْر وَمَا اكْتَسَبُوا بِهِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ ثَوَاب اللَّه إيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْر لَهُمْ مِنْ السِّحْر وَمِمَّا اكْتَسَبُوا بِهِ . وَإِنَّمَا نَفَى بِقَوْلِهِ : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } الْعِلْم عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَبْلَغِ ثَوَاب اللَّه وَقَدْر جَزَائِهِ عَلَى طَاعَته . وَالْمَثُوبَة فِي كَلَام الْعَرَب مَصْدَر مِنْ قَوْل الْقَائِل : أَثَبْتك إثَابَة وَثَوَابًا وَمَثُوبَة , فَأَصْل ذَلِكَ مِنْ ثَابَ إلَيْك الشَّيْء بِمَعْنَى رَجَعَ , ثُمَّ يُقَال : أَثَبْته إلَيْك : أَيْ رَجَّعْته إلَيْك وَرَدَدْته . فَكَانَ مَعْنَى إثَابَة الرَّجُل الرَّجُل عَلَى الْهَدِيَّة وَغَيْرهَا : إرْجَاعه إلَيْهَا مِنْهَا بَدَلًا , وَرَدّه عَلَيْهِ مِنْهَا عِوَضًا . ثُمَّ جَعَلَ كُلّ مُعَوَّض غَيْره مِنْ عَمَله أَوْ هَدَيْته أَوْ يَد لَهُ سَلَفَتْ مِنْهُ إلَيْهِ مُثِيبًا لَهُ . وَمِنْهُ ثَوَاب اللَّه عَزَّ وَجَلّ عِبَاده عَلَى أَعْمَالهمْ , بِمَعْنَى إعْطَائِهِ إيَّاهُمْ الْعِوَض وَالْجَزَاء عَلَيْهِ , حَتَّى يَرْجِع إلَيْهِمْ بَدَل مِنْ عَمَلهمْ الَّذِي عَمِلُوا لَهُ . وَقَدْ زَعَمَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة أَنَّ قَوْله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِنْ عِنْد اللَّه خَيْر } مِمَّا اُكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَى مَعْنَاهُ عَنْ ذِكْر جَوَابه , وَأَنَّ مَعْنَاهُ : وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَأُثِيبُوا ; وَلَكِنَّهُ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ الْخَبَر عَنْ الْمَثُوبَة عَنْ قَوْله : لَأُثِيبُوا . وَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي أَهْل الْبَصْرَة يُنْكِر ذَلِكَ , وَيَرَى أَنَّ جَوَاب قَوْله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة } وَأَنَّ " لَوْ " إنَّمَا أُجِيبَتْ بِالْمَثُوبَةِ , وَإِنْ كَانَتْ أُخْبِرَ عَنْهَا بِالْمَاضِي مِنْ الْفِعْل لِتَقَارُبِ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى " لَئِنْ " فِي أَنَّهُمَا جَزَاءَانِ , فَإِنَّهُمَا جَوَابَانِ لِلْإِيمَانِ , فَأَدْخَلَ جَوَاب كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبَتهَا , فَأُجِيبَتْ " لَوْ " بِجَوَابِ " لَئِنْ " , و " لَئِنْ " بِجَوَابِ " لَوْ " ; لِذَلِك وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتهمَا فَكَانَتْ " لَوْ " مِنْ حُكْمهَا وَحَظّهَا أَنْ تُجَاب بِالْمَاضِي مِنْ الْفِعْل , وَكَانَتْ " لَئِنْ " مِنْ حُكْمهَا وَحَظّهَا أَنْ تُجَاب بِالْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْفِعْل لِمَا وَصَفْنَا مِنْ تَقَارُبهمَا , فَكَانَ يَتَأَوَّل مَعْنَى قَوْله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا } : وَلَئِنْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِنْ عِنْد اللَّه خَيْر . وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيل الْمَثُوبَة قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1429 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { لَمَثُوبَة مِنْ عِنْد اللَّه } يَقُول : ثَوَاب مِنْ عِنْد اللَّه . 1430 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِنْ عِنْد اللَّه } أَمَّا الْمَثُوبَة , فَهُوَ الثَّوَاب . 1431 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِنْ عِنْد اللَّه خَيْر } يَقُول : لَثَوَاب مِنْ عِنْد اللَّه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 104
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } فَقَالَ بَعْضهمْ : تَأْوِيله لَا تَقُولُوا خِلَافًا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1432 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا مُؤَمَّل , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء فِي قَوْله : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } قَالَ : لَا تَقُولُوا خِلَافًا . 1433 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } لَا تَقُولُوا خِلَافًا . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . * حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ رَجُل عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو نَعِيم , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . وَقَالَ آخَرُونَ : تَأْوِيله : أَرْعِنَا سَمْعك : أَيْ اسْمَعْ مِنَّا وَنَسْمَع مِنْك . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1434 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { رَاعِنَا } أَيْ أَرْعِنَا سَمْعك . 1435 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه جَلّ وَعَزَّ : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } لَا تَقُولُوا اسْمَعْ مِنَّا وَنَسْمَع مِنْك . 1436 - وَحُدِّثْت عَنْ الْحُسَيْن بْن الْفَرَج , قَالَ : سَمِعْت أَبَا مُعَاذ يَقُول : أَخْبَرَنَا عُبَيْد بْن سُلَيْمَان , قَالَ : سَمِعْت الضَّحَّاك يَقُول فِي قَوْله : { رَاعِنَا } قَالَ : كَانَ الرَّجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَقُول : أَرْعِنِي سَمْعك . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله نَهَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا رَاعِنَا , فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ كَلِمَة كَانَتْ الْيَهُود تَقُولهَا عَلَى وَجْه الِاسْتِهْزَاء وَالْمِسَبَّة , فَنَهَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1437 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } قَوْل كَانَتْ تَقُولهُ الْيَهُود اسْتِهْزَاء , فَزَجَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا كَقَوْلِهِمْ . 1438 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , عَنْ فُضَيْل بْن مَرْزُوق , عَنْ عَطِيَّة : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } قَالَ : كَانَ أُنَاس مِنْ الْيَهُود يَقُولُوا أَرْعِنَا سَمْعك , حَتَّى قَالَهَا أُنَاس مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَكَرِهَ اللَّه لَهُمْ مَا قَالَتْ الْيَهُود , فَقَالَ : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } كَمَا قَالَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى . 1439 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ رَاعِنَا سَمْعك , فَكَانَ الْيَهُود يَأْتُونَ فَيَقُولُونَ مِثْل ذَلِكَ مُسْتَهْزِئِينَ , فَقَالَ اللَّه : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } . 1440 - وَحُدِّثْت عَنْ الْمِنْجَاب , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عِمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَاعِنَا بِسَمْعِك ! وَإِنَّمَا رَاعِنَا كَقَوْلِك عَاطِنَا . 1441 - وَحَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } قَالَ : رَاعِنَا الْقَوْل الَّذِي قَالَهُ الْقَوْم قَالُوا { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْر مُسْمَع وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّين } 4 46 قَالَ : قَالَ هَذَا الرَّاعِن , وَالرَّاعِن : الْخَطَّاء . قَالَ : فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ : لَا تَقُولُوا خَطَّاء كَمَا قَالَ الْقَوْم وَقُولُوا اُنْظُرْنَا وَاسْمَعُوا , قَالَ : كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُكَلِّمُونَهُ وَيَسْمَع مِنْهُمْ , وَيَسْأَلُونَهُ وَيُجِيبهُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هِيَ كَلِمَة كَانَتْ الْأَنْصَار فِي الْجَاهِلِيَّة تَقُولهَا , فَنَهَاهُمْ اللَّه فِي الْإِسْلَام أَنْ يَقُولُوهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1442 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنِي هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , عَنْ عَطَاء فِي قَوْله : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } قَالَ : كَانَتْ لُغَة فِي الْأَنْصَار فِي الْجَاهِلِيَّة , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } وَلَكِنْ { قُولُوا اُنْظُرْنَا } إلَى آخِر الْآيَة . * حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد , قَالَ : ثنا هُشَيْم , عَنْ عَبْد الْمَلِك , عَنْ عَطَاء قَالَ : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } قَالَ : كَانَتْ لُغَة فِي الْأَنْصَار . * حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا جَرِير , عَنْ عَبْد الْمَلِك , عَنْ عَطَاء , مِثْله . 1443 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } قَالَ : إنَّ مُشْرِكِي الْعَرَب كَانُوا إذَا حَدَّثَ بَعْضهمْ بَعْضًا يَقُول أَحَدهمْ لِصَاحِبِهِ : أَرْعِنِي سَمْعك ; فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ . 1444 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : رَاعِنَا قَوْل السَّاخِر , فَنَهَاهُمْ أَنْ يَسْخَرُوا مِنْ قَوْل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَلَام يَهُودِيّ مِنْ الْيَهُود بِعَيْنِهِ يُقَال لَهُ رِفَاعَة بْن زَيْد , كَانَ يُكَلِّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ عَلَى وَجْه السَّبّ لَهُ , وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ , فَنَهَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَيْله لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1445 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } كَانَ رَجُل مِنْ الْيَهُود مِنْ قَبِيلَة مِنْ الْيَهُود يُقَال لَهُمْ بَنُو قَيْنُقَاع كَانَ يُدْعَى رِفَاعَة بْن زَيْد بْن السَّائِب . قَالَ أَبُو جَعْفَر : هَذَا خَطَأ إنَّمَا هُوَ ابْن التَّابُوت لَيْسَ ابْن السَّائِب ; كَانَ يَأْتِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا لَقِيَهُ فَكَلَّمَهُ قَالَ : أَرْعِنِي سَمْعك وَاسْمَعْ غَيْر مُسْمَع . فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسِبُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاء كَانَتْ تُفَخَّم بِهَذَا , فَكَانَ نَاس مِنْهُمْ يَقُولُونَ : اسْمَعْ غَيْر مُسْمَع , كَقَوْلِك اسْمَعْ غَيْر صَاغِر , وَهِيَ الَّتِي فِي النِّسَاء : { مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِم عَنْ مَوَاضِعه وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْر مُسْمَع وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّين } 4 46 يَقُول : إنَّمَا يُرِيد بِقَوْلِهِ : { طَعْنًا فِي الدِّين } . ثُمَّ تَقَدَّمَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : لَا تَقُولُوا رَاعِنَا . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي نَهْي اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لِنَبِيِّهِ : رَاعِنَا , أَنْ يُقَال إنَّهَا كَلِمَة كَرِهَهَا اللَّه لَهُمْ أَنْ يَقُولُوهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , نَظِير الَّذِي ذُكِرَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ الْكَرْم وَلَكِنْ قُولُوا الْحَبَلَة " , و " لَا تَقُولُوا عَبْدِي وَلَكِنْ قُولُوا فَتَايَ " وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ مِنْ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَكُونَانِ مُسْتَعْمَلَتَيْنِ بِمَعْنَى وَاحِد فِي كَلَام الْعَرَب , فَتَأْتِي الْكَرَاهَة أَوْ النَّهْي بِاسْتِعْمَالِ إحْدَاهُمَا وَاخْتِيَار الْأُخْرَى عَلَيْهَا فِي الْمُخَاطَبَات . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا مَعْنَى نَهْي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِنَب أَنْ يُقَال لَهُ كَرْم , وَفِي الْعَبْد أَنْ يُقَال لَهُ عَبْد , فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْله : { رَاعِنَا } حِينَئِذٍ الَّذِي مِنْ أَجْله كَانَ النَّهْي مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَقُولُوهُ , حَتَّى أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْثِرُوا قَوْله : { اُنْظُرْنَا } ؟ قِيلَ : الَّذِي فِيهِ مِنْ ذَلِكَ , نَظِير الَّذِي فِي قَوْل الْقَائِل الْكَرْم لِلْعِنَبِ , وَالْعَبْد لِلْمَمْلُوكِ , وَذَلِك أَنَّ قَوْل الْقَائِل عَبْد , لِجَمِيعِ عِبَاد اللَّه , فَكَرِهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَاف بَعْض عِبَاد اللَّه , بِمَعْنَى الْعُبُودِيَّة إلَى غَيْر اللَّه , وَأَمَرَ أَنْ يُضَاف ذَلِكَ إلَى غَيْره بِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي يُضَاف إلَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ , فَيُقَال : فَتَايَ . وَكَذَلِك وَجْه نَهْيه فِي الْعِنَب أَنْ يُقَال كَرْمًا خَوْفًا مِنْ تَوَهُّم وَصْفه بِالْكَرْمِ , وَإِنْ كَانَتْ مُسَكَّنَة , فَإِنَّ الْعَرَب قَدْ تُسَكِّن بَعْض الْحَرَكَات إذَا تَتَابَعَتْ عَلَى نَوْع وَاحِد , فَكَرِهَ أَنْ يَتَّصِف بِذَلِك الْعِنَب . فَكَذَلِكَ نَهَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا " رَاعِنَا " , لِمَا كَانَ قَوْل الْقَائِل " رَاعِنَا " مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى احْفَظْنَا وَنَحْفَظك وَارْقُبْنَا وَنَرْقُبك , مِنْ قَوْل الْعَرَب بَعْضهمْ لِبَعْضِ : رَعَاك اللَّه بِمَعْنَى حَفِظَك اللَّه وَكَلَأَك . وَمُحْتَمِلًا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى أَرْعِنَا سَمْعك , مِنْ قَوْلهمْ : أَرْعَيْت سَمْعِي إرْعَاء . أَوْ رَاعَيْته سَمْعِي رِعَاء أَوْ مُرَاعَاة , بِمَعْنَى : فَرَّغْته لِسَمَاعِ كَلَامه . كَمَا قَالَ الْأَعْشَى مَيْمُون بْن قَيْس : يَرْعَى إلَى قَوْل سَادَات الرِّجَال إذَا أَبْدَوْا لَهُ الْحَزْم أَوْ مَا شَاءَهُ ابْتَدَعَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ يَرْعَى : يُصْغِي بِسَمْعِهِ إلَيْهِ مُفْرِغه لِذَلِكَ . وَكَأَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَوْقِيرِ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمه , حَتَّى نَهَاهُمْ جَلّ ذِكْره فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ عَنْ رَفْع أَصْوَاتهمْ فَوْق صَوْته وَأَنْ يَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضهمْ لِبَعْضِ وَخَوْفهمْ عَلَى ذَلِكَ حُبُوط أَعْمَالهمْ , فَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِالزَّجْرِ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ مِنْ الْقَوْل مَا فِيهِ جَفَاء , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِخِطَابِهِ مِنْ الْأَلْفَاظ أَحْسَنهَا , وَمِنْ الْمَعَانِي أَرَقّهَا , فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلهمْ : { رَاعِنَا } لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَال مَعْنَى ارْعَنَا نَرْعَاك , إذْ كَانَتْ الْمُفَاعَلَة لَا تَكُون إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ , كَمَا يَقُول الْقَائِل : عَاطِنَا وَحَادِثنَا وَجَالِسنَا , بِمَعْنَى افْعَلْ بِنَا وَنَفْعَل بِك , وَمَعْنَى أَرْعِنَا سَمْعك حَتَّى نَفْهَمك وَتَفْهَم عَنَّا . فَنَهَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَصْحَاب مُحَمَّد أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ وَأَنْ يُفْرِدُوا مَسْأَلَته بِانْتِظَارِهِمْ وَإِمْهَالهمْ لِيَعْقِلُوا عَنْهُ بِتَبْجِيلِ مِنْهُمْ لَهُ وَتَعْظِيم , وَأَنْ لَا يَسْأَلُوهُ مَا سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْه الْجَفَاء وَالتَّجَهُّم مِنْهُمْ لَهُ , وَلَا بِالْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَة , تَشَبُّهًا مِنْهُمْ بِالْيَهُودِ فِي خِطَابهمْ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ لَهُ : { اسْمَعْ غَيْر مُسْمَع وَرَاعِنَا } . يَدُلّ عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْله : { مَا يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبّكُمْ } 2 105 فَدَلَّ بِذَلِك أَنَّ الَّذِي عَاتَبَهُمْ عَلَيْهِ مِمَّا يَسُرّ الْيَهُود وَالْمُشْرِكِينَ . فَأَمَّا التَّأْوِيل الَّذِي حُكِيَ عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { رَاعِنَا } أَنَّهُ بِمَعْنَى خِلَافًا , فَمِمَّا لَا يُعْقَل فِي كَلَام الْعَرَب ; لِأَنَّ " رَاعَيْت " فِي كَلَام الْعَرَب إنَّمَا هُوَ عَلَى أَحَد وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا بِمَعْنَى فَاعَلْت مِنْ " الرَّعِيَّة " , وَهِيَ الرَّقَبَة وَالْكِلَاءَة . وَالْآخَر بِمَعْنَى إفْرَاغ السَّمْع , بِمَعْنَى أَرْعَيْته سَمْعِي . وَأَمَّا " رَاعَيْت " بِمَعْنَى " خَالَفْت " , فَلَا وَجْه لَهُ مَفْهُوم فِي كَلَام الْعَرَب , إلَّا أَنْ يَكُون قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّنْوِينِ ثُمَّ وَجْهه إلَى مَعْنَى الرُّعُونَة وَالْجَهْل وَالْخَطَأ , عَلَى النَّحْو الَّذِي قَالَ فِي ذَلِكَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد , فَيَكُون لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قِرَاءَة الْقُرَّاء مَعْنَى مَفْهُوم حِينَئِذٍ . وَأَمَّا الْقَوْل الْآخَر الَّذِي حُكِيَ عَنْ عَطِيَّة وَمَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ , أَنَّ قَوْله : { رَاعِنَا } كَانَتْ كَلِمَة لِلْيَهُودِ بِمَعْنَى السَّبّ وَالسُّخْرِيَّة , فَاسْتَعْمَلَهَا الْمُؤْمِنُونَ أَخْذًا مِنْهُمْ ذَلِكَ عَنْهُمْ ; فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْر جَائِز فِي صِفَة الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كَلَام أَهْل الشِّرْك كَلَامًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ ثُمَّ يَسْتَعْمِلُونَهُ بَيْنهمْ وَفِي خِطَاب نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَكِنَّهُ جَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ مِمَّا رُوِيَ عَنْ قَتَادَة أَنَّهَا كَانَتْ كَلِمَة صَحِيحَة مَفْهُومَة مِنْ كَلَام الْعَرَب وَافَقَتْ كَلِمَة مِنْ كَلَام الْيَهُود بِغَيْرِ اللِّسَان الْعَرَبِيّ هِيَ عِنْد الْيَهُود سَبّ , وَهِيَ عِنْد الْعَرَب : أَرْعِنِي سَمْعك وَفَرِّغْهُ لِتَفْهَم عَنِّي . فَعَلِمَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ مَعْنَى الْيَهُود فِي قَيْلهمْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّ مَعْنَاهَا مِنْهُمْ خِلَاف مَعْنَاهَا فِي كَلَام الْعَرَب , فَنَهَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَيْلهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَجْتَرِئ مَنْ كَانَ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ غَيْر مَعْنَى الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ أَنْ يُخَاطِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ . وَهَذَا تَأْوِيل لَمْ يَأْتِ الْخَبَر بِأَنَّهُ كَذَلِكَ مِنْ الْوَجْه الَّذِي تَقُوم بِهِ الْحُجَّة . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَة مَا وَصَفْنَا , إذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِر الْمَفْهُوم بِالْآيَةِ دُون غَيْره . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ : { لَا تَقُولُوا رَاعِنًا } بِالتَّنْوِينِ , بِمَعْنَى : لَا تَقُولُوا قَوْلًا رَاعِنًا , مِنْ الرُّعُونَة وَهِيَ الْحُمْق وَالْجَهْل . وَهَذِهِ قِرَاءَة لِقُرَّاءِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفَة , فَغَيْر جَائِز لِأَحَدِ الْقِرَاءَة بِهَا لِشُذُوذِهَا وَخُرُوجهَا مِنْ قِرَاءَة الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَخِلَافهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْحُجَّة مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمِنْ نُون " رَاعِنَا " نُونه بِقَوْلِهِ : { لَا تَقُولُوا } لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَامِل فِيهِ . وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنهُ فَإِنَّهُ تَرَكَ تَنْوِينَهُ لِأَنَّهُ أَمْر مَحْكِيّ ; لِأَنَّ الْقَوْم كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَاعِنَا } بِمَعْنَى مَسْأَلَته ; إمَّا أَنْ يُرْعِيَهُمْ سَمْعه , وَإِمَّا أَنْ يَرْعَاهُمْ وَيَرْقُبهُمْ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْت فِيمَا قَدْ مَضَى ; فَقِيلَ لَهُمْ : لَا تَقُولُوا فِي مَسْأَلَتكُمْ إيَّاهُ رَاعِنَا . فَتَكُون الدَّلَالَة عَلَى مَعْنَى الْأَمْر فِي " رَاعِنَا " حِينَئِذٍ سُقُوط الْيَاء الَّتِي كَانَتْ تَكُون فِي " يُرَاعِيه " . وَيَدُلّ عَلَيْهَا - أَعْنِي عَلَى الْيَاء السَّاقِطَة - كَسْرَة الْعَيْن مِنْ " رَاعِنَا " . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قِرَاءَة ابْن مَسْعُود : { لَا تَقُولُوا رَاعُونَا } بِمَعْنَى حِكَايَة أَمْر صَالِحَة لِجَمَاعَةِ بِمُرَاعَاتِهِمْ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَته صَحِيحًا وَجْه أَنْ يَكُون الْقَوْم كَأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ اسْتِعْمَال ذَلِكَ بَيْنهمْ فِي خِطَاب بَعْضهمْ بَعْضًا كَانَ خِطَابهمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِغَيْرِهِ , وَلَا نَعْلَم ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْ الْوَجْه الَّذِي تَصِحّ مِنْهُ الْأَخْبَار .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } وَقُولُوا يَا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : انْتَظِرْنَا وَارْقُبْنَا نَفْهَم وَنَتَبَيَّن مَا تَقُول لَنَا وَتُعَلِّمنَا . كَمَا : 1446 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } فَهِّمْنَا بَيِّن لَنَا يَا مُحَمَّد . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } فَهِّمْنَا بَيِّن لَنَا يَا مُحَمَّد . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . يُقَال مِنْهُ : نَظَرْت الرَّجُل أَنْظُرهُ نَظْرَة بِمَعْنَى انْتَظَرْته وَرَقَبْته . وَمِنْهُ قَوْل الْحُطَيْئَة : وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أَعْشَاء صَادِرَة لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا حَوْزِي وَتَنْسَاسِي وَمِنْهُ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { يَوْم يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُوركُمْ } 59 13 يَعْنِي بِهِ انْتَظِرُونَا . وَقَدْ قُرِئَ { أَنْظِرْنَا } بِقَطْعِ الْأَلِف فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا , فَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَرَادَ أَخِّرْنَا , كَمَا قَالَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { قَالَ رَبّ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْم يُبْعَثُونَ } 38 79 أَيْ أَخِّرْنِي . وَلَا وَجْه لِقِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِع ; لِأَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أُمِرُوا بِالدُّنُوِّ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِمَاع مِنْهُ وَإِلْطَاف الْخِطَاب لَهُ وَخَفْض الْجُنَاح , لَا بِالتَّأَخُّرِ عَنْهُ وَلَا بِمَسْأَلَتِهِ تَأْخِيرهمْ عَنْهُ . فَالصَّوَاب إنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ مِنْ الْقِرَاءَة قِرَاءَة مَنْ وَصَلَ الْأَلِف مِنْ قَوْله : { اُنْظُرْنَا } وَلَمْ يَقْطَعهَا بِمَعْنَى انْتَظِرْنَا . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى { أَنْظِرْنَا } بِقُطْعِ الْأَلِف بِمَعْنَى " أَمْهِلْنَا " , حُكِيَ عَنْ بَعْض الْعَرَب سَمَاعًا : أَنْظِرْنِي أُكَلِّمك ; وَذَكَرَ سَامِع ذَلِكَ مِنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ اسْتَثْبَتَهُ فِي مَعْنَاهُ , فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَمْهِلْنِي . فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ صَحِيحًا عَنْهُمْ ف " اُنْظُرْ " و " أَنْظِرْنَا " بِقَطْعِ الْأَلِف وَوَصْلهَا مُتَقَارِبًا الْمَعْنَى . غَيْر أَنَّ الْأَمْر وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ , فَإِنَّ الْقِرَاءَة الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرهَا قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : { وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } بِوَصْلِ الْأَلِف بِمَعْنَى انْتَظِرْنَا , لِإِجْمَاعِ الْحُجَّة عَلَى تَصْوِيبهَا وَرَفْضهمْ غَيْرهَا مِنْ الْقِرَاءَات .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاسْمَعُوا } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَاسْمَعُوا } وَاسْمَعُوا مَا يُقَال لَكُمْ وَيُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَاب رَبّكُمْ وَعُوهُ وَافْهَمُوهُ . كَمَا : 1447 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَاسْمَعُوا } اسْمَعُوا مَا يُقَال لَكُمْ . فَمَعْنَى الْآيَة إذًا : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا لِنَبِيِّكُمْ رَاعِنَا سَمْعك وَفَرِّغْهُ لَنَا نَفْهَمك وَتَفْهَم عَنَّا مَا نَقُول , وَلَكِنْ قُولُوا انْتَظِرْنَا وَتَرَقَّبْنَا حَتَّى نَفْهَم عَنْك مَا تَعَلَّمْنَا وَتُبَيِّنهُ لَنَا , وَاسْمَعُوا مِنْهُ مَا يَقُول لَكُمْ فَعُوهُ وَاحْفَظُوهُ وَافْهَمُوهُ .

ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ لِمَنْ جَحَدَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرهمْ آيَاته وَخَالَفَ أَمْره وَنَهْيه وَكَذَّبَ رَسُوله الْعَذَاب الْمُوجِع فِي الْآخِرَة , فَقَالَ : وَلِلْكَافِرِينَ بِي وَبِرَسُولِي عَذَاب أَلِيم , يَعْنِي بِقَوْلِهِ الْأَلِيم : الْمُوجِع . وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَالَة عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْل وَمَا فِيهِ مِنْ الْآثَار .
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِسورة البقرة الآية رقم 105
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مَا يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبّكُمْ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { مَا يَوَدّ } مَا يُحِبّ , أَيْ لَيْسَ يُحِبّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب , يُقَال مِنْهُ : وَدَّ فُلَان كَذَا يَوَدّ وَدًّا وَوُدًّا وَمَوَدَّة . وَأَمَّا " الْمُشْرِكِينَ " فَإِنَّهُمْ فِي مَوْضِع خَفْض بِالْعَطْفِ عَلَى أَهْل الْكِتَاب . وَمَعْنَى الْكَلَام : مَا يُحِبّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبّكُمْ . وَأَمَّا { أَنْ } فِي قَوْله : { أَنْ يُنَزَّل } فَنُصِبَ بِقَوْلِهِ : { يَوَدّ } . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وَجْه دُخُول " مِنْ " فِي قَوْله : { مِنْ خَيْر } وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ مِنْ الْكَلَام الَّذِي يَكُون فِي أَوَّله جَحَدَ فِيمَا مَضَى , فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع . فَتَأْوِيل الْكَلَام : مَا يُحِبّ الْكَافِرُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَلَا الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ الْخَيْر الَّذِي كَانَ عِنْد اللَّه فَنَزَّلَهُمْ عَلَيْكُمْ . فَتَمَنَّى الْمُشْرِكُونَ وَكَفَرَة أَهْل الْكِتَاب أَنْ لَا يُنَزِّل اللَّه عَلَيْهِمْ الْفُرْقَان وَمَا أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُكْمه وَآيَاته , وَإِنَّمَا أَحَبَّتْ الْيَهُود وَأَتْبَاعهمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ حَسَدًا وَبَغْيًا مِنْهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلَالَة بَيِّنَة عَلَى أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الرُّكُون إلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكِينَ , وَالِاسْتِمَاع مِنْ قَوْلهمْ وَقَبُول شَيْء مِمَّا يَأْتُونَهُمْ بِهِ , عَلَى وَجْه النَّصِيحَة لَهُمْ مِنْهُمْ ; بِإِطْلَاعِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ إيَّاهُمْ عَلَى مَا يَسْتَبْطِنهُ لَهُمْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ الضَّغَن وَالْحَسَد وَإِنْ أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ خِلَاف مَا هُمْ مُسْتَبْطِنُونَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّه يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَاَللَّه يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء } وَاَللَّه يَخْتَصّ مَنْ يَشَاء بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَته فَيُرْسِلهُ إلَى مَنْ يَشَاء مِنْ خَلْقه , فَيَتَفَضَّل بِالْإِيمَانِ عَلَى مَنْ أَحَبَّ فَيُهْدِيه لَهُ . وَاخْتِصَاصه إيَّاهُمْ بِهَا إفْرَادهمْ بِهَا دُون غَيْرهمْ مِنْ خَلْقه . وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّه رِسَالَته إلَى مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقه وَهِدَايَته مَنْ هَدَى مِنْ عِبَاده رَحْمَة مِنْهُ لَهُ لِيُصَيِّرهُ بِهَا إلَى رِضَاهُ وَمَحَبَّته , وَفَوْزه بِهَا بِالْجَنَّةِ وَاسْتِحْقَاقه بِهَا ثَنَاءَهُ ; وَكُلّ ذَلِكَ رَحْمَة مِنْ اللَّه لَهُ . وَفِي قَوْله : { وَاَللَّه يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء وَاَللَّه ذُو الْفَضْل الْعَظِيم } تَعْرِيض مِنْ اللَّه تَعَالَى ذَكَره بِأَهْلِ الْكِتَاب أَنَّ الَّذِي آتَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ الْهِدَايَة تَفَضُّلًا مِنْهُ , وَأَنَّ نِعَمه لَا تُدْرَك بِالْأَمَانِيِّ وَلَكِنَّهَا مَوَاهِب مِنْهُ يَخْتَصّ بِهَا مَنْ يَشَاء مِنْ خَلْقه .

وَأَمَّا قَوْله : { وَاَللَّه ذُو الْفَضْل الْعَظِيم } فَإِنَّهُ خَبَر مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَنْ أَنَّ كُلّ خَيْر نَالَهُ عِبَاده فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُ مِنْ عِنْده ابْتِدَاء وَتَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْر اسْتِحْقَاق مِنْهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 106
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } إلَى غَيْره , فَنُبَدِّلهُ وَنُغَيِّرهُ . وَذَلِك أَنْ يُحَوِّل الْحَلَال حَرَامًا وَالْحَرَام حَلَالًا , وَالْمُبَاح مَحْظُورًا وَالْمَحْظُور مُبَاحًا ; وَلَا يَكُون ذَلِكَ إلَّا فِي الْأَمْر وَالنَّهْي وَالْحَظْر وَالْإِطْلَاق وَالْمَنْع وَالْإِبَاحَة , فَأَمَّا الْأَخْبَار فَلَا يَكُون فِيهَا نَاسِخ وَلَا مَنْسُوخ . وَأَصْل النَّسْخ مِنْ " نَسْخ الْكِتَاب " وَهُوَ نَقْله مِنْ نُسْخَة إلَى أُخْرَى غَيْرهَا , فَكَذَلِكَ مَعْنَى نَسْخ الْحُكْم إلَى غَيْره إنَّمَا هُوَ تَحْوِيله وَنَقْل عِبَارَته عَنْهُ إلَى غَيْره . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى نَسْخ الْآيَة فَسَوَاء - إذَا نُسِخَ حُكْمهَا فَغُيِّرَ وَبُدِّلَ فَرْضهَا وَنُقِلَ فَرْض الْعِبَاد عَنْ اللَّازِم كَانَ لَهُمْ بِهَا - أَأُقِرُّ خَطّهَا فَتُرِكَ , أَوْ مُحِيَ أَثَرهَا , فَعُفِيَ وَنُسِيَ , إذْ هِيَ حِينَئِذٍ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَة . وَالْحُكْم الْحَادِث الْمُبَدَّل بِهِ الْحُكْم الْأَوَّل وَالْمَنْقُول إلَيْهِ فَرْض الْعِبَاد هُوَ النَّاسِخ , يُقَال مِنْهُ : نَسَخَ اللَّه آيَة كَذَا وَكَذَا يَنْسَخهُ نَسْخًا , وَالنُّسْخَة الِاسْم . وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ يَقُول . 1448 - حَدَّثَنَا سَوَّار بْن عَبْد اللَّه الْعَنْبَرِيّ , قَالَ : ثنا خَالِد بْن الْحَارِث , قَالَ : ثنا عَوْف , عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا } قَالَ : إنَّ نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقْرِئ قُرْآنًا ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَا يَكُنْ شَيْئًا , وَمِنْ الْقُرْآن مَا قَدْ نُسِخَ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَهُ . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : { مَا نَنْسَخ } فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 1449 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن عَمَّار , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } أَمَّا نَسْخهَا فَقَبْضهَا . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1450 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } يَقُول : مَا نُبَدِّل مِنْ آيَة . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1451 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ أَصْحَاب عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُمْ قَالُوا : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } نُثْبِت خَطّهَا وَنُبَدِّل حُكْمهَا . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } نُثْبِت خَطّهَا , وَنُبَدِّل حُكْمهَا , حُدِّثْت بِهِ عَنْ أَصْحَاب ابْن مَسْعُود . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي بَكْر بْن شَوْذَب , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ أَصْحَاب ابْن مَسْعُود : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } نُثْبِت خَطّهَا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَوْ نُنْسِهَا } . اخْتَلَفَتْ الْقِرَاءَة فِي قَوْله ذَلِكَ , فَقَرَأَهَا قُرَّاء أَهْل الْمَدِينَة وَالْكُوفَة : { أَوْ نُنْسِهَا } وَلِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ وَجْهَانِ مِنْ التَّأْوِيل , أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون تَأْوِيله : مَا نَنْسَخ يَا مُحَمَّد مِنْ آيَة فَنُغَيِّر حُكْمهَا أَوْ نُنْسِهَا . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه : { مَا نُنْسِك مِنْ آيَة أَوْ نَنْسَخهَا نَجِئْ بِمِثْلِهَا } , فَذَلِكَ تَأْوِيل النِّسْيَان . وَبِهَذَا التَّأْوِيل قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1452 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا } كَانَ يَنْسَخ الْآيَة بِالْآيَةِ بَعْدهَا , وَيَقْرَأ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَة أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ تُنْسَى وَتُرْفَع . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا } قَالَ : كَانَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره يُنْسِي نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ وَيَنْسَخ مَا شَاءَ . 1453 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : كَانَ عُبَيْد بْن عُمَيْر يَقُول : { نُنْسِهَا } نَرْفَعهَا مِنْ عِنْدكُمْ . 1454 - حَدَّثَنَا سَوَّار بْن عَبْد اللَّه , قَالَ : ثنا خَالِد بْن الْحَارِث , قَالَ : ثنا عَوْف , عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله : { أَوْ نُنْسِهَا } قَالَ : إنَّ نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقْرِئَ قُرْآنًا , ثُمَّ نَسِيَهُ . وَكَذَلِك كَانَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص يَتَأَوَّل الْآيَة إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا : { أَوْ تَنْسَهَا } بِمَعْنَى الْخِطَاب لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَأَنَّهُ عَنَى أَوْ تَنْسَهَا أَنْت يَا مُحَمَّد . ذِكْر الْأَخْبَار بِذَلِكَ : 1455 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْن عَطَاء , عَنْ الْقَاسِم , قَالَ : سَمِعْت سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص يَقُول : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ تَنْسَهَا } قُلْت لَهُ : فَإِنَّ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقْرَؤُهَا : { أَوْ تَنْسَهَا } قَالَ : فَقَالَ سَعْد : إنَّ الْقُرْآن لَمْ يَنْزِل عَلَى الْمُسَيِّب وَلَا عَلَى آل الْمُسَيِّب , قَالَ اللَّه : { سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى } 87 6 { وَاذْكُرْ رَبّك إذَا نَسِيت } . 18 24 * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا هُشَيْم , قَالَ : ثنا يَعْلَى بْن عَطَاء , قَالَ : ثنا الْقَاسِم بْن رَبِيعَة بْن قَانِف الثَّقَفِيّ , قَالَ : سَمِعْت ابْن أَبِي وَقَّاص يَذْكُر نَحْوه . * حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى وَآدَم الْعَسْقَلَانِيّ قَالَا جَمِيعًا , عَنْ شُعْبَة , عَنْ يَعْلَى بْن عَطَاء , قَالَ : سَمِعْت الْقَاسِم بْن رَبِيعَة الثَّقَفِيّ يَقُول : قُلْت لِسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاص : إنِّي سَمِعْت ابْن الْمُسَيِّب يَقْرَأ : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ تَنْسَهَا } فَقَالَ سَعْد : إنَّ اللَّه لَمْ يُنْزِل الْقُرْآن عَلَى الْمُسَيِّب وَلَا عَلَى ابْنه , إنَّمَا هِيَ : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ تَنْسَهَا } يَا مُحَمَّد . ثُمَّ قَرَأَ : { سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى } 87 6 { وَاذْكُرْ رَبّك إذَا نَسِيت } . 18 24 1456 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا } يَقُول : نُنْسِهَا : نَرْفَعهَا ; وَكَانَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ أُمُورًا مِنْ الْقُرْآن ثُمَّ رَفَعَهَا . وَالْوَجْه الْآخَر مِنْهُمَا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى التَّرْك , مِنْ قَوْل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ } 9 67 يَعْنِي بِهِ تَرَكُوا اللَّه فَتَرَكَهُمْ . فَيَكُون تَأْوِيل الْآيَة حِينَئِذٍ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل : مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة فَنُغَيِّر حُكْمهَا وَنُبَدِّل فَرْضهَا نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْ الَّتِي نَسَخْنَاهَا أَوْ مِثْلهَا . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل تَأَوَّلَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1457 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { أَوْ نُنْسِهَا } يَقُول : أَوْ نَتْرُكهَا لَا نُبَدِّلهَا . 1458 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ قَوْله : { أَوْ نُنْسِهَا } نَتْرُكهَا لَا نَنْسَخهَا . 1459 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا } قَالَ : النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ . قَالَ : وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد يَقُول فِي ذَلِكَ مَا : 1460 - حَدَّثَنِي بِهِ يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { نُنْسِهَا } نَمْحُهَا . وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ : { أَوْ نَنْسَأهَا } بِفَتْحِ النُّون وَهَمْزَة بَعْد السِّين بِمَعْنَى نُؤَخِّرهَا , مِنْ قَوْلك : نَسَأْت هَذَا الْأَمْر أَنْسَؤُهُ نَسَأَ وَنَسَاء إذَا أَخَّرْته , وَهُوَ مِنْ قَوْلهمْ : بِعْته بِنَسَاءِ , يَعْنِي بِتَأْخِيرِ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل طَرَفَة بْن الْعَبْد : لَعُمْرك إنَّ الْمَوْت مَا أَنْسَأَ الْفَتَى لَكَالطَّوْلِ الْمُرْخَى وَثَنَيَاهُ بِالْيَدِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَنْسَأَ : أَخَّرَ . وَمِمَّنْ قَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَقَرَأَهُ جَمَاعَة مِنْ قُرَّاء الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ , وَتَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ جِمَاع مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1461 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , وَيَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَا : ثنا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الْمَلِك . عَنْ عَطَاء فِي قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نَنْسَأهَا } قَالَ : نُؤَخِّرهَا . 1462 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , قَالَ : سَمِعْت ابْن أَبِي نَجِيح , يَقُول فِي قَوْل اللَّه : { أَوْ نَنْسَأهَا } قَالَ : نُرْجِئهَا . 1463 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { أَوْ نَنْسَأهَا } نُرْجِئهَا وَنُؤَخِّرهَا . 1464 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : ثنا فُضَيْل , عَنْ عَطِيَّة : { أَوْ نَنْسَأهَا } قَالَ : نُؤَخِّرهَا فَلَا نَنْسَخهَا . 1465 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن كَثِير عَنْ عُبَيْد الْأَزْدِيّ , عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر { أَوْ نَنْسَأهَا } إرْجَاؤُهَا وَتَأْخِيرهَا . هَكَذَا حَدَّثَنَا الْقَاسِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَثِير , عَنْ عُبَيْد الْأَزْدِيّ . وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ عَلِيّ الْأَزْدِيّ . * حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن يُوسُف , قَالَ : ثنا الْقَاسِم بْن سَلَّام , قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَثِير , عَنْ عَلِيّ الْأَزْدِيّ , عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر أَنَّهُ قَرَأَهَا : { نَنْسَأهَا } . قَالَ : فَتَأْوِيل مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ : مَا نُبَدِّل مِنْ آيَة أَنْزَلْنَاهَا إلَيْك يَا مُحَمَّد , فَنُبْطِل حُكْمهَا وَنُثْبِت خَطّهَا , أَوْ نُؤَخِّرهَا فَنُرْجِئهَا وَنُقِرّهَا فَلَا نُغَيِّرهَا وَلَا نُبْطِل حُكْمهَا ; نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا . وَقَدْ قَرَأَ بَعْضهمْ ذَلِكَ : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ تَنْسَهَا } وَتَأْوِيل هَذِهِ الْقِرَاءَة نَظِير تَأْوِيل قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ { أَوْ نُنْسِهَا } إلَّا أَنَّ مَعْنَى { أَوْ نُنْسِهَا } أَنْت يَا مُحَمَّد . وَقَدْ قَرَأَ بَعْضهمْ : { مَا نُنْسِخ مِنْ آيَة } بِضَمِّ النُّون وَكَسْر السِّين , بِمَعْنَى : مَا نَنْسَخَك يَا مُحَمَّد نَحْنُ مِنْ آيَة , مِنْ أَنْسَخْتُك فَأَنَا أَنْسَخُك . وَذَلِك خَطَأ مِنْ الْقِرَاءَة عِنْدنَا لِخُرُوجِهِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْحُجَّة مِنْ الْقِرَاءَة بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيض . وَكَذَلِك قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ { تُنْسَهَا } أَوْ { تُنْسَهَا } لِشُذُوذِهَا وَخُرُوجهَا عَنْ الْقِرَاءَة الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْحُجَّة مِنْ قُرَّاء الْأُمَّة . وَأُولَى الْقِرَاءَات فِي قَوْله : { أَوْ نُنْسِهَا } بِالصَّوَابِ مَنْ قَرَأَ : { أَوْ نُنْسِهَا } , بِمَعْنَى نَتْرُكهَا ; لِأَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَهْمَا بَدَّلَ حُكْمًا أَوْ غَيَّرَهُ أَوْ لَمْ يُبَدِّلهُ وَلَمْ يُغَيِّرهُ , فَهُوَ آتِيه بِخَيْرِ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِهِ . فَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْآيَةِ إذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهَا , أَنْ يَكُون إذْ قَدِمَ الْخَبَر عَمَّا هُوَ صَانِع إذَا هُوَ غَيَّرَ وَبَدَّلَ حُكْم آيَة أَنْ يُعْقِب ذَلِكَ بِالْخَبَرِ عَمَّا هُوَ صَانِع , إذَا هُوَ لَمْ يُبَدِّل ذَلِكَ وَلَمْ يُغَيِّر . فَالْخَبَر الَّذِي يَجِب أَنْ يَكُون عَقِيب قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } قَوْله : أَوْ نَتْرُك نَسْخهَا , إذْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْرُوف الْجَارِي فِي كَلَام النَّاس . مَعَ أَنَّ ذَلِكَ إذَا قُرِئَ كَذَلِكَ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْت , فَهُوَ يَشْتَمِل عَلَى مَعْنَى الْإِنْسَاء الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّرْك , وَمَعْنَى النَّسَاء الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّأْخِير , إذْ كَانَ كُلّ مَتْرُوك فَمُؤَخَّر عَلَى حَال مَا هُوَ مَتْرُوك . وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْم قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : { أَوْ تُنْسَهَا } إذَا عُنِيَ بِهِ النِّسْيَان , وَقَالُوا : غَيْر جَائِز أَنْ يَكُون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسِيَ مِنْ الْقُرْآن شَيْئًا مِمَّا لَمْ يُنْسَخ إلَّا أَنْ يَكُون نَسَى مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ ذَكَرَهُ . قَالُوا : وَبَعْد , فَإِنَّهُ لَوْ نَسِيَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ قَرَءُوهُ وَحَفِظُوهُ مِنْ أَصْحَابه بِجَائِزِ عَلَى جَمِيعهمْ أَنْ يَنْسَوْهُ . قَالُوا : وَفِي قَوْل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك } 17 86 مَا يُنْبِئ عَنْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره لَمْ يُنْسِ نَبِيّه شَيْئًا مِمَّا آتَاهُ مِنْ الْعِلْم . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا قَوْل يَشْهَد عَلَى بُطُوله وَفَسَاده الْأَخْبَار الْمُتَظَاهِرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا . 1466 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَالَ : حَدَّثَنَا أَنَس بْن مَالِك : إنَّ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَار الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَة قَرَأْنَا بِهِمْ وَفِيهِمْ كِتَابًا : " بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمنَا أَنَّا لَقِينَا رَبّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا " . ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ رُفِعَ . فَاَلَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ : " لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَم وَادِيَيْنِ مِنْ مَال لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا , وَلَا يَمْلَأ جَوْف ابْن آدَم إلَّا التُّرَاب , وَيَتُوب اللَّه عَلَى مَنْ تَابَ " ثُمَّ رُفِعَ ; وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَار الَّتِي يَطُول بِإِحْصَائِهَا الْكِتَاب . وَغَيْر مُسْتَحِيل فِي فِطْرَة ذِي عَقْل صَحِيح وَلَا بِحُجَّةِ خَبَر أَنْ يُنْسِي اللَّه نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْض مَا قَدْ كَانَ أَنْزَلَهُ إلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْر مُسْتَحِيل مِنْ أَحَد هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ , فَغَيْر جَائِز لِقَائِلِ أَنْ يَقُول ذَلِكَ غَيْر جَائِز . وَأَمَّا قَوْله : { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك } فَإِنَّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُخْبِر أَنَّهُ لَا يَذْهَب بِشَيْءِ مِنْهُ , وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِجَمِيعِهِ , فَلَمْ يَذْهَب بِهِ وَالْحَمْد لِلَّهِ ; بَلْ إنَّمَا ذَهَبَ بِمَا لَا حَاجَة بِهِمْ إلَيْهِ مِنْهُ , وَذَلِك أَنَّ مَا نُسِخَ مِنْهُ فَلَا حَاجَة بِالْعِبَادِ إلَيْهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلَّا مَا شَاءَ اللَّه } 87 6 - 7 فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنْسِي نَبِيّه مِنْهُ مَا شَاءَ , فَاَلَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ اللَّه . فَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنْ التَّأْوِيل طَلَب اتِّسَاق الْكَلَام عَلَى نِظَام فِي الْمَعْنَى , لَا إنْكَار أَنْ يَكُون اللَّه تَعَالَى ذِكْره قَدْ كَانَ أَنْسَى نَبِيّه بَعْض مَا نُسِخَ مِنْ وَحْيه إلَيْهِ وَتَنْزِيله .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا } . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : { نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا } , فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 1467 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا } يَقُول : خَيْر لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَة وَأَرْفَق بِكُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1468 - حَدَّثَنِي بِهِ الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا } يَقُول : آيَة فِيهَا تَخْفِيف , فِيهَا رَحْمَة , فِيهَا أَمْر , فِيهَا نَهْي . وَقَالَ آخَرُونَ : نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْ الَّتِي نَسَخْنَاهَا , أَوْ بِخَيْرِ مِنْ الَّتِي تَرَكْنَاهَا فَلَمْ نَنْسَخهَا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1469 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا } يَقُول : نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْ الَّتِي نَسَخْنَاهَا أَوْ مِثْلهَا أَوْ مِثْل الَّتِي تَرَكْنَاهَا . فَالْهَاء وَالْأَلِف اللَّتَانِ فِي قَوْله : { مِنْهَا } عَائِدَتَانِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَة عَلَى الْآيَة فِي قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } وَالْهَاء وَالْأَلِف اللَّتَانِ فِي قَوْله : { أَوْ مِثْلهَا } عَائِدَتَانِ عَلَى الْهَاء وَالْأَلِف اللَّتَيْنِ فِي قَوْله : { أَوْ نُنْسِهَا } . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1470 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : كَانَ عُبَيْد بْن عُمَيْر يَقُول : { نُنْسِهَا } نَرْفَعهَا مِنْ عِنْدكُمْ , نَأْتِ بِمِثْلِهَا أَوْ خَيْر مِنْهَا . 1471 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { أَوْ نُنْسِهَا } نَرْفَعهَا نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ بِمِثْلِهَا . 1472 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا بَكْر بْن شَوْذَب , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ أَصْحَاب ابْن مَسْعُود , مِثْله . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدنَا : مَا نُبَدِّل مِنْ حُكْم آيَة فَنُغَيِّرهُ أَوْ نَتْرُك تَبْدِيله فَنُقِرّهُ بِحَالِهِ , نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا لَكُمْ مِنْ حُكْم الْآيَة الَّتِي نَسَخْنَا فَغَيَّرْنَا حُكْمهَا , إمَّا فِي الْعَاجِل لِخَفَّتِهِ عَلَيْكُمْ , مِنْ أَجْل أَنَّهُ وَضْع فَرْض كَانَ عَلَيْكُمْ فَأَسْقَطَ ثِقَله عَنْكُمْ , وَذَلِكَ كَاَلَّذِي كَانَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ فَرْض قِيَام اللَّيْل , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَوُضِعَ عَنْهُمْ , فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ فِي عَاجِلهمْ لِسُقُوطِ عِبْء ذَلِكَ وَثِقَل حَمْله عَنْهُمْ ; وَإِمَّا فِي الْآجِل لِعِظَمِ ثَوَابه مِنْ أَجْل مَشَقَّة حَمْله وَثِقَل عِبْئِهِ عَلَى الْأَبْدَان , كَاَلَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ صِيَام أَيَّام مَعْدُودَات فِي السَّنَة , فَنُسِخَ وَفُرِضَ عَلَيْهِمْ مَكَانه صَوْم شَهْر كَامِل فِي كُلّ حَوْل , فَكَانَ فَرْض صَوْم شَهْر كَامِل كُلّ سَنَة أَثْقَل عَلَى الْأَبْدَان مِنْ صِيَام أَيَّام مَعْدُودَات . غَيْر أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ , فَالثَّوَاب عَلَيْهِ أَجْزَل وَالْأَجْر عَلَيْهِ أَكْثَر , لِفَضْلِ مَشَقَّته عَلَى مُكَلَّفِيهِ مِنْ صَوْم أَيَّام مَعْدُودَات , فَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَبْدَان أَشَقّ فَهُوَ خَيْر مِنْ الْأَوَّل فِي الْآجِل لِفَضْلِ ثَوَابه وَعِظَم أَجْره الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِثْله لِصَوْمِ الْأَيَّام الْمَعْدُودَات . فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله : { نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا } لِأَنَّهُ إمَّا بِخَيْرِ مِنْهَا فِي الْعَاجِل لِخَفَّتِهِ عَلَى مَنْ كُلِّفَهُ , أَوْ فِي الْآجِل لِعِظَمِ ثَوَابه وَكَثْرَة أَجْره . أَوْ يَكُون مِثْلهَا فِي الْمَشَقَّة عَلَى الْبَدَن وَاسْتِوَاء الْأَجْر وَالثَّوَاب عَلَيْهِ , نَظِير نَسْخ اللَّه تَعَالَى ذِكْره فَرْض الصَّلَاة شَطْر بَيْت الْمَقْدِس إلَى فَرْضهَا شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام . فَالتَّوَجُّه شَطْر بَيْت الْمَقْدِس , وَإِنْ خَالَفَ التَّوَجُّه شَطْر الْمَسْجِد , فَكُلْفَة التَّوَجُّه شَطْر أَيّهمَا تَوَجَّهَ شَطْره وَاحِدَة ; لِأَنَّ الَّذِي عَلَى الْمُتَوَجِّه شَطْر الْبَيْت الْمُقَدَّس مِنْ مُؤْنَة تَوَجُّهه شَطْره , نَظِير الَّذِي عَلَى بَدَنه مُؤْنَة تَوَجُّهه شَطْر الْكَعْبَة سَوَاء . فَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْمِثْل الَّذِي قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { أَوْ مِثْلهَا } . وَإِنَّمَا عَنَى جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا } مَا نَنْسَخ مِنْ حُكْم آيَة أَوْ نُنْسِهِ . غَيْر أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ لَمَّا كَانَ مَفْهُومًا عِنْدهمْ مَعْنَاهَا اُكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ ذِكْر الْآيَة مِنْ ذِكْر حُكْمهَا . وَذَلِك نَظِير سَائِر مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِره فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا , كَقَوْلِهِ : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل } 2 93 بِمَعْنَى حُبّ الْعِجْل وَنَحْو ذَلِكَ . فَتَأْوِيل الْآيَة إذًا : مَا نُغَيِّر مِنْ حُكْم آيَة فَنُبَدِّلهُ أَوْ نَتْرُكهُ فَلَا نُبَدِّلهُ , نَأْتِ بِخَيْرِ لَكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ حُكْمًا مِنْهَا , أَوْ مِثْل حُكْمهَا فِي الْخِفَّة وَالثِّقَل وَالْأَجْر وَالثَّوَاب . فَإِنَّ قَالَ قَائِل : فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِجْل لَا يُشْرَب فِي الْقُلُوب وَأَنَّهُ لَا يَلْتَبِس عَلَى مَنْ سَمِعَ قَوْله : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل } أَنَّ مَعْنَاهُ : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ حُبّ الْعِجْل , فَمَا الَّذِي يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا } لِذَلِكَ نَظِير ؟ قِيلَ : الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْله : { نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا } وَغَيْر جَائِز أَنْ يَكُون مِنْ الْقُرْآن شَيْء خَيْر مِنْ شَيْء ; لِأَنَّ جَمِيعه كَلَام اللَّه , وَلَا يَجُوز فِي صِفَات اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَنْ يُقَال بَعْضهَا أَفْضَل مِنْ بَعْض وَبَعْضهَا خَيْر مِنْ بَعْض .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } أَلَمْ تَعْلَم يَا مُحَمَّد أَنِّي قَادِر عَلَى تَعْوِيضك مِمَّا نَسَخْت مِنْ أَحْكَامِي وَغَيَّرْته مِنْ فَرَائِضِي الَّتِي كُنْت افْتَرَضْتهَا عَلَيْك مَا أَشَاء مِمَّا هُوَ خَيْر لَك وَلِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَعَك وَأَنْفَع لَك وَلَهُمْ , إمَّا عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا آجِلًا فِي الْآخِرَة . أَوْ بِأَنْ أُبَدِّل لَك وَلَهُمْ مَكَانه مِثْله فِي النَّفْع لَهُمْ عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا وَآجِلًا فِي الْآخِرَة وَشَبِيهه فِي الْخِفَّة عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ . فَاعْلَمْ يَا مُحَمَّد أَنِّي عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى كُلّ شَيْء قَدِير . وَمَعْنَى قَوْله : { قَدِير } فِي هَذَا الْمَوْضِع : قَوِيّ , يُقَال مِنْهُ : " قَدْ قَدَرْت عَلَى كَذَا وَكَذَا " . إذَا قَوِيت عَلَيْهِ " أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَقْدُرُ عَلَيْهِ قُدْرَة وَقِدْرَانًا وَمَقْدِرَة " . وَبَنُو مُرَّة مِنْ غَطَفَانَ تَقُول : " قَدِرْت عَلَيْهِ " بِكَسْرِ الدَّال . فَأَمَّا مِنْ التَّقْدِير مِنْ قَوْل الْقَائِل : " قَدَرْت الشَّيْء " فَإِنَّهُ يُقَال مِنْهُ : " قَدَرْته أَقْدِرُهُ قَدْرًا وَقَدَرًا " .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍسورة البقرة الآية رقم 107
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير } قَالَ أَبُو جَعْفَر : إنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَوَ لَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَم أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير وَأَنَّهُ لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض حَتَّى قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : بَلَى , فَقَدْ كَانَ بَعْضهمْ يَقُول : إنَّمَا ذَلِكَ مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ خَبَر عَنْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ ; وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الْكَلَام مَخْرَج التَّقْرِير كَمَا تَفْعَل مِثْله الْعَرَب فِي خِطَاب بَعْضهَا بَعْضًا , فَيَقُول أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : أَلَمْ أُكْرِمك ؟ أَلَمْ أَتَفَضَّل عَلَيْك ؟ بِمَعْنَى إخْبَاره أَنَّهُ قَدْ أَكْرَمه وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ , يُرِيد أَلَيْسَ قَدْ أَكْرَمْتُك ؟ أَلَيْسَ قَدْ تَفَضَّلْت عَلَيْك ؟ بِمَعْنَى قَدْ عَلِمْت ذَلِكَ . قَالَ : وَهَذَا لَا وَجْه لَهُ عِنْدنَا ; وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ { أَلَمْ تَعْلَم } إنَّمَا مَعْنَاهُ : أَمَا عَلِمْت . وَهُوَ حَرْف جَحْد أُدْخِل عَلَيْهِ حَرْف اسْتِفْهَام , وَحُرُوف الِاسْتِفْهَام إنَّمَا تَدْخُل فِي الْكَلَام إمَّا بِمَعْنَى الِاسْتِثْبَات , وَإِمَّا بِمَعْنَى النَّفْي . فَأَمَّا بِمَعْنَى الْإِثْبَات فَذَلِكَ غَيْر مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب , وَلَا سِيَّمَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى حُرُوف الْجَحْد ; وَلَكِنَّ ذَلِكَ عِنْدِي وَإِنْ كَانَ ظَهَرَ ظُهُور الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِنَّمَا هُوَ مَعْنِيّ بِهِ أَصْحَابه الَّذِينَ قَالَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } . وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير } فَعَادَ بِالْخِطَابِ فِي آخِر الْآيَة إلَى جَمِيعهمْ , وَقَدْ ابْتَدَأَ أَوَّلهَا بِخِطَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض } لِأَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ الَّذِينَ وَصَفْت أَمْرهمْ مِنْ أَصْحَابه , وَذَلِكَ مِنْ كَلَام الْعَرَب مُسْتَفِيض بَيْنهمْ فَصِيح , أَنْ يُخْرِج الْمُتَكَلِّم كَلَامه عَلَى وَجْه الْخِطَاب مِنْهُ لِبَعْضِ النَّاس وَهُوَ قَاصِد بِهِ غَيْره , وَعَلَى وَجْه الْخِطَاب لِوَاحِدِ وَهُوَ يَقْصِد بِهِ جَمَاعَة غَيْره , أَوْ جَمَاعَة وَالْمُخَاطَب بِهِ أَحَدهمْ ; وَعَلَى هَذَا الْخِطَاب لِلْجَمَاعَةِ وَالْمَقْصُود بِهِ أَحَدهمْ , مِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : { يَا أَيّهَا النَّبِيّ اتَّقِ اللَّه وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } ثُمَّ قَالَ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْك مِنْ رَبّك إنَّ اللَّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } 33 1 - 2 فَرَجَعَ إلَى خِطَاب الْجَمَاعَة , وَقَدْ ابْتَدَأَ الْكَلَام بِخِطَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَنَظِير ذَلِكَ قَوْل الْكُمَيْت بْن زَيْد فِي مَدْح رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَى السِّرَاج الْمُنِير أَحْمَد لَا يَعْدِلنِي رَغْبَة وَلَا رَهَب عَنْهُ إلَى غَيْره وَلَوْ رَفَعَ الن اس إلَيَّ الْعُيُون وَارْتَقَبُوا وَقِيلَ أَفْرَطْت بَلْ قَصَدْت وَلَوْ عَنَّفَنِي الْقَائِلُونَ أَوْ ثَلَبُوا لَجَّ بِتَفْضِيلِك اللِّسَان وَلَوْ أَكْثَر فِيك الضِّجَاج وَاللَّجَب أَنْت الْمُصَفِّي الْمَحْض الْمُهَذَّب فِي النِّ سْبَةِ إنْ نَصَّ قَوْمك النَّسَب فَأَخْرَجَ كَلَامه عَلَى وَجْه الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَاصِد بِذَلِكَ أَهْل بَيْته , فَكَنَّى عَنْ وَصْفهمْ وَمَدْحهمْ بِذِكْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ بَنِي أُمَيَّة بِالْقَائِلِينَ الْمُعَنِّفِينَ ; لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنَّهُ لَا أَحَد يُوصَف بِتَعْنِيفِ مَادِح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْضِيله , وَلَا بِإِكْثَارِ الضِّجَاج وَاللَّجَب فِي إطْنَاب الْقَيْل بِفَضْلِهِ . وَكَمَا قَالَ جَمِيل بْن مَعْمَر : أَلَا إنَّ جِيرَانِي الْعَشِيَّة رَائِح دَعَتْهُمْ دَوَاعٍ مِنْ هَوَى ومنادح فَقَالَ : " أَلَا إنَّ جِيرَانِي الْعَشِيَّة " فَابْتَدَأَ الْخَبَر عَنْ جَمَاعَة جِيرَانه , ثُمَّ قَالَ : " رَائِح " ; لِأَنَّ قَصْده فِي ابْتِدَائِهِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ كَلَامه الْخَبَر عَنْ وَاحِد مِنْهُمْ دُون جَمَاعَتهمْ . وَكَمَا قَالَ جَمِيل أَيْضًا فِي كَلِمَته الْأُخْرَى : خَلِيلِيَّ فِيمَا عِشْتُمَا هَلْ رَأَيْتُمَا قَتِيلًا بَكَى مِنْ حُبّ قَاتِله قَبْلِي وَهُوَ يُرِيد قَاتَلْته ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِف امْرَأَة فَكَنَّى بِاسْمِ الرَّجُل عَنْهَا وَهُوَ يَعْنِيهَا . فَكَذَلِكَ قَوْله : { أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } { أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض } وَإِنْ كَانَ ظَاهِر الْكَلَام عَلَى وَجْه الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِنَّهُ مَقْصُود بِهِ قَصْد أَصْحَابه ; وَذَلِكَ بَيِّن بِدَلَالَةِ قَوْله : { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } الْآيَات الثَّلَاث بَعْدهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ . أَمَّا قَوْله : { لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض } وَلَمْ يَقُلْ مَلِك السَّمَوَات , فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ مُلْك السُّلْطَان وَالْمَمْلَكَة دُون الْمِلْك , وَالْعَرَب إذَا أَرَادَتْ الْخَبَر عَنْ الْمَمْلَكَة الَّتِي هِيَ مَمْلَكَة سُلْطَان قَالَتْ : مَلَكَ اللَّهُ الْخَلْقَ مُلْكًا , وَإِذَا أَرَادَتْ الْخَبَر عَنْ الْمِلْك قَالَتْ : مَلَكَ فُلَان هَذَا الشَّيْء فَهُوَ يَمْلِكهُ مِلْكًا وَمَلَكَة وَمَلْكًا . فَتَأْوِيل الْآيَة إذَا : أَلَمْ تَعْلَم يَا مُحَمَّد أَنَّ لِي مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَسُلْطَانهمَا دُون غَيْرِي أَحْكُم فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا مَا أَشَاء وَآمُر فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاء , وَأَنْهَى عَمَّا أَشَاء , وَأَنْسَخ وَأُبَدِّل وَأُغَيِّر مِنْ أَحْكَامِي الَّتِي أَحْكُم بِهَا فِي عِبَادِي مَا أَشَاء إذَا أَشَاء , وَأُقِرّ مِنْهَا مَا أَشَاء ؟ وَهَذَا الْخَبَر وَإِنْ كَانَ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلّ خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْه الْخَبَر عَنْ عَظَمَته , فَإِنَّهُ مِنْهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيب لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نَسْخ أَحْكَام التَّوْرَاة وَجَحَدُوا نُبُوَّة عِيسَى , وَأَنْكَرُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِمَجِيئِهِمَا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه بِتَغْيِيرِ مَا غَيَّرَ اللَّه مِنْ حُكْم التَّوْرَاة . فَأَخْبَرَهُمْ اللَّه أَنَّ لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَسُلْطَانهمَا , فَإِنَّ الْخَلْق أَهْل مَمْلَكَته وَطَاعَته , عَلَيْهِمْ السَّمْع لَهُ وَالطَّاعَة لِأَمْرِهِ وَنَهْيه , وَإِنَّ لَهُ أَمْرهمْ بِمَا شَاءَ وَنَهْيهمْ عَمَّا شَاءَ , وَنَسْخ مَا شَاءَ وَإِقْرَار مَا شَاءَ , وَإِنْسَاء مَا شَاءَ مِنْ أَحْكَامه وَأَمْره وَنَهْيه . ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ : انْقَادُوا لِأَمْرِي , وَانْتَهُوا إلَى طَاعَتِي فِيمَا أَنْسَخ وَفِيمَا أَتْرُك فَلَا أَنْسَخ مِنْ أَحْكَامِي وَحُدُودِي وَفَرَائِضِي , وَلَا يَهُولَنكُمْ خِلَاف مُخَالِف لَكُمْ فِي أَمْرِي وَنَهْيِي وَنَاسِخِي وَمَنْسُوخِي , فَإِنَّهُ لَا قَيِّم بِأَمْرِكُمْ سِوَايَ , وَلَا نَاصِر لَكُمْ غَيْرِي , وَأَنَا الْمُنْفَرِد بِوِلَايَتِكُمْ وَالدِّفَاع عَنْكُمْ , وَالْمُتَوَحِّد بِنُصْرَتِكُمْ بِعَزِّي وَسُلْطَانِي وَقُوَّتِي عَلَى مَنْ نَاوَأَكُمْ وَحَادَّكُمْ وَنَصَبَ حَرْب الْعَدَاوَة بَيْنه وَبَيْنكُمْ , حَتَّى أُعْلِي حُجَّتكُمْ , وَأَجْعَلهَا عَلَيْهِمْ لَكُمْ . وَالْوَلِيّ مَعْنَاهُ " فَعِيل " , مِنْ قَوْل الْقَائِل : وَلَيْت أَمْر فُلَان : إذَا صِرْت قَيِّمًا بِهِ فَأَنَا أَلِيه فَهُوَ وَلِيّه وَقَيِّمه ; وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ : فُلَان وَلِيّ عَهْد الْمُسْلِمِينَ , يَعْنِي بِهِ : الْقَائِم بِمَا عُهِدَ إلَيْهِ مِنْ أَمْر الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا النَّصِير فَإِنَّهُ فَعِيل مِنْ قَوْلك : نَصَرْتُك أَنْصُرك فَأَنَا نَاصِرك وَنَصِيرك ; وَهُوَ الْمُؤَيِّد وَالْمُقَوِّي . وَأَمَّا مَعْنَى قَوْله : { مِنْ دُون اللَّه } فَإِنَّهُ سِوَى اللَّه وَبَعْد اللَّه . وَمِنْهُ قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : يَا نَفْس مَالَك دُون اللَّه مِنْ وَاقِي وَمَا عَلَى حِدْثَان الدَّهْر مِنْ بَاقِي يُرِيد : مَالَك سِوَى اللَّه وَبَعْد اللَّه مَنْ يَقِيك الْمَكَارِه . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : وَلَيْسَ لَكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَعْد اللَّه مِنْ قَيِّم بِأَمْرِكُمْ وَلَا نَصِير فَيُؤَيِّدكُمْ وَيُقَوِّيكُمْ فَيُعِينكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ .
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِسورة البقرة الآية رقم 108
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة . فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 1473 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْب , قَالَ : حَدَّثَنِي يُونُس بْن بُكَيْر , وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة بْن الْفَضْل , قَالَا : ثنا ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة عَنْ ابْن عَبَّاس : قَالَ رَافِع بْن حُرَيْمِلَة وَوَهْب بْن زَيْد لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ائْتِنَا بِكِتَابِ تُنْزِلهُ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاء نَقْرَؤُهُ وَفَجِّرْ لَنَا أَنَهَارًا نَتَّبِعك وَنُصَدِّقك ! فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } الْآيَة . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1474 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } وَكَانَ مُوسَى يُسْأَل فَقِيلَ لَهُ : { أَرِنَا اللَّه جَهْرَة } . 4 153 1475 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } أَنْ يُرِيهِمْ اللَّه جَهْرَة , فَسَأَلَتْ الْعَرَب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيهِمْ بِاَللَّهِ فَيَرَوْهُ جَهْرَة . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1476 - حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } أَنْ يُرِيهِمْ اللَّه جَهْرَة . فَسَأَلَتْ قُرَيْش مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَل اللَّه لَهُ الصَّفَا ذَهَبًا , قَالَ : " نَعَمْ , وَهُوَ لَكُمْ كَمَائِدَةِ بَنِي إسْرَائِيل إنْ كَفَرْتُمْ " . فَأَبَوْا وَرَجَعُوا . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد قَالَ : سَأَلَتْ قُرَيْش مُحَمَّدًا أَنْ يَجْعَل لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا , فَقَالَ : " نَعَمْ , وَهُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إسْرَائِيل إنْ كَفَرْتُمْ " . فَأَبَوْا وَرَجَعُوا , فَأَنْزَلَ اللَّه { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } أَنْ يُرِيهِمْ اللَّه جَهْرَة . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1477 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة , قَالَ : قَالَ رَجُل : يَا رَسُول اللَّه لَوْ كَانَتْ كَفَّارَاتنَا كَفَّارَات بَنِي إسْرَائِيل ! فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا ! مَا أَعْطَاكُمْ اللَّه خَيْر مِمَّا أَعْطَى بَنِي إسْرَائِيل ; فَقَالَ النَّبِيّ : كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيل إذَا فَعَلَ أَحَدهمْ الْخَطِيئَة وَجَدَهَا مَكْتُوبَة عَلَى بَابه وَكَفَّارَتهَا , فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا , وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآخِرَة . وَقَدْ أَعْطَاكُمْ اللَّه خَيْرًا مِمَّا أَعْطَى بَنِي إسْرَائِيل , قَالَ : { وَمَنْ يَعْمَل سُوءًا أَوْ يَظْلِم نَفْسه ثُمَّ يَسْتَغْفِر اللَّه يَجِد اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا } " 4 110 قَالَ : وَقَالَ : " الصَّلَوَات الْخَمْس وَالْجُمُعَة إلَى الْجُمُعَة كَفَّارَات لِمَا بَيْنهنَّ " . وَقَالَ : " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة , فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْر أَمْثَالهَا , وَلَا يَهْلَك عَلَى اللَّه إلَّا هَالِك " . فَأَنْزَلَ اللَّه : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل } . وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعَرَبِيَّة فِي مَعْنَى { أَمْ } الَّتِي فِي قَوْله : { أَمْ تُرِيدُونَ } . فَقَالَ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ : هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَام , وَتَأْوِيل الْكَلَام : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ ؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : هِيَ بِمَعْنَى اسْتِفْهَام مُسْتَقْبَل مُنْقَطِع مِنْ الْكَلَام , كَأَنَّك تَمِيل بِهَا إلَى أَوَّله كَقَوْلِ الْعَرَب : إنَّهَا لَإِبِل يَا قَوْم أَمْ شَاءَ , وَلَقَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا أَمْ حَدْس نَفْسِيّ . قَالَ : وَلَيْسَ قَوْله : { أَمْ تُرِيدُونَ } عَلَى الشَّكّ ; وَلَكِنَّهُ قَالَهُ لِيُقَبِّح لَهُ صَنِيعهمْ . وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْأَخْطَل : كَذَبَتْك عَيْنك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطِ غَلَس الظَّلَام مِنْ الرَّبَاب خَيَالًا وَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ : إنْ شِئْت جَعَلْت قَوْله : { أَمْ تُرِيدُونَ } اسْتِفْهَامًا عَلَى كَلَام قَدْ سَبَقَهُ , كَمَا قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { ألم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ أُمّ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } 32 1 - 3 فَجَاءَتْ " أَمْ " وَلَيْسَ قَبْلهَا اسْتِفْهَام . فَكَانَ ذَلِكَ عِنْده دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَام مُبْتَدَأ عَلَى كَلَام سَبَقَهُ . وَقَالَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة : " أَمْ " فِي الْمَعْنَى تَكُون رَدًّا عَلَى الِاسْتِفْهَام عَلَى جِهَتَيْنِ , إحْدَاهُمَا : أَنْ تَعْرِف مَعْنَى " أَيْ " , وَالْأُخْرَى أَنْ يُسْتَفْهَم بِهَا , وَيَكُون عَلَى جِهَة النَّسَق , وَاَلَّذِي يَنْوِي بِهِ الِابْتِدَاء ; إلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاء مُتَّصِل بِكَلَامِ , فَلَوْ ابْتَدَأْت كَلَامًا لَيْسَ قَبْله كَلَام ثُمَّ اسْتَفْهَمْت لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالْأَلِفِ أَوْ ب " هَلْ " . قَالَ : وَإِنْ شِئْت قُلْت فِي قَوْله : { أَمْ تُرِيدُونَ } قَبْله اسْتِفْهَام , فَرَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قَوْله : { أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَار الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَهْل التَّأْوِيل أَنَّهُ اسْتِفْهَام مُبْتَدَأ بِمَعْنَى : أَتُرِيدُونَ أَيّهَا الْقَوْم أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ ؟ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَسْتَفْهِم الْقَوْم ب " أَمْ " وَإِنْ كَانَتْ " أَمْ " أَحَد شُرُوطهَا أَنْ تَكُون نَسَقًا فِي الِاسْتِفْهَام لِتُقَدِّم مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ الْكَلَام ; لِأَنَّهَا تَكُون اسْتِفْهَامًا مُبْتَدَأ إذَا تَقَدَّمَهَا سَابِق مِنْ الْكَلَام , وَلَمْ يُسْمَع مِنْ الْعَرَب اسْتِفْهَام بِهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمهَا كَلَام . وَنَظِيره قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ : { ألم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } . وَقَدْ تَكُون " أَمْ " بِمَعْنَى " بَلْ " إذَا سَبَقَهَا اسْتِفْهَام لَا يَصْلُح فِيهِ " أَيْ " , فَيَقُولُونَ : هَلْ لَك قِبَلنَا حَقّ , أَمْ أَنْت رَجُل مَعْرُوف بِالظُّلْمِ ؟ وَقَالَ الشَّاعِر : فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ أَمْ الْقَوْم أَمْ كُلّ إلَيَّ حَبِيب يَعْنِي : بَلْ كُلّ إلَيَّ حَبِيب . وَقَدْ كَانَ بَعْضهمْ يَقُول مُنْكِرًا قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ " أَمْ " فِي قَوْله : { أَمْ تُرِيدُونَ } اسْتِفْهَام مُسْتَقْبَل مُنْقَطِع مِنْ الْكَلَام يَمِيل بِهَا إلَى أَوَّله أَنَّ الْأَوَّل خَبَر وَالثَّانِي اسْتِفْهَام , وَالِاسْتِفْهَام لَا يَكُون فِي الْخَبَر , وَالْخَبَر لَا يَكُون فِي الِاسْتِفْهَام ; وَلَكِنْ أَدْرَكَهُ الشَّكّ بِزَعْمِهِ بَعْد مُضِيّ الْخَبَر , فَاسْتَفْهَمَ . فَإِذَا كَانَ مَعْنَى " أَمْ " مَا وَصَفْنَا , فَتَأْوِيل الْكَلَام : أَتُرِيدُونَ أَيّهَا الْقَوْم أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ مِنْ الْأَشْيَاء نَظِير مَا سَأَلَ قَوْم مُوسَى مِنْ قَبْلكُمْ , فَتَكْفُرُوا إنْ مَنَعْتُمُوهُ فِي مَسْأَلَتكُمْ مَا لَا يَجُوز فِي حِكْمَة اللَّه إِعْطَاؤُكُمُوه , أَوْ أَنْ تَهْلَكُوا , إنْ كَانَ مِمَّا يَجُوز فِي حِكْمَته عَطَاؤُكُمُوهُ فَأَعْطَاكُمُوهُ ثُمَّ كَفَرْتُمْ مِنْ بَعْد ذَلِكَ , كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ مِنْ الْأُمَم الَّتِي سَأَلَتْ أَنْبِيَاءَهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَسْأَلَتهَا إيَّاهُمْ , فَلَمَّا أُعْطِيَتْ كَفَرَتْ , فَعُوجِلَتْ بِالْعُقُوبَاتِ لِكُفْرِهَا بَعْد إعْطَاء اللَّه إيَّاهَا سُؤْلهَا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَبَدَّل } وَمَنْ يَسْتَبْدِل الْكُفْر ; وَيَعْنِي بِالْكُفْرِ : الْجُحُود بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ { بِالْإِيمَانِ } , يَعْنِي بِالتَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَالْإِقْرَار بِهِ . وَقَدْ قِيلَ عَنِّي بِالْكُفْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِع الشِّدَّة وَبِالْإِيمَانِ الرَّخَاء . وَلَا أَعْرِف الشِّدَّة فِي مَعَانِي الْكُفْر , وَلَا الرَّخَاء فِي مَعْنَى الْإِيمَان , إلَّا أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَرَادَ بِتَأْوِيلِهِ الْكُفْر بِمَعْنَى الشِّدَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع وَبِتَأْوِيلِهِ الْإِيمَان فِي مَعْنَى الرَّخَاء مَا أَعَدَّ اللَّه لِلْكُفَّارِ فِي الْآخِرَة مِنْ الشَّدَائِد , وَمَا أَعَدَّ اللَّه لِأَهْلِ الْإِيمَان فِيهَا مِنْ النَّعِيم , فَيَكُون ذَلِكَ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ الْمَفْهُوم بِظَاهِرِ الْخِطَاب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1478 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ } يَقُول : يَتَبَدَّل الشِّدَّة بِالرَّخَاءِ . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة بِمِثْلِهِ . وَفِي قَوْله : { وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل } دَلِيل وَاضِح عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَات مِنْ قَوْله : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } خِطَاب مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِتَاب مِنْهُ لَهُمْ عَلَى أَمْر سَلَفَ مِنْهُمْ مِمَّا سَرَّ بِهِ الْيَهُود وَكَرِهَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ , فَكَرِهَهُ اللَّه لَهُمْ . فَعَاتَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ , وَأَعْلَمهُمْ أَنَّ الْيَهُود أَهْل غِشّ لَهُمْ وَحَسَد وَبَغْي , وَأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الْمَكَارِه وَيَبْغُونَهُمْ الْغَوَائِل , وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَصِحُوهُمْ , وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ عَنْ دِينه فَاسْتَبْدَلَ بِإِيمَانِهِ كُفْرًا فَقَدْ أَخْطَأَ قَصْد السَّبِيل .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل } . أَمَّا قَوْله : { فَقَدْ ضَلَّ } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ ذَهَبَ وَحَادَ . وَأَصْل الضَّلَال عَنْ الشَّيْء : الذَّهَاب عَنْهُ وَالْحَيْد . ثُمَّ يُسْتَعْمَل فِي الشَّيْء الْهَالِك وَالشَّيْء الَّذِي لَا يُؤْبَه لَهُ , كَقَوْلِهِمْ لِلرَّجُلِ الْخَامِل الَّذِي لَا ذِكْر لَهُ وَلَا نَبَاهَة : ضَلّ بْن ضَلّ , وَقَلّ بْن قَلّ ; كَقَوْلِ الْأَخْطَل فِي الشَّيْء الْهَالِك : كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكَدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا يَعْنِي : هَلَكَ فَذَهَبَ . وَاَلَّذِي عَنَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل } فَقَدْ ذَهَبَ عَنْ سَوَاء السَّبِيل وَحَادَ عَنْهُ . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { سَوَاء السَّبِيل } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِالسَّوَاءِ : الْقَصْد وَالْمَنْهَج , وَأَصْل السَّوَاء : الْوَسَط ; ذُكِرَ عَنْ عِيسَى بْن عُمَر النَّحْوِيّ أَنَّهُ قَالَ : " مَا زِلْت أَكْتُب حَتَّى انْقَطَعَ سَوَائِي " , يَعْنِي وَسَطِي . وَقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت : يَا وَيْح أَنْصَار النَّبِيّ وَنَسْله بَعْد الْمَغِيب فِي سَوَاء الْمُلْحِد يَعْنِي بِالسَّوَاءِ الْوَسَط . وَالْعَرَب تَقُول : هُوَ فِي سَوَاء السَّبِيل , يَعْنِي فِي مُسْتَوَى السَّبِيل . وَسَوَاء الْأَرْض مُسْتَوَاهَا عِنْدهمْ , وَأَمَّا السَّبِيل فَإِنَّهَا الطَّرِيق الْمَسْبُول , صُرِفَ مِنْ مَسْبُول إلَى سَبِيل . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذًا : وَمَنْ يَسْتَبْدِل بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الْكُفْر فَيَرْتَدّ عَنْ دِينه , فَقَدْ حَادَ عَنْ مَنْهَج الطَّرِيق وَوَسَطه الْوَاضِح الْمَسْبُول . وَهَذَا الْقَوْل ظَاهِره الْخَبَر عَنْ زَوَال الْمُسْتَبْدِل بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْر عَنْ الطَّرِيق , وَالْمَعْنَى بِهِ الْخَبَر عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ دِين اللَّه الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَجَعَلَهُ لَهُمْ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إلَى رِضَاهُ , وَسَبِيلًا يَرْكَبُونَهَا إلَى مَحَبَّته وَالْفَوْز بِجَنَّاتِهِ . فَجَعَلَ جَلّ ثَنَاؤُهُ الطَّرِيق الَّذِي إذَا رَكِبَ مَحَجَّته السَّائِر فِيهِ وَلَزِمَ وَسَطه الْمُجْتَاز فِيهِ , نَجَا وَبَلَغَ حَاجَته وَأَدْرَكَ طِلْبَته لِدِينِهِ الَّذِي دَعَا إلَيْهِ عِبَاده مَثَلًا لِإِدْرَاكِهِمْ بِلُزُومِهِ وَاتِّبَاعه إدْرَاكهمْ طَلَبَاتهمْ فِي آخِرَتهمْ , كَاَلَّذِي يُدْرِك اللَّازِم مَحَجَّة السَّبِيل بِلُزُومِهِ إيَّاهَا طِلْبَته مِنْ النَّجَاة مِنْهَا , وَالْوُصُول إلَى الْمَوْضِع الَّذِي أَمَّهُ وَقَصَدَهُ . وَجَعَلَ مِثْل الْحَائِد عَنْ دِينه وَالْحَائِد عَنْ اتِّبَاع مَا دَعَاهُ إلَيْهِ مِنْ عِبَادَته فِي حَيَاته مَا رَجَا أَنْ يُدْرِكهُ بِعَمَلِهِ فِي آخِرَته وَيَنَال بِهِ فِي مُعَاده وَذَهَابه عَمَّا أَمَلَ مِنْ ثَوَاب عَمَله وَبُعْده بِهِ مِنْ رَبّه , مَثَل الْحَائِد عَنْ مَنْهَج الطَّرِيق وَقَصْد السَّبِيل , الَّذِي لَا يَزْدَاد وُغُولًا فِي الْوَجْه الَّذِي سَلَكَهُ إلَّا ازْدَادَ مِنْ مَوْضِع حَاجَته بُعْدًا , وَعَنْ الْمَكَان الَّذِي أَمَّهُ وَأَرَادَهُ نَأْيًا . وَهَذِهِ السَّبِيل الَّتِي أَخْبَرَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ مَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَهَا , هِيَ الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم الَّذِي أُمِرْنَا بِمَسْأَلَتِهِ الْهِدَايَة لَهُ بِقَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ } .
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 109
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْد إيمَانكُمْ كُفَّارًا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْقَوْل مِنْ قَوْل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ , بِأَنَّ خِطَابه بِجَمِيعِ هَذِهِ الْآيَات مِنْ قَوْله : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } وَإِنْ صَرَفَ فِي نَفْسه الْكَلَام إلَى خِطَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إنَّمَا هُوَ خِطَاب مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابه , وَعِتَاب مِنْهُ لَهُمْ , وَنَهْي عَنْ انْتِصَاح الْيَهُود وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْل الشِّرْك وَقَبُول آرَائِهِمْ فِي شَيْء مِنْ أُمُور دِينهمْ , وَدَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَعْمَلُوا , أَوْ مَنْ اسْتَعْمَلَ مِنْهُمْ فِي خِطَابه وَمَسْأَلَته رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَفَاء , وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْمَاله مَعَهُ , تَأَسِّيًا بِالْيَهُودِ فِي ذَلِكَ أَوْ بِبَعْضِهِمْ . فَقَالَ لَهُمْ رَبّهمْ نَاهِيًا عَنْ اسْتِعْمَال ذَلِكَ : لَا تَقُولُوا لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقُول لَهُ الْيَهُود : " رَاعِنَا " تَأَسِّيًا مِنْكُمْ بِهِمْ , وَلَكِنْ قُولُوا : " اُنْظُرْنَا وَاسْمَعُوا " , فَإِنَّ أَذَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْر بِي وَجُحُود لِحَقِّي الْوَاجِب لِي عَلَيْكُمْ فِي تَعْظِيمه وَتَوْقِيره , وَلِمَنْ كَفَرَ بِي عَذَاب أَلِيم ; فَإِنَّ الْيَهُود وَالْمُشْرِكِينَ مَا يَوَدُّونَ أَنْ يَنْزِل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبّكُمْ , وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ وَدُّوا أَنَّهُمْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْد إيمَانكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ لَكُمْ وَلِنَبِيِّكُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ فِي أَمْر مُحَمَّد وَأَنَّهُ نَبِيّ إلَيْهِمْ وَإِلَى خَلْقِي كَافَّة . وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب } كَعْب بْن الْأَشْرَف . 1479 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ الزُّهْرِيّ فِي قَوْله : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب } هُوَ كَعْب بْن الْأَشْرَف . 1480 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا أَبُو سُفْيَان الْعُمَرِيّ , عَنْ مَعْمَر , عَنْ الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب } قَالَ : كَعْب بْن الْأَشْرَف . وَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 1481 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق . وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا يُونُس بْن بُكَيْر , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ حُيَيّ بْن أَخْطَبَ وَأَبُو يَاسِر بْن أَخْطَبَ مِنْ أَشَدّ يَهُود لِلْعَرَبِ حَسَدًا , إذْ خَصَّهُمْ اللَّه بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدّ النَّاس عَنْ الْإِسْلَام بِمَا اسْتَطَاعَا , فَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِمَا : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } الْآيَة . وَلَيْسَ لِقَوْلِ الْقَائِل عَنَى بِقَوْلِهِ : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب } كَعْب بْن الْأَشْرَف مَعْنَى مَفْهُوم ; لِأَنَّ كَعْب بْن الْأَشْرَف وَاحِد , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ يَرُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ كَفَّارًا بَعْد إيمَانهمْ . وَالْوَاحِد لَا يُقَال لَهُ كَثِير بِمَعْنَى الْكَثْرَة فِي الْعَدَد , إلَّا أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَرَادَ بِوَجْهِ الْكَثْرَة الَّتِي وَصَفَ اللَّه بِهَا مَنْ وَصَفَهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَة الْكَثْرَة فِي الْعِزّ وَرِفْعَة الْمَنْزِلَة فِي قَوْمه وَعَشِيرَته , كَمَا يُقَال : فُلَان فِي النَّاس كَثِير , يُرَاد بِهِ كَثْرَة الْمَنْزِلَة وَالْقَدْر . فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخَطَأ , لِأَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَهُمْ بِصِفَةِ الْجَمَاعَة , فَقَالَ : { لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْد إيمَانكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا } فَذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ عَنَى الْكَثْرَة فِي الْعَدَد . أَوْ يَكُون ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ الْكَلَام الَّذِي يَخْرَج مَخْرَج الْخَبَر عَنْ الْجَمَاعَة , وَالْمَقْصُود بِالْخَبَرِ عَنْهُ الْوَاحِد , نَظِير مَا قُلْنَا آنِفًا فِي بَيْت جَمِيل ; فَيَكُون ذَلِكَ أَيْضًا خَطَأ , وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَام إذَا كَانَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا بُدّ مِنْ دَلَالَة فِيهِ تَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ , وَلَا دَلَالَة تَدُلّ فِي قَوْله : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب } أَنَّ الْمُرَاد بِهِ وَاحِد دُون جَمَاعَة كَثِيرَة , فَيَجُوز صَرْف تَأْوِيل الْآيَة إلَى ذَلِكَ وَإِحَالَة دَلِيل ظَاهِره إلَى غَيْر الْغَالِب فِي الِاسْتِعْمَال.

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { حَسَدًا } . وَيَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { حَسَدًا مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ } أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْل الْكِتَاب يَوَدُّونَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا أَخْبَرَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَوَدُّونَهُ لَهُمْ مِنْ الرِّدَّة عَنْ إيمَانهمْ إلَى الْكُفْر حَسَدًا مِنْهُمْ وَبَغْيًا عَلَيْهِمْ . وَالْحَسَد إذًا مَنْصُوب عَلَى غَيْر النَّعْت لِلْكُفَّارِ , وَلَكِنْ عَلَى وَجْه الْمَصْدَر الَّذِي يَأْتِي خَارِجًا مِنْ مَعْنَى الْكَلَام الَّذِي يُخَالِف لَفْظه لَفْظ الْمَصْدَر , كَقَوْلِ الْقَائِل لِغَيْرِهِ : تَمَنَّيْت لَك مَا تَمَنَّيْت مِنْ السُّوء حَسَدًا مِنِّي لَك . فَيَكُون الْحَسَد مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى قَوْله : تَمَنَّيْت مِنْ السُّوء ; لِأَنَّ فِي قَوْله تَمَنَّيْت لَك ذَلِكَ , مَعْنَى حَسَدْتُك عَلَى ذَلِكَ . فَعَلَى هَذَا نُصِبَ الْحَسَد , لِأَنَّ فِي قَوْله : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْد إيمَانكُمْ كُفَّارًا } يَعْنِي : حَسَدكُمْ أَهْل الْكِتَاب عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ اللَّه مِنْ التَّوْفِيق , وَوَهَبَ لَكُمْ مِنْ الرَّشَاد لِدِينِهِ وَالْإِيمَان بِرَسُولِهِ , وَخَصَّكُمْ بِهِ مِنْ أَنْ جَعَلَ رَسُوله إلَيْكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ رَءُوفًا بِكُمْ رَحِيمًا , وَلَمْ يَجْعَلهُ مِنْهُمْ , فَتَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا . فَكَانَ قَوْله : { حَسَدًا } مَصْدَرًا مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى .

وَأَمَّا قَوْله : { مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ : مِنْ قِبَل أَنْفُسهمْ , كَمَا يَقُول الْقَائِل : لِي عِنْدك كَذَا وَكَذَا , بِمَعْنَى : لِي قِبَلك . وَكَمَا : 1482 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَوْله : { مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ } قَالَ : مِنْ قِبَل أَنْفُسهمْ . وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ وَدُّوا ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ إعْلَامًا مِنْهُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ فِي كِتَابهمْ , وَأَنَّهُمْ يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْم مِنْهُمْ بِنَهْيِ اللَّه إيَّاهُمْ عَنْهُ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } أَيْ مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ الْكَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب الَّذِينَ يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَكُمْ كُفَّارًا مِنْ بَعْد إيمَانكُمْ الْحَقّ فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّه وَالْمِلَّة الَّتِي دَعَا إلَيْهَا فَأَضَاءَ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقّ الَّذِي لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ . كَمَا : 1483 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْإِسْلَام دِين اللَّه . 1484 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : { مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } يَقُول : تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . * حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , مِثْله ; وَزَادَ فِيهِ : فَكَفَرُوا بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا , إذْ كَانَ مِنْ غَيْرهمْ . 1485 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } قَالَ : الْحَقّ : هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُول . * حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } قَالَ : قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُول اللَّه . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَدَلَّ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَنَّ كُفْر الَّذِينَ قَصَّ قِصَّتهمْ فِي هَذِهِ الْآيَة بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ عِنَاد , وَعَلَى عِلْم مِنْهُمْ وَمَعْرِفَة , بِأَنَّهُمْ عَلَى اللَّه مُفْتَرُونَ . كَمَا : 1486 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عِمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } يَقُول اللَّه تَعَالَى ذِكْره : مِنْ بَعْد مَا أَضَاءَ لَهُمْ الْحَقّ لَمْ يَجْهَلُوا مِنْهُ شَيْئًا , وَلَكِنَّ الْحَسَد حَمَلَهُمْ عَلَى الْجَحْد . فَعَيَّرَهُمْ اللَّه وَلَامَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ أَشَدّ الْمَلَامَة .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { فَاعْفُوا } فَتَجَاوَزُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ إسَاءَة وَخَطَأ فِي رَأْي أَشَارُوا بِهِ عَلَيْكُمْ فِي دِينكُمْ , إرَادَة صَدّكُمْ عَنْهُ , وَمُحَاوَلَة ارْتِدَادكُمْ بَعْد إيمَانكُمْ وَعَمَّا سَلَف مِنْهُمْ مِنْ قَيْلهمْ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اسْمَعْ غَيْر مُسْمَع وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّين } 4 46 وَاصْفَحُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ , فَيَحْدُث لَكُمْ مِنْ أَمْره فِيكُمْ مَا يَشَاء , وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا يُرِيد . فَقَضَى فِيهِمْ تَعَالَى ذِكْره , وَأَتَى بِأَمْرِهِ , فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ ) الْآخِر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله وَلَا يَدِينُونَ دِين الْحَقّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ } . 9 5 فَنَسَخَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ الْعَفْو عَنْهُمْ وَالصَّفْح بِفَرْضِ قِتَالهمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى تَصِير كَلِمَتهمْ وَكَلِمَة الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَة , أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَة عَنْ يَد صِغَارًا . كَمَا : 1487 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ إنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } وَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } . 9 5 1488 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ } فَأَتَى اللَّه بِأَمْرِهِ فَقَالَ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر } حَتَّى بَلَغَ : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } 9 29 أَيْ صَغَارًا وَنِقْمَة لَهُمْ ; فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة مَا كَانَ قَبْلهَا : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ } . 1489 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ } قَالَ : اعْفُوا عَنْ أَهْل الْكِتَاب حَتَّى يُحْدِث اللَّه أَمْرًا . فَأَحْدَث اللَّه بَعْد فَقَالَ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر } إلَى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } . 9 29 * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق . قَالَ : أنا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ } قَالَ : نَسَخَتْهَا : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } . 9 5 1490 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ } قَالَ : هَذَا مَنْسُوح , نَسَخَهُ { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر } إلَى قَوْله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } قَالَ أَبُو جَعْفَر : قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْقَدِير وَأَنَّهُ الْقَوِيّ . فَمَعْنَى الْآيَة هَهُنَا : أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ مَا يَشَاء بِاَلَّذِينَ وَصَفْت لَكُمْ أَمْرهمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ قَدِير , إنْ شَاءَ الِانْتِقَام مِنْهُمْ بِعِنَادِهِمْ رَبّهمْ وَإِنْ شَاءَ هَدَاهُمْ لِمَا هَدَاكُمْ اللَّه لَهُ مِنْ الْإِيمَان , لَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ شَيْء أَرَادَهُ وَلَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ أَمْر شَاءَ قَضَاءَهُ ; لِأَنَّ لَهُ الْخَلْق وَالْأَمْر .
وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌسورة البقرة الآية رقم 110
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة } قَالَ أَبُو جَعْفَر : قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى إقَامَة الصَّلَاة وَأَنَّهَا أَدَاؤُهَا بِحُدُودِهَا وَفُرُوضهَا , وَعَلَى تَأْوِيل الصَّلَاة وَمَا

أَصْلهَا , وَعَلَى مَعْنَى إيتَاء الزَّكَاة وَأَنَّهُ إعْطَاؤُهَا بِطِيبِ نَفْس عَلَى مَا فُرِضَتْ وَوَجَبَتْ , وَعَلَى مَعْنَى الزَّكَاة وَاخْتِلَاف الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا , وَالشَّوَاهِد الدَّالَّة عَلَى صِحَّة الْقَوْل الَّذِي اخْتَرْنَا فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع .

وَأَمَّا قَوْله : { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْد اللَّه } فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ : وَمَهْمَا تَعْمَلُوا مِنْ عَمَل صَالِح فِي أَيَّام حَيَاتكُمْ فَتُقَدِّمُوهُ قَبْل وَفَاتكُمْ ذُخْرًا لِأَنْفُسِكُمْ فِي مُعَادكُمْ , تَجِدُوا ثَوَابه عِنْد رَبّكُمْ يَوْم الْقِيَامَة , فَيُجَازِيكُمْ بِهِ . وَالْخَيْر : هُوَ الْعَمَل الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّه . وَإِنَّمَا قَالَ : { تَجِدُوهُ } وَالْمَعْنَى : تَجِدُوا ثَوَابه . كَمَا : 1491 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن . قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع قَوْله : { تَجِدُوهُ } يَعْنِي : تَجِدُوا ثَوَابه عِنْد اللَّه . قَالَ أَبُو جَعْفَر : لِاسْتِغْنَاءِ
سَامِعِي

ذَلِكَ بِدَلِيلِ ظَاهِر عَلَى مَعْنَى الْمُرَاد مِنْهُ , كَمَا قَالَ عُمَر بْن لَجَأ : وَسَبَّحَتْ الْمَدِينَة لَا تَلُمْهَا رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمْ نَهَارَا وَإِنَّمَا أَرَادَ : وَسَبَّحَ أَهْل الْمَدِينَة . وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ جَلّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِع بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ إقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة وَتَقْدِيم الْخَيْرَات لِأَنْفُسِهِمْ , لِيَطْهُرُوا بِذَلِكَ مِنْ الْخَطَأ الَّذِي سَلَف مِنْهُمْ فِي اسْتِنْصَاحهمْ الْيَهُود , وَرُكُون مَنْ كَانَ رَكَنَ مِنْهُمْ إلَيْهِمْ , وَجَفَاء مَنْ كَانَ جَفَا مِنْهُمْ فِي خِطَابه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { رَاعِنَا } إذْ كَانَتْ إقَامَة الصَّلَوَات كَفَّارَة لِلذُّنُوبِ , وَإِيتَاء الزَّكَاة تَطْهِيرًا لِلنَّفُوسِ وَالْأَبْدَان مِنْ أَدْنَاس الْآثَام , وَفِي تَقْدِيم الْخَيْرَات إدْرَاك الْفَوْز بِرِضْوَانِ اللَّه .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } . وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَات مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ خَيْر وَشَرّ سِرًّا وَعَلَانِيَة , فَهُوَ بِهِ بَصِير لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْء , فَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ جَزَاءَهُ وَبِالْإِسَاءَةِ مِثْلهَا . وَهَذَا الْكَلَام وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَج الْخَبَر , فَإِنَّ فِيهِ وَعْدًا وَوَعِيدًا , وَأَمْرًا وَزَجْرًا ;
وَذَلِكَ

أَنَّهُ أَعْلَم الْقَوْم أَنَّهُ بَصِير بِجَمِيعِ أَعْمَالهمْ لِيَجِدُوا فِي طَاعَته , إذْ كَانَ ذَلِكَ مَذْخُورًا لَهُمْ عِنْده حَتَّى يُثِيبهُمْ عَلَيْهِ , كَمَا قَالَ : { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْد اللَّه } وَلْيَحْذَرُوا مَعْصِيَته , إذْ كَانَ مُطَلِّعًا عَلَى رَاكِبهَا بَعْد تَقَدُّمه إلَيْهِ فِيهَا بِالْوَعِيدِ عَلَيْهَا . وَمَا أَوْعَدَ عَلَيْهِ رَبّنَا جَلّ ثَنَاؤُهُ فَمَنْهِيّ عَنْهُ , وَمَا وَعَدَ عَلَيْهِ فَمَأْمُور بِهِ . وَأَمَّا قَوْله : { بَصِير } فَإِنَّهُ مُبْصِر صُرِفَ إلَى بَصِير , كَمَا صُرِفَ مُبْدِع إلَى بَدِيع , وَمُؤْلِم إلَى أَلِيم .
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة البقرة الآية رقم 111
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَقَالُوا } وَقَالَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى : { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة } . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْف جَمَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الْخَبَر مَعَ اخْتِلَاف مَقَالَة الْفَرِيقَيْنِ , وَالْيَهُود تَدْفَع النَّصَارَى عَنْ أَنْ يَكُون لَهَا فِي ثَوَاب اللَّه نَصِيب , وَالنَّصَارَى تَدْفَع الْيَهُود عَنْ مِثْل ذَلِكَ ؟ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِي ذَهَبَتْ إلَيْهِ , وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ : وَقَالَتْ الْيَهُود : لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا , وَقَالَتْ النَّصَارَى : لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا النَّصَارَى . وَلَكِنَّ مَعْنَى الْكَلَام لَمَّا كَانَ مَفْهُومًا عِنْد الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مَعْنَاهُ جُمِعَ الْفَرِيقَانِ فِي الْخَبَر عَنْهُمَا , فَقِيلَ : { قَالُوا لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } الْآيَة , أَيْ قَالَتْ الْيَهُود : لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا , وَقَالَتْ النَّصَارَى : لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا . وَأَمَّا قَوْله : { مَنْ كَانَ هُودًا } فَإِنَّ فِي الْهُود قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون جَمْع هَائِد , كَمَا جَاءَ عُوط جَمْع عَائِط , وَعُوذ جَمَعَ عَائِذ , وَحُول جَمْع حَائِل , فَيَكُون جَمْعًا لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّث بِلَفْظِ وَاحِد ; وَالْهَائِد : التَّائِب الرَّاجِع إلَى الْحَقّ . وَالْآخَر أَنْ يَكُون مَصْدَرًا عَنْ الْجَمِيع , كَمَا يُقَال : " رَجُل صَوْم وَقَوْم صَوْم " , و " رَجُل فِطْر وَقَوْم فِطْر وَنِسْوَة فِطْر " . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ قَوْله : { إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا } إنَّمَا هُوَ قَوْله : إلَّا مَنْ كَانَ يَهُودًا ; وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْيَاء الزَّائِدَة , وَرَجَعَ إلَى الْفِعْل مِنْ الْيَهُودِيَّة . وَقِيلَ

: إنَّهُ فِي قِرَاءَة أُبَيٍّ : " إلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " . وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى النَّصَارَى وَلِمَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ وَجُمِعَتْ كَذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته .

وَأَمَّا قَوْله : { تِلْكَ أَمَانِيّهمْ } فَإِنَّهُ خَبَر
مِنْ

اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ قَوْل الَّذِينَ قَالُوا : { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } أَنَّهُ أَمَانِيّ مِنْهُمْ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللَّه بِغَيْرِ حَقّ وَلَا حُجَّة وَلَا بُرْهَان وَلَا يَقِين عِلْم بِصِحَّةِ مَا يَدَّعُونَ , وَلَكِنْ بِادِّعَاءِ الْأَبَاطِيل وَأَمَانِيّ النَّفُوس الْكَاذِبَة . كَمَا : 1492 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { تِلْكَ أَمَانِيّهمْ } أَمَانِيّ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللَّه كَاذِبَة . 1493 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { تِلْكَ أَمَانِيّهمْ } قَالَ : أَمَانِيّ تَمَنَّوْا عَلَى اللَّه بِغَيْرِ الْحَقّ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . وَهَذَا أَمْر مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ الَّذِينَ { قَالُوا لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } إلَى أَمْر عَدْل بَيْن جَمِيع الْفِرَق مُسْلِمهَا وَيَهُودِهَا وَنَصَارَاهَا , وَهُوَ إقَامَة الْحُجَّة عَلَى دَعْوَاهُمْ الَّتِي ادَّعَوْا مِنْ أَنَّ الْجَنَّة لَا يَدْخُلهَا إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . يَقُول اللَّه لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّد قُلْ لِلزَّاعِمِينَ أَنَّ الْجَنَّة لَا يَدْخُلهَا إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى دُون غَيْرهمْ مِنْ سَائِر الْبَشَر : هَاتُوا بُرْهَانكُمْ عَلَى مَا تَزْعُمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَنُسَلِّم لَكُمْ دَعْوَاكُمْ إنْ كُنْتُمْ فِي دَعْوَاكُمْ مِنْ أَنَّ الْجَنَّة لَا يَدْخُلهَا إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى مُحِقِّينَ . وَالْبُرْهَان : هُوَ الْبَيَان وَالْحُجَّة وَالْبَيِّنَة . كَمَا : 1494 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { هَاتُوا بُرْهَانكُمْ } هَاتُوا بَيِّنَتكُمْ . 1495 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { هَاتُوا بُرْهَانكُمْ } هَاتُوا حُجَّتكُمْ . 1496 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ } قَالَ : حُجَّتكُمْ . 1497 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ } أَيْ حُجَّتكُمْ . وَهَذَا الْكَلَام وَإِنْ كَانَ ظَاهِره ظَاهِر دُعَاء الْقَائِلِينَ : { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } إلَى إحْضَار حُجَّة عَلَى دَعْوَاهُمْ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ بِمَعْنَى تَكْذِيب مِنْ اللَّه لَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَقَيْلهمْ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى إحْضَار بُرْهَان عَلَى دَعْوَاهُمْ تِلْكَ أَبَدًا . وَقَدْ أَبَانَ قَوْله : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن } عَلَى أَنَّ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْكَلَام بِمَعْنَى التَّكْذِيب لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ مَا ذَكَرَ اللَّه عَنْهُمْ . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ } فَإِنَّهُ : أَحْضَرُوا وَأَتَوْا بِهِ .
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 112
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ الزَّاعِمُونَ { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وَلَكِنْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن , فَهُوَ الَّذِي يَدْخُلهَا وَيُنَعَّم فِيهَا . كَمَا : 1498 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة هُوَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ الْآيَة . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى { بَلَى } فِيمَا مَضَى قَبْل . وَأَمَّا قَوْله : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِإِسْلَامِ الْوَجْه التَّذَلُّل لِطَاعَتِهِ وَالْإِذْعَان لِأَمْرِهِ . وَأَصْل الْإِسْلَام : الِاسْتِسْلَام ; لِأَنَّهُ مِنْ اسْتَسْلَمْت لِأَمْرِهِ , وَهُوَ الْخُضُوع لِأَمْرِهِ . وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُسْلِم مُسْلِمًا بِخُضُوعِ جَوَارِحه

لِطَاعَةِ رَبّه . كَمَا : 1499 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } يَقُول : أَخْلَص لِلَّهِ . وَكَمَا قَالَ زَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْل : وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمْت لَهُ الْمُزْن تَحْمِل عَذْبًا زُلَالًا يَعْنِي بِذَلِكَ : اسْتَسْلَمْت لِطَاعَةِ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِطَاعَتِهِ الْمُزْن وَانْقَادَتْ لَهُ . وَخَصَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بِالْخَبَرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } بِإِسْلَامِ وَجْهه لَهُ دُون سَائِر جَوَارِحه ; لِأَنَّ أَكْرَم أَعْضَاء ابْن آدَم وَجَوَارِحه وَجْهه , وَهُوَ أَعْظَمهَا عَلَيْهِ حُرْمَة وَحَقًّا , فَإِذَا خَضَعَ لِشَيْءِ وَجْهه الَّذِي هُوَ أَكْرَم أَجْزَاء جَسَده عَلَيْهِ فَغَيْره مِنْ أَجْزَاء جَسَده أَحْرَى أَنْ يَكُون أَخْضَع لَهُ . وَلِذَلِكَ تَذْكُر الْعَرَب فِي مَنْطِقهَا الْخَبَر عَنْ الشَّيْء فَتُضِيفهُ إلَى وَجْهه وَهِيَ تَعْنِي بِذَلِكَ نَفْس الشَّيْء وَعَيْنه , كَقَوْلِ الْأَعْشَى : أُؤَوِّل الْحُكْم عَلَى وَجْهه لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِر يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " عَلَى وَجْهه " : عَلَى مَا هُوَ بِهِ مِنْ صِحَّته وَصَوَابه . وَكَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّة : فَطَاوَعْت هَمِّي وَانْجَلَى وَجْه بَازِل مِنْ الْأَمْر لَمْ يَتْرُك خِلَاجًا بِزَوْلِهَا يُرِيد : " وَانْجَلَى الْبَازِل مِنْ الْأَمْر فَتَبَيَّنَ " , وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ , إذْ كَانَ حُسْن كُلّ شَيْء وَقُبْحه فِي وَجْهه , وَكَانَ فِي وَصْفهَا مِنْ الشَّيْء وَجْهه بِمَا تَصِفهُ بِهِ إبَانَة عَنْ عَيْن الشَّيْء وَنَفْسه . فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } إنَّمَا يَعْنِي : بَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ بَدَنه , فَخَضَعَ لَهُ بِالطَّاعَةِ جَسَده ; { وَهُوَ مُحْسِن } فِي إسْلَامه لَهُ جَسَده , { فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه } . فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْوَجْه مِنْ ذِكْر جَسَده لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ بِذِكْرِ الْوَجْه .

وَأَمَّا قَوْله : { وَهُوَ مُحْسِن } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ فِي

حَال إحْسَانه . وَتَأْوِيل الْكَلَام : بَلَى مَنْ أَخْلَص طَاعَته لِلَّهِ وَعِبَادَته لَهُ مُحْسِنًا فِي فِعْله ذَلِكَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه } فَلِلْمُسْلِمِ وَجْهه لِلَّهِ مُحْسِنًا جَزَاؤُهُ وَثَوَابه عَلَى إسْلَامه وَطَاعَته رَبّه عِنْد

اللَّه فِي مُعَاده .

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ } عَلَى الْمُسْلِمِينَ وُجُوههمْ لِلَّهِ وَهُمْ مُحْسِنُونَ , الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين فِي الْآخِرَة مِنْ عِقَابه وَعَذَاب جَحِيمه , وَمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالهمْ

.

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَفُوا وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا , وَلَا أَنْ يَمْنَعُوا مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ نَعِيم مَا أَعَدَّ اللَّه لِأَهْلِ طَاعَته . وَإِنَّمَا قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَلَا


خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَدْ قَالَ قَبْل : { فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه } لِأَنَّ " مَنْ " الَّتِي فِي قَوْله : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } فِي لَفْظ وَاحِد وَمَعْنَى جَمِيع , فَالتَّوْحِيد فِي قَوْله : { فَلَهُ أَجْره } لِلَّفْظِ , وَالْجَمْع فِي قَوْله : { وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ } لِلْمَعْنَى .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَسورة البقرة الآية رقم 113
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء } قَالَ أَبُو جَعْفَر : ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ أَهْل الْكِتَابَيْنِ تَنَازَعُوا عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1500 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة , وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا يُونُس بْن بُكَيْر , قَالَا جَمِيعًا : ثنا مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : لَمَّا قَدِمَ أَهْل نَجْرَان مِنْ النَّصَارَى عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَتَتْهُمْ أَحْبَار يَهُود , فَتَنَازَعُوا عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ , فَقَالَ رَافِع بْن حُرَيْمِلَة : مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْء ; وَكَفَرَ بِعِيسَى ابْن مَرْيَم وَبِالْإِنْجِيلِ . فَقَالَ رَجُل مِنْ أَهْل نَجْرَان مِنْ النَّصَارَى : مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْء ; وَجَحَدَ نُبُوَّة مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمَا : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء } إلَى قَوْله : { فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } 1501 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع قَوْله : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء } قَالَ : هَؤُلَاءِ أَهْل الْكِتَاب الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا تَأْوِيل الْآيَة , فَإِنْ قَالَتْ الْيَهُود : لَيْسَتْ النَّصَارَى فِي دِينهَا عَلَى صَوَاب , وَقَالَتْ النَّصَارَى : لَيْسَتْ الْيَهُود فِي دِينهَا عَلَى صَوَاب . وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ بِقَيْلِهِمْ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ إعْلَامًا مِنْهُ لَهُمْ بِتَضْيِيعِ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ حُكْم الْكِتَاب الَّذِي يَظْهَر الْإِقْرَار بِصِحَّتِهِ وَبِأَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه , وَجُحُودهمْ مَعَ ذَلِكَ مَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ مِنْ فُرُوضه ; لِأَنَّ الْإِنْجِيل الَّذِي تَدِين بِصِحَّتِهِ وَحَقِيقَته النَّصَارَى يُحَقِّق مَا فِي التَّوْرَاة مِنْ نُبُوَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا فَرَضَ اللَّه عَلَى بَنِي إسْرَائِيل فِيهَا مِنْ الْفَرَائِض , وَأَنَّ التَّوْرَاة الَّتِي تَدِين بِصِحَّتِهَا وَحَقِيقَتهَا الْيَهُود تُحَقِّق نُبُوَّة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّه مِنْ الْأَحْكَام وَالْفَرَائِض . ثُمَّ قَالَ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَر مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ فِي قَوْله : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء } مَعَ تِلَاوَة كُلّ وَاحِد مِنْ الْفَرِيقَيْنِ كِتَابه الَّذِي يَشْهَد عَلَى كَذِبه فِي قَيْله ذَلِكَ . فَأَخْبَرَ جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ قَالَ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْم مِنْهُمْ أَنَّهُمْ فِيمَا قَالُوهُ مُبْطِلُونَ , وَأَتَوْا مَا أَتَوْا مِنْ كُفْرهمْ بِمَا كَفَرُوا بِهِ عَلَى مَعْرِفَة مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِيهِ مُلْحِدُونَ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَوْ كَانَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى بَعْد أَنْ بَعَثَ اللَّه رَسُوله عَلَى شَيْء , فَيَكُون الْفَرِيق الْقَائِل مِنْهُمْ ذَلِكَ لِلْفَرِيقِ الْآخَر مُبْطِلًا فِي قَيْله مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : قَدْ رَوَيْنَا الْخَبَر الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْن عَبَّاس قَبْل , مِنْ أَنَّ إنْكَار كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ إنَّمَا كَانَ إنْكَارًا لِنُبُوَّةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , الَّذِي يَنْتَحِل التَّصْدِيق بِهِ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ الْفَرِيق الْآخَر , لَا دَفْعًا مِنْهُمْ أَنْ يَكُون الْفَرِيق الْآخَر فِي الْحَال الَّتِي بَعَثَ اللَّه فِيهَا نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْء مِنْ دِينه , بِسَبَبِ جُحُوده نُبُوَّة نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَيْف يَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى ذَلِكَ إنْكَار كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ أَنْ يَكُون الْفَرِيق الْآخَر عَلَى شَيْء بَعْد بَعْثَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ جَاحِدًا نُبُوَّة نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَال الَّتِي أَنْزَلَ اللَّه فِيهَا هَذِهِ الْآيَة ؟ وَلَكِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : وَقَالَتْ الْيَهُود : لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء مِنْ دِينهَا مُنْذُ دَانَتْ دِينهَا , وَقَالَتْ النَّصَارَى : لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء مُنْذُ دَانَتْ دِينهَا . وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْخَبَر الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْن عَبَّاس آنِفًا . فَكَذَّبَ اللَّه الْفَرِيقَيْنِ فِي قَيْلهمَا مَا قَالَا . كَمَا : 1502 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء } قَالَ : بَلَى قَدْ كَانَتْ أَوَائِل النَّصَارَى عَلَى شَيْء , وَلَكِنَّهُمْ ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا ; وَقَالَتْ النَّصَارَى : لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء . وَلَكِنَّ الْقَوْم ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا . 1503 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء } قَالَ : قَالَ مُجَاهِد : قَدْ كَانَتْ أَوَائِل الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَلَى شَيْء .

وَأَمَّا قَوْله : { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَاب } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ كِتَاب اللَّه التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل , وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَى فَرِيقَيْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِالْكُفْرِ , وَخِلَافهمْ أَمْر اللَّه الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فِيهِ . كَمَا : 1504 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا يُونُس بْن بُكَيْر , وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة بْن الْفَضْل , قَالَا جَمِيعًا : ثنا ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَاب كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْل قَوْلهمْ } , أَيْ كُلّ يَتْلُو فِي كِتَابه تَصْدِيق مَا كَفَرَ بِهِ : أَيْ يَكْفُر الْيَهُود بِعِيسَى وَعِنْدهمْ التَّوْرَاة فِيهَا مَا أَخَذَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاق عَلَى لِسَان مُوسَى بِالتَّصْدِيقِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَفِي الْإِنْجِيل مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى تَصْدِيق مُوسَى , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ التَّوْرَاة مِنْ عِنْد اللَّه ; وَكُلّ يَكْفُر بِمَا فِي يَد صَاحِبه .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْل قَوْلهمْ } . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّه بِقَوْلِهِ : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } , فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 1505 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , { قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْل قَوْلهمْ } قَالَ : وَقَالَتْ النَّصَارَى مِثْل قَوْل الْيَهُود قَبْلهمْ . 1506 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْل قَوْلهمْ } قَالَ : قَالَتْ النَّصَارَى مِثْل قَوْل الْيَهُود قَبْلهمْ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1507 - حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : قُلْت لِعَطَاءِ : مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ؟ قَالَ : أُمَم كَانَتْ قَبْل الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَقَبْل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . وَقَالَ بَعْضهمْ : عَنَى بِذَلِكَ مُشْرِكِي الْعَرَب , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْل كِتَاب فَنُسِبُوا إلَى الْجَهْل , وَنَفَى عَنْهُمْ مِنْ أَجْل ذَلِكَ الْعِلْم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1508 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْل قَوْلهمْ } فَهُمْ الْعَرَب , قَالُوا : لَيْسَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْء . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدنَا أَنْ يُقَال : إنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْم وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ , وَنَفَى عَنْهُمْ الْعِلْم بِمَا كَانَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِهِ عَالِمِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَهْلِهِمْ نَظِير مَا قَالَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى بَعْضهَا لِبَعْضِ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي قَوْله : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء } . وَجَائِز أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَب , وَجَائِز أَنْ يَكُونُوا أُمَّة كَانَتْ قَبْل الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَلَا أُمَّة أَوْلَى أَنْ يُقَال هِيَ الَّتِي عَنَيْت بِذَلِكَ مِنْ أُخْرَى , إذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَة دَلَالَة عَلَى أَيّ مِنْ أَيّ , وَلَا خَبَر بِذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَتْ حُجَّته مِنْ جِهَة نَقْل الْوَاحِد الْعَدْل وَلَا مِنْ جِهَة النَّقْل الْمُسْتَفِيض . وَإِنَّمَا قَصَدَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْل قَوْلهمْ } إعْلَام الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَدْ أَتَوْا مِنْ قَيْل الْبَاطِل , وَافْتِرَاء الْكَذِب عَلَى اللَّه , وَجُحُود نُبُوَّة الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل , وَهُمْ أَهْل كِتَاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مُبْطِلُونَ , وَبِجُحُودِهِمْ مَا يَجْحَدُونَ مِنْ مِلَّتهمْ خَارِجُونَ , وَعَلَى اللَّه مُفْتَرُونَ ; مِثْل الَّذِي قَالَهُ أَهْل الْجَهْل بِاَللَّهِ وَكُتُبه وَرُسُله الَّذِينَ لَمْ يَبْعَث اللَّه لَهُمْ رَسُولًا وَلَا أَوْحَى إلَيْهِمْ كِتَابًا . وَهَذِهِ الْآيَة تُنْبِئ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ مَعَاصِي اللَّه عَلَى عِلْم مِنْهُ بِنَهْيِ اللَّه عَنْهَا , فَمُصِيبَته فِي دِينه أَعْظَم مِنْ مُصِيبَة مَنْ أَتَى ذَلِكَ جَاهِلًا بِهِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَظَّمَ تَوْبِيخ الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِمَا وَبَّخَهُمْ بِهِ فِي قَيْلهمْ مَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَقَالَتْ الْيَهُود لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْء وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُود عَلَى شَيْء } مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ أَهْل كِتَاب قَالُوا مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْم مِنْهُمْ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَاَللَّه يَحْكُم بَيْنهمْ يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . يَعْنِي بِذَلِكَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : فَاَللَّه يَقْضِي فَيَفْصِل بَيْن هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ الْقَائِل بَعْضهمْ لِبَعْضِ : لَسْتُمْ عَلَى شَيْء مِنْ دِينكُمْ يَوْم قِيَام الْخَلْق لِرَبِّهِمْ مِنْ قُبُورهمْ , فَيَتَبَيَّن الْمُحِقّ مِنْهُمْ مِنْ الْمُبْطِل بِإِثَابَةِ الْمُحِقّ مَا وَعَدَ أَهْل طَاعَته عَلَى أَعْمَاله الصَّالِحَة وَمُجَازَاته الْمُبْطِل مِنْهُمْ بِمَا أَوْعَدَ أَهْل الْكُفْر بِهِ عَلَى كُفْرهمْ بِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أَدْيَانهمْ وَمِلَلهمْ فِي دَار الدُّنْيَا . وَأَمَّا الْقِيَامَة فَهِيَ مَصْدَر مِنْ قَوْل الْقَائِل : قُمْت قِيَامًا وَقِيَامَة , كَمَا يُقَال :
عُدْت

فُلَانًا عِيَادَة , وَصُنْت هَذَا الْأَمْر صِيَانَة . وَإِنَّمَا عَنَى بِالْقِيَامَةِ : قِيَام الْخَلْق مِنْ قُبُورهمْ لِرَبِّهِمْ , فَمَعْنَى يَوْم الْقِيَامَة : يَوْم قِيَام الْخَلَائِق مِنْ قُبُورهمْ لِمَحْشَرِهِمْ .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌسورة البقرة الآية رقم 114
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه وَسَعَى فِي خَرَابهَا } قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْل عَلَى أَنَّ تَأْوِيل الظُّلْم : وَضْع الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه . وَتَأْوِيل قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم } : وَأَيّ امْرِئِ أَشَدّ تَعَدِّيًا وَجَرَاءَة عَلَى اللَّه وَخِلَافًا لِأَمْرِهِ مِنْ امْرِئِ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُعْبَد اللَّه فِيهَا ؟

وَالْمَسَاجِد جَمْع مَسْجِد : وَهُوَ كُلّ مَوْضِع عُبِدَ اللَّه فِيهِ . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى السُّجُود فِيمَا مَضَى فَمَعْنَى الْمَسْجِد : الْمَوْضِع الَّذِي يَسْجُد لِلَّهِ فِيهِ , كَمَا يُقَال لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْلِس فِيهِ : الْمَجْلِس , وَلِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْزِل فِيهِ : مَنْزِل , ثُمَّ يُجْمَع مَنَازِل وَمَجَالِس نَظِير مَسْجِد وَمَسَاجِد . وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ بَعْض الْعَرَب مَسَاجِد فِي وَاحِد الْمَسَاجِد , وَذَلِكَ كَالْخَطَأِ مِنْ قَائِله . وَأَمَّا قَوْله : { أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ مِنْ التَّأْوِيل , أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ : وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه مِنْ أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه , فَتَكُون " أَنْ " حِينَئِذٍ نَصْبًا مِنْ قَوْل بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة بِفَقْدِ الْخَافِض وَتَعَلُّق الْفِعْل بِهَا . وَالْوَجْه الْآخَر أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ : وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ أَنْ يُذْكَر اسْم اللَّه فِي مَسَاجِده , فَتَكُون " أَنْ " حِينَئِذٍ فِي مَوْضِع نَصْب تَكْرِيرًا عَلَى مَوْضِع الْمَسَاجِد وَرَدًّا عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْله : { وَسَعَى فِي خَرَابهَا } فَإِنَّ مَعْنَاهُ : وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه , وَمِمَّنْ سَعَى فِي خَرَاب مَسَاجِد اللَّه . ف " سَعَى " إذَا عُطِفَ عَلَى " مَنَعَ " . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَمِنْ الَّذِي عُنِيَ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه وَسَعَى فِي خَرَابهَا } وَأَيّ الْمَسَاجِد هِيَ ؟ قِيلَ : إنَّ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه هُمْ النَّصَارَى ; وَالْمَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1509 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } أَنَّهُمْ النَّصَارَى . 1510 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه وَسَعَى فِي خَرَابهَا } النَّصَارَى كَانُوا يَطْرَحُونَ فِي بَيْت الْمَقْدِس الْأَذَى , وَيَمْنَعُونَ النَّاس أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ بُخْتِنَصَّرَ وَجُنْده وَمَنْ أَعَانَهُمْ مِنْ النَّصَارَى ; وَالْمَسْجِد : مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1511 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } الْآيَة , أُولَئِكَ أَعْدَاء اللَّه النَّصَارَى , حَمَلَهُمْ بَعْض الْيَهُود عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْتِنَصَّرَ الْبَابِلِيّ الْمَجُوسِيّ عَلَى تَخْرِيب بَيْت الْمَقْدِس . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه وَسَعَى فِي خَرَابهَا } قَالَ : هُوَ بُخْتِنَصَّرَ وَأَصْحَابه خَرَّبَ بَيْت الْمَقْدِس , وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّصَارَى . 1512 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه وَسَعَى فِي خَرَابهَا } قَالَ : الرُّوم , كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتِنَصَّرَ عَلَى خَرَاب بَيْت الْمَقْدِس , حَتَّى خَرَّبَهُ وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَح فِيهِ الْجِيَف ; وَإِنَّمَا أَعَانَهُ الرُّوم عَلَى خَرَاب مِنْ أَجْل أَنَّ بَنِي إسْرَائِيل قَتَلُوا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلَى عَنَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ بِهَذِهِ الْآيَة مُشْرِكِي قُرَيْش , إذْ مَنَعُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1513 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ , حَدَّثَنَا ابْن وَهْب . قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه وَسَعَى فِي خَرَابهَا } قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ , حِين حَالُوا بَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَبَيْن أَنْ يَدْخُل مَكَّة حَتَّى نَحَرَ هَدْيه بِذِي طُوَى وَهَادَنَهُمْ , وَقَالَ لَهُمْ : " مَا كَانَ أَحَد يُرَدّ عَنْ هَذَا الْبَيْت " . وَقَدْ كَانَ الرَّجُل يَلْقَى قَاتِل أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ فِيهِ فَمَا يَصُدّهُ , وَقَالُوا : لَا يَدْخُل عَلَيْنَا مَنْ قَتَلَ آبَاءَنَا يَوْم بَدْر وَفِينَا بَاقٍ . وَفِي قَوْله : { وَسَعَى فِي خَرَابهَا } قَالُوا : إذْ قَطَعُوا مَنْ يَعْمُرهَا بِذِكْرِهِ وَيَأْتِيهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَة . وَأُولَى التَّأْوِيلَات الَّتِي ذَكَرْتهَا بِتَأْوِيلِ الْآيَة قَوْل مَنْ قَالَ : عَنَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } النَّصَارَى ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ سَعَوْا فِي خَرَاب بَيْت الْمَقْدِس , وَأَعَانُوا بُخْتِنَصَّرَ عَلَى ذَلِكَ , وَمَنَعُوا مُؤْمِنِي بَنِي إسْرَائِيل مِنْ الصَّلَاة فِيهِ بَعْد مُنْصَرَف بُخْتِنَصَّرَ عَنْهُمْ إلَى بِلَاده . وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ : قِيَام الْحُجَّة بِأَنْ لَا قَوْل فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة إلَّا أَحَد الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا , وَأَنْ لَا مَسْجِد عَنَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ بِقَوْلِهِ : { وَسَعَى فِي خَرَابهَا } إلَّا أَحَد الْمَسْجِدَيْنِ , إمَّا مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس , وَإِمَّا الْمَسْجِد الْحَرَام . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْش لَمْ يَسْعَوْا قَطُّ فِي تَخْرِيب الْمَسْجِد الْحَرَام , وَإِنْ كَانُوا قَدْ مَنَعُوا فِي بَعْض الْأَوْقَات رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه مِنْ الصَّلَاة فِيهِ ; صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلّ بِالسَّعْيِ فِي خَرَاب مَسَاجِده غَيْر الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه بِعِمَارَتِهَا , إذْ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْش بَنَوْا الْمَسْجِد الْحَرَام فِي الْجَاهِلِيَّة , وَبِعِمَارَتِهِ كَانَ افْتِخَارهمْ , وَإِنْ كَانَ بَعْض أَفْعَالهمْ فِيهِ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى غَيْر الْوَجْه الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّه مِنْهُمْ . وَأُخْرَى , أَنَّ الْآيَة الَّتِي قَبْل قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } مَضَتْ بِالْخَبَرِ عَنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَذَمّ أَفْعَالهمْ , وَاَلَّتِي بَعْدهَا نَبَّهَتْ بِذَمِّ النَّصَارَى وَالْخَبَر عَنْ افْتِرَائِهِمْ عَلَى رَبّهمْ , وَلَمْ يَجْرِ لِقُرَيْشِ وَلَا لِمُشْرِكِي الْعَرَب ذِكْر , وَلَا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَام قَبْلهَا , فَيُوَجِّه الْخَبَر بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } إلَيْهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْآيَةِ أَنْ يُوَجِّه تَأْوِيلهَا إلَيْهِ , هُوَ مَا كَانَ نَظِير قِصَّة الْآيَة قَبْلهَا وَالْآيَة بَعْدهَا , إذْ كَانَ خَبَرهَا لِخَبَرِهِمَا نَظِيرًا وَشَكْلًا , إلَّا أَنْ تَقُوم حُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ اتَّفَقَتْ قِصَصهَا فَاشْتَبَهَتْ . فَإِنْ ظَنَّ ظَانّ أَنَّ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ , إذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَلْزَمهُمْ قَطُّ فَرْض الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْمُقَدَّس , فَمُنِعُوا مِنْ الصَّلَاة فِيهِ , فَيَجُوز تَوْجِيه قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } إلَى أَنَّهُ مَعْنِيّ بِهِ مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس ; فَقَدْ أَخْطَأَ فِيمَا ظَنَّ مِنْ ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلّ ذِكْره إنَّمَا ذَكَرَ ظُلْم مَنْ مَنَعَ مَنْ كَانَ فَرْضه الصَّلَاة فِي بَيْت الْمَقْدِس مِنْ مُؤْمِنِي بَنِي إسْرَائِيل , وَإِيَّاهُمْ قَصَدَ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ بِالظُّلْمِ وَالسَّعْي فِي خَرَاب الْمَسْجِد , وَإِنْ كَانَ قَدْ دَلَّ بِعُمُومِ قَوْله : { وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه } أَنَّ كُلّ مَانِع مُصَلِّيًا فِي مَسْجِد لِلَّهِ فَرْضًا كَانَتْ صَلَاته فِيهِ أَوْ تَطَوُّعًا , وَكُلّ سَاعٍ فِي إخْرَابه فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } . وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلّ عَمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه , أَنَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُول الْمَسَاجِد الَّتِي سَعَوْا فِي تَخْرِيبهَا وَمَنَعُوا عِبَاد اللَّه الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذِكْر اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِيهَا مَا دَامُوا عَلَى مُنَاصَبَة الْحَرْب إلَّا عَلَى خَوْف وَوَجَل مِنْ الْعُقُوبَة عَلَى دُخُولِهُمُوهَا . كَاَلَّذِي : 1514 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } وَهُمْ

الْيَوْم كَذَلِكَ , لَا يُوجَد نَصْرَانِيّ فِي بَيْت الْمَقْدِس إلَّا نُهِكَ ضَرْبًا وَأَبْلَغَ إلَيْهِ فِي الْعُقُوبَة . * حَدَّثَنَا الْحَسَن , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة : قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } وَهُمْ النَّصَارَى , فَلَا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِد إلَّا مُسَارَقَة , إنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ عُوقِبُوا . 1515 - حَدَّثَنَا مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } فَلَيْسَ فِي الْأَرْض رُومِيّ يَدْخُلهَا الْيَوْم إلَّا وَهُوَ خَائِف أَنْ تُضْرَب عُنُقه , أَوْ قَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَة فَهُوَ يُؤَدِّيهَا . 1516 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } قَالَ : نَادَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك , وَلَا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان " قَالَ : فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ إنَّا مُنِعْنَا أَنْ نَنْزِل . وَإِنَّمَا قِيلَ : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } فَأُخْرِجَ عَلَى وَجْه الْخَبَر عَنْ الْجَمِيع وَهُوَ خَبَر عَمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه ; لِأَنَّ " مَنْ " فِي مَعْنَى الْجَمِيع , وَإِنْ كَانَ لَفْظه وَاحِدًا .

الْقَوْل فِي

تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْي وَلَهُمْ فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم } . أَمَّا قَوْله عَزَّ وَجَلّ : { لَهُمْ } فَإِنَّهُ يَعْنِي الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه . وَأَمَّا قَوْله : { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْي } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِالْخِزْيِ : الْعَار وَالشَّرّ وَالذِّلَّة إمَّا الْقَتْل وَالسَّبَاء , وَإِمَّا الذِّلَّة وَالصَّغَار بِأَدَاءِ الْجِزْيَة . كَمَا : 1517 - حَدَّثَنَا الْحَسَن , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة : { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْي } قَالَ : يُعْطُونَ الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ . 1518 - حَدَّثَنَا مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ قَوْله : { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْي } أَمَّا خِزْيهمْ فِي الدُّنْيَا : فَإِنَّهُمْ إذَا قَامَ الْمَهْدِيّ وَفُتِحَتْ القسطنطينية قَتَلَهُمْ , فَذَلِكَ الْخِزْي ; وَأَمَّا الْعَذَاب الْعَظِيم : فَإِنَّهُ عَذَاب جَهَنَّم الَّذِي لَا يُخَفَّف عَنْ أَهْله , وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فِيهَا فَيَمُوتُوا . وَتَأْوِيل الْآيَة : لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الذِّلَّة وَالْهَوَان وَالْقَتْل وَالسَّبْي , عَلَى مَنْعهمْ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه , وَسَعْيهمْ فِي خَرَابهَا . وَلَهُمْ - عَلَى مَعْصِيَتهمْ وَكُفْرهمْ بِرَبِّهِمْ وَسَعْيهمْ فِي الْأَرْض فَسَادًا - عَذَاب جَهَنَّم , وَهُوَ الْعَذَاب الْعَظِيم .
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 115
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب } لِلَّهِ مُلْكهمَا وَتَدْبِيرهمَا , كَمَا يُقَال : لِفُلَانِ هَذِهِ الدَّار , يَعْنِي بِهَا أَنَّهَا لَهُ مِلْكًا , فَذَلِكَ قَوْله : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب } يَعْنِي أَنَّهُمَا لَهُ مُلْكًا وَخَلْقًا . وَالْمَشْرِق : هُوَ مَوْضِع شُرُوق الشَّمْس ,

وَهُوَ مَوْضِع طُلُوعهَا , كَمَا يُقَال لِمَوْضِعِ طُلُوعهَا مِنْهُ مَطْلِع بِكَسْرِ اللَّام , وَكَمَا بَيَّنَّا فِي مَعْنَى الْمَسَاجِد آنِفًا . فَإِنْ قَالَ قَائِل : أَوَ مَا كَانَ لِلَّهِ إلَّا مَشْرِق وَاحِد وَمَغْرِب وَاحِد حَتَّى قِيلَ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب } ؟ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْر الَّذِي ذَهَبْت إلَيْهِ , وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : وَلِلَّهِ الْمَشْرِق الَّذِي تَشْرُق مِنْهُ الشَّمْس كُلّ يَوْم , وَالْمَغْرِب الَّذِي تَغْرُب فِيهِ كُلّ يَوْم . فَتَأْوِيله إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ : وَلِلَّهِ مَا بَيْن قُطْرَيْ الْمَشْرِق , وَمَا بَيْن قُطْرَيْ الْمَغْرِب , إذْ كَانَ شُرُوق الشَّمْس كُلّ يَوْم مِنْ مَوْضِع مِنْهُ لَا تَعُود لِشُرُوقِهَا مِنْهُ إلَى الْحَوْل الَّذِي بَعْده , وَكَذَلِك غُرُوبهَا كُلّ يَوْم . فَإِنْ قَالَ : أَوَ لَيْسَ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيل ذَلِكَ مَا ذَكَرَتْ فَلِلَّهِ كُلّ مَا دُونه الْخَلْق خَلَقَهُ ؟ قِيلَ : بَلَى . فَإِنْ قَالَ : فَكَيْف خَصَّ الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب بِالْخَبَرِ عَنْهَا أَنَّهَا لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِع دُون سَائِر الْأَشْيَاء غَيْرهَا ؟ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله خَصَّ اللَّه ذِكْر ذَلِكَ بِمَا خَصَّهُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِع , وَنَحْنُ مُبَيِّنُو الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَة بَعْد ذِكْرنَا أَقْوَالهمْ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضهمْ : خَصَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ مِنْ أَجْل أَنَّ الْيَهُود كَانَتْ تُوَجِّه فِي صَلَاتهَا وُجُوههَا قِبَل بَيْت الْمَقْدِس , وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل ذَلِكَ مُدَّة , ثُمَّ حَوَّلُوا إلَى الْكَعْبَة , فَاسْتَنْكَرَتْ الْيَهُود ذَلِكَ مِنْ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : { مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتهمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فَقَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ : الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب كُلّهَا لِي أَصْرِف وُجُوه عِبَادِي كَيْف أَشَاء مِنْهَا , فَحَيْثُمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1519 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : كَانَ أَوَّل مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآن الْقِبْلَة , وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَة . وَكَانَ أَكْثَر أَهْلهَا الْيَهُود , أَمَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلّ أَنْ يَسْتَقْبِل بَيْت الْمَقْدِس , فَفَرِحَتْ الْيَهُود , فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَة عَشَر شَهْرًا , فَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ قِبْلَة إبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَكَانَ يَدْعُو وَيَنْظُر إلَى السَّمَاء , فَأَنْزَلَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّب وَجْهك فِي السَّمَاء } 2 144 إلَى قَوْله : { فَوَلُّوا وُجُوهكُمْ شَطْره } 2 144 - 150 فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُود , وَقَالُوا : { مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتهمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } 2 142 فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب } وَقَالَ : { أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } . * حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ نَحْوه . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة قَبْل أَنْ يَفْرِض عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ التَّوَجُّه شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام . وَإِنَّمَا أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ مُعْلِمًا نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسِّلَام بِذَلِكَ وَأَصْحَابه أَنَّ لَهُمْ التَّوَجُّه بِوُجُوهِهِمْ لِلصَّلَاةِ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ نَوَاحِي الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب , لِأَنَّهُمْ لَا يُوَجِّهُونَ وُجُوههمْ وَجْهًا مِنْ ذَلِكَ وَنَاحِيَة , إلَّا كَانَ جَلّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْه وَتِلْكَ النَّاحِيَة ; لِأَنَّ لَهُ الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب , وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَان , كَمَا قَالَ جَلّ وَعَزَّ : { وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَر إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا } 58 7 قَالُوا : ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوَجُّه شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1520 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد عَنْ قَتَادَة : قَوْله جَلّ وَعَزَّ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْد ذَلِكَ , فَقَالَ اللَّه : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْت فَوَلِّ وَجْهك شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام } . 2 149 - 150 1521 - حُدِّثْت عَنْ الْحَسَن قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } قَالَ : هِيَ الْقِبْلَة , ثُمَّ نَسَخَتْهَا الْقِبْلَة إلَى الْمَسْجِد الْحَرَام . 1522 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا الْحَجَّاج بْن الْمِنْهَال , قَالَ : ثنا هَمَّام , قَالَ : ثنا يَحْيَى , قَالَ : سَمِعْت قَتَادَة فِي قَوْل اللَّه : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } قَالَ : كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْو بَيْت الْمَقْدِس وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة قَبْل الْهِجْرَة , وَبَعْد مَا هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْو بَيْت الْمَقْدِس سِتَّة عَشَر شَهْرًا , ثُمَّ وَجَّهَ بَعْد ذَلِكَ نَحْو الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام , فَنَسَخَهَا اللَّه فِي آيَة أُخْرَى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَة تَرْضَاهَا } إلَى : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهكُمْ شَطْره } 2 144 قَالَ : فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة مَا كَانَ قَبْلهَا مِنْ أَمْر الْقِبْلَة . 1523 - حَدَّثَنَا يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : سَمِعْته - يَعْنِي زَيْدًا - يَقُول : قَالَ عَزَّ وَجَلّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه إنَّ اللَّه وَاسِع عَلِيم } قَالَ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَؤُلَاءِ قَوْم يَهُود يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتًا مِنْ بُيُوت اللَّه لَوْ أَنَّا اسْتَقْبَلْنَاهُ " فَاسْتَقْبَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّة عَشَر شَهْرًا . فَبَلَغَهُ أَنَّ يَهُود تَقُول : وَاَللَّه مَا دَرَى مُحَمَّد وَأَصْحَابه أَيْنَ قِبْلَتهمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ ! فَكَرِهَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَرَفَعَ وَجْهه إلَى السَّمَاء , فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { قَدْ نَرَى تَقَلُّب وَجْهك فِي السَّمَاء } 2 144 الْآيَة . وَقَالَ آخَرُونَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْنًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلّ لَهُ أَنْ يُصَلِّي التَّطَوُّع حَيْثُ تَوَجَّهَ وَجْهه مِنْ شَرْق أَوْ غَرْب , فِي مَسِيره فِي سَفَره , وَفِي حَال الْمُسَايَفَة , وَفِي شِدَّة الْخَوْف , وَالْتِقَاء الزُّحُوف فِي الْفَرَائِض . وَأَعْلَمهُ أَنَّهُ حَيْثُ وَجَّهَ وَجْهه فَهُوَ هُنَالِكَ , بِقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1524 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا ابْن إدْرِيس , قَالَ : ثنا عَبْد الْمَلِك , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَته , وَيَذْكُر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ , وَيَتَأَوَّل هَذِهِ الْآيَة : { أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } . 1525 - حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِب , قَالَ : ثنا ابْن فُضَيْل , عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي سُلَيْمَان , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ : " إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : { أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } أَنْ تُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِك رَاحِلَتك فِي السَّفَر تَطَوُّعًا , كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّة يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته تَطَوُّعًا يُومِئ بِرَأْسِهِ نَحْو الْمَدِينَة " . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي قَوْم عَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَة فَلَمْ يَعْرِفُوا شَطْرهَا , فَصَلَّوْا عَلَى أَنْحَاء مُخْتَلِفَة , فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ لَهُمْ : لِي الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب , فَأَنَّى وَلَّيْتُمْ وُجُوهكُمْ فَهُنَالِكَ وَجْهِي , وَهُوَ قِبْلَتكُمْ ; مُعْلِمهمْ بِذَلِكَ أَنَّ صَلَاتهمْ مَاضِيَة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1526 - حَدَّثَنَا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَبُو الرَّبِيع السَّمَّان , عَنْ عَاصِم بْن عُبَيْد اللَّه , عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَامِر بْن رَبِيعَة , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ : " كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَة سَوْدَاء مُظْلِمَة , فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا , فَجَعَلَ الرَّجُل يَأْخُذ الْأَحْجَار فَيَعْمَل مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ . فَلَمَّا أَصْبَحْنَا , إذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا عَلَى غَيْر الْقِبْلَة , فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَة ! فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه إنَّ اللَّه وَاسِع عَلِيم } " . 1527 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنِي الْحَجَّاج , قَالَ : ثنا حَمَّاد , قَالَ : قُلْت لِلنَّخَعِيِّ : إنِّي كُنْت اسْتَيْقَظْت - أَوْ قَالَ أُوقِظْت , شَكَّ الطَّبَرِيُّ - فَكَانَ فِي السَّمَاء سَحَاب , فَصَلَّيْت لِغَيْرِ الْقِبْلَة . قَالَ : مَضَتْ صَلَاتك , يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } . 1528 - حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع , قَالَ : ثنا أَبِي عَنْ أَشْعَث السَّمَّان , عَنْ عَاصِم بْن عُبَيْد اللَّه , عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَامِر بْن رَبِيعَة , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَة مُظْلِمَة فِي سَفَر , فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَة فَصَلَّيْنَا , فَصَلَّى كُلّ وَاحِد مِنَّا عَلَى حِيَاله . ثُمَّ أَصْبَحْنَا فَذَكَرْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي سَبَب النَّجَاشِيّ ; لِأَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَازَعُوا فِي أَمْره مِنْ أَجْل أَنَّهُ مَاتَ قَبْل أَنْ يُصَلِّي إلَى الْقِبْلَة , فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب كُلّهَا لِي , فَمَنْ وَجَّهَ وَجْهه نَحْو شَيْء مِنْهَا يُرِيدنِي بِهِ وَيَبْتَغِي بِهِ طَاعَتِي , وَجَدَنِي هُنَالِكَ . يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ النَّجَاشِيّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَة , فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُوَجِّه إلَى بَعْض وُجُوه الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب وَجْهه , يَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِي صَلَاته . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1529 - حَدَّثَنَا ابْن بَشَّار , قَالَ : ثنا هِشَام بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ قَتَادَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ " قَالُوا : نُصَلِّي عَلَى رَجُل لَيْسَ بِمُسْلِمِ ! قَالَ : فَنَزَلَتْ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } 3 199 قَالَ قَتَادَة : فَقَالُوا إنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي إلَى الْقِبْلَة , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ : أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره إنَّمَا خَصَّ الْخَبَر عَنْ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب فِي هَذِهِ الْآيَة بِأَنَّهُمَا لَهُ مُلْكًا وَإِنْ كَانَ لَا شَيْء إلَّا وَهُوَ لَهُ مُلْك ; إعْلَامًا مِنْهُ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ لَهُ مُلْكهمَا وَمُلْك مَا بَيْنهمَا مِنْ الْخَلْق , وَأَنَّ عَلَى جَمِيعهمْ إذْ كَانَ لَهُ مُلْكهمْ طَاعَته فِيمَا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ , وَفِيمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَرَائِض , وَالتَّوَجُّه نَحْو الْوَجْه الَّذِي وُجِّهُوا إلَيْهِ , إذْ كَانَ مِنْ حُكْم الْمَمَالِيك طَاعَة مَالِكهمْ . فَأَخْرَجَ الْخَبَر عَنْ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب , وَالْمُرَاد بِهِ مِنْ بَيْنهمَا مِنْ الْخَلْق , عَلَى النَّحْو الَّذِي قَدْ بَيَّنْت مِنْ الِاكْتِفَاء بِالْخَبَرِ عَنْ سَبَب الشَّيْء مِنْ ذِكْره وَالْخَبَر عَنْهُ , كَمَا قِيلَ : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل } وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ . وَمَعْنَى الْآيَة إذًا : وَلِلَّهِ مُلْك الْخَلْق الَّذِي بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب يَتَعَبَّدهُمْ بِمَا شَاءَ , وَيَحْكُم فِيهِمْ مَا يُرِيد عَلَيْهِمْ طَاعَته ; فَوَلُّوا وُجُوهكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ نَحْو وَجْهِي , فَإِنَّكُمْ أَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهكُمْ فَهُنَالِكَ وَجْهِي . فَأَمَّا الْقَوْل فِي هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة أَمْ مَنْسُوخَة , أَمْ لَا هِيَ نَاسِخَة وَلَا مَنْسُوخَة ؟ فَالصَّوَاب فِيهِ مِنْ الْقَوْل أَنْ يُقَال : إنَّهَا جَاءَتْ مَجِيء الْعُمُوم , وَالْمُرَاد الْخَاصّ ; وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } مُحْتَمَل : أَيْنَمَا تُوَلُّوا فِي حَال سَيْركُمْ فِي أَسْفَاركُمْ , فِي صَلَاتكُمْ التَّطَوُّع , وَفِي حَال مُسَايَفَتكُمْ عَدُوّكُمْ , فِي تَطَوُّعكُمْ وَمَكْتُوبَتكُمْ , فَثَمَّ وَجْه اللَّه ; كَمَا قَالَ ابْن عُمَر وَالنَّخَعِيّ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا عَنْهُ آنِفًا . وَمُحْتَمَل : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا مِنْ أَرْض اللَّه فَتَكُونُوا بِهَا فَثَمَّ قِبْلَة اللَّه الَّتِي تُوَجِّهُونَ وُجُوهكُمْ إلَيْهَا ; لِأَنَّ الْكَعْبَة مُمْكِن لَكُمْ التَّوَجُّه إلَيْهَا مِنْهَا . كَمَا قَالَ أَبُو كُرَيْب : 1530 - قَالَ ثنا وَكِيع , عَنْ أَبِي سِنَان , عَنْ الضَّحَّاك , وَالنَّضْر بْن عَرَبِيّ , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } قَالَ : قِبْلَة اللَّه , فَأَيْنَمَا كُنْت مِنْ شَرْق أَوْ غَرْب فَاسْتَقْبِلْهَا . 1531 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيم , عَنْ ابْن أَبِي بَكْر , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَة تَسْتَقْبِلُونَهَا , قَالَ : الْكَعْبَة . وَمُحْتَمَل : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهكُمْ فِي دُعَائِكُمْ فَهُنَالِكَ وَجْهِي أَسْتَجِيب لَكُمْ دُعَاءَكُمْ . كَمَا : 1532 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ مُجَاهِد : لَمَّا نَزَلَتْ : { اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } 40 60 قَالُوا : إلَى أَيْنَ ؟ فَنَزَلَتْ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } . فَإِذَا كَانَ قَوْله عَزَّ وَجَلّ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } مُحْتَمِلًا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَوْجُه , لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَزْعُم أَنَّهَا نَاسِخَة أَوْ مَنْسُوخَة إلَّا بِحُجَّةِ يَجِب التَّسْلِيم لَهَا ; لِأَنَّ النَّاسِخ لَا يَكُون إلَّا بِمَنْسُوخِ , وَلَمْ تَقُمْ حُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَهَا بِأَنَّ قَوْله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } مَعْنِيّ بِهِ : فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهكُمْ فِي صَلَاتكُمْ فَثَمَّ قِبْلَتكُمْ . وَلَا أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْد صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه نَحْو بَيْت الْمَقْدِس أَمْرًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلّ لَهُمْ بِهَا أَنْ يَتَوَجَّهُوا نَحْو الْكَعْبَة , فَيَجُوز أَنْ يُقَال : هِيَ نَاسِخَة الصَّلَاة نَحْو بَيْت الْمَقْدِس ; إذْ كَانَ مِنْ أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّة التَّابِعِينَ , مَنْ يُنْكِر أَنْ تَكُون نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى . وَلَا خَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِت بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ , وَكَانَ الِاخْتِلَاف فِي أَمْرهَا مَوْجُودًا عَلَى مَا وَصَفْت . وَلَا هِيَ إذْ لَمْ تَكُنْ نَاسِخَة لِمَا وَصَفْنَا قَامَتْ حُجَّتهَا بِأَنَّهَا مَنْسُوخَة , إذْ كَانَتْ مُحْتَمِلَة مَا وَصَفْنَا بِأَنْ تَكُون جَاءَتْ بِعُمُومِ , وَمَعْنَاهَا : فِي حَال دُون حَال إنْ كَانَ عُنِيَ بِهَا التَّوَجُّه فِي الصَّلَاة , وَفِي كُلّ حَال إنْ كَانَ عُنِيَ بِهَا الدُّعَاء , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كِتَابنَا : " كِتَاب الْبَيَان عَنْ أُصُول الْأَحْكَام " , عَلَى أَنْ لَا نَاسِخ مِنْ آي الْقُرْآن وَأَخْبَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا نَفَى حُكْمًا ثَابِتًا , وَأَلْزَم الْعِبَاد فَرْضه غَيْر مُحْتَمَل بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنه غَيْر ذَلِكَ . فَأَمَّا إذَا مَا احْتَمَلَ غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاء أَوْ الْخُصُوص وَالْعُمُوم , أَوْ الْمُجْمَل , أَوْ الْمُفَسَّر , فَمِنْ النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ بِمَعْزِلِ , بِمَا أَغْنَى عَنْ تَكْرِيره فِي هَذَا الْمَوْضِع . وَلَا مَنْسُوخ إلَّا الْمَنْفِيّ الَّذِي كَانَ قَدْ ثَبَتَ حُكْمه وَفَرْضه , وَلَمْ يَصِحّ وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لِقَوْلِهِ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه } بِحُجَّةِ يَجِب التَّسْلِيم لَهَا , فَيُقَال فِيهِ : هُوَ نَاسِخ أَوْ مَنْسُوخ . وَأَمَّا قَوْله : { فَأَيْنَمَا } فَإِنَّ مَعْنَاهُ : حَيْثُمَا . وَأَمَّا قَوْله : { تُوَلُّوا } فَإِنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِهِ أَنْ يَكُون تُوَلُّونَ نَحْوه وَإِلَيْهِ , كَمَا يَقُول الْقَائِل : وَلَّيْت وَجْهِي نَحْوه وَوَلَّيْته إلَيْهِ , بِمَعْنَى : قَابَلْته وَوَاجَهْته . وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَة لِإِجْمَاعِ الْحُجَّة عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيله وَشُذُوذ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى : تُوَلُّونَ عَنْهُ فتستدبرونه , فَاَلَّذِي تَتَوَجَّهُونَ إلَيْهِ وَجْه اللَّه , بِمَعْنَى قِبْلَة اللَّه . وَأَمَّا قَوْله : { فَثَمَّ } فَإِنَّهُ بِمَعْنَى : هُنَالِكَ . وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل قَوْله : { فَثَمَّ وَجْه اللَّه } فَقَالَ بَعْضهمْ : تَأْوِيل ذَلِكَ : فَثَمَّ قِبْلَة اللَّه , يَعْنِي بِذَلِكَ : وَجْهه الَّذِي وَجَّهَهُمْ إلَيْهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1533 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا وَكِيع , عَنْ النَّضْر بْن عَرَبِيّ , عَنْ مُجَاهِد : { فَثَمَّ وَجْه اللَّه } قَالَ : قِبْلَة اللَّه . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيم , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَة تَسْتَقْبِلُونَهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلّ { فَثَمَّ وَجْه اللَّه } فَثَمَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى قَوْله : { فَثَمَّ وَجْه اللَّه } فَثَمَّ تُدْرِكُونَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ رِضَا اللَّه الَّذِي لَهُ الْوَجْه الْكَرِيم . وَقَالَ آخَرُونَ : عَنَى بِالْوَجْهِ : ذَا الْوَجْه , وَقَالَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة : وَجْه اللَّه صِفَة لَهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَمَا هَذِهِ الْآيَة مِنْ الَّتِي قَبْلهَا ؟ قِيلَ : هِيَ لَهَا مُوَاصِلَة , وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : وَمَنْ أَظْلَم مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ مَنَعُوا عِبَاد اللَّه مَسَاجِده أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه , وَسَعَوْا فِي خَرَابهَا , وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب , فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهكُمْ فَاذْكُرُوهُ , فَإِنَّ وَجْهه هُنَالِكَ يَسَعكُمْ فَضْله وَأَرْضه وَبِلَاده , وَيَعْلَم مَا تَعْمَلُونَ , وَلَا يَمْنَعكُمْ تَخْرِيب مَنْ خَرَّبَ مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس , وَمَنَعَهُمْ مَنْ مَنَعُوا مِنْ ذِكْر اللَّه فِيهِ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّه حَيْثُ كُنْتُمْ مِنْ أَرْض اللَّه تَبْتَغُونَ بِهِ وَجْهه .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى

: { إنَّ اللَّه وَاسِع عَلِيم } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَاسِع } يَسَع خَلْقه كُلّهمْ بِالْكِفَايَةِ وَالْأَفْضَال وَالْجُود وَالتَّدْبِير . وَأَمَّا قَوْله : { عَلِيم } فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ عَلِيم بِأَفْعَالِهِمْ لَا يَغِيب عَنْهُ مِنْهَا شَيْء وَلَا يَعْزُب عَنْ عِلْمه , بَلْ هُوَ بِجَمِيعِهَا عَلِيم .
وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَسورة البقرة الآية رقم 116
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا سُبْحَانه بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا } الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه , { وَقَالُوا } مَعْطُوف عَلَى قَوْله : { وَسَعَى فِي خَرَابهَا } . وَتَأْوِيل الْآيَة : وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اسْمه وَسَعَى فِي خَرَابهَا , وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا وَهُمْ النَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى ابْن اللَّه ؟ فَقَالَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ مُكَذِّبًا قَيْلهمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ وَمُنْتَفِيًا مِمَّا نَحَلُوهُ وَأَضَافُوا إلَيْهِ بِكَذِبِهِمْ وَفِرْيَتهمْ : { سُبْحَانه } يَعْنِي بِهَا : تَنْزِيهًا وَتَبْرِيئًا مِنْ أَنْ يَكُون لَهُ وَلَد , وَعُلُوًّا وَارْتِفَاعًا عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى قَوْل الْقَائِل : " سُبْحَان اللَّه " بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع . ثُمَّ أَخْبَرَ جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض مُلْكًا وَخَلْقًا , وَمَعْنَى ذَلِكَ : وَكَيْف يَكُون الْمَسِيح لِلَّهِ وَلَدًا , وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُون فِي بَعْض هَذِهِ الْأَمَاكِن إمَّا فِي السَّمَوَات , وَإِمَّا فِي الْأَرْض , وَلِلَّهِ مُلْك مَا فِيهِمَا ؟ وَلَوْ كَانَ الْمَسِيح ابْنًا كَمَا زَعَمْتُمْ لَمْ يَكُنْ كَسَائِرِ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض مِنْ خَلْقه وَعَبِيده فِي ظُهُور آيَات الصَّنْعَة فِيهِ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَى ذَلِكَ : مُطِيعُونَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1534 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } مُطِيعُونَ . 1535 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } قَالَ : مُطِيعُونَ , قَالَ : طَاعَة الْكَافِر فِي سُجُود ظِلّه . 1536 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ , إلَّا أَنَّهُ زَادَ : بِسُجُودِ ظِلّه وَهُوَ

كَارِه . 1537 - حَدَّثَنَا مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } يَقُول : كُلّ لَهُ مُطِيعُونَ يَوْم الْقِيَامَة . 1538 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن سَعِيد , عَمَّنْ ذَكَرَهُ , عَنْ عِكْرِمَة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } قَالَ : الطَّاعَة . 1539 - حُدِّثْت عَنْ الْمِنْجَاب بْن الْحَارِث , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عِمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { قَانِتُونَ } مُطِيعُونَ . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى ذَلِكَ كُلّ لَهُ مُقِرُّونَ بِالْعُبُودِيَّةِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1540 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن بْن وَاقِد , عَنْ يَزِيد النَّحْوِيّ , عَنْ عِكْرِمَة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } كُلّ مُقِرّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1541 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع قَوْله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } قَالَ : كُلّ لَهُ قَائِم يَوْم الْقِيَامَة . وَالْقُنُوت فِي كَلَام الْعَرَب مَعَانٍ : أَحَدهَا الطَّاعَة , وَالْآخَر الْقِيَام , وَالثَّالِث الْكَفّ عَنْ الْكَلَام وَالْإِمْسَاك عَنْهُ . وَأُولَى مَعَانِي الْقُنُوت فِي قَوْله : { كُلّ لَهُ فَانْتُونَ } الطَّاعَة وَالْإِقْرَار لِلَّهِ عَزَّ وَجَلّ بِالْعُبُودِيَّةِ بِشَهَادَةِ أَجْسَامهمْ بِمَا فِيهَا مِنْ آثَار الصَّنْعَة , وَالدَّلَالَة عَلَى وَحْدَانِيَّة اللَّه عَزَّ وَجَلّ , وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره بَارِئُهَا وَخَالِقهَا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ أَكْذَب الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا بِقَوْلِهِ : بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض مُلْكًا وَخَلْقًا . ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ جَمِيع مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنَّهَا مُقِرَّة بِدَلَالَتِهَا عَلَى رَبّهَا وَخَالِقهَا , وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى بَارِئُهَا وَصَانِعهَا . وَإِنْ جَحَدَ ذَلِكَ بَعْضهمْ فَأَلْسِنَتهمْ مُذْعِنَة لَهُ بِالطَّاعَةِ بِشَهَادَتِهَا لَهُ بِآثَارِ الصَّنْعَة الَّتِي فِيهَا بِذَلِكَ , وَأَنَّ الْمَسِيح أَحَدهمْ , فَأَنَّى يَكُون لِلَّهِ وَلَدًا وَهَذِهِ صِفَته ؟ وَقَدْ زَعَمَ بَعْض مَنْ قَصُرَتْ مَعْرِفَته عَنْ تَوْجِيه الْكَلَام وُجْهَته أَنَّ قَوْله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } خَاصَّة لِأَهْلِ الطَّاعَة وَلَيْسَتْ بِعَامَّةِ . وَغَيْر جَائِز ادِّعَاء خُصُوص فِي آيَة عَامّ ظَاهِرهَا إلَّا بِحُجَّةِ يَجِب التَّسْلِيم لَهَا لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابنَا : " كِتَاب الْبَيَان عَنْ أُصُول الْأَحْكَام " . وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه جَلّ وَعَزَّ عَنْ أَنَّ الْمَسِيح الَّذِي زَعَمَتْ النَّصَارَى أَنَّهُ ابْن اللَّه مُكَذِّبهمْ هُوَ وَالسَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهَا , إمَّا بِاللِّسَانِ , وَإِمَّا بِالدَّلَالَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ جَمِيعهمْ بِطَاعَتِهِمْ إيَّاهُ وَإِقْرَارهمْ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ عَقِيب قَوْله : { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَا .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُسورة البقرة الآية رقم 117
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { بَدِيع السَّمَوَات وَالْأَرْض } يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { بَدِيع السَّمَوَات وَالْأَرْض } مُبْدِعهَا . وَإِنَّمَا هُوَ " مُفْعِل " صُرِفَ إلَى " فَعِيل " , كَمَا صُرِفَ الْمُؤْلِم إلَى أَلِيم , وَالْمُسْمِع إلَى سَمِيع . وَمَعْنَى الْمُبْدِع : الْمُنْشِئ وَالْمُحْدِث مَا لَمْ يَسْبِقهُ إلَى إنْشَاء مِثْله وَإِحْدَاثه أَحَد ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمُبْتَدِع فِي الدِّين مُبْتَدِعًا , لِإِحْدَاثِهِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْبِقهُ إلَيْهِ غَيْره . وَكَذَلِك كُلّ مُحْدِث فِعْلًا أَوْ قَوْلًا لَمْ يَتَقَدَّمهُ فِيهِ مُتَقَدِّم , فَإِنَّ الْعَرَب تُسَمِّيه مُبْتَدِعًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة فِي مَدْح هَوْذَة بْن عَلِيّ الْحَنَفِيّ : يَرْعَى إلَى قَوْل سَادَات الرِّجَال إذَا أَبْدَوْا لَهُ الْحَزْم أَوْ مَا شَاءَ ابْتَدَعَا أَيْ يُحْدِث مَا شَاءَ . وَمِنْهُ قَوْل رُؤْبَة بْن الْعَجَّاج : فَأَيّهَا الْغَاشِي الْقِذَاف الْأَتْيَعَا إنْ كُنْت لِلَّهِ التَّقِيّ الْأَطْوَعَا فَلَيْسَ وَجْه الْحَقّ أَنْ تَبَدَّعَا يَعْنِي : أَنْ تُحْدِث فِي الدِّين مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ . فَمَعْنَى الْكَلَام : سُبْحَان اللَّه أَنَّى يَكُون لَهُ وَلَد ! وَهُوَ مَالِك مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض , تَشْهَد لَهُ جَمِيعًا بِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ بالوحدانية , وَتُقِرّ لَهُ بِالطَّاعَةِ ; وَهُوَ بَارِئُهَا وَخَالِقهَا , وَمُوجِدهَا مِنْ غَيْر أَصْل , وَلَا مِثَال احْتَذَاهَا عَلَيْهِ ! وَهَذَا إعْلَام مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عِبَاده , أَنَّ مِمَّا يَشْهَد لَهُ بِذَلِكَ الْمَسِيح الَّذِي أَضَافُوا إلَى اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بُنُوَّته , وَإِخْبَار مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ السَّمَوَات وَالْأَرْض مِنْ غَيْر أَصْل وَعَلَى غَيْر مِثَال , هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيح مِنْ غَيْر وَالِد بِقُدْرَتِهِ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1542 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { بَدِيع السَّمَوَات وَالْأَرْض } يَقُول : ابْتَدَعَ خَلْقهَا , وَلَمْ يَشْرَكهُ فِي خَلْقهَا أَحَد . 1543 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { بَدِيع السَّمَوَات وَالْأَرْض } يَقُول : ابْتَدَعَهَا فَخَلَقَهَا , وَلَمْ يَخْلُق مِثْلهَا شَيْئًا فَتَتَمَثَّل بِهِ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا } وَإِذَا أَحْكَم أَمْرًا وَحَتَمَهُ . وَأَصْل كُلّ قَضَاء أَمْر الْإِحْكَام وَالْفَرَاغ مِنْهُ ; وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْحَاكِمِ بَيْن النَّاس : الْقَاضِي بَيْنهمْ , لِفَصْلِهِ الْقَضَاء بَيْن الْخُصُوم , وَقَطْعه الْحُكْم بَيْنهمْ وَفَرَاغه مِنْهُ . وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَيِّتِ : قَدْ قَضَى , يُرَاد بِهِ قَدْ فَرَغَ مِنْ الدُّنْيَا , وَفَصَلَ مِنْهَا . وَمِنْهُ قِيلَ : مَا يَنْقَضِي عَجَبِي مِنْ فُلَان , يُرَاد : مَا يَنْقَطِع . وَمِنْهُ قِيلَ : تَقَضَّى النَّهَار : إذَا انْصَرَمَ . وَمِنْهُ

قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } 17 23 أَيْ فَصَلَ الْحُكْم فِيهِ بَيْن عِبَاده بِأَمْرِهِ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ , وَكَذَلِك قَوْله : { وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيل فِي الْكِتَاب } 17 41 أَيْ أَعْلَمْنَاهُمْ بِذَلِكَ وَأَخْبَرْنَاهُمْ بِهِ , فَفَرَغْنَا إلَيْهِمْ مِنْهُ . وَمِنْهُ قَوْل أَبِي ذُؤَيْب : وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُد أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغ تُبَّع وَيُرْوَى : " وَتَعَاوَرَا مَسْرُودَتَيْنِ قَضَاهُمَا " . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : قَضَاهُمَا : أَحْكَمهمَا . وَمِنْهُ قَوْل الْآخَر فِي مَدْح عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : قَضَيْت أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْت بَعْدهَا بَوَائِق فِي أَكْمَامهَا لَمْ تَفَتَّقِ وَيُرْوَى : " بَوَائِج " . وَأَمَّا قَوْله : { فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ : وَإِذَا أَحْكَم أَمَرَا فَحَتَمَهُ , فَإِنَّمَا يَقُول لِذَلِكَ الْأَمْر " كُنْ " , فَيَكُون ذَلِكَ الْأَمْر عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّه أَنْ يَكُون وَأَرَادَهُ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَمَا مَعْنَى قَوْله : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } ؟ وَفِي أَيّ حَال يَقُول لِلْأَمْرِ الَّذِي يَقْضِيه كُنْ ؟ أَفِي حَال عَدَمه , وَتِلْكَ حَال لَا يَجُوز فِيهَا أَمْره , إذْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَأْمُر إلَّا الْمَأْمُور , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُوم اسْتَحَالَ الْأَمْر ; وَكَمَا مُحَال الْأَمْر مِنْ غَيْر آمِر , فَكَذَلِكَ مُحَال الْأَمْر مِنْ آمِر إلَّا لِمَأْمُورِ . أَمْ يَقُول لَهُ ذَلِكَ فِي حَال وُجُوده , وَتِلْكَ حَال لَا يَجُوز أَمْره فِيهَا بِالْحُدُوثِ , لِأَنَّهُ حَادِث مَوْجُود , وَلَا يُقَال لِلْمَوْجُودِ : كُنْ مَوْجُودًا إلَّا بِغَيْرِ مَعْنَى الْأَمْر بِحُدُوثِ عَيْنه ؟ قِيلَ : قَدْ تَنَازَعَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ , وَنَحْنُ مُخْبِرُونَ بِمَا قَالُوا فِيهِ , وَالْعِلَل الَّتِي اعْتَلَّ بِهَا كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ : قَالَ بَعْضهمْ : ذَلِكَ خَبَر مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَنْ أَمْره الْمَحْتُوم عَلَى وَجْه الْقَضَاء لِمَنْ قَضَى عَلَيْهِ قَضَاء مِنْ خَلْقه الْمَوْجُودِينَ أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِأَمْرِ نَفَذَ فِيهِ قَضَاؤُهُ , وَمَضَى فِيهِ أَمْره , نَظِير أَمْره مِنْ أَمْر مِنْ بَنِي إسْرَائِيل بِأَنْ يَكُونُوا قِرَدَة خَاسِئِينَ , وَهُمْ مَوْجُودُونَ فِي حَال أَمْره إيَّاهُمْ بِذَلِكَ , وَحَتْم قَضَائِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا قَضَى فِيهِمْ , وَكَاَلَّذِي خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْض , وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ مِنْ أَمْره وَقَضَائِهِ فِيمَنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ خَلْقه فِي حَال أَمْره الْمَحْتُوم عَلَيْهِ . فَوَجْه قَائِلُو هَذَا الْقَوْل قَوْله : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } إلَى الْخُصُوص دُون الْعُمُوم . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ الْآيَة عَامّ ظَاهِرهَا , فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحِيلهَا إلَى بَاطِن بِغَيْرِ حُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَهَا , وَقَالَ : إنَّ اللَّه عَالِم بِكُلِّ مَا هُوَ كَائِن قَبْل كَوْنه . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتْ الْأَشْيَاء الَّتِي لَمْ تَكُنْ وَهِيَ كَائِنَة لِعِلْمِهِ بِهَا قَبْل كَوْنهَا , نَظَائِر الَّتِي هِيَ مَوْجُودَة , فَجَازَ أَنْ يَقُول لَهَا : " كُونِي " , وَيَأْمُرهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَال الْعَدَم إلَى حَال الْوُجُود , لِتَصَوُّرِ جَمِيعهَا لَهُ , وَلِعِلْمِهِ بِهَا فِي حَال الْعَدَم . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ الْآيَة وَإِنْ كَانَ ظَاهِرهَا ظَاهِر عُمُوم , فَتَأْوِيلهَا الْخُصُوص ; لِأَنَّ الْأَمْر غَيْر جَائِز إلَّا لِمَأْمُورِ عَلَى مَا وَصَفْت قَبْل . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَالْآيَة تَأْوِيلهَا : وَإِذَا قَضَى أَمْرًا مِنْ إحْيَاء مَيِّت , أَوْ إمَاتَة حَيّ , وَنَحْو ذَلِكَ , فَإِنَّمَا يَقُول لِحَيِّ كُنْ مَيِّتًا , أَوْ لِمَيِّتِ كُنْ حَيًّا , وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ مِنْ الْأَمْر . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ ذَلِكَ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلّ خَبَر عَنْ جَمِيع مَا يُنْشِئهُ وَيُكَوِّنهُ أَنَّهُ إذَا قَضَاهُ وَخَلَقَهُ وَأَنْشَأَهُ كَانَ وَوُجِدَ . وَلَا قَوْل هُنَالِكَ عِنْد قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَة إلَّا وُجُود الْمَخْلُوق , وَحُدُوث الْمَقْضِيّ ; وَقَالُوا : إنَّمَا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلّ : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } نَظِير قَوْل الْقَائِل : قَالَ فُلَان بِرَأْسِهِ , وَقَالَ بِيَدِهِ ; إذَا حَرَّكَ رَأْسه أَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . وَكَمَا قَالَ أَبُو النَّجْم : وَقَالَتْ الْأَنْسَاع لِلْبَطْنِ الْحَقِ قِدْمًا فَآضَتْ كَالْفَنِيقِ الْمُحْنِق وَلَا قَوْل هُنَالِكَ , وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّ الظَّهْر قَدْ لَحِقَ بِالْبَطْنِ . وَكَمَا قَالَ عَمْرو بْن حُمَمَة الدَّوْسِيّ : فَأَصْبَحْت مِثْل النَّسْر طَارَتْ فِرَاخه إذَا رَامَ تَطْيَارًا يُقَال لَهُ قَعِ وَلَا قَوْل هُنَاكَ , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : إذَا رَامَ طَيَرَانًا وَوَقَعَ , وَكَمَا قَالَ الْآخَر : امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قَطْنِي سَيْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْت بَطْنِي وَأَوْلَى الْأَقْوَال بِالصَّوَابِ فِي قَوْله : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } أَنْ يُقَال : هُوَ عَامّ فِي كُلّ مَا قَضَاهُ اللَّه وَبَرَأَهُ , لِأَنَّ ظَاهِر ذَلِكَ ظَاهِر عُمُوم , وَغَيْر جَائِز إحَالَة الظَّاهِر إلَى الْبَاطِن مِنْ التَّأْوِيل بِغَيْرِ بُرْهَان لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابنَا : " كِتَاب الْبَيَان عَنْ أُصُول الْأَحْكَام " . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَأَمَرَ اللَّه جَلّ وَعَزَّ لِشَيْءِ إذَا أَرَادَ تَكْوِينَهُ مَوْجُودًا بِقَوْلِهِ : { كُنْ } فِي حَال إرَادَته إيَّاهُ مُكَوَّنًا , لَا يَتَقَدَّم وُجُود الَّذِي أَرَادَ إيجَاده وَتَكْوِينَهُ إرَادَته إيَّاهُ , وَلَا أَمَرَهُ بِالْكَوْنِ وَالْوُجُود , وَلَا يَتَأَخَّر عَنْهُ . فَغَيْر جَائِز أَنْ يَكُون الشَّيْء مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ مُرَادًا كَذَلِكَ إلَّا وَهُوَ مَوْجُود , وَلَا أَنْ يَكُون مَوْجُودًا إلَّا وَهُوَ مَأْمُور بِالْوُجُودِ مُرَاد كَذَلِكَ . وَنَظِير قَوْله : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } قَوْله : { وَمِنْ آيَاته أَنْ تَقُوم السَّمَاء وَالْأَرْض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَة مِنْ الْأَرْض إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } بِأَنَّ خُرُوج الْقَوْم مِنْ قُبُورهمْ لَا يَتَقَدَّم دُعَاء اللَّه , وَلَا يَتَأَخَّر عَنْهُ . وَيَسْأَل مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْله : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } خَاصّ فِي التَّأْوِيل اعْتِلَالًا بِأَنَّ أَمْر غَيْر الْمَوْجُود غَيْر جَائِز , عَنْ دَعْوَة أَهْل الْقُبُور قَبْل خُرُوجهمْ مِنْ قُبُورهمْ , أَمْ بَعْده ؟ أَمْ هِيَ فِي خَاصّ مِنْ الْخَلْق ؟ فَلَنْ يَقُول فِي ذَلِكَ قَوْلًا إلَّا أُلْزِم فِي الْآخَر مِثْله . وَيَسْأَل الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ : { فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } نَظِير قَوْل الْقَائِل : قَالَ فُلَان بِرَأْسِهِ أَوْ بِيَدِهِ , إذَا حَرَّكَهُ وَأَوْمَأَ , وَنَظِير قَوْل الشَّاعِر : تَقُول إذَا دَرَأْت لَهَا وَضِينِي أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ ؟ فَإِنَّهُمْ لَا صَوَاب اللُّغَة أَصَابُوا وَلَا كِتَاب اللَّه , وَمَا دَلَّتْ عَلَى صِحَّته الْأَدِلَّة اتَّبَعُوا . فَيُقَال لِقَائِلِي ذَلِكَ : إنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَخْبَرَ عَنْ نَفْسه أَنَّهُ إذَا قَضَى أَمْرًا قَالَ لَهُ : " كُنْ " , أَفَتُنْكِرُونَ أَنْ يَكُون قَائِلًا ذَلِكَ ؟ فَإِنْ أَنْكَرُوهُ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ , وَخَرَجُوا مِنْ الْمِلَّة , وَإِنْ قَالُوا : بَلْ نُقِرّ بِهِ , وَلَكِنَّا نَزْعُم أَنَّ ذَلِكَ نَظِير قَوْل الْقَائِل : قَالَ الْحَائِط فَمَال وَلَا قَوْل هُنَالِكَ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ خَبَر عَنْ مَيْل الْحَائِط . قِيلَ لَهُمْ : أَفَتُجِيزُونَ لِلْمُخْبِرِ عَنْ الْحَائِط بِالْمَيْلِ أَنْ يَقُول : إنَّمَا قَوْل الْحَائِط إذَا أَرَادَ أَنْ يَمِيل أَنْ يَقُول هَكَذَا فَيَمِيل ؟ فَإِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ خَرَجُوا مِنْ مَعْرُوف كَلَام الْعَرَب , وَخَالَفُوا مَنْطِقهَا وَمَا يُعْرَف فِي لِسَانهَا . وَإِنْ قَالُوا : ذَلِكَ غَيْر جَائِز , قِيلَ لَهُمْ : إنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَخْبَرَهُمْ عَنْ نَفْسه أَنَّ قَوْله لِلشَّيْءِ إذَا أَرَادَهُ أَنْ يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون , فَأَعْلَم عِبَاده قَوْله الَّذِي يَكُون بِهِ الشَّيْء وَوَصَفَهُ وَوَكَّدَهُ . وَذَلِكَ عِنْدكُمْ غَيْر جَائِز فِي الْعِبَارَة عَمَّا لَا كَلَام لَهُ وَلَا بَيَان فِي مِثْل قَوْل الْقَائِل : قَالَ الْحَائِط فَمَالَ . فَكَيْف لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ فَرْق مَا بَيْن مَعْنَى قَوْل اللَّه : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } وَقَوْل الْقَائِل : قَالَ الْحَائِط فَمَالَ ؟ وَلِلْبَيَانِ عَنْ فَسَاد هَذِهِ الْمَقَالَة مَوْضِع غَيْر هَذَا نَأْتِي فِيهِ عَلَى الْقَوْل بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة إنْ شَاءَ اللَّه . وَإِذَا كَانَ الْأَمْر فِي قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ حَال أَمْره الشَّيْء بِالْوُجُودِ حَال وُجُود الْمَأْمُور بِالْوُجُودِ , فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِقَوْلِهِ : { فَيَكُون } رُفِعَ عَلَى الْعَطْف عَلَى قَوْله : { يَقُول } لِأَنَّ الْقَوْل وَالْكَوْن حَالهمَا وَاحِد . وَهُوَ نَظِير قَوْل الْقَائِل : تَابَ فُلَان فَاهْتَدَى , وَاهْتَدَى فُلَان فَتَابَ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُون تَائِبًا إلَّا وَهُوَ مُهْتَدٍ , وَلَا مُهْتَدِيًا إلَّا وَهُوَ تَائِب . فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِن أَنْ يَكُون اللَّه آمِرًا شَيْئًا بِالْوُجُودِ إلَّا وَهُوَ مَوْجُود , وَلَا مَوْجُودًا إلَّا وَهُوَ آمِره بِالْوُجُودِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ مَنْ اسْتَجَازَ نَصْب " فَيَكُون " مَنْ قَرَأَ : { إنَّمَا قَوْلنَا لِشَيْءِ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون } 16 40 بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْنَا عَلَى مَعْنَى : أَنْ نَقُول فَيَكُون . وَأَمَّا رَفْع مَنْ رَفَعَ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْخَبَر قَدْ تَمَّ عِنْد قَوْله : { إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لَهُ كُنْ } إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ اللَّه إذَا حَتَمَ قَضَاءَهُ عَلَى شَيْء كَانَ الْمَحْتُوم عَلَيْهِ مَوْجُودًا , ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ : فَيَكُون , كَمَا قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { لِنُبَيِّن لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الْأَرْحَام مَا نَشَاء } , 22 5 وَكَمَا قَالَ ابْن أَحْمَر : يُعَالِج عَاقِرًا أَعْيَتْ عَلَيْهِ لِيُلْقِحهَا فَيُنْتِجهَا حُوَارًا يُرِيد : فَإِذَا هُوَ يُنْتِجهَا حُوَارًا . فَمَعْنَى الْآيَة إذَا : وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا سُبْحَانه أَنْ يَكُون لَهُ وَلَد بَلْ هُوَ مَالِك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِمَا , كُلّ ذَلِكَ مُقِرّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى وَحْدَانِيّته . وَأَنَّى يَكُون لَهُ وَلَد , وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَعَ السَّمَوَات وَالْأَرْض مِنْ غَيْر أَصْل , كَاَلَّذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيح مِنْ غَيْر وَالِد بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانه , الَّذِي لَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ بِهِ شَيْء أَرَادَهُ ! بَلْ إنَّمَا يَقُول لَهُ إذَا قَضَاهُ فَأَرَادَ تَكْوِينَهُ : " كُنْ " , فَيَكُون مَوْجُودًا كَمَا أَرَادَهُ وَشَاءَهُ . فَكَذَلِكَ كَانَ ابْتِدَاعه الْمَسِيح وَإِنْشَاءَهُ إذْ أَرَادَ خَلْقه مِنْ غَيْر وَالِد .
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَسورة البقرة الآية رقم 118
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه أَوْ تَأْتِينَا آيَة } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِيمَنْ عَنَى اللَّه بِقَوْلِهِ : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه } فَقَالَ بَعْضهمْ : عَنَى بِذَلِكَ النَّصَارَى . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1544 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه جَلّ وَعَزَّ : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه أَوْ تَأْتِينَا آيَة } قَالَ : النَّصَارَى تَقُولهُ . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله ; وَزَادَ فِيهِ { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } النَّصَارَى . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَنَى اللَّه بِذَلِكَ الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1545 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا يُونُس بْن بُكَيْر . وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة بْن الْفَضْل , قَالَا جَمِيعًا : ثنا مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : قَالَ رَافِع بْن حُرَيْمِلَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ كُنْت رَسُولًا مِنْ عِنْد اللَّه كَمَا تَقُول , فَقُلْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلّ فَلْيُكَلِّمَنَّا حَتَّى نَسْمَع كَلَامه ! فَأَنْزَلَ

اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْله : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه أَوْ تَأْتِينَا آيَة } الْآيَة كُلّهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ مُشْرِكِي الْعَرَب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1546 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه أَوْ تَأْتِينَا آيَة } وَهُمْ كُفَّار الْعَرَب . 1547 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه } قَالَ : هُمْ كُفَّار الْعَرَب . 1548 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه } أَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ : فَهُمْ الْعَرَب . وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال بِالصِّحَّةِ وَالصَّوَاب قَوْل الْقَائِل : إنَّ اللَّه تَعَالَى عَنَى بِقَوْلِهِ : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } النَّصَارَى دُون غَيْرهمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاق خَبَر اللَّه عَنْهُمْ , وَعَنْ افْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَادِّعَائِهِمْ لَهُ وَلَدًا . فَقَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ , مُخْبِرًا عَنْهُمْ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ مِنْ ضَلَالَتهمْ أَنَّهُمْ مَعَ افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّه الْكَذِب بِقَوْلِهِ : { اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا } تَمَنَّوْا عَلَى اللَّه الْأَبَاطِيل , فَقَالُوا جَهْلًا مِنْهُمْ بِاَللَّهِ وَبِمَنْزِلَتِهِمْ عِنْده وَهُمْ بِاَللَّهِ مُشْرِكُونَ : لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه كَمَا يُكَلِّم رَسُوله وَأَنْبِيَاءَهُ , أَوْ تَأْتِينَا آيَة كَمَا أَتَتْهُمْ ! وَلَا يَنْبَغِي اللَّه أَنْ يُكَلِّم إلَّا أَوْلِيَاءَهُ , وَلَا يُؤْتِي آيَة مُعْجِزَة عَلَى دَعْوَى مُدَّعٍ إلَّا لِمَنْ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ وَدَاعِيًا إلَى اللَّه وَتَوْحِيده . فَأَمَّا مَنْ كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ وَدَاعِيًا إلَى الْفِرْيَة عَلَيْهِ وَادِّعَاء الْبَنِينَ وَالْبَنَات لَهُ , فَغَيْر جَائِز أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ , أَوْ يُؤْتِيه آيَة مُعْجِزَة تَكُون مُؤَيِّدَة كَذِبه وَفِرْيَته عَلَيْهِ . وَقَالَ الزَّاعِم : إنَّ اللَّه عَنَى بِقَوْلِهِ : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } الْعَرَب , فَإِنَّهُ قَائِل قَوْلًا لَا خَبَر بِصِحَّتِهِ وَلَا بُرْهَان عَلَى حَقِيقَته فِي ظَاهِر الْكِتَاب . وَالْقَوْل إذَا صَارَ إلَى ذَلِكَ كَانَ وَاضِحًا خَطَؤُهُ , لِأَنَّهُ ادَّعَى مَا لَا بُرْهَان عَلَى صِحَّته , وَادِّعَاء مِثْل ذَلِكَ لَنْ يَتَعَذَّر عَلَى أَحَد . وَأَمَّا مَعْنَى قَوْله : { لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه } فَإِنَّهُ بِمَعْنَى : هَلَّا يُكَلِّمنَا اللَّه ! كَمَا قَالَ الْأَشْهُب بْن رُمَيْلَة : تَعُدُّونَ عَقْر النَّيْب أَفْضَل مَجْدكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيّ الْمُقَنَّعَا بِمَعْنَى : فَهَلَّا تَعُدُّونَ الْكَمِيّ الْمُقَنَّع ؟ كَمَا : 1549 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه } قَالَ : فَهَلَّا يُكَلِّمنَا اللَّه . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَأَمَّا الْآيَة فَقَدْ ثَبَتَ فِيمَا قَبْل مَعْنَى الْآيَة أَنَّهَا الْعَلَامَة . وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : هَلَّا تَأْتِينَا آيَة عَلَى مَا نُرِيدهُ وَنَسْأَل , كَمَا أَتَتْ الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل ! فَقَالَ عَزَّ وَجَلّ : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ مِثْل قَوْلهمْ } .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ مِثْل قَوْلهمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبهمْ } . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِيمَنْ عَنَى اللَّه بِقَوْلِهِ : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ مِثْل قَوْلهمْ } , فَقَالَ بَعْضهمْ فِي ذَلِكَ بِمَا : 1550 - حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ مِثْل قَوْلهمْ } هُمْ الْيَهُود . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ } الْيَهُود . وَقَالَ آخَرُونَ : هُمْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى , لِأَنَّ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمْ الْعَرَب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1551 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ } يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَغَيْرهمْ . 1552 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : قَالُوا يَعْنِي الْعَرَب , كَمَا قَالَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ قَبْلهمْ . 1553 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ مِثْل قَوْلهمْ } يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى . قَالَ أَبُو جَعْفَر : قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الَّذِينَ عَنَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه } هُمْ النَّصَارَى , وَاَلَّذِينَ قَالَتْ مِثْل قَوْلهمْ هُمْ الْيَهُود , وَسَأَلَتْ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ رَبّهمْ جَهْرَة , وَأَنْ يُسْمِعهُمْ كَلَام رَبّهمْ , كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا , وَسَأَلُوا مِنْ الْآيَات مَا لَيْسَ لَهُمْ مَسْأَلَته تَحَكُّمًا مِنْهُمْ عَلَى رَبّهمْ , وَكَذَلِك تَمَنَّتْ النَّصَارَى عَلَى رَبّهَا تَحَكُّمًا مِنْهَا عَلَيْهِ أَنْ يُسْمِعهُمْ كَلَامه وَيُرِيَهُمْ مَا أَرَادُوا مِنْ الْآيَات . فَأَخْبَرَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ مِثْل الَّذِي قَالَتْهُ الْيَهُود وَتَمَنَّتْ عَلَى رَبّهَا مِثْل أَمَانِّيهَا , وَأَنَّ قَوْلهمْ الَّذِي قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا يُشَابِه قَوْل الْيَهُود مِنْ أَجْل تَشَابُه قُلُوبهمْ فِي الضَّلَالَة وَالْكُفْر بِاَللَّهِ . فَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبهمْ فِي كَذِبهمْ عَلَى اللَّه وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ , فَقُلُوبهمْ مُتَشَابِهَة فِي الْكُفْر بِرَبِّهِمْ وَالْفِرْيَة عَلَيْهِ , وَتَحَكُّمهمْ عَلَى أَنْبِيَاء اللَّه وَرُسُله عَلَيْهِمْ السَّلَام . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد . 1554 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { تَشَابَهَتْ قُلُوبهمْ } قُلُوب النَّصَارَى وَالْيَهُود . وَقَالَ غَيْره : مَعْنَى ذَلِكَ تَشَابَهَتْ قُلُوب كُفَّار الْعَرَب وَالْيَهُود

وَالنَّصَارَى وَغَيْرهمْ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1555 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { تَشَابَهَتْ قُلُوبهمْ } يَعْنِي الْعَرَب وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَغَيْرهمْ . 1556 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { تَشَابَهَتْ قُلُوبهمْ } يَعْنِي الْعَرَب وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَغَيْرهمْ . وَغَيْر جَائِز فِي قَوْله : { تَشَابَهَتْ } التَّثْقِيل , لِأَنَّ التَّاء الَّتِي فِي أَوَّلهَا زَائِدَة أُدْخِلَتْ فِي قَوْله : " تَفَاعَلَ " , وَإِنْ ثُقِّلَتْ صَارَتْ تَاءَيْنِ ; وَلَا يَجُوز إدْخَال تَاءَيْنِ زَائِدَتَيْنِ عَلَامَة لِمَعْنَى وَاحِد , وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ فِي الِاسْتِقْبَال لِاخْتِلَافِ مَعْنَى دُخُولهمَا , لِأَنَّ إحْدَاهُمَا تَدْخُل عَلَمًا لِلِاسْتِقْبَالِ , وَالْأُخْرَى مِنْهَا الَّتِي فِي " تَفَاعَلَ " , ثُمَّ تُدْغَم إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى فَتُثَقَّل فَيُقَال : تَشَابَهَ بَعْد الْيَوْم قُلُوبنَا . فَمَعْنَى الْآيَة : وَقَالَتْ النَّصَارَى الْجُهَّال بِاَللَّهِ وَبِعَظَمَتِهِ : هَلَّا يُكَلِّمنَا اللَّه رَبّنَا كَمَا كَلَّمَ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُله , أَوْ تَجِيئنَا عَلَامَة مِنْ اللَّه نَعْرِف بِهَا صِدْق مَا نَحْنُ عَلَيْهِ عَلَى مَا نَسْأَل وَنُرِيد ؟ قَالَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : فَكَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّال مِنْ النَّصَارَى وَتَمَنَّوْا عَلَى رَبّهمْ , قَالَ مَنْ قَبْلهمْ مِنْ الْيَهُود , فَسَأَلُوا رَبّهمْ أَنْ يُرِيَهُمْ اللَّه نَفْسه جَهْرَة , وَيُؤْتِيَهُمْ آيَة , وَاحْتَكَمُوا عَلَيْهِ وَعَلَى رُسُله , وَتَمَنَّوْا الْأَمَانِيّ . فَاشْتَبَهَتْ قُلُوب الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي تَمَرُّدهمْ عَلَى اللَّه وَقِلَّة مَعْرِفَتهمْ بِعَظَمَتِهِ وَجُرْأَتهمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُله , كَمَا اشْتَبَهَتْ أَقْوَالهمْ الَّتِي قَالُوهَا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَدْ بَيَّنَّا الْآيَات لِقَوْمِ يُوقِنُونَ } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { قَدْ بَيَّنَّا الْآيَات لِقَوْمِ يُوقِنُونَ } قَدْ بَيَّنَّا الْعَلَامَات الَّتِي مِنْ أَجْلهَا غَضِبَ اللَّه عَلَى الْيَهُود وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير , وَأَعَدَّ لَهُمْ الْعَذَاب الْمُهِين فِي مُعَادهمْ , وَاَلَّتِي مِنْ أَجْلهَا أَخْزَى اللَّه النَّصَارَى فِي الدُّنْيَا , وَأَعَدَّ لَهُمْ الْخِزْي وَالْعَذَاب الْأَلِيم فِي الْآخِرَة , وَاَلَّتِي مِنْ أَجْلهَا جَعَلَ سُكَّان الْجِنَان الَّذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوههمْ لِلَّهِ وَهُمْ مُحْسِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَة وَغَيْرهَا . فَأُعْلِمُوا الْأَسْبَاب الَّتِي مِنْ أَجْلهَا اسْتَحَقَّ كُلّ

فَرِيق مِنْهُمْ مِنْ اللَّه مَا فَعَلَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ , وَخَصَّ اللَّه بِذَلِكَ الْقَوْم الَّذِينَ يُوقِنُونَ ; لِأَنَّهُمْ أَهْل التَّثَبُّت فِي الْأُمُور , وَالطَّالِبُونَ مَعْرِفَة حَقَائِق الْأَشْيَاء عَلَى يَقِين وَصِحَّة . فَأَخْبَرَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ بَيَّنَ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَة صِفَته مَا بَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ لِيَزُولَ شَكّه , وَيَعْلَم حَقِيقَة الْأَمْر ; إذْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ , وَخَبَر اللَّه الْخَبَر الَّذِي لَا يُعْذَر سَامِعه بِالشَّكِّ فِيهِ . وَقَدْ يَحْتَمِل غَيْره مِنْ الْأَخْبَار مَا يَحْتَمِل مِنْ الْأَسْبَاب الْعَارِضَة فِيهِ مِنْ السَّهْو وَالْغَلَط وَالْكَذِب , وَذَلِكَ مَنْفِيّ عَنْ خَبَر اللَّه عَزَّ وَجَلّ .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِسورة البقرة الآية رقم 119
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاك

بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } وَمَعْنَى قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ : { إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } إنَّا أَرْسَلْنَاك يَا مُحَمَّد بِالْإِسْلَامِ الَّذِي لَا أَقْبَل مِنْ أَحَد غَيْره مِنْ الْأَدْيَان - وَهُوَ الْحَقّ - مُبَشِّرًا مَنْ اتَّبَعَك فَأَطَاعَك وَقَبِلَ مِنْك مَا دَعَوْته إلَيْهِ مِنْ الْحَقّ , بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا , وَالظَّفْر بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَة , وَالنَّعِيم الْمُقِيم فِيهَا ; وَمُنْذِرًا مَنْ عَصَاك فَخَالَفَك وَرَدَّ عَلَيْك مَا دَعَوْته إلَيْهِ مِنْ الْحَقّ بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا , وَالذُّلّ فِيهَا , وَالْعَذَاب الْمُهِين فِي الْآخِرَة .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُسْأَل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم } وَقَالَ أَبُو جَعْفَر : قَرَأَتْ عَامَّة الْقُرَّاء : { وَلَا تُسْأَل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم } بِضَمِّ التَّاء مِنْ " تُسْأَل " وَرَفْع اللَّام مِنْهَا عَلَى الْخَبَر , بِمَعْنَى : يَا مُحَمَّد إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا , فَبَلَّغْت مَا أُرْسِلْت بِهِ , وَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وَالْإِنْذَار , وَلَسْت مَسْئُولًا عَمَّنْ كَفَرَ بِمَا أَتَيْته بِهِ مِنْ الْحَقّ وَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَحِيم . وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْض أَهْل الْمَدِينَة : { وَلَا تَسْأَلْ } جَزْمًا بِمَعْنَى النَّهْي مَفْتُوح التَّاء مِنْ " تَسْأَل " , وَجَزْم اللَّام مِنْهَا . وَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَة هَؤُلَاءِ : إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا لِتُبَلِّغ مَا أُرْسِلْت بِهِ , لَا لِتُسْأَل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم , فَلَا تُسْأَل عَنْ حَالهمْ . وَتَأَوَّلَ الَّذِينَ قَرَءُوا هَذِهِ الْقِرَاءَة مَا : 1557 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا وَكِيع , عَنْ مُوسَى بْن عُبَيْدَة , عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ ! " فَنَزَلَتْ { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم . .. } . 1558 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيّ , عَنْ مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ

أَبَوَايَ ! لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ ! لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ ! " ثَلَاثًا , فَنَزَلَتْ : { إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم } فَمَا ذَكَرهمَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه . 1559 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي دَاوُد بْن أَبِي عَاصِم , أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَات يَوْم : " لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ أَبَوَايَ ؟ " فَنَزَلَتْ : { إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم } . وَالصَّوَاب عِنْدِي مِنْ الْقِرَاءَة فِي ذَلِكَ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَر ; لِأَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ قَصَّ قَصَص أَقْوَام مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَذَكَرَ ضَلَالَتهمْ , وَكُفْرهمْ بِاَللَّهِ , وَجَرَاءَتهمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِ , ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّا أَرْسَلْنَاك يَا مُحَمَّد بَشِيرًا مَنْ آمَنَ بِك وَاتَّبَعَك مِمَّنْ قَصَصْت عَلَيْك أَنْبَاءَهُ وَمَنْ لَمْ أَقْصُصْ عَلَيْك أَنْبَاءَهُ , وَنَذِيرًا مَنْ كَفَرَ بِك وَخَالَفَك , فَبَلِّغْ رِسَالَتِي , فَلَيْسَ عَلَيْك مِنْ أَعْمَال مَنْ كَفَرَ بِك بَعْد إبْلَاغك إيَّاهُ رِسَالَتِي تَبَعَة , وَلَا أَنْت مَسْئُول عَمَّا فَعَلَ بَعْد ذَلِكَ . وَلَمْ يَجْرِ لِمَسْأَلَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم ذِكْر , فَيَكُون لِقَوْلِهِ : { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم } وَجْه يُوَجَّه إلَيْهِ . وَإِنَّمَا الْكَلَام مُوَجَّه مَعْنَاهُ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِره الْمَفْهُوم , حَتَّى تَأْتِي دَلَالَة بَيِّنَة تَقُوم بِهَا الْحُجَّة عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ غَيْر مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِره ; فَيَكُون حِينَئِذٍ مُسَلِّمًا لِلْحُجَّةِ الثَّابِتَة بِذَلِكَ . وَلَا خَبَر تَقُوم بِهِ الْحُجَّة عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَنْ يُسْأَل فِي هَذِهِ الْآيَة عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم , وَلَا دَلَالَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ظَاهِر التَّنْزِيل . وَالْوَاجِب أَنْ يَكُون تَأْوِيل ذَلِكَ الْخَبَر عَلَى مَا مَضَى ذِكْره قَبْل هَذِهِ الْآيَة وَعَمَّنْ ذُكِرَ بَعْدهَا مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْكُفْر , دُون النَّهْي عَنْ الْمَسْأَلَة عَنْهُمْ . فَإِنْ ظَنَّ ظَانّ أَنَّ الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب صَحِيح , فَإِنَّ فِي اسْتِحَالَة الشَّكّ مِنْ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَنَّ أَهْل الشِّرْك مِنْ أَهْل الْجَحِيم , وَأَنَّ أَبَوَيْهِ كَانَا مِنْهُمْ , مَا يَدْفَع صِحَّة مَا قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب إنْ كَانَ الْخَبَر عَنْهُ صَحِيحًا , مَعَ أَنَّ ابْتِدَاء اللَّه الْخَبَر بَعْد قَوْله : { إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } بِالْوَاوِ بِقَوْلِهِ : وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم , وَتَرَكَهُ وَصَلَ ذَلِكَ بِأَوَّلِهِ بِالْفَاءِ , وَأَنْ يَكُون : { إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } , وَلَا تُسْأَل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم , أَوْضَح الدَّلَائِل عَلَى أَنَّ الْخَبَر بِقَوْلِهِ : " وَلَا تُسْأَل " , أَوْلَى مِنْ النَّهْي , وَالرَّفْع بِهِ أَوْلَى مِنْ الْجَزْم . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَة أُبَيٍّ : { وَمَا تُسْأَل } وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود : { وَلَنْ تُسْأَل } وَكِلْتَا هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ تَشْهَد بِالرَّفْعِ وَالْخَبَر فِيهِ دُون النَّهْي . وَقَدْ كَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة يُوَجِّه قَوْله : { وَلَا تُسْأَل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم } إلَى الْحَال , كَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَعْنَاهُ : إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْر مَسْئُول عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم . وَذَلِكَ إذَا ضَمَّ التَّاء , وَقَرَأَهُ عَلَى مَعْنَى الْخَبَر , وَكَانَ يُجِيز عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَته : " وَلَا تَسْأَلُ " , بِفَتْحِ التَّاء وَضَمّ اللَّام عَلَى وَجْه الْخَبَر بِمَعْنَى : إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا , غَيْر سَائِل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم . وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَاب عِنْدنَا فِي ذَلِكَ . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْتهمَا عَنْ الْبَصْرِيّ فِي ذَلِكَ يَدْفَعهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْن مَسْعُود وَأُبَيّ مِنْ الْقِرَاءَة ; لِأَنَّ إدْخَالهمَا مَا أَدْخَلَا مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَا , وَلَنْ يَدُلّ عَلَى انْقِطَاع الْكَلَام عَنْ أَوَّله وَابْتِدَاء قَوْله : { وَلَا تُسْأَل } وَإِذَا كَانَ ابْتِدَاء لَمْ يَكُنْ حَالًّا . وَأَمَّا أَصْحَاب الْجَحِيم , فَالْجَحِيم هِيَ النَّار بِعَيْنِهَا إذَا شَبَّتْ وَقُودهَا , وَمِنْهُ قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : إذَا شُبَّتْ جَهَنَّم ثُمَّ دَارَتْ وَأَعْرَضَ عَنْ قَوَابِسهَا الْجَحِيم
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍسورة البقرة الآية رقم 120
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِع مِلَّتهمْ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِع مِلَّتهمْ } وَلَيْسَتْ الْيَهُود يَا مُحَمَّد وَلَا النَّصَارَى بِرَاضِيَةِ عَنْك أَبَدًا , فَدَعْ طَلَب مَا يُرْضِيهِمْ وَيُوَافِقهُمْ , وَأَقْبِلْ عَلَى طَلَب رِضَا اللَّه فِي دُعَائِهِمْ إلَى مَا بَعَثَك اللَّه بِهِ مِنْ الْحَقّ ! فَإِنَّ الَّذِي تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لَهُوَ السَّبِيل إلَى الِاجْتِمَاع فِيهِ مَعَك عَلَى الْأُلْفَة وَالدِّين الْقَيِّم . وَلَا سَبِيل لَك إلَى إرْضَائِهِمْ بِاتِّبَاعِ مِلَّتهمْ ; لِأَنَّ الْيَهُودِيَّة ضِدّ النَّصْرَانِيَّة ,

وَالنَّصْرَانِيَّة ضِدّ الْيَهُودِيَّة , وَلَا تَجْتَمِع النَّصْرَانِيَّة وَالْيَهُودِيَّة فِي شَخْص وَاحِد فِي حَال وَاحِدَة , وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا تَجْتَمِع عَلَى الرِّضَا بِك , إلَّا أَنْ تَكُون يَهُودِيًّا نَصْرَانِيًّا , وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُون مِنْك أَبَدًا , لِأَنَّك شَخْص وَاحِد , وَلَنْ يَجْتَمِع فِيك دِينَانِ مُتَضَادَّانِ فِي حَال وَاحِدَة . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى اجْتِمَاعهمَا فِيك فِي وَقْت وَاحِد سَبِيل , لَمْ يَكُنْ لَك إلَى إرْضَاء الْفَرِيقَيْنِ سَبِيل . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَك إلَى ذَلِكَ سَبِيل , فَالْزَمْ هُدَى اللَّه الَّذِي لِجَمْعِ الْخَلْق إلَى الْأُلْفَة عَلَيْهِ سَبِيل , وَأَمَّا الْمِلَّة فَإِنَّهَا الدِّين وَجَمْعهَا الْمِلَل .

ثُمَّ قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى وَالْيَهُود الَّذِينَ قَالُوا : { لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } { إنَّ هُدَى اللَّه هُوَ الْهُدَى } يَعْنِي أَنَّ بَيَان اللَّه هُوَ الْبَيَان الْمُقَنَّع وَالْقَضَاء الْفَاصِل بَيْننَا , فَهَلُمُّوا إلَى كِتَاب اللَّه وَبَيَانه الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ لِعِبَادِهِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ , وَهُوَ التَّوْرَاة الَّتِي تُقِرُّونَ جَمِيعًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْد اللَّه , يَتَّضِح لَكُمْ فِيهَا الْمُحِقّ مِنَّا مِنْ الْمُبْطِل , وَأَيّنَا أَهْل الْجَنَّة , وَأَيّنَا أَهْل النَّار , وَأَيّنَا عَلَى الصَّوَاب , وَأَيّنَا عَلَى الْخَطَأ ! وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّه نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى هُدَى اللَّه وَبَيَانه , لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيب الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِيمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ الْجَنَّة لَنْ يَدْخُلهَا إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى , وَبَيَان أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّ الْمُكَذِّب بِهِ مِنْ أَهْل النَّار دُون الْمُصَدِّق بِهِ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَئِنْ اتَّبَعْت أَهْوَاءَهُمْ بَعْد الَّذِي جَاءَك مِنْ الْعِلْم مَا لَك مِنْ اللَّه مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير } . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَئِنْ اتَّبَعْت } يَا مُحَمَّد هَوَى هَؤُلَاءِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى , فِيمَا يُرْضِيهِمْ عَنْك مِنْ تَهَوُّد وَتَنَصُّر , فَصِرْت مِنْ ذَلِكَ إلَى إرْضَائِهِمْ , وَوَافَقْت فِيهِ مَحَبَّتهمْ مِنْ بَعْد الَّذِي جَاءَك مِنْ الْعِلْم بِضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرهمْ بِرَبِّهِمْ , وَمِنْ بَعْد الَّذِي

اقْتَصَصْت عَلَيْك مِنْ نَبَئِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَة , { مَا لَك مِنْ اللَّه مِنْ وَلِيّ } . يَعْنِي بِذَلِكَ : لَيْسَ لَك يَا مُحَمَّد مِنْ وَلِيّ يَلِي أَمْرك , وَقَيِّم يَقُوم بِهِ , وَلَا نَصِير يَنْصُرك مِنْ اللَّه , فَيَدْفَع عَنْك مَا يَنْزِل بِك مِنْ عُقُوبَته , وَيَمْنَعك مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَحَلَّ بِك ذَلِكَ رَبّك . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْوَلِيّ وَالنَّصِير فِيمَا مَضَى قَبْل . وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَة عَلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى دَعَتْهُ إلَى أَدْيَانهَا , وَقَالَ كُلّ حِزْب مِنْهُمْ : إنَّ الْهُدَى هُوَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ دُون مَا عَلَيْهِ غَيْرنَا مِنْ سَائِر الْمِلَل . فَوَعَظَهُ اللَّه أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ , وَعَلَّمَهُ الْحُجَّة الْفَاصِلَة بَيْنهمْ فِيمَا ادَّعَى كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10