الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌسورة البقرة الآية رقم 271
ذَهَبَ جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة فِي صَدَقَة التَّطَوُّع ; لِأَنَّ الْإِخْفَاء فِيهَا أَفْضَل مِنْ الْإِظْهَار , وَكَذَلِكَ سَائِر الْعِبَادَات الْإِخْفَاء أَفْضَل فِي تَطَوُّعهَا لِانْتِفَاءِ الرِّيَاء عَنْهَا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَاجِبَات . قَالَ الْحَسَن : إِظْهَار الزَّكَاة أَحْسَن , وَإِخْفَاء التَّطَوُّع أَفْضَل ; لِأَنَّهُ أَدَلّ عَلَى أَنَّهُ يُرَاد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَحْده . قَالَ اِبْن عَبَّاس : جَعَلَ اللَّه صَدَقَة السِّرّ فِي التَّطَوُّع تَفْضُل عَلَانِيَتهَا يُقَال بِسَبْعِينَ ضِعْفًا , وَجَعَلَ صَدَقَة الْفَرِيضَة عَلَانِيَتهَا أَفْضَل مِنْ سِرّهَا يُقَال بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا . قَالَ : وَكَذَلِكَ جَمِيع الْفَرَائِض وَالنَّوَافِل فِي الْأَشْيَاء كُلّهَا .

قُلْت : مِثْل هَذَا لَا يُقَال مِنْ جِهَة الرَّأْي وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيف , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَفْضَل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة ) وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِض لَا يَدْخُلهَا رِيَاء وَالنَّوَافِل عُرْضَة لِذَلِكَ . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الَّذِي يَجْهَر بِالْقُرْآنِ كَاَلَّذِي يَجْهَر بِالصَّدَقَةِ وَاَلَّذِي يُسِرّ بِالْقُرْآنِ كَاَلَّذِي يُسِرّ بِالصَّدَقَةِ ) . وَفِي الْحَدِيث : ( صَدَقَة السِّرّ تُطْفِئ غَضَب الرَّبّ ) .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلَيْسَ فِي تَفْضِيل صَدَقَة الْعَلَانِيَة عَلَى السِّرّ , وَلَا تَفْضِيل صَدَقَة السِّرّ عَلَى الْعَلَانِيَة حَدِيث صَحِيح وَلَكِنَّهُ الْإِجْمَاع الثَّابِت , فَأَمَّا صَدَقَة النَّفْل فَالْقُرْآن وَرَدَ مُصَرِّحًا , بِأَنَّهَا فِي السِّرّ أَفْضَل مِنْهَا فِي الْجَهْر , بَيْد أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إِنَّ هَذَا عَلَى الْغَالِب مَخْرَجه , وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنَّ الْحَال فِي الصَّدَقَة تَخْتَلِف بِحَالِ الْمُعْطِي لَهَا وَالْمُعْطَى إِيَّاهَا وَالنَّاس الشَّاهِدِينَ لَهَا . أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فِيهَا فَائِدَة إِظْهَار السُّنَّة وَثَوَاب الْقُدْوَة .

قُلْت : هَذَا لِمَنْ قَوِيَتْ حَاله وَحَسُنَتْ نِيَّته وَأَمِنَ عَلَى نَفْسه الرِّيَاء , وَأَمَّا مَنْ ضَعُفَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَة فَالسِّرّ لَهُ أَفْضَل . وَأَمَّا الْمُعْطَى إِيَّاهَا فَإِنَّ السِّرّ لَهُ أَسْلَم مِنْ اِحْتِقَار النَّاس لَهُ , أَوْ نِسْبَته إِلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا وَتَرَكَ التَّعَفُّف , وَأَمَّا حَال النَّاس فَالسِّرّ عَنْهُمْ أَفْضَل مِنْ الْعَلَانِيَة لَهُمْ , مِنْ جِهَة أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ وَعَلَى الْآخِذ لَهَا بِالِاسْتِغْنَاءِ , وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيك الْقُلُوب إِلَى الصَّدَقَة , لَكِنْ هَذَا الْيَوْم قَلِيل .

وَقَالَ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب : إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الصَّدَقَة عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى , فَكَانَ يَأْمُر بِقَسْمِ الزَّكَاة فِي السِّرّ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَرْدُود , لَا سِيَّمَا عِنْد السَّلَف الصَّالِح , فَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيّ : أَجْمَعَ النَّاس عَلَى أَنَّ إِظْهَار الْوَاجِب أَفْضَل .

قُلْت : ذَكَرَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَة دَلَالَة عَلَى قَوْل إِخْفَاء الصَّدَقَات مُطْلَقًا أَوْلَى , وَأَنَّهَا حَقّ الْفَقِير وَأَنَّهُ يَجُوز لِرَبِّ الْمَال تَفْرِيقهَا بِنَفْسِهِ , عَلَى مَا هُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ . وَعَلَى الْقَوْل الْآخَر ذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَاد بِالصَّدَقَاتِ هَاهُنَا التَّطَوُّع دُون الْفَرْض الَّذِي إِظْهَاره أَوْلَى لِئَلَّا يَلْحَقهُ تُهْمَة , وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ : صَلَاة النَّفْل فُرَادَى أَفْضَل , وَالْجَمَاعَة فِي الْفَرْض أَبْعَد عَنْ التُّهْمَة . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : الْمُرَاد بِالْآيَةِ فَرْض الزَّكَاة وَمَا تُطُوِّعَ بِهِ , فَكَانَ الْإِخْفَاء أَفْضَل فِي مُدَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ سَاءَتْ ظُنُون النَّاس بَعْد ذَلِكَ , فَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاء إِظْهَار الْفَرَائِض لِئَلَّا يُظَنّ بِأَحَدٍ الْمَنْع . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الْقَوْل مُخَالِف لِلْآثَارِ , وَيُشْبِه فِي زَمَاننَا أَنْ يَحْسُن التَّسَتُّر بِصَدَقَةِ الْفَرْض , فَقَدْ كَثُرَ الْمَانِع لَهَا وَصَارَ إِخْرَاجهَا عُرْضَة لِلرِّيَاءِ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَقَدْ يَجُوز أَنْ يُرَاد بِالْآيَةِ الْوَاجِبَات مِنْ الزَّكَاة وَالتَّطَوُّع ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْإِخْفَاء , وَمَدَحَهُ وَالْإِظْهَار وَمَدَحَهُ , فَيَجُوز أَنْ يَتَوَجَّه إِلَيْهِمَا جَمِيعًا . وَقَالَ النَّقَّاش : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سِرًّا وَعَلَانِيَة " [ الْبَقَرَة : 274 ] الْآيَة .

ثَنَاء عَلَى إِبْدَاء الصَّدَقَة , ثُمَّ حَكَمَ عَلَى أَنَّ الْإِخْفَاء خَيْر مِنْ ذَلِكَ . وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْض الْحُكَمَاء : إِذَا اِصْطَنَعْت الْمَعْرُوف فَاسْتُرْهُ , وَإِذَا اُصْطُنِعَ إِلَيْك فَانْشُرْهُ . قَالَ دِعْبِل الْخُزَاعِيّ : إِذَا اِنْتَقَمُوا أَعْلَنُوا أَمْرهمْ /2 وَإِنْ أَنْعَمُوا أَنْعَمُوا بِاكْتِتَامِ وَقَالَ سَهْل بْن هَارُون : خِلّ إِذَا جِئْته يَوْمًا لِتَسْأَلهُ أَعْطَاك مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا يُخْفِي صَنَائِعه وَاَللَّه يُظْهِرهَا إِنَّ الْجَمِيل إِذَا أَخْفَيْته ظَهَرَا وَقَالَ الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَا يَتِمّ الْمَعْرُوف إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَال : تَعْجِيله وَتَصْغِيره وَسَتْره , فَإِذَا أَعْجَلْته هَنَّيْته , وَإِذَا صَغَّرْته عَظَّمْته , وَإِذَا سَتَرْته أَتْمَمْته . وَقَالَ بَعْض الشُّعَرَاء فَأَحْسَنَ : زَادَ مَعْرُوفك عِنْدِي عِظَمًا أَنَّهُ عِنْدك مَسْتُور حَقِير تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ وَهُوَ عِنْد النَّاس مَشْهُور خَطِير وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي قَوْله " فَنِعِمَّا هِيَ " فَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَنَافِع فِي رِوَايَة وَرْش وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص وَابْن كَثِير " فَنِعِمَّا هِيَ " بِكَسْرِ النُّون وَالْعَيْن . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو أَيْضًا وَنَافِع فِي غَيْر رِوَايَة وَرْش وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَالْمُفَضَّل " فَنِعْمَا " بِكَسْرِ النُّون وَسُكُون الْعَيْن . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَابْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " فَنَعِمَّا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْعَيْن , وَكُلّهمْ سَكَّنَ الْمِيم . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن فَنِعْمَ مَا هِيَ . قَالَ النَّحَّاس : وَلَكِنَّهُ فِي السَّوَاد مُتَّصِل فَلَزِمَ الْإِدْغَام . وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ فِي " نِعْمَ " أَرْبَع لُغَات : نَعِمَ الرَّجُل زَيْد , هَذَا الْأَصْل . وَنِعِمَ الرَّجُل , بِكَسْرِ النُّون لِكَسْرِ الْعَيْن . وَنَعْمَ الرَّجُل , بِفَتْحِ النُّون وَسُكُون الْعَيْن , وَالْأَصْل نَعِمَ حُذِفَتْ الْكَسْرَة لِأَنَّهَا ثَقِيلَة . وَنِعْمَ الرَّجُل , وَهَذَا أَفْصَح اللُّغَات , وَالْأَصْل فِيهَا نَعِمَ . وَهِيَ تَقَع فِي كُلّ مَدْح , فَخُفِّفَتْ وَقُلِبَتْ كَسْرَة الْعَيْن عَلَى النُّون وَأُسْكِنَتْ الْعَيْن , فَمَنْ قَرَأَ " فَنِعِمَّا هِيَ " فَلَهُ تَقْدِيرَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون جَاءَ بِهِ عَلَى لُغَة مَنْ يَقُول نِعِمَ . وَالتَّقْدِير الْآخَر أَنْ يَكُون عَلَى , اللُّغَة الْجَيِّدَة , فَيَكُون الْأَصْل نِعْمَ , ثُمَّ كُسِرَتْ الْعَيْن لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو وَنَافِع مِنْ إِسْكَان الْعَيْن فَمُحَال . حُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ قَالَ : أَمَّا إِسْكَان الْعَيْن وَالْمِيم مُشَدَّدَة فَلَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَنْطِق بِهِ , وَإِنَّمَا يَرُوم الْجَمْع بَيْن سَاكِنَيْنِ وَيُحَرِّك وَلَا يَأْبَهُ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : مَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْعَيْن لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْله ; لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْن سَاكِنَيْنِ الْأَوَّل مِنْهُمَا لَيْسَ بِحَرْفِ مَدّ وَلِين وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ عِنْد النَّحْوِيِّينَ إِذَا كَانَ الْأَوَّل حَرْف مَدّ , إِذْ الْمَدّ يَصِير عِوَضًا مِنْ الْحَرَكَة , وَهَذَا نَحْو دَابَّة وَضَوَالّ وَنَحْوه . وَلَعَلَّ أَبَا عَمْرو أَخْفَى الْحَرَكَة وَاخْتَلَسَهَا كَأَخْذِهِ بِالْإِخْفَاءِ فِي " بَارِئِكُمْ - /و - يَأْمُركُمْ " فَظَنَّ السَّامِع الْإِخْفَاء إِسْكَانًا لِلُطْفِ ذَلِكَ فِي السَّمْع وَخَفَائِهِ . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ " نَعِمَا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْعَيْن فَإِنَّمَا جَاءَ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلهَا وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْأَمْر الْمُبِرْ قَالَ أَبُو عَلِيّ : و " مَا " مِنْ قَوْله تَعَالَى : " نِعِمَّا " فِي مَوْضِع نَصْب , وَقَوْله " هِيَ " تَفْسِير لِلْفَاعِلِ الْمُضْمَر قَبْل الذِّكْر , وَالتَّقْدِير نِعْمَ شَيْئًا إِبْدَاؤُهَا , وَالْإِبْدَاء هُوَ الْمَخْصُوص بِالْمَدْحِ إِلَّا أَنَّ الْمُضَاف حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه . وَيَدُلّك عَلَى هَذَا قَوْله " فَهُوَ خَيْر لَكُمْ " أَيْ الْإِخْفَاء خَيْر . فَكَمَا أَنَّ الضَّمِير هُنَا لِلْإِخْفَاءِ لَا لِلصَّدَقَاتِ فَكَذَلِكَ , أَوَّلًا الْفَاعِل هُوَ الْإِبْدَاء وَهُوَ الَّذِي اِتَّصَلَ بِهِ الضَّمِير , فَحُذِفَ الْإِبْدَاء وَأُقِيمَ ضَمِير الصَّدَقَات مِثْله .

" وَإِنْ تُخْفُوهَا " شَرْط , فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ النُّون . " وَتُؤْتُوهَا " عَطْف عَلَيْهِ . وَالْجَوَاب " فَهُوَ خَيْر لَكُمْ " .


" وَيُكَفِّر " اِخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَته , فَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَقَتَادَة وَابْن أَبِي إِسْحَاق " وَنُكَفِّرُ " بِالنُّونِ وَرَفْع الرَّاء . وَقَرَأَ نَافِع وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِالنُّونِ وَالْجَزْم فِي الرَّاء , وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَاصِم . وَرَوَى الْحُسَيْن بْن عَلِيّ الْجُعْفِيّ عَنْ الْأَعْمَش " يُكَفِّرَ " بِنَصْبِ الرَّاء . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر بِالْيَاءِ وَرَفْع الرَّاء , وَرَوَاهُ حَفْص عَنْ عَاصِم , وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَن , وَرُوِيَ عَنْهُ بِالْيَاءِ وَالْجَزْم . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " وَتُكَفِّرْ " بِالتَّاءِ وَكَسْر الْفَاء وَجَزْم الرَّاء . وَقَرَأَ , عِكْرِمَة " وَتُكَفَّرْ " بِالتَّاءِ وَفَتْح الْفَاء وَجَزْم الرَّاء . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ اِبْن هُرْمُز أَنَّهُ قَرَأَ " وَتُكَفِّرُ " بِالتَّاءِ وَرَفْعِ الرَّاء . وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَة وَشَهْر بْن حَوْشَب أَنَّهُمَا قَرَآ بِتَاءٍ وَنَصْب الرَّاء . فَهَذِهِ تِسْع قِرَاءَات أُبَيِّنهَا " وَنُكَفِّرُ " بِالنُّونِ وَالرَّفْع . هَذَا قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . قَالَ النَّحَّاس : قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَالرَّفْع هَاهُنَا الْوَجْه وَهُوَ الْجَيِّد ; لِأَنَّ الْكَلَام الَّذِي بَعْد الْفَاء يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي غَيْر الْجَزَاء . وَأَجَازَ الْجَزْم بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ وَنُكَفِّر عَنْكُمْ . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : قَرَأَ الْأَعْمَش " يُكَفِّر " بِالْيَاءِ دُون وَاو قَبْلهَا . قَالَ النَّحَّاس : وَاَلَّذِي حَكَاهُ أَبُو حَاتِم عَنْ الْأَعْمَش بِغَيْرِ وَاو جَزْمًا يَكُون عَلَى الْبَدَل كَأَنَّهُ فِي مَوْضِع الْفَاء . وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عَاصِم " وَيُكَفِّرُ " بِالْيَاءِ وَالرَّفْع يَكُون مَعْنَاهُ وَيُكَفِّر اللَّه , هَذَا قَوْل أَبِي عُبَيْد . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : مَعْنَاهُ يُكَفِّر الْإِعْطَاء . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " وَتُكَفِّرْ " يَكُون مَعْنَاهُ وَتُكَفِّر الصَّدَقَات . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَات بِالنُّونِ فَهِيَ نُون الْعَظَمَة , وَمَا كَانَ مِنْهَا بِالتَّاءِ فَهِيَ الصَّدَقَة فَاعْلَمْهُ , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة مِنْ فَتْح الْفَاء فَإِنَّ التَّاء فِي تِلْكَ الْقِرَاءَة إِنَّمَا هِيَ لِلسَّيِّئَاتِ , وَمَا كَانَ مِنْهَا بِالْيَاءِ فَاَللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُكَفِّر , وَالْإِعْطَاء فِي خَفَاء مُكَفِّر أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا , وَحَكَاهُ مَكِّيّ . وَأَمَّا رَفْع الرَّاء فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون الْفِعْل خَبَر اِبْتِدَاء تَقْدِيره وَنَحْنُ نُكَفِّر أَوْ وَهِيَ تُكَفِّر , أَعْنِي الصَّدَقَة , أَوْ وَاَللَّه يُكَفِّر . وَالثَّانِي الْقَطْع وَالِاسْتِئْنَاف لَا تَكُون الْوَاو الْعَاطِفَة لِلِاشْتِرَاكِ لَكِنْ تُعْطَف جُمْلَة كَلَام عَلَى جُمْلَة . وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى قِرَاءَة الْجَزْم . فَأَمَّا نَصْب " وَنُكَفِّر " فَضَعِيف وَهُوَ عَلَى إِضْمَار أَنْ وَجَازَ عَلَى بُعْد . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَهُوَ مُشَبَّه بِالنَّصْبِ فِي جَوَاب الِاسْتِفْهَام , إِذْ الْجَزَاء يَجِب بِهِ الشَّيْء لِوُجُوبِ غَيْره كَالِاسْتِفْهَامِ . وَالْجَزْم فِي الرَّاء أَفْصَح هَذِهِ الْقِرَاءَات ; لِأَنَّهَا تُؤْذِن بِدُخُولِ التَّكْفِير فِي الْجَزَاء وَكَوْنه مَشْرُوطًا إِنْ وَقَعَ الْإِخْفَاء . وَأَمَّا الرَّفْع فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى .

قُلْت : هَذَا خِلَاف مَا اِخْتَارَهُ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . و " مِنْ " فِي قَوْله " مِنْ سَيِّئَاتكُمْ " لِلتَّبْعِيضِ الْمَحْض . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ فِرْقَة أَنَّهَا زَائِدَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأ .

وَعْد وَوَعِيد .
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 272
هَذَا الْكَلَام مُتَّصِل بِذِكْرِ الصَّدَقَات , فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ جَوَاز الصَّدَقَة عَلَى الْمُشْرِكِينَ . رَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر مُرْسَلًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ عَلَى فُقَرَاء أَهْل الذِّمَّة , فَلَمَّا كَثُرَ فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تَتَصَدَّقُوا إِلَّا عَلَى أَهْل دِينكُمْ ) . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة مُبِيحَة لِلصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ دِين الْإِسْلَام . وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَدَقَاتٍ فَجَاءَهُ يَهُودِيّ فَقَالَ : أَعْطِنِي . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ لَك مِنْ صَدَقَة الْمُسْلِمِينَ شَيْء ) . فَذَهَبَ الْيَهُودِيّ غَيْر بَعِيد فَنَزَلَتْ : " لَيْسَ عَلَيْك هُدَاهُمْ " فَدَعَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ , ثُمَّ نَسَخَ اللَّه ذَلِكَ بِآيَةِ الصَّدَقَات . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : كَانَ نَاس مِنْ الْأَنْصَار لَهُمْ قَرَابَات مِنْ بَنِي قُرَيْظَة وَالنَّضِير , وَكَانُوا لَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ رَغْبَة مِنْهُمْ فِي أَنْ يُسْلِمُوا إِذَا اِحْتَاجُوا , فَنَزَلَتْ الْآيَة بِسَبَبِ أُولَئِكَ . وَحَكَى بَعْض الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ أَسْمَاء اِبْنَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق أَرَادَتْ أَنْ تَصِل جَدّهَا أَبَا قُحَافَة ثُمَّ اِمْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَافِرًا فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي ذَلِكَ . وَحَكَى الطَّبَرِيّ أَنَّ مَقْصِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْعِ الصَّدَقَة إِنَّمَا كَانَ لِيُسْلِمُوا وَيَدْخُلُوا فِي الدِّين , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَيْسَ عَلَيْك هُدَاهُمْ " . وَقِيلَ : " وَعَلَيْك هُدَاهُمْ " لَيْسَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْل , فَيَكُون ظَاهِرًا فِي الصَّدَقَات وَصَرْفِهَا إِلَى الْكُفَّار , بَلْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ اِبْتِدَاء كَلَام .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الصَّدَقَة الَّتِي أُبِيحَتْ لَهُمْ حَسَب مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآثَار هِيَ صَدَقَة التَّطَوُّع . وَأَمَّا الْمَفْرُوضَة فَلَا يُجْزِئ دَفْعهَا لِكَافِرٍ , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أُمِرْت أَنْ آخُذ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ كُلّ مَنْ أَحْفَظ عَنْهُ , مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّ الذِّمِّيّ لَا يُعْطَى مِنْ زَكَاة الْأَمْوَال شَيْئًا , ثُمَّ ذَكَرَ جَمَاعَة مِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُر خِلَافًا . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : رَخَّصَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَرَابَاتهمْ مِنْ صَدَقَة الْفَرِيضَة لِهَذِهِ الْآيَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَرْدُود بِالْإِجْمَاعِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : تُصْرَف إِلَيْهِمْ زَكَاة الْفِطْر . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا ضَعِيف لَا أَصْل لَهُ . وَدَلِيلنَا أَنَّهَا صَدَقَة طُهْرَة وَاجِبَة فَلَا تُصْرَف إِلَى الْكَافِر كَصَدَقَةِ الْمَاشِيَة وَالْعَيْن , وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَال هَذَا الْيَوْم ) يَعْنِي يَوْم الْفِطْر .

قُلْت : وَذَلِكَ لِتَشَاغُلِهِمْ بِالْعِيدِ وَصَلَاة الْعِيد وَهَذَا لَا يَتَحَقَّق فِي الْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ يَجُوز صَرْفهَا إِلَى غَيْر الْمُسْلِم فِي قَوْل مَنْ جَعْلهَا سُنَّة , وَهُوَ أَحَد الْقَوْلَيْنِ عِنْدنَا , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة عَلَى مَا ذَكَرْنَا , نَظَرًا إِلَى عُمُوم الْآيَة فِي الْبِرّ وَإِطْعَام الطَّعَام وَإِطْلَاق الصَّدَقَات . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الْحُكْم مُتَصَوَّر لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَهْل ذِمَّتهمْ وَمَعَ الْمُسْتَرَقِّينَ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ .

قُلْت : وَفِي التَّنْزِيل " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبّه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا " [ الْإِنْسَان : 8 ] وَالْأَسِير فِي دَار الْإِسْلَام لَا يَكُون إِلَّا مُشْرِكًا . وَقَالَ تَعَالَى : " لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ " [ الْمُمْتَحِنَة : 8 ] . فَظَوَاهِر هَذِهِ الْآيَات تَقْتَضِي جَوَاز صَرْف الصَّدَقَات إِلَيْهِمْ جُمْلَة , إِلَّا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ مِنْهَا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِمُعَاذٍ : ( خُذْ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ ) وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . فَيُدْفَع إِلَيْهِمْ مِنْ صَدَقَة التَّطَوُّع إِذَا اِحْتَاجُوا , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَأَمَّا الْمُسْلِم الْعَاصِي فَلَا خِلَاف أَنَّ صَدَقَة الْفِطْر تُصْرَف إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ يَتْرُك أَرْكَان الْإِسْلَام مِنْ الصَّلَاة وَالصِّيَام فَلَا تُدْفَع إِلَيْهِ الصَّدَقَة حَتَّى يَتُوب . وَسَائِر أَهْل الْمَعَاصِي تُصْرَف الصَّدَقَة إِلَى مُرْتَكِبِيهَا لِدُخُولِهِمْ فِي اِسْم الْمُسْلِمِينَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيّ وَسَارِق وَزَانِيَة وَتُقُبِّلَتْ صَدَقَته , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي آيَة " الصَّدَقَات " .


أَيْ يُرْشِد مَنْ يَشَاء . وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَطَوَائِف مِنْ الْمُعْتَزِلَة , كَمَا تَقَدَّمَ .



شَرْط وَجَوَابه . وَالْخَيْر فِي هَذِهِ الْآيَة الْمَال ; لِأَنَّهُ قَدْ اِقْتَرَنَ بِذِكْرِ الْإِنْفَاق فَهَذِهِ الْقَرِينَة تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ الْمَال , وَمَتَى لَمْ تَقْتَرِن بِمَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ الْمَال فَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمَال , نَحْو قَوْله تَعَالَى : " خَيْر مُسْتَقَرًّا " [ الْفُرْقَان : 24 ] وَقَوْله " مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ " [ الزَّلْزَلَة : 7 ] . إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَهَذَا تَحَرُّز مِنْ قَوْل عِكْرِمَة : كُلّ خَيْر فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى فَهُوَ الْمَال . وَحُكِيَ أَنَّ بَعْض الْعُلَمَاء كَانَ يَصْنَع كَثِيرًا مِنْ الْمَعْرُوف ثُمَّ يَحْلِف أَنَّهُ مَا فَعَلَ مَعَ أَحَد خَيْرًا , فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُول : إِنَّمَا فَعَلْت مَعَ نَفْسِي , وَيَتْلُو " وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر فَلِأَنْفُسِكُمْ " . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النَّفَقَة الْمُعْتَدّ بِقَبُولِهَا إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ اِبْتِغَاء وَجْهه . و " اِبْتِغَاء " هُوَ عَلَى الْمَفْعُول لَهُ . وَقِيلَ : إِنَّهُ شَهَادَة مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ اِبْتِغَاء وَجْهه , فَهَذَا خَرَجَ مَخْرَج التَّفْضِيل وَالثَّنَاء عَلَيْهِمْ . وَعَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل هُوَ اِشْتِرَاط عَلَيْهِمْ , وَيَتَنَاوَل الِاشْتِرَاط غَيْرهمْ مِنْ الْأُمَّة . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاص : ( إِنَّك لَنْ تُنْفِق نَفَقَة تَبْتَغِي بِهَا وَجْه اللَّه تَعَالَى إِلَّا أُجِرْت بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَل فِي فِي اِمْرَأَتك ) .



" يُوَفَّ إِلَيْكُمْ " تَأْكِيد وَبَيَان لِقَوْلِهِ : " وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر فَلِأَنْفُسِكُمْ " وَأَنَّ ثَوَاب الْإِنْفَاق يُوَفَّى إِلَى الْمُنْفِقِينَ وَلَا يُبْخَسُونَ مِنْهُ شَيْئًا فَيَكُون ذَلِكَ الْبَخْس ظُلْمًا لَهُمْ .
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 273
" لِلْفُقَرَاءِ " اللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر " وَقِيلَ : بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيره الْإِنْفَاق أَوْ الصَّدَقَة لِلْفُقَرَاءِ . قَالَ السُّدِّيّ وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : الْمُرَاد بِهَؤُلَاءِ , الْفُقَرَاء فُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْش وَغَيْرهمْ , ثُمَّ تَتَنَاوَل الْآيَة كُلّ مَنْ دَخَلَ تَحْت صِفَة الْفُقَرَاء غَابِر الدَّهْر . وَإِنَّمَا خَصَّ فُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِوَاهُمْ وَهُمْ أَهْل الصُّفَّة وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعمِائَةِ رَجُل , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْدَمُونَ فُقَرَاء عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا لَهُمْ أَهْل وَلَا مَال فَبُنِيَتْ لَهُمْ صُفَّة فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقِيلَ لَهُمْ : أَهْل الصُّفَّة . قَالَ أَبُو ذَرّ : كُنْت مِنْ أَهْل الصُّفَّة وَكُنَّا إِذَا أَمْسَيْنَا حَضَرْنَا بَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْمُر كُلّ رَجُل فَيَنْصَرِف بِرَجُلٍ وَيَبْقَى مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْل الصُّفَّة عَشَرَة أَوْ أَقَلّ فَيُؤْتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَائِهِ وَنَتَعَشَّى مَعَهُ . فَإِذَا فَرَغْنَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَامُوا فِي الْمَسْجِد ) . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيّ عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب " وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ " قَالَ : نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَر الْأَنْصَار كُنَّا أَصْحَاب نَخْل , قَالَ : فَكَانَ الرَّجُل يَأْتِي مِنْ نَخْله عَلَى قَدْر كَثْرَته وَقِلَّته , وَكَانَ الرَّجُل يَأْتِي بِالْقِنْوِ وَالْقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقهُ فِي الْمَسْجِد , وَكَانَ أَهْل الصُّفَّة لَيْسَ لَهُمْ طَعَام , فَكَانَ أَحَدهمْ إِذَا جَاعَ أَتَى الْقِنْو فَيَضْرِبهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُط مِنْ الْبُسْر وَالتَّمْر فَيَأْكُل , وَكَانَ نَاس مِمَّنْ لَا يَرْغَب فِي الْخَيْر يَأْتِي بِالْقِنْوِ فِيهِ الشِّيص وَالْحَشَف , وَبِالْقِنْوِ قَدْ اِنْكَسَرَ فَيُعَلِّقهُ فِي الْمَسْجِد , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَات مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْض وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ " [ الْبَقَرَة : 267 ] . قَالَ : وَلَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ مِثْل مَا أَعْطَاهُ لَمْ يَأْخُذهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاض وَحَيَاء . قَالَ : فَكُنَّا بَعْد ذَلِكَ يَأْتِي الرَّجُل بِصَالِحِ مَا عِنْده . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب صَحِيح . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَكَانُوا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي الْمَسْجِد ضَرُورَة , وَأَكَلُوا مِنْ الصَّدَقَة ضَرُورَة , فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ اِسْتَغْنَوْا عَنْ تِلْكَ الْحَال وَخَرَجُوا ثُمَّ مَلَكُوا وَتَأَمَّرُوا . ثُمَّ بَيَّنَ اللَّه سُبْحَانه مِنْ أَحْوَال أُولَئِكَ الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ مَا يُوجِب الْحُنُوّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيل اللَّه " وَالْمَعْنَى حُبِسُوا وَمُنِعُوا . قَالَ قَتَادَة وَابْن زَيْد : مَعْنَى " أُحْصِرُوا فِي سَبِيل اللَّه " حَبَسُوا أَنْفُسهمْ عَنْ التَّصَرُّف فِي مَعَايِشهمْ خَوْف الْعَدُوّ , وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : " لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْض " لِكَوْنِ الْبِلَاد كُلّهَا كُفْرًا مُطْبِقًا . , وَهَذَا فِي صَدْر الْإِسْلَام , فَعِلَّتهمْ تَمْنَع مِنْ الِاكْتِسَاب بِالْجِهَادِ , وَإِنْكَار الْكُفَّار عَلَيْهِمْ ) إِسْلَامهمْ يَمْنَع مِنْ التَّصَرُّف فِي التِّجَارَة فَبَقُوا فُقَرَاء . وَقِيلَ : مَعْنَى " لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْض " أَيْ لِمَا قَدْ أَلْزَمُوا أَنْفُسهمْ مِنْ الْجِهَاد . وَالْأَوَّل أَظْهَر . وَاَللَّه أَعْلَم .



أَيْ إِنَّهُمْ مِنْ الِانْقِبَاض وَتَرْك الْمَسْأَلَة وَالتَّوَكُّل عَلَى اللَّه بِحَيْثُ يَظُنّهُمْ الْجَاهِل بِهِمْ أَغْنِيَاء . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ اِسْم الْفَقْر يَجُوز أَنْ يُطْلَق عَلَى مَنْ لَهُ كِسْوَة ذَات قِيمَة وَلَا يَمْنَع ذَلِكَ مِنْ إِعْطَاء الزَّكَاة إِلَيْهِ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِإِعْطَاءِ هَؤُلَاءِ الْقَوْم , وَكَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر مَرْضَى وَلَا عُمْيَان . وَالتَّعَفُّف تَفَعُّل , وَهُوَ بِنَاء مُبَالَغَة مَنْ عَفَّ عَنْ الشَّيْء إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبه , وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ قَتَادَة وَغَيْره . وَفَتْح السِّين وَكَسْرهَا فِي " يَحْسَبهُمْ " لُغَتَانِ . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَالْفَتْح أَقْيَس ; لِأَنَّ الْعَيْن مِنْ الْمَاضِي مَكْسُورَة فَبَابهَا أَنْ تَأْتِيَ فِي الْمُضَارِع مَفْتُوحَة . وَالْقِرَاءَة بِالْكَسْرِ حَسَنَة , لِمَجِيءِ السَّمْع بِهِ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا عَنْ الْقِيَاس . و " مِنْ " فِي قَوْله " مِنْ التَّعَفُّف " لِابْتِدَاءِ الْغَايَة . وَقِيلَ لِبَيَانِ الْجِنْس .


فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ لِلسِّيمَا أَثَرًا فِي اِعْتِبَار مَنْ يَظْهَر عَلَيْهِ ذَلِكَ , حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا مَيِّتًا فِي دَار الْإِسْلَام وَعَلَيْهِ زُنَّار وَهُوَ غَيْر مَخْتُون لَا يُدْفَن فِي مَقَابِر الْمُسْلِمِينَ , وَيُقَدَّم ذَلِكَ عَلَى حُكْم الدَّار فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْن الْقَوْل " [ مُحَمَّد : 30 ] . فَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى جَوَاز صَرْف الصَّدَقَة إِلَى مَنْ لَهُ ثِيَاب وَكِسْوَة وَزِيّ فِي التَّجَمُّل . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى ذَلِكَ , وَإِنْ اِخْتَلَفُوا بَعْده فِي مِقْدَار مَا يَأْخُذهُ إِذَا اِحْتَاجَ فَأَبُو حَنِيفَة اِعْتَبَرَ مِقْدَار مَا تَجِب فِيهِ الزَّكَاة , وَالشَّافِعِيّ اِعْتَبَرَ قُوت سَنَة , وَمَالِك اِعْتَبَرَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَالشَّافِعِيّ لَا يَصْرِف الزَّكَاة إِلَى الْمُكْتَسِب .

وَالسِّيمَا ( مَقْصُورَة ) : الْعَلَامَة , وَقَدْ تُمَدّ فَيُقَال السِّيمَاء . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَعْيِينهَا هُنَا , فَقَالَ مُجَاهِد : هِيَ الْخُشُوع وَالتَّوَاضُع . السُّدِّيّ : أَثَر الْفَاقَة وَالْحَاجَة فِي وُجُوههمْ وَقِلَّة , النِّعْمَة . اِبْن زَيْد : رَثَاثَة ثِيَابهمْ . وَقَالَ قَوْم وَحَكَاهُ مَكِّيّ : أَثَر السُّجُود . اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا حَسَن , وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ مُتَوَكِّلِينَ لَا شُغْل لَهُمْ فِي الْأَغْلَب إِلَّا الصَّلَاة , فَكَانَ أَثَر السُّجُود عَلَيْهِمْ .

قُلْت : وَهَذِهِ السِّيمَا الَّتِي هِيَ أَثَر السُّجُود اِشْتَرَكَ فِيهَا جَمِيع الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى فِي آخِر " الْفَتْح " بِقَوْلِهِ : " سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههمْ مِنْ أَثَر السُّجُود " [ الْفَتْح : 29 ] فَلَا فَرْق بَيْنهمْ وَبَيْن غَيْرهمْ , فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُون السِّيمَاء أَثَر الْخَصَاصَة وَالْحَاجَة , أَوْ يَكُون أَثَر السُّجُود أَكْثَر , فَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِصُفْرَةِ الْوُجُوه مِنْ قِيَام اللَّيْل وَصَوْم النَّهَار . وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَمَّا الْخُشُوع فَذَلِكَ مَحَلّه الْقَلْب وَيَشْتَرِك فِيهِ الْغَنِيّ وَالْفَقِير , فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا اِخْتَرْنَاهُ , وَالْمُوَفِّق الْإِلَه .


" لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا " مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال أَيْ مُلْحِفِينَ يُقَال : أَلْحَفَ وَأَحْفَى وَأَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَة سَوَاء وَيُقَال : وَلَيْسَ لِلْمُلْحِفِ مِثْل الرَّدّ وَاشْتِقَاق الْإِلْحَاف مِنْ اللِّحَاف , سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وُجُوه الطَّلَب فِي الْمَسْأَلَة كَاشْتِمَالِ اللِّحَاف مِنْ التَّغْطِيَة , أَيْ هَذَا السَّائِل يَعُمّ النَّاس بِسُؤَالِهِ فَيُلْحِفهُمْ ذَلِكَ , وَمِنْهُ قَوْل اِبْن أَحْمَر : فَظَلَّ يَحُفّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ وَيَلْحَفهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا يَصِف ذَكَر النَّعَام يَحْضُن بِيضًا بِجَنَاحَيْهِ وَيَجْعَل جَنَاحه لَهَا كَاللِّحَافِ وَهُوَ رَقِيق مَعَ ثِخَنه . وَرَوَى النَّسَائِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ الْمِسْكِين الَّذِي تَرُدّهُ التَّمْرَة وَالتَّمْرَتَانِ وَاللُّقْمَة وَاللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا الْمِسْكِين الْمُتَعَفِّف اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا " .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى قَوْله " لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا " عَلَى قَوْلَيْنِ , فَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ الطَّبَرِيّ وَالزَّجَّاج : إِنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْأَلُونَ الْبَتَّة , وَهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ عَنْ , الْمَسْأَلَة عِفَّة تَامَّة , وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ , وَيَكُون التَّعَفُّف صِفَة ثَابِتَة لَهُمْ , أَيْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَاحًا وَلَا غَيْر إِلْحَاح . وَقَالَ قَوْم : إِنَّ الْمُرَاد نَفْي الْإِلْحَاف , أَيْ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ غَيْر إِلْحَاف , وَهَذَا هُوَ السَّابِق لِلْفَهْمِ , أَيْ يَسْأَلُونَ غَيْر مُلْحِفِينَ . وَفِي هَذَا تَنْبِيه عَلَى سُوء حَالَة مَنْ يَسْأَل النَّاس إِلْحَافًا رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَة فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلنِي أَحَد مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِج لَهُ مَسْأَلَته مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِه فَيُبَارَك لَهُ فِيمَا أَعْطَيْته ) . وَفِي الْمُوَطَّأ " عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ رَجُل مِنْ بَنِي أَسَد أَنَّهُ قَالَ : نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَد فَقَالَ لِي أَهْلِي : اِذْهَبْ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلهُ , وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتهمْ , فَذَهَبْت إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت عِنْده رَجُلًا يَسْأَلهُ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا أَجِد مَا أُعْطِيك ) فَتَوَلَّى الرَّجُل عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَب وَهُوَ يَقُول : لَعَمْرِي إِنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّهُ يَغْضَب عَلَيَّ أَلَّا أَجِد مَا أُعْطِيه مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّة أَوْ عَدْلهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا ) . قَالَ الْأَسَدِيّ : فَقُلْت لَلِقْحَة لَنَا خَيْر مِنْ أُوقِيَّة - قَالَ مَالِك : وَالْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا - قَالَ : فَرَجَعْت وَلَمْ أَسْأَلهُ , فَقُدِمَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيب فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ حَتَّى أَغْنَانَا اللَّه " . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : هَكَذَا رَوَاهُ مَالِك وَتَابَعَهُ هِشَام بْن سَعْد وَغَيْره , وَهُوَ حَدِيث صَحِيح , وَلَيْسَ حُكْم الصَّحَابِيّ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَحُكْمِ مَنْ دُونه إِذَا لَمْ يُسَمَّ عِنْد الْعُلَمَاء , لِارْتِفَاعِ الْجُرْحَة عَنْ جَمِيعهمْ وَثُبُوت الْعَدَالَة لَهُمْ . وَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ السُّؤَال مَكْرُوه لِمَنْ لَهُ أُوقِيَّة مِنْ فِضَّة , فَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ هَذَا الْحَدّ وَالْعَدَد وَالْقَدْر مِنْ الْفِضَّة أَوْ مَا يَقُوم مَقَامهَا وَيَكُون عَدْلًا مِنْهَا فَهُوَ مُلْحِف , وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْم إِلَّا وَهُوَ يَكْرَه السُّؤَال لِمَنْ لَهُ هَذَا الْمِقْدَار مِنْ الْفِضَّة أَوْ عَدْلهَا مِنْ الذَّهَب عَلَى ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث . وَمَا جَاءَهُ مِنْ غَيْر مَسْأَلَة فَجَائِز لَهُ أَنْ يَأْكُلهُ , إِنْ كَانَ مِنْ غَيْر الزَّكَاة , وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَم فِيهِ خِلَافًا , فَإِنْ كَانَ مِنْ الزَّكَاة فَفِيهِ خِلَاف يَأْتِي بَيَانه فِي آيَة الصَّدَقَات إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : مِنْ أَحْسَن مَا رُوِيَ مِنْ أَجْوِبَة الْفُقَهَاء فِي مَعَانِي السُّؤَال وَكَرَاهِيَته وَمَذْهَب أَهْل الْوَرَع فِيهِ مَا حَكَاهُ الْأَثْرَم عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْمَسْأَلَة مَتَى تَحِلّ قَالَ : إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُغَذِّيه وَيُعَشِّيه عَلَى حَدِيث سَهْل بْن الْحَنْظَلِيَّة . قِيلَ لِأَبِي عَبْد اللَّه : فَإِنْ اُضْطُرَّ إِلَى الْمَسْأَلَة ؟ قَالَ : هِيَ مُبَاحَة لَهُ إِذَا اُضْطُرَّ . قِيلَ لَهُ : فَإِنْ تَعَفَّفَ ؟ قَالَ : ذَلِكَ خَيْر لَهُ . ثُمَّ قَالَ : مَا أَظُنّ أَحَدًا يَمُوت مِنْ الْجُوع اللَّه يَأْتِيه بِرِزْقِهِ . ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ ( مَنْ اِسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّه ) . وَحَدِيث أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : ( تَعَفَّفْ ) . قَالَ أَبُو بَكْر : وَسَمِعْته يَسْأَل عَنْ الرَّجُل لَا يَجِد شَيْئًا أَيَسْأَلُ النَّاس أَمْ يَأْكُل الْمَيْتَة ؟ فَقَالَ : أَيَأْكُلُ الْمَيْتَة وَهُوَ يَجِد مَنْ يَسْأَلهُ , هَذَا شَنِيع . قَالَ : وَسَمِعْته يَسْأَلهُ هَلْ يَسْأَل الرَّجُل لِغَيْرِهِ ؟ قَالَ لَا , وَلَكِنْ يُعَرِّض , كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين جَاءَهُ قَوْم حُفَاة عُرَاة مُجْتَابِي النِّمَار فَقَالَ : ( تَصَدَّقُوا ) وَلَمْ يَقُلْ أَعْطُوهُمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : قَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اِشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ) . وَفِيهِ إِطْلَاق السُّؤَال لِغَيْرِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ : ( أَلَا رَجُل يَتَصَدَّق عَلَى هَذَا ) ؟ قَالَ أَبُو بَكْر : قِيلَ لَهُ - يَعْنِي أَحْمَد بْن حَنْبَل - فَالرَّجُل يَذْكُر الرَّجُل فَيَقُول : إِنَّهُ مُحْتَاج ؟ فَقَالَ : هَذَا تَعْرِيض وَلَيْسَ بِهِ بَأْس , إِنَّمَا الْمَسْأَلَة أَنْ يَقُول أَعْطِهِ . ثُمَّ قَالَ : لَا يُعْجِبنِي أَنْ يَسْأَل الْمَرْء لِنَفْسِهِ فَكَيْف لِغَيْرِهِ ؟ وَالتَّعْرِيض هُنَا أَحَبّ إِلَيَّ .

قُلْت : قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا أَنَّ الْفِرَاسِيّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْأَل يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( لَا وَإِنْ كُنْت سَائِلًا لَا بُدّ فَاسْأَلْ الصَّالِحِينَ ) . فَأَبَاحَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَال أَهْل الْفَضْل وَالصَّلَاح عِنْد الْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ , وَإِنْ أَوْقَعَ حَاجَته , بِاَللَّهِ فَهُوَ أَعْلَى . قَالَ إِبْرَاهِيم بْن أَدْهَم : سُؤَال الْحَاجَات مِنْ النَّاس هِيَ الْحِجَاب بَيْنك وَبَيْن اللَّه تَعَالَى , فَأَنْزِلْ حَاجَتك بِمَنْ يَمْلِك الضُّرّ وَالنَّفْع , وَلْيَكُنْ مَفْزَعك إِلَى اللَّه تَعَالَى يَكْفِيك اللَّه مَا سِوَاهُ وَتَعِيش مَسْرُورًا .

فَإِنْ جَاءَهُ شَيْء مِنْ غَيْر سُؤَال فَلَهُ أَنْ يَقْبَلهُ وَلَا يَرُدّهُ , إِذْ هُوَ رِزْق رَزَقَهُ اللَّه . رَوَى مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب بِعَطَاءٍ فَرَدَّهُ , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِمَ رَدَدْته ) ؟ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَلَيْسَ أَخْبَرْتنَا أَنَّ أَحَدنَا خَيْر لَهُ أَلَّا يَأْخُذ شَيْئًا ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا ذَاكَ عَنْ الْمَسْأَلَة فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْر مَسْأَلَة فَإِنَّمَا هُوَ رِزْق رَزَقَكَهُ اللَّه ) . فَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَسْأَل أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَأْتِينِي بِشَيْءٍ مِنْ غَيْر مَسْأَلَة إِلَّا أَخَذْته . وَهَذَا نَصّ . وَخَرَّجَ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَالنَّسَائِيّ فِي سُنَنه وَغَيْرهمَا عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ سَمِعْت عُمَر يَقُول : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاء فَأَقُول : أَعْطِهِ أَفْقَر إِلَيْهِ مِنِّي , حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّة مَالًا فَقُلْت : أَعْطِهِ أَفْقَر إِلَيْهِ مِنِّي , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خُذْهُ وَمَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَال وَأَنْتَ غَيْر مُشْرِف وَلَا سَائِل فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعهُ نَفْسك ) . زَادَ النَّسَائِيّ - بَعْد قَوْله ( خُذْهُ - فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ ) . وَرَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن السَّعْدِيّ الْمَالِكِيّ عَنْ عُمَر فَقَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أُعْطِيت شَيْئًا مِنْ غَيْر أَنْ تَسْأَل فَكُلْ وَتَصَدَّقْ ) . وَهَذَا يُصَحِّح لَك حَدِيث مَالِك الْمُرْسَل . قَالَ الْأَثْرَم : سَمِعْت أَبَا عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حَنْبَل يَسْأَل عَنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَتَاك مِنْ غَيْر مَسْأَلَة وَلَا إِشْرَاف ) أَيّ الْإِشْرَاف أَرَادَ ؟ فَقَالَ : أَنْ تَسْتَشْرِفهُ وَتَقُول : لَعَلَّهُ يُبْعَث إِلَيَّ بِقَلْبِك . قِيلَ لَهُ : وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّض , قَالَ نَعَمْ إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا شَدِيد قَالَ : وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فَهُوَ هَكَذَا . قِيلَ لَهُ : فَإِنْ كَانَ الرَّجُل لَمْ يُعَوِّدنِي أَنْ يُرْسِل إِلَيَّ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عُرِضَ بِقَلْبِي فَقُلْت : عَسَى أَنْ يَبْعَث إِلَيَّ . قَالَ : هَذَا إِشْرَاف , فَأَمَّا إِذَا جَاءَك مِنْ غَيْر أَنْ تَحْتَسِبهُ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبك فَهَذَا الْآن لَيْسَ فِيهِ إِشْرَاف . قَالَ أَبُو عُمَر : الْإِشْرَاف فِي اللُّغَة رَفْع الرَّأْس إِلَى الْمَطْمُوع , عِنْده وَالْمَطْمُوع فِيهِ , وَأَنْ يَهَشّ الْإِنْسَان وَيَتَعَرَّض . وَمَا قَالَهُ أَحْمَد فِي تَأْوِيل الْإِشْرَاف تَضْيِيق وَتَشْدِيد وَهُوَ عِنْدِي بَعِيد , لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّة عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَان أَوْ تَعْمَلهُ جَارِحَة . وَأَمَّا مَا اِعْتَقَدَهُ الْقَلْب مِنْ الْمَعَاصِي مَا خَلَا الْكُفْر فَلَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْمَل بِهِ , وَخَطِرَات النَّفْس مُتَجَاوَز عَنْهَا بِإِجْمَاعٍ .

الْإِلْحَاح فِي الْمَسْأَلَة وَالْإِلْحَاف فِيهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا حَرَام لَا يَحِلّ . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ سَأَلَ النَّاس أَمْوَالهمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَل جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلّ أَوْ لِيَسْتَكْثِر ) رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَعَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَزَال الْمَسْأَلَة بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّه وَلَيْسَ فِي وَجْهه مُزْعَة لَحْم ) رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضًا .

السَّائِل إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا فَلَا بَأْس أَنْ يُكَرِّر الْمَسْأَلَة ثَلَاثًا إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا وَالْأَفْضَل تَرْكه . فَإِنْ كَانَ الْمَسْئُول يَعْلَم بِذَلِكَ وَهُوَ قَادِر عَلَى مَا سَأَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاء , وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَيُعْطِيه مَخَافَة أَنْ يَكُون صَادِقًا فِي سُؤَاله فَلَا يُفْلِح فِي رَدّه .

فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَا يُقِيم بِهِ سُنَّة كَالتَّجَمُّلِ بِثَوْبٍ يَلْبَسهُ فِي الْعِيد وَالْجُمُعَة فَذَكَرَ اِبْن الْعَرَبِيّ : سَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد رَجُلًا يَقُول : هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُر الْجُمُعَة مَعَكُمْ وَلَيْسَ عِنْده ثِيَاب يُقِيم بِهَا سُنَّة الْجُمُعَة . فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَة الْأُخْرَى رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا أُخَر , فَقِيلَ لِي : كَسَاهُ إِيَّاهَا أَبُو الطَّاهِر البرسني أَخْذ الثَّنَاء
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 274
فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي ذَرّ وَأَبِي أُمَامَة وَأَبِي الدَّرْدَاء وَعَبْد اللَّه بْن بِشْر الْغَافِقِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلَف الْخَيْل الْمَرْبُوطَة فِي سَبِيل اللَّه . وَذَكَرَ اِبْن سَعْد فِي الطَّبَقَات قَالَ : أُخْبِرْت عَنْ مُحَمَّد بْن شُعَيْب بْن شَابُور قَالَ : أَنْبَأَنَا سَعِيد بْن سِنَان عَنْ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن عَرِيب عَنْ , أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَرِيب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سِرًّا وَعَلَانِيَة فَلَهُمْ أَجْرهمْ عِنْد رَبّهمْ وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " قَالَ : ( هُمْ أَصْحَاب الْخَيْل ) . وَبِهَذَا الْإِسْنَاد قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُنْفِق عَلَى الْخَيْل كَبَاسِطِ يَده بِالصَّدَقَةِ لَا يَقْبِضهَا وَأَبْوَالهَا وَأَرْوَاثهَا عِنْد اللَّه يَوْم الْقِيَامَة كَذَكِيِّ الْمِسْك ) . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , كَانَتْ مَعَهُ أَرْبَعَة دَرَاهِم فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا وَبِدِرْهَمٍ سِرًّا وَبِدِرْهَمٍ جَهْرًا , ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الْوَهَّاب بْن مُجَاهِد عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس . اِبْن جُرَيْج : نَزَلَتْ فِي رَجُل فَعَلَ ذَلِكَ , وَلَمْ يُسَمِّ عَلِيًّا وَلَا غَيْره . وَقَالَ قَتَادَةُ . هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْمُنْفِقِينَ مِنْ غَيْر تَبْذِير وَلَا تَقْتِير . وَمَعْنَى " بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار " فِي اللَّيْل وَالنَّهَار , وَدَخَلَتْ الْفَاء فِي قَوْله تَعَالَى : " فَلَهُمْ " لِأَنَّ فِي الْكَلَام مَعْنَى الْجَزَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَلَا يَجُوز زَيْد فَمُنْطَلِق .
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة الآية رقم 275
فِيهَا عَشْر مَسَائِل :

الْأُولَى : يَأْكُلُونَ يَأْخُذُونَ , فَعَبَّرَ عَنْ الْأَخْذ بِالْأَكْلِ ; لِأَنَّ الْأَخْذ إِنَّمَا يُرَاد لِلْأَكْلِ . وَالرِّبَا فِي اللُّغَة الزِّيَادَة مُطْلَقًا , يُقَال : رَبَا الشَّيْء يَرْبُو إِذَا زَادَ , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( فَلَا وَاَللَّه مَا أَخَذْنَا مِنْ لُقْمَة إِلَّا رَبَا مِنْ تَحْتهَا ) يَعْنِي الطَّعَام الَّذِي دَعَا فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ , خَرَّجَ الْحَدِيث مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه . وَقِيَاس كِتَابَته بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ فِي أَوَّله , وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْقُرْآن بِالْوَاوِ . ثُمَّ إِنَّ الشَّرْع قَدْ تَصَرَّفَ فِي هَذَا الْإِطْلَاق فَقَصَرَهُ عَلَى بَعْض مَوَارِده , فَمَرَّة أَطْلَقَهُ عَلَى كَسْب الْحَرَام , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي الْيَهُود : " وَأَخْذهمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ " [ النِّسَاء : 161 ] . وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الرِّبَا الشَّرْعِيّ الَّذِي حُكِمَ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَال الْحَرَام , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ " [ الْمَائِدَة : 42 ] يَعْنِي بِهِ الْمَال الْحَرَام مِنْ الرِّشَا , وَمَا اِسْتَحَلُّوهُ مِنْ أَمْوَال الْأُمِّيِّينَ حَيْثُ قَالُوا : " لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل " [ آل عِمْرَان : 75 ] . وَعَلَى هَذَا فَيَدْخُل فِيهِ النَّهْي عَنْ كُلّ مَال حَرَام بِأَيِّ وَجْه اُكْتُسِبَ . وَالرِّبَا الَّذِي عَلَيْهِ عُرْف الشَّرْع شَيْئَانِ : تَحْرِيم النَّسَاء , وَالتَّفَاضُل فِي الْعُقُود وَفِي الْمَطْعُومَات عَلَى مَا نُبَيِّنهُ . وَغَالِبه مَا كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ , مِنْ قَوْلهَا لِلْغَرِيمِ : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ فَكَانَ الْغَرِيم يَزِيد فِي عَدَد الْمَال وَيَصْبِر الطَّالِب عَلَيْهِ . وَهَذَا كُلّه مُحَرَّم بِاتِّفَاقِ الْأُمَّة .

الثَّانِيَة : أَكْثَر الْبُيُوع الْمَمْنُوعَة إِنَّمَا تَجِد مَنْعهَا لِمَعْنَى زِيَادَة إِمَّا فِي عَيْن مَال , وَإِمَّا فِي مَنْفَعَة لِأَحَدِهِمَا مِنْ تَأْخِير وَنَحْوه . وَمِنْ الْبُيُوع مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الزِّيَادَة , كَبَيْعِ الثَّمَرَة قَبْل بُدُوّ صَلَاحهَا , وَكَالْبَيْعِ سَاعَة النِّدَاء يَوْم الْجُمُعَة , فَإِنْ قِيلَ لِفَاعِلِهَا , آكِل الرِّبَا فَتَجَوُّز وَتَشْبِيه .

الثَّالِثَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الذَّهَب بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اِسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الْآخِذ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاء ) . , وَفِي حَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت : ( فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ) . وَرَوَى أَبُو داود عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الذَّهَب بِالذَّهَبِ تِبْرهَا وَعَيْنهَا وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ تِبْرهَا وَعَيْنهَا وَالْبُرّ بِالْبُرِّ مُدْي بِمُدْيٍ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ مُدْي بِمُدْيٍ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ مُدْي بِمُدْيٍ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ مُدْي بِمُدْيٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَلَا بَأْس بِبَيْع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّة أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَة فَلَا وَلَا بَأْس بِبَيْعِ الْبُرّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِير أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَة فَلَا ) . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى الْقَوْل بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّة وَعَلَيْهَا جَمَاعَة فُقَهَاء الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الْبُرّ وَالشَّعِير فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا , فَلَا يَجُوز مِنْهُمَا اِثْنَانِ بِوَاحِدٍ , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُعْظَم عُلَمَاء الْمَدِينَة وَالشَّام , وَأَضَافَ مَالِك إِلَيْهِمَا السُّلْت . وَقَالَ اللَّيْث : السُّلْت وَالدُّخْن وَالذُّرَة صِنْف وَاحِد , وَقَالَهُ اِبْن وَهْب .

قُلْت : وَإِذَا ثَبَتَتْ السُّنَّة فَلَا قَوْل مَعَهَا . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ) . وَقَوْله : ( الْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ ) دَلِيل عَلَى أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ كَمُخَالَفَةِ الْبُرّ لِلتَّمْرِ , وَلِأَنَّ صِفَاتهمَا مُخْتَلِفَة وَأَسْمَاؤُهُمَا مُخْتَلِفَة , وَلَا اِعْتِبَار بِالْمَنْبِتِ وَالْمَحْصِد إِذَا لَمْ يَعْتَبِرهُ الشَّرْع , بَلْ فَصَّلَ وَبَيَّنَ , وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الْحَدِيث .

الرَّابِعَة : كَانَ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان يَذْهَب إِلَى أَنَّ النَّهْي وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا وَرَدَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينَار الْمَضْرُوب وَالدِّرْهَم الْمَضْرُوب لَا فِي التِّبْر مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْمَضْرُوبِ , وَلَا فِي الْمَصُوغ بِالْمَضْرُوبِ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْمَصُوغ خَاصَّة , حَتَّى وَقَعَ لَهُ مَعَ عُبَادَة مَا خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره , قَالَ : غَزَوْنَا وَعَلَى النَّاس مُعَاوِيَة فَغَنِمْنَا غَنَائِم كَثِيرَة , فَكَانَ مِمَّا غَنِمْنَا آنِيَة مِنْ فِضَّة فَأَمَرَ مُعَاوِيَة رَجُلًا بِبَيْعِهَا فِي أُعْطِيَّات النَّاس , فَتَنَازَعَ النَّاس فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَة بْن الصَّامِت ذَلِكَ فَقَامَ فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْع الذَّهَب بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ مَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى , فَرَدَّ النَّاس مَا أَخَذُوا , فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَة فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ : أَلَا مَا بَال رِجَال يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيث قَدْ كُنَّا نَشْهَدهُ وَنَصْحَبهُ فَلَمْ نَسْمَعهَا مِنْهُ فَقَامَ عُبَادَة بْن الصَّامِت فَأَعَادَ الْقِصَّة ثُمَّ قَالَ : لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَة - أَوْ قَالَ وَإِنْ رَغِمَ - مَا أُبَالِي أَلَّا أَصْحَبهُ فِي جُنْده فِي لَيْلَة سَوْدَاء . قَالَ حَمَّاد هَذَا أَوْ نَحْوه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة إِنَّمَا كَانَتْ لِأَبِي الدَّرْدَاء مَعَ مُعَاوِيَة . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون وَقَعَ ذَلِكَ لَهُمَا مَعَهُ , وَلَكِنَّ الْحَدِيث فِي الْعُرْف مَحْفُوظ لِعُبَادَة , وَهُوَ الْأَصْل الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء فِي بَاب [ الرِّبَا ] . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ فِعْل مُعَاوِيَة فِي ذَلِكَ غَيْر جَائِز , وَغَيْر نَكِير أَنْ يَكُون مُعَاوِيَة خَفِيَ عَلَيْهِ مَا قَدْ عَلِمَهُ أَبُو الدَّرْدَاء وَعُبَادَة فَإِنَّهُمَا جَلِيلَانِ مِنْ فُقَهَاء الصَّحَابَة وَكِبَارهمْ , وَقَدْ خَفِيَ عَلَى أَبِي بَكْر وَعُمَر مَا وُجِدَ عِنْد غَيْرهمْ مِمَّنْ هُوَ دُونهمْ , فَمُعَاوِيَة أَحْرَى . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَذْهَبه كَمَذْهَبِ اِبْن عَبَّاس , فَقَدْ كَانَ وَهُوَ بَحْر فِي الْعِلْم لَا يَرَى الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ بَأْسًا حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أَبُو سَعِيد . وَقِصَّة مُعَاوِيَة هَذِهِ مَعَ عُبَادَة كَانَتْ فِي وِلَايَة عُمَر . قَالَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب : إِنَّ عُبَادَة أَنْكَرَ شَيْئًا عَلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ : لَا أُسَاكِنك بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا وَدَخَلَ الْمَدِينَة . فَقَالَ لَهُ عُمَر : مَا أَقْدَمَك ؟ فَأَخْبَرَهُ . فَقَالَ : اِرْجِعْ إِلَى مَكَانك , فَقَبَّحَ اللَّه أَرْضًا لَسْت فِيهَا وَلَا أَمْثَالك ! وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَة " لَا إِمَارَة لَك عَلَيْهِ " .

الْخَامِسَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الدِّينَار بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْل بَيْنهمَا مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَة بِوَرِقٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَة بِذَهَبٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ هَاءَ وَهَاءَ ) . قَالَ الْعُلَمَاء فَقَوْله , عَلَيْهِ السَّلَام : ( الدِّينَار بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْل بَيْنهمَا ) إِشَارَة إِلَى جِنْس الْأَصْل الْمَضْرُوب , بِدَلِيلِ قَوْله : ( الْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَب بِالذَّهَبِ ) الْحَدِيث . وَالْفِضَّة الْبَيْضَاء وَالسَّوْدَاء وَالذَّهَب الْأَحْمَر وَالْأَصْفَر كُلّ ذَلِكَ لَا يَجُوز بَيْع بَعْضه بِبَعْضٍ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاء بِسَوَاءٍ عَلَى كُلّ حَال , عَلَى هَذَا جَمَاعَة أَهْل الْعِلْم عَلَى مَا بَيَّنَّا . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي الْفُلُوس فَأَلْحَقَهَا بِالدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْأَشْيَاءِ , وَمَنَعَ مِنْ إِلْحَاقهَا مَرَّة مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا فِي كُلّ بَلَد وَإِنَّمَا يَخْتَصّ بِهَا بَلَد دُون بَلَد .

السَّادِسَة : لَا اِعْتِبَار بِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِير مِنْ أَصْحَاب مَالِك وَبَعْضهمْ يَرْوِيه عَنْ مَالِك فِي التَّاجِر يَحْفِزهُ الْخُرُوج وَبِهِ حَاجَة إِلَى دَرَاهِم مَضْرُوبَة أَوْ دَنَانِير مَضْرُوبَة , فَيَأْتِي دَار الضَّرْب بِفِضَّتِهِ أَوْ ذَهَبه فَيَقُول لِلضَّرَّابِ , خُذْ فِضَّتِي هَذِهِ أَوْ ذَهَبِي وَخُذْ قَدْر عَمَل يَدك وَادْفَعْ إِلَيَّ دَنَانِير مَضْرُوبَة فِي ذَهَبِي أَوْ دَرَاهِم مَضْرُوبَة فِي فِضَّتِي هَذِهِ لِأَنِّي مَحْفُوز لِلْخُرُوجِ وَأَخَاف أَنْ يَفُوتنِي مَنْ أَخْرُج مَعَهُ , أَنَّ ذَلِكَ جَائِز لِلضَّرُورَةِ , وَأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْض النَّاس . وَحَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي قَبَسه عَنْ مَالِك فِي غَيْر التَّاجِر , وَإِنَّ مَالِكًا خَفَّفَ فِي ذَلِكَ , فَيَكُون فِي الصُّورَة قَدْ بَاعَ فِضَّته الَّتِي زِنَتهَا مِائَة وَخَمْسَة دَرَاهِم أَجْره بِمِائَةٍ وَهَذَا مَحْض الرِّبَا . وَاَلَّذِي أَوْجَبَ جَوَاز ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ : اِضْرِبْ لِي هَذِهِ وَقَاطَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأُجْرَةٍ , فَلَمَّا ضَرَبَهَا قَبَضَهَا مِنْهُ وَأَعْطَاهُ أُجْرَتهَا , فَاَلَّذِي فَعَلَ مَالِك أَوَّلًا هُوَ الَّذِي يَكُون آخِرًا , وَمَالِك إِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الْمَال فَرَكَّبَ عَلَيْهِ حُكْم الْحَال , وَأَبَاهُ سَائِر الْفُقَهَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْحُجَّة فِيهِ لِمَالِكٍ بَيِّنَة . قَالَ أَبُو عُمَر رَحِمَهُ اللَّه : وَهَذَا هُوَ عَيْن الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( مَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى ) . وَقَدْ رَدَّ اِبْن وَهْب هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَلَى مَالِك وَأَنْكَرَهَا . وَزَعَمَ الْأَبْهَرِيّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَاب الرِّفْق لِطَلَبِ التِّجَارَة وَلِئَلَّا يَفُوت السُّوق , وَلَيْسَ الرِّبَا إِلَّا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِي مِمَّنْ يَقْصِد إِلَى ذَلِكَ وَيَبْتَغِيه . وَنَسِيَ الْأَبْهَرِيّ أَصْله فِي قَطْع الذَّرَائِع , وَقَوْله , فِيمَنْ بَاعَ ثَوْبًا بِنَسِيئَةٍ وَهُوَ لَا نِيَّة لَهُ فِي شِرَائِهِ ثُمَّ يَجِدهُ فِي السُّوق يُبَاع : إِنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ اِبْتِيَاعه مِنْهُ بِدُونِ مَا بَاعَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِد إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْتَغِهِ , وَمِثْله كَثِير , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الرِّبَا إِلَّا عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلَّا عَلَى الْفُقَهَاء . وَقَدْ قَالَ عُمَر : لَا يَتَّجِر فِي سُوقنَا إِلَّا مَنْ فَقِهَ وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا . وَهَذَا بَيِّن لِمَنْ رُزِقَ الْإِنْصَاف وَأُلْهِمَ رُشْده .

قُلْت : وَقَدْ بَالَغَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِي مَنْع الزِّيَادَة حَتَّى جَعَلَ الْمُتَوَهَّم كَالْمُتَحَقِّقِ , فَمَنَعَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا بِدِينَارٍ وَدِرْهَم سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَحَسْمًا لِلتَّوَهُّمَاتِ , إِذْ لَوْلَا تَوَهُّم الزِّيَادَة لَمَا تَبَادَلَا . وَقَدْ عُلِّلَ مَنْع ذَلِكَ بِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَة عِنْد التَّوْزِيع , فَإِنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ ذَهَب وَفِضَّة بِذَهَبٍ . وَأَوْضَح مِنْ هَذَا مَنْعه التَّفَاضُل الْمَعْنَوِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنَعَ دِينَارًا مِنْ الذَّهَب الْعَالِي وَدِينَارًا مِنْ الذَّهَب الدُّون فِي مُقَابَلَة الْعَالِي وَأَلْفَى الدُّون , وَهَذَا مِنْ دَقِيق نَظَره رَحِمَهُ اللَّه , فَدَلَّ أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَة عَنْهُ مُنْكَرَة وَلَا تَصِحّ . وَاَللَّه أَعْلَم .

السَّابِعَة : قَالَ الْخَطَّابِيّ : التِّبْر قَطْع الذَّهَب وَالْفِضَّة قَبْل أَنْ تُضْرَب وَتُطْبَع دَرَاهِم أَوْ دَنَانِير , وَاحِدَتهَا تِبْرَة . وَالْعَيْن : الْمَضْرُوب مِنْ الدَّرَاهِم أَوْ الدَّنَانِير . وَقَدْ حَرَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاع مِثْقَال ذَهَب عَيْن بِمِثْقَالٍ وَشَيْء مِنْ تِبْر غَيْر مَضْرُوب . وَكَذَلِكَ حَرَّمَ التَّفَاوُت بَيْن الْمَضْرُوب مِنْ الْفِضَّة وَغَيْر الْمَضْرُوب مِنْهَا , وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله : ( تِبْرهَا وَعَيْنهَا سَوَاء ) .

الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّمْر بِالتَّمْرِ وَلَا يَجُوز إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْع التَّمْرَة الْوَاحِدَة بِالتَّمْرَتَيْنِ , وَالْحَبَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْقَمْح بِحَبَّتَيْنِ , فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالثَّوْرِيّ , وَهُوَ قِيَاس قَوْل مَالِك وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ مَا جَرَى الرِّبَا فِيهِ بِالتَّفَاضُلِ فِي كَثِيره دَخَلَ قَلِيله فِي ذَلِكَ قِيَاسًا وَنَظَرًا . اِحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِأَنَّ مُسْتَهْلِك التَّمْرَة وَالتَّمْرَتَيْنِ لَا تَجِب عَلَيْهِ الْقِيمَة , قَالَ : لِأَنَّهُ لَا مَكِيل وَلَا مَوْزُون فَجَازَ فِيهِ التَّفَاضُل .

التَّاسِعَة : اِعْلَمْ رَحِمَك اللَّه أَنَّ مَسَائِل هَذَا الْبَاب كَثِيرَة وَفُرُوعه مُنْتَشِرَة , وَاَلَّذِي يَرْبِط لَك ذَلِكَ أَنْ تَنْظُر إِلَى مَا اِعْتَبَرَهُ كُلّ وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء فِي عِلَّة الرِّبَا , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : عِلَّة ذَلِكَ كَوْنه مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا جِنْسًا , فَكُلّ مَا يَدْخُلهُ الْكَيْل أَوْ الْوَزْن عِنْده مِنْ جِنْس وَاحِد , فَإِنَّ بَيْع بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا أَوْ نَسِيئًا لَا يَجُوز , فَمَنَعَ بَيْع التُّرَاب بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا ; لِأَنَّهُ يَدْخُلهُ الْكَيْل , وَأَجَازَ الْخُبْز قُرْصًا بِقُرْصَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُل عِنْده فِي الْكَيْل الَّذِي هُوَ أَصْله , فَخَرَجَ مِنْ الْجِنْس الَّذِي يَدْخُلهُ الرِّبَا إِلَى مَا عَدَاهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْعِلَّة كَوْنه مَطْعُومًا جِنْسًا . هَذَا قَوْله فِي الْجَدِيد , فَلَا يَجُوز عِنْده بَيْع الدَّقِيق بِالْخُبْزِ وَلَا بَيْع الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسِيئًا , وَسَوَاء أَكَانَ الْخُبْز خَمِيرًا أَوْ فَطِيرًا . وَلَا يَجُوز عِنْده بَيْضَة بِبَيْضَتَيْنِ , وَلَا رُمَّانَة بِرُمَّانَتَيْنِ , وَلَا بِطِّيخَة بِبِطِّيخَتَيْنِ لَا يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَة ; لِأَنَّ ذَلِكَ كُلّه طَعَام مَأْكُول . وَقَالَ فِي الْقَدِيم : كَوْنه مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَات أَصْحَابنَا الْمَالِكِيَّة فِي ذَلِكَ , وَأَحْسَن مَا فِي ذَلِكَ كَوْنه مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا لِلْعَيْشِ غَالِبًا جِنْسًا , كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِير وَالتَّمْر وَالْمِلْح الْمَنْصُوص عَلَيْهَا , وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَالْأَرُزِّ وَالذُّرَة وَالدُّخْن وَالسِّمْسِم , وَالْقَطَانِيّ كَالْفُولِ وَالْعَدَس وَاللُّوبْيَاء وَالْحِمَّص , وَكَذَلِكَ اللُّحُوم وَالْأَلْبَان وَالْخُلُول وَالزُّيُوت , وَالثِّمَار كَالْعِنَبِ وَالزَّبِيب وَالزَّيْتُون , وَاخْتُلِفَ فِي التِّين , وَيَلْحَق بِهَا الْعَسَل وَالسُّكَّر . فَهَذَا كُلّه يَدْخُلهُ الرِّبَا مِنْ جِهَة النَّسَاء . وَجَائِز فِيهِ التَّفَاضُل لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ) . وَلَا رِبَا فِي رُطَب الْفَوَاكِه الَّتِي لَا تَبْقَى كَالتُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخ وَالرُّمَّان وَالْكُمَّثْرَى وَالْقِثَّاء وَالْخِيَار وَالْبَاذِنْجَان وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْخَضْرَاوَات . قَالَ مَالِك : لَا يَجُوز بَيْع الْبِيض بِالْبِيضِ مُتَفَاضِلًا , لِأَنَّهُ مِمَّا يُدَّخَر , وَيَجُوز عِنْده مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم : جَائِز بَيْضَة بِبَيْضَتَيْنِ وَأَكْثَر ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُدَّخَر , وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ .

الْعَاشِرَة : اِخْتَلَفَ النُّحَاة فِي لَفْظ " الرِّبَا " فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُوَ مِنْ ذَوَات الْوَاو ; لِأَنَّك تَقُول فِي تَثْنِيَته : رِبَوَان , قَالَهُ سِيبَوَيْهِ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يُكْتَب بِالْيَاءِ , وَتَثْنِيَته بِالْيَاءِ , لِأَجْلِ الْكَسْرَة الَّتِي فِي أَوَّله . قَالَ الزَّجَّاج : مَا رَأَيْت خَطَأ أَقْبَح مِنْ هَذَا وَلَا أَشْنَع لَا يَكْفِيهِمْ الْخَطَأ فِي الْخَطّ حَتَّى يُخْطِئُوا فِي التَّثْنِيَة وَهُمْ يَقْرَءُونَ : " وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَال النَّاس " [ الرُّوم : 39 ] قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : كُتِبَ " الرِّبَا " فِي الْمُصْحَف بِالْوَاوِ فَرْقًا بَيْنه وَبَيْن الزِّنَا , وَكَانَ الرِّبَا أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَاوِ , لِأَنَّهُ مِنْ رَبَا يَرْبُو .

فِيهَا عَشْر مَسَائِل :

الْأُولَى : يَأْكُلُونَ يَأْخُذُونَ , فَعَبَّرَ عَنْ الْأَخْذ بِالْأَكْلِ ; لِأَنَّ الْأَخْذ إِنَّمَا يُرَاد لِلْأَكْلِ . وَالرِّبَا فِي اللُّغَة الزِّيَادَة مُطْلَقًا , يُقَال : رَبَا الشَّيْء يَرْبُو إِذَا زَادَ , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( فَلَا وَاَللَّه مَا أَخَذْنَا مِنْ لُقْمَة إِلَّا رَبَا مِنْ تَحْتهَا ) يَعْنِي الطَّعَام الَّذِي دَعَا فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ , خَرَّجَ الْحَدِيث مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه . وَقِيَاس كِتَابَته بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ فِي أَوَّله , وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْقُرْآن بِالْوَاوِ . ثُمَّ إِنَّ الشَّرْع قَدْ تَصَرَّفَ فِي هَذَا الْإِطْلَاق فَقَصَرَهُ عَلَى بَعْض مَوَارِده , فَمَرَّة أَطْلَقَهُ عَلَى كَسْب الْحَرَام , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي الْيَهُود : " وَأَخْذهمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ " [ النِّسَاء : 161 ] . وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الرِّبَا الشَّرْعِيّ الَّذِي حُكِمَ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَال الْحَرَام , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ " [ الْمَائِدَة : 42 ] يَعْنِي بِهِ الْمَال الْحَرَام مِنْ الرِّشَا , وَمَا اِسْتَحَلُّوهُ مِنْ أَمْوَال الْأُمِّيِّينَ حَيْثُ قَالُوا : " لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل " [ آل عِمْرَان : 75 ] . وَعَلَى هَذَا فَيَدْخُل فِيهِ النَّهْي عَنْ كُلّ مَال حَرَام بِأَيِّ وَجْه اُكْتُسِبَ . وَالرِّبَا الَّذِي عَلَيْهِ عُرْف الشَّرْع شَيْئَانِ : تَحْرِيم النَّسَاء , وَالتَّفَاضُل فِي الْعُقُود وَفِي الْمَطْعُومَات عَلَى مَا نُبَيِّنهُ . وَغَالِبه مَا كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ , مِنْ قَوْلهَا لِلْغَرِيمِ : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ فَكَانَ الْغَرِيم يَزِيد فِي عَدَد الْمَال وَيَصْبِر الطَّالِب عَلَيْهِ . وَهَذَا كُلّه مُحَرَّم بِاتِّفَاقِ الْأُمَّة .

الثَّانِيَة : أَكْثَر الْبُيُوع الْمَمْنُوعَة إِنَّمَا تَجِد مَنْعهَا لِمَعْنَى زِيَادَة إِمَّا فِي عَيْن مَال , وَإِمَّا فِي مَنْفَعَة لِأَحَدِهِمَا مِنْ تَأْخِير وَنَحْوه . وَمِنْ الْبُيُوع مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الزِّيَادَة , كَبَيْعِ الثَّمَرَة قَبْل بُدُوّ صَلَاحهَا , وَكَالْبَيْعِ سَاعَة النِّدَاء يَوْم الْجُمُعَة , فَإِنْ قِيلَ لِفَاعِلِهَا , آكِل الرِّبَا فَتَجَوُّز وَتَشْبِيه .

الثَّالِثَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الذَّهَب بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اِسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الْآخِذ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاء ) . , وَفِي حَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت : ( فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ) . وَرَوَى أَبُو داود عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الذَّهَب بِالذَّهَبِ تِبْرهَا وَعَيْنهَا وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ تِبْرهَا وَعَيْنهَا وَالْبُرّ بِالْبُرِّ مُدْي بِمُدْيٍ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ مُدْي بِمُدْيٍ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ مُدْي بِمُدْيٍ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ مُدْي بِمُدْيٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَلَا بَأْس بِبَيْع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّة أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَة فَلَا وَلَا بَأْس بِبَيْعِ الْبُرّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِير أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَة فَلَا ) . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى الْقَوْل بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّة وَعَلَيْهَا جَمَاعَة فُقَهَاء الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الْبُرّ وَالشَّعِير فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا , فَلَا يَجُوز مِنْهُمَا اِثْنَانِ بِوَاحِدٍ , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُعْظَم عُلَمَاء الْمَدِينَة وَالشَّام , وَأَضَافَ مَالِك إِلَيْهِمَا السُّلْت . وَقَالَ اللَّيْث : السُّلْت وَالدُّخْن وَالذُّرَة صِنْف وَاحِد , وَقَالَهُ اِبْن وَهْب .

قُلْت : وَإِذَا ثَبَتَتْ السُّنَّة فَلَا قَوْل مَعَهَا . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ) . وَقَوْله : ( الْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ ) دَلِيل عَلَى أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ كَمُخَالَفَةِ الْبُرّ لِلتَّمْرِ , وَلِأَنَّ صِفَاتهمَا مُخْتَلِفَة وَأَسْمَاؤُهُمَا مُخْتَلِفَة , وَلَا اِعْتِبَار بِالْمَنْبِتِ وَالْمَحْصِد إِذَا لَمْ يَعْتَبِرهُ الشَّرْع , بَلْ فَصَّلَ وَبَيَّنَ , وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الْحَدِيث .

الرَّابِعَة : كَانَ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان يَذْهَب إِلَى أَنَّ النَّهْي وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا وَرَدَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينَار الْمَضْرُوب وَالدِّرْهَم الْمَضْرُوب لَا فِي التِّبْر مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْمَضْرُوبِ , وَلَا فِي الْمَصُوغ بِالْمَضْرُوبِ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْمَصُوغ خَاصَّة , حَتَّى وَقَعَ لَهُ مَعَ عُبَادَة مَا خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره , قَالَ : غَزَوْنَا وَعَلَى النَّاس مُعَاوِيَة فَغَنِمْنَا غَنَائِم كَثِيرَة , فَكَانَ مِمَّا غَنِمْنَا آنِيَة مِنْ فِضَّة فَأَمَرَ مُعَاوِيَة رَجُلًا بِبَيْعِهَا فِي أُعْطِيَّات النَّاس , فَتَنَازَعَ النَّاس فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَة بْن الصَّامِت ذَلِكَ فَقَامَ فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْع الذَّهَب بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ مَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى , فَرَدَّ النَّاس مَا أَخَذُوا , فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَة فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ : أَلَا مَا بَال رِجَال يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيث قَدْ كُنَّا نَشْهَدهُ وَنَصْحَبهُ فَلَمْ نَسْمَعهَا مِنْهُ فَقَامَ عُبَادَة بْن الصَّامِت فَأَعَادَ الْقِصَّة ثُمَّ قَالَ : لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَة - أَوْ قَالَ وَإِنْ رَغِمَ - مَا أُبَالِي أَلَّا أَصْحَبهُ فِي جُنْده فِي لَيْلَة سَوْدَاء . قَالَ حَمَّاد هَذَا أَوْ نَحْوه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة إِنَّمَا كَانَتْ لِأَبِي الدَّرْدَاء مَعَ مُعَاوِيَة . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون وَقَعَ ذَلِكَ لَهُمَا مَعَهُ , وَلَكِنَّ الْحَدِيث فِي الْعُرْف مَحْفُوظ لِعُبَادَة , وَهُوَ الْأَصْل الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء فِي بَاب [ الرِّبَا ] . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ فِعْل مُعَاوِيَة فِي ذَلِكَ غَيْر جَائِز , وَغَيْر نَكِير أَنْ يَكُون مُعَاوِيَة خَفِيَ عَلَيْهِ مَا قَدْ عَلِمَهُ أَبُو الدَّرْدَاء وَعُبَادَة فَإِنَّهُمَا جَلِيلَانِ مِنْ فُقَهَاء الصَّحَابَة وَكِبَارهمْ , وَقَدْ خَفِيَ عَلَى أَبِي بَكْر وَعُمَر مَا وُجِدَ عِنْد غَيْرهمْ مِمَّنْ هُوَ دُونهمْ , فَمُعَاوِيَة أَحْرَى . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَذْهَبه كَمَذْهَبِ اِبْن عَبَّاس , فَقَدْ كَانَ وَهُوَ بَحْر فِي الْعِلْم لَا يَرَى الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ بَأْسًا حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أَبُو سَعِيد . وَقِصَّة مُعَاوِيَة هَذِهِ مَعَ عُبَادَة كَانَتْ فِي وِلَايَة عُمَر . قَالَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب : إِنَّ عُبَادَة أَنْكَرَ شَيْئًا عَلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ : لَا أُسَاكِنك بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا وَدَخَلَ الْمَدِينَة . فَقَالَ لَهُ عُمَر : مَا أَقْدَمَك ؟ فَأَخْبَرَهُ . فَقَالَ : اِرْجِعْ إِلَى مَكَانك , فَقَبَّحَ اللَّه أَرْضًا لَسْت فِيهَا وَلَا أَمْثَالك ! وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَة " لَا إِمَارَة لَك عَلَيْهِ " .

الْخَامِسَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الدِّينَار بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْل بَيْنهمَا مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَة بِوَرِقٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَة بِذَهَبٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ هَاءَ وَهَاءَ ) . قَالَ الْعُلَمَاء فَقَوْله , عَلَيْهِ السَّلَام : ( الدِّينَار بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْل بَيْنهمَا ) إِشَارَة إِلَى جِنْس الْأَصْل الْمَضْرُوب , بِدَلِيلِ قَوْله : ( الْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَب بِالذَّهَبِ ) الْحَدِيث . وَالْفِضَّة الْبَيْضَاء وَالسَّوْدَاء وَالذَّهَب الْأَحْمَر وَالْأَصْفَر كُلّ ذَلِكَ لَا يَجُوز بَيْع بَعْضه بِبَعْضٍ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاء بِسَوَاءٍ عَلَى كُلّ حَال , عَلَى هَذَا جَمَاعَة أَهْل الْعِلْم عَلَى مَا بَيَّنَّا . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي الْفُلُوس فَأَلْحَقَهَا بِالدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْأَشْيَاءِ , وَمَنَعَ مِنْ إِلْحَاقهَا مَرَّة مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا فِي كُلّ بَلَد وَإِنَّمَا يَخْتَصّ بِهَا بَلَد دُون بَلَد .

السَّادِسَة : لَا اِعْتِبَار بِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِير مِنْ أَصْحَاب مَالِك وَبَعْضهمْ يَرْوِيه عَنْ مَالِك فِي التَّاجِر يَحْفِزهُ الْخُرُوج وَبِهِ حَاجَة إِلَى دَرَاهِم مَضْرُوبَة أَوْ دَنَانِير مَضْرُوبَة , فَيَأْتِي دَار الضَّرْب بِفِضَّتِهِ أَوْ ذَهَبه فَيَقُول لِلضَّرَّابِ , خُذْ فِضَّتِي هَذِهِ أَوْ ذَهَبِي وَخُذْ قَدْر عَمَل يَدك وَادْفَعْ إِلَيَّ دَنَانِير مَضْرُوبَة فِي ذَهَبِي أَوْ دَرَاهِم مَضْرُوبَة فِي فِضَّتِي هَذِهِ لِأَنِّي مَحْفُوز لِلْخُرُوجِ وَأَخَاف أَنْ يَفُوتنِي مَنْ أَخْرُج مَعَهُ , أَنَّ ذَلِكَ جَائِز لِلضَّرُورَةِ , وَأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْض النَّاس . وَحَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي قَبَسه عَنْ مَالِك فِي غَيْر التَّاجِر , وَإِنَّ مَالِكًا خَفَّفَ فِي ذَلِكَ , فَيَكُون فِي الصُّورَة قَدْ بَاعَ فِضَّته الَّتِي زِنَتهَا مِائَة وَخَمْسَة دَرَاهِم أَجْره بِمِائَةٍ وَهَذَا مَحْض الرِّبَا . وَاَلَّذِي أَوْجَبَ جَوَاز ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ : اِضْرِبْ لِي هَذِهِ وَقَاطَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأُجْرَةٍ , فَلَمَّا ضَرَبَهَا قَبَضَهَا مِنْهُ وَأَعْطَاهُ أُجْرَتهَا , فَاَلَّذِي فَعَلَ مَالِك أَوَّلًا هُوَ الَّذِي يَكُون آخِرًا , وَمَالِك إِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الْمَال فَرَكَّبَ عَلَيْهِ حُكْم الْحَال , وَأَبَاهُ سَائِر الْفُقَهَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْحُجَّة فِيهِ لِمَالِكٍ بَيِّنَة . قَالَ أَبُو عُمَر رَحِمَهُ اللَّه : وَهَذَا هُوَ عَيْن الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( مَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى ) . وَقَدْ رَدَّ اِبْن وَهْب هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَلَى مَالِك وَأَنْكَرَهَا . وَزَعَمَ الْأَبْهَرِيّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَاب الرِّفْق لِطَلَبِ التِّجَارَة وَلِئَلَّا يَفُوت السُّوق , وَلَيْسَ الرِّبَا إِلَّا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِي مِمَّنْ يَقْصِد إِلَى ذَلِكَ وَيَبْتَغِيه . وَنَسِيَ الْأَبْهَرِيّ أَصْله فِي قَطْع الذَّرَائِع , وَقَوْله , فِيمَنْ بَاعَ ثَوْبًا بِنَسِيئَةٍ وَهُوَ لَا نِيَّة لَهُ فِي شِرَائِهِ ثُمَّ يَجِدهُ فِي السُّوق يُبَاع : إِنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ اِبْتِيَاعه مِنْهُ بِدُونِ مَا بَاعَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِد إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْتَغِهِ , وَمِثْله كَثِير , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الرِّبَا إِلَّا عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلَّا عَلَى الْفُقَهَاء . وَقَدْ قَالَ عُمَر : لَا يَتَّجِر فِي سُوقنَا إِلَّا مَنْ فَقِهَ وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا . وَهَذَا بَيِّن لِمَنْ رُزِقَ الْإِنْصَاف وَأُلْهِمَ رُشْده .

قُلْت : وَقَدْ بَالَغَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِي مَنْع الزِّيَادَة حَتَّى جَعَلَ الْمُتَوَهَّم كَالْمُتَحَقِّقِ , فَمَنَعَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا بِدِينَارٍ وَدِرْهَم سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَحَسْمًا لِلتَّوَهُّمَاتِ , إِذْ لَوْلَا تَوَهُّم الزِّيَادَة لَمَا تَبَادَلَا . وَقَدْ عُلِّلَ مَنْع ذَلِكَ بِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَة عِنْد التَّوْزِيع , فَإِنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ ذَهَب وَفِضَّة بِذَهَبٍ . وَأَوْضَح مِنْ هَذَا مَنْعه التَّفَاضُل الْمَعْنَوِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنَعَ دِينَارًا مِنْ الذَّهَب الْعَالِي وَدِينَارًا مِنْ الذَّهَب الدُّون فِي مُقَابَلَة الْعَالِي وَأَلْفَى الدُّون , وَهَذَا مِنْ دَقِيق نَظَره رَحِمَهُ اللَّه , فَدَلَّ أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَة عَنْهُ مُنْكَرَة وَلَا تَصِحّ . وَاَللَّه أَعْلَم .

السَّابِعَة : قَالَ الْخَطَّابِيّ : التِّبْر قَطْع الذَّهَب وَالْفِضَّة قَبْل أَنْ تُضْرَب وَتُطْبَع دَرَاهِم أَوْ دَنَانِير , وَاحِدَتهَا تِبْرَة . وَالْعَيْن : الْمَضْرُوب مِنْ الدَّرَاهِم أَوْ الدَّنَانِير . وَقَدْ حَرَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاع مِثْقَال ذَهَب عَيْن بِمِثْقَالٍ وَشَيْء مِنْ تِبْر غَيْر مَضْرُوب . وَكَذَلِكَ حَرَّمَ التَّفَاوُت بَيْن الْمَضْرُوب مِنْ الْفِضَّة وَغَيْر الْمَضْرُوب مِنْهَا , وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله : ( تِبْرهَا وَعَيْنهَا سَوَاء ) .

الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّمْر بِالتَّمْرِ وَلَا يَجُوز إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْع التَّمْرَة الْوَاحِدَة بِالتَّمْرَتَيْنِ , وَالْحَبَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْقَمْح بِحَبَّتَيْنِ , فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالثَّوْرِيّ , وَهُوَ قِيَاس قَوْل مَالِك وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ مَا جَرَى الرِّبَا فِيهِ بِالتَّفَاضُلِ فِي كَثِيره دَخَلَ قَلِيله فِي ذَلِكَ قِيَاسًا وَنَظَرًا . اِحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِأَنَّ مُسْتَهْلِك التَّمْرَة وَالتَّمْرَتَيْنِ لَا تَجِب عَلَيْهِ الْقِيمَة , قَالَ : لِأَنَّهُ لَا مَكِيل وَلَا مَوْزُون فَجَازَ فِيهِ التَّفَاضُل .

التَّاسِعَة : اِعْلَمْ رَحِمَك اللَّه أَنَّ مَسَائِل هَذَا الْبَاب كَثِيرَة وَفُرُوعه مُنْتَشِرَة , وَاَلَّذِي يَرْبِط لَك ذَلِكَ أَنْ تَنْظُر إِلَى مَا اِعْتَبَرَهُ كُلّ وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء فِي عِلَّة الرِّبَا , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : عِلَّة ذَلِكَ كَوْنه مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا جِنْسًا , فَكُلّ مَا يَدْخُلهُ الْكَيْل أَوْ الْوَزْن عِنْده مِنْ جِنْس وَاحِد , فَإِنَّ بَيْع بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا أَوْ نَسِيئًا لَا يَجُوز , فَمَنَعَ بَيْع التُّرَاب بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا ; لِأَنَّهُ يَدْخُلهُ الْكَيْل , وَأَجَازَ الْخُبْز قُرْصًا بِقُرْصَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُل عِنْده فِي الْكَيْل الَّذِي هُوَ أَصْله , فَخَرَجَ مِنْ الْجِنْس الَّذِي يَدْخُلهُ الرِّبَا إِلَى مَا عَدَاهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْعِلَّة كَوْنه مَطْعُومًا جِنْسًا . هَذَا قَوْله فِي الْجَدِيد , فَلَا يَجُوز عِنْده بَيْع الدَّقِيق بِالْخُبْزِ وَلَا بَيْع الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسِيئًا , وَسَوَاء أَكَانَ الْخُبْز خَمِيرًا أَوْ فَطِيرًا . وَلَا يَجُوز عِنْده بَيْضَة بِبَيْضَتَيْنِ , وَلَا رُمَّانَة بِرُمَّانَتَيْنِ , وَلَا بِطِّيخَة بِبِطِّيخَتَيْنِ لَا يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَة ; لِأَنَّ ذَلِكَ كُلّه طَعَام مَأْكُول . وَقَالَ فِي الْقَدِيم : كَوْنه مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَات أَصْحَابنَا الْمَالِكِيَّة فِي ذَلِكَ , وَأَحْسَن مَا فِي ذَلِكَ كَوْنه مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا لِلْعَيْشِ غَالِبًا جِنْسًا , كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِير وَالتَّمْر وَالْمِلْح الْمَنْصُوص عَلَيْهَا , وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَالْأَرُزِّ وَالذُّرَة وَالدُّخْن وَالسِّمْسِم , وَالْقَطَانِيّ كَالْفُولِ وَالْعَدَس وَاللُّوبْيَاء وَالْحِمَّص , وَكَذَلِكَ اللُّحُوم وَالْأَلْبَان وَالْخُلُول وَالزُّيُوت , وَالثِّمَار كَالْعِنَبِ وَالزَّبِيب وَالزَّيْتُون , وَاخْتُلِفَ فِي التِّين , وَيَلْحَق بِهَا الْعَسَل وَالسُّكَّر . فَهَذَا كُلّه يَدْخُلهُ الرِّبَا مِنْ جِهَة النَّسَاء . وَجَائِز فِيهِ التَّفَاضُل لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ) . وَلَا رِبَا فِي رُطَب الْفَوَاكِه الَّتِي لَا تَبْقَى كَالتُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخ وَالرُّمَّان وَالْكُمَّثْرَى وَالْقِثَّاء وَالْخِيَار وَالْبَاذِنْجَان وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْخَضْرَاوَات . قَالَ مَالِك : لَا يَجُوز بَيْع الْبِيض بِالْبِيضِ مُتَفَاضِلًا , لِأَنَّهُ مِمَّا يُدَّخَر , وَيَجُوز عِنْده مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم : جَائِز بَيْضَة بِبَيْضَتَيْنِ وَأَكْثَر ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُدَّخَر , وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ .

الْعَاشِرَة : اِخْتَلَفَ النُّحَاة فِي لَفْظ " الرِّبَا " فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُوَ مِنْ ذَوَات الْوَاو ; لِأَنَّك تَقُول فِي تَثْنِيَته : رِبَوَان , قَالَهُ سِيبَوَيْهِ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يُكْتَب بِالْيَاءِ , وَتَثْنِيَته بِالْيَاءِ , لِأَجْلِ الْكَسْرَة الَّتِي فِي أَوَّله . قَالَ الزَّجَّاج : مَا رَأَيْت خَطَأ أَقْبَح مِنْ هَذَا وَلَا أَشْنَع لَا يَكْفِيهِمْ الْخَطَأ فِي الْخَطّ حَتَّى يُخْطِئُوا فِي التَّثْنِيَة وَهُمْ يَقْرَءُونَ : " وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَال النَّاس " [ الرُّوم : 39 ] قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : كُتِبَ " الرِّبَا " فِي الْمُصْحَف بِالْوَاوِ فَرْقًا بَيْنه وَبَيْن الزِّنَا , وَكَانَ الرِّبَا أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَاوِ , لِأَنَّهُ مِنْ رَبَا يَرْبُو .



مَعْنَاهُ عِنْد جَمِيع الْمُتَأَوِّلِينَ فِي الْكُفَّار , وَلَهُمْ قِيلَ : " فَلَهُ مَا سَلَفَ " وَلَا يُقَال ذَلِكَ لِمُؤْمِنٍ عَاصٍ بَلْ يُنْقَض بَيْعه , وَيُرَدّ فِعْله وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا , فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدّ ) . لَكِنْ قَدْ يَأْخُذ الْعُصَاة فِي الرِّبَا بِطَرَفٍ مِنْ وَعِيد هَذِهِ الْآيَة .


أَيْ إِنَّمَا الزِّيَادَة عِنْد حُلُول الْأَجَل آخِرًا كَمَثَلِ أَصْل الثَّمَن فِي أَوَّل الْعَقْد , وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ لَا تَعْرِف رِبًا إِلَّا ذَلِكَ , فَكَانَتْ إِذَا حَلَّ دَيْنهَا قَالَتْ لِلْغَرِيمِ : إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ , أَيْ تَزِيد فِي الدَّيْن . فَحَرَّمَ اللَّه سُبْحَانه ذَلِكَ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلهمْ بِقَوْلِهِ الْحَقّ : " وَأَحَلَّ اللَّه الْبَيْع وَحَرَّمَ الرِّبَا " [ الْبَقَرَة : 275 ] وَأَوْضَحَ أَنَّ الْأَجَل إِذَا حَلَّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْده مَا يُؤَدِّي أُنْظِرَ إِلَى الْمَيْسَرَة . وَهَذَا الرِّبَا هُوَ الَّذِي نَسَخَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ يَوْم عَرَفَة لَمَّا قَالَ : ( أَلَا إِنَّ كُلّ رِبًا مَوْضُوع وَإِنَّ أَوَّل رِبًا أَضَعهُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلَب فَإِنَّهُ مَوْضُوع كُلّه ) . فَبَدَأَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمِّهِ وَأَخَصّ النَّاس بِهِ . وَهَذَا مِنْ سُنَن الْعَدْل لِلْإِمَامِ أَنْ يُفِيض الْعَدْل عَلَى نَفْسه وَخَاصَّته فَيَسْتَفِيض حِينَئِذٍ فِي النَّاس .

هَذَا مِنْ عُمُوم الْقُرْآن , وَالْأَلِف وَاللَّام لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّم بَيْع مَذْكُور يَرْجِع إِلَيْهِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر " [ الْعَصْر 1 , 2 ] ثُمَّ اِسْتَثْنَى " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات " [ الْعَصْر : 3 ] . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْع عَامّ فَهُوَ مُخَصَّص بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَمُنِعَ الْعَقْد عَلَيْهِ , كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَة وَحَبَل الْحَبَلَة وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ثَابِت فِي السُّنَّة وَإِجْمَاع الْأُمَّة النَّهْي عَنْهُ . وَنَظِيره " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 5 ] وَسَائِر الظَّوَاهِر الَّتِي تَقْتَضِي الْعُمُومَات وَيَدْخُلهَا التَّخْصِيص وَهَذَا مَذْهَب أَكْثَر الْفُقَهَاء . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ مِنْ مُجْمَل الْقُرْآن الَّذِي فَسَّرَ بِالْمُحَلَّلِ مِنْ الْبَيْع وَبِالْمُحَرَّمِ فَلَا يُمْكِن أَنْ يُسْتَعْمَل فِي إِحْلَال الْبَيْع وَتَحْرِيمه إِلَّا أَنْ يَقْتَرِن بِهِ بَيَان مِنْ سُنَّة الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنْ دَلَّ عَلَى إِبَاحَة الْبُيُوع فِي الْجُمْلَة دُون التَّفْصِيل . وَهَذَا فَرْق مَا بَيْن الْعُمُوم وَالْمُجْمَل . , فَالْعُمُوم يَدُلّ عَلَى إِبَاحَة الْبُيُوع فِي الْجُمْلَة , وَالتَّفْصِيل مَا لَمْ يُخَصّ بِدَلِيلٍ . وَالْمُجْمَل لَا يَدُلّ عَلَى إِبَاحَتهَا فِي التَّفْصِيل حَتَّى يَقْتَرِن بِهِ بَيَان . وَالْأَوَّل أَصَحّ . وَاَللَّه أَعْلَم .

الْبَيْع فِي اللُّغَة مَصْدَر بَاعَ كَذَا بِكَذَا , أَيْ دَفَعَ عِوَضًا وَأَخَذَ مُعَوَّضًا . وَهُوَ يَقْتَضِي بَائِعًا وَهُوَ الْمَالِك أَوْ مَنْ يُنَزَّل مَنْزِلَته , وَمُبْتَاعًا وَهُوَ الَّذِي يَبْذُل الثَّمَن , وَمَبِيعًا وَهُوَ الْمَثْمُون وَهُوَ الَّذِي يُبْذَل فِي مُقَابَلَته الثَّمَن . وَعَلَى هَذَا فَأَرْكَان الْبَيْع أَرْبَعَة : الْبَائِع وَالْمُبْتَاع وَالثَّمَن وَالْمُثَمَّن . ثُمَّ الْمُعَاوَضَة عِنْد الْعَرَب تَخْتَلِف بِحَسَبِ اِخْتِلَاف مَا يُضَاف إِلَيْهِ , فَإِنْ كَانَ أَحَد الْمُعَوَّضِينَ فِي مُقَابَلَة الرَّقَبَة سُمِّيَ بَيْعًا , وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَة مَنْفَعَة رَقَبَة فَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَة بُضْع سُمِّيَ نِكَاحًا , وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَة غَيْرهَا سُمِّيَ إِجَارَة , وَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَهُوَ بَيْع النَّقْد وَهُوَ الصَّرْف , وَإِنْ كَانَ بِدَيْنٍ مُؤَجَّل فَهُوَ السَّلَم , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي آيَة الدَّيْن . وَقَدْ مَضَى حُكْم الصَّرْف , وَيَأْتِي حُكْم الْإِجَارَة فِي " الْقَصَص " وَحُكْم الْمَهْر فِي النِّكَاح فِي [ النِّسَاء ] كُلّ فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

الْبَيْع قَبُول وَإِيجَاب يَقَع بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَل وَالْمَاضِي , فَالْمَاضِي فِيهِ حَقِيقَة وَالْمُسْتَقْبَل كِنَايَة , وَيَقَع بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَة الْمَفْهُوم مِنْهَا نَقْل الْمِلْك . فَسَوَاء قَالَ : بِعْتُك هَذِهِ السِّلْعَة بِعَشَرَةٍ فَقَالَ : اِشْتَرَيْتهَا , أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : اِشْتَرَيْتهَا وَقَالَ الْبَائِع : بِعْتُكهَا , أَوْ قَالَ الْبَائِع : أَنَا أَبِيعك بِعَشَرَةٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي : أَنَا أَشْتَرِي أَوْ قَدْ اِشْتَرَيْت , وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : خُذْهَا بِعَشَرَةٍ أَوْ أَعْطَيْتُكهَا أَوْ دُونَكَهَا أَوْ بُورِكَ لَك فِيهَا بِعَشَرَةٍ أَوْ سَلَّمْتهَا إِلَيْك - وَهُمَا يُرِيدَانِ الْبَيْع - فَذَلِكَ كُلّه بَيْع لَازِم . وَلَوْ قَالَ الْبَائِع : بِعْتُك بِعَشَرَةٍ ثُمَّ رَجَعَ قَبْل أَنْ يَقْبَل الْمُشْتَرِي فَقَدْ قَالَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِع حَتَّى يَسْمَع قَبُول الْمُشْتَرِي أَوْ رَدّه ; لِأَنَّهُ قَدْ بَذَلَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسه وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهَا , وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ لَهُ ; لِأَنَّ الْعَقْد لَمْ يَتِمّ عَلَيْهِ . وَلَوْ قَالَ الْبَائِع : كُنْت لَاعِبًا , فَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْهُ , فَقَالَ مَرَّة : يَلْزَمهُ الْبَيْع وَلَا يُلْتَفَت إِلَى قَوْله وَقَالَ مَرَّة : يُنْظَر إِلَى قِيمَة السِّلْعَة . فَإِنْ كَانَ الثَّمَن يُشْبِه قِيمَتهَا فَالْبَيْع لَازِم , وَإِنْ كَانَ مُتَفَاوِتًا كَعَبْدٍ بِدِرْهَمٍ وَدَار بِدِينَارٍ , عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْبَيْع , وَإِنَّمَا كَانَ هَازِلًا فَلَمْ يَلْزَمهُ .


الْأَلِف وَاللَّام هُنَا لِلْعَهْدِ , وَهُوَ مَا كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ , ثُمَّ تَتَنَاوَل مَا حَرَّمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ الْبَيْع الَّذِي يَدْخُلهُ الرِّبَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْبُيُوع الْمَنْهِيّ عَنْهَا .

عَقْد الرِّبَا مَفْسُوخ لَا يَجُوز بِحَالٍ , لِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : جَاءَ بِلَال بِتَمْرٍ بَرْنِيّ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مِنْ أَيْنَ هَذَا ) ؟ فَقَالَ بِلَال : مِنْ تَمْر كَانَ عِنْدنَا رَدِيء , فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد ذَلِكَ : ( أَوْهِ عَيْن الرِّبَا لَا تَفْعَل وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْر فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَر ثُمَّ اِشْتَرِ بِهِ ) وَفِي رِوَايَة ( هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ ثُمَّ بِيعُوا تَمْرنَا وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَقَوْله ( أَوْهِ عَيْن الرِّبَا ) أَيْ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّم نَفْسه لَا مَا يُشْبِههُ . وَقَوْله : ( فَرُدُّوهُ ) يَدُلّ عَلَى وُجُوب فَسْخ صَفْقَة الرِّبَا وَأَنَّهَا لَا تَصِحّ بِوَجْهٍ , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة حَيْثُ يَقُول : إِنَّ بَيْع الرِّبَا جَائِز بِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَيْع , مَمْنُوع بِوَصْفِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رِبًا , فَيَسْقُط الرِّبَا وَيَصِحّ الْبَيْع . وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذُكِرَ لَمَا فَسَخَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الصَّفْقَة , وَلَأَمَرَهُ بِرَدِّ الزِّيَادَة عَلَى الصَّاع وَلَصَحَّحَ الصَّفْقَة فِي مُقَابَلَة الصَّاع .

كُلّ مَا كَانَ مِنْ حَرَام بَيِّن فَفُسِخَ فَعَلَى الْمُبْتَاع رَدّ السِّلْعَة بِعَيْنِهَا . فَإِنْ تَلِفَتْ بِيَدِهِ رَدَّ الْقِيمَة فِيمَا لَهُ الْقِيمَة , وَذَلِكَ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوض وَالْحَيَوَان , وَالْمِثْل فِيمَا لَهُ مِثْل مِنْ مَوْزُون أَوْ مَكِيل مِنْ طَعَام أَوْ عَرَض . قَالَ مَالِك : يُرَدّ الْحَرَام الْبَيِّن فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ , وَمَا كَانَ مِمَّا كَرِهَ النَّاس رُدَّ إِلَّا أَنْ يَفُوت فَيُتْرَك .


قَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق رَحِمَهُمَا اللَّه : حَرَّمَ اللَّه الرِّبَا لِيَتَقَارَض النَّاس . وَعَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَرْض مَرَّتَيْنِ يَعْدِل صَدَقَة مَرَّة ) أَخْرَجَهُ الْبَزَّار , وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى . وَقَالَ بَعْض النَّاس : حَرَّمَهُ اللَّه لِأَنَّهُ مَتْلَفَة لِلْأَمْوَالِ مَهْلَكَة لِلنَّاسِ . وَسَقَطَتْ عَلَامَة التَّأْنِيث فِي قَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ جَاءَهُ " لِأَنَّ تَأْنِيث " الْمَوْعِظَة " غَيْر حَقِيقِيّ وَهُوَ بِمَعْنَى وَعْظ . وَقَرَأَ الْحَسَن " فَمَنْ جَاءَتْهُ " بِإِثْبَاتِ الْعَلَامَة .

هَذِهِ الْآيَة تَلَتْهَا عَائِشَة لَمَّا أُخْبِرَتْ بِفِعْلِ زَيْد بْن أَرْقَم . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الْعَالِيَة بِنْت أَنْفَع قَالَتْ : خَرَجْت أَنَا وَأُمّ مُحِبَّة إِلَى مَكَّة فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا , فَقَالَتْ لَنَا : مِمَّنْ أَنْتُنَّ ؟ قُلْنَا مِنْ أَهْل الْكُوفَة , قَالَتْ : فَكَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَنَّا , فَقَالَتْ لَهَا أُمّ مُحِبَّة : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ ! كَانَتْ لِي جَارِيَة وَإِنِّي بِعْتهَا مِنْ زَيْد بْن أَرْقَم الْأَنْصَارِيّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم إِلَى عَطَائِهِ وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعهَا فَابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَم نَقْدًا . قَالَتْ : فَأَقْبَلَتْ عَلَيْنَا فَقَالَتْ : بِئْسَمَا شَرَيْت وَمَا اِشْتَرَيْت ! فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَاده مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوب . فَقَالَتْ لَهَا : أَرَأَيْت إِنْ لَمْ آخُذ مِنْهُ إِلَّا رَأْس مَالِي ؟ قَالَتْ : " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ " . الْعَالِيَة هِيَ زَوْج أَبِي إِسْحَاق الْهَمْدَانِيّ الْكُوفِيّ السَّبِيعِيّ أُمّ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق . وَهَذَا الْحَدِيث أَخْرَجَهُ مَالِك مِنْ رِوَايَة اِبْن وَهْب عَنْهُ فِي بُيُوع الْآجَال , فَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْوُقُوع فِي الْمَحْظُور مُنِعَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِره بَيْعًا جَائِزًا . وَخَالَفَ مَالِكًا فِي هَذَا الْأَصْل جُمْهُور الْفُقَهَاء وَقَالُوا : الْأَحْكَام مَبْنِيَّة عَلَى الظَّاهِر لَا عَلَى الظُّنُون . وَدَلِيلنَا الْقَوْل بِسَدِّ الذَّرَائِع , فَإِنْ سَلِمَ وَإِلَّا اِسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّته . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَهَذَا الْحَدِيث نَصّ وَلَا تَقُول عَائِشَة ( أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَاده إِلَّا أَنْ يَتُوب ) إِلَّا بِتَوْقِيفٍ , إِذْ مِثْله لَا يُقَال بِالرَّأْيِ فَإِنَّ إِبْطَال الْأَعْمَال لَا يُتَوَصَّل إِلَى مَعْرِفَتهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الْحَلَال بَيِّن وَالْحَرَام بَيِّن وَبَيْنهمَا أُمُور مُشْتَبِهَات لَا يَعْلَمهُنَّ كَثِير مِنْ النَّاس فَمَنْ اِتَّقَى الشُّبُهَات اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضه وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَام كَالرَّاعِي يَرْعَى , حَوْل الْحِمَى يُوشِك أَنْ يُوقِع فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِك حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّه مَحَارِمه ) . وَجْه دَلَالَته أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْإِقْدَام عَلَى الْمُتَشَابِهَات مَخَافَة الْوُقُوع فِي الْمُحَرَّمَات وَذَلِكَ سَدّ لِلذَّرِيعَةِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ الْكَبَائِر شَتْم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ) قَالُوا : وَكَيْف يَشْتُم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : ( يَسُبّ أَبَا الرَّجُل فَيَسُبّ أَبَاهُ وَيَسُبّ أُمّه فَيَسُبّ أُمّه ) . فَجَعَلَ التَّعْرِيض لِسَبِّ الْآبَاء كَسَبِّ الْآبَاء . وَلَعَنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُود إِذَا أَكَلُوا ثَمَن مَا نُهُوا عَنْ أَكْله . وَقَالَ أَبُو بَكْر فِي كِتَابه : لَا يُجْمَع بَيْن مُتَفَرِّق وَلَا يُفَرَّق بَيْن مُجْتَمِع خَشْيَة الصَّدَقَة . وَنَهَى اِبْن عَبَّاس عَنْ دَرَاهِم بِدَرَاهِم بَيْنهمَا جَرِيرَة . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى مَنْع الْجَمْع بَيْن بَيْع وَسَلَف , وَعَلَى تَحْرِيم قَلِيل الْخَمْر وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِر , وَعَلَى تَحْرِيم الْخَلْوَة بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ عِنِّينًا , وَعَلَى تَحْرِيم النَّظَر إِلَى وَجْه الْمَرْأَة الشَّابَّة إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُر وَيُعْلَم عَلَى الْقَطْع وَالثَّبَات أَنَّ الشَّرْع حَكَمَ فِيهَا بِالْمَنْعِ ; لِأَنَّهَا ذَرَائِع الْمُحَرَّمَات . وَالرِّبَا أَحَقّ مَا حُمِيَتْ مَرَاتِعه وَسُدَّتْ طَرَائِقه , وَمَنْ أَبَاحَ هَذِهِ الْأَسْبَاب فَلْيُبِحْ حَفْر الْبِئْر وَنَصْب الْحِبَالَات لِهَلَاكِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات , وَذَلِكَ لَا يَقُولهُ أَحَد . وَأَيْضًا فَقَدْ اِتَّفَقْنَا عَلَى مَنْع مَنْ بَاعَ بِالْعِينَةِ إِذَا عُرِفَ بِذَلِكَ وَكَانَتْ عَادَته , وَهِيَ فِي مَعْنَى هَذَا الْبَاب . وَاَللَّه الْمُوَفِّق لِلصَّوَابِ .

رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَاب الْبَقَر وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَاد سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينكُمْ ) . فِي إِسْنَاده أَبُو عَبْد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِيّ . لَيْسَ بِمَشْهُورٍ . وَفَسَّرَ أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيّ الْعِينَة فَقَالَ : هِيَ أَنْ يَبِيع مِنْ رَجُل سِلْعَة بِثَمَنٍ مَعْلُوم إِلَى أَجَل مُسَمًّى , ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلّ مِنْ الثَّمَن الَّذِي بَاعَهَا بِهِ . قَالَ : فَإِنْ اِشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِب الْعِينَة سِلْعَة مِنْ آخَر بِثَمَنٍ مَعْلُوم وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِب الْعِينَة بِثَمَنٍ أَكْثَر مِمَّا اِشْتَرَاهُ إِلَى أَجَل مُسَمًّى , ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِع الْأَوَّل بِالنَّقْدِ بِأَقَلّ مِنْ الثَّمَن , فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَة , وَهِيَ أَهْوَن مِنْ الْأُولَى , وَهُوَ جَائِز عِنْد بَعْضهمْ . وَسُمِّيَتْ عِينَة لِحُضُورِ النَّقْد لِصَاحِبِ الْعِينَة , وَذَلِكَ أَنَّ الْعَيْن هُوَ الْمَال الْحَاضِر وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا بِعَيْنٍ حَاضِر يَصِل إِلَيْهِ مِنْ فَوْره .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَمَنْ بَاعَ سِلْعَة بِثَمَنٍ إِلَى أَجَل ثُمَّ اِبْتَاعَهَا بِثَمَنٍ مِنْ جِنْس الثَّمَن الَّذِي بَاعَهَا بِهِ , فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِنَقْدٍ , أَوْ إِلَى أَجَل دُون الْأَجَل الَّذِي بَاعَهَا إِلَيْهِ , أَوْ إِلَى أَبْعَد مِنْهُ , بِمِثْلِ الثَّمَن أَوْ بِأَقَلّ مِنْهُ أَوْ بِأَكْثَر , فَهَذِهِ ثَلَاث مَسَائِل : وَأَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَة فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الثَّمَن أَوْ أَكْثَر جَازَ , وَلَا يَجُوز بِأَقَلّ عَلَى مُقْتَضَى حَدِيث عَائِشَة ; لِأَنَّهُ أَعْطَى سِتّمِائَةٍ لِيَأْخُذ ثَمَانمِائَةٍ وَالسِّلْعَة لَغْو , وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ . وَأَمَّا الثَّالِثَة إِلَى أَبْعَد مِنْ الْأَجَل , فَإِنْ كَانَ اِشْتَرَاهَا وَحْدهَا أَوْ زِيَادَة فَيَجُوز بِمِثْلِ الثَّمَن أَوْ أَقَلّ مِنْهُ , وَلَا يَجُوز بِأَكْثَر , فَإِنْ اِشْتَرَى بَعْضهَا فَلَا يَجُوز عَلَى كُلّ حَال لَا بِمِثْلِ الثَّمَن وَلَا بِأَقَلّ وَلَا بِأَكْثَر . وَمَسَائِل هَذَا الْبَاب حَصَرَهَا عُلَمَاؤُنَا فِي سَبْع وَعِشْرِينَ مَسْأَلَة , وَمَدَارهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَاعْلَمْ .


أَيْ مِنْ أَمْر الرِّبَا لَا تِبَاعَة عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة , قَالَهُ السُّدِّيّ وَغَيْره . وَهَذَا حُكْم مِنْ اللَّه تَعَالَى لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ كُفَّار قُرَيْش وَثَقِيف وَمَنْ كَانَ يَتَّجِر هُنَالِكَ . وَسَلَفَ : مَعْنَاهُ تَقَدَّمَ فِي الزَّمَن وَانْقَضَى .


فِيهِ أَرْبَع تَأْوِيلَات : أَحَدهَا أَنَّ الضَّمِير عَائِد إِلَى الرِّبَا , بِمَعْنَى وَأَمْر الرِّبَا إِلَى اللَّه فِي إِمْرَار تَحْرِيمه أَوْ غَيْر ذَلِكَ . وَالْآخَر أَنْ يَكُون الضَّمِير عَائِدًا عَلَى " مَا سَلَفَ " أَيْ أَمْره إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الْعَفْو عَنْهُ وَإِسْقَاط التَّبِعَة فِيهِ . وَالثَّالِث أَنْ يَكُون الضَّمِير عَائِدًا عَلَى ذِي الرِّبَا , بِمَعْنَى أَمْره إِلَى اللَّه فِي أَنْ يُثْبِتهُ عَلَى الِانْتِهَاء أَوْ يُعِيدهُ إِلَى الْمَعْصِيَة فِي الرِّبَا . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل النَّحَّاس , قَالَ : وَهَذَا قَوْل حَسَن بَيِّن , أَيْ وَأَمْره إِلَى اللَّه فِي الْمُسْتَقْبَل إِنْ شَاءَ ثَبَّتَهُ عَلَى التَّحْرِيم وَإِنْ شَاءَ أَبَاحَهُ . وَالرَّابِع أَنْ يَعُود الضَّمِير عَلَى الْمُنْتَهَى , وَلَكِنْ بِمَعْنَى التَّأْنِيس لَهُ وَبَسْط أَمَله فِي الْخَيْر , كَمَا تَقُول : وَأَمْره إِلَى طَاعَة وَخَيْر , وَكَمَا تَقُول : وَأَمْره فِي نُمُوّ وَإِقْبَال إِلَى اللَّه تَعَالَى وَإِلَى طَاعَته .


يَعْنِي إِلَى فِعْل الرِّبَا حَتَّى يَمُوت , قَالَهُ سُفْيَان . وَقَالَ غَيْره : مَنْ عَادَ فَقَالَ إِنَّمَا الْبَيْع مِثْل الرِّبَا فَقَدْ كَفَرَ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : إِنْ قَدَّرْنَا الْآيَة فِي كَافِر فَالْخُلُود خُلُود تَأْبِيد حَقِيقِيّ , وَإِنْ لَحَظْنَاهَا فِي مُسْلِم عَاصٍ فَهَذَا خُلُود مُسْتَعَار عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَة , كَمَا تَقُول الْعَرَب : مُلْك خَالِد , عِبَارَة عَنْ دَوَام مَا لَا يَبْقَى عَلَى التَّأْبِيد الْحَقِيقِيّ .
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍسورة البقرة الآية رقم 276
يَعْنِي فِي الدُّنْيَا أَيْ يُذْهِب بَرَكَته وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا . رَوَى اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَعَاقِبَته إِلَى قُلّ ) . وَقِيلَ : " يَمْحَق اللَّه الرِّبَا " يَعْنِي فِي الْآخِرَة . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " يَمْحَق اللَّه الرِّبَا " قَالَ : لَا يَقْبَل مِنْهُ صَدَقَة وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا صِلَة . وَالْمَحْق : النَّقْص وَالذَّهَاب , وَمِنْهُ مُحَاق الْقَمَر وَهُوَ اِنْتِقَاصه .



أَيْ يُنَمِّيهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ وَيُكْثِر ثَوَابهَا بِالتَّضْعِيفِ فِي الْآخِرَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( إِنَّ صَدَقَة أَحَدكُمْ لَتَقَع فِي يَد اللَّه فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدكُمْ فَلُوّهُ أَوْ فَصِيله حَتَّى يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة وَإِنَّ اللُّقْمَة لَعَلَى قَدْر أُحُد ) . وَقَرَأَ اِبْن الزُّبَيْر " يُمْحِّق " بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْحَاء مُشَدَّدَة " يُرَبِّي " بِفَتْحِ الرَّاء وَتَشْدِيد الْبَاء , وَرُوِيَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ .



وَوَصْف كَفَّار بِأَثِيمٍ مُبَالَغَة , مِنْ حَيْثُ اِخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ . وَقِيلَ : لِإِزَالَةِ الِاشْتِرَاك فِي كَفَّار إِذْ قَدْ يَقَع عَلَى الزَّارِع الَّذِي يَسْتُر الْحَبّ فِي الْأَرْض : قَالَهُ اِبْن فَوْرك .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 277
خَصَّ الصَّلَاة وَالزَّكَاة بِالذِّكْرِ وَقَدْ تَضَمَّنَهَا عَمَل الصَّالِحَات تَشْرِيفًا لَهُمَا وَتَنْبِيهًا عَلَى قَدْرهمَا إِذْ هُمَا رَأْس الْأَعْمَال الصَّلَاة فِي أَعْمَال الْبَدَن وَالزَّكَاة فِي أَعْمَال الْمَال .



الْخَوْف هُوَ الذُّعْر وَلَا يَكُون إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَل وَخَاوَفَنِي فُلَان فَخِفْته أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ وَالتَّخَوُّف التَّنَقُّص وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " أَوْ يَأْخُذهُمْ عَلَى تَخَوُّف " [ النَّحْل : 47 ] وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب " فَلَا خَوْف " بِفَتْحِ الْفَاء عَلَى التَّبْرِئَة وَالِاخْتِيَار عِنْد النَّحْوِيِّينَ الرَّفْع وَالتَّنْوِين عَلَى الِابْتِدَاء لِأَنَّ الثَّانِي مَعْرِفَة لَا يَكُون فِيهِ إِلَّا الرَّفْع لِأَنَّ " لَا " لَا تَعْمَل فِي مَعْرِفَة فَاخْتَارُوا فِي الْأَوَّل الرَّفْع أَيْضًا لِيَكُونَ الْكَلَام مِنْ وَجْه وَاحِد وَيَجُوز أَنْ تَكُون " لَا " فِي قَوْله فَلَا خَوْف بِمَعْنَى لَيْسَ وَالْحُزْن وَالْحَزَن ضِدّ السُّرُور وَلَا يَكُون إِلَّا عَلَى مَاضٍ وَحَزِنَ الرَّجُل - بِالْكَسْرِ - فَهُوَ حَزِن وَحَزِين وَأَحْزَنَهُ غَيْره وَحَزَّنَهُ أَيْضًا مِثْل أَسْلَكَهُ وَسَلَّكَهُ وَمَحْزُون بُنِيَ عَلَيْهِ قَالَ الْيَزِيدِيّ حَزَّنَهُ لُغَة قُرَيْش وَأَحْزَنَهُ لُغَة تَمِيم وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا وَاِحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ بِمَعْنًى وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْن أَيْدِيهمْ مِنْ الْآخِرَة وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ الدُّنْيَا وَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى نَفْي أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة وَخَوْفهَا عَلَى الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله مِنْ شَدَائِد الْقِيَامَة إِلَّا أَنَّهُ يُخَفِّفهُ عَنْ الْمُطِيعِينَ وَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَته فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا وَاَللَّه أَعْلَم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 278
ظَاهِره أَنَّهُ أَبْطَلَ مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا قَبْل , نُزُول آيَة التَّحْرِيم , وَلَا يُتَعَقَّب بِالْفَسْخِ مَا كَانَ مَقْبُوضًا . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ ثَقِيف , وَكَانُوا عَاهَدُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ الرِّبَا عَلَى النَّاس فَهُوَ لَهُمْ , وَمَا لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مَوْضُوع عَنْهُمْ , فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ آجَال رِبَاهُمْ بَعَثُوا إِلَى مَكَّة لِلِاقْتِضَاءِ , وَكَانَتْ الدُّيُون لِبَنِي عَبْدَة وَهُمْ بَنُو عَمْرو بْن عُمَيْر مِنْ ثَقِيف , وَكَانَتْ عَلَى بَنِي الْمُغِيرَة الْمَخْزُومِيِّينَ . فَقَالَ بَنُو الْمُغِيرَة : لَا نُعْطِي شَيْئًا فَإِنَّ الرِّبَا قَدْ رُفِعَ وَرَفَعُوا أَمْرهمْ إِلَى عَتَّاب بْن أَسِيد , فَكَتَبَ بِهِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَزَلَتْ الْآيَة فَكَتَبَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّاب , فَعَلِمَتْ بِهَا ثَقِيف فَكَفَّتْ . هَذَا سَبَب الْآيَة عَلَى اِخْتِصَار مَجْمُوع مَا رَوَى اِبْن إِسْحَاق وَابْن جُرَيْج وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمْ . وَالْمَعْنَى اِجْعَلُوا بَيْنكُمْ وَبَيْن عَذَاب اللَّه وِقَايَة بِتَرْكِكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ مِنْ الرِّبَا وَصَفْحكُمْ عَنْهُ .

فِي الْقِرَاءَات . قَرَأَ الْجُمْهُور " مَا بَقِيَ " بِتَحْرِيكِ الْيَاء , وَسَكَّنَهَا الْحَسَن , وَمِثْله قَوْل جَرِير : هُوَ الْخَلِيفَة فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمْ مَاضِي الْعَزِيمَة مَا فِي حُكْمه جَنَف وَقَالَ عُمَر بْن أَبِي رَبِيعَة : كَمْ قَدْ ذَكَرْتُك لَوْ أُجْزَى بِذِكْرِكُمْ يَا أَشْبَه النَّاس كُلّ النَّاس بِالْقَمَرِ إِنِّي لَأُجْذِل أَنْ أُمْسِي مُقَابِله حُبًّا لِرُؤْيَةِ مَنْ أَشْبَهْت فِي الصُّوَر , أَصْله " مَا رَضِيَ " و " أَنْ أُمْسِيَ " فَأَسْكَنَهَا وَهُوَ فِي الشِّعْر كَثِير . وَوَجْهه أَنَّهُ شَبَّهَ الْيَاء بِالْأَلِفِ فَكَمَا لَا تَصِل الْحَرَكَة إِلَى الْأَلِف فَكَذَلِكَ لَا تَصِل هُنَا إِلَى الْيَاء . وَمِنْ هَذِهِ اللُّغَة أُحِبّ أَنْ أَدْعُوك , وَأَشْتَهِي أَنْ أَقْضِيك , بِإِسْكَانِ الْوَاو وَالْيَاء . وَقَرَأَ الْحَسَن " مَا بَقَى " بِالْأَلِفِ , وَهِيَ لُغَة طَيِّئ , يَقُولُونَ لِلْجَارِيَةِ : جَارَاة , وَلِلنَّاصِيَةِ : نَاصَاة , وَقَالَ الشَّاعِر : لَعَمْرك لَا أَخْشَى التَّصَعْلُك مَا بَقَى عَلَى الْأَرْض قَيْسِيّ يَسُوق الْأَبَاعِرَا وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال مِنْ بَيْن جَمِيع الْقُرَّاء " مِنْ الرِّبُو " بِكَسْرِ الرَّاء الْمُشَدَّدَة وَضَمّ الْبَاء وَسُكُون الْوَاو . وَقَالَ أَبُو الْفَتْح عُثْمَان بْن جِنِّي : شَذَّ هَذَا الْحَرْف مِنْ أَمْرَيْنِ , أَحَدهمَا الْخُرُوج مِنْ الْكَسْر إِلَى الضَّمّ , وَالْآخَر وُقُوع الْوَاو بَعْد الضَّمّ فِي آخِر الِاسْم . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ . وَجْههَا أَنَّهُ فَخَّمَ الْأَلِف فَانْتَحَى بِهَا نَحْو الْوَاو الَّتِي الْأَلِف مِنْهَا , وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل عَلَى غَيْر هَذَا الْوَجْه , إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَام اِسْم آخِره وَاو سَاكِنَة قَبْلهَا ضَمَّة . وَأَمَالَ الْكِسَائِيّ وَحَمْزَة " الرِّبَا " لِمَكَانِ الْكَسْرَة فِي الرَّاء . الْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ لِفَتْحَةِ الْبَاء .


شَرْط مَحْض فِي ثَقِيف عَلَى بَابه لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل دُخُولهمْ فِي الْإِسْلَام . وَإِذَا قَدَّرْنَا الْآيَة فِيمَنْ قَدْ تَقَرَّرَ إِيمَانه فَهُوَ شَرْط مَجَازِيّ عَلَى جِهَة الْمُبَالَغَة , كَمَا تَقُول لِمَنْ تُرِيد إِقَامَة نَفْسه : إِنْ كُنْت رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ مُقَاتِل بْن سُلَيْمَان أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ " إِنْ " فِي هَذِهِ الْآيَة بِمَعْنَى " إِذْ " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَرْدُود لَا يُعْرَف فِي اللُّغَة . وَقَالَ اِبْن فَوْرك : يُحْتَمَل أَنْ يُرِيد " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " بِمَنْ قَبْل مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الْأَنْبِيَاء " ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَا يَنْفَع الْأَوَّل إِلَّا بِهَذَا . وَهَذَا مَرْدُود بِمَا رُوِيَ فِي سَبَب الْآيَة .
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 279
هَذَا وَعِيد إِنْ لَمْ يَذَرُوا الرِّبَا , وَالْحَرْب دَاعِيَة الْقَتْل . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ يُقَال يَوْم الْقِيَامَة لِآكِلِ الرِّبَا : خُذْ سِلَاحك لِلْحَرْبِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزِع عَنْهُ فَحَقّ عَلَى إِمَام الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبهُ , فَإِنْ نَزَعَ وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقه . وَقَالَ قَتَادَة : أَوْعَدَ اللَّه أَهْل الرِّبَا بِالْقَتْلِ فَجَعَلَهُمْ بَهْرَجًا أَيْنَمَا ثُقِفُوا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى إِنْ لَمْ تَنْتَهُوا فَأَنْتُمْ حَرْب لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ , أَيْ: أَعْدَاء . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلَوْ أَنَّ أَهْل بَلَد اِصْطَلَحُوا عَلَى الرِّبَا اِسْتِحْلَالًا كَانُوا مُرْتَدِّينَ , وَالْحُكْم فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي أَهْل الرِّدَّة , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ اِسْتِحْلَالًا جَازَ لِلْإِمَامِ مُحَارَبَتهمْ , أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : " فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّه وَرَسُوله " [ الْبَقَرَة : 279 ] . وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم " فَآذِنُوا " عَلَى مَعْنَى فَأَعْلِمُوا غَيْركُمْ أَنَّكُمْ عَلَى حَرْبهمْ .

ذَكَرَ اِبْن بُكَيْر قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى مَالِك بْن أَنَس فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْد اللَّه , إِنِّي رَأَيْت رَجُلًا سَكْرَانًا يَتَعَاقَر يُرِيد أَنْ يَأْخُذ الْقَمَر , فَقُلْت : اِمْرَأَتِي طَالِق إِنْ كَانَ يَدْخُل جَوْف اِبْن آدَم أَشَرّ مِنْ الْخَمْر . فَقَالَ : اِرْجِعْ حَتَّى أَنْظُر فِي مَسْأَلَتك . فَأَتَاهُ مِنْ الْغَد فَقَالَ لَهُ : اِرْجِعْ حَتَّى أَنْظُر فِي مَسْأَلَتك فَأَتَاهُ مِنْ الْغَد فَقَالَ لَهُ : اِمْرَأَتك طَالِق , إِنِّي تَصَفَّحْت كِتَاب اللَّه وَسُنَّة نَبِيّه فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَشَرّ مِنْ الرِّبَا ; لِأَنَّ اللَّه أَذِنَ فِيهِ بِالْحَرْبِ .

دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ أَكْل الرِّبَا وَالْعَمَل بِهِ مِنْ الْكَبَائِر , وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نُبَيِّنهُ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( يَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان لَا يَبْقَى أَحَد إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا وَمَنْ لَمْ يَأْكُل الرِّبَا أَصَابَهُ غُبَاره ) وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن حَنْظَلَة غَسِيل الْمَلَائِكَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَدِرْهَم رِبًا أَشَدّ عِنْد اللَّه تَعَالَى مِنْ سِتّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَة فِي الْخَطِيئَة ) وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( الرِّبَا تِسْعَة وَتِسْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا كَإِتْيَانِ الرَّجُل بِأُمِّهِ ) يَعْنِي الزِّنَا بِأُمِّهِ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّله وَكَاتِبه وَشَاهِده مَلْعُون عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَة قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَن الدَّم وَثَمَن الْكَلْب وَكَسْب الْبَغِيّ وَلَعَنَ آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّله وَالْوَاشِمَة وَالْمُسْتَوْشِمَة وَالْمُصَوِّر . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : ( اِجْتَنِبُوا السَّبْع الْمُوبِقَات . .. - وَفِيهَا - وَآكِل الرِّبَا ) . وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّله وَكَاتِبه وَشَاهِده .

وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم وَحَمْزَة " فَآذِنُوا " عَلَى مَعْنَى فَآذِنُوا غَيْركُمْ , فَحَذَفَ الْمَفْعُول . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " فَأْذَنُوا " أَيْ كُونُوا عَلَى إِذْن , مِنْ قَوْلك : إِنِّي عَلَى عِلْم , حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد عَنْ الْأَصْمَعِيّ . وَحَكَى أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ يُقَال : أَذِنْت بِهِ إِذْنًا , أَيْ عَلِمْت بِهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَى " فَأْذَنُوا " فَاسْتَيْقِنُوا الْحَرْب مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِذْن . وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيّ وَغَيْره قِرَاءَة الْمَدّ قَالَ : لِأَنَّهُمْ إِذَا أَمَرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرهمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ عَلِمُوا هُمْ لَا مَحَالَة . قَالَ : فَفِي إِعْلَامهمْ عِلْمهمْ وَلَيْسَ فِي عِلْمهمْ إِعْلَامهمْ . وَرَجَّحَ الطَّبَرِيّ قِرَاءَة الْقَصْر ; لِأَنَّهَا تَخْتَصّ بِهِمْ . وَإِنَّمَا أُمِرُوا عَلَى قِرَاءَة الْمَدّ بِإِعْلَامِ غَيْرهمْ

الْآيَة رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سُلَيْمَان بْن عَمْرو عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي حَجَّة الْوَدَاع : ( أَلَا إِنَّ كُلّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّة مَوْضُوع لَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَرَدَّهُمْ تَعَالَى مَعَ التَّوْبَة إِلَى رُءُوس أَمْوَالهمْ وَقَالَ لَهُمْ : " لَا تَظْلِمُونَ " فِي أَخْذ الرِّبَا " وَلَا تُظْلَمُونَ " فِي أَنْ يَتَمَسَّك بِشَيْءٍ مِنْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ فَتَذْهَب أَمْوَالكُمْ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون " لَا تُظْلَمُونَ " فِي مَطْل ; لِأَنَّ مَطْل الْغَنِيّ ظُلْم , فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُون الْقَضَاء مَعَ وَضْع الرِّبَا , وَهَكَذَا سُنَّة الصُّلْح , وَهَذَا أَشْبَه شَيْء بِالصُّلْحِ . أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَشَارَ إِلَى كَعْب بْن مَالِك فِي دَيْن اِبْن أَبِي حَدْرَد بِوَضْعِ الشَّطْر فَقَالَ كَعْب : نَعَمْ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْآخَرِ : ( قُمْ فَاقْضِهِ ) . فَتَلَقَّى الْعُلَمَاء أَمْره بِالْقَضَاءِ سُنَّة فِي الْمُصَالَحَات . وَسَيَأْتِي فِي [ النِّسَاء ] بَيَان الصُّلْح وَمَا يَجُوز مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوز , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

" وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ " تَأْكِيد لِإِبْطَالِ مَا لَمْ يُقْبَض مِنْهُ وَأَخْذ رَأْس الْمَال الَّذِي لَا رِبَا فِيهِ . فَاسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلّ مَا طَرَأَ عَلَى الْبَيْع قَبْل الْقَبْض مِمَّا يُوجِب تَحْرِيم الْعَقْد أَبْطَلَ الْعَقْد , كَمَا إِذَا اِشْتَرَى مُسْلِم صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِع قَبْل الْقَبْض بَطَل الْبَيْع ; لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ قَبْل الْقَبْض مَا أَوْجَبَ تَحْرِيم الْعَقْد , كَمَا أَبْطَلَ اللَّه تَعَالَى مَا لَمْ يُقْبَض , لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمه قَبْل الْقَبْض , وَلَوْ كَانَ مَقْبُوضًا لَمْ يُؤَثِّر . هَذَا مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة , وَهُوَ قَوْل لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ . وَيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَلَاك الْمَبِيع قَبْل الْقَبْض فِي يَد الْبَائِع وَسُقُوط الْقَبْض فِيهِ يُوجِب بُطْلَان الْعَقْد خِلَافًا لِبَعْضِ السَّلَف , وَيُرْوَى هَذَا الْخِلَاف عَنْ أَحْمَد . وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول : إِنَّ الْعَقْد فِي الرِّبَا كَانَ فِي الْأَصْل مُنْعَقِدًا , وَإِنَّمَا بَطَلَ بِالْإِسْلَامِ الطَّارِئ قَبْل , الْقَبْض . وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ اِنْعِقَاد الرِّبَا فِي الْأَصْل لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَام صَحِيحًا , وَذَلِكَ أَنَّ الرِّبَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي الْأَدْيَان , وَاَلَّذِي فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ عَادَة الْمُشْرِكِينَ , وَأَنَّ مَا قَبَضُوهُ مِنْهُ كَانَ بِمَثَابَةِ أَمْوَال وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ بِالْغَصْبِ وَالسَّلْب فَلَا يُتَعَرَّض لَهُ . فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحّ الِاسْتِشْهَاد عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَسَائِل . وَاشْتِمَال شَرَائِع الْأَنْبِيَاء قَبْلنَا عَلَى تَحْرِيم الرِّبَا مَشْهُور مَذْكُور فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى , كَمَا حُكِيَ عَنْ الْيَهُود فِي قَوْله تَعَالَى " وَأَخْذهمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ " [ النِّسَاء : 161 ] . وَذَكَرَ فِي قِصَّة شُعَيْب أَنَّ قَوْمه أَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا : " أَصَلَاتك تَأْمُرك أَنْ نَتْرُك مَا يَعْبُد آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَل فِي أَمْوَالنَا مَا نَشَاء " [ هُود : 87 ] فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَقِيم الِاسْتِدْلَال بِهِ . نَعَمْ , يُفْهَم مِنْ هَذَا أَنَّ الْعُقُود الْوَاقِعَة فِي دَار الْحَرْب إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَام لَا يُعْتَرَض عَلَيْهَا بِالْفَسْخِ إِنْ كَانَتْ مَعْقُودَة عَلَى فَسَاد .

ذَهَبَ بَعْض الْغُلَاة مِنْ أَرْبَاب الْوَرَع إِلَى أَنَّ الْمَال الْحَلَال إِذَا خَالَطَهُ حَرَام حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّز ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ مِقْدَار الْحَرَام الْمُخْتَلِط بِهِ لَمْ يَحِلّ وَلَمْ يَطِبْ لِأَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يَكُون الَّذِي أُخْرِجَ هُوَ الْحَلَال وَاَلَّذِي بَقِيَ هُوَ الْحَرَام . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا غُلُوّ فِي الدِّين فَإِنَّ كُلّ مَا لَمْ يَتَمَيَّز فَالْمَقْصُود مِنْهُ مَالِيَّته لَا عَيْنه وَلَوْ تَلِفَ لَقَامَ الْمِثْل مَقَامه وَالِاخْتِلَاط إِتْلَاف لِتَمْيِيزِهِ كَمَا أَنَّ الْإِهْلَاك إِتْلَاف لِعَيْنِهِ وَالْمِثْل قَائِم مَقَام الذَّاهِب وَهَذَا بَيِّن حِسًّا بَيِّن مَعْنًى . وَاَللَّه أَعْلَم .

قُلْت : قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِنَّ سَبِيل التَّوْبَة مِمَّا بِيَدِهِ مِنْ الْأَمْوَال الْحَرَام إِنْ كَانَتْ مِنْ رِبًا فَلْيَرُدَّهَا عَلَى مَنْ أَرْبَى عَلَيْهِ وَيَطْلُبهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَإِنْ أَيِسَ مِنْ وُجُوده فَلْيَتَصَدَّقْ بِذَلِكَ عَنْهُ . وَإِنْ أَخَذَهُ بِظُلْمٍ فَلْيَفْعَلْ كَذَلِكَ فِي أَمْر مَنْ ظَلَمَهُ . فَإِنْ اِلْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْر وَلَمْ يَدْرِ كَمْ الْحَرَام مِنْ الْحَلَال مِمَّا بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى قَدْر مَا بِيَدِهِ مِمَّا يَجِب عَلَيْهِ رَدّه حَتَّى لَا يَشُكّ أَنَّ مَا يَبْقَى قَدْ خَلَصَ لَهُ فَيَرُدّهُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَزَالَ عَنْ يَده إِلَى مَنْ عُرِفَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ أَوْ أَرْبَى عَلَيْهِ . فَإِنْ أَيِسَ مِنْ وُجُوده تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ . فَإِنْ أَحَاطَتْ الْمَظَالِم بِذِمَّتِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُطِيق أَدَاءَهُ أَبَدًا لِكَثْرَتِهِ فَتَوْبَته أَنْ يُزِيل مَا بِيَدِهِ أَجْمَع إِمَّا إِلَى الْمَسَاكِين وَإِمَّا إِلَى مَا فِيهِ صَلَاح الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي يَده إِلَّا أَقَلّ مَا يُجْزِئهُ فِي الصَّلَاة مِنْ اللِّبَاس وَهُوَ مَا يَسْتُر الْعَوْرَة وَهُوَ مِنْ سُرَّته إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَقُوت يَوْمه لِأَنَّهُ الَّذِي يَجِب لَهُ أَنْ يَأْخُذهُ مِنْ مَال غَيْره إِذَا اُضْطُرَّ إِلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ يَأْخُذهُ مِنْهُ وَفَارَقَ هَاهُنَا الْمُفْلِس فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء لِأَنَّ الْمُفْلِس لَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ أَمْوَال النَّاس بِاعْتِدَاءٍ بَلْ هُمْ الَّذِينَ صَيَّرُوهَا إِلَيْهِ , فَيُتْرَك لَهُ مَا يُوَارِيه وَمَا هُوَ هَيْئَة لِبَاسه . وَأَبُو عُبَيْد وَغَيْره يَرَى أَلَّا يُتْرَك لِلْمُفْلِسِ اللِّبَاس إِلَّا أَقَلّ مَا يُجْزِئهُ فِي الصَّلَاة وَهُوَ مَا يُوَارِيه مِنْ سُرَّته إِلَى رُكْبَته , ثُمَّ كُلَّمَا وَقَعَ بِيَدِ هَذَا شَيْء أَخْرَجَهُ عَنْ يَده وَلَمْ يُمْسِك مِنْهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا , حَتَّى يَعْلَم هُوَ وَمَنْ يَعْلَم حَاله أَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ .

هَذَا الْوَعِيد الَّذِي وَعَدَ اللَّه بِهِ فِي الرِّبَا مِنْ الْمُحَارَبَة , قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْله فِي الْمُخَابَرَة . وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ : أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْن مَعِين قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْن رَجَاء قَالَ اِبْن خَيْثَم حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ لَمْ يَذَر الْمُخَابَرَة فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنْ اللَّه وَرَسُوله ) . وَهَذَا دَلِيل عَلَى مَنْع الْمُخَابَرَة وَهِيَ أَخْذ الْأَرْض بِنِصْفٍ أَوْ ثُلُث أَوْ رُبْع , وَيُسَمَّى الْمُزَارَعَة . وَأَجْمَعَ أَصْحَاب مَالِك كُلّهمْ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَتْبَاعهمْ وَدَاوُد , عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز دَفْع الْأَرْض عَلَى الثُّلُث وَالرُّبْع , وَلَا عَلَى جُزْء مِمَّا تُخْرِج , لِأَنَّهُ مَجْهُول , إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَبَا حَنِيفَة قَالُوا بِجَوَازِ كِرَاء الْأَرْض بِالطَّعَامِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَأَمَّا شَيْء مَعْلُوم مَضْمُون فَلَا بَأْس بِهِ ) خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم , وَمَنَعَهُ مَالِك وَأَصْحَابه , لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضًا عَنْ رَافِع بْن خَدِيج قَالَ : ( كُنَّا نُحَاقِل بِالْأَرْضِ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبْع وَالطَّعَام الْمُسَمَّى , فَجَاءَنَا ذَات يَوْم رَجُل مِنْ عُمُومَتِي فَقَالَ : نَهَانَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْر كَانَ لَنَا نَافِعًا , وَطَوَاعِيَة اللَّه وَرَسُوله أَنْفَع لَنَا , نَهَانَا أَنْ نُحَاقِل بِالْأَرْضِ فَنَكْتَرِيهَا عَلَى الثُّلُث وَالرُّبْع وَالطَّعَام الْمُسَمَّى , وَأَمَرَ رَبّ الْأَرْض أَنْ يَزْرَعهَا أَوْ يُزَارِعهَا . وَكَرِهَ كِرَاءَهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ ) . قَالُوا : فَلَا يَجُوز كِرَاء الْأَرْض بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَام مَأْكُولًا كَانَ أَوْ مَشْرُوبًا عَلَى حَال , لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى بَيْع الطَّعَام بِالطَّعَامِ نَسِيئًا . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوز عِنْدهمْ كِرَاء الْأَرْض بِشَيْءٍ مِمَّا يَخْرُج مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا مَأْكُولًا وَلَا مَشْرُوبًا , سِوَى الْخَشَب وَالْقَصَب وَالْحَطَب ; لِأَنَّهُ عِنْدهمْ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَة . هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه . وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن سَحْنُون عَنْ الْمُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمَخْزُومِيّ الْمَدَنِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْس بِإِكْرَاءِ الْأَرْض بِطَعَامٍ لَا يَخْرُج مِنْهَا . وَرَوَى يَحْيَى بْن عُمَر عَنْ الْمُغِيرَة أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوز , كَقَوْلِ سَائِر أَصْحَاب مَالِك . وَذَكَرَ اِبْن حَبِيب , أَنَّ اِبْن كِنَانَة كَانَ يَقُول : لَا تُكْرَى الْأَرْض بِشَيْءٍ إِذَا أُعِيدَ فِيهَا نَبْت , وَلَا بَأْس أَنْ تُكْرَى بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَمِيع الْأَشْيَاء مِمَّا يُؤْكَل وَمِمَّا لَا يُؤْكَل خَرَجَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَخْرُج مِنْهَا , وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْن يَحْيَى , وَقَالَ : إِنَّهُ مِنْ قَوْل مَالِك . قَالَ : وَكَانَ اِبْن نَافِع يَقُول : لَا بَأْس بِأَنْ تُكْرَى الْأَرْض بِكُلِّ شَيْء مِنْ طَعَام وَغَيْره خَرَجَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَخْرُج , مَا عَدَا الْحِنْطَة وَأَخَوَاتهَا فَإِنَّهَا الْمُحَاقَلَة الْمَنْهِيّ عَنْهَا . وَقَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ : فَأَمَّا الَّذِي يُعْطِي أَرْضه الْبَيْضَاء بِالثُّلُثِ وَالرُّبْع مِمَّا يَخْرُج مِنْهَا فَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلهُ الْغَرَر , لِأَنَّ الزَّرْع يَقِلّ مَرَّة وَيَكْثُر أُخْرَى , وَرُبَّمَا هَلَكَ رَأْسًا فَيَكُون صَاحِب الْأَرْض قَدْ تَرَكَ كِرَاء مَعْلُومًا , وَإِنَّمَا مَثَل ذَلِكَ مَثَل رَجُل اِسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِسَفَرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُوم , ثُمَّ قَالَ الَّذِي اِسْتَأْجَرَ لِلْأَجِيرِ : هَلْ لَك أَنْ أُعْطِيك عُشْر مَا أَرْبَح فِي سَفَرِي هَذَا إِجَارَة لَك . فَهَذَا لَا يَحِلّ وَلَا يَنْبَغِي . قَالَ مَالِك : وَلَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يُؤَاجِر نَفْسه وَلَا أَرْضه وَلَا سَفِينَته وَلَا دَابَّته إِلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُوم لَا يَزُول . وَبِهِ يَقُول الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن بْن حَيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : لَا بَأْس أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُل أَرْضه عَلَى جُزْء , مِمَّا تُخْرِجهُ نَحْو الثُّلُث وَالرُّبْع , وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَطَاوُس . وَاحْتَجُّوا بِقِصَّةِ خَيْبَر وَأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلهَا عَلَى شَطْر مَا تُخْرِجهُ أَرْضهمْ وَثِمَارهمْ . قَالَ أَحْمَد : حَدِيث رَافِع بْن خَدِيج فِي النَّهْي عَنْ كِرَاء الْمَزَارِع مُضْطَرِب الْأَلْفَاظ وَلَا يَصِحّ , وَالْقَوْل بِقِصَّةِ خَيْبَر أَوْلَى وَهُوَ حَدِيث صَحِيح . وَقَدْ أَجَازَ طَائِفَة مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُل سَفِينَته وَدَابَّته , كَمَا يُعْطِي أَرْضه بِجُزْءٍ مِمَّا يَرْزُقهُ اللَّه فِي الْعِلَاج بِهَا . وَجَعَلُوا أَصْلهمْ فِي ذَلِكَ الْقِرَاض الْمُجْمَع عَلَيْهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمُزَّمِّل " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّه " [ الْمُزَّمِّل : 20 ] وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي قَوْل اِبْن عُمَر : كُنَّا نُخَابِر وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِع بْن خَدِيج أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا , أَيْ كُنَّا نُكْرِي الْأَرْض بِبَعْضِ مَا يَخْرُج مِنْهَا . قَالَ : وَفِي ذَلِكَ نَسْخ لِسُنَّةِ خَيْبَر .

قُلْت : وَمِمَّا يُصَحِّح قَوْل الشَّافِعِيّ فِي النَّسْخ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَة وَالْمُزَابَنَة وَالْمُخَابَرَة وَعَنْ الثُّنْيَا إِلَّا أَنْ تُعْلَم . صَحِيح . وَرَوَى أَبُو داود عَنْ زَيْد بْن ثَابِت قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُخَابَرَة . قُلْت : وَمَا الْمُخَابَرَة ؟ قَالَ : أَنْ تَأْخُذ الْأَرْض بِنِصْفِ أَوْ ثُلُث أَوْ رُبْع .

وَقَرَأَ جَمِيع الْقُرَّاء " لَا تَظْلِمُونَ " بِفَتْحِ التَّاء " وَلَا تُظْلَمُونَ " بِضَمِّهَا . وَرَوَى الْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم " لَا تُظْلَمُونَ " " وَلَا تَظْلِمُونَ " بِضَمِّ التَّاء فِي الْأُولَى وَفَتْحهَا فِي الثَّانِيَة عَلَى الْعَكْس . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : تَتَرَجَّح قِرَاءَة الْجَمَاعَة بِأَنَّهَا تُنَاسِب قَوْله : " وَإِنْ تُبْتُمْ " فِي إِسْنَاد الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْفَاعِل , فَيَجِيء " تَظْلِمُونَ " بِفَتْحِ التَّاء أَشْكَل بِمَا قَبْله .
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 280
لَمَّا حَكَمَ جَلَّ وَعَزَّ لِأَرْبَابِ الرِّبَا بِرُءُوسِ أَمْوَالهمْ عِنْد الْوَاجِدِينَ لِلْمَالِ , حَكَمَ فِي ذِي الْعُسْرَة بِالنَّظِرَةِ إِلَى حَال الْمَيْسَرَة , وَذَلِكَ أَنَّ ثَقِيفًا لَمَّا طَلَبُوا أَمْوَالهمْ الَّتِي لَهُمْ عَلَى بَنِي الْمُغِيرَة شَكَوْا الْعُسْرَة - يَعْنِي بَنِي الْمُغِيرَة - وَقَالُوا : لَيْسَ لَنَا شَيْء , وَطَلَبُوا الْأَجَل إِلَى وَقْت ثِمَارهمْ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة " .

" وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة " مَعَ قَوْله " وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ " [ الْبَقَرَة : 279 ] يَدُلّ عَلَى ثُبُوت الْمُطَالَبَة لِصَاحِبِ الدَّيْن عَلَى الْمَدِينِ وَجَوَاز أَخْذِ مَاله بِغَيْرِ رِضَاهُ . وَيَدُلّ عَلَى أَنَّ الْغَرِيم مَتَى اِمْتَنَعَ مِنْ أَدَاء الدَّيْن مَعَ الْإِمْكَان كَانَ ظَالِمًا , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ " فَجَعَلَ لَهُ الْمُطَالَبَة بِرَأْسِ مَاله . فَإِذَا كَانَ لَهُ حَقّ الْمُطَالَبَة فَعَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْن لَا مَحَالَة وُجُوب قَضَائِهِ .

قَالَ الْمَهْدَوِيّ وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ بَيْع مَنْ أَعْسَرَ . وَحَكَى مَكِّيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ فِي صَدْر الْإِسْلَام . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَإِنْ ثَبَتَ فِعْلُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ نَسْخٌ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ . قَالَ الطَّحَاوِيّ : كَانَ الْحُرّ يُبَاع فِي الدَّيْن أَوَّل الْإِسْلَام إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال يَقْضِيه عَنْ نَفْسه حَتَّى نَسَخَ اللَّه ذَلِكَ فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَة إِلَى مَيْسَرَة " . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث مُسْلِم بْن خَالِد الزِّنْجِيّ أَخْبَرْنَا زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ اِبْن الْبَيْلَمَانِيّ عَنْ سُرَّق قَالَ : كَانَ لِرَجُلٍ عَلَيَّ مَال - أَوْ قَالَ دَيْن - فَذَهَبَ بِي إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصِبْ لِي مَالًا فَبَاعَنِي مِنْهُ , أَوْ بَاعَنِي لَهُ . أَخْرَجَهُ الْبَزَّار بِهَذَا الْإِسْنَاد أَطْوَل مِنْهُ . وَمُسْلِم بْن خَالِد الزِّنْجِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن الْبَيْلَمَانِيّ لَا يُحْتَجّ بِهِمَا . وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : قَوْله تَعَالَى : فَنَظِرَة إِلَى مَيْسَرَة " عَامَّة فِي جَمِيع النَّاس , فَكُلّ مَنْ أَعْسَرَ أُنْظِرَ , وَهَذَا قَوْل أَبِي هُرَيْرَة وَالْحَسَن وَعَامَّة الْفُقَهَاء . قَالَ النَّحَّاس : وَأَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَة قَوْل عَطَاء وَالضَّحَّاك وَالرَّبِيع بْن خَيْثَم . قَالَ : هِيَ لِكُلِّ مُعْسِر يُنْظَر فِي الرِّبَا وَالدَّيْن كُلّه . فَهَذَا قَوْل يَجْمَع الْأَقْوَال ; لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ تَكُون نَاسِخَة عَامَّة نَزَلَتْ فِي الرِّبَا ثُمَّ صَارَ حُكْم غَيْره كَحُكْمِهِ . وَلِأَنَّ الْقِرَاءَة بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى وَإِنْ وَقَعَ ذُو عُسْرَة مِنْ النَّاس أَجْمَعِينَ . وَلَوْ كَانَ فِي الرِّبَا خَاصَّة لَكَانَ النَّصْب الْوَجْه , بِمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الرِّبَا ذَا عُسْرَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَشُرَيْح : ذَلِكَ فِي الرِّبَا خَاصَّة , فَأَمَّا الدُّيُون وَسَائِر الْمُعَامَلَات فَلَيْسَ فِيهَا نَظِرَة بَلْ يُؤَدِّي إِلَى أَهْلهَا أَوْ يُحْبَس فِيهِ حَتَّى يُوَفِّيَهُ , وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيم . وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا " [ النِّسَاء : 58 ] الْآيَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَكَانَ هَذَا الْقَوْل يَتَرَتَّب إِذَا لَمْ يَكُنْ فَقْر مُدْقِع , وَأَمَّا مَعَ الْعَدَم وَالْفَقْر الصَّرِيح فَالْحُكْم هُوَ النَّظِرَة ضَرُورَة .

مَنْ كَثُرَتْ دُيُونه وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ مَالهمْ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَخْلَعهُ عَنْ كُلّ مَاله وَيَتْرُك لَهُ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَته . رَوَى اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يُتْرَك لَهُ إِلَّا مَا يُوَارِيه . وَالْمَشْهُور أَنَّهُ يُتْرَك لَهُ كِسْوَته الْمُعْتَادَة مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْل , وَلَا يُنْزَع مِنْهُ رِدَاؤُهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُزْرِيًا بِهِ . وَفِي تَرْك كِسْوَة زَوْجَته وَفِي بَيْع كُتُبه إِنْ كَانَ عَالِمًا خِلَاف . وَلَا يُتْرَك لَهُ مَسْكَن وَلَا خَادِم وَلَا ثَوْب جُمُعَة مَا لَمْ تَقِلّ قِيمَتهَا , وَعِنْد هَذَا يَحْرُم حَبْسه . وَالْأَصْل فِي هَذَا قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَة إِلَى مَيْسَرَة " . رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : أُصِيبَ رَجُل فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَار اِبْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنه , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ) فَتَصَدَّقَ النَّاس عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغ ذَلِكَ وَفَاء دَيْنه . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ : ( خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ ) . وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد : فَلَمْ يَزِدْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُرَمَاءَهُ عَلَى أَنْ خَلَعَ لَهُمْ مَاله . وَهَذَا نَصّ , فَلَمْ يَأْمُر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَبْسِ الرَّجُل , وَهُوَ مُعَاذ بْن جَبَل كَمَا قَالَ شُرَيْح , وَلَا بِمُلَازَمَتِهِ , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة فَإِنَّهُ قَالَ : يُلَازَم لِإِمْكَانِ أَنْ يَظْهَر لَهُ مَال , وَلَا يُكَلَّف أَنْ يَكْتَسِب لِمَا ذَكَرْنَا . وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقنَا .

وَيُحْبَس الْمُفْلِس فِي قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمْ حَتَّى يَتَبَيَّن عُدْمه . وَلَا يُحْبَس عِنْد مَالِك إِنْ لَمْ يُتَّهَم أَنَّهُ غَيَّبَ مَاله وَلَمْ يَتَبَيَّن لَدَده . وَكَذَلِكَ لَا يُحْبَس إِنْ صَحَّ عُسْره عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

فَإِنْ جُمِعَ مَال الْمُفْلِس ثُمَّ تَلِفَ قَبْل وُصُوله إِلَى أَرْبَابه وَقَبْل الْبَيْع , فَعَلَى الْمُفْلِس ضَمَانه , وَدَيْن الْغُرَمَاء ثَابِت فِي ذِمَّته . فَإِنْ بَاعَ الْحَاكِم مَاله وَقَبَضَ ثَمَنه ثُمَّ تَلِفَ الثَّمَن قَبْل قَبْض الْغُرَمَاء لَهُ , كَانَ عَلَيْهِمْ ضَمَانه وَقَدْ بَرِئَ الْمُفْلِس مِنْهُ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : ضَمَانه مِنْ الْمُفْلِس أَبَدًا حَتَّى يَصِل إِلَى الْغُرَمَاء .

الْعُسْرَة ضِيق الْحَال مِنْ جِهَة عُدْم الْمَال , وَمِنْهُ جَيْش الْعُسْرَة . وَالنَّظِرَة التَّأْخِير وَالْمَيْسَرَة مَصْدَر بِمَعْنَى الْيُسْر . وَارْتَفَعَ " ذُو " بِكَانَ التَّامَّة الَّتِي بِمَعْنَى وُجِدَ وَحَدَثَ , هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيّ وَغَيْرهمَا . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : فِدًى لِبَنِي ذُهْل بْن شَيْبَان نَاقَتِي إِذَا كَانَ يَوْم ذُو كَوَاكِب أَشْهَب وَيَجُوز النَّصْب . وَفِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب " وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَة " عَلَى مَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوب ذَا عُسْرَة . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَنَظِرَة " . قَالَ أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ عَنْ أَحْمَد بْن مُوسَى : وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب . قَالَ النَّحَّاس وَمَكِّيّ وَالنَّقَّاش : وَعَلَى هَذَا يَخْتَصّ لَفْظ الْآيَة بِأَهْلِ الرِّبَا , وَعَلَى مَنْ قَرَأَ " ذُو " فَهِيَ عَامَّة فِي جَمِيع مَنْ عَلَيْهِ دَيْن , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ أَنَّ فِي مُصْحَف عُثْمَان " فَإِنْ كَانَ - بِالْفَاءِ - ذُو عُسْرَة " . وَرَوَى الْمُعْتَمِر عَنْ حَجَّاج الْوَرَّاق قَالَ : فِي مُصْحَف عُثْمَان " وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَة " ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة " نَظِرَة " بِكَسْرِ الظَّاء . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَأَبُو رَجَاء وَالْحَسَن " فَنَظْرَة " بِسُكُونِ الظَّاء , وَهِيَ لُغَة تَمِيمِيَّة وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : فِي كَرْم زَيْد بِمَعْنَى كَرَم زَيْد , وَيَقُولُونَ كَبْد فِي كَبِد . وَقَرَأَ نَافِع , وَحْده " مَيْسُرَة " بِضَمِّ السِّين , وَالْجُمْهُور بِفَتْحِهَا . وَحَكَى النَّحَّاس عَنْ مُجَاهِد وَعَطَاء " فَنَاظِرْهُ - عَلَى الْأَمْر - إِلَى مَيْسُرِهِي " بِضَمِّ السِّين وَكَسْر الرَّاء وَإِثْبَات الْيَاء فِي الْإِدْرَاج . وَقُرِئَ " فَنَاظِرَةٌ " قَالَ أَبُو حَاتِم لَا يَجُوز فَنَاظِرَة , إِنَّمَا ذَلِكَ فِي " النَّمْل " لِأَنَّهَا اِمْرَأَة تَكَلَّمَتْ بِهَذَا لِنَفْسِهَا , مِنْ نَظَرَتْ تَنْظُر فَهِيَ نَاظِرَة , وَمَا فِي " الْبَقَرَة " فَمِنْ التَّأْخِير , مِنْ قَوْلك : أَنْظَرْتُك بِالدَّيْنِ , أَيْ أَخَّرْتُك بِهِ . وَمِنْهُ قَوْله : " أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ " [ الْأَعْرَاف : 14 ] وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج وَقَالَ : هِيَ مِنْ أَسْمَاء الْمَصَادِر , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة " [ الْوَاقِعَة : 2 ] . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : " تَظُنّ أَنْ يُفْعَل بِهَا فَاقِرَة " [ الْقِيَامَة : 25 ] وَكَ " خَائِنَة الْأَعْيُن " [ الْمُؤْمِن : 19 ] وَغَيْره .

" وَأَنْ تَصَدَّقُوا " اِبْتِدَاء , وَخَبَره " خَيْر " . نَدَبَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ إِلَى الصَّدَقَة عَلَى الْمُعْسِر وَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَاره , قَالَهُ السُّدِّيّ وَابْن زَيْد وَالضَّحَّاك . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى الْآيَة وَأَنْ تَصَّدَّقُوا عَلَى الْغَنِيّ وَالْفَقِير خَيْر لَكُمْ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل , وَلَيْسَ فِي الْآيَة مَدْخَل لِلْغَنِيِّ .

رَوَى أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ عَنْ بُرَيْدَة بْن الْخَصِيب قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْم صَدَقَة ) ثُمَّ قُلْت : بِكُلِّ يَوْم مِثْله صَدَقَة , قَالَ فَقَالَ : ( بِكُلِّ يَوْم صَدَقَة مَا لَمْ يَحِلّ الدَّيْن فَإِذَا أَنْظَرَهُ بَعْد الْحِلّ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْم مِثْله صَدَقَة ) . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حُوسِبَ رَجُل مِمَّنْ كَانَ قَبْلكُمْ فَلَمْ يُوجَد لَهُ مِنْ الْخَيْر شَيْء إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِط النَّاس وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُر غِلْمَانه أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ قَالَ : قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَحْنُ أَحَقّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ ) . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَة أَنَّهُ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ : إِنِّي مُعْسِر . فَقَالَ : آللَّهِ ؟ قَالَ :آللَّهِ . قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّه مِنْ كَرْب يَوْم الْقِيَامَة فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِر أَوْ يَضَع عَنْهُ ) , وَفِي حَدِيث أَبِي الْيَسَر الطَّوِيل - وَاسْمه , كَعْب بْن عَمْرو - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّه فِي ظِلّه ) . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ التَّرْغِيب مَا هُوَ مَنْصُوص فِيهَا . وَحَدِيث أَبِي قَتَادَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ رَبّ الدَّيْنِ إِذَا عَلِمَ عُسْرَة غَرِيمه أَوْ ظَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ مُطَالَبَته , وَإِنْ لَمْ تَثْبُت عُسْرَته عِنْد الْحَاكِم . وَإِنْظَار الْمُعْسِر تَأْخِيره إِلَى أَنْ يُوسِر . وَالْوَضْع عَنْهُ إِسْقَاط الدَّيْن عَنْ ذِمَّته . وَقَدْ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ أَبُو الْيَسَر لِغَرِيمِهِ حَيْثُ مَحَا عَنْهُ الصَّحِيفَة وَقَالَ لَهُ : إِنْ وَجَدْت قَضَاء فَاقْضِ وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلّ .
وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 281
قِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ قَبْل مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِسْعِ لَيَالٍ ثُمَّ لَمْ يَنْزِل بَعْدهَا شَيْء , قَالَهُ اِبْن جُرَيْج . وَقَالَ اِبْن جُبَيْر وَمُقَاتِل : بِسَبْعِ لَيَالٍ . وَرُوِيَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ . وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْل مَوْته بِثَلَاثِ سَاعَات , وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( اِجْعَلُوهَا بَيْن آيَة الرِّبَا وَآيَة الدَّيْن ) . وَحَكَى مَكِّيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ اِجْعَلْهَا عَلَى رَأْس مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَة ) . قُلْت : وَحُكِيَ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَقَتَادَة أَنَّ آخِر مَا نَزَلَ : " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ " [ التَّوْبَة : 128 ] إِلَى آخِر الْآيَة . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَعْرَف وَأَكْثَر وَأَصَحّ وَأَشْهَر . وَرَوَاهُ أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : آخِر مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْس مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " فَقَالَ جِبْرِيل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( يَا مُحَمَّد ضَعْهَا عَلَى رَأْس ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنْ الْبَقَرَة ) . ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ فِي " كِتَاب الرَّدّ " لَهُ , وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهَا آخِر مَا نَزَلَ , وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَاشَ بَعْدهَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي آخِر سُورَة " إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّه وَالْفَتْح " [ النَّصْر : 1 ] إِنْ شَاءَ تَعَالَى . وَالْآيَة وَعْظ لِجَمِيعِ , النَّاس وَأَمْر يَخُصّ كُلّ إِنْسَان . و " يَوْمًا " مَنْصُوب عَلَى الْمَفْعُول لَا عَلَى الظَّرْف . " تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه " مِنْ نَعْته . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْر الْجِيم , مِثْل " إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابهمْ " [ الْغَاشِيَة : 25 ] وَاعْتِبَارًا بِقِرَاءَةِ أُبَيّ " يَوْمًا تَصِيرُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه " . وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الْجِيم , مِثْل " ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّه " [ الْأَنْعَام : 62 ] . " وَلَئِنْ رُدِدْت إِلَى رَبِّي " [ الْكَهْف : 36 ] وَاعْتِبَارًا بِقِرَاءَةِ عَبْد اللَّه " يَوْمًا تُرَدُّونَ فِيهِ إِلَى اللَّه " وَقَرَأَ الْحَسَن " يُرْجَعُونَ " بِالْيَاءِ , عَلَى مَعْنَى يَرْجِع جَمِيع النَّاس . قَالَ اِبْن جِنِّي : كَأَنَّ اللَّه تَعَالَى رَفَقَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ يُوَاجِههُمْ بِذِكْرِ الرَّجْعَة , إِذْ هِيَ مِمَّا يَنْفَطِر لَهَا الْقُلُوب فَقَالَ لَهُمْ : " وَاتَّقُوا يَوْمًا " ثُمَّ رَجَعَ فِي ذِكْر الرَّجْعَة إِلَى الْغَيْبَة رِفْقًا بِهِمْ . وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذَا الْيَوْم الْمُحَذَّر مِنْهُ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَالْحِسَاب وَالتَّوْفِيَة . وَقَالَ قَوْم : هُوَ يَوْم الْمَوْت . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْأَوَّل أَصَحّ بِحُكْمِ الْأَلْفَاظ فِي الْآيَة . وَفِي قَوْله " إِلَى اللَّه " مُضَاف مَحْذُوف , تَقْدِيره إِلَى حُكْم اللَّه وَفَصْل قَضَائِهِ . " وَهُمْ " رَدّ عَلَى مَعْنَى " كُلّ " لَا عَلَى اللَّفْظ , إِلَّا عَلَى قِرَاءَة الْحَسَن " يُرْجَعُونَ " فَقَوْله " وَهُمْ " رَدّ عَلَى ضَمِير الْجَمَاعَة فِي " يُرْجَعُونَ " . وَفِي هَذِهِ الْآيَة نَصّ عَلَى أَنَّ الثَّوَاب وَالْعِقَاب مُتَعَلِّق بِكَسْبِ الْأَعْمَال , وَهُوَ رَدّ عَلَى الْجَبْرِيَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 282
فِيهَا عَشْر مَسَال :

الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ " قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : بَلَغَنِي أَنَّ أَحْدَث الْقُرْآن بِالْعَرْشِ آيَة الدَّيْن . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي السَّلَم خَاصَّة . مَعْنَاهُ أَنَّ سَلَم أَهْل الْمَدِينَة كَانَ سَبَب الْآيَة , ثُمَّ هِيَ تَتَنَاوَل جَمِيع الْمُدَايَنَات إِجْمَاعًا . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : إِنَّهَا تَضَمَّنَتْ ثَلَاثِينَ حُكْمًا . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَا بَعْض عُلَمَائِنَا عَلَى جَوَاز التَّأْجِيل فِي الْقُرُوض , عَلَى مَا قَالَ مَالِك , إِذْ لَمْ يَفْصِل بَيْن الْقَرْض وَسَائِر الْعُقُود فِي الْمُدَايَنَاتِ . وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّة وَقَالُوا : الْآيَة لَيْسَ فِيهَا جَوَاز التَّأْجِيل فِي سَائِر الدُّيُون , وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْر بِالْإِشْهَادِ إِذَا كَانَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا , ثُمَّ يُعْلَم بِدَلَالَةٍ أُخْرَى جَوَاز التَّأْجِيل فِي الدَّيْن وَامْتِنَاعه .

الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " بِدَيْنٍ " تَأْكِيد مِثْل قَوْله " وَلَا طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " [ الْأَنْعَام : 38 ] . " فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة كُلّهمْ أَجْمَعُونَ " [ الْحِجْر : 30 ] . وَحَقِيقَة الدَّيْن عِبَارَة عَنْ كُلّ مُعَامَلَة كَانَ أَحَد الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا وَالْآخَر فِي الذِّمَّة نَسِيئَة , فَإِنَّ الْعَيْن عِنْد الْعَرَب مَا كَانَ حَاضِرًا , وَالدَّيْن مَا كَانَ غَائِبًا , قَالَ الشَّاعِر : وَعَدْتنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاء /2 وَشِوَاء مُعَجَّلًا غَيْر دَيْن وَقَالَ آخَر : لِتَرْمِ بِي الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ /2 إِذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ إِذَا مَا أَوْقَدُوا حَطَبًا وَنَارًا /و فَذَاكَ الْمَوْت نَقْدًا غَيْر دَيْن وَقَدْ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ الْحَقّ " إِلَى أَجَل مُسَمًّى " .

الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : " إِلَى أَجَل مُسَمًّى " قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : دَلَّ قَوْل اللَّه " إِلَى أَجَل مُسَمًّى " عَلَى أَنَّ السَّلَم إِلَى الْأَجَل الْمَجْهُول غَيْر جَائِز , وَدَلَّتْ سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْل مَعْنَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى . ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَة وَهُمْ يَسْتَلِفُونَ فِي الثِّمَار السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاث , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْر فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْل مَعْلُوم وَوَزْن مَعْلُوم إِلَى أَجَل مَعْلُوم ) رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا . وَقَالَ اِبْن عُمَر : كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَتَبَايَعُونَ لَحْم الْجَزُور إِلَى حَبَل الْحَبَلَة . وَحَبَل الْحَبَلَة : أَنْ تُنْتَج النَّاقَة ثُمَّ تَحْمِل الَّتِي نَتَجَتْ . فَنَهَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ . وَأَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ السَّلَم الْجَائِز أَنْ يُسْلِم الرَّجُل إِلَى صَاحِبه فِي طَعَام مَعْلُوم مَوْصُوف , مِنْ طَعَام أَرْض عَامَّة لَا يُخْطِئ مِثْلهَا . بِكَيْلٍ مَعْلُوم , إِلَى أَجَل مَعْلُوم بِدَنَانِير أَوْ دَرَاهِم مَعْلُومَة , يَدْفَع ثَمَن مَا أَسْلَمَ فِيهِ قَبْل أَنْ يَفْتَرِقَا مِنْ مَقَامهمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ , وَسَمَّيَا الْمَكَان الَّذِي يُقْبَض فِيهِ الطَّعَام . فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَكَانَ جَائِز الْأَمْر كَانَ سَلَمًا صَحِيحًا لَا أَعْلَم أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْم يُبْطِلهُ .

قُلْت : وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّ السَّلَم إِلَى الْحَصَاد وَالْجَذَاذ وَالنَّيْرُوز وَالْمِهْرَجَان جَائِز , إِذْ ذَاكَ يَخْتَصّ بِوَقْتٍ وَزَمَن مَعْلُوم .

الرَّابِعَة : حَدَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ السَّلَم فَقَالُوا : هُوَ بَيْع مَعْلُوم فِي الذِّمَّة مَحْصُور بِالصِّفَةِ بِعَيْنٍ حَاضِرَة أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمهَا إِلَى أَجَل مَعْلُوم . فَتَقْيِيده بِمَعْلُومٍ فِي الذِّمَّة يُفِيد التَّحَرُّز مِنْ الْمَجْهُول , وَمِنْ السَّلَم فِي الْأَعْيَان الْمُعَيَّنَة , مِثْل الَّذِي كَانُوا يَسْتَلِفُونَ فِي الْمَدِينَة حِين قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَلِفُونَ فِي ثِمَار نَخِيل بِأَعْيَانِهَا , فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَر , إِذْ قَدْ تُخْلِف تِلْكَ الْأَشْجَار فَلَا تُثْمِر شَيْئًا . وَقَوْلهمْ [ مَحْصُور بِالصِّفَةِ ] تَحَرُّز عَنْ الْمَعْلُوم عَلَى الْجُمْلَة دُون التَّفْصِيل , كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي تَمْر أَوْ ثِيَاب أَوْ حِيتَان وَلَمْ يُبَيِّن نَوْعهَا وَلَا صِفَتهَا الْمُعَيَّنَة . وَقَوْلهمْ [ بِعَيْنٍ حَاضِرَة ] تَحَرُّز مِنْ الدَّيْن بِالدَّيْنِ . وَقَوْلهمْ [ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمهَا ] تَحَرُّز مِنْ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة الَّتِي يَجُوز تَأْخِير رَأْس مَال السَّلَم إِلَيْهِ , فَإِنَّهُ يَجُوز تَأْخِيره عِنْدنَا ذَلِكَ الْقَدْر , بِشَرْطٍ وَبِغَيْرِ شَرْط لِقُرْبِ ذَلِكَ , وَلَا يَجُوز اِشْتِرَاطه عَلَيْهَا . وَلَمْ يُجِزْ الشَّافِعِيّ وَلَا الْكُوفِيّ تَأْخِير رَأْس مَال السَّلَم عَنْ الْعَقْد وَالِافْتِرَاق , وَرَأَوْا أَنَّهُ كَالصَّرْفِ . وَدَلِيلنَا أَنَّ الْبَابَيْنِ مُخْتَلِفَانِ بِأَخَصّ أَوْصَافهمَا , فَإِنَّ الصَّرْف بَابه ضَيِّق كَثُرَتْ فِيهِ الشُّرُوط بِخِلَافِ السَّلَم فَإِنَّ شَوَائِب الْمُعَامَلَات عَلَيْهِ أَكْثَر . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْلهمْ إِلَى أَجَل مَعْلُوم تَحَرُّز مِنْ السَّلَم الْحَالّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوز عَلَى الْمَشْهُور وَسَيَأْتِي . وَوَصْف الْأَجَل بِالْمَعْلُومِ تَحَرُّز مِنْ الْأَجَل الْمَجْهُول الَّذِي كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يُسْلِمُونَ إِلَيْهِ .

الْخَامِسَة : السَّلَم وَالسَّلَف عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِد وَقَدْ جَاءَا فِي الْحَدِيث , غَيْر أَنَّ الِاسْم الْخَاصّ بِهَذَا الْبَاب [ السَّلَم ] لِأَنَّ السَّلَف يُقَال عَلَى الْقَرْض . وَالسَّلَم بَيْع مِنْ الْبُيُوع الْجَائِزَة بِالِاتِّفَاقِ , مُسْتَثْنًى مِنْ نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ بَيْع مَا لَيْسَ عِنْدك . وَأَرْخَصَ فِي السَّلَم ; لِأَنَّ السَّلَم لَمَّا كَانَ بَيْع مَعْلُوم فِي الذِّمَّة كَانَ بَيْع غَائِب تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَة كُلّ وَاحِد مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ , فَإِنَّ صَاحِب رَأْس الْمَال مُحْتَاج إِلَى أَنْ يَشْتَرِي الثَّمَرَة , وَصَاحِب الثَّمَرَة مُحْتَاج إِلَى ثَمَنهَا قَبْل إِبَّانهَا لِيُنْفِقهُ عَلَيْهَا , فَظَهَرَ أَنَّ بَيْع السَّلَم مِنْ الْمَصَالِح الْحَاجِيَّة , وَقَدْ سَمَّاهُ الْفُقَهَاء بَيْع الْمَحَاوِيج , فَإِنْ جَازَ حَالًّا بَطَلَتْ هَذِهِ الْحِكْمَة وَارْتَفَعَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَة , وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ بَيْع مَا لَيْسَ عِنْدك فَائِدَة . وَاَللَّه أَعْلَم .

السَّادِسَة : فِي شُرُوط السَّلَم الْمُتَّفَق عَلَيْهَا وَالْمُخْتَلَف فِيهَا وَهِيَ تِسْعَة : سِتَّة فِي الْمُسْلَم فِيهِ , وَثَلَاثَة فِي رَأْس مَال السَّلَم . أَمَّا السِّتَّة الَّتِي فِي الْمُسْلَم فِيهِ فَأَنْ يَكُون فِي الذِّمَّة , وَأَنْ يَكُون مَوْصُوفًا , وَأَنْ يَكُون مُقَدَّرًا , وَأَنْ يَكُون مُؤَجَّلًا , وَأَنْ يَكُون الْأَجَل مَعْلُومًا , وَأَنْ يَكُون مَوْجُودًا عِنْد مَحَلّ الْأَجَل . وَأَمَّا الثَّلَاثَة الَّتِي فِي رَأْس مَال السَّلَم فَأَنْ يَكُون مَعْلُوم الْجِنْس , مُقَدَّرًا , نَقْدًا . وَهَذِهِ الشُّرُوط الثَّلَاثَة الَّتِي فِي رَأْس الْمَال مُتَّفَق عَلَيْهَا إِلَّا النَّقْد حَسَب مَا تَقَدَّمَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا الشَّرْط الْأَوَّل وَهُوَ أَنْ يَكُون فِي الذِّمَّة فَلَا إِشْكَال فِي أَنَّ الْمَقْصُود مِنْهُ كَوْنه فِي الذِّمَّة , لِأَنَّهُ مُدَايَنَة , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُشْرَع دَيْنًا وَلَا قَصَدَ النَّاس إِلَيْهِ رِبْحًا وَرِفْقًا . وَعَلَى ذَلِكَ الْقَوْل اِتَّفَقَ النَّاس . بَيْد أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَا يَجُوز السَّلَم فِي الْمُعَيَّن إِلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون قَرْيَة مَأْمُونَة , وَالثَّانِي أَنْ يُشْرَع فِي أَخْذه كَاللَّبَنِ مِنْ الشَّاة وَالرُّطَب مِنْ النَّخْلَة , وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَد سِوَاهُ . وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ صَحِيحَتَانِ فِي الدَّلِيل ; لِأَنَّ التَّعْيِين اِمْتَنَعَ فِي السَّلَم مَخَافَة الْمُزَابَنَة وَالْغَرَر , لِئَلَّا يَتَعَذَّر عِنْد الْمَحِلّ . وَإِذَا كَانَ الْمَوْضِع مَأْمُونًا لَا يَتَعَذَّر وُجُود مَا فِيهِ فِي الْغَالِب جَازَ ذَلِكَ , إِذْ لَا يُتَيَقَّن ضَمَان الْعَوَاقِب عَلَى الْقَطْع فِي مَسَائِل الْفِقْه , وَلَا بُدّ مِنْ اِحْتِمَال الْغَرَر الْيَسِير , وَذَلِكَ كَثِير فِي مَسَائِل الْفُرُوع , تَعْدَادهَا فِي كُتُب الْمَسَائِل . وَأَمَّا السَّلَم فِي اللَّبَن وَالرُّطَب مَعَ الشُّرُوع فِي أَخْذه فَهِيَ مَسْأَلَة مَدَنِيَّة اِجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَهْل الْمَدِينَة , وَهِيَ مَبْنِيَّة عَلَى قَاعِدَة الْمَصْلَحَة ; لِأَنَّ الْمَرْء يَحْتَاج إِلَى أَخْذ اللَّبَن وَالرُّطَب مُيَاوَمَة وَيَشُقّ أَنْ يَأْخُذ كُلّ يَوْم اِبْتِدَاء ; لِأَنَّ النَّقْد قَدْ لَا يَحْضُرهُ وَلِأَنَّ السِّعْر قَدْ يُخْتَلَف عَلَيْهِ , وَصَاحِب النَّخْل وَاللَّبَن مُحْتَاج إِلَى النَّقْد ; لِأَنَّ الَّذِي عِنْده عُرُوض لَا يَتَصَرَّف لَهُ . فَلَمَّا اِشْتَرَكَا فِي الْحَاجَة رُخِّصَ لَهُمَا فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَة قِيَاسًا عَلَى الْعَرَايَا وَغَيْرهَا مِنْ أُصُول الْحَاجَات وَالْمَصَالِح . وَأَمَّا الشَّرْط الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُون مَوْصُوفًا فَمُتَّفَق عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ الشَّرْط الثَّالِث . وَالتَّقْدِير يَكُون مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه : الْكَيْل , وَالْوَزْن , وَالْعَدَد , وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْعُرْف , وَهُوَ إِمَّا عُرْف النَّاس وَإِمَّا عُرْف الشَّرْع . وَأَمَّا الشَّرْط الرَّابِع وَهُوَ أَنْ يَكُون مُؤَجَّلًا فَاخْتُلِفَ فِيهِ , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَجُوز السَّلَم الْحَالّ , وَمَنَعَهُ الْأَكْثَر مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاضْطَرَبَتْ الْمَالِكِيَّة فِي تَقْدِير الْأَجَل حَتَّى رَدُّوهُ إِلَى يَوْم , حَتَّى قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : السَّلَم الْحَالّ جَائِز . وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ الْأَجَل فِيهِ ; لِأَنَّ الْمَبِيع عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُعَجَّل وَهُوَ الْعَيْن , وَمُؤَجَّل . فَإِنْ كَانَ حَالًّا وَلَمْ يَكُنْ عِنْد الْمُسْلَم إِلَيْهِ فَهُوَ مِنْ بَاب : بَيْع مَا لَيْسَ عِنْدك , فَلَا بُدّ مِنْ الْأَجَل حَتَّى يَخْلُص كُلّ عَقْد عَلَى صِفَته وَعَلَى شُرُوطه , وَتَتَنَزَّل الْأَحْكَام , الشَّرْعِيَّة مَنَازِلهَا . وَتَحْدِيده عِنْد عُلَمَائِنَا مُدَّة تَخْتَلِف الْأَسْوَاق فِي مِثْلهَا . وَقَوْل اللَّه تَعَالَى " إِلَى أَجَل مُسَمًّى " وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِلَى أَجَل مَعْلُوم ) يُغْنِي عَنْ قَوْل كُلّ قَائِل .

قُلْت : الَّذِي أَجَازَهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ السَّلَم الْحَالّ مَا تَخْتَلِف فِيهِ الْبُلْدَان مِنْ الْأَسْعَار , فَيَجُوز السَّلَم فِيمَا كَانَ بَيْنه وَبَيْنه يَوْم أَوْ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَة . فَأَمَّا فِي الْبَلَد الْوَاحِد فَلَا ; لِأَنَّ سِعْره وَاحِد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَمَّا الشَّرْط الْخَامِس وَهُوَ أَنْ يَكُون الْأَجَل مَعْلُومًا فَلَا خِلَاف , فِيهِ بَيْن الْأُمَّة , لِوَصْفِ اللَّه تَعَالَى وَنَبِيّه الْأَجَل بِذَلِكَ . وَانْفَرَدَ مَالِك دُون الْفُقَهَاء بِالْأَمْصَارِ بِجَوَازِ الْبَيْع إِلَى الْجَذَاذ وَالْحَصَاد ; لِأَنَّهُ رَآهُ مَعْلُومًا . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا عِنْد قَوْله تَعَالَى " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّة " [ الْبَقَرَة : 189 ] . وَأَمَّا الشَّرْط السَّادِس وَهُوَ أَنْ يَكُون مَوْجُودًا عِنْد الْمَحِلّ فَلَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْأُمَّة أَيْضًا , فَإِنْ اِنْقَطَعَ الْمَبِيع عِنْد مَحِلّ الْأَجَل بِأَمْرٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى اِنْفَسَخَ الْعَقْد عِنْد كَافَّة الْعُلَمَاء .

السَّابِعَة : لَيْسَ مِنْ شَرْط السَّلَم أَنْ يَكُون الْمُسْلَم إِلَيْهِ مَالِكًا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ خِلَافًا لِبَعْضِ السَّلَف , لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُجَالِد قَالَ : بَعَثَنِي عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد وَأَبُو بُرْدَة إِلَى عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى فَقَالَا : سَلْهُ هَلْ كَانَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِفُونَ فِي الْحِنْطَة ؟ فَقَالَ عَبْد اللَّه : كُنَّا نُسْلِف نَبِيط أَهْل الشَّام فِي الْحِنْطَة وَالشَّعِير وَالزَّيْت فِي كَيْل مَعْلُوم إِلَى أَجَل مَعْلُوم . قُلْت : إِلَى مَنْ كَانَ أَصْله عِنْده ؟ قَالَ : مَا كُنَّا نَسْأَلهُمْ عَنْ ذَلِكَ . ثُمَّ بَعَثَانِي إِلَى عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى فَسَأَلْته فَقَالَ : كَانَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ نَسْأَلهُمْ أَلَهُمْ حَرْث أَمْ لَا ؟ وَشَرَطَ أَبُو حَنِيفَة وُجُود الْمُسْلَم فِيهِ مِنْ حِين الْعَقْد إِلَى حِين الْأَجَل , مَخَافَة أَنْ يَطْلُب الْمُسْلَم فِيهِ فَلَا يُوجَد فَيَكُون ذَلِكَ غَرَرًا , وَخَالَفَهُ سَائِر الْفُقَهَاء وَقَالُوا : الْمُرَاعَى وُجُوده عِنْد الْأَجَل . وَشَرَطَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيّ أَنْ يُذْكَر مَوْضِع الْقَبْض فِيمَا لَهُ حَمْل وَمَئُونَة وَقَالُوا : السَّلَم فَاسِد إِذَا لَمْ يُذْكَر مَوْضِع الْقَبْض . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : هُوَ مَكْرُوه . وَعِنْدنَا لَوْ سَكَتُوا عَنْهُ لَمْ يَفْسُد الْعَقْد , وَيَتَعَيَّن مَوْضِع الْقَبْض , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَطَائِفَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث , لِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْر الْمَكَان الَّذِي يُقْبَض فِيهِ السَّلَم , وَلَوْ كَانَ مِنْ شُرُوطه لَبَيَّنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَ الْكَيْل وَالْوَزْن وَالْأَجَل , وَمِثْله اِبْن أَبِي أَوْفَى .

الثَّامِنَة : رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَعْد - يَعْنِي الطَّائِيّ - عَنْ عَطِيَّة بْن سَعْد عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْء فَلَا يَصْرِفهُ إِلَى غَيْره ) . قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ بْن عَطِيَّة : هُوَ الْعَوْفِيّ وَلَا يَحْتَجّ أَحَد بِحَدِيثِهِ , وَإِنْ كَانَ الْأَجِلَّة قَدْ رَوَوْا عَنْهُ . قَالَ مَالِك : الْأَمْر عِنْدنَا فِيمَنْ أَسْلَفَ فِي طَعَام بِسِعْرٍ مَعْلُوم إِلَى أَجَل مُسَمًّى فَحَلَّ الْأَجَل فَلَمْ يَجِد الْمُبْتَاع عِنْد الْبَائِع وَفَاء مِمَّا اِبْتَاعَهُ مِنْهُ فَأَقَالَهُ , إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْهُ إِلَّا وَرِقه أَوْ ذَهَبه أَوْ الثَّمَن الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ , وَأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي مِنْهُ بِذَلِكَ الثَّمَن شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضهُ مِنْهُ , وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ غَيْر الثَّمَن الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ أَوْ صَرَفَهُ فِي سِلْعَة غَيْر الطَّعَام الَّذِي اِبْتَاعَ مِنْهُ فَهُوَ بَيْع الطَّعَام قَبْل أَنْ يُسْتَوْفَى . قَالَ مَالِك : وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْع الطَّعَام قَبْل أَنْ يُسْتَوْفَى .

التَّاسِعَة : قَوْله تَعَالَى : " فَاكْتُبُوهُ " يَعْنِي الدَّيْن وَالْأَجَل . وَيُقَال : أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَلَكِنْ الْمُرَاد الْكِتَابَة وَالْإِشْهَاد ; لِأَنَّ الْكِتَابَة بِغَيْرِ شُهُود لَا تَكُون حُجَّة . وَيُقَال : أَمَرَنَا بِالْكِتَابَةِ لِكَيْلَا نَنْسَى . وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ يُوسُف بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَل مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ " إِلَى آخِر الْآيَة : ( إِنَّ أَوَّل مَنْ جَحَدَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّ اللَّه أَرَاهُ ذُرِّيَّته فَرَأَى رَجُلًا أَزْهَر سَاطِعًا نُوره فَقَالَ يَا رَبّ مَنْ هَذَا قَالَ : هَذَا اِبْنك دَاوُد , قَالَ : يَا رَبّ فَمَا عُمْره ؟ قَالَ : سِتُّونَ سَنَة , قَالَ : يَا رَبّ زِدْهُ فِي عُمُره ! فَقَالَ : لَا إِلَّا أَنْ تَزِيدهُ مِنْ عُمُرك , قَالَ : وَمَا عُمُرِي ؟ قَالَ : أَلْف سَنَة , قَالَ آدَم فَقَدْ وَهَبْت لَهُ أَرْبَعِينَ سَنَة , قَالَ : فَكَتَبَ اللَّه عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ مَلَائِكَته فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاة جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَة , قَالَ : إِنَّهُ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَة , قَالُوا : إِنَّك قَدْ وَهَبْتهَا لِابْنِك دَاوُد , قَالَ : مَا وَهَبْت لِأَحَدٍ شَيْئًا , فَأَخْرَجَ اللَّه تَعَالَى الْكِتَاب وَشَهِدَ عَلَيْهِ مَلَائِكَته - فِي رِوَايَة : وَأَتَمَّ لِدَاوُد مِائَة سَنَة وَلِآدَم عُمُره أَلْف سَنَة ) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا . وَفِي قَوْله " فَاكْتُبُوهُ " إِشَارَة ظَاهِرَة إِلَى أَنَّهُ يَكْتُبهُ بِجَمِيعِ صِفَته الْمُبَيِّنَة لَهُ , الْمُعْرِبَة عَنْهُ , لِلِاخْتِلَافِ الْمُتَوَهَّم بَيْن الْمُتَعَامِلَيْنِ , الْمُعَرِّفَة لِلْحَاكِمِ مَا يَحْكُم بِهِ عِنْد اِرْتِفَاعهمَا إِلَيْهِ . وَاَللَّه أَعْلَم .

الْعَاشِرَة : ذَهَبَ بَعْض النَّاس إِلَى أَنَّ كَتْب الدُّيُون وَاجِب عَلَى أَرْبَابهَا , فَرْض بِهَذِهِ الْآيَة , بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا , لِئَلَّا يَقَع فِيهِ نِسْيَان أَوْ جُحُود , وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : مَنْ اِدَّانَ فَلْيَكْتُبْ , وَمَنْ بَاعَ فَلْيُشْهِدْ . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ قَوْله " فَإِنْ أَمِنَ " [ الْبَقَرَة : 283 ] نَاسِخ لِأَمْرِهِ بِالْكَتْبِ . وَحَكَى نَحْوه اِبْن جُرَيْج , وَقَالَهُ اِبْن زَيْد , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ . وَذَهَبَ الرَّبِيع إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِب بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ , ثُمَّ خَفَّفَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ : " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا " . وَقَالَ الْجُمْهُور : الْأَمْر بِالْكَتْبِ نَدْب إِلَى حِفْظ الْأَمْوَال وَإِزَالَة الرِّيَب , وَإِذَا كَانَ الْغَرِيم تَقِيًّا فَمَا يَضُرّهُ الْكِتَاب , وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ فَالْكِتَاب ثَقَافٌ فِي دِينه وَحَاجَة صَاحِب الْحَقّ . قَالَ بَعْضهمْ : إِنْ أَشْهَدْت فَحَزْم , وَإِنْ اِئْتَمَنْت فَفِي حِلّ وَسَعَة . اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الصَّحِيح . وَلَا يَتَرَتَّب نَسْخ فِي هَذَا , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْكِتَاب فِيمَا لِلْمَرْءِ أَنْ يَهَبهُ وَيَتْرُكهُ بِإِجْمَاعٍ , فَنَدْبه إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَة الْحَيْطَة لِلنَّاسِ .


قَالَ عَطَاء وَغَيْره : وَاجِب عَلَى الْكَاتِب أَنْ يَكْتُب , وَقَالَهُ الشَّعْبِيّ , وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُوجَد كَاتِب سِوَاهُ فَوَاجِب عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُب . السُّدِّيّ : وَاجِب مَعَ الْفَرَاغ . وَحُذِفَتْ اللَّام مِنْ الْأَوَّل وَأُثْبِتَتْ فِي الثَّانِي ; لِأَنَّ الثَّانِيَ غَائِب وَالْأَوَّل لِلْمُخَاطَبِ . وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي الْمُخَاطَب , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَلْتَفْرَحُوا " بِالتَّاءِ . وَتُحْذَف فِي الْغَائِب , وَمِنْهُ : مُحَمَّد تَفْدِ نَفْسك كُلّ نَفْس إِذَا مَا خِفْت مِنْ شَيْء تَبَالَا


أَيْ بِالْحَقِّ وَالْمَعْدِلَة , أَيْ لَا يَكْتُب لِصَاحِبِ الْحَقّ أَكْثَر مِمَّا قَالَهُ وَلَا أَقَلّ . وَإِنَّمَا قَالَ " بَيْنكُمْ " وَلَمْ يَقُلْ أَحَدكُمْ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي لَهُ الدَّيْن يَتَّهِم فِي الْكِتَابَة الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْن وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ شَرَعَ اللَّه سُبْحَانه كَاتِبًا غَيْرهمَا يَكْتُب بِالْعَدْلِ لَا يَكُون فِي قَلْبه وَلَا قَلَمه مَوَادَّة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر . وَقِيلَ : إِنَّ النَّاس لَمَّا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ , حَتَّى لَا يَشِذّ أَحَدهمْ عَنْ الْمُعَامَلَة , وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُب وَمَنْ لَا يَكْتُب , أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه أَنْ يَكْتُب بَيْنهمْ كَاتِب بِالْعَدْلِ .

الْبَاء فِي قَوْله تَعَالَى " بِالْعَدْلِ " مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : " وَلْيَكْتُبْ " وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَة ب " كَاتِب " لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَم أَلَّا يَكْتُب وَثِيقَة إِلَّا الْعَدْل فِي نَفْسه , وَقَدْ يَكْتُبهَا الصَّبِيّ وَالْعَبْد وَالْمُتَحَوِّط إِذَا أَقَامُوا فِقْههَا . أَمَّا الْمُنْتَصِبُونَ لِكَتْبِهَا فَلَا يَجُوز لِلْوُلَاةِ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ إِلَّا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ . قَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : لَا يَكْتُب الْوَثَائِق بَيْن النَّاس إِلَّا عَارِف بِهَا عَدْل فِي نَفْسه مَأْمُون , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كَاتِب بِالْعَدْلِ " .

قُلْت : فَالْبَاء عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَة ب " كَاتِب " أَيْ لِيَكْتُب بَيْنكُمْ كَاتِب عَدْل , ف " بِالْعَدْلِ " فِي مَوْضِع الصِّفَة .

نَهَى اللَّه الْكَاتِب عَنْ الْإِبَاء وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي وُجُوب الْكِتَابَة عَلَى الْكَاتِب وَالشَّهَادَة عَلَى الشَّاهِد , فَقَالَ الطَّبَرِيّ وَالرَّبِيع : وَاجِب عَلَى الْكَاتِب إِذَا أُمِرَ أَنْ يَكْتُب . وَقَالَ الْحَسَن : ذَلِكَ وَاجِب عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِع الَّذِي لَا يَقْدِر عَلَى كَاتِب غَيْره , فَيَضُرّ صَاحِب الدَّيْن إِنْ اِمْتَنَعَ , فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فَرِيضَة , وَإِنْ قَدَرَ عَلَى كَاتِب غَيْره فَهُوَ فِي سَعَة إِذَا قَامَ بِهِ غَيْره . السُّدِّيّ : وَاجِب عَلَيْهِ فِي حَال فَرَاغه , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ الرَّبِيع وَالضَّحَّاك أَنَّ قَوْله " وَلَا يَأْبَ " مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ " وَلَا يُضَارّ كَاتِب وَلَا شَهِيد " .

قُلْت : هَذَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْل مَنْ رَأَى أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ وَجَبَ فِي الْأَوَّل عَلَى كُلّ مَنْ اِخْتَارَهُ الْمُتَبَايِعَانِ أَنْ يَكْتُب , وَكَانَ لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَمْتَنِع حَتَّى نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يُضَارّ كَاتِب وَلَا شَهِيد " وَهَذَا بَعِيد , فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُت وُجُوب ذَلِكَ عَلَى كُلّ مَنْ أَرَادَهُ الْمُتَبَايِعَانِ كَائِنًا مَنْ كَانَ . وَلَوْ كَانَتْ الْكِتَابَة وَاجِبَة مَا صَحَّ الِاسْتِئْجَار بِهَا ; لِأَنَّ الْإِجَارَة عَلَى فِعْل الْفُرُوض بَاطِلَة , وَلَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء فِي جَوَاز أَخْذ الْأُجْرَة عَلَى كَتْب الْوَثِيقَة . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح أَنَّهُ أَمْر إِرْشَاد فَلَا يَكْتُب حَتَّى يَأْخُذهُ حَقّه . وَأَبَى يَأْبِي شَاذّ , وَلَمْ يَجِئْ إِلَّا قَلَى يَقْلَى وَأَبَى يَأْبَى وَغَسَى يَغْسَى وَجَبَى الْخَرَاج يَجْبَى , وَقَدْ تَقَدَّمَ .

قَوْله تَعَالَى : " كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه فَلْيَكْتُبْ " الْكَاف فِي " كَمَا " مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " أَنْ يَكْتُب " الْمَعْنَى كَتْبًا كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه . وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون مُتَعَلِّقَة بِمَا فِي قَوْله " وَلَا يَأْبَ " مِنْ الْمَعْنَى , أَيْ كَمَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْكِتَابَة فَلَا يَأْبَ هُوَ وَلْيُفْضِلْ كَمَا أَفْضَلَ اللَّه عَلَيْهِ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْكَلَام عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَامًّا عِنْد قَوْله " أَنْ يَكْتُب " ثُمَّ يَكُون " كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه " اِبْتِدَاء كَلَام , وَتَكُون الْكَاف مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " فَلْيَكْتُبْ " .


" وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " وَهُوَ الْمَدْيُون الْمَطْلُوب يُقِرّ عَلَى نَفْسه بِلِسَانِهِ لِيُعْلِم مَا عَلَيْهِ . وَالْإِمْلَاء وَالْإِمْلَال لُغَتَانِ , أَمَلّ وَأَمْلَى , فَأَمَلّ لُغَة أَهْل الْحِجَاز وَبَنِي أَسَد , وَتَمِيم تَقُول : أَمْلَيْت . وَجَاءَ الْقُرْآن بِاللُّغَتَيْنِ , قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة وَأَصِيلًا " [ الْفُرْقَان : 5 ] . وَالْأَصْل أَمْلَلْت , أُبْدِلَ مِنْ اللَّام يَاء لِأَنَّهُ أَخَفّ . فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ بِالْإِمْلَاءِ ; لِأَنَّ الشَّهَادَة إِنَّمَا تَكُون بِسَبَبِ إِقْرَاره . وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّقْوَى فِيمَا يُمِلّ , وَنَهَى عَنْ أَنْ يَبْخَس شَيْئًا مِنْ الْحَقّ . وَالْبَخْس النَّقْص . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ " [ الْبَقَرَة : 228 ] .


قَالَ بَعْض النَّاس : أَيْ صَغِيرًا . وَهُوَ خَطَأ فَإِنَّ السَّفِيه قَدْ يَكُون كَبِيرًا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . " أَوْ ضَعِيفًا " أَيْ كَبِيرًا لَا عَقْل لَهُ . " أَوْ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ " جَعَلَ اللَّه الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ أَرْبَعَة أَصْنَاف : مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ يُمِلّ , وَثَلَاثَة أَصْنَاف لَا يُمِلُّونَ وَتَقَع نَوَازِلهمْ فِي كُلّ زَمَن , وَكَوْن الْحَقّ يَتَرَتَّب لَهُمْ فِي جِهَات سِوَى الْمُعَامَلَات كَالْمَوَارِيثِ إِذَا قُسِمَتْ وَغَيْر ذَلِكَ , وَهُمْ السَّفِيه وَالضَّعِيف وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ . فَالسَّفِيه الْمُهَلْهَل الرَّأْي فِي الْمَال الَّذِي لَا يُحْسِن الْأَخْذ لِنَفْسِهِ وَلَا الْإِعْطَاء , مِنْهَا , مُشَبَّه بِالثَّوْبِ السَّفِيه وَهُوَ الْخَفِيف النَّسْج . وَالْبَذِيء اللِّسَان يُسَمَّى سَفِيهًا ; لِأَنَّهُ لَا تَكَاد تَتَّفِق الْبَذَاءَة إِلَّا فِي جُهَّال النَّاس وَأَصْحَاب الْعُقُول الْخَفِيفَة . وَالْعَرَب تُطْلِق السَّفَه عَلَى ضَعْف الْعَقْل تَارَة وَعَلَى ضَعْف الْبَدَن أُخْرَى , قَالَ الشَّاعِر : نَخَاف أَنْ تَسْفَه أَحْلَامنَا وَيَجْهَل الدَّهْر مَعَ الْحَالِم وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : مَشَيْنَ كَمَا اِهْتَزَّتْ رِمَاح تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرَّ الرِّيَاح النَّوَاسِم أَيْ اِسْتَضْعَفَهَا وَاسْتَلَانَهَا فَحَرَّكَهَا . وَقَدْ قَالُوا : الضُّعْف بِضَمِّ الضَّاد فِي الْبَدَن وَبِفَتْحِهَا فِي الرَّأْي , وَقِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ . وَالْأَوَّل أَصَحّ , لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْتَاع وَفِي عَقْله ضَعْف فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه , اُحْجُرْ عَلَى فُلَان فَإِنَّهُ يَبْتَاع وَفِي عَقْله ضَعْف . فَدَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنْ الْبَيْع , فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي لَا أَصْبِر عَنْ الْبَيْع سَاعَة . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنْ كُنْت غَيْر تَارِك الْبَيْع فَقُلْ هَا وَهَا وَلَا خِلَابَة ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بْن عِيسَى السُّلَمِيّ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس وَقَالَ : هُوَ صَحِيح , وَقَالَ : إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِي عَقْله ضَعْف , وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَقَالَ فِيهِ : ( إِذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَة وَأَنْتَ فِي كُلّ سِلْعَة اِبْتَعْتهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاث لَيَالٍ ) . وَهَذَا الرَّجُل هُوَ حِبَّان بْن مُنْقِذ بْن عَمْرو الْأَنْصَارِيّ وَالِد يَحْيَى وَوَاسِع اِبْنَيْ حِبَّان : وَقِيلَ : وَهُوَ مُنْقِذ جَدّ يَحْيَى وَوَاسِع شَيْخَيْ مَالِك وَوَالِده حِبَّان , أَتَى عَلَيْهِ مِائَة وَثَلَاثُونَ سَنَة , وَكَانَ شُجَّ فِي بَعْض مَغَازِيه مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُومَة خُبِلَ مِنْهَا عَقْله وَلِسَانه : وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ : كَانَ حِبَّان بْن مُنْقِذ رَجُلًا ضَعِيفًا ضَرِير الْبَصَر وَكَانَ قَدْ سُفِعَ فِي رَأْسه مَأْمُومَة , فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْخِيَار فِيمَا يَشْتَرِي ثَلَاثَة أَيَّام , وَكَانَ قَدْ ثَقُلَ لِسَانه , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَة ) فَكُنْت , أَسْمَعهُ يَقُول : لَا خِذَابَة لَا خِذَابَة . أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث اِبْن عَمْرو . الْخِلَابَة : الْخَدِيعَة , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : [ إِذَا لَمْ تَغْلِب فَاخْلُبْ ] .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ يُخْدَع فِي الْبُيُوع لِقِلَّةِ خِبْرَته وَضَعْف عَقْله فَهَلْ يُحْجَر عَلَيْهِ أَوْ لَا فَقَالَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ أَحْمَد وَإِسْحَاق . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُحْجَر عَلَيْهِ . وَالْقَوْلَانِ فِي الْمَذْهَب , وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِهَذِهِ الْآيَة , وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث : ( يَا نَبِيّ اللَّه اُحْجُرْ عَلَى فُلَان ) . وَإِنَّمَا تَرَكَ الْحَجْر عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ : ( يَا نَبِيّ اللَّه إِنِّي لَا أَصْبِر عَنْ الْبَيْع ) . فَأَبَاحَ لَهُ الْبَيْع وَجَعَلَهُ خَاصًّا بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ يُخْدَع فِي الْبُيُوع يَنْبَغِي أَنْ يُحْجَر عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِخَبَلِ عَقْله . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى الْخُصُوصِيَّة مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن حِبَّان قَالَ : هُوَ جَدِّي مُنْقِذ بْن عَمْرو وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسه فَكَسَرَتْ لِسَانه وَنَازَعَتْهُ عَقْله , وَكَانَ لَا يَدَع التِّجَارَة وَلَا يَزَال يُغْبَن , فَأَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ , فَقَالَ : ( إِذَا بِعْت فَقُلْ لَا خِلَابَة ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلّ سِلْعَة تَبْتَاعهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاث لَيَالٍ فَإِنْ رَضِيت فَأَمْسِكْ وَإِنْ سَخِطْت فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبهَا ) . وَقَدْ كَانَ عَمَّرَ عُمُرًا طَوِيلًا , عَاشَ ثَلَاثِينَ وَمِائَة سَنَة , وَكَانَ فِي زَمَن عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين فَشَا النَّاس وَكَثُرُوا , يَبْتَاع الْبَيْع فِي السُّوق وَيَرْجِع بِهِ إِلَى أَهْله وَقَدْ غُبِنَ غَبْنًا قَبِيحًا , فَيَلُومُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ تَبْتَاع ؟ فَيَقُول : أَنَا بِالْخِيَارِ , إِنْ رَضِيت أَخَذْت وَإِنْ سَخِطْت رَدَدْت , قَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا . فَيَرُدّ السِّلْعَة عَلَى صَاحِبهَا مِنْ الْغَد وَبَعْد الْغَد , فَيَقُول : وَاَللَّه لَا أَقْبَلهَا , قَدْ أَخَذْت سِلْعَتِي وَأَعْطَيْتنِي دَرَاهِم , قَالَ فَيَقُول : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا . فَكَانَ يَمُرّ الرَّجُل مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول لِلتَّاجِرِ : وَيْحك ! إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ , إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب وَقَالَ : ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ عَنْ عَيَّاش بْن الْوَلِيد عَنْ عَبْد الْأَعْلَى عَنْ اِبْن إِسْحَاق .

قَوْله تَعَالَى : " أَوْ ضَعِيفًا " الضَّعِيف هُوَ الْمَدْخُول الْعَقْل النَّاقِص الْفِطْرَة الْعَاجِز عَنْ الْإِمْلَاء , إِمَّا لِعَيِّهِ أَوْ لِخَرَسِهِ أَوْ جَهْله بِأَدَاءِ الْكَلَام , وَهَذَا أَيْضًا قَدْ يَكُون وَلِيّه أَبًا أَوْ وَصِيًّا . وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ هُوَ الصَّغِير , وَوَلِيّه وَصِيّه أَوْ أَبُوهُ وَالْغَائِب عَنْ مَوْضُوع الْإِشْهَاد , إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُذْر . وَوَلِيّه وَكِيله . وَأَمَّا الْأَخْرَس فَيَسُوغ أَنْ يَكُون مِنْ الضُّعَفَاء , وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيع . فَهَذِهِ أَصْنَاف تَتَمَيَّز , وَسَيَأْتِي فِي " النِّسَاء " بَيَانهَا وَالْكَلَام عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

ذَهَبَ الطَّبَرِيّ إِلَى أَنَّ الضَّمِير فِي " وَلِيّه " عَائِد عَلَى " الْحَقّ " وَأُسْنِدَ فِي ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيع , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : هُوَ عَائِد عَلَى " الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " وَهُوَ الصَّحِيح . وَمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس لَا يَصِحّ . وَكَيْف تَشْهَد الْبَيِّنَة عَلَى شَيْء وَتُدْخِل مَالًا فِي ذِمَّة السَّفِيه بِإِمْلَاءِ الَّذِي لَهُ الدَّيْن ! هَذَا شَيْء لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة . إِلَّا أَنْ يُرِيد قَائِله : إِنَّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَر سِنّ لِثِقَلِ لِسَانه عَنْ الْإِمْلَاء أَوْ لِخَرَسٍ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى الْمَرِيض وَمَنْ ثَقُلَ لِسَانه عَنْ الْإِمْلَاء لِخَرَسٍ وَلِيّ عِنْد أَحَد الْعُلَمَاء , مِثْل مَا ثَبَتَ عَلَى الصَّبِيّ وَالسَّفِيه عِنْد مَنْ يُحْجَر عَلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِيُمِلّ صَاحِب الْحَقّ بِالْعَدْلِ وَيُسْمِع الَّذِي عَجَزَ , فَإِذَا كَمُلَ الْإِمْلَاء أَقَرَّ بِهِ . وَهَذَا مَعْنًى لَمْ تَعْنِ الْآيَة إِلَيْهِ : وَلَا يَصِحّ هَذَا إِلَّا فِيمَنْ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ لِمَرَضٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ .

لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُؤْتَمَن فِيمَا يُورِدهُ وَيُصْدِرهُ , فَيَقْتَضِي ذَلِكَ قَبُول قَوْل الرَّاهِن مَعَ يَمِينه إِذَا اِخْتَلَفَ هُوَ وَالْمُرْتَهِن فِي مِقْدَار الدَّيْن وَالرَّهْن قَائِم , فَيَقُول الرَّاهِن رَهَنْت بِخَمْسِينَ وَالْمُرْتَهِن يَدَّعِي مِائَة , فَالْقَوْل قَوْل الرَّاهِن وَالرَّهْن قَائِم , وَهُوَ مَذْهَب أَكْثَر الْفُقَهَاء : سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر قَالَ : لِأَنَّ الْمُرْتَهِن مُدَّعٍ لِلْفَضْلِ , وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) . وَقَالَ مَالِك : الْقَوْل قَوْل الْمُرْتَهِن فِيمَا بَيْنه وَبَيْن قِيمَة الرَّهْن وَلَا يَصْدُق عَلَى أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الرَّهْن وَيَمِينه شَاهِد , لِلْمُرْتَهِنِ , وَقَوْله تَعَالَى : " فَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " رَدّ عَلَيْهِ . فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ هُوَ الرَّاهِن . وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة . وَإِنْ قَالَ قَائِل : إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الرَّهْن بَدَلًا عَنْ الشَّهَادَة وَالْكِتَاب , وَالشَّهَادَة دَالَّة عَلَى صِدْق الْمَشْهُود لَهُ فِيمَا بَيْنه وَبَيْن قِيمَة الرَّهْن , فَإِذَا بَلَغَ قِيمَته فَلَا وَثِيقَة فِي الزِّيَادَة . قِيلَ لَهُ : الرَّهْن لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ قِيمَته تَجِب أَنْ تَكُون مِقْدَار الدَّيْن , فَإِنَّهُ رُبَّمَا رَهَنَ الشَّيْء بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِير . يُصَدَّق الْمُرْتَهِن مَعَ الْيَمِين فِي مِقْدَار الدَّيْن إِلَى أَنْ يُسَاوِيَ قِيمَة الرَّهْن . وَلَيْسَ الْعُرْف عَلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا نَقَصَ الدَّيْن عَنْ الرَّهْن وَهُوَ الْغَالِب , فَلَا حَاصِل لِقَوْلِهِمْ هَذَا .

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَاد الْوَلِيّ فَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ إِقْرَاره جَائِز عَلَى يَتِيمه ; لِأَنَّهُ إِذَا أَمْلَاهُ فَقَدْ نَفَذَ قَوْله عَلَيْهِ فِيمَا أَمْلَاهُ .

وَتَصَرُّفُ السَّفِيه الْمَحْجُور عَلَيْهِ دُون إِذْن وَلِيّه فَاسِد إِجْمَاعًا مَفْسُوخ أَبَدًا لَا يُوجِب حُكْمًا وَلَا يُؤَثِّر شَيْئًا . فَإِنْ تَصَرَّفَ سَفِيه وَلَا حَجْر عَلَيْهِ فَفِيهِ خِلَاف يَأْتِي بَيَانه فِي [ النِّسَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


" وَاسْتَشْهِدُوا " الِاسْتِشْهَاد طَلَب الشَّهَادَة . وَاخْتَلَفَ النَّاس هَلْ هِيَ فَرْض أَوْ نَدْب , وَالصَّحِيح أَنَّهُ نَدْبٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .



رَتَّبَ اللَّه سُبْحَانه الشَّهَادَة بِحِكْمَتِهِ فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة وَالْبَدَنِيَّة وَالْحُدُود وَجَعَلَ فِي كُلّ فَنّ شَهِيدَيْنِ إِلَّا فِي الزِّنَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة [ النِّسَاء ] . وَشَهِيد بِنَاء مُبَالَغَة , وَفِي ذَلِكَ دَلَالَة عَلَى مَنْ قَدْ شَهِدَ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ , فَكَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى الْعَدَالَة . وَاَللَّه أَعْلَم .


نَصّ فِي رَفْض الْكُفَّار وَالصِّبْيَان وَالنِّسَاء , وَأَمَّا الْعَبِيد فَاللَّفْظ يَتَنَاوَلهُمْ . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمُرَاد الْأَحْرَار , وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاق وَأَطْنَبَ فِيهِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي شَهَادَة الْعَبِيد , فَقَالَ شُرَيْح وَعُثْمَان الْبَتِّيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَأَبُو ثَوْر : شَهَادَة الْعَبْد جَائِزَة إِذَا كَانَ عَدْلًا , وَغَلَّبُوا لَفْظ الْآيَة . وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء : لَا تَجُوز شَهَادَة الْعَبْد , وَغَلَّبُوا نَقْص الرِّقّ , وَأَجَازَهَا الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ فِي الشَّيْء الْيَسِير . وَالصَّحِيح قَوْل الْجُمْهُور ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ " [ الْبَقَرَة : 282 ] وَسَاقَ الْخِطَاب إِلَى قَوْله " مِنْ رِجَالكُمْ " فَظَاهِر الْخِطَاب يَتَنَاوَل الَّذِينَ يَتَدَايَنُونَ , وَالْعَبِيد لَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ دُون إِذْن السَّادَة . فَإِنْ قَالُوا : إِنَّ خُصُوص أَوَّل الْآيَة لَا يَمْنَع التَّعَلُّق بِعُمُومِ آخِرهَا . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا يَخُصّهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَقَوْله " مِنْ رِجَالكُمْ " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى مِنْ أَهْل الشَّهَادَة لَكِنْ إِذَا عُلِمَ يَقِينًا , مِثْل مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهَادَة فَقَالَ : ( تَرَى هَذِهِ الشَّمْس فَاشْهَدْ عَلَى مِثْلهَا أَوْ دَعْ ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى اِشْتِرَاط مُعَايَنَة الشَّاهِد لِمَا يَشْهَد بِهِ , لَا مَنْ يَشْهَد بِالِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يَجُوز أَنْ يُخْطِئ . نَعَمْ يَجُوز لَهُ وَطْء اِمْرَأَته إِذَا عَرَفَ صَوْتهَا ; لِأَنَّ الْإِقْدَام عَلَى الْوَطْء جَائِز بِغَلَبَةِ الظَّنّ , فَلَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ اِمْرَأَة وَقِيلَ : هَذِهِ اِمْرَأَتك وَهُوَ لَا يَعْرِفهَا جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا , وَيَحِلّ لَهُ قَبُول هَدِيَّة جَاءَتْهُ بِقَوْلِ الرَّسُول . وَلَوْ أَخْبَرَهُ مُخْبِر عَنْ زَيْد بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيْع أَوْ قَذْف أَوْ غَصْب لَمَا جَازَ لَهُ إِقَامَة الشَّهَادَة عَلَى الْمُخْبَر عَنْهُ , لِأَنَّ سَبِيل الشَّهَادَة الْيَقِين , وَفِي غَيْرهَا يَجُوز اِسْتِعْمَال غَالِب الظَّنّ , وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُف : إِذَا عَلِمَهُ قَبْل الْعَمَى جَازَتْ الشَّهَادَة بَعْد الْعَمَى , وَيَكُون الْعَمَى الْحَائِل بَيْنه وَبَيْن الْمَشْهُود عَلَيْهِ كَالْغَيْبَةِ وَالْمَوْت فِي الْمَشْهُود عَلَيْهِ . فَهَذَا مَذْهَب هَؤُلَاءِ . وَاَلَّذِي يَمْنَع أَدَاء الْأَعْمَى فِيمَا تَحَمَّلَ بَصِيرًا لَا وَجْه لَهُ , وَتَصِحّ شَهَادَته بِالنَّسَبِ الَّذِي يَثْبُت بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيض , كَمَا يُخْبِر عَمَّا تَوَاتَرَ حُكْمه مِنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ قَبِلَ شَهَادَة الْأَعْمَى فِيمَا طَرِيقه الصَّوْت , لِأَنَّهُ رَأَى الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ يَتَرَقَّى إِلَى حَدّ الْيَقِين , وَرَأَى أَنَّ اِشْتِبَاه الْأَصْوَات كَاشْتِبَاهِ الصُّوَر وَالْأَلْوَان . وَهَذَا ضَعِيف يَلْزَم مِنْهُ جَوَاز الِاعْتِمَاد عَلَى الصَّوْت لِلْبَصِيرِ .

قُلْت : مَذْهَب مَالِك فِي شَهَادَة الْأَعْمَى عَلَى الصَّوْت جَائِزَة فِي الطَّلَاق وَغَيْره إِذَا عَرَفَ الصَّوْت . قَالَ اِبْن قَاسِم : قُلْت لِمَالِك : فَالرَّجُل يَسْمَع جَاره مِنْ وَرَاء الْحَائِط وَلَا يَرَاهُ , , يَسْمَعهُ يُطَلِّق اِمْرَأَته فَيَشْهَد عَلَيْهِ وَقَدْ عَرَفَ الصَّوْت ؟ قَالَ : قَالَ مَالِك : شَهَادَته جَائِزَة . وَقَالَ ذَلِكَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَشُرَيْح الْكِنْدِيّ وَالشَّعْبِيّ وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَيَحْيَى بْن سَعِيد وَرَبِيعَة وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَمَالِك وَاللَّيْث .

الْمَعْنَى إِنْ لَمْ يَأْتِ الطَّالِب بِرَجُلَيْنِ فَلْيَأْتِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ , هَذَا قَوْل الْجُمْهُور . " فَرَجُل " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , " وَامْرَأَتَانِ " عَطْف عَلَيْهِ وَالْخَبَر مَحْذُوف . أَيْ فَرَجُل وَامْرَأَتَانِ يَقُومَانِ مَقَامهمَا . وَيَجُوز النَّصْب فِي غَيْر الْقُرْآن , أَيْ فَاسْتَشْهِدُوا رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : إِنْ خِنْجَرًا فَخِنْجَرًا . وَقَالَ قَوْم : بَلْ الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلَانِ , أَيْ لَمْ يُوجَدَا فَلَا يَجُوز اِسْتِشْهَاد الْمَرْأَتَيْنِ إِلَّا مَعَ عُدْم الرِّجَال . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف , فَلَفْظ الْآيَة لَا يُعْطِيه , بَلْ الظَّاهِر مِنْهُ قَوْل الْجُمْهُور , أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَشْهَد رَجُلَيْنِ , أَيْ إِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ صَاحِب الْحَقّ أَوْ قَصَدَهُ لِعُذْرٍ مَا فَلْيَسْتَشْهِدْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ . فَجَعَلَ تَعَالَى شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُل جَائِزَة مَعَ وُجُود الرَّجُلَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَلَمْ يَذْكُرهَا فِي غَيْرهَا , فَأُجِيزَتْ فِي الْأَمْوَال خَاصَّة فِي الْأَمْوَال خَاصَّة فِي قَوْل الْجُمْهُور , بِشَرْطِ أَنْ يَكُون مَعَهُمَا رَجُل . وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال دُون غَيْرهَا ; لِأَنَّ الْأَمْوَال كَثَّرَ اللَّه أَسْبَاب تَوْثِيقهَا لِكَثْرَةِ جِهَات تَحْصِيلهَا وَعُمُوم الْبَلْوَى بِهَا وَتَكَرُّرهَا , فَجَعَلَ فِيهَا التَّوَثُّق تَارَة بِالْكَتْبَة وَتَارَة بِالْإِشْهَادِ وَتَارَة بِالرَّهْنِ وَتَارَة بِالضَّمَانِ , وَأَدْخَلَ فِي جَمِيع ذَلِكَ شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال . وَلَا يَتَوَهَّم عَاقِل أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ " يَشْتَمِل عَلَى دَيْن الْمَهْر مَعَ الْبُضْع , وَعَلَى الصُّلْح عَلَى دَم الْعَمْد , فَإِنَّ تِلْكَ الشَّهَادَة لَيْسَتْ شَهَادَة عَلَى الدَّيْن , بَلْ هِيَ شَهَادَة عَلَى النِّكَاح . وَأَجَازَ الْعُلَمَاء شَهَادَتهنَّ مُنْفَرِدَات فِيمَا لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ غَيْرهنَّ لِلضَّرُورَةِ . وَعَلَى مِثْل ذَلِكَ أُجِيزَتْ شَهَادَة الصِّبْيَان فِي الْجِرَاح فِيمَا بَيْنهمْ لِلضَّرُورَةِ .

وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي شَهَادَة الصِّبْيَان فِي الْجِرَاح ,

فَأَجَازَهَا مَالِك مَا لَمْ يَخْتَلِفُوا وَلَمْ يَفْتَرِقُوا . وَلَا يَجُوز أَقَلّ مِنْ شَهَادَة اِثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى صَغِير لِكَبِيرٍ وَلِكَبِيرٍ عَلَى صَغِير . وَمِمَّنْ كَانَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الصِّبْيَان فِيمَا بَيْنهمْ مِنْ الْجِرَاح عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر . وَقَالَ مَالِك : وَهُوَ الْأَمْر عِنْدنَا الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ . وَلَمْ يُجِزْ الشَّافِعِيّ , وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه شَهَادَتهمْ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " مِنْ رِجَالكُمْ " وَقَوْله : " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ " وَقَوْله : " ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ " [ الطَّلَاق : 2 ] وَهَذِهِ الصِّفَات لَيْسَتْ فِي الصَّبِيّ .

لَمَّا جَعَلَ اللَّه سُبْحَانه شَهَادَة اِمْرَأَتَيْنِ بَدَل شَهَادَة رَجُل وَجَبَ أَنْ يَكُون حُكْمهمَا حُكْمه , فَكَمَا لَهُ أَنْ يَحْلِف مَعَ الشَّاهِد عِنْدنَا , وَعِنْد الشَّافِعِيّ كَذَلِكَ , يَجِب أَنْ يَحْلِف مَعَ شَهَادَة اِمْرَأَتَيْنِ بِمُطْلَقِ هَذِهِ الْعِوَضِيَّة . وَخَالَفَ فِي هَذَا أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه فَلَمْ يَرَوْا الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد وَقَالُوا : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَسَمَ الشَّهَادَة وَعَدَّدَهَا , وَلَمْ يَذْكُر الشَّاهِد وَالْيَمِين , فَلَا يَجُوز الْقَضَاء بِهِ لِأَنَّهُ يَكُون قَسْمًا زَائِدًا عَلَى مَا قَسَمَهُ اللَّه , وَهَذِهِ زِيَادَة عَلَى النَّصّ , وَذَلِكَ نَسْخ . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْل الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَالْحَكَم بْن عُتَيْبَة وَطَائِفَة . قَالَ بَعْضهمْ : الْحُكْم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد مَنْسُوخ بِالْقُرْآنِ . وَزَعَمَ عَطَاء أَنَّ أَوَّل مَنْ قَضَى بِهِ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان , وَقَالَ : الْحَكَم : الْقَضَاء بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد بِدْعَة , وَأَوَّل مَنْ حَكَمَ بِهِ مُعَاوِيَة . وَهَذَا كُلّه غَلَط وَظَنّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقّ شَيْئًا , وَلَيْسَ مَنْ نَفَى وَجَهِلَ كَمَنْ أَثْبَتَ وَعَلِمَ وَلَيْسَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالكُمْ " الْآيَة , مَا يُرَدّ بِهِ قَضَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد وَلَا أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّل إِلَى الْحُقُوق وَلَا تُسْتَحَقّ إِلَّا بِمَا ذُكِرَ فِيهَا لَا غَيْر , فَإِنَّ ذَلِكَ يَبْطُل بِنُكُولِ الْمَطْلُوب وَيَمِين الطَّالِب , فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَقّ بِهِ الْمَال إِجْمَاعًا وَلَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى , وَهَذَا قَاطِع فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ . قَالَ مَالِك : فَمِنْ الْحُجَّة عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْل أَنْ يُقَال لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا اِدَّعَى عَلَى رَجُل مَالًا أَلَيْسَ يَحْلِف الْمَطْلُوب مَا ذَلِكَ الْحَقّ عَلَيْهِ ؟ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ الْحَقّ عَنْهُ , وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِين حَلَفَ صَاحِب الْحَقّ , أَنَّ حَقّه لَحَقّ , وَثَبَتَ حَقّه عَلَى صَاحِبه . فَهَذَا مِمَّا لَا اِخْتِلَاف فِيهِ عِنْد أَحَد مِنْ النَّاس وَلَا بِبَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَان , فَبِأَيِّ شَيْء أَخَذَ هَذَا وَفِي أَيّ كِتَاب اللَّه وَجَدَهُ ؟ فَمَنْ أَقَرَّ فَلْيُقِرَّ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ثُمَّ الْعَجَب مَعَ شُهْرَة الْأَحَادِيث وَصِحَّتهَا بَدَّعُوا مَنْ عَمِلَ بِهَا حَتَّى نَقَضُوا حُكْمه وَاسْتَقْصَرُوا رَأْيه , مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَأُبَيّ بْن كَعْب وَمُعَاوِيَة وَشُرَيْح وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز - وَكَتَبَ بِهِ إِلَى عُمَّاله - , وَإِيَاس بْن مُعَاوِيَة وَأَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن وَأَبُو الزِّنَاد وَرَبِيعَة , وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِك : وَإِنَّهُ لَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى مِنْ عَمَل السُّنَّة , أَتَرَى هَؤُلَاءِ تُنْقَض أَحْكَامهمْ , وَيُحْكَم بِبِدْعَتِهِمْ ! هَذَا إِغْفَال شَدِيد , وَنَظَر غَيْر سَدِيد . رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد . قَالَ عَمْرو بْن دِينَار : فِي الْأَمْوَال خَاصَّة , رَوَاهُ سَيْف بْن سُلَيْمَان عَنْ قَيْس بْن سَعْد بْن دِينَار عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا أَصَحّ إِسْنَاد لِهَذَا الْحَدِيث , وَهُوَ حَدِيث لَا مَطْعَن لِأَحَدٍ فِي إِسْنَاده , وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْمَعْرِفَة بِالْحَدِيثِ فِي أَنَّ رِجَاله ثِقَات . قَالَ يَحْيَى الْقَطَّان : سَيْف بْن سُلَيْمَان ثَبْت , مَا رَأَيْت أَحْفَظَ مِنْهُ . وَقَالَ النَّسَائِيّ : هَذَا إِسْنَاد جَيِّد , سَيْف ثِقَة , وَقَيْس ثِقَة . وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِم حَدِيث اِبْن عَبَّاس هَذَا . قَالَ أَبُو بَكْر الْبَزَّار : سَيْف بْن سُلَيْمَان وَقَيْس بْن سَعْد ثِقَتَانِ , وَمَنْ بَعْدهمَا يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرهمَا لِشُهْرَتِهِمَا فِي الثِّقَة وَالْعَدَالَة . وَلَمْ يَأْتِ عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ أَنْكَرَ الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد , بَلْ جَاءَ عَنْهُمْ الْقَوْل بِهِ , وَعَلَيْهِ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم بِالْمَدِينَةِ . وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَابْن شِهَاب , فَقَالَ مَعْمَر : سَأَلْت الزُّهْرِيّ عَنْ الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد فَقَالَ : هَذَا شَيْء أَحْدَثَهُ النَّاس , لَا بُدّ مِنْ شَاهِدَيْنِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّل مَا وَلِيَ الْقَضَاء حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِين , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأَتْبَاعه وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الْأَثَر , وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوز عِنْدِي خِلَافه , لِتَوَاتُرِ الْآثَار بِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَل أَهْل الْمَدِينَة قَرْنًا بَعْد قَرْن . وَقَالَ مَالِك : يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد فِي كُلّ الْبُلْدَان , وَلَمْ يَحْتَجّ فِي مُوَطَّئِهِ لِمَسْأَلَةٍ غَيْرهَا . وَلَمْ يُخْتَلَف عَنْهُ فِي الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد وَلَا عَنْ أَحَد مِنْ أَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ وَمِصْر وَغَيْرهمَا , وَلَا يَعْرِف الْمَالِكِيُّونَ فِي كُلّ بَلَد غَيْر ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبهمْ إِلَّا عِنْدنَا بِالْأَنْدَلُسِ , فَإِنَّ يَحْيَى بْن يَحْيَى زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ اللَّيْث يُفْتِي بِهِ وَلَا يَذْهَب إِلَيْهِ . وَخَالَفَ يَحْيَى مَالِكًا فِي ذَلِكَ مَعَ مُخَالَفَته السُّنَّة وَالْعَمَل بِدَارِ الْهِجْرَة . ثُمَّ الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد زِيَادَة حُكْم عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا وَعَلَى خَالَتهَا مَعَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ " [ النِّسَاء : 24 ] . وَكَنَهْيِهِ عَنْ , أَكْل لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة , وَكُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع مَعَ قَوْله : " قُلْ لَا أَجِد " [ الْأَنْعَام : 145 ] . وَكَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , وَالْقُرْآن إِنَّمَا وَرَدَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَسْحهمَا , وَمِثْل هَذَا كَثِير . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَال : إِنَّ الْقُرْآن نَسَخَ حُكْم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد , لَجَازَ أَنْ يُقَال : إِنَّ الْقُرْآن فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَأَحَلَّ اللَّه الْبَيْع وَحَرَّمَ الرِّبَا " [ الْبَقَرَة : 275 ] وَفِي قَوْله : " إِلَّا أَنْ تَكُون تِجَارَة عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ " [ النِّسَاء : 29 ] نَاسِخ لِنَهْيِهِ عَنْ الْمُزَابَنَة وَبَيْع الْغَرَر وَبَيْع مَا لَمْ يُخْلَق , إِلَى سَائِر مَا نَهَى عَنْهُ فِي الْبُيُوع , وَهَذَا لَا يَسُوغ لِأَحَدٍ ; لِأَنَّ السُّنَّة مُبَيِّنَة لِلْكِتَابِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْحَدِيث قَضِيَّة فِي عَيْن فَلَا عُمُوم . قُلْنَا : بَلْ ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ تَقْعِيد هَذِهِ الْقَاعِدَة , فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَوْجَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد . وَمِمَّا يَشْهَد لِهَذَا التَّأْوِيل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِين فِي الْحُقُوق , وَمِنْ جِهَة الْقِيَاس وَالنَّظَر أَنَّا وَجَدْنَا الْيَمِين أَقْوَى مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا لَا مَدْخَل لَهُمَا فِي اللِّعَان وَالْيَمِين تَدْخُل فِي اللِّعَان . وَإِذَا صَحَّتْ السُّنَّة فَالْقَوْل بِهَا يَجِب , وَلَا تَحْتَاج السُّنَّة إِلَى مَا يُتَابِعهَا ; لِأَنَّ مَنْ خَالَفَهَا مَحْجُوج بِهَا . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .

إِذَا تَقَرَّرَ وَثَبَتَ الْحُكْم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد , فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب : ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال وَمَا يَتَعَلَّق بِهَا دُون حُقُوق الْأَبْدَان , لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كُلّ قَائِل بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد . قَالَ : لِأَنَّ حُقُوق الْأَمْوَال أَخْفَض مِنْ حُقُوق الْأَبْدَان , بِدَلِيلِ قَبُول شَهَادَة النِّسَاء فِيهَا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي جِرَاح الْعَمْد , هَلْ يَجِب الْقَوَد فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَجِب بِهِ التَّخْيِير بَيْن الْقَوَد وَالدِّيَة . وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِب بِهِ شَيْء ; لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوق الْأَبْدَان . قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيح . قَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ : وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال خَاصَّة , وَقَالَهُ عَمْرو بْن دِينَار . وَقَالَ الْمَازِرِيّ : يُقْبَل فِي الْمَال الْمَحْض مِنْ غَيْر خِلَاف , وَلَا يُقْبَل فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق الْمَحْضَيْنِ مِنْ غَيْر خِلَاف . وَإِنْ كَانَ مَضْمُون الشَّهَادَة , مَا لَيْسَ بِمَالٍ , وَلَكِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَال , كَالشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاح بَعْد الْمَوْت , حَتَّى لَا يُطْلَب مِنْ ثُبُوتهَا إِلَّا الْمَال إِلَى غَيْر ذَلِكَ , فَفِي قَبُوله اِخْتِلَاف , فَمَنْ رَاعَى الْمَال قَبِلَهُ كَمَا يَقْبَلهُ فِي الْمَال , وَمَنْ رَاعَى الْحَال لَمْ يَقْبَلهُ . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود غَيْر جَائِزَة فِي قَوْل عَامَّة الْفُقَهَاء , وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء , وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا , وَإِنَّمَا يَشْهَدْنَ فِي الْأَمْوَال . وَكُلّ مَا لَا يَشْهَدْنَ فِيهِ فَلَا يَشْهَدْنَ عَلَى شَهَادَة غَيْرهنَّ فِيهِ , كَانَ مَعَهُنَّ رَجُل أَوْ لَمْ يَكُنْ , وَلَا يَنْقُلْنَ شَهَادَة إِلَّا مَعَ رَجُل نَقَلْنَ عَنْ رَجُل وَامْرَأَة . وَيُقْضَى بِاثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي كُلّ مَا لَا يَحْضُرهُ غَيْرهنَّ كَالْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَال وَنَحْو ذَلِكَ . هَذَا كُلّه مَذْهَب مَالِك , وَفِي بَعْضه اِخْتِلَاف .


فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى الصِّفَة لِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ . قَالَ اِبْن بُكَيْر وَغَيْره : هَذِهِ مُخَاطَبَة لِلْحُكَّامِ . اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا غَيْر نَبِيل , وَإِنَّمَا الْخِطَاب لِجَمِيعِ النَّاس , لَكِنْ الْمُتَلَبِّس بِهَذِهِ الْقَضِيَّة إِنَّمَا هُمْ الْحُكَّام , وَهَذَا كَثِير فِي كِتَاب اللَّه يَعُمّ الْخِطَاب فِيمَا يَتَلَبَّس بِهِ الْبَعْض .

لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاء " دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي الشُّهُود مَنْ لَا يُرْضَى , فَيَجِيء مِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّاس لَيْسُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الْعَدَالَة حَتَّى تَثْبُت لَهُمْ , وَذَلِكَ مَعْنًى زَائِد عَلَى الْإِسْلَام , وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : كُلّ مُسْلِم ظَاهِر الْإِسْلَام مَعَ السَّلَامَة مِنْ فِسْق ظَاهِر فَهُوَ عَدْل وَإِنْ كَانَ مَجْهُول الْحَال . وَقَالَ شُرَيْح وَعُثْمَان الْبَتِّيّ وَأَبُو ثَوْر : هُمْ عُدُول الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا .

قُلْت فَعَمَّمُوا الْحُكْم , وَيَلْزَم مِنْهُ قَبُول شَهَادَة الْبَدْوِيّ عَلَى الْقَرَوِيّ إِذَا كَانَ عَدْلًا مَرْضِيًّا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ , وَهُوَ مِنْ رِجَالنَا وَأَهْل دِيننَا . وَكَوْنه بَدْوِيًّا كَكَوْنِهِ مِنْ بَلَد آخَر وَالْعُمُومَات فِي الْقُرْآن الدَّالَّة عَلَى قَبُول شَهَادَة الْعُدُول تُسَوِّي بَيْن الْبَدْوِيّ وَالْقَرَوِيّ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاء " وَقَالَ تَعَالَى : " وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ " ف " مِنْكُمْ " خِطَاب لِلْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا يَقْتَضِي قَطْعًا أَنْ يَكُون مَعْنَى الْعَدَالَة زَائِدًا عَلَى الْإِسْلَام ضَرُورَة ; لِأَنَّ الصِّفَة زَائِدَة , عَلَى الْمَوْصُوف , وَكَذَلِكَ " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ " مِثْله , خِلَاف مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة , ثُمَّ لَا يُعْلَم كَوْنه مَرْضِيًّا حَتَّى يُخْتَبَر حَاله , فَيَلْزَمهُ أَلَّا يَكْتَفِيَ بِظَاهِرِ الْإِسْلَام . وَذَهَبَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَمَالِك فِي رِوَايَة اِبْن وَهْب عَنْهُ إِلَى رَدّ شَهَادَة الْبَدْوِيّ عَلَى الْقَرَوِيّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَجُوز شَهَادَة بَدْوِيّ عَلَى صَاحِب قَرْيَة ) . وَالصَّحِيح جَوَاز شَهَادَته إِذَا كَانَ عَدْلًا مَرْضِيًّا , عَلَى مَا يَأْتِي فِي " النِّسَاء " و " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَلَيْسَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فَرْق بَيْن الْقَرَوِيّ فِي الْحَضَر أَوْ السَّفَر , وَمَتَى كَانَ فِي السَّفَر فَلَا خِلَاف فِي قَبُوله .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْعَدَالَة هِيَ الِاعْتِدَال فِي الْأَحْوَال الدِّينِيَّة , وَذَلِكَ يَتِمّ بِأَنْ يَكُون مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ مُحَافِظًا عَلَى مُرُوءَته وَعَلَى تَرْك الصَّغَائِر , ظَاهِر الْأَمَانَة غَيْر مُغَفَّل . وَقِيلَ : صَفَاء السَّرِيرَة وَاسْتِقَامَة السِّيرَة فِي ظَنّ الْمُعَدِّل , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب .

لَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَة وِلَايَة عَظِيمَة وَمَرْتَبَة مُنِيفَة , وَهِيَ قَبُول قَوْل الْغَيْر عَلَى الْغَيْر , شَرَطَ تَعَالَى فِيهَا الرِّضَا وَالْعَدَالَة . فَمِنْ حُكْم الشَّاهِد . أَنْ تَكُون لَهُ شَمَائِل يَنْفَرِد بِهَا وَفَضَائِل يَتَحَلَّى بِهَا حَتَّى تَكُون لَهُ مَزِيَّة عَلَى غَيْره , تُوجِب لَهُ تِلْكَ الْمَزِيَّة رُتْبَة الِاخْتِصَاص بِقَبُولِ قَوْله , وَيُحْكَم بِشُغْلِ ذَمّه الْمَطْلُوب بِشَهَادَتِهِ . وَهَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَات عِنْد عُلَمَائِنَا عَلَى مَا خَفِيَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَام . وَسَيَأْتِي لِهَذَا فِي سُورَة " يُوسُف " زِيَادَة بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى تَفْوِيض الْأَمْر إِلَى اِجْتِهَاد الْحُكَّام , فَرُبَّمَا تَفَرَّسَ فِي الشَّاهِد غَفْلَة أَوْ رِيبَة فَيَرُدّ شَهَادَته لِذَلِكَ .

قَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَام فِي الْأَمْوَال دُون الْحُدُود . وَهَذِهِ مُنَاقَصَة تُسْقِط كَلَامه وَتُفْسِد عَلَيْهِ مَرَامه , لِأَنَّنَا نَقُول : حَقّ مِنْ الْحُقُوق . فَلَا يُكْتَفَى فِي الشَّهَادَة عَلَيْهِ بِظَاهِرِ الدَّيْن كَالْحُدُودِ , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .

وَإِذْ قَدْ شَرَطَ اللَّه تَعَالَى الرِّضَا وَالْعَدَالَة فِي الْمُدَايَنَة كَمَا بَيَّنَّا فَاشْتِرَاطهَا فِي النِّكَاح أَوْلَى , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة حَيْثُ قَالَ : إِنَّ النِّكَاح يَنْعَقِد . بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ . فَنَفَى , الِاحْتِيَاط الْمَأْمُور بِهِ فِي الْأَمْوَال عَنْ النِّكَاح , وَهُوَ أَوْلَى لِمَا يَتَعَلَّق بِهِ مِنْ الْحِلّ وَالْحُرْمَة وَالْحَدّ وَالنَّسَب .

قُلْت : قَوْل أَبِي حَنِيفَة فِي هَذَا الْبَاب ضَعِيف جِدًّا , لِشَرْطِ اللَّه تَعَالَى الرِّضَا وَالْعَدَالَة , وَلَيْسَ يُعْلَم كَوْنه مَرْضِيًّا بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَام , وَإِنَّمَا يُعْلَم بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَاله حَسَب مَا تَقَدَّمَ . وَلَا يُغْتَرّ بِظَاهِرِ قَوْله : أَنَا مُسْلِم . فَرُبَّمَا اِنْطَوَى عَلَى مَا يُوجِب رَدّ شَهَادَته , مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَمِنْ النَّاس مَنْ يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيُشْهِد اللَّه عَلَى مَا فِي قَلْبه " [ الْبَقَرَة : 204 ] إِلَى قَوْله : " وَاَللَّه لَا يُحِبّ الْفَسَاد " [ الْبَقَرَة : 205 ] وَقَالَ : " وَإِذَا رَأَيْتهمْ تُعْجِبك أَجْسَامهمْ " [ الْمُنَافِقِينَ : 4 ] الْآيَة .


قَالَ أَبُو عُبَيْد : مَعْنَى تَضِلّ تَنْسَى . وَالضَّلَال عَنْ الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ نِسْيَان جُزْء مِنْهَا وَذِكْر جُزْء , وَيَبْقَى الْمَرْء حَيْرَان بَيْنَ ذَلِكَ ضَالًّا . وَمَنْ نَسِيَ الشَّهَادَة جُمْلَة فَلَيْسَ يُقَال : ضَلَّ فِيهَا . وَقَرَأَ حَمْزَة " إِنْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة عَلَى مَعْنَى الْجَزَاء , وَالْفَاء فِي قَوْله : " فَتُذَكِّر " جَوَابه , وَمَوْضِع الشَّرْط وَجَوَابه رَفْعٌ عَلَى الصِّفَة لِلْمَرْأَتَيْنِ وَالرَّجُل , وَارْتَفَعَ " تُذَكِّر " عَلَى الِاسْتِئْنَاف , كَمَا اِرْتَفَعَ قَوْله : " وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِم اللَّه مِنْهُ " [ الْمَائِدَة : 95 ] هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ . وَمَنْ فَتَحَ " أَنْ " فَهِيَ مَفْعُول لَهُ وَالْعَامِل فِيهَا مَحْذُوف . وَانْتَصَبَ " فَتُذَكِّر " عَلَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة عَطْفًا عَلَى الْفِعْل الْمَنْصُوب بِأَنْ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز " تَضَلّ " بِفَتْحِ التَّاء وَالضَّاد , وَيَجُوز تِضَلّ بِكَسْرِ التَّاء وَفَتْح الضَّاد . فَمَنْ قَالَ : " تَضِلّ " جَاءَ بِهِ عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : ضَلَلْت . وَعَلَى هَذَا تَقُول تِضَلّ فَتَكْسِر التَّاء لِتَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمَاضِيَ فَعَلْت . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ وَعِيسَى بْن عُمَر " أَنْ تُضَلّ " بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الضَّاد بِمَعْنَى تُنْسَى , وَهَكَذَا حَكَى عَنْهُمَا أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ الْجَحْدَرِيّ ضَمّ التَّاء وَكَسْر الضَّاد بِمَعْنَى أَنْ تُضِلّ الشَّهَادَة . تَقُول : أَضْلَلْت الْفَرَس وَالْبَعِير إِذَا تَلِفَا لَك وَذَهَبَا فَلَمْ تَجِدهُمَا .


خَفَّفَ الذَّال وَالْكَاف اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو , وَعَلَيْهِ فَيَكُون الْمَعْنَى أَنْ تَرُدّهَا ذَكَرًا فِي الشَّهَادَة ; لِأَنَّ شَهَادَة الْمَرْأَة نِصْف شَهَادَة , فَإِذَا شَهِدَتَا صَارَ مَجْمُوعهمَا كَشَهَادَةِ ذَكَر , قَالَهُ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة وَأَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء . وَفِيهِ , بُعْد , إِذْ لَا يَحْصُل فِي مُقَابَلَة الضَّلَال الَّذِي مَعْنَاهُ النِّسْيَان إِلَّا الذِّكْر , وَهُوَ مَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة " فَتُذَكِّر " بِالتَّشْدِيدِ , أَيْ تُنَبِّههَا إِذَا غَفَلَتْ وَنَسِيَتْ .

قُلْت : وَإِلَيْهَا تَرْجِع قِرَاءَة أَبِي عَمْرو , أَيْ إِنْ تَنْسَ إِحْدَاهُمَا فَتُذْكِرهَا الْأُخْرَى , يُقَال : تَذَكَّرْت الشَّيْء وَأَذْكَرْته وَذَكَّرْته بِمَعْنًى , قَالَهُ فِي الصِّحَاح .


قَالَ الْحَسَن : جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَة أَمْرَيْنِ , وَهُمَا أَلَّا تَأْبَى إِذَا دُعِيت إِلَى تَحْصِيل الشَّهَادَة , وَلَا إِذَا دُعِيت إِلَى أَدَائِهَا , وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَابْن عَبَّاس : أَيْ لِتَحَمُّلِهَا وَإِثْبَاتهَا فِي الْكِتَاب . وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَى الْآيَة إِذَا دُعِيت إِلَى أَدَاء شَهَادَة وَقَدْ حَصَلَتْ عِنْدك . وَأُسْنِدَ النِّقَاش إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَة بِهَذَا , قَالَ مُجَاهِد : فَأَمَّا إِذَا دُعِيت لِتَشْهَد أَوَّلًا فَإِنْ شِئْت فَاذْهَبْ وَإِنْ شِئْت فَلَا , وَقَالَهُ أَبُو مِجْلَز وَعَطَاء وَإِبْرَاهِيم وَابْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ . وَعَلَيْهِ فَلَا يَجِب عَلَى الشُّهُود الْحُضُور عِنْد الْمُتَعَاقِدَيْنِ , وَإِنَّمَا عَلَى الْمُتَدَايِنَيْنِ أَنْ يَحْضُرَا عِنْد الشُّهُود , فَإِذَا حَضَرَاهُمْ وَسَأَلَاهُمْ إِثْبَات شَهَادَتهمْ فِي الْكِتَاب فَهَذِهِ الْحَالَة الَّتِي يَجُوز أَنْ تُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَة فَإِذَا ثَبَتَتْ شَهَادَتهمْ ثُمَّ دُعُوا لِإِقَامَتِهَا عِنْد الْحَاكِم فَهَذَا الدُّعَاء هُوَ بِحُضُورِهِمَا عِنْد الْحَاكِم , عَلَى مَا يَأْتِي . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْآيَة كَمَا قَالَ الْحَسَن جَمَعَتْ أَمْرَيْنِ عَلَى جِهَة النَّدْب , فَالْمُسْلِمُونَ مَنْدُوبُونَ إِلَى مَعُونَة إِخْوَانهمْ , فَإِذَا كَانَتْ الْفُسْحَة لِكَثْرَةِ الشُّهُود وَالْأَمْن مِنْ تَعْطِيل الْحَقّ فَالْمَدْعُوّ مَنْدُوب , وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّف لِأَدْنَى عُذْر , وَإِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا ثَوَاب لَهُ . وَإِذَا كَانَتْ الضَّرُورَة وَخِيفَ تَعَطُّل الْحَقّ أَدْنَى خَوْف قَوِيَ النَّدْب وَقَرُبَ مِنْ الْوُجُوب , وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقّ يَذْهَب وَيَتْلَف بِتَأَخُّرِ الشَّاهِد عَنْ الشَّهَادَة فَوَاجِب عَلَيْهِ الْقِيَام بِهَا , لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُحَصَّلَة وَكَانَ الدُّعَاء إِلَى أَدَائِهَا , فَإِنَّ هَذَا الظَّرْف آكَد ; لِأَنَّهَا قِلَادَة فِي الْعُنُق وَأَمَانَة تَقْتَضِي الْأَدَاء .

قُلْت : وَقَدْ يُسْتَخْرَج مِنْ هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ جَائِزًا لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيم لِلنَّاسِ شُهُودًا وَيَجْعَل لَهُمْ مِنْ بَيْت الْمَال كِفَايَتهمْ , فَلَا يَكُون لَهُمْ شُغْل إِلَّا تَحَمُّل حُقُوق النَّاس حِفْظًا لَهَا , وَإِنْ لَمْ , يَكُنْ ذَلِكَ ضَاعَتْ الْحُقُوق وَبَطَلَتْ . فَيَكُون الْمَعْنَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا أَخَذُوا حُقُوقهمْ أَنْ يُجِيبُوا . وَاَللَّه أَعْلَم . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ شَهَادَة بِالْأُجْرَةِ , قُلْنَا : إِنَّمَا هِيَ شَهَادَة خَالِصَة مِنْ قَوْم اِسْتَوْفَوْا حُقُوقهمْ مِنْ بَيْت الْمَال , وَذَلِكَ كَأَرْزَاقِ الْقُضَاة وَالْوُلَاة وَجَمِيع الْمَصَالِح الَّتِي تَعِنّ لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتهَا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : " وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا " [ التَّوْبَة : 60 ] فَفَرَضَ لَهُمْ .

لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّاهِد هُوَ الَّذِي يَمْشِي إِلَى الْحَاكِم , وَهَذَا أَمْر بُنِيَ عَلَيْهِ الشَّرْع وَعُمِلَ بِهِ فِي كُلّ زَمَان وَفَهِمَتْهُ كُلّ أُمَّة , وَمِنْ أَمْثَالهمْ : " فِي بَيْته يُؤْتَى الْحَكَم " .

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْعَبْد خَارِج عَنْ جُمْلَة الشُّهَدَاء , وَهُوَ يَخُصّ عُمُوم قَوْله : " مِنْ رِجَالكُمْ " لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُ أَنْ يُجِيب , وَلَا يَصِحّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ ; لِأَنَّهُ لَا اِسْتِقْلَال لَهُ بِنَفْسِهِ , وَإِنَّمَا يَتَصَرَّف بِإِذْنِ غَيْره , فَانْحَطَّ عَنْ مَنْصِب الشَّهَادَة كَمَا اِنْحَطَّ عَنْ مَنْزِل الْوِلَايَة . نَعَمْ ! وَكَمَا اِنْحَطَّ عَنْ فَرْض الْجُمُعَة وَالْجِهَاد وَالْحَجّ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا فِي حَال الدُّعَاء إِلَى الشَّهَادَة . فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْده شَهَادَة لِرَجُلٍ لَمْ يَعْلَمهَا مُسْتَحِقّهَا الَّذِي يَنْتَفِع بِهَا , فَقَالَ قَوْم : أَدَاؤُهَا نُدِبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " فَفَرَضَ اللَّه الْأَدَاء عِنْد الدُّعَاء , فَإِذَا لَمْ يُدْعَ كَانَ نَدْبًا , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( خَيْر الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة . وَالصَّحِيح أَنَّ أَدَاءَهَا فَرْض وَإِنْ لَمْ يُسْأَلهَا إِذَا خَافَ عَلَى الْحَقّ ضَيَاعه أَوْ فَوْته , أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْق عَلَى مَنْ أَقَامَ عَلَى تَصَرُّفه عَلَى الِاسْتِمْتَاع بِالزَّوْجَةِ وَاسْتِخْدَام الْعَبْد إِلَى غَيْر ذَلِكَ , فَيَجِب عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَدَاء تِلْكَ الشَّهَادَة , وَلَا يَقِف أَدَاؤُهَا عَلَى أَنْ تُسْأَل مِنْهُ فَيُضَيِّع الْحَقّ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : " وَأَقِيمُوا الشَّهَادَة لِلَّهِ " [ الطَّلَاق : 2 ] وَقَالَ : " إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " [ الزُّخْرُف : 86 ] . وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ) . فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ نَصْره بِأَدَاءِ الشَّهَادَة الَّتِي لَهُ عِنْده إِحْيَاء لِحَقِّهِ الَّذِي أَمَاتَهُ الْإِنْكَار .

لَا إِشْكَال فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَة عَلَى أَحَد الْأَوْجُه الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَلَمْ يُؤَدِّهَا أَنَّهَا جُرْحَة فِي الشَّاهِد وَالشَّهَادَة , وَلَا فَرْق فِي هَذَا بَيْن حُقُوق اللَّه تَعَالَى وَحُقُوق الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا قَوْل اِبْن الْقَاسِم وَغَيْره . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَة إِنْ كَانَتْ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ كَانَ ذَلِكَ جُرْحَة فِي تِلْكَ الشَّهَادَة نَفْسهَا خَاصَّة , فَلَا يَصْلُح لَهُ أَدَاؤُهَا بَعْد ذَلِكَ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل , لِأَنَّ الَّذِي يُوجِب جُرْحَته إِنَّمَا هُوَ فِسْقه بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْقِيَام بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْر عُذْر , وَالْفِسْق يَسْلُب أَهْلِيَّة الشَّهَادَة مُطْلَقًا , وَهَذَا وَاضِح .

لَا تَعَارُض بَيْن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( خَيْر الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا ) وَبَيْن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْن : ( إِنَّ خَيْركُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - ثُمَّ قَالَ عِمْرَان : فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد قَرْنه مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ يَكُون بَعْدهمْ قَوْم يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَر فِيهِمْ السِّمَن ) أَخْرَجَهُمَا الصَّحِيحَانِ . وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا : أَنْ يُرَاد بِهِ شَاهِد الزُّور , فَإِنَّهُ يَشْهَد بِمَا لَمْ يُسْتَشْهَد , أَيْ بِمَا لَمْ يَتَحَمَّلهُ وَلَا حَمَلَهُ . وَذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَطَبَ بِبَابِ الْجَابِيَة فَقَالَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا كَمَقَامِي فِيكُمْ . ثُمَّ قَالَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاس اِتَّقُوا اللَّه فِي أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِب وَشَهَادَة الزُّور ) . الْوَجْه الثَّانِي : أَنْ يُرَاد بِهِ الَّذِي يَحْمِلهُ الشَّرَه عَلَى تَنْفِيذ مَا يَشْهَد بِهِ , فَيُبَادِر بِالشَّهَادَةِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا , فَهَذِهِ شَهَادَة مَرْدُودَة , فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى هَوًى غَالِب عَلَى الشَّاهِد . الثَّالِث مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ رَاوِي طُرُق بَعْض هَذَا الْحَدِيث : كَانُوا يَنْهَوْنَنَا وَنَحْنُ غِلْمَان عَنْ الْعَهْد وَالشَّهَادَات .


" تَسْأَمُوا " مَعْنَاهُ تَمَلُّوا . قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال سَئِمْت أَسْأَم سَأَمًا وَسَآمَة وَسَآمًا وَسَأْمَة وَسَأَمًا , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : سَئِمْت تَكَالِيف الْحَيَاة وَمَنْ يَعِشْ ثَمَانِينَ حَوْلًا - لَا أَبَالك - يَسْأَم " أَنْ تَكْتُبُوهُ " فِي مَوْضِع نَصْب بِالْفِعْلِ . " صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا " حَالَانِ مِنْ الضَّمِير فِي " تَكْتُبُوهُ " وَقَدَّمَ الصَّغِير اِهْتِمَامًا بِهِ . وَهَذَا النَّهْي عَنْ السَّآمَة إِنَّمَا جَاءَ لِتَرَدُّدِ الْمُدَايَنَة عِنْدهمْ فَخِيفَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمَلُّوا الْكَتْب , وَيَقُول أَحَدهمْ : هَذَا قَلِيل لَا أَحْتَاج إِلَى كَتْبه , فَأَكَّدَ تَعَالَى التَّحْضِيض فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قِيرَاط وَنَحْوه لِنَزَارَتِهِ وَعَدَم تَشَوُّف النَّفْس إِلَيْهِ إِقْرَارًا وَإِنْكَارًا .


مَعْنَاهُ أَعْدَل , يَعْنِي أَنْ يُكْتَب الْقَلِيل وَالْكَثِير وَيُشْهَد عَلَيْهِ .

أَيْ أَصَحّ وَأَحْفَظ . و " وَأَقْوَم لِلشَّهَادَةِ " دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّاهِد إِذَا رَأَى الْكِتَاب وَلَمْ يَذْكُر الشَّهَادَة لَا يُؤَدِّيهَا لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّيبَة فِيهَا , وَلَا يُؤَدِّي إِلَّا مَا يَعْلَم لَكِنَّهُ يَقُول : هَذَا خَطِّي وَلَا أَذْكُر الْآن مَا كَتَبْت فِيهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَكْثَر مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم يَمْنَع أَنْ يَشْهَد الشَّاهِد عَلَى خَطّه إِذَا لَمْ يَذْكُر الشَّهَادَة . وَاحْتَجَّ مَالِك عَلَى جَوَاز ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا " [ يُوسُف : 81 ] . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَمَّا نَسَبَ اللَّه تَعَالَى الْكِتَابَة إِلَى الْعَدَالَة وَسِعَهُ أَنْ يُشْهِد عَلَى خَطّه وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّر . ذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ مَعْمَر عَنْ اِبْن طَاوُس عَنْ أَبِيهِ فِي الرَّجُل يَشْهَد عَلَى شَهَادَة فَيَنْسَاهَا قَالَ : لَا بَأْس أَنْ يَشْهَد إِنْ وَجَدَ عَلَامَته فِي الصَّكّ أَوْ خَطّ يَده . قَالَ اِبْن الْمُبَارَك : اِسْتَحْسَنْت هَذَا جِدًّا . وَفِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَار عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي أَشْيَاء غَيْر وَاحِدَة بِالدَّلَائِلِ وَالشَّوَاهِد , وَعَنْ الرُّسُل مِنْ قَبْله مَا يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا الْمَذْهَب . وَاَللَّه أَعْلَم . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي [ الْأَحْقَاف ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


مَعْنَاهُ أَقْرَب .


تَشُكُّوا .


" أَنَّ " فِي مَوْضِع نَصْب اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل . قَالَ الْأَخْفَش أَبُو سَعِيد : أَيْ إِلَّا أَنْ تَقَع تِجَارَة , فَكَانَ بِمَعْنَى وَقَعَ وَحَدَثَ . وَقَالَ غَيْره : " تُدِيرُونَهَا " الْخَبَر . وَقَرَأَ عَاصِم وَحْده " تِجَارَة " , عَلَى خَبَر كَانَ وَاسْمهَا مُضْمَر فِيهَا . " حَاضِرَة " نَعْت لِتِجَارَةٍ , وَالتَّقْدِير إِلَّا أَنْ تَكُون التِّجَارَة تِجَارَة , أَوْ إِلَّا أَنْ تَكُون الْمُبَايَعَة تِجَارَة , هَكَذَا قَدَّرَهُ مَكِّيّ وَأَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِره وَالِاسْتِشْهَاد عَلَيْهِ . وَلَمَّا عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مَشَقَّة الْكِتَاب عَلَيْهِمْ نَصَّ عَلَى تَرْك ذَلِكَ وَرَفَعَ الْجُنَاح فِيهِ فِي كُلّ مُبَايَعَة بِنَقْدٍ , وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَب إِنَّمَا هُوَ فِي قَلِيل كَالْمَطْعُومِ وَنَحْوه لَا فِي كَثِير كَالْأَمْلَاكِ وَنَحْوهَا . وَقَالَ السُّدِّيّ وَالضَّحَّاك : هَذَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ .

قَوْله تَعَالَى : " تُدِيرُونَهَا بَيْنكُمْ " يَقْتَضِي التَّقَابُض وَالْبَيْنُونَة بِالْمَقْبُوضِ . وَلَمَّا كَانَتْ الرُّبَاع وَالْأَرْض وَكَثِير مِنْ الْحَيَوَان لَا يَقْبَل الْبَيْنُونَة وَلَا يُغَاب عَلَيْهِ , حَسُنَ الْكَتْب فِيهَا وَلَحِقَتْ فِي ذَلِكَ مُبَايَعَة الدَّيْن , فَكَانَ الْكِتَاب تَوَثُّقًا لِمَا عَسَى أَنْ يَطْرَأ مِنْ اِخْتِلَاف الْأَحْوَال وَتَغَيُّر الْقُلُوب . فَأَمَّا إِذَا تَفَاصَلَا فِي الْمُعَامَلَة وَتَقَابَضَا وَبَانَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا اِبْتَاعَهُ مِنْ صَاحِبه , فَيَقِلّ فِي الْعَادَة خَوْف التَّنَازُع إِلَّا بِأَسْبَابٍ غَامِضَة . وَنَبَّهَ الشَّرْع عَلَى هَذِهِ الْمَصَالِح فِي حَالَتَيْ النَّسِيئَة وَالنَّقْد وَمَا يُغَاب عَلَيْهِ وَمَا لَا يُغَاب , بِالْكِتَابِ وَالشَّهَادَة وَالرَّهْن . قَالَ الشَّافِعِيّ : الْبُيُوع ثَلَاثَة : بَيْع بِكِتَابٍ وَشُهُود , وَبَيْع بُرْهَان , وَبَيْع بِأَمَانَةٍ , وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة . وَكَانَ اِبْن عُمَر إِذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ , وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ .


قَالَ الطَّبَرِيّ : مَعْنَاهُ وَأَشْهِدُوا عَلَى صَغِير ذَلِكَ وَكَبِيره . وَاخْتَلَفَ النَّاس هَلْ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب أَوْ النَّدْب , فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَابْن عُمَر وَالضَّحَّاك وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَجَابِر بْن زَيْد وَمُجَاهِد وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَابْنه أَبُو بَكْر . هُوَ عَلَى الْوُجُوب , وَمِنْ أَشَدّهمْ فِي ذَلِكَ عَطَاء قَالَ : أَشْهِدْ إِذَا بِعْت وَإِذَا اِشْتَرَيْت بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْف دِرْهَم أَوْ ثُلُث أَوْ أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : " وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ " . وَعَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ : أَشْهِدْ إِذَا بِعْت وَإِذَا اِشْتَرَيْت وَلَوْ دَسْتَجَة بَقل . وَمِمَّنْ كَانَ يَذْهَب إِلَى هَذَا وَيُرَجِّحهُ الطَّبَرِيّ , وَقَالَ : لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ إِذَا بَاعَ وَإِذَا اِشْتَرَى إِلَّا أَنْ يُشْهِد , وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَكَذَا إِنْ كَانَ إِلَى أَجَل فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتُب وَيُشْهِد إِنْ وَجَدَ كَاتِبًا . وَذَهَبَ الشَّعْبِيّ وَالْحَسَن إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّدْب وَالْإِرْشَاد لَا عَلَى الْحَتْم . وَيُحْكَى أَنَّ هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَزَعَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ هَذَا قَوْل الْكَافَّة , قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيح . وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَد مِمَّنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ إِلَّا الضَّحَّاك . قَالَ وَقَدْ بَاعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ . قَالَ : وَنُسْخَة كِتَابه : ( بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم . هَذَا مَا اِشْتَرَى الْعَدَّاء بْن خَالِد بْن هَوْذَة مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , اِشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا - أَوْ أَمَة - لَا دَاء وَلَا غَائِلَة وَلَا خَبَثَة بَيْع الْمُسْلِم الْمُسْلِم ) . وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِد , وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعه عِنْد يَهُودِيّ وَلَمْ يُشْهِد . وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَاد أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْن لِخَوْفِ الْمُنَازَعَة .

قُلْت : قَدْ ذَكَرْنَا الْوُجُوب عَنْ غَيْر الضَّحَّاك . وَحَدِيث الْعَدَّاء هَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو دَاوُد . وَكَانَ إِسْلَامه بَعْد الْفَتْح وَحُنَيْن , وَهُوَ الْقَائِل : قَاتَلْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حُنَيْن فَلَمْ يُظْهِرنَا اللَّه وَلَمْ يَنْصُرنَا , ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامه . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر , وَذَكَرَ حَدِيثه هَذَا , وَقَالَ فِي آخِره : قَالَ الْأَصْمَعِيّ : سَأَلْت سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ الْغَائِلَة فَقَالَ : الْإِبَاق وَالسَّرِقَة وَالزِّنَا , وَسَأَلْته عَنْ الْخَبَثَة فَقَالَ : بَيْع أَهْل عَهْد الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : وَالْوُجُوب فِي ذَلِكَ قَلِق , أَمَّا فِي الدَّقَائِق فَصَعْب شَاقّ , وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِد التَّاجِر الِاسْتِئْلَاف بِتَرْكِ الْإِشْهَاد , وَقَدْ يَكُون عَادَة فِي بَعْض الْبِلَاد , وَقَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ الْعَالِم وَالرَّجُل الْكَبِير الْمُوَقَّر فَلَا يُشْهِد عَلَيْهِ , فَيَدْخُل ذَلِكَ كُلّه فِي الِائْتِمَان وَيَبْقَى الْأَمْر بِالْإِشْهَادِ نَدْبًا , لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَة فِي الْأَغْلَب مَا لَمْ يَقَع عُذْر يَمْنَع مِنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ وَالنَّحَّاس وَمَكِّيّ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا : " وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ " مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ : " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا " [ الْبَقَرَة : 283 ] وَأَسْنَدَهُ النَّحَّاس عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ , وَأَنَّهُ تَلَا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَل مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ " إِلَى قَوْله : " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَته " [ الْبَقَرَة : 283 ] , قَالَ : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة مَا قَبْلهَا . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل الْحَسَن وَالْحَكَم وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد . قَالَ الطَّبَرِيّ : وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّ هَذَا حُكْم غَيْر , الْأَوَّل , وَإِنَّمَا هَذَا حُكْم مَنْ لَمْ يَجِد كَاتِبًا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَان مَقْبُوضَة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا - أَيْ فَلَمْ يُطَالِبهُ بِرَهْنٍ - فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَته " [ الْبَقَرَة : 283 ] . قَالَ : وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُون هَذَا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لَجَازَ أَنْ يَكُون قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " [ النِّسَاء : 43 ] الْآيَة نَاسِخًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة " [ الْمَائِدَة : 5 ] الْآيَة وَلَجَازَ أَنْ يَكُون قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " [ النِّسَاء : 92 ] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤْمِنَة " [ النِّسَاء : 92 ] وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا " لَمْ يَتَبَيَّن تَأَخُّر نُزُوله عَنْ صَدْر الْآيَة الْمُشْتَمِلَة عَلَى الْأَمْر بِالْإِشْهَادِ , بَلْ وَرَدَا مَعًا . وَلَا يَجُوز أَنْ يَرِد النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ مَعًا جَمِيعًا فِي حَالَة وَاحِدَة . قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : إِنَّ آيَة الدَّيْن مَنْسُوخَة قَالَ : لَا وَاَللَّه إِنَّ آيَة الدَّيْن مُحْكَمَة لَيْسَ فِيهَا نَسْخ قَالَ : وَالْإِشْهَاد إِنَّمَا جُعِلَ لِلطُّمَأْنِينَةِ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ لِتَوْثِيقِ الدَّيْن طُرُقًا , مِنْهَا الْكِتَاب , وَمِنْهَا الرَّهْن , وَمِنْهَا الْإِشْهَاد . وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْأَمْصَار أَنَّ الرَّهْن مَشْرُوع بِطَرِيقِ النَّدْب لَا بِطَرِيقِ الْوُجُوب . فَيُعْلَم مِنْ ذَلِكَ مِثْله فِي الْإِشْهَاد . وَمَا زَالَ النَّاس يَتَبَايَعُونَ حَضَرًا وَسَفَرًا وَبَرًّا وَبَحْرًا وَسَهْلًا وَجَبَلًا مِنْ غَيْر إِشْهَاد مَعَ عِلْم النَّاس بِذَلِكَ مِنْ غَيْر نَكِير , وَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَاد مَا تَرَكُوا النَّكِير عَلَى تَارِكه .

قُلْت : هَذَا كُلّه اِسْتِدْلَال حَسَن , وَأَحْسَن مِنْهُ مَا جَاءَ مِنْ صَرِيح السُّنَّة فِي تَرْك الْإِشْهَاد , وَهُوَ مَا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ طَارِق بْن عَبْد اللَّه الْمُحَارِبِيّ قَالَ : ( أَقْبَلْنَا فِي رَكْب مِنْ الرَّبْذَة وَجَنُوب الرَّبْذَة : حَتَّى نَزَلْنَا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَة وَمَعَنَا ظَعِينَة لَنَا . فَبَيْنَا نَحْنُ قُعُود إِذْ أَتَانَا رَجُل عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ , فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْم ؟ فَقُلْنَا : مِنْ الرَّبْذَة وَجَنُوب الرَّبْذَة . قَالَ : وَمَعَنَا جَمَل أَحْمَر , فَقَالَ : تَبِيعُونِي جَمَلكُمْ هَذَا ؟ فَقُلْنَا نَعَمْ . قَالَ بِكَمْ ؟ قُلْنَا : بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْر . قَالَ : فَمَا اِسْتَوْضَعَنَا شَيْئًا وَقَالَ : قَدْ أَخَذْته , ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْسِ الْجَمَل حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَة فَتَوَارَى عَنَّا , فَتَلَاوَمْنَا بَيْننَا وَقُلْنَا : أَعْطَيْتُمْ جَمَلكُمْ مَنْ لَا تَعْرِفُونَهُ ! فَقَالَتْ الظَّعِينَة : لَا تَلَاوَمُوا فَقَدْ رَأَيْت وَجْه رَجُل مَا كَانَ لِيَخْفِركُمْ . مَا رَأَيْت وَجْه رَجُل أَشْبَه بِالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر مِنْ وَجْهه . فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاء أَتَانَا رَجُل فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ , أَنَا رَسُول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ , وَإِنَّهُ أَمَرَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا حَتَّى تَشْبَعُوا , وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا . قَالَ : فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا , وَاكْتَلْنَا حَتَّى اِسْتَوْفَيْنَا ) . وَذَكَرَ الْحَدِيث الزُّهْرِيّ عَنْ عُمَارَة بْن خُزَيْمَة أَنَّ عَمّه حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيّ , الْحَدِيث . وَفِيهِ : فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيّ يَقُول : هَلُمَّ شَاهِدًا يَشْهَد أَنِّي بِعْتُك - قَالَ خُزَيْمَة بْن ثَابِت : أَنَا أَشْهَد أَنَّك قَدْ بِعْته . فَأَقْبَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَة فَقَالَ : ( بِمَ تَشْهَد ) ؟ فَقَالَ : بِتَصْدِيقِك يَا رَسُول اللَّه . قَالَ : فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَة خُزَيْمَة بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَغَيْره .


لَا يَكْتُب الْكَاتِب مَا لَمْ يُمَلّ عَلَيْهِ , وَلَا يَزِيد الشَّاهِد فِي شَهَادَته وَلَا يُنْقِص مِنْهَا . قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة وَطَاوُس وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعَطَاء أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِع الْكَاتِب أَنْ يَكْتُب وَلَا الشَّاهِد أَنْ يَشْهَد . " وَلَا يُضَارّ " عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَصْله يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاء , ثُمَّ وَقَعَ الْإِدْغَام , وَفُتِحَتْ الرَّاء فِي الْجَزْم لِخِفَّةِ الْفَتْحَة . قَالَ النَّحَّاس : وَرَأَيْت أَبَا إِسْحَاق يَمِيل إِلَى هَذَا الْقَوْل , قَالَ : لِأَنَّ بَعْده . " وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوق بِكُمْ " [ الْبَقَرَة : 282 ] فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُون , مَنْ شَهِدَ بِغَيْرِ الْحَقّ أَوْ حَرَّفَ فِي الْكِتَابَة أَنْ يُقَال لَهُ : فَاسِق , فَهُوَ أَوْلَى بِهَذَا مِمَّنْ سَأَلَ شَاهِدًا أَنْ يَشْهَد وَهُوَ مَشْغُول . وَقَرَأَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عَبَّاس وَابْن أَبِي إِسْحَاق يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاء الْأُولَى . وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَطَاوُس وَالسُّدِّيّ وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس : مَعْنَى الْآيَة ( وَلَا يُضَارّ كَاتِب وَلَا شَهِيد ) بِأَنْ يُدْعَى الشَّاهِد إِلَى الشَّهَادَة وَالْكَاتِب إِلَى الْكَتْب وَهُمَا مَشْغُولَانِ , فَإِذَا اِعْتَذَرَا بِعُذْرِهِمَا أَخْرَجَهُمَا وَآذَاهُمَا , وَقَالَ : خَالَفْتُمَا أَمْر اللَّه , وَنَحْو هَذَا مِنْ الْقَوْل , فَيُضِرّ بِهِمَا . وَأَصْل " يُضَارّ " عَلَى هَذَا يُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاء , وَكَذَا قَرَأَ اِبْن مَسْعُود " يُضَارَرْ " بِفَتْحِ الرَّاء الْأُولَى , فَنَهَى اللَّه سُبْحَانه عَنْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ لَكَانَ فِيهِ شَغْل لَهُمَا عَنْ أَمْر دِينهمَا وَمَعَاشهمَا . وَلَفْظ الْمُضَارَّة , إِذْ هُوَ مِنْ اِثْنَيْنِ , يَقْتَضِي هَذِهِ الْمَعَانِي . وَالْكَاتِب وَالشَّهِيد عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ رُفِعَ بِفِعْلِهِمَا , وَعَلَى الْقَوْل الثَّالِث رُفِعَ عَلَى الْمَفْعُول الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِله .


يَعْنِي الْمُضَارَّة .


أَيْ مَعْصِيَة , عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ . فَالْكَاتِب وَالشَّاهِد يَعْصِيَانِ بِالزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَان , وَذَلِكَ مِنْ الْكَذِب الْمُؤْذِي فِي الْأَمْوَال وَالْأَبْدَان , وَفِيهِ إِبْطَال الْحَقّ . وَكَذَلِكَ إِذَايَتهُمَا إِذَا كَانَا مَشْغُولَيْنِ مَعْصِيَة وَخُرُوج عَنْ الصَّوَاب مِنْ حَيْثُ الْمُخَالَفَة لِأَمْرِ اللَّه . وَقَوْله " بِكُمْ " تَقْدِيره فُسُوق حَالّ بِكُمْ .


وَعْد مِنْ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ اِتَّقَاهُ عَلَّمَهُ , أَيْ يَجْعَل فِي قَلْبه نُورًا يَفْهَم بِهِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ , وَقَدْ يَجْعَل اللَّه فِي قَلْبه اِبْتِدَاء فُرْقَانًا , أَيْ فَيْصَلًا يَفْصِل بِهِ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّه يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَانًا " [ الْأَنْفَال : 29 ] . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 283
لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى النَّدْب إِلَى الْإِشْهَاد وَالْكَتْب لِمَصْلَحَةِ حِفْظ الْأَمْوَال وَالْأَدْيَان , عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَال الْأَعْذَار الْمَانِعَة مِنْ الْكَتْب , وَجَعَلَ لَهَا الرَّهْن , وَنَصَّ مِنْ أَحْوَال الْعُذْر عَلَى السَّفَر الَّذِي هُوَ غَالِب الْأَعْذَار , لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِكَثْرَةِ الْغَزْو , وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى كُلّ عُذْر . فَرُبَّ وَقْت يَتَعَذَّر فِيهِ الْكَاتِب فِي الْحَضَر كَأَوْقَاتِ أَشْغَال النَّاس وَبِاللَّيْلِ , وَأَيْضًا فَالْخَوْف عَلَى خَرَاب ذِمَّة الْغَرِيم عُذْر يُوجِب طَلَب الرَّهْن . وَقَدْ رَهَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعه عِنْد يَهُودِيّ طَلَب مِنْهُ سَلَف الشَّعِير فَقَالَ : إِنَّمَا يُرِيد مُحَمَّد أَنْ يَذْهَب بِمَالِي . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَذَبَ إِنِّي لَأَمِين فِي الْأَرْض أَمِين فِي السَّمَاء وَلَوْ اِئْتَمَنَنِي لَأَدَّيْت اِذْهَبُوا إِلَيْهِ بِدِرْعِي ) فَمَاتَ وَدِرْعه مَرْهُونَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه آنِفًا .

قَالَ جُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء : الرَّهْن فِي السَّفَر بِنَصِّ التَّنْزِيل , وَفِي الْحَضَر ثَابِت بِسُنَّةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَذَا صَحِيح . وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازه فِي الْحَضَر مِنْ الْآيَة بِالْمَعْنَى , إِذْ قَدْ تَتَرَتَّب الْأَعْذَار فِي الْحَضَر , وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَد مَنْعه فِي الْحَضَر سِوَى مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَدَاوُد , مُتَمَسِّكِينَ بِالْآيَةِ . وَلَا حُجَّة فِيهَا ; لِأَنَّ هَذَا الْكَلَام وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَج الشَّرْط فَالْمُرَاد بِهِ غَالِب الْأَحْوَال . وَلَيْسَ كَوْن الرَّهْن فِي الْآيَة فِي السَّفَر مِمَّا يُحْظَر فِي غَيْره . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَرَى مِنْ يَهُودِيّ طَعَامًا إِلَى أَجَل وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيد . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ : تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعه مَرْهُونَة عِنْد يَهُودِيّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِير لِأَهْلِهِ .



قَرَأَ الْجُمْهُور " كَاتِبًا " بِمَعْنَى رَجُل يَكْتُب . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَعِكْرِمَة وَأَبُو الْعَالِيَة " وَلَمْ تَجِدُوا كِتَابًا " . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : فَسَّرَهُ مُجَاهِد فَقَالَ : مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مِدَادًا يَعْنِي فِي الْأَسْفَار . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " كُتَّابًا " . قَالَ النَّحَّاس : هَذِهِ الْقِرَاءَة شَاذَّة وَالْعَامَّة عَلَى خِلَافهَا . وَقَلَّمَا يَخْرُج شَيْء عَنْ قِرَاءَة الْعَامَّة إِلَّا وَفِيهِ مَطْعَن , وَنَسَق الْكَلَام عَلَى كَاتِب , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَبْل هَذَا : " وَلْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كَاتِب بِالْعَدْلِ " وَكُتَّاب يَقْتَضِي جَمَاعَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : كُتَّابًا يَحْسُن مِنْ حَيْثُ لِكُلِّ نَازِلَة كَاتِب , فَقِيلَ لِلْجَمَاعَةِ : وَلَمْ تَجِدُوا كُتَّابًا . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَة أَنَّهُ قَرَأَ " كُتُبًا " وَهَذَا جَمْع كِتَاب مِنْ حَيْثُ النَّوَازِل مُخْتَلِفَة . وَأَمَّا قِرَاءَة أُبَيّ وَابْن عَبَّاس " كِتَابًا " فَقَالَ النَّحَّاس وَمَكِّيّ : هُوَ جَمْع كَاتِب كَقَائِمٍ وَقِيَام . مَكِّيّ : الْمَعْنَى وَإِنْ عُدِمَتْ الدَّوَاة وَالْقَلَم وَالصَّحِيفَة . وَنَفْي وُجُود الْكَاتِب يَكُون بِعُدْمِ أَيّ آلَة اِتَّفَقَ , وَنَفْي الْكَاتِب أَيْضًا يَقْتَضِي نَفْي الْكِتَاب , فَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ إِلَّا مِنْ جِهَة خَطّ الْمُصْحَف .


فِيهَا ثَلَاثَة عَشَر مَسْأَلَة :

الْأُولَى : وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير " فَرُهُن " بِضَمِّ الرَّاء وَالْهَاء , وَرُوِيَ عَنْهُمَا تَخْفِيف الْهَاء . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : تَأَوَّلَ قَوْم أَنَّ " رُهُنًا " بِضَمِّ الرَّاء وَالْهَاء جَمْع رِهَان , فَهُوَ جَمْع جَمْعٍ , وَحَكَاهُ الزَّجَّاج عَنْ الْفَرَّاء . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : " فَرِهَان " اِبْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف . وَالْمَعْنَى فَرِهَان مَقْبُوضَة يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ . قَالَ النَّحَّاس : وَقَرَأَ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود " فَرَهْن " بِإِسْكَانِ الْهَاء , وَيُرْوَى عَنْ أَهْل مَكَّة . وَالْبَاب فِي هَذَا " رِهَان " , كَمَا يُقَال : بَغْل وَبِغَال , وَكَبْش وَكِبَاش , وَرُهُن سَبِيله أَنْ يَكُون جَمْع رِهَان , مِثْل كِتَاب وَكُتُب . وَقِيلَ : هُوَ جَمْع رَهْن , مِثْل سَقْف وَسُقُف , وَحَلْق وَحُلُق , وَفَرْش وَفُرُش , وَنَشْر وَنُشُر , وَشَبَهه . " وَرَهْن " بِإِسْكَانِ الْهَاء سَبِيله أَنْ تَكُون الضَّمَّة حُذِفَتْ لِثِقَلِهَا . وَقِيلَ : هُوَ جَمْع رُهُن , مِثْل سَهْم حَشْر أَيْ دَقِيق , وَسِهَام حَشْر . وَالْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّ الْأَوَّل لَيْسَ بِنَعْتٍ وَهَذَا نَعْت . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : وَتَكْسِير " رَهْن " عَلَى أَقَلّ الْعَدَد لَمْ أَعْلَمهُ جَاءَ , فَلَوْ جَاءَ كَانَ قِيَاسه أَفْعُلًا كَكَلْبٍ وَأَكْلُب , وَكَأَنَّهُمْ اِسْتَغْنَوْا بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِير , كَمَا اُسْتُغْنِيَ بِبِنَاءِ الْكَثِير عَنْ بِنَاء الْقَلِيل فِي قَوْلهمْ : ثَلَاثَة شُسُوع , وَقَدْ اُسْتُغْنِيَ بِبِنَاءِ الْقَلِيل عَنْ الْكَثِير فِي رَسْن وَأَرْسَان , فَرَهْن يُجْمَع عَلَى بِنَاءَيْنِ وَهُمَا فُعُل وَفِعَال . الْأَخْفَش : فُعُل عَلَى فِعْل قَبِيح وَهُوَ قَلِيل شَاذّ , قَالَ : وَقَدْ يَكُون " رُهُن " جَمْعًا لِلرِّهَانِ , كَأَنَّهُ يُجْمَع رَهْن عَلَى رِهَان , ثُمَّ يُجْمَع رِهَان عَلَى رُهُن , مِثْل فِرَاش وَفُرُش .

الثَّانِيَة : مَعْنَى الرَّهْن : اِحْتِبَاس الْعَيْن وَثِيقَة بِالْحَقِّ لِيُسْتَوْفَى الْحَقّ مِنْ ثَمَنهَا أَوْ مِنْ ثَمَن مَنَافِعهَا عِنْد تَعَذُّر أَخْذه مِنْ الْغَرِيم , وَهَكَذَا حَدَّهُ الْعُلَمَاء , وَهُوَ فِي كَلَام الْعَرَب بِمَعْنَى الدَّوَام وَالِاسْتِمْرَار . وَقَالَ اِبْن سِيدَه : وَرَهَنَهُ أَيْ أَدَامَهُ , وَمِنْ رَهَنَ بِمَعْنَى دَامَ قَوْل الشَّاعِر : الْخُبْز وَاللَّحْم لَهُمْ رَاهِن وَقَهْوَة وَمَا رَاوُوقهَا سَاكِب قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَرَهَنَ الشَّيْء رَهْنًا أَيْ دَامَ . وَأَرْهَنْت لَهُمْ الطَّعَام وَالشَّرَاب أَدَمْته لَهُمْ , وَهُوَ طَعَام رَاهِن . وَالرَّاهِن : الثَّابِت , وَالرَّاهِن : الْمَهْزُول مِنْ الْإِبِل وَالنَّاس , قَالَ : إِمَّا تَرَيْ جِسْمِي خَلًّا قَدْ رَهَنَ هَزْلًا وَمَا مَجْد الرِّجَال فِي السِّمَنْ/ قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُقَال فِي مَعْنَى الرَّهْن الَّذِي هُوَ الْوَثِيقَة مِنْ الرَّهْن : أَرْهَنْت إِرْهَانًا , حَكَاهُ بَعْضهمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : أَرْهَنْت فِي الْمُغَالَاة , وَأَمَّا فِي الْقَرْض وَالْبَيْع فَرَهَنْت . وَقَالَ أَبُو زَيْد : أَرْهَنْت فِي السِّلْعَة إِرْهَانًا : غَالَيْت بِهَا , وَهُوَ فِي الْغَلَاء خَاصَّة . قَالَ : عِيدِيَّة أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِير يَصِف نَاقَة . وَالْعِيد بَطْن مِنْ مَهْرَة وَإِبِل مَهْرَة مَوْصُوفَة بِالنَّجَابَةِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : يُقَال فِي الرَّهْن : رَهَنْت وَأَرْهَنْت , وَقَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَالْأَخْفَش . قَالَ عَبْد اللَّه بْن هَمَّام السَّلُولِيّ : فَلَمَّا خَشِيت أَظَافِيرهمْ نَجَوْت وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكًا قَالَ ثَعْلَب : الرُّوَاة كُلّهمْ عَلَى أَرْهَنْتُهُمْ , عَلَى أَنَّهُ يَجُوز رَهَنْته وَأَرْهَنْتُهُ , إِلَّا الْأَصْمَعِيّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ وَأَرْهَنهُمْ , عَلَى أَنَّهُ عَطْف بِفِعْلٍ مُسْتَقْبَل عَلَى فِعْل مَاضٍ , وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِمْ : قُمْت وَأَصُكّ وَجْهه , وَهُوَ مَذْهَب حَسَن ; لِأَنَّ الْوَاو وَاو الْحَال , فَجَعَلَ أَصُكّ حَالًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّل عَلَى مَعْنَى قُمْت صَاكًّا وَجْهه , أَيْ تَرَكْته مُقِيمًا عِنْدهمْ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَال : أَرْهَنْت الشَّيْء , وَإِنَّمَا يُقَال : رَهَنْته . وَتَقُول : رَهَنْت لِسَانِي بِكَذَا , وَلَا يُقَال فِيهِ : أَرْهَنْت . وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : أَرْهَنْت فِيهَا بِمَعْنَى أَسْلَفْت . وَالْمُرْتَهِن : الَّذِي يَأْخُذ الرَّهْن . وَالشَّيْء مَرْهُون وَرَهِين , وَالْأُنْثَى رَهِينَة . وَرَاهَنْت فُلَانًا عَلَى كَذَا مُرَاهَنَة : خَاطَرْته . وَأَرْهَنْت بِهِ وَلَدِي إِرْهَانًا : أَخْطَرْتهمْ بِهِ خَطَرًا . وَالرَّهِينَة وَاحِدَة , الرَّهَائِن , كُلّه عَنْ الْجَوْهَرِيّ . اِبْن عَطِيَّة : وَيُقَال بِلَا خِلَاف فِي الْبَيْع وَالْقَرْض : رَهَنْت رَهْنًا , ثُمَّ سُمِّيَ بِهَذَا الْمَصْدَر الشَّيْء الْمَدْفُوع تَقُول : رَهَنْت رَهْنًا , كَمَا تَقُول رَهَنْت ثَوْبًا .

الثَّالِثَة : قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَلَمَّا كَانَ الرَّهْن بِمَعْنَى الثُّبُوت , وَالدَّوَام فَمِنْ ثَمَّ بَطَلَ الرَّهْن عِنْد الْفُقَهَاء إِذَا خَرَجَ مِنْ يَد الْمُرْتَهِن إِلَى الرَّاهِن بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; لِأَنَّهُ فَارَقَ مَا جُعِلَ بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِن لَهُ .

قُلْت : هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَد عِنْدنَا فِي أَنَّ الرَّهْن مَتَى رَجَعَ إِلَى الرَّاهِن بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِن بَطَلَ الرَّهْن , وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَة , غَيْر أَنَّهُ قَالَ : إِنْ رَجَعَ بِعَارِيَةٍ أَوْ وَدِيعَة لَمْ يَبْطُل . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنَّ رُجُوعه إِلَى يَد الرَّاهِن مُطْلَقًا لَا يُبْطِل حُكْم الْقَبْض الْمُتَقَدِّم , وَدَلِيلنَا " فَرِهَان مَقْبُوضَة " , فَإِذَا خَرَجَ عَنْ يَد الْقَابِض لَمْ يَصْدُق ذَلِكَ اللَّفْظ عَلَيْهِ لُغَة , فَلَا يَصْدُق عَلَيْهِ حُكْمًا , وَهَذَا وَاضِح .

الرَّابِعَة : إِذَا رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضهُ فِعْلًا لَمْ يُوجِب ذَلِكَ , حُكْمًا , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَرِهَان مَقْبُوضَة " قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمْ يَجْعَل اللَّه الْحُكْم إِلَّا بِرَهْنٍ مَوْصُوف بِالْقَبْضِ , فَإِذَا عُدِمَتْ الصِّفَة وَجَبَ أَنْ يُعْدَم الْحُكْم , وَهَذَا ظَاهِر جِدًّا . وَقَالَتْ الْمَالِكِيَّة : يَلْزَم الرَّهْن بِالْعَقْدِ وَيُجْبَر الرَّاهِن عَلَى دَفْع الرَّهْن لِيَحُوزَهُ الْمُرْتَهِن , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَوْفُوا بِالْعُقُودِ " [ الْمَائِدَة : 1 ] وَهَذَا عَقْد , وَقَوْله " بِالْعَهْدِ " [ الْإِسْرَاء : 34 ] وَهَذَا عَهْد . وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شُرُوطهمْ ) وَهَذَا شَرْط , فَالْقَبْض عِنْدنَا شَرْط فِي كَمَالِ فَائِدَته . وَعِنْدهمَا شَرْط فِي لُزُومه وَصِحَّته .

الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : " مَقْبُوضَة " يَقْتَضِي بَيْنُونَة الْمُرْتَهِن بِالرَّهْنِ . وَأَجْمَعَ النَّاس عَلَى صِحَّة قَبْض الْمُرْتَهِن , وَكَذَلِكَ عَلَى قَبْض وَكِيله . وَاخْتَلَفُوا فِي قَبْض عَدْل يُوضَع الرَّهْن عَلَى يَدَيْهِ , فَقَالَ مَالِك وَجَمِيع أَصْحَابه وَجُمْهُور الْعُلَمَاء : قَبْض الْعَدْل قَبْض . وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَة وَالْحَكَم وَعَطَاء : لَيْسَ بِقَبْضٍ , وَلَا يَكُون مَقْبُوضًا إِلَّا إِذَا كَانَ عِنْد الْمُرْتَهِن , وَرَأَوْا ذَلِكَ تَعَبُّدًا . وَقَوْل الْجُمْهُور أَصَحّ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ عِنْد الْعَدْل صَارَ مَقْبُوضًا لُغَة وَحَقِيقَة , لِأَنَّ الْعَدْل نَائِب عَنْ صَاحِب الْحَقّ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَكِيل , وَهَذَا ظَاهِر .

السَّادِسَة : وَلَوْ وَضَعَ الرَّهْن عَلَى يَدَيْ عَدْل فَضَاعَ لَمْ يَضْمَن الْمُرْتَهِن وَلَا الْمَوْضُوع عَلَى يَده ; لِأَنَّ الْمُرْتَهِن لَمْ يَكُنْ فِي يَده شَيْء يَضْمَنهُ . وَالْمَوْضُوع عَلَى يَده أَمِين وَالْأَمِين غَيْر ضَامِن .

السَّابِعَة : لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " مَقْبُوضَة " قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِيهِ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقه جَوَاز رَهْن الْمَشَاع . خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه , لَا يَجُوز عِنْدهمْ أَنْ يَرْهَنهُ ثُلُث دَار وَلَا نِصْفًا مِنْ عَبْد وَلَا سَيْف , ثُمَّ قَالُوا : إِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُل مَال هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ فَرَهَنَهُمَا بِذَلِكَ أَرْضًا فَهُوَ جَائِز إِذَا قَبَضَاهَا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا إِجَازَة رَهْن الْمَشَاع ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مُرْتَهِن نِصْف دَار . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : رَهْن الْمَشَاع جَائِز كَمَا يَجُوز بَيْعه .

الثَّامِنَة : وَرَهْن مَا فِي الذِّمَّة جَائِز عِنْد عُلَمَائِنَا ; لِأَنَّهُ مَقْبُوض خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ , وَمِثَاله رَجُلَانِ تَعَامَلَا لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر دَيْن فَرَهَنَهُ دَيْنه الَّذِي عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَكُلّ عَرْض جَازَ بَيْعه جَازَ رَهْنه , وَلِهَذِهِ الْعِلَّة جَوَّزْنَا رَهْن مَا فِي الذِّمَّة ; لِأَنَّ بَيْعه جَائِز , وَلِأَنَّهُ مَال تَقَع الْوَثِيقَة بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُون رَهْنًا , قِيَاسًا عَلَى سِلْعَة مَوْجُودَة . وَقَالَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ : لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّق إِقْبَاضه وَالْقَبْض شَرْط فِي لُزُوم الرَّهْن ; لِأَنَّهُ لَا بُدّ أَنْ يُسْتَوْفَى الْحَقّ مِنْهُ عِنْد الْمَحِلّ , وَيَكُون الِاسْتِيفَاء مِنْ مَالِيَّته لَا مِنْ عَيْنه وَلَا يُتَصَوَّر ذَلِكَ فِي الدَّيْن .

التَّاسِعَة : رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الظَّهْر يُرْكَب بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَن الدَّرّ يُشْرَب بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَب وَيَشْرَب النَّفَقَة ) . وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود وَقَالَ بَدَل ( يُشْرَب ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ : ( يُحْلَب ) . قَالَ الْخَطَّابِيّ : هَذَا كَلَام مُبْهَم لَيْسَ فِي نَفْس اللَّفْظ بَيَان مَنْ يَرْكَب وَيَحْلُب , هَلْ الرَّاهِن أَوْ الْمُرْتَهِن أَوْ الْعَدْل الْمَوْضُوع عَلَى يَده الرَّهْن ؟ .

قُلْت : قَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا مُفَسَّرًا فِي حَدِيثَيْنِ , وَبِسَبَبِهِمَا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ , فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ذَكَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا كَانَتْ الدَّابَّة مَرْهُونَة فَعَلَى الْمُرْتَهِن عَلْفهَا وَلَبَن الدَّرّ يُشْرَب وَعَلَى الَّذِي يَشْرَب نَفَقَته ) . أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن الْعَلَاء حَدَّثَنَا زِيَاد بْن أَيُّوب حَدَّثَنَا هُشَيْم حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَهُوَ قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق : أَنَّ الْمُرْتَهِن يَنْتَفِع مِنْ الرَّهْن بِالْحَلْبِ وَالرُّكُوب بِقَدْرِ النَّفَقَة . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : إِذَا كَانَ الرَّاهِن يُنْفِق عَلَيْهِ لَمْ يَنْتَفِع بِهِ الْمُرْتَهِن . وَإِنْ كَانَ الرَّاهِن لَا يُنْفِق عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ , فِي يَد الْمُرْتَهِن فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ فَلَهُ رُكُوبه وَاسْتِخْدَام الْعَبْد . وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث . الْحَدِيث الثَّانِي خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا , وَفِي إِسْنَاده مَقَال وَيَأْتِي بَيَانه - مِنْ حَدِيث إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يُغْلَق الرَّهْن وَلِصَاحِبِهِ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ) . وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَالشَّعْبِيّ وَابْن سِيرِينَ . وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه . قَالَ الشَّافِعِيّ : مَنْفَعَة الرَّهْن لِلرَّاهِنِ , وَنَفَقَته عَلَيْهِ , وَالْمُرْتَهِن لَا يَنْتَفِع بِشَيْءٍ مِنْ الرَّهْن خَلَا الْإِحْفَاظ لِلْوَثِيقَةِ . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَهُوَ أَوْلَى الْأَقْوَال وَأَصَحّهَا , بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يُغْلَق الرَّهْن مِنْ صَاحِبه الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ) . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَقَوْله : ( مِنْ صَاحِبه أَيْ لِصَاحِبِهِ ) . وَالْعَرَب تَضَع " مِنْ " مَوْضِع اللَّام , كَقَوْلِهِمْ : أَمِنْ أُمّ أَوْفَى دِمْنَة لَمْ تُكَلَّم قُلْت : قَدْ جَاءَ صَرِيحًا ( لِصَاحِبِهِ ) فَلَا حَاجَة لِلتَّأْوِيلِ . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : كَانَ ذَلِكَ وَقْت كَوْن الرِّبَا مُبَاحًا , وَلَمْ يَنْهَ عَنْ قَرْض جَرَّ مَنْفَعَة , وَلَا عَنْ أَخْذ الشَّيْء بِالشَّيْءِ وَإِنْ كَانَا غَيْر مُتَسَاوِيَيْنِ , ثُمَّ حَرَّمَ الرِّبَا بَعْد ذَلِكَ . وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْأَمَة الْمَرْهُونَة لَا يَجُوز لِلرَّاهِنِ أَنْ يَطَأهَا , فَكَذَلِكَ لَا يَجُوز لَهُ خِدْمَتهَا . وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيّ : لَا يُنْتَفَع مِنْ الرَّهْن بِشَيْءٍ . فَهَذَا الشَّعْبِيّ رَوَى الْحَدِيث وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ , وَلَا يَجُوز عِنْده ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مَنْسُوخ . وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ لَبَن الرَّهْن وَظَهْره لِلرَّاهِنِ . وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُون اِحْتِلَاب الْمُرْتَهِن لَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِن أَوْ بِغَيْرِ إِذْنه , فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنه فَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَد مَاشِيَة أَحَد إِلَّا بِإِذْنِهِ ) مَا يَرُدّهُ وَيَقْضِي بِنَسْخِهِ . وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَفِي الْأُصُول الْمُجْتَمَع عَلَيْهَا فِي تَحْرِيم الْمَجْهُول وَالْغَرَر وَبَيْع مَا لَيْسَ عِنْدك وَبَيْع مَا لَمْ يُخْلَق , مَا يَرُدّهُ أَيْضًا , فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل نُزُول تَحْرِيم الرِّبَا . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلَوْ شَرَطَ الْمُرْتَهِن الِانْتِفَاع بِالرَّهْنِ فَلِذَلِكَ حَالَتَانِ : إِنْ كَانَ مِنْ قَرْض لَمْ يَجُزْ , وَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْع أَوْ إِجَارَة جَازَ ; لِأَنَّهُ يَصِير بَائِعًا لِلسِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُور وَمَنَافِع الرَّهْن مُدَّة مَعْلُومَة فَكَأَنَّهُ بَيْع وَإِجَارَة , وَأَمَّا فِي الْقَرْض فَلِأَنَّهُ يَصِير قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَة , وَلِأَنَّ مَوْضُوع الْقَرْض أَنْ يَكُون قُرْبَة , فَإِذَا دَخَلَهُ نَفْع صَارَ زِيَادَة فِي الْجِنْس وَذَلِكَ رِبًا .

الْعَاشِرَة : لَا يَجُوز غَلْق الرَّهْن , وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِط الْمُرْتَهِن أَنَّهُ لَهُ بِحَقِّهِ إِنْ لَمْ يَأْتِهِ بِهِ عِنْد أَجَله . وَكَانَ هَذَا مِنْ فِعْل الْجَاهِلِيَّة فَأَبْطَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( لَا يَغْلَق الرَّهْن ) هَكَذَا قَيَّدْنَاهُ بِرَفْعِ الْقَاف عَلَى الْخَبَر , أَيْ لَيْسَ يَغْلَق الرَّهْن . تَقُول : أَغْلَقْت الْبَاب فَهُوَ مُغْلَق . وَغَلَقَ الرَّهْن فِي يَد مُرْتَهِنه إِذَا لَمْ يَفْتَكّ , قَالَ الشَّاعِر : أَجَارَتنَا مَنْ يَجْتَمِع يَتَفَرَّق وَمَنْ يَكُ رَهْنًا لِلْحَوَادِثِ يُغْلَق وَقَالَ زُهَيْر : وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاك لَهُ يَوْم الْوَدَاع فَأَمْسَى الرَّهْن قَدْ غَلِقَا الْحَادِيَة عَشْرَة : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ زِيَاد بْن سَعْد عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَغْلَق الرَّهْن لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ) . زِيَاد بْن سَعْد أَحَد الْحُفَّاظ الثِّقَات , وَهَذَا إِسْنَاد حَسَن . وَأَخْرَجَهُ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب مُرْسَلًا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَغْلَق الرَّهْن ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَكَذَا رَوَاهُ كُلّ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأ عَنْ مَالِك فِيمَا عَلِمْت , إِلَّا مَعْن بْن عِيسَى فَإِنَّهُ وَصَلَهُ , وَمَعْن ثِقَة , إِلَّا أَنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُون الْخَطَأ فِيهِ مِنْ عَلِيّ بْن عَبْد الْحَمِيد الْغَضَائِرِيّ عَنْ مُجَاهِد بْن مُوسَى عَنْ مَعْن بْن عِيسَى . وَزَادَ فِيهِ أَبُو عَبْد اللَّه عَمْرو عَنْ الْأَبْهَرِيّ بِإِسْنَادِهِ : ( لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ) . وَهَذِهِ اللَّفْظَة قَدْ اِخْتَلَفَ الرُّوَاة فِي رَفْعهَا , فَرَفَعَهَا اِبْن أَبِي ذِئْب وَمَعْمَر وَغَيْرهمَا . وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَقَالَ : قَالَ يُونُس قَالَ اِبْن شِهَاب : وَكَانَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : الرَّهْن مِمَّنْ رَهَنَهُ , لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه , فَأَخْبَرَ اِبْن شِهَاب أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْل سَعِيد لَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إِلَّا أَنَّ مَعْمَرًا ذَكَرَهُ عَنْ اِبْن شِهَاب مَرْفُوعًا , وَمَعْمَر أَثْبَت النَّاس فِي اِبْن شِهَاب . وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعه يَحْيَى بْن أَبِي أَنِيسَة وَيَحْيَى لَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَأَصْل هَذَا الْحَدِيث عِنْد أَهْل الْعِلْم بِالنَّقْلِ مُرْسَل , وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ مِنْ جِهَات كَثِيرَة فَإِنَّهُمْ يُعَلِّلُونَهَا . وَهُوَ مَعَ هَذَا حَدِيث لَا يَرْفَعهُ أَحَد مِنْهُمْ وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيله وَمَعْنَاهُ . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا . قَالَ أَبُو عُمَر : لَمْ يَسْمَعهُ إِسْمَاعِيل مِنْ اِبْن أَبِي ذِئْب وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ عَبَّاد بْن كَثِير عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب , وَعَبَّاد عِنْدهمْ ضَعِيف لَا يُحْتَجّ بِهِ . وَإِسْمَاعِيل عِنْدهمْ أَيْضًا غَيْر مَقْبُول الْحَدِيث إِذَا حَدَّثَ عَنْ غَيْر أَهْل بَلَده , فَإِذَا حَدَّثَ عَنْ الشَّامِيِّينَ فَحَدِيثه مُسْتَقِيم , وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرهمْ فَفِي حَدِيثه خَطَأ كَثِير وَاضْطِرَاب .

الثَّانِيَة عَشْرَة : نَمَاء الرَّهْن دَاخِل مَعَهُ إِنْ كَانَ لَا يَتَمَيَّز كَالسِّمَنِ , أَوْ كَانَ نَسْلًا كَالْوِلَادَةِ وَالنِّتَاج , وَفِي مَعْنَاهُ فَسِيل النَّخْل , وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ غَلَّة وَثَمَرَة وَلَبَن وَصُوف فَلَا يَدْخُل فِيهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطهُ . وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الْأَوْلَاد تَبَع فِي الزَّكَاة لِلْأُمَّهَاتِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَصْوَاف وَالْأَلْبَان وَثَمَر الْأَشْجَار ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي الزَّكَاة وَلَا هِيَ فِي صُوَرهَا وَلَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا تَقُوم مَعَهَا , فَلَهَا حُكْم نَفْسهَا لَا حُكْم الْأَصْل خِلَاف الْوَلَد وَالنِّتَاج . وَاَللَّه أَعْلَم بِصَوَابِ ذَلِكَ .

الثَّالِثَة عَشْرَة : وَرَهْن مَنْ أَحَاطَ الدَّيْن بِمَالِهِ جَائِز مَا لَمْ يُفْلِس , وَيَكُون الْمُرْتَهِن أَحَقّ بِالرَّهْنِ مِنْ الْغُرَمَاء , قَالَهُ مَالِك وَجَمَاعَة مِنْ النَّاس . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك خِلَاف هَذَا - وَقَالَهُ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة - إِنَّ الْغُرَمَاء يَدْخُلُونَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحْجَر عَلَيْهِ فَتَصَرُّفَاته صَحِيحَة فِي كُلّ أَحْوَاله مِنْ بَيْع وَشِرَاء , وَالْغُرَمَاء عَامَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ يَبِيع وَيَشْتَرِي وَيَقْضِي , لَمْ يَخْتَلِف قَوْل مَالِك فِي هَذَا الْبَاب , فَكَذَلِكَ الرَّهْن . وَاَللَّه أَعْلَم .


شَرْط رُبِطَ بِهِ وَصِيَّة الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ بِالْأَدَاءِ وَتَرْك الْمَطْل . يَعْنِي إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ أَمِينًا عِنْد صَاحِب الْحَقّ وَثَّقَهُ فَلْيُؤَدِّ لَهُ مَا عَلَيْهِ اُؤْتُمِنَ .


" فَلْيُؤَدِّ " مِنْ الْأَدَاء مَهْمُوز , وَهُوَ جَوَاب الشَّرْط وَيَجُوز تَخْفِيف هَمْزه فَتُقْلَب الْهَمْزَة وَاوًا وَلَا تُقْلَب أَلِفًا وَلَا تُجْعَل بَيْن بَيْن ; لِأَنَّ الْأَلِف لَا يَكُون , مَا قَبْلهَا إِلَّا مَفْتُوحًا . وَهُوَ أَمْر مَعْنَاهُ الْوُجُوب , بِقَرِينَةِ الْإِجْمَاع عَلَى وُجُوب أَدَاء الدُّيُون , وَثُبُوت حُكْم الْحَاكِم بِهِ وَجَبْرِهِ الْغُرَمَاء عَلَيْهِ , وَبِقَرِينَةِ الْأَحَادِيث الصِّحَاح فِي تَحْرِيم مَال الْغَيْر .

" أَمَانَته " الْأَمَانَة مَصْدَر سُمِّيَ بِهِ الشَّيْء الَّذِي فِي الذِّمَّة , وَأَضَافَهَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْن مِنْ حَيْثُ لَهَا إِلَيْهِ نِسْبَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ " [ النِّسَاء : 5 ] .


أَيْ فِي أَلَّا يَكْتُم مِنْ الْحَقّ شَيْئًا .


تَفْسِير لِقَوْلِهِ : " وَلَا يُضَارِرْ " بِكَسْرِ الْعَيْن . نَهَى الشَّاهِد عَنْ أَنْ يَضُرّ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَة , وَهُوَ نَهْي عَلَى الْوُجُوب بِعِدَّةِ قَرَائِن مِنْهَا الْوَعِيد . وَمَوْضِع النَّهْي هُوَ حَيْثُ يَخَاف الشَّاهِد ضَيَاع حَقّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : عَلَى الشَّاهِد أَنْ يَشْهَد حَيْثُمَا اُسْتُشْهِدَ , وَيُخْبِر حَيْثُمَا اُسْتُخْبِرَ , قَالَ : وَلَا تَقُلْ أُخْبِر بِهَا عِنْد الْأَمِير بَلْ أَخْبِرْهُ بِهَا لَعَلَّهُ يَرْجِع وَيَرْعَوِي . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن " وَلَا يَكْتُمُوا " بِالْيَاءِ , جَعَلَهُ نَهْيًا لِلْغَائِبِ .

إِذَا كَانَ عَلَى الْحَقّ شُهُود تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا عَلَى الْكِفَايَة , فَإِنْ أَدَّاهَا اِثْنَانِ وَاجْتَزَأَ الْحَاكِم بِهِمَا سَقَطَ الْفَرْض عَنْ الْبَاقِينَ , وَإِنْ لَمْ يُجْتَزَأ بِهَا تَعَيَّنَ الْمَشْي إِلَيْهِ حَتَّى يَقَع الْإِثْبَات . وَهَذَا يُعْلَم بِدُعَاءِ صَاحِبهَا , فَإِذَا قَالَ لَهُ : أَحْيِ حَقِّي بِأَدَاءِ مَا عِنْدك لِي مِنْ الشَّهَادَة تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ


خَصَّ الْقَلْب بِالذِّكْرِ إِذْ الْكَتْم مِنْ أَفْعَاله , وَإِذْ هُوَ الْمُضْغَة الَّتِي بِصَلَاحِهَا يَصْلُح الْجَسَد كُلّه كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام , فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْ الْجُمْلَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة . وَقَالَ الْكِيَا : لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَلَّا يُؤَدِّيَهَا وَتَرَكَ أَدَاءَهَا بِاللِّسَانِ رَجَعَ الْمَأْثَم إِلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا . فَقَوْله " آثِم قَلْبه " مَجَاز , وَهُوَ آكَد مِنْ الْحَقِيقَة فِي الدَّلَالَة عَلَى الْوَعِيد , وَهُوَ مِنْ بَدِيع الْبَيَان وَلَطِيف الْإِعْرَاب عَنْ الْمَعَانِي . يُقَال : إِثْم الْقَلْب سَبَب مَسْخه , وَاَللَّه تَعَالَى إِذَا مَسَخَ قَلْبًا جَعَلَهُ مُنَافِقًا وَطَبَعَ عَلَيْهِ , نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة . و " قَلْبه " رُفِعَ ب " آثِم " و " آثِم " خَبَر , " إِنَّ " , وَإِنْ شِئْت رَفَعْت آثِمًا بِالِابْتِدَاءِ , و " قَلْبه " فَاعِل يَسُدّ مَسَدّ الْخَبَر وَالْجُمْلَة خَبَر إِنَّ . وَإِنْ شِئْت رَفَعْت آثِمًا عَلَى أَنَّهُ خَبَر الِابْتِدَاء تَنْوِي بِهِ التَّأْخِير . وَإِنْ شِئْت كَانَ " قَلْبه " بَدَلًا مِنْ " آثِم " بَدَل الْبَعْض مِنْ الْكُلّ . وَإِنْ شِئْت كَانَ بَدَلًا مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي " آثِم " .

وَهُنَا ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : اِعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنْ الشَّهَادَة وَالْكِتَابَة لِمُرَاعَاةِ صَلَاح ذَات الْبَيْن وَنَفْي التَّنَازُع الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَاد ذَات الْبَيْن , لِئَلَّا يُسَوِّل لَهُ الشَّيْطَان جُحُود الْحَقّ وَتَجَاوُز مَا حَدَّ لَهُ الشَّرْع , أَوْ تَرَكَ الِاقْتِصَار عَلَى الْمِقْدَار الْمُسْتَحَقّ , وَلِأَجْلِهِ حَرَّمَ الشَّرْع الْبِيَاعَات الْمَجْهُولَة الَّتِي اِعْتِيَادهَا يُؤَدِّي إِلَى الِاخْتِلَاف وَفَسَاد ذَات الْبَيْن وَإِيقَاع التَّضَاغُن وَالتَّبَايُن . فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّه مِنْ الْمَيْسِر وَالْقِمَار وَشُرْب الْخَمْر بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر " [ الْمَائِدَة : 91 ] الْآيَة . فَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّه فِي أَوَامِره وَزَوَاجِره حَازَ صَلَاح الدُّنْيَا وَالدِّين , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَوْ إِنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ " [ النِّسَاء : 66 ] الْآيَة .

الثَّانِيَة : رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّه عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيد إِتْلَافهَا أَتْلَفَهُ اللَّه ) وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مَيْمُونَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا اِسْتَدَانَتْ , فَقِيلَ : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدك وَفَاء ؟ قَالَتْ : إِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ أَخَذَ دَيْنًا وَهُوَ يُرِيد أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَعَانَهُ اللَّه عَلَيْهِ ) . وَرَوَى الطَّحَاوِيّ وَأَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَالْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة فِي مُسْنَده عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تُخِيفُوا الْأَنْفُس بَعْد أَمْنهَا ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : ( الدَّيْن ) . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاء ذَكَرَهُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِك مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَن وَالْعَجْز وَالْكَسَل وَالدَّيْن وَالْبُخْل وَضَلَع الدَّيْن وَغَلَبَة الرِّجَال ) . قَالَ الْعُلَمَاء : ضَلَع الدَّيْن هُوَ الَّذِي لَا يَجِد دَائِنه مِنْ حَيْثُ يُؤَدِّيه . وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْل الْعَرَب : حِمْل مُضْلِع أَيْ ثَقِيل , وَدَابَّة مُضْلِعٌ لَا تَقْوَى عَلَى الْحَمْل , قَالَهُ صَاحِب الْعَيْن . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الدَّيْن شَيْن الدِّين ) . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( الدَّيْن هَمّ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّة بِالنَّهَارِ ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا كَانَ شَيْنًا وَمَذَلَّة لِمَا فِيهِ مِنْ شَغْل الْقَلْب وَالْبَال وَالْهَمّ اللَّازِم فِي قَضَائِهِ , وَالتَّذَلُّل لِلْغَرِيمِ عِنْد لِقَائِهِ , وَتَحَمُّل مِنَّته بِالتَّأْخِيرِ إِلَى حِين أَوَانه . وَرُبَّمَا يَعِد مِنْ نَفْسه الْقَضَاء فَيُخْلِف , أَوْ يُحَدِّث الْغَرِيم بِسَبَبِهِ فَيَكْذِب , أَوْ يَحْلِف لَهُ فَيَحْنَث , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَتَعَوَّذ مِنْ الْمَأْثَم وَالْمَغْرَم , وَهُوَ الدَّيْن . فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه , مَا أَكْثَر مَا تَتَعَوَّذ مِنْ الْمَغْرَم ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ الرَّجُل إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ ) . وَأَيْضًا فَرُبَّمَا قَدْ مَاتَ وَلَمْ يَقْضِ الدَّيْن فَيُرْتَهَن بِهِ , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( نَسَمَة الْمُؤْمِن مُرْتَهَنَة فِي قَبْره بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ) . وَكُلّ هَذِهِ الْأَسْبَاب مَشَائِن فِي الدِّين تُذْهِب جَمَاله وَتُنْقِص كَمَاله . وَاَللَّه أَعْلَم

الثَّالِثَة : لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْكَتْبِ وَالْإِشْهَاد وَأَخْذ الرِّهَان كَانَ ذَلِكَ نَصًّا قَاطِعًا عَلَى مُرَاعَاة حِفْظ الْأَمْوَال وَتَنْمِيَتهَا , وَرَدًّا عَلَى الْجَهَلَة الْمُتَصَوِّفَة وَرِعَاعهَا الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ , فَيُخْرِجُونَ عَنْ جَمِيع أَمْوَالهمْ وَلَا يَتْرُكُونَ كِفَايَة لِأَنْفُسِهِمْ وَعِيَالهمْ , ثُمَّ إِذَا اِحْتَاجَ وَافْتَقَرَ عِيَاله فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَتَعَرَّض لِمِنَنِ الْإِخْوَان أَوْ لِصَدَقَاتِهِمْ , أَوْ أَنْ يَأْخُذ مِنْ أَرْبَاب الدُّنْيَا وَظَلَمَتهمْ , وَهَذَا الْفِعْل مَذْمُوم مَنْهِيّ عَنْهُ . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : وَلَسْت أَعْجَب مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذَا مَعَ قِلَّة عِلْمهمْ , إِنَّمَا أَتَعَجَّب مِنْ أَقْوَام لَهُمْ عِلْم وَعَقْل كَيْف حَثُّوا عَلَى هَذَا , وَأَمَرُوا بِهِ مَعَ مُضَادَّته لِلشَّرْعِ وَالْعَقْل . فَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيّ فِي هَذَا كَلَامًا كَثِيرًا , وَشَيَّدَهُ أَبُو حَامِد الطَّوْسِيّ وَنَصَرَهُ . وَالْحَارِث عِنْدِي أَعْذَر مِنْ أَبِي حَامِد ; لِأَنَّ أَبَا حَامِد كَانَ أَفْقَه , غَيْر أَنَّ دُخُوله فِي التَّصَوُّف أَوْجَبَ عَلَيْهِ نُصْرَة مَا دَخَلَ فِيهِ . قَالَ الْمُحَاسِبِيّ فِي كَلَام طَوِيل لَهُ : وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف قَالَ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَخَاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَن فِيمَا تَرَكَ . فَقَالَ كَعْب : سُبْحَان اللَّه ! وَمَا تَخَافُونَ عَلَى عَبْد الرَّحْمَن ؟ كَسَبَ طَيِّبًا وَأَنْفَقَ طَيِّبًا وَتَرَك طَيِّبًا . فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا ذَرّ فَخَرَجَ مُغْضَبًا يُرِيد كَعْبًا , فَمَرَّ بِلَحْيِ بَعِير فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ , ثُمَّ اِنْطَلَقَ يَطْلُب كَعْبًا , فَقِيلَ لِكَعْبٍ : إِنَّ أَبَا ذَرّ يَطْلُبك . فَخَرَجَ هَارِبًا حَتَّى , دَخَلَ عَلَى عُثْمَان يَسْتَغِيث بِهِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَر . فَأَقْبَلَ أَبُو ذَرّ يَقُصّ الْأَثَر فِي طَلَب كَعْب حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى دَار عُثْمَان , فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ كَعْب فَجَلَسَ خَلْف عُثْمَان هَارِبًا مِنْ أَبِي ذَرّ , فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرّ : يَا بْن الْيَهُودِيَّة , تَزْعُم أَلَّا بَأْس بِمَا تَرَكَهُ عَبْد الرَّحْمَن ! لَقَدْ خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ : ( الْأَكْثَرُونَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا ) . قَالَ الْمُحَاسِبِيّ : فَهَذَا عَبْد الرَّحْمَن مَعَ فَضْله يُوقَف فِي عَرْصَة يَوْم الْقِيَامَة بِسَبَبِ مَا كَسَبَهُ مِنْ حَلَال , لِلتَّعَفُّفِ وَصَنَائِع الْمَعْرُوف فَيُمْنَع السَّعْي إِلَى الْجَنَّة مَعَ الْفُقَرَاء وَصَارَ يَحْبُو فِي آثَارهمْ حَبْوًا , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ كَلَامه . ذَكَرَهُ أَبُو حَامِد وَشَيَّدَهُ وَقَوَّاهُ بِحَدِيثِ ثَعْلَبَة , وَأَنَّهُ أُعْطِيَ الْمَال فَمَنَعَ الزَّكَاة . قَالَ أَبُو حَامِد : فَمَنْ رَاقَبَ أَحْوَال الْأَنْبِيَاء وَالْأَوْلِيَاء وَأَقْوَالهمْ لَمْ يَشُكّ فِي أَنَّ فَقْد الْمَال أَفْضَل مِنْ وُجُوده , وَإِنْ صُرِفَ إِلَى الْخَيْرَات , إِذْ أَقَلّ مَا فِيهِ اِشْتِغَال الْهِمَّة بِإِصْلَاحِهِ عَنْ ذِكْر اللَّه . فَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يُخْرِج عَنْ مَاله حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا قَدْر ضَرُورَته , فَمَا بَقِيَ لَهُ دِرْهَم يَلْتَفِت إِلَيْهِ قَلْبه فَهُوَ مَحْجُوب عَنْ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الْجَوْزِيّ : وَهَذَا كُلّه خِلَاف الشَّرْع وَالْعَقْل , وَسُوء فَهُمْ الْمُرَاد بِالْمَالِ , وَقَدْ شَرَّفَهُ اللَّه وَعَظَّمَ قَدْره وَأَمَرَ بِحِفْظِهِ , إِذْ جَعَلَهُ قِوَامًا لِلْآدَمِيِّ وَمَا جُعِلَ قِوَامًا لِلْآدَمِيِّ الشَّرِيف فَهُوَ شَرِيف , فَقَالَ تَعَالَى : " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّه لَكُمْ قِيَامًا " [ النِّسَاء : 5 ] وَنَهَى جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُسَلَّم الْمَال إِلَى غَيْر رَشِيد فَقَالَ : " فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالهمْ " [ النِّسَاء : 6 ] . وَنَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَة الْمَال , قَالَ لِسَعْدٍ : ( إِنَّك أَنْ تَذَر وَرَثَتك أَغْنِيَاء خَيْر مِنْ أَنْ تَذَرهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس ) . وَقَالَ : ( مَا نَفَعَنِي مَال كَمَالِ أَبِي بَكْر ) . وَقَالَ لِعَمْرِو بْن الْعَاص : ( نِعْمَ الْمَال الصَّالِح لِلرَّجُلِ الصَّالِح ) . وَدَعَا لِأَنَسٍ , وَكَانَ فِي آخِر دُعَائِهِ : ( اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَاله وَوَلَده وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ ) . وَقَالَ كَعْب : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِع مِنْ مَالِي صَدَقَة إِلَى اللَّه وَإِلَى رَسُوله . فَقَالَ : ( أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْض مَالِك فَهُوَ خَيْر لَك ) . قَالَ الْجَوْزِيّ : هَذِهِ الْأَحَادِيث مُخَرَّجَة فِي الصِّحَاح , وَهِيَ عَلَى خِلَاف مَا تَعْتَقِدهُ الْمُتَصَوِّفَة مِنْ أَنَّ إِكْثَار الْمَال حِجَاب وَعُقُوبَة , وَأَنَّ حَبْسه يُنَافِي التَّوَكُّل , وَلَا يُنْكَر أَنَّهُ يُخَاف مِنْ فِتْنَته , وَأَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا اِجْتَنَبُوهُ لِخَوْفِ ذَلِكَ , وَأَنَّ جَمْعه مِنْ وَجْهه لَيَعِزّ , وَأَنَّ سَلَامَة الْقَلْب مِنْ الِافْتِتَان بِهِ تَقِلّ , وَاشْتِغَال الْقَلْب مَعَ وُجُوده بِذِكْرِ الْآخِرَة يَنْدُر , فَلِهَذَا خِيفَ فِتْنَته . فَأَمَّا كَسْب الْمَال فَإِنَّ مَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى كَسْب الْبُلْغَة مِنْ حِلّهَا فَذَلِكَ أَمْر لَا بُدّ مِنْهُ وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ جَمْعه وَالِاسْتِكْثَار مِنْهُ مِنْ الْحَلَال نُظِرَ فِي مَقْصُوده , فَإِنْ قَصَدَ نَفْس الْمُفَاخَرَة وَالْمُبَاهَاة فَبِئْسَ الْمَقْصُود , وَإِنْ قَصَدَ إِعْفَاف نَفْسه وَعَائِلَته , وَادَّخَرَ لِحَوَادِث زَمَانه وَزَمَانهمْ , وَقَصَدَ التَّوْسِعَة عَلَى الْإِخْوَان وَإِغْنَاء الْفُقَرَاء وَفِعْل الْمَصَالِح أُثِيبَ عَلَى قَصْده , وَكَانَ جَمْعه بِهَذِهِ النِّيَّة أَفْضَل مِنْ كَثِير مِنْ الطَّاعَات . وَقَدْ كَانَتْ نِيَّات خَلْق كَثِير مِنْ الصَّحَابَة فِي جَمْع الْمَال سَلِيمَة لِحُسْنِ مَقَاصِدهمْ بِجَمْعِهِ , فَحَرَصُوا عَلَيْهِ وَسَأَلُوا زِيَادَته . وَلَمَّا أَقْطَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْر حُضْر فَرَسه أَجْرَى الْفَرَس حَتَّى قَامَ ثُمَّ رَمَى سَوْطه , فَقَالَ : ( أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ سَوْطه ) . وَكَانَ سَعْد بْن عُبَادَة يَقُول فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ وَسِّعْ عَلَيَّ . وَقَالَ إِخْوَة يُوسُف : " وَنَزْدَاد كَيْل بَعِير " . وَقَالَ شُعَيْب لِمُوسَى : " فَإِنْ أَتْمَمْت عَشْرًا فَمِنْ عِنْدك " . وَإِنَّ أَيُّوب لَمَّا عُوفِيَ نُثِرَ عَلَيْهِ رِجْل مِنْ جَرَاد مِنْ ذَهَب , فَأَخَذَ يَحْثِي فِي ثَوْبه وَيَسْتَكْثِر مِنْهُ , فَقِيلَ لَهُ : أَمَا شَبِعْت ؟ فَقَالَ : يَا رَبّ فَقِير يَشْبَع مِنْ فَضْلك ؟ . وَهَذَا أَمْر مَرْكُوز فِي الطِّبَاع . وَأَمَّا كَلَام الْمُحَاسِبِيّ فَخَطَأ يَدُلّ عَلَى الْجَهْل بِالْعِلْمِ , وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيث كَعْب وَأَبِي ذَرّ فَمُحَال . مِنْ وَضْع الْجُهَّال وَخَفِيَتْ عَدَم صِحَّته عَنْهُ لِلُحُوقِهِ بِالْقَوْمِ . وَقَدْ رُوِيَ بَعْض هَذَا وَإِنْ كَانَ طَرِيقه لَا يَثْبُت ; لِأَنَّ فِي سَنَده اِبْن لَهِيعَة وَهُوَ مَطْعُون فِيهِ . قَالَ يَحْيَى : لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ . وَالصَّحِيح فِي التَّارِيخ أَنَّ أَبَا ذَرّ تُوُفِّيَ سَنَة خَمْس وَعِشْرِينَ , وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف تُوُفِّيَ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ , فَقَدْ عَاشَ بَعْد أَبِي ذَرّ سَبْع سِنِينَ . ثُمَّ لَفْظ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَدِيثهمْ يَدُلّ عَلَى أَنَّ حَدِيثهمْ مَوْضُوع , ثُمَّ كَيْف تَقُول الصَّحَابَة : إِنَّا نَخَاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَن ! أَوَلَيْسَ الْإِجْمَاع مُنْعَقِدًا عَلَى إِبَاحَة جَمْع الْمَال مِنْ حِلّه , فَمَا وَجْه الْخَوْف مَعَ الْإِبَاحَة ؟ أَوَيَأْذَن الشَّرْع فِي شَيْء ثُمَّ يُعَاقِب , عَلَيْهِ ؟ هَذَا قِلَّة فَهْم وَفِقْه . ثُمَّ أَيُنْكِرُ أَبُو ذَرّ عَلَى عَبْد الرَّحْمَن , وَعَبْد الرَّحْمَن خَيْر مِنْ أَبِي ذَرّ بِمَا لَا يَتَقَارَب ؟ ثُمَّ تَعَلُّقه بِعَبْدِ الرَّحْمَن وَحْده دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبُر سَيْر الصَّحَابَة , فَإِنَّهُ قَدْ خَلَّفَ طَلْحَة ثَلَاثمِائَةِ بُهَار فِي كُلّ بُهَار ثَلَاثَة قَنَاطِير . وَالْبُهَار الْحِمْل . وَكَانَ مَال الزُّبَيْر خَمْسِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أَلْف . وَخَلَّفَ اِبْن مَسْعُود تِسْعِينَ أَلْفًا . وَأَكْثَر الصَّحَابَة كَسَبُوا الْأَمْوَال وَخَلَّفُوهَا وَلَمْ يُنْكِر أَحَد مِنْهُمْ عَلَى أَحَد . وَأَمَّا قَوْله : " إِنَّ عَبْد الرَّحْمَن يَحْبُو حَبْوًا يَوْم الْقِيَامَة " فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ مَا عَرَفَ الْحَدِيث , وَأَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ يَحْبُو عَبْد الرَّحْمَن فِي الْقِيَامَة , أَفَتَرَى مَنْ سَبَقَ وَهُوَ أَحَد الْعَشَرَة الْمَشْهُود لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمِنْ أَهْل بَدْر وَالشُّورَى يَحْبُو ؟ ثُمَّ الْحَدِيث يَرْوِيه عُمَارَة بْن زَاذَان , وَقَالَ الْبُخَارِيّ : رُبَّمَا اِضْطَرَبَ حَدِيثه . وَقَالَ أَحْمَد : يُرْوَى عَنْ أَنَس أَحَادِيث مَنَاكِير , وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ : لَا يُحْتَجّ بِهِ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : ضَعِيف . وَقَوْله : " تَرْك الْمَال الْحَلَال أَفْضَل مِنْ جَمْعه " لَيْسَ كَذَلِكَ , وَمَتَى صَحَّ الْقَصْد فَجَمْعه أَفْضَل بِلَا خِلَاف عِنْد الْعُلَمَاء . وَكَانَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : لَا خَيْر فِيمَنْ لَا يَطْلُب الْمَال , يَقْضِي بِهِ دَيْنه وَيَصُونَ بِهِ عِرْضه , فَإِنْ مَاتَ تَرَكَهُ مِيرَاثًا لِمَنْ بَعْده . وَخَلَّفَ اِبْن الْمُسَيِّب أَرْبَعمِائَةِ دِينَار , وَخَلَّفَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ مِائَتَيْنِ , وَكَانَ يَقُول : الْمَال فِي هَذَا الزَّمَان سِلَاح . وَمَا زَالَ السَّلَف يَمْدَحُونَ الْمَال وَيَجْمَعُونَهُ لِلنَّوَائِبِ وَإِعَانَة الْفُقَرَاء , وَإِنَّمَا تَحَامَاهُ قَوْم مِنْهُمْ إِيثَارًا لِلتَّشَاغُلِ بِالْعِبَادَاتِ , وَجَمْع الْهَمّ فَقَنَعُوا بِالْيَسِيرِ . فَلَوْ قَالَ هَذَا الْقَائِل : إِنَّ التَّقْلِيل مِنْهُ أَوْلَى قُرْب الْأَمْر وَلَكِنَّهُ زَاحَمَ بِهِ مَرْتَبَة الْإِثْم .

قُلْت : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى حِفْظ الْأَمْوَال وَمُرَاعَاتهَا إِبَاحَة الْقِتَال دُونهَا وَعَلَيْهَا , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قُتِلَ دُون مَاله فَهُوَ شَهِيد ) . وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 284
أَيْ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع , وَالْمُلْك وَالسُّلْطَان , وَنُفُوذ الْأَمْر وَالْإِرَادَة . و " مَا " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر فِي الْمَجْرُور , أَيْ كُلّ ذَلِكَ لَهُ مِلْك بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع .


اِخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه " عَلَى أَقْوَال خَمْسَة :

[ الْأَوَّل ] إِنَّهَا مَنْسُوخَة , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَالشَّعْبِيّ وَعَطَاء وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَمُوسَى بْن عُبَيْدَة وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَأَنَّهُ بَقِيَ هَذَا التَّكْلِيف حَوْلًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه الْفَرَج بِقَوْلِهِ : " لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " [ الْبَقَرَة : 286 ] . وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَعَطَاء وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَغَيْرهمْ وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه " قَالَ : دَخَلَ قُلُوبهمْ مِنْهَا شَيْء لَمْ يَدْخُل قُلُوبهمْ مِنْ شَيْء , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا ) قَالَ : فَأَلْقَى اللَّه الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ : ( قَدْ فَعَلْت ) رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلنَا قَالَ : ( قَدْ فَعَلْت ) " رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " [ الْبَقَرَة : 286 ] قَالَ : ( قَدْ فَعَلْت ) : فِي رِوَايَة فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّه ثُمَّ أَنْزَلَ تَعَالَى : " لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " وَسَيَأْتِي .

[ الثَّانِي ] قَالَ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد : إِنَّهَا مُحْكَمَة مَخْصُوصَة , وَهِيَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَة الَّتِي نَهَى عَنْ كَتْمهَا , ثُمَّ أَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْكَاتِم لَهَا الْمُخْفِي مَا فِي نَفْسه مُحَاسَب .

[ الثَّالِث ] أَنَّ الْآيَة فِيمَا يَطْرَأ عَلَى النُّفُوس مِنْ الشَّكّ وَالْيَقِين , وَقَالَهُ مُجَاهِد أَيْضًا .

[ الرَّابِع ] أَنَّهَا مُحْكَمَة عَامَّة غَيْر مَنْسُوخَة , وَاَللَّه مُحَاسِب خَلْقه عَلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلُوهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي نُفُوسهمْ وَأَضْمَرُوهُ وَنَوَوْهُ وَأَرَادُوهُ , فَيَغْفِر لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَأْخُذ بِهِ أَهْل الْكُفْر وَالنِّفَاق , ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم , وَأُدْخِلَ عَنْ اِبْن عَبَّاس مَا يُشْبِه هَذَا . رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : لَمْ تُنْسَخ , وَلَكِنْ إِذَا جَمَعَ اللَّه الْخَلَائِق يَقُول : ( إِنِّي أُخْبِركُمْ بِمَا أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسكُمْ ) فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرهُمْ ثُمَّ يَغْفِر لَهُمْ , وَأَمَّا أَهْل الشَّكّ وَالرَّيْب فَيُخْبِرهُمْ بِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ التَّكْذِيب , فَذَلِكَ قَوْله : " يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه فَيَغْفِر لِمَنْ يَشَاء وَيُعَذِّب مَنْ يَشَاء " [ الْبَقَرَة : 284 ] وَهُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبكُمْ " [ الْبَقَرَة : 225 ] مِنْ الشَّكّ وَالنِّفَاق . وَقَالَ الضَّحَّاك : يُعْلِمهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة بِمَا كَانَ يُسِرّهُ لِيُعْلِم أَنَّهُ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ . وَفِي الْخَبَر : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة هَذَا يَوْم تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِر وَتُخْرَج الضَّمَائِر وَأَنَّ كُتَّابِي لَمْ يَكْتُبُوا إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالكُمْ وَأَنَا الْمُطَّلِع عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُخْبَرُوهُ وَلَا كَتَبُوهُ فَأَنَا أُخْبِركُمْ بِذَلِكَ وَأُحَاسِبكُمْ عَلَيْهِ فَأَغْفِر لِمَنْ أَشَاء وَأُعَذِّب مَنْ أَشَاء ) فَيَغْفِر لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُعَذِّب الْكَافِرِينَ , وَهَذَا أَصَحّ مَا فِي الْبَاب , يَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث النَّجْوَى عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه , لَا يُقَال : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ ) . فَإِنَّا نَقُول : ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى أَحْكَام الدُّنْيَا , مِثْل الطَّلَاق وَالْعَتَاق وَالْبَيْع الَّتِي لَا يَلْزَمهُ حُكْمهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّم بِهِ , وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَة فِيمَا يُؤَاخَذ الْعَبْد بِهِ بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَة . وَقَالَ الْحَسَن : الْآيَة مُحْكَمَة لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ . قَالَ الطَّبَرِيّ : وَقَالَ آخَرُونَ نَحْو هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس , إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ الْعَذَاب الَّذِي يَكُون جَزَاء لِمَا خَطَرَ فِي النُّفُوس وَصَحِبَهُ الْفِكْر إِنَّمَا هُوَ بِمَصَائِب الدُّنْيَا وَآلَامهَا وَسَائِر مَكَارِههَا . ثُمَّ أُسْنِدَ عَنْ عَائِشَة نَحْو هَذَا الْمَعْنَى , وَهُوَ [ الْقَوْل الْخَامِس ] : وَرَجَّحَ الطَّبَرِيّ أَنَّ الْآيَة مُحْكَمَة غَيْر مَنْسُوخَة : قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب , وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ " مَعْنَاهُ مِمَّا هُوَ فِي وُسْعكُمْ وَتَحْت كَسْبكُمْ , وَذَلِكَ اِسْتِصْحَاب الْمُعْتَقَد وَالْفِكْر , فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظ مِمَّا يُمْكِن أَنْ تَدْخُل فِيهِ الْخَوَاطِر أَشْفَقَ الصَّحَابَة وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَيَّنَ اللَّه لَهُمْ مَا أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى , وَخَصَّصَهَا وَنَصَّ عَلَى حُكْمه أَنَّهُ لَا يُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا , وَالْخَوَاطِر لَيْسَتْ هِيَ وَلَا دَفْعهَا فِي الْوُسْع , بَلْ هِيَ أَمْر غَالِب وَلَيْسَتْ مِمَّا يُكْتَسَب , فَكَانَ فِي هَذَا الْبَيَان فَرَجهمْ وَكَشْف كُرَبهمْ , وَبَاقِي الْآيَة مُحْكَمَة لَا نَسْخ فِيهَا : وَمِمَّا يَدْفَع أَمْر النَّسْخ أَنَّ الْآيَة خَبَر وَالْأَخْبَار لَا يَدْخُلهَا النَّسْخ , فَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِب إِلَى تَقْدِير النَّسْخ فَإِنَّمَا يَتَرَتَّب لَهُ فِي الْحُكْم الَّذِي لَحِقَ الصَّحَابَة حِين فَزِعُوا مِنْ الْآيَة , وَذَلِكَ أَنَّ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَهُمْ : ( قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) يَجِيء مِنْهُ الْأَمْر بِأَنْ يَثْبُتُوا عَلَى هَذَا وَيَلْتَزِمُوهُ وَيَنْتَظِرُوا لُطْف اللَّه فِي الْغُفْرَان . فَإِذَا قُرِّرَ هَذَا الْحُكْم فَصَحِيح وُقُوع النَّسْخ فِيهِ , وَتُشْبِه الْآيَة حِينَئِذٍ قَوْله تَعَالَى : " إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ " [ الْأَنْفَال : 65 ] فَهَذَا لَفْظه الْخَبَر وَلَكِنْ مَعْنَاهُ اِلْتَزِمُوا هَذَا وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ وَاصْبِرُوا بِحَسْبِهِ , ثُمَّ نُسِخَ بَعْد ذَلِكَ . وَأَجْمَعَ النَّاس فِيمَا عَلِمْت عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة فِي الْجِهَاد مَنْسُوخَة بِصَبْرِ الْمِائَة لِلْمِائَتَيْنِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الْآيَة فِي " الْبَقَرَة " أَشْبَه شَيْء بِهَا . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام إِضْمَار وَتَقْيِيد , تَقْدِيره يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه إِنْ شَاءَ , وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخ . وَقَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْآيَة وَأَشْبَه بِالظَّاهِرِ قَوْل اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا عَامَّة , ثُمَّ أُدْخِلَ حَدِيث اِبْن عُمَر فِي النَّجْوَى , أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا , وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ( يُدْنَى الْمُؤْمِن يَوْم الْقِيَامَة مِنْ رَبّه جَلَّ وَعَزَّ حَتَّى يَضَع عَلَيْهِ كَنَفه فَيُقْرِرْهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُول هَلْ تَعْرِف فَيَقُول أَيْ رَبّ أَعْرِف قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرهَا لَك الْيَوْم فَيُعْطَى صَحِيفَة حَسَنَاته وَأَمَّا الْكُفَّار وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوس الْخَلَائِق هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّه ) . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , أَيْ وَإِنْ تُعْلِنُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ وِلَايَة الْكُفَّار أَوْ تُسِرُّوهَا يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه , قَالَهُ الْوَاقِدِيّ وَمُقَاتِل . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ( آل عِمْرَان ) " قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُوركُمْ أَوْ تُبْدُوهُ " مِنْ وِلَايَة الْكُفَّار " يَعْلَمهُ اللَّه " [ آل عِمْرَان : 29 ] يَدُلّ عَلَيْهِ مَا قَبْله مِنْ قَوْله : " لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ " [ آل عِمْرَان : 28 ] .

قُلْت : وَهَذَا فِيهِ بُعْد , لِأَنَّ سِيَاق الْآيَة لَا يَقْتَضِيه , وَإِنَّمَا ذَلِكَ بَيِّن فِي " آل عِمْرَان " وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : بَلَغَنِي أَنَّ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام كَانُوا يَأْتُونَ قَوْمهمْ بِهَذِهِ الْآيَة " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه " .


قَرَأَ اِبْن كَثِير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " فَيَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ " بِالْجَزْمِ عَطْف عَلَى الْجَوَاب . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم بِالرَّفْعِ , فِيهِمَا عَلَى الْقَطْع , أَيْ فَهُوَ يَغْفِر وَيُعَذِّب . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْأَعْرَج وَأَبِي الْعَالِيَة وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى إِضْمَار " أَنْ " . وَحَقِيقَته أَنَّهُ عَطْف عَلَى الْمَعْنَى , كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : " فَيُضَاعِفهُ لَهُ " وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَالْعَطْف عَلَى اللَّفْظ أَجْوَد لِلْمُشَاكَلَةِ , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَمَتَى مَا يَعِ مِنْك كَلَامًا يَتَكَلَّم فَيُجِبْك بِعَقْلِ قَالَ النَّحَّاس : وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه يَغْفِر " بِغَيْرِ فَاء عَلَى الْبَدَل . اِبْن عَطِيَّة : وَبِهَا قَرَأَ الْجُعْفِيّ وَخَلَّاد . وَرُوِيَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود . قَالَ اِبْن جِنِّي : هِيَ عَلَى الْبَدَل مِنْ " يُحَاسِبكُمْ " وَهِيَ تَفْسِير الْمُحَاسَبَة , وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِر : رُوَيْدًا بَنِي شَيْبَان بَعْض وَعِيدكُمْ تُلَاقُوا غَدًا خَيْلِي عَلَى سَفَوَان تُلَاقُوا جِيَادًا لَا تَحِيد عَنْ الْوَغَى إِذَا مَا غَدَتْ فِي الْمَأْزِق الْمُتَدَانِي فَهَذَا عَلَى الْبَدَل . وَكَرَّرَ الشَّاعِر الْفِعْل ; لِأَنَّ الْفَائِدَة فِيمَا يَلِيه مِنْ الْقَوْل . قَالَ النَّحَّاس : وَأَجْوَد مِنْ الْجَزْم لَوْ كَانَ بِلَا فَاء الرَّفْع , يَكُون فِي مَوْضِع الْحَال , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْء نَاره تَجِد خَيْر نَار عِنْدهَا خَيْر مُوقِد



عُمُوم وَمَعْنَاهُ عِنْد الْمُتَكَلِّمِينَ فِيمَا يَجُوز وَصْفه تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَسْمِيَة اللَّه تَعَالَى بِالْقَدِيرِ , فَهُوَ سُبْحَانه قَدِير قَادِر مُقْتَدِر . وَالْقَدِير أَبْلَغ فِي الْوَصْف مِنْ الْقَادِر , قَالَ الزَّجَّاجِيّ . وَقَالَ الْهَرَوِيّ : وَالْقَدِير وَالْقَادِر بِمَعْنًى وَاحِد , يُقَال : قَدَرْت عَلَى الشَّيْء أَقْدِر قَدْرًا وَقَدَرًا وَمَقْدِرَة وَمَقْدُرَة وَقُدْرَانًا , أَيْ قُدْرَة وَالِاقْتِدَار عَلَى الشَّيْء الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَاَللَّه جَلَّ وَعَزَّ قَادِر مُقْتَدِر قَدِير عَلَى كُلّ مُمْكِن يَقْبَل الْوُجُود وَالْعَدَم . فَيَجِب عَلَى كُلّ مُكَلَّف أَنْ يَعْلَم أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِر , لَهُ قُدْرَة بِهَا فَعَلَ وَيَفْعَل مَا يَشَاء عَلَى وَفْق عِلْمه وَاخْتِيَاره وَيَجِب عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَعْلَم أَنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَة يَكْتَسِب بِهَا مَا أَقْدَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَة , وَأَنَّهُ غَيْر مُسْتَبِدّ بِقُدْرَتِهِ
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُسورة البقرة الآية رقم 285
رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة كَانَتْ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج , وَهَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَ بَعْضهمْ : جَمِيع الْقُرْآن نَزَلَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْآيَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ الَّذِي سَمِعَ لَيْلَة الْمِعْرَاج , وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج ; لِأَنَّ لَيْلَة الْمِعْرَاج كَانَتْ بِمَكَّة وَهَذِهِ السُّورَة كُلّهَا مَدَنِيَّة , فَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ لَيْلَة الْمِعْرَاج قَالَ : لَمَّا صَعِدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَ فِي السَّمَوَات فِي مَكَان مُرْتَفِع وَمَعَهُ جِبْرِيل حَتَّى جَاوَزَ سِدْرَة الْمُنْتَهَى فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : إِنِّي لَمْ أُجَاوِز هَذَا الْمَوْضِع وَلَمْ يُؤْمَر بِالْمُجَاوَزَةِ أَحَد هَذَا الْمَوْضِع غَيْرك فَجَاوَزَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِع الَّذِي شَاءَ اللَّه , فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيل بِأَنْ سَلِّمْ عَلَى رَبّك , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : التَّحِيَّات لِلَّهِ وَالصَّلَوَات وَالطَّيِّبَات . قَالَ اللَّه تَعَالَى : السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته , فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُون لِأُمَّتِهِ حَظّ فِي السَّلَام فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ , فَقَالَ جِبْرِيل وَأَهْل السَّمَوَات كُلّهمْ : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " آمَنَ الرَّسُول " عَلَى مَعْنَى الشُّكْر أَيْ صَدَّقَ الرَّسُول " بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَارِك أُمَّته فِي الْكَرَامَة وَالْفَضِيلَة فَقَالَ : " وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْ رُسُله " يَعْنِي يَقُولُونَ آمَنَّا بِجَمِيعِ الرُّسُل وَلَا نَكْفُر بِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا نُفَرِّق بَيْنهمْ كَمَا فَرَّقَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى , فَقَالَ لَهُ رَبّه كَيْف قَبُولهمْ بِآيِ الَّذِي أَنْزَلْتهَا ؟ وَهُوَ قَوْله : " إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير يَعْنِي الْمَرْجِع . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى عِنْد ذَلِكَ : " لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " يَعْنِي طَاقَتهَا وَيُقَال : إِلَّا دُون طَاقَتهَا . " لَهَا مَا كَسَبَتْ " مِنْ الْخَيْر " وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " مِنْ الشَّرّ , فَقَالَ جِبْرِيل عِنْد ذَلِكَ : سَلْ تُعْطَهُ , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا " يَعْنِي إِنْ جَهِلْنَا " أَوْ أَخْطَأْنَا " يَعْنِي إِنْ تَعَمَّدْنَا , وَيُقَال : إِنْ عَمِلْنَا بِالنِّسْيَانِ , وَالْخَطَأ . فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : قَدْ أُعْطِيت ذَلِكَ قَدْ رُفِعَ عَنْ أُمَّتك الْخَطَأ وَالنِّسْيَان . فَسَلْ شَيْئًا آخَر فَقَالَ : " رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا " يَعْنِي ثِقَلًا " كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلنَا " وَهُوَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الطَّيِّبَات بِظُلْمِهِمْ , وَكَانُوا إِذَا أَذْنَبُوا بِاللَّيْلِ وَجَدُوا ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابهمْ , وَكَانَتْ الصَّلَوَات عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ , فَخَفَّفَ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَحَطَّ عَنْهُمْ بَعْدَمَا فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاة . ثُمَّ قَالَ : " رَبّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ " يَقُول : لَا تُثْقِلنَا مِنْ الْعَمَل مَا لَا نُطِيق فَتُعَذِّبنَا , وَيُقَال : مَا تَشُقّ عَلَيْنَا , لِأَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِخَمْسِينَ صَلَاة لَكَانُوا يُطِيقُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَشُقّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُونَ الْإِدَامَة عَلَيْهِ " وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ ذَلِكَ كُلّه " وَاغْفِرْ لَنَا " وَتَجَاوَزْ عَنَّا , وَيُقَال : " وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ الْمَسْخ " وَاغْفِرْ لَنَا " مِنْ الْخَسْف " وَارْحَمْنَا " مِنْ الْقَذْف ; لِأَنَّ الْأُمَم الْمَاضِيَة بَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْمَسْخ وَبَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْخَسْف وَبَعْضهمْ الْقَذْف ثُمَّ قَالَ : " أَنْتَ مَوْلَانَا " يَعْنِي وَلِيّنَا وَحَافِظنَا " فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَته . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَة شَهْر ) وَيُقَال إِنَّ الْغُزَاة : إِذَا خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَة وَضَرَبُوا بِالطَّبْلِ وَقَعَ الرُّعْب وَالْهَيْبَة فِي قُلُوب الْكُفَّار مَسِيرَة شَهْر فِي شَهْر , عَلِمُوا بِخُرُوجِهِمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا , ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ أَوْحَى اللَّه هَذِهِ الْآيَات , لِيُعْلِم أُمَّته بِذَلِكَ . وَلِهَذِهِ الْآيَة تَفْسِير آخَر , قَالَ الزَّجَّاج : لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَة فَرْض الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَبَيَّنَ أَحْكَام الْحَجّ وَحُكْم الْحَيْض وَالطَّلَاق وَالْإِيلَاء وَأَقَاصِيص الْأَنْبِيَاء وَبَيَّنَ حُكْم الرِّبَا , ذَكَرَ تَعْظِيمه سُبْحَانه بِقَوْلِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى : " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض " ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيق نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيق الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ : " آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " أَيْ صَدَّقَ الرَّسُول بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي جَرَى ذِكْرهَا وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كُلّهمْ صَدَّقُوا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله .

وَقِيلَ سَبَب نُزُولهَا الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا وَهِيَ : " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه فَيَغْفِر لِمَنْ يَشَاء وَيُعَذِّب مَنْ يَشَاء وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " [ الْمَائِدَة : 284 ] فَإِنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ هَذَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَب فَقَالُوا : أَيْ رَسُول اللَّه , كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَال مَا نُطِيق : الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْجِهَاد وَالصَّدَقَة , وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك هَذِهِ الْآيَة وَلَا نُطِيقهَا . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير ) فَقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير . فَلَمَّا اِقْتَرَأَهَا الْقَوْم ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتهمْ فَأَنْزَلَ اللَّه فِي إِثْرهَا : " آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْ رُسُله وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير " [ الْبَقَرَة : 285 ] . فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّه , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " " رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " قَالَ : ( نَعَمْ " رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلنَا " قَالَ : ( نَعَمْ ) " رَبّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ " قَالَ : ( نَعَمْ ) " وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " قَالَ : ( نَعَمْ ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى ( قَدْ فَعَلْت ) وَهُنَا قَالَ : ( نَعَمْ ) دَلِيل عَلَى نَقْل الْحَدِيث بِالْمَعْنَى , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَلَمَّا تَقَرَّرَ الْأَمْر عَلَى أَنْ قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا , مَدَحَهُمْ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَرَفَعَ الْمَشَقَّة فِي أَمْر الْخَوَاطِر عَنْهُمْ , وَهَذِهِ ثَمَرَة الطَّاعَة وَالِانْقِطَاع إِلَى اللَّه تَعَالَى , كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيل ضِدّ ذَلِكَ مِنْ ذَمّهمْ وَتَحْمِيلهمْ الْمَشَقَّات مِنْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة وَالِانْجِلَاء إِذْ قَالُوا : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا , وَهَذِهِ ثَمَرَة الْعِصْيَان وَالتَّمَرُّد عَلَى اللَّه تَعَالَى , أَعَاذَنَا اللَّه مِنْ نِقَمه بِمَنِّهِ وَكَرَمه . وَفِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : إِنَّ بَيْت ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس , يَزْهَر كُلّ لَيْلَة بِمَصَابِيح . قَالَ : ( فَلَعَلَّهُ يَقْرَأ سُورَة الْبَقَرَة ) فَسُئِلَ ثَابِت قَالَ : قَرَأْت مِنْ سُورَة الْبَقَرَة " آمَنَ الرَّسُول " نَزَلَتْ حِين شَقَّ عَلَى أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَوَعَّدَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنْ مُحَاسَبَتهمْ . عَلَى مَا أَخْفَتْهُ نُفُوسهمْ , فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيل ) قَالُوا : بَلْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ثَنَاء عَلَيْهِمْ : " آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَحَقّ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا ) .



" آمَنَ " أَيْ صَدَّقَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَاَلَّذِي أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآن . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ " عَلَى اللَّفْظ , وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " آمَنُوا " عَلَى الْمَعْنَى . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَابْن عَامِر " وَكُتُبه " عَلَى الْجَمْع . وَقَرَءُوا فِي " التَّحْرِيم " كِتَابه , عَلَى التَّوْحِيد . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو هُنَا وَفِي " التَّحْرِيم " و " كُتُبه " عَلَى الْجَمْع . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَكِتَابه " عَلَى التَّوْحِيد فِيهِمَا . فَمَنْ جَمَعَ أَرَادَ جَمْع كِتَاب , وَمَنْ أَفْرَدَ أَرَادَ الْمَصْدَر الَّذِي يَجْمَع كُلّ مَكْتُوب كَانَ نُزُوله مِنْ عِنْد اللَّه . وَيَجُوز فِي قِرَاءَة مَنْ وَحَّدَ أَنْ يُرَاد بِهِ الْجَمْع يَكُون الْكِتَاب اِسْمًا لِلْجِنْسِ فَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَبَعَثَ اللَّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَاب " [ الْبَقَرَة : 213 ] . قَرَأَتْ الْجَمَاعَة " وَرُسُله " بِضَمِّ السِّين , وَكَذَلِكَ " رُسُلنَا وَرُسُلكُمْ وَرُسُلك " , إِلَّا أَبَا عَمْرو فَرُوِيَ عَنْهُ تَخْفِيف " رُسْلنَا وَرُسْلكُمْ " , وَرُوِيَ عَنْهُ فِي " رُسُلك " التَّثْقِيل وَالتَّخْفِيف . قَالَ أَبُو عَلِيّ : مَنْ قَرَأَ " رُسُلك " بِالتَّثْقِيلِ فَذَلِكَ أَصْل الْكَلِمَة , وَمَنْ خَفَّفَ فَكَمَا يُخَفِّف فِي الْآحَاد , مِثْل عُنْق وَطُنْب . وَإِذَا خَفَّفَ فِي الْآحَاد فَذَلِكَ أَحْرَى فِي الْجَمْع الَّذِي هُوَ أَثْقَل , وَقَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيّ . وَقَرَأَ جُمْهُور النَّاس " لَا نُفَرِّق " بِالنُّونِ , وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ لَا نُفَرِّق , فَحَذَفَ الْقَوْل , وَحَذْف الْقَوْل كَثِير , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَاب . سَلَام عَلَيْكُمْ " [ الرَّعْد : 23 ] : أَيْ يَقُولُونَ سَلَام عَلَيْكُمْ . وَقَالَ : " وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض رَبّنَا مَا خَلَقْت هَذَا بَاطِلًا " [ آل عِمْرَان : 191 ] أَيْ يَقُولُونَ , رَبّنَا , وَمَا كَانَ مِثْله . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَيَحْيَى بْن يَعْمُر وَأَبُو زُرْعَة بْن عَمْرو بْن جَرِير وَيَعْقُوب " لَا يُفَرِّق " بِالْيَاءِ , وَهَذَا عَلَى لَفْظ كُلّ . قَالَ هَارُون : وَهِيَ فِي حَرْف اِبْن مَسْعُود " لَا يُفَرِّقُونَ " . وَقَالَ " بَيْن أَحَد " عَلَى الْإِفْرَاد وَلَمْ يَقُلْ آحَاد , لِأَنَّ الْأَحَد يَتَنَاوَل الْوَاحِد وَالْجَمِيع , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ " [ الْحَاقَّة : 47 ] ف " حَاجِزِينَ " صِفَة لِأَحَدٍ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْع . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أُحِلَّتْ الْغَنَائِم لِأَحَدِ سُود الرُّءُوس غَيْركُمْ ) وَقَالَ رُؤْبَة : إِذَا أُمُور النَّاس دِينَتْ دِينَكَا لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا مِنْ دُونِكَا وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَة : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ .



فِيهِ حَذْف , أَيْ سَمِعْنَا سَمَاع قَابِلِينَ . وَقِيلَ : سَمِعَ بِمَعْنَى قَبِلَ , كَمَا يُقَال : سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ فَلَا يَكُون فِيهِ حَذْف . وَعَلَى الْجُمْلَة فَهَذَا الْقَوْل يَقْتَضِي الْمَدْح لِقَائِلِهِ . وَالطَّاعَة قَبُول الْأَمْر .



مَصْدَر كَالْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَان , وَالْعَامِل فِيهِ فِعْل مُقَدَّر , تَقْدِيره : اِغْفِرْ غُفْرَانك , قَالَهُ الزَّجَّاج . وَغَيْره : نَطْلُب أَوْ أَسْأَل غُفْرَانك .


إِقْرَار بِالْبَعْثِ وَالْوُقُوف بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة قَالَ لَهُ جِبْرِيل : ( إِنَّ اللَّه قَدْ أَحَلَّ الثَّنَاء عَلَيْك وَعَلَى أُمَّتك فَسَلْ تُعْطَهُ ) فَسَأَلَ إِلَى آخِر السُّورَة .
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 286
التَّكْلِيف هُوَ الْأَمْر بِمَا يَشُقّ عَلَيْهِ وَتَكَلَّفْت الْأَمْر تَجَشَّمْته , حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ . وَالْوُسْع : الطَّاقَة وَالْجِدَة . وَهَذَا خَبَر جُزِمَ . نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلِّف الْعِبَاد مِنْ وَقْت نُزُول الْآيَة عِبَادَة مِنْ أَعْمَال الْقَلْب أَوْ الْجَوَارِح إِلَّا وَهِيَ فِي وُسْع الْمُكَلَّف وَفِي مُقْتَضَى إِدْرَاكه وَبِنْيَته , وَبِهَذَا اِنْكَشَفَتْ الْكُرْبَة عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي تَأَوُّلهمْ أَمْر الْخَوَاطِر . وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة مَا حَكَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : مَا وَدِدْت أَنَّ أَحَدًا وَلَدَتْنِي أُمّه إِلَّا جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب , فَإِنِّي تَبِعْته يَوْمًا وَأَنَا جَائِع فَلَمَّا بَلَغَ , مَنْزِله لَمْ يَجِد فِيهِ سِوَى نِحْي سَمْن قَدْ بَقِيَ فِيهِ أَثَارَة فَشَقَّهُ بَيْن أَيْدِينَا , فَجَعَلْنَا نَلْعَق مَا فِيهِ مِنْ السَّمْن وَالرُّبّ وَهُوَ يَقُول : مَا كَلَّفَ اللَّه نَفْسًا فَوْق طَاقَتهَا وَلَا تَجُود يَد إِلَّا بِمَا تَجِد

اِخْتَلَفَ النَّاس فِي جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فِي الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا , بَعْد اِتِّفَاقهمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرْع , وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَة أَذِنَتْ بِعَدَمِهِ , قَالَ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عَقْلًا , وَلَا يَخْرِم ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ عَقَائِد الشَّرْع , وَيَكُون ذَلِكَ أَمَارَة عَلَى تَعْذِيب الْمُكَلَّف وَقَطْعًا بِهِ , وَيُنْظَر إِلَى هَذَا تَكْلِيف الْمُصَوِّر أَنْ يَعْقِد شَعِيرَة . وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ هَلْ وَقَعَ فِي رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا ؟ فَقَالَ فِرْقَة : وَقَعَ فِي نَازِلَة أَبِي لَهَب , لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَة , وَمِنْ جُمْلَتهَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِن ; لِأَنَّهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِتَبِّ الْيَدَيْنِ وَصَلْي النَّار وَذَلِكَ مُؤْذِن بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن , فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِن بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن . وَقَالَتْ فِرْقَة : لَمْ يَقَع قَطُّ . وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ . وَقَوْله تَعَالَى : " سَيَصْلَى نَارًا " [ الْمَسَد : 3 ] مَعْنَاهُ إِنْ وَافَى , حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة . " وَيُكَلِّف " يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا مَحْذُوف , تَقْدِيره عِبَادَة أَوْ شَيْئًا . فَاَللَّه سُبْحَانه بِلُطْفِهِ وَإِنْعَامه عَلَيْنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ كَلَّفَنَا بِمَا يَشُقّ وَيَثْقُل كَثُبُوتِ الْوَاحِد لِلْعَشْرَةِ , وَهِجْرَة الْإِنْسَان وَخُرُوجه مِنْ وَطَنه وَمُفَارَقَة أَهْله وَوَطَنه وَعَادَته , لَكِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفنَا بِالْمَشَقَّاتِ الْمُثْقِلَة وَلَا بِالْأُمُورِ الْمُؤْلِمَة , كَمَا كَلَّفَ مَنْ قَبْلنَا بِقَتْلِ أَنْفُسهمْ وَقَرْض مَوْضِع الْبَوْل مِنْ ثِيَابهمْ وَجُلُودهمْ , بَلْ سَهَّلَ وَرَفَقَ وَوَضَعَ عَنَّا الْإِصْر وَالْأَغْلَال الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلنَا . فَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة , وَالْفَضْل وَالنِّعْمَة .


يُرِيد مِنْ الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات قَالَهُ السُّدِّيّ . وَجَمَاعَة الْمُفَسِّرِينَ لَا خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ , قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . وَهُوَ مِثْل قَوْله : " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " [ الْأَنْعَام : 164 ] " وَلَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا " [ الْأَنْعَام : 164 ] . وَالْخَوَاطِر وَنَحْوهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْب الْإِنْسَان . وَجَاءَتْ الْعِبَارَة فِي الْحَسَنَات ب " لَهَا " مِنْ حَيْثُ هِيَ مِمَّا , يَفْرَح الْمَرْء بِكَسْبِهِ وَيُسَرّ بِهَا , فَتُضَاف إِلَى مِلْكه وَجَاءَتْ فِي السَّيِّئَات ب " عَلَيْهَا " مِنْ حَيْثُ هِيَ أَثْقَال وَأَوْزَار وَمُتَحَمَّلَات صَعْبَة , وَهَذَا كَمَا تَقُول : لِي مَال وَعَلَيَّ دَيْن . وَكَرَّرَ فِعْل الْكَسْب فَخَالَفَ بَيْن التَّصْرِيف حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَام , كَمَا قَالَ : " فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا " [ الطَّارِق : 17 ] . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَظْهَر لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَات هِيَ مِمَّا تُكْتَسَب دُون تَكَلُّف , إِذْ كَاسِبهَا عَلَى جَادَّة أَمْر اللَّه تَعَالَى وَرَسْم شَرْعه , وَالسَّيِّئَات تُكْتَسَب بِبِنَاءِ الْمُبَالَغَة , إِذْ كَاسِبهَا يَتَكَلَّف فِي أَمْرهَا خَرْق حِجَاب نَهْي اللَّه تَعَالَى وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا , فَيَحْسُن فِي الْآيَة مَجِيء التَّصْرِيفَيْنِ إِحْرَازًا , لِهَذَا الْمَعْنَى .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى صِحَّة إِطْلَاق أَئِمَّتنَا عَلَى أَفْعَال الْعِبَاد كَسْبًا وَاكْتِسَابًا , وَلِذَلِكَ لَمْ يُطْلِقُوا عَلَى ذَلِكَ لَا خَلق وَلَا خَالِق , خِلَافًا لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ مِنْ مُجْتَرِئَة الْمُبْتَدِعَة . وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَئِمَّتنَا ذَلِكَ عَلَى الْعَبْد , وَأَنَّهُ فَاعِل فَبِالْمَجَازِ الْمَحْض . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ وَغَيْره : وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَة لَا يُؤَاخَذ أَحَد بِذَنْبِ أَحَد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا صَحِيح فِي نَفْسه وَلَكِنْ مِنْ غَيْر هَذِهِ الْآيَة .

قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : قَوْله تَعَالَى : " لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْره بِمُثْقَلٍ أَوْ بِخَنْقٍ أَوْ تَغْرِيق فَعَلَيْهِ ضَمَانه قِصَاصًا أَوْ دِيَة , فَخِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ دِيَته عَلَى الْعَاقِلَة , وَذَلِكَ يُخَالِف الظَّاهِر , وَيَدُلّ عَلَى أَنَّ سُقُوط الْقِصَاص عَنْ الْأَب لَا يَقْتَضِي سُقُوطه عَنْ شَرِيكه . وَيَدُلّ عَلَى وُجُوب الْحَدّ عَلَى الْعَاقِلَة إِذَا مَكَّنَتْ مَجْنُونًا مِنْ نَفْسهَا . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : " ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَة فِي أَنَّ الْقَوَد وَاجِب عَلَى شَرِيك الْأَب خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة , وَعَلَى شَرِيك الْخَاطِئ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا قَدْ اِكْتَسَبَ الْقَتْل . وَقَالُوا : إِنَّ اِشْتَرَاك مَنْ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْقِصَاص مَعَ مَنْ يَجِب عَلَيْهِ الْقِصَاص لَا يَكُون شُبْهَة فِي دَرْء مَا يُدْرَأ بِالشُّبْهَةِ " .


الْمَعْنَى : اُعْفُ عَنْ إِثْم مَا يَقَع مِنَّا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ أَحَدهمَا , كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان , وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ) أَيْ إِثْم ذَلِكَ . وَهَذَا لَمْ يُخْتَلَف فِيهِ أَنَّ الْإِثْم مَرْفُوع , وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّق عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام , هَلْ ذَلِكَ مَرْفُوع لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء أَوْ يَلْزَم أَحْكَام ذَلِكَ كُلّه ؟ اِخْتَلَفَ فِيهِ . وَالصَّحِيح أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِف بِحَسَبِ الْوَقَائِع , فَقِسْم لَا يَسْقُط بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ وَالدِّيَات وَالصَّلَوَات الْمَفْرُوضَات . وَقِسْم يَسْقُط بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْق بِكَلِمَةِ الْكُفْر . وَقِسْم ثَالِث يُخْتَلَف فِيهِ كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَان أَوْ حَنِثَ سَاهِيًا , وَمَا كَانَ مِثْله مِمَّا يَقَع خَطَأ وَنِسْيَانًا , وَيُعْرَف ذَلِكَ فِي الْفُرُوع .


أَيْ ثِقْلًا قَالَ مَالِك وَالرَّبِيع : الْإِصْر الْأَمْر الْغَلِيظ الصَّعْب . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْإِصْر شِدَّة الْعَمَل . وَمَا غَلُظَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ الْبَوْل وَنَحْوه , قَالَ الضَّحَّاك : كَانُوا يَحْمِلُونَ أُمُورًا شِدَادًا , وَهَذَا نَحْو قَوْل مَالِك وَالرَّبِيع , وَمِنْهُ قَوْل النَّابِغَة : يَا مَانِع الضَّيْم أَنْ يَغْشَى سَرَاتهمْ وَالْحَامِل الْإِصْر عَنْهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا عَطَاء : الْإِصْر الْمَسْخ قِرَدَة وَخَنَازِير , وَقَالَهُ اِبْن زَيْد أَيْضًا . وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ الذَّنْب الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوْبَة وَلَا كَفَّارَة . وَالْإِصْر فِي اللُّغَة الْعَهْد , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي " . [ آل عِمْرَان : 81 ] وَالْإِصْر : الضِّيق وَالذَّنْب وَالثِّقَل . وَالْإِصَار : الْحَبْل الَّذِي تُرْبَط بِهِ الْأَحْمَال وَنَحْوهَا , يُقَال : أَصَرَ يَأْصِر أَصْرًا حَبَسَهُ . وَالْإِصْر - بِكَسْرِ الْهَمْزَة - مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْمَوْضِع مَأْصِر وَمَأْصَر وَالْجَمْع مَآصِر , وَالْعَامَّة تَقُول مَعَاصِر . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَيُمْكِن أَنْ يُسْتَدَلّ بِهَذَا الظَّاهِر فِي كُلّ عِبَادَة اِدَّعَى الْخَصْم تَثْقِيلهَا , فَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج " [ الْمُؤْمِنُونَ : 78 ] وَكَقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الدِّين يُسْر فَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ) . اللَّهُمَّ شُقَّ عَلَى مَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْت : وَنَحْوه قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ قَالَ : يُحْتَجّ بِهِ فِي نَفْي الْحَرَج وَالضِّيق الْمُنَافِي ظَاهِره لِلْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة , وَهَذَا بَيِّن .

رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة كَانَتْ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج , وَهَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَ بَعْضهمْ : جَمِيع الْقُرْآن نَزَلَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْآيَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ الَّذِي سَمِعَ لَيْلَة الْمِعْرَاج , وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج ; لِأَنَّ لَيْلَة الْمِعْرَاج كَانَتْ بِمَكَّة وَهَذِهِ السُّورَة كُلّهَا مَدَنِيَّة , فَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ لَيْلَة الْمِعْرَاج قَالَ : لَمَّا صَعِدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَ فِي السَّمَوَات فِي مَكَان مُرْتَفِع وَمَعَهُ جِبْرِيل حَتَّى جَاوَزَ سِدْرَة الْمُنْتَهَى فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : إِنِّي لَمْ أُجَاوِز هَذَا الْمَوْضِع وَلَمْ يُؤْمَر بِالْمُجَاوَزَةِ أَحَد هَذَا الْمَوْضِع غَيْرك فَجَاوَزَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِع الَّذِي شَاءَ اللَّه , فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيل بِأَنْ سَلِّمْ عَلَى رَبّك , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : التَّحِيَّات لِلَّهِ وَالصَّلَوَات وَالطَّيِّبَات . قَالَ اللَّه تَعَالَى : السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته , فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُون لِأُمَّتِهِ حَظّ فِي السَّلَام فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ , فَقَالَ جِبْرِيل وَأَهْل السَّمَوَات كُلّهمْ : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " آمَنَ الرَّسُول " عَلَى مَعْنَى الشُّكْر أَيْ صَدَّقَ الرَّسُول " بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَارِك أُمَّته فِي الْكَرَامَة وَالْفَضِيلَة فَقَالَ : " وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْ رُسُله " يَعْنِي يَقُولُونَ آمَنَّا بِجَمِيعِ الرُّسُل وَلَا نَكْفُر بِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا نُفَرِّق بَيْنهمْ كَمَا فَرَّقَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى , فَقَالَ لَهُ رَبّه كَيْف قَبُولهمْ بِآيِ الَّذِي أَنْزَلْتهَا ؟ وَهُوَ قَوْله : " إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير يَعْنِي الْمَرْجِع . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى عِنْد ذَلِكَ : " لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " يَعْنِي طَاقَتهَا وَيُقَال : إِلَّا دُون طَاقَتهَا . " لَهَا مَا كَسَبَتْ " مِنْ الْخَيْر " وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " مِنْ الشَّرّ , فَقَالَ جِبْرِيل عِنْد ذَلِكَ : سَلْ تُعْطَهُ , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا " يَعْنِي إِنْ جَهِلْنَا " أَوْ أَخْطَأْنَا " يَعْنِي إِنْ تَعَمَّدْنَا , وَيُقَال : إِنْ عَمِلْنَا بِالنِّسْيَانِ , وَالْخَطَأ . فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : قَدْ أُعْطِيت ذَلِكَ قَدْ رُفِعَ عَنْ أُمَّتك الْخَطَأ وَالنِّسْيَان . فَسَلْ شَيْئًا آخَر فَقَالَ : " رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا " يَعْنِي ثِقَلًا " كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا " وَهُوَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الطَّيِّبَات بِظُلْمِهِمْ , وَكَانُوا إِذَا أَذْنَبُوا بِاللَّيْلِ وَجَدُوا ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابهمْ , وَكَانَتْ الصَّلَوَات عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ , فَخَفَّفَ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَحَطَّ عَنْهُمْ بَعْدَمَا فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاة . ثُمَّ قَالَ : " رَبّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ " يَقُول : لَا تُثْقِلنَا مِنْ الْعَمَل مَا لَا نُطِيق فَتُعَذِّبنَا , وَيُقَال : مَا تَشُقّ عَلَيْنَا ; لِأَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِخَمْسِينَ صَلَاة لَكَانُوا يُطِيقُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَشُقّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُونَ الْإِدَامَة عَلَيْهِ " وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ ذَلِكَ كُلّه " وَاغْفِرْ لَنَا " وَتَجَاوَزْ عَنَّا , وَيُقَال : " وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ الْمَسْخ " وَاغْفِرْ لَنَا " مِنْ الْخَسْف " وَارْحَمْنَا " مِنْ الْقَذْف ; لِأَنَّ الْأُمَم الْمَاضِيَة بَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْمَسْخ وَبَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْخَسْف وَبَعْضهمْ الْقَذْف ثُمَّ قَالَ : " أَنْتَ مَوْلَانَا " يَعْنِي وَلِيّنَا وَحَافِظنَا " فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَته .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10