الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 181
" فَمَنْ بَدَّلَهُ " شَرْط , وَجَوَابه " فَإِنَّمَا إِثْمه عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ " و " مَا " كَافَّة ل " إِنَّ " عَنْ الْعَمَل . و " إِثْمه " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , " عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ " مَوْضِع الْخَبَر , وَالضَّمِير فِي " بَدَّلَهُ " يَرْجِع إِلَى الْإِيصَاء , لِأَنَّ الْوَصِيَّة فِي مَعْنَى الْإِيصَاء , وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي " سَمِعَهُ " , وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه " [ الْبَقَرَة : 275 ] أَيْ وَعْظ , وَقَوْله : " إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة " [ النِّسَاء : 8 ] أَيْ الْمَال , بِدَلِيلِ قَوْله " مِنْهُ " , وَمِثْله قَوْل الشَّاعِر : مَا هَذِهِ الصَّوْت أَيْ الصَّيْحَة , وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : بَرَهْرَهَةٌ رُؤْدَة رَخْصَة كَخُرْعُوبَة الْبَانَة الْمُنْفَطِر وَالْمُنْفَطِر الْمُنْتَفِخ بِالْوَرَقِ , وَهُوَ أَنْعَم مَا يَكُون , ذَهَبَ إِلَى الْقَضِيب وَتَرَكَ لَفْظ الْخُرْعُوبَة . و " سَمِعَهُ " يُحْتَمَل أَنْ يَكُون سَمِعَهُ مِنْ الْوَصِيّ نَفْسه , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون سَمِعَهُ مِمَّنْ يَثْبُت بِهِ ذَلِكَ عِنْده , وَذَلِكَ عَدْلَانِ , وَالضَّمِير فِي " إِثْمه " عَائِد عَلَى التَّبْدِيل , أَيْ إِثْم التَّبْدِيل عَائِد عَلَى الْمُبَدِّل لَا عَلَى الْمَيِّت , فَإِنَّ الْمُوصِي خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ عَنْ اللَّوْم وَتَوَجَّهَتْ عَلَى الْوَارِث أَوْ الْوَلِيّ . وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الْمُوصِي إِذَا غَيَّرَ الْوَصِيَّة أَوْ لَمْ يُجِزْهَا عَلَى مَا رُسِمَ لَهُ فِي الشَّرْع فَعَلَيْهِ الْإِثْم .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الدَّيْن إِذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّت خَرَجَ بِهِ عَنْ ذِمَّته وَحَصَلَ الْوَلِيّ مَطْلُوبًا بِهِ , لَهُ الْأَجْر فِي قَضَائِهِ , وَعَلَيْهِ الْوِزْر فِي تَأْخِيره , وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : " وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحّ إِذَا كَانَ الْمَيِّت لَمْ يُفَرِّط فِي أَدَائِهِ , وَأَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلهُ عَنْ ذِمَّته تَفْرِيط الْوَلِيّ فِيهِ " .

وَلَا خِلَاف أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَجُوز , مِثْل أَنْ يُوصِي بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِير أَوْ شَيْء مِنْ الْمَعَاصِي أَنَّهُ يَجُوز تَبْدِيله وَلَا يَجُوز إِمْضَاؤُهُ , كَمَا لَا يَجُوز إِمْضَاء مَا زَادَ عَلَى الثُّلُث , قَالَهُ أَبُو عُمَر .


صِفَتَانِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَخْفَى مَعَهُمَا شَيْء مِنْ جَنَف الْمُوصِينَ وَتَبْدِيل الْمُعْتَدِينَ .
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة البقرة الآية رقم 182
" مِنْ " شَرْط , و " خَافَ " بِمَعْنَى خَشِيَ , وَقِيلَ : عَلِمَ , وَالْأَصْل خَوَفَ , قُلِبَتْ الْوَاو أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَتَحَرُّك مَا قَبْلهَا , وَأَهْل الْكُوفَة يُمِيلُونَ " خَافَ " لِيُدِلُّوا عَلَى الْكَسْرَة مِنْ فَعِلَتْ .

الْخِطَاب بِقَوْلِهِ : " فَمَنْ خَافَ " لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . قِيلَ لَهُمْ : إِنْ خِفْتُمْ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا فِي الْوَصِيَّة وَعُدُولًا عَنْ الْحَقّ وَوُقُوعًا فِي إِثْم وَلَمْ يُخْرِجهَا بِالْمَعْرُوفِ , وَذَلِكَ بِأَنْ يُوصِي بِالْمَالِ إِلَى زَوْج اِبْنَته أَوْ لِوَلَدِ اِبْنَته لِيَنْصَرِف الْمَال إِلَى اِبْنَته , أَوْ إِلَى اِبْن اِبْنه وَالْغَرَض أَنْ يَنْصَرِف الْمَال إِلَى اِبْنه , أَوْ أَوْصَى لِبَعِيدٍ وَتَرَكَ الْقَرِيب , فَبَادِرُوا إِلَى السَّعْي فِي الْإِصْلَاح بَيْنهمْ , فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْح سَقَطَ الْإِثْم عَنْ الْمُصْلِح . وَالْإِصْلَاح فَرْض عَلَى الْكِفَايَة , فَإِذَا قَامَ أَحَدهمْ بِهِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ , وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا أَثِمَ الْكُلّ .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى الْحُكْم بِالظَّنِّ , لِأَنَّهُ إِذَا ظَنَّ قَصْد الْفَسَاد وَجَبَ السَّعْي فِي الصَّلَاح , وَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَسَاد لَمْ يَكُنْ صُلْحًا إِنَّمَا يَكُون حُكْمًا بِالدَّفْعِ وَإِبْطَالًا لِلْفَسَادِ وَحَسْمًا لَهُ .


بِالتَّشْدِيدِ قِرَاءَة أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ , وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ , وَالتَّخْفِيف أَبْيَن ; لِأَنَّ أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ " مُوَصٍّ " لِلتَّكْثِيرِ , وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون مِثْل كَرَّمَ وَأَكْرَمَ .


مِنْ جَنِفَ يَجْنَف إِذَا جَارَ , وَالِاسْم مِنْهُ جَنِفٌ وَجَانِف , عَنْ النَّحَّاس , وَقِيلَ : الْجَنَف الْمَيْل . قَالَ الْأَعْشَى : تَجَانَفُ عَنْ حِجْر الْيَمَامَة نَاقَتِي وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلهَا لَسَوَائِكَا وَفِي الصِّحَاح : " الْجَنَف " الْمَيْل , وَقَدْ جَنِفَ بِالْكَسْرِ يَجْنَف جَنَفًا إِذَا مَالَ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا " . قَالَ الشَّاعِر : هُمْ الْمَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمْ لَزُورُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمَوْلَى هَاهُنَا فِي مَوْضِع الْمَوَالِي , أَيْ بَنِي الْعَمّ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " ثُمَّ يُخْرِجكُمْ طِفْلًا " , وَقَالَ لَبِيد : إِنِّي اِمْرُؤٌ مَنَعَتْ أُرُومَة عَامِر ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : وَكَذَلِكَ الْجَانِئ ( بِالْهَمْزِ ) وَهُوَ الْمَائِل أَيْضًا , وَيُقَال : أَجْنَفَ الرَّجُل , أَيْ جَاءَ بِالْجَنَفِ . كَمَا يُقَال : أَلَامَ , أَيْ أَتَى بِمَا يُلَام عَلَيْهِ , وَأَخَسَّ , أَيْ أَتَى بِخَسِيسٍ , وَتَجَانَفَ لِإِثْمٍ , أَيْ مَالَ , وَرَجُل أَجْنَف , أَيْ مُنْحَنِي الظَّهْر , وَجُنَفَى ( عَلَى فُعَلَى بِضَمِّ الْفَاء وَفَتْح الْعَيْن " : اِسْم مَوْضِع , عَنْ اِبْن السِّكِّيت , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ أَنَّهُ قَرَأَ " حَيْفًا " بِالْحَاءِ وَالْيَاء , أَيْ ظُلْمًا , وَقَالَ مُجَاهِد : " فَمَنْ خَافَ " أَيْ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَجْنَف الْمُوصِي وَيَقْطَع مِيرَاث طَائِفَة وَيَتَعَمَّد الْأَذِيَّة , أَوْ يَأْتِيهَا دُون تَعَمُّد , وَذَلِكَ هُوَ الْجَنَف دُون إِثْم , فَإِنْ تَعَمَّدَ فَهُوَ الْجَنَف فِي إِثْم , فَالْمَعْنَى مَنْ وُعِظَ فِي ذَلِكَ وَرُدَّ عَنْهُ فَأَصْلَحَ بِذَلِكَ مَا بَيْنه وَبَيْن وَرَثَته وَبَيْن الْوَرَثَة فِي ذَاتهمْ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ .

عُطِفَ عَلَى " خَافَ " , وَالْكِنَايَة عَنْ الْوَرَثَة , وَلَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْر لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ الْمَعْنَى , وَجَوَاب الشَّرْط " فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " .

لَا خِلَاف أَنَّ الصَّدَقَة فِي حَال الْحَيَاة وَالصِّحَّة أَفْضَل مِنْهَا عِنْد الْمَوْت , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَقَدْ سُئِلَ : أَيّ الصَّدَقَة أَفْضَل ؟ فَقَالَ : ( أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح ) الْحَدِيث , أَخْرَجَهُ أَهْل الصَّحِيح , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَأَنْ يَتَصَدَّق الْمَرْء فِي حَيَاته بِدِرْهَمٍ خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّق عِنْد مَوْته بِمِائَةٍ ) , وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَثَل الَّذِي يُنْفِق أَوْ يَتَصَدَّق عِنْد مَوْته مَثَل الَّذِي يُهْدِي بَعْدَمَا يَشْبَع ) .

مَنْ لَمْ يَضُرّ فِي وَصِيَّته كَانَتْ كَفَّارَة لِمَا تَرَكَ مِنْ زَكَاته . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ مُعَاوِيَة بْن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاة فَأَوْصَى فَكَانَتْ وَصِيَّته عَلَى كِتَاب اللَّه كَانَتْ كَفَّارَة لِمَا تَرَكَ مِنْ زَكَاته ) , فَإِنْ ضَرَّ فِي الْوَصِيَّة فَهِيَ مِنْ الْكَبَائِر

فَقَدْ رَوَى الدَّار قُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْإِضْرَار فِي الْوَصِيَّة مِنْ الْكَبَائِر ) , وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الرَّجُل أَوْ الْمَرْأَة لَيَعْمَل بِطَاعَةِ اللَّه سِتِّينَ سَنَة ثُمَّ يَحْضُرهُمَا الْمَوْت فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّة فَتَجِب لَهُمَا النَّار ) . وَتَرْجَمَ النَّسَائِيّ " الصَّلَاة عَلَى مَنْ جَنَفَ فِي وَصِيَّته " أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن حَجَر أَنْبَأَنَا هُشَيْم عَنْ مَنْصُور وَهُوَ اِبْن زَاذَان عَنْ الْحَسَن عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّة مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْد مَوْته وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَال غَيْرهمْ , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : ( لَقَدْ هَمَمْت أَلَّا أُصَلِّي عَلَيْهِ ) [ ثُمَّ دَعَا مَمْلُوكِيهِ ] فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَة أَجْزَاء ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنهمْ فَأَعْتَقَ اِثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَة , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِره : وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا , بَدَل قَوْله : ( لَقَدْ هَمَمْت أَلَّا أُصَلِّي عَلَيْهِ ) .

أَيْ لَا يَلْحَقهُ إِثْم الْمُبَدِّل الْمَذْكُور قَبْل , وَإِنْ كَانَ فِي فِعْله تَبْدِيل مَا وَلَا بُدّ , وَلَكِنَّهُ تَبْدِيل لِمَصْلَحَةٍ , وَالتَّبْدِيل الَّذِي فِيهِ الْإِثْم إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيل الْهَوَى .


" غَفُور " عَنْ الْمُوصِي إِذَا عَمِلَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَة وَرَجَعَ عَمَّا أَرَادَ مِنْ الْأَذِيَّة , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَغَيْرهمْ : مَعْنَى الْآيَة مَنْ خَافَ أَيْ عَلِمَ وَرَأَى وَأَتَى عِلْمه عَلَيْهِ بَعْد مَوْت الْمُوصِي أَنَّ الْمُوصِي جَنَفَ وَتَعَمَّدَ أَذِيَّة بَعْض وَرَثَته فَأَصْلَحَ مَا وَقَعَ بَيْن الْوَرَثَة مِنْ الِاضْطِرَاب وَالشِّقَاق .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة الآية رقم 183
لَمَّا ذَكَرَ مَا كُتِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْقِصَاص وَالْوَصِيَّة ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الصِّيَام وَأَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ , وَلَا خِلَاف فِيهِ , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْس شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه وَإِقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَالْحَجّ ) رَوَاهُ اِبْن عُمَر , وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَة : الْإِمْسَاك , وَتَرْك التَّنَقُّل مِنْ حَال إِلَى حَال , وَيُقَال لِلصَّمْتِ صَوْم ; لِأَنَّهُ إِمْسَاك عَنْ الْكَلَام , قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَم : " إِنِّي نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا " [ مَرْيَم : 26 ] أَيْ سُكُوتًا عَنْ الْكَلَام , وَالصَّوْم : رُكُود الرِّيح , وَهُوَ إِمْسَاكهَا عَنْ الْهُبُوب . وَصَامَتْ الدَّابَّة عَلَى آرِيّهَا : قَامَتْ وَثَبَتَتْ فَلَمْ تَعْتَلِف , وَصَامَ النَّهَار : اِعْتَدَلَ , وَمَصَام الشَّمْس حَيْثُ تَسْتَوِي فِي مُنْتَصَف النَّهَار , وَمِنْهُ قَوْل النَّابِغَة : خَيْل صِيَام وَخَيْل غَيْر صَائِمَة تَحْت الْعَجَاج وَخَيْل تَعْلُك اللُّجُمَا أَيْ خَيْل ثَابِتَة مُمْسِكَة عَنْ الْجَرْي وَالْحَرَكَة , كَمَا قَالَ : كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامهَا أَيْ هِيَ ثَابِتَة فِي مَوَاضِعهَا فَلَا تَنْتَقِل , وَقَوْله : وَالْبَكَرَات شَرّهنَّ الصَّائِمَة يَعْنِي الَّتِي لَا تَدُور , وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَدَعْهَا وَسَلِّ الْهَمّ عَنْك بِجَسْرَة ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَار وَهَجَّرَا أَيْ أَبْطَأَتْ الشَّمْس عَنْ الِانْتِقَال وَالسَّيْر فَصَارَتْ بِالْإِبْطَاءِ كَالْمُمْسِكَةِ , وَقَالَ آخَر : حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَار وَاعْتَدَل وَسَالَ لِلشَّمْسِ لُعَاب فَنَزَل وَقَالَ آخَر : نَعَامًا بِوَجْرَة صُفْر الْخُدُود مَا تَطْعَم النَّوْم إِلَّا صِيَامَا أَيْ قَائِمَة , وَالشِّعْر فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِير .

وَالصَّوْم فِي الشَّرْع : الْإِمْسَاك عَنْ الْمُفْطِرَات مَعَ اِقْتِرَان النِّيَّة بِهِ مِنْ طُلُوع الْفَجْر إِلَى غُرُوب الشَّمْس , وَتَمَامه وَكَمَاله بِاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَات وَعَدَم الْوُقُوع فِي الْمُحَرَّمَات , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ لَمْ يَدَع قَوْل الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَة فِي أَنْ يَدَع طَعَامه وَشَرَابه ) .

فَضْل الصَّوْم عَظِيم , وَثَوَابه جَسِيم , جَاءَتْ بِذَلِكَ أَخْبَار كَثِيرَة صِحَاح وَحِسَان ذَكَرَهَا الْأَئِمَّة فِي مَسَانِيدهمْ , وَسَيَأْتِي بَعْضهَا , وَيَكْفِيك الْآن مِنْهَا فِي فَضْل الصَّوْم أَنْ خَصَّهُ اللَّه بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ رَبّه : ( يَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلّ عَمَل اِبْن آدَم لَهُ إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) الْحَدِيث , وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّوْم بِأَنَّهُ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَات كُلّهَا لَهُ لِأَمْرَيْنِ بَايَنَ الصَّوْم بِهِمَا سَائِر الْعِبَادَات . أَحَدهمَا : أَنَّ الصَّوْم يَمْنَع مِنْ مَلَاذّ النَّفْس وَشَهَوَاتهَا مَا لَا يَمْنَع مِنْهُ سَائِر الْعِبَادَات . الثَّانِي : أَنَّ الصَّوْم سِرّ بَيْن الْعَبْد وَبَيْن رَبّه لَا يَظْهَر إِلَّا لَهُ ; فَلِذَلِكَ صَارَ مُخْتَصًّا بِهِ , وَمَا سِوَاهُ مِنْ الْعِبَادَات ظَاهِر , رُبَّمَا فَعَلَهُ تَصَنُّعًا وَرِيَاء ; فَلِهَذَا صَارَ أَخَصّ بِالصَّوْمِ مِنْ غَيْره . وَقِيلَ غَيْر هَذَا .

الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى النَّعْت , التَّقْدِير كِتَابًا كَمَا , أَوْ صَوْمًا كَمَا , أَوْ عَلَى الْحَال مِنْ الصِّيَام أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام مُشَبَّهًا كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ , وَقَالَ بَعْض النُّحَاة : الْكَاف فِي مَوْضِع رَفْع نَعْتًا لِلصِّيَامِ , إِذْ لَيْسَ تَعْرِيفه بِمَحْضٍ , لِمَكَانِ الْإِجْمَال الَّذِي فِيهِ بِمَا فَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَة ; فَلِذَلِكَ جَازَ نَعْته ب " كَمَا " إِذْ لَا يُنْعَت بِهَا إِلَّا النَّكِرَات , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ صِيَام , وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْل . و " مَا " فِي مَوْضِع خَفْض , وَصِلَتهَا : " كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ " , وَالضَّمِير فِي " كُتِبَ " يَعُود عَلَى " مَا " , وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَوْضِع التَّشْبِيه

قَالَ الشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : التَّشْبِيه يَرْجِع إِلَى وَقْت الصَّوْم وَقَدْر الصَّوْم , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى كَتَبَ عَلَى قَوْم مُوسَى وَعِيسَى صَوْم رَمَضَان فَغَيَّرُوا , وَزَادَ أَحْبَارهمْ عَلَيْهِمْ عَشْرَة أَيَّام ثُمَّ مَرِضَ بَعْض أَحْبَارهمْ فَنَذَرَ إِنْ شَفَاهُ اللَّه أَنْ يَزِيد فِي صَوْمهمْ عَشْرَة أَيَّام فَفَعَلَ , فَصَارَ صَوْم النَّصَارَى خَمْسِينَ يَوْمًا , فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَرّ فَنَقَلُوهُ إِلَى الرَّبِيع , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل النَّحَّاس وَقَالَ : وَهُوَ الْأَشْبَه بِمَا فِي الْآيَة , وَفِيهِ حَدِيث يَدُلّ عَلَى صِحَّته أَسْنَدَهُ عَنْ دَغْفَل بْن حَنْظَلَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْم شَهْر فَمَرِضَ رَجُل مِنْهُمْ فَقَالُوا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّه لَأَزِيدَن عَشْرَة ثُمَّ كَانَ آخَر فَأَكَلَ لَحْمًا فَأَوْجَعَ فَاهُ فَقَالُوا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّه لِأَزِيدَن سَبْعَة ثُمَّ كَانَ مَلِك آخَر فَقَالُوا لَنُتِمَّنَّ هَذِهِ السَّبْعَة الْأَيَّام وَنَجْعَل صَوْمنَا فِي الرَّبِيع قَالَ فَصَارَ خَمْسِينَ ) , وَقَالَ مُجَاهِد : كَتَبَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ صَوْم شَهْر رَمَضَان عَلَى كُلّ أُمَّة , وَقِيلَ : أَخَذُوا بِالْوَثِيقَةِ فَصَامُوا قَبْل الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبَعْدهَا يَوْمًا , قَرْنًا بَعْد قَرْن , حَتَّى بَلَغَ صَوْمهمْ خَمْسِينَ يَوْمًا , فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَرّ فَنَقَلُوهُ إِلَى الْفَصْل الشَّمْسِيّ . قَالَ النَّقَّاش : وَفِي ذَلِكَ حَدِيث عَنْ دَغْفَل بْن حَنْظَلَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالسُّدِّيّ .

قُلْت : وَلِهَذَا - وَاَللَّه أَعْلَم - كُرِهَ الْآن صَوْم يَوْم الشَّكّ وَالسِّتَّة مِنْ شَوَّال بِإِثْرِ يَوْم الْفِطْر مُتَّصِلًا بِهِ . قَالَ الشَّعْبِيّ : لَوْ صُمْت السَّنَة كُلّهَا لَأَفْطَرْت يَوْم الشَّكّ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى فُرِضَ عَلَيْهِمْ صَوْم شَهْر رَمَضَان كَمَا فُرِضَ عَلَيْنَا , فَحَوَّلُوهُ إِلَى الْفَصْل الشَّمْسِيّ ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُوَافِق الْقَيْظ فَعَدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا , ثُمَّ جَاءَ بَعْدهمْ قَرْن فَأَخَذُوا بِالْوَثِيقَةِ لِأَنْفُسِهِمْ فَصَامُوا قَبْل الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبَعْدهَا يَوْمًا , ثُمَّ لَمْ يَزَلْ الْآخَر يَسْتَنّ بِسُنَّةِ مَنْ كَانَ قَبْله حَتَّى صَارُوا إِلَى خَمْسِينَ يَوْمًا فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ " , وَقِيلَ : التَّشْبِيه رَاجِع إِلَى أَصْل وُجُوبه عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ , لَا فِي الْوَقْت وَالْكَيْفِيَّة , وَقِيلَ : التَّشْبِيه وَاقِع عَلَى صِفَة الصَّوْم الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنْعهمْ مِنْ الْأَكْل وَالشُّرْب وَالنِّكَاح , فَإِذَا حَانَ الْإِفْطَار فَلَا يَفْعَل هَذِهِ الْأَشْيَاء مَنْ نَامَ , وَكَذَلِكَ كَانَ فِي النَّصَارَى أَوَّلًا وَكَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام , ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ : " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُمْ " [ الْبَقَرَة : 187 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه , قَالَهُ السُّدِّيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع , وَقَالَ مُعَاذ بْن جَبَل وَعَطَاء : التَّشْبِيه وَاقِع عَلَى الصَّوْم لَا عَلَى الصِّفَة وَلَا عَلَى الْعِدَّة وَإِنْ اِخْتَلَفَ الصِّيَامَانِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان . الْمَعْنَى : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام " أَيْ فِي أَوَّل الْإِسْلَام ثَلَاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر وَيَوْم عَاشُورَاء " كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ " وَهُمْ الْيَهُود - فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس - ثَلَاثَة أَيَّام وَيَوْم عَاشُورَاء , ثُمَّ نُسِخَ هَذَا فِي هَذِهِ الْأُمَّة بِشَهْرِ رَمَضَان , وَقَالَ مُعَاذ بْن جَبَل : نُسِخَ ذَلِكَ " بِأَيَّامٍ مَعْدُودَات " ثُمَّ نُسِخَتْ الْأَيَّام بِرَمَضَان .

" لَعَلَّ " تَرَجٍّ فِي حَقّهمْ , كَمَا تَقَدَّمَ . و " تَتَّقُونَ " قِيلَ : مَعْنَاهُ هُنَا تَضْعُفُونَ , فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَلَّ الْأَكْل ضَعُفَتْ الشَّهْوَة , وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ الشَّهْوَة قَلَّتْ الْمَعَاصِي وَهَذَا وَجْه مَجَازِيّ حَسَن .

وَقِيلَ : لِتَتَّقُوا الْمَعَاصِي , وَقِيلَ : هُوَ عَلَى الْعُمُوم , لِأَنَّ الصِّيَام كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الصِّيَام جُنَّة وَوِجَاء ) وَسَبَب تَقْوَى ; لِأَنَّهُ يُمِيت الشَّهَوَات .
أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 184
" أَيَّامًا " مَفْعُول ثَانٍ ب " كُتِبَ " , قَالَهُ الْفَرَّاء , وَقِيلَ : نُصِبَ عَلَى الظَّرْف ل " كُتِبَ " , أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام فِي أَيَّام , وَالْأَيَّام الْمَعْدُودَات : شَهْر رَمَضَان , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى خِلَاف مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذ , وَاَللَّه أَعْلَم .

لِلْمَرِيضِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَلَّا يُطِيق الصَّوْم بِحَالٍ , فَعَلَيْهِ الْفِطْر وَاجِبًا . الثَّانِيَة : أَنْ يَقْدِر عَلَى الصَّوْم بِضَرَرٍ وَمَشَقَّة , فَهَذَا يُسْتَحَبّ لَهُ الْفِطْر وَلَا يَصُوم إِلَّا جَاهِل . قَالَ اِبْن سِيرِينَ : مَتَى حَصَلَ الْإِنْسَان فِي حَال يَسْتَحِقّ بِهَا اِسْم الْمَرَض صَحَّ الْفِطْر , قِيَاسًا عَلَى الْمُسَافِر لِعِلَّةِ السَّفَر , وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى الْفِطْر ضَرُورَة . قَالَ طَرِيف بْن تَمَّام الْعُطَارِدِيّ : دَخَلْت عَلَى مُحَمَّد بْن سِيرِينَ فِي رَمَضَان وَهُوَ يَأْكُل , فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : إِنَّهُ وَجِعَتْ أُصْبُعِي هَذِهِ , وَقَالَ جُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء : إِذَا كَانَ بِهِ مَرَض يُؤْلِمهُ وَيُؤْذِيه أَوْ يَخَاف تَمَادِيهِ أَوْ يَخَاف تَزَيُّده صَحَّ لَهُ الْفِطْر . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَذْهَب حُذَّاق أَصْحَاب مَالِك وَبِهِ يُنَاظِرُونَ , وَأَمَّا لَفْظ مَالِك فَهُوَ الْمَرَض الَّذِي يَشُقّ عَلَى الْمَرْء وَيَبْلُغ بِهِ , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي الْمَرَض الْمُبِيح لِلْفِطْرِ , فَقَالَ مَرَّة : هُوَ خَوْف التَّلَف مِنْ الصِّيَام . وَقَالَ مَرَّة : شِدَّة الْمَرَض وَالزِّيَادَة فِيهِ وَالْمَشَقَّة الْفَادِحَة , وَهَذَا صَحِيح مَذْهَبه وَهُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِر ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخُصّ مَرَضًا مِنْ مَرَض فَهُوَ مُبَاح فِي كُلّ مَرَض , إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيل مِنْ الصُّدَاع وَالْحُمَّى وَالْمَرَض الْيَسِير الَّذِي لَا كُلْفَة مَعَهُ فِي الصِّيَام . وَقَالَ الْحَسَن : إِذَا لَمْ يَقْدِر مِنْ الْمَرَض عَلَى الصَّلَاة قَائِمًا أَفْطَرَ , وَقَالَهُ النَّخَعِيّ , وَقَالَتْ فِرْقَة : لَا يُفْطِر بِالْمَرَضِ إِلَّا مَنْ دَعَتْهُ ضَرُورَة الْمَرَض نَفْسه إِلَى الْفِطْر , وَمَتَى اِحْتَمَلَ الضَّرُورَة مَعَهُ لَمْ يُفْطِر . وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى .

قُلْت : قَوْل اِبْن سِيرِينَ أَعْدَل شَيْء فِي هَذَا الْبَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الْبُخَارِيّ : اِعْتَلَلْت بِنَيْسَابُور عِلَّة خَفِيفَة وَذَلِكَ فِي شَهْر رَمَضَان , فَعَادَنِي إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ فِي نَفَر مِنْ أَصْحَابه فَقَالَ لِي : أَفْطَرْت يَا أَبَا عَبْد اللَّه ؟ فَقُلْت نَعَمْ , فَقَالَ : خَشِيت أَنْ تَضْعُف عَنْ قَبُول الرُّخْصَة . قُلْت : حَدَّثَنَا عَبْدَان عَنْ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ قُلْت لِعَطَاء : مِنْ أَيّ الْمَرَض أُفْطِر ؟ قَالَ : مِنْ أَيّ مَرَض كَانَ , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا " قَالَ الْبُخَارِيّ : وَهَذَا الْحَدِيث لَمْ يَكُنْ عِنْد إِسْحَاق , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا خَافَ الرَّجُل عَلَى نَفْسه وَهُوَ صَائِم إِنْ لَمْ يُفْطِر أَنْ تَزْدَاد عَيْنه وَجَعًا أَوْ حُمَّاهُ شِدَّة أَفْطَرَ .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي السَّفَر الَّذِي يَجُوز فِيهِ الْفِطْر وَالْقَصْر , بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى سَفَر الطَّاعَة كَالْحَجِّ وَالْجِهَاد , وَيَتَّصِل بِهَذَيْنِ سَفَر صِلَة الرَّحِم وَطَلَب الْمَعَاش الضَّرُورِيّ . أَمَّا سَفَر التِّجَارَات وَالْمُبَاحَات فَمُخْتَلَف فِيهِ بِالْمَنْعِ وَالْإِجَازَة , وَالْقَوْل بِالْجَوَازِ أَرْجَح , وَأَمَّا سَفَر الْعَاصِي فَيُخْتَلَف فِيهِ بِالْجَوَازِ وَالْمَنْع , وَالْقَوْل بِالْمَنْعِ أَرْجَح , قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة , وَمَسَافَة الْفِطْر عِنْد مَالِك حَيْثُ تُقْصَر الصَّلَاة وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَدْر ذَلِكَ , فَقَالَ مَالِك : يَوْم وَلَيْلَة , ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَهُوَ ظَاهِر مَذْهَبه , وَقَالَ مَرَّة : اِثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَقَالَ مَرَّة سِتَّة وَثَلَاثُونَ مِيلًا وَقَالَ مَرَّة : مَسِيرَة يَوْم وَلَيْلَة , وَرُوِيَ عَنْهُ يَوْمَانِ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَفَصَلَ مَرَّة بَيْن الْبَرّ وَالْبَحْر , فَقَالَ فِي الْبَحْر مَسِيرَة يَوْم وَلَيْلَة , وَفِي الْبَرّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا , وَفِي الْمَذْهَب ثَلَاثُونَ مِيلًا , وَفِي غَيْر الْمَذْهَب ثَلَاثَة أَمْيَال , وَقَالَ اِبْن عَمْرو وَابْن عَبَّاس وَالثَّوْرِيّ : الْفِطْر فِي سَفَر ثَلَاثَة أَيَّام , حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة .

قُلْت : وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيّ : وَكَانَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس يُفْطِرَانِ وَيَقْصُرَانِ فِي أَرْبَعَة بُرُد وَهِيَ سِتَّة عَشَر فَرْسَخًا .

اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُسَافِر فِي رَمَضَان لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُبَيِّت الْفِطْر , لِأَنَّ الْمُسَافِر لَا يَكُون مُسَافِرًا بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُقِيم , وَإِنَّمَا يَكُون مُسَافِرًا بِالْعَمَلِ وَالنُّهُوض , وَالْمُقِيم لَا يَفْتَقِر إِلَى عَمَل ; لِأَنَّهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَة كَانَ مُقِيمًا فِي الْحِين ; لِأَنَّ الْإِقَامَة لَا تَفْتَقِر إِلَى عَمَل فَافْتَرَقَا , وَلَا خِلَاف بَيْنهمْ أَيْضًا فِي الَّذِي يُؤَمِّل السَّفَر أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُفْطِر قَبْل أَنْ يَخْرُج , فَإِنْ أَفْطَرَ فَقَالَ اِبْن حَبِيب : إِنْ كَانَ قَدْ تَأَهَّبَ لِسَفَرِهِ وَأَخَذَ فِي أَسْبَاب الْحَرَكَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَصْبَغ وَابْن الْمَاجِشُونِ , فَإِنْ عَاقَهُ عَنْ السَّفَر عَائِق كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَحَسْبه أَنْ يَنْجُو إِنْ سَافَرَ , وَرَوَى عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاء يَوْم ; لِأَنَّهُ مُتَأَوَّل فِي فِطْره , وَقَالَ أَشْهَب : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْكَفَّارَة سَافَرَ أَوْ لَمْ يُسَافِر , وَقَالَ سَحْنُون : عَلَيْهِ الْكَفَّارَة سَافَرَ أَوْ لَمْ يُسَافِر , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَة تَقُول : غَدًا تَأْتِينِي حَيْضَتِي , فَتُفْطِر لِذَلِكَ , ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْل عَبْد الْمَلِك وَأَصْبَغ وَقَالَ : لَيْسَ مِثْل الْمَرْأَة ; لِأَنَّ الرَّجُل يُحْدِث السَّفَر إِذَا شَاءَ , وَالْمَرْأَة لَا تُحْدِث الْحَيْضَة .

قُلْت : قَوْل اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب فِي نَفْي الْكَفَّارَة حَسَن ; لِأَنَّهُ فِعْل مَا يَجُوز لَهُ فِعْله , وَالذِّمَّة بَرِيئَة , فَلَا يَثْبُت فِيهَا شَيْء إِلَّا بِيَقِينٍ وَلَا يَقِين مَعَ الِاخْتِلَاف , ثُمَّ إِنَّهُ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " أَوْ عَلَى سَفَر " , وَقَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا أَصَحّ أَقَاوِيلهمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة , لِأَنَّهُ غَيْر مُنْتَهِك لِحُرْمَةِ الصَّوْم بِقَصْدٍ إِلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَأَوِّل , وَلَوْ كَانَ الْأَكْل مَعَ نِيَّة السَّفَر يُوجِب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ كَانَ قَبْل خُرُوجه مَا أَسْقَطَهَا عَنْهُ خُرُوجه , فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدهُ كَذَلِكَ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر النَّيْسَابُورِيّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق بْن سَهْل بِمِصْر قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي مَرْيَم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر أَخْبَرَنِي زَيْد بْن أَسْلَم قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : أَتَيْت أَنَس بْن مَالِك فِي رَمَضَان وَهُوَ يُرِيد السَّفَر وَقَدْ رَحَلَتْ دَابَّته وَلَبِسَ ثِيَاب السَّفَر وَقَدْ تَقَارَبَ غُرُوب الشَّمْس , فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ رَكِبَ , فَقُلْت لَهُ : سُنَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , وَرُوِيَ عَنْ أَنَس أَيْضًا قَالَ : قَالَ لِي أَبُو مُوسَى : أَلَمْ أُنْبِئَنك إِذَا خَرَجْت خَرَجْت صَائِمًا , وَإِذَا دَخَلْت دَخَلْت صَائِمًا , فَإِذَا خَرَجْت فَاخْرُجْ مُفْطِرًا , وَإِذَا دَخَلْت فَادْخُلْ مُفْطِرًا . وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : يُفْطِر إِنْ شَاءَ فِي بَيْته يَوْم يُرِيد أَنْ يَخْرُج . وَقَالَ أَحْمَد : يُفْطِر إِذَا بَرَزَ عَنْ الْبُيُوت . وَقَالَ إِسْحَاق : لَا , بَلْ حِين يَضَع رِجْله فِي الرَّحْل . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل أَحْمَد صَحِيح ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ أَصْبَحَ صَحِيحًا ثُمَّ اِعْتَلَّ : إِنَّهُ يُفْطِر بَقِيَّة يَوْمه , وَكَذَلِكَ إِذَا أَصْبَحَ فِي الْحَضَر ثُمَّ خَرَجَ إِلَى السَّفَر فَلَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُفْطِر , وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يُفْطِر يَوْمه ذَلِكَ وَإِنْ نَهَضَ فِي سَفَره , كَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيّ وَمَكْحُول وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيّ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَاخْتَلَفُوا إِنْ فَعَلَ , فَكُلّهمْ قَالَ يَقْضِي وَلَا يُكَفِّر . قَالَ مَالِك : لِأَنَّ السَّفَر عُذْر طَارِئ , فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأ عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْض أَصْحَاب مَالِك أَنَّهُ يَقْضِي وَيُكَفِّر , وَهُوَ قَوْل اِبْن كِنَانَة وَالْمَخْزُومِيّ , وَحَكَاهُ الْبَاجِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ بِهِ , قَالَ : لِأَنَّ السَّفَر عُذْر طَرَأَ بَعْد لُزُوم الْعِبَادَة وَيُخَالِف الْمَرَض وَالْحَيْض ; لِأَنَّ الْمَرَض يُبِيح لَهُ الْفِطْر , وَالْحَيْض يُحَرِّم عَلَيْهَا الصَّوْم , وَالسَّفَر لَا يُبِيح لَهُ ذَلِكَ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِهَتْكِ حُرْمَته . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْر فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَأَمَّا قَوْلهمْ " لَا يُفْطِر " فَإِنَّمَا ذَلِكَ اِسْتِحْبَاب لِمَا عَقَدَهُ فَإِنْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّه كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاء , وَأَمَّا الْكَفَّارَة فَلَا وَجْه لَهَا , وَمَنْ أَوْجَبَهَا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبهُ اللَّه وَلَا رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة : ( يُفْطِر إِنْ شَاءَ فِي يَوْمه ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مُسَافِرًا ) وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق .

قُلْت : وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَة [ بَاب مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَر لِيَرَاهُ النَّاس ] وَسَاقَ الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَان , ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاس فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّة وَذَلِكَ فِي رَمَضَان . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَاب شَرِبَهُ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاس ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّة ) , وَهَذَا نَصّ فِي الْبَاب فَسَقَطَ مَا خَالَفَهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق , وَفِيهِ أَيْضًا حُجَّة عَلَى مَنْ يَقُول : إِنَّ الصَّوْم لَا يَنْعَقِد فِي السَّفَر . رُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة وَابْن عُمَر . قَالَ اِبْن عُمَر : ( مَنْ صَامَ فِي السَّفَر قَضَى فِي الْحَضَر ) وَعَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : ( الصَّائِم فِي السَّفَر كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَر ) وَقَالَ بِهِ قَوْم مِنْ أَهْل الظَّاهِر , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه , وَبِمَا رَوَى كَعْب بْن عَاصِم قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر ) , وَفِيهِ أَيْضًا حُجَّة عَلَى مَنْ يَقُول : إِنَّ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْم فِي السَّفَر فَلَهُ أَنْ يُفْطِر وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُطَرِّف , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَعَلَيْهِ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث , وَكَانَ مَالِك يُوجِب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الصَّوْم وَالْفِطْر , فَلَمَّا اِخْتَارَ الصَّوْم وَبَيَّتَهُ لَزِمَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفِطْر , فَإِنْ أَفْطَرَ عَامِدًا مِنْ غَيْر عُذْر كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَصْحَابه إِلَّا عَبْد الْمَلِك فَإِنَّهُ قَالَ : إِنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى سَفَره وَلَا عُذْر لَهُ , لِأَنَّ الْمُسَافِر إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْر لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى سَفَره . وَقَالَ سَائِر الْفُقَهَاء بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَاز : إِنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , مِنْهُمْ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَسَائِر فُقَهَاء الْكُوفَة , قَالَهُ أَبُو عُمَر .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَفْضَل مِنْ الْفِطْر أَوْ الصَّوْم فِي السَّفَر , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي بَعْض مَا رُوِيَ عَنْهُمَا : الصَّوْم أَفْضَل لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ , وَجُلّ مَذْهَب مَالِك التَّخْيِير وَكَذَلِكَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَنْ اِتَّبَعَهُ : هُوَ مُخَيَّر , وَلَمْ يُفَصِّل , وَكَذَلِكَ اِبْن عُلَيَّة , لِحَدِيثِ أَنَس قَالَ : ( سَافَرْنَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَان فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِم عَلَى الْمُفْطِر وَلَا الْمُفْطِر عَلَى الصَّائِم ) خَرَّجَهُ مَالِك وَالْبُخَارِيّ وَمُسْلِم , وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص الثَّقَفِيّ وَأَنَس بْن مَالِك صَاحِبَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا قَالَا : ( الصَّوْم فِي السَّفَر أَفْضَل لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ) وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر , وَابْن عَبَّاس : الرُّخْصَة أَفْضَل , وَقَالَ بِهِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالشَّعْبِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , كُلّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْفِطْر أَفْضَل ; لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر " [ الْبَقَرَة : 185 ]

فِي الْكَلَام حَذْف , أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَأَفْطَرَ فَلْيَقْضِ , وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ أَهْل الْبَلَد إِذَا صَامُوا تِسْعَة وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَفِي الْبَلَد رَجُل مَرِيض لَمْ يَصِحّ فَإِنَّهُ يَقْضِي تِسْعَة وَعِشْرِينَ يَوْمًا , وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ الْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ : إِنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا بِشَهْرٍ مِنْ غَيْر مُرَاعَاة عَدَد الْأَيَّام . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَهَذَا بَعِيد ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " وَلَمْ يَقُلْ فَشَهْر مِنْ أَيَّام أُخَر , وَقَوْله : " فَعِدَّة " يَقْتَضِي اِسْتِيفَاء عَدَد مَا أَفْطَرَ فِيهِ , وَلَا شَكّ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بَعْض رَمَضَان وَجَبَ قَضَاء مَا أَفْطَرَ بَعْده بِعَدَدِهِ , كَذَلِكَ يَجِب أَنْ يَكُون حُكْم إِفْطَاره جَمِيعه فِي اِعْتِبَار عَدَده .

" فَعِدَّة " اِرْتَفَعَ " عِدَّة " عَلَى خَبَر الِابْتِدَاء , تَقْدِيره فَالْحُكْم أَوْ فَالْوَاجِب عِدَّة , وَيَصِحّ فَعَلَيْهِ عِدَّة , وَقَالَ الْكِسَائِيّ : وَيَجُوز فَعِدَّة , أَيْ فَلْيَصُمْ عِدَّة مِنْ أَيَّام , وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَعَلَيْهِ صِيَام عِدَّة , فَحُذِفَ الْمُضَاف وَأُقِيمَتْ الْعِدَّة مَقَامه . وَالْعِدَّة فِعْلَة مِنْ الْعَدّ , وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَعْدُود , كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُون , تَقُول : أَسْمَع جَعْجَعَة وَلَا أَرَى طَحْنًا , وَمِنْهُ عِدَّة الْمَرْأَة . " مِنْ أَيَّام أُخَر " لَمْ يَنْصَرِف " أُخَر " عِنْد سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهَا مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّ سَبِيل فُعَل مِنْ هَذَا الْبَاب أَنْ يَأْتِي بِالْأَلِفِ وَاللَّام , نَحْو الْكُبَر وَالْفُضَل , وَقَالَ الْكِسَائِيّ : هِيَ مَعْدُولَة عَنْ آخِر , كَمَا تَقُول : حَمْرَاء وَحُمَر , فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْصَرِف . وَقِيلَ : مُنِعَتْ مِنْ الصَّرْف لِأَنَّهَا عَلَى وَزْن جُمَع وَهِيَ صِفَة لِأَيَّامٍ , وَلَمْ يَجِئْ أُخْرَى لِئَلَّا يَشْكُل بِأَنَّهَا صِفَة لِلْعِدَّةِ , وَقِيلَ : إِنَّ " أُخَر " جَمْع أُخْرَى كَأَنَّهُ أَيَّام أُخْرَى ثُمَّ كُثِّرَتْ فَقِيلَ : أَيَّام أُخَر , وَقِيلَ : إِنَّ نَعْت الْأَيَّام يَكُون مُؤَنَّثًا فَلِذَلِكَ نُعِتَتْ بِأُخَر .

اِخْتَلَفَ النَّاس فِي وُجُوب تَتَابُعهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي " سُنَنه " , فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : نَزَلَتْ " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر مُتَتَابِعَات " فَسَقَطَتْ " مُتَتَابِعَات " قَالَ هَذَا إِسْنَاد صَحِيح , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْم مِنْ رَمَضَان فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يَقْطَعهُ ) فِي إِسْنَاده عَبْد الرَّحْمَن بْن إِبْرَاهِيم ضَعِيف الْحَدِيث , وَأَسْنَدَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَضَاء رَمَضَان " صُمْهُ كَيْف شِئْت " , وَقَالَ اِبْن عُمَر : " صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْته " , وَأُسْنِدَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وَابْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة وَمُعَاذ بْن جَبَل وَعَمْرو بْن الْعَاص , وَعَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ تَقْطِيع صِيَام رَمَضَان فَقَالَ : ( ذَلِكَ إِلَيْك أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدكُمْ دَيْن فَقَضَى الدِّرْهَم وَالدِّرْهَمَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ قَضَاهُ فَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يَعْفُو وَيَغْفِر ) . إِسْنَاده حَسَن إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَل وَلَا يَثْبُت مُتَّصِلًا , وَفِي مُوَطَّأ مَالِك عَنْ نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ يَقُول : يَصُوم رَمَضَان مُتَتَابِعًا مَنْ أَفْطَرَهُ مُتَتَابِعًا مِنْ مَرَض أَوْ فِي سَفَر . قَالَ الْبَاجِيّ فِي " الْمُنْتَقَى " : يُحْتَمَل أَنْ يُرِيد الْإِخْبَار عَنْ الْوُجُوب , وَيُحْتَمَل أَنْ يُرِيد الْإِخْبَار عَنْ الِاسْتِحْبَاب , وَعَلَى الِاسْتِحْبَاب جُمْهُور الْفُقَهَاء , وَإِنْ فَرَّقَهُ أَجْزَأَهُ , وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ , وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا قَوْله تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " وَلَمْ يَخُصّ مُتَفَرِّقَة مِنْ مُتَتَابِعَة , وَإِذَا أَتَى بِهَا مُتَفَرِّقَة فَقَدْ صَامَ عِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر , فَوَجَبَ أَنْ يَجْزِيه " . اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُع فِي الشَّهْر لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا , وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِين فِي الْقَضَاء فَجَازَ التَّفْرِيق .

لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوب الْقَضَاء مِنْ غَيْر تَعْيِين لِزَمَانٍ ; لِأَنَّ اللَّفْظ مُسْتَرْسِل عَلَى الْأَزْمَان لَا يَخْتَصّ بِبَعْضِهَا دُون بَعْض , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : يَكُون عَلَيَّ الصَّوْم مِنْ رَمَضَان فَمَا أَسْتَطِيع أَنْ أَقْضِيه إِلَّا فِي شَعْبَان , الشُّغْل مِنْ رَسُول اللَّه , أَوْ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فِي رِوَايَة : وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا نَصّ وَزِيَادَة بَيَان لِلْآيَةِ , وَذَلِكَ يَرُدّ عَلَى دَاوُد قَوْله : إِنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ثَانِي شَوَّال , وَمَنْ لَمْ يَصُمْهُ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ آثِم عِنْده , وَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْق رَقَبَة فَوَجَدَ رَقَبَة تُبَاع بِثَمَنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهَا وَيَشْتَرِي غَيْرهَا ; لِأَنَّ الْفَرْض عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِق أَوَّل رَقَبَة يَجِدهَا فَلَا يَجْزِيه غَيْرهَا , وَلَوْ كَانَتْ عِنْده رَقَبَة فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَشْتَرِي غَيْرهَا , وَلَوْ مَاتَ الَّذِي عِنْده فَلَا يَبْطُل الْعِتْق , كَمَا يَبْطُل فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِق رَقَبَة بِعَيْنِهَا فَمَاتَتْ يَبْطُل نَذْره , وَذَلِكَ يُفْسِد قَوْله . وَقَالَ بَعْض الْأُصُولِيِّينَ : إِذَا مَاتَ بَعْد مُضِيّ الْيَوْم الثَّانِي مِنْ شَوَّال لَا يَعْصِي عَلَى شَرْط الْعَزْم , وَالصَّحِيح أَنَّهُ غَيْر آثِم وَلَا مُفَرِّط , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور , غَيْر أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ تَعْجِيل الْقَضَاء لِئَلَّا تُدْرِكهُ الْمَنِيَّة فَيَبْقَى عَلَيْهِ الْفَرْض .

مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاء أَيَّام مِنْ رَمَضَان فَمَضَتْ عَلَيْهِ عِدَّتهَا مِنْ الْأَيَّام بَعْد الْفِطْر أَمْكَنَهُ فِيهَا صِيَامه فَأَخَّرَ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَهُ مَانِع مَنَعَهُ مِنْ الْقَضَاء إِلَى رَمَضَان آخَر فَلَا إِطْعَام عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ حِين فَعَلَ مَا يَجُوز لَهُ مِنْ التَّأْخِير . هَذَا قَوْل الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ , وَيَرَوْنَهُ قَوْل اِبْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة .

فَإِنْ أَخَّرَ قَضَاءَهُ عَنْ شَعْبَان الَّذِي هُوَ غَايَة الزَّمَان الَّذِي يُقْضَى فِيهِ رَمَضَان فَهَلْ يَلْزَمهُ لِذَلِكَ كَفَّارَة أَوْ لَا , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : نَعَمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ وَدَاوُد : لَا .

قُلْت : وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيّ لِقَوْلِهِ , وَيُذْكَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مُرْسَلًا وَابْن عَبَّاس أَنَّهُ يُطْعِم , وَلَمْ يَذْكُر اللَّه الْإِطْعَام , إِنَّمَا قَالَ : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " .

قُلْت : قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مُسْنَدًا فِيمَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاء رَمَضَان حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَان آخَر قَالَ : ( يَصُوم هَذَا مَعَ النَّاس , وَيَصُوم الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ وَيُطْعِم لِكُلِّ يَوْم مِسْكِينًا ) خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إِسْنَاد صَحِيح . وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُل أَفْطَرَ فِي شَهْر رَمَضَان مِنْ مَرَض ثُمَّ صَحَّ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَان آخَر قَالَ : ( يَصُوم الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ يَصُوم الشَّهْر الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِم لِكُلِّ يَوْم مِسْكِينًا ) . فِي إِسْنَاده اِبْن نَافِع وَابْن وَجِيه ضَعِيفَانِ .

فَإِنْ تَمَادَى بِهِ الْمَرَض فَلَمْ يَصِحّ حَتَّى جَاءَ رَمَضَان آخَر , فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عُمَر ( أَنَّهُ يُطْعِم مَكَان كُلّ يَوْم مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَة , ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء ) وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا لَمْ يَصِحّ بَيْن الرَّمَضَانَيْنِ صَامَ عَنْ هَذَا وَأَطْعَمَ عَنْ الثَّانِي وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ , وَإِذَا صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ رَمَضَان آخَر صَامَ عَنْ هَذَا وَأَطْعَمَ عَنْ الْمَاضِي , فَإِذَا أَفْطَرَ قَضَاهُ ) إِسْنَاد صَحِيح . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَأَقْوَال الصَّحَابَة عَلَى خِلَاف الْقِيَاس قَدْ يُحْتَجّ بِهَا , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ : مَرِضْت رَمَضَانَيْنِ ؟ فَقَالَ لَهُ اِبْن عَبَّاس : ( اِسْتَمَرَّ بِك مَرَضك , أَوْ صَحَحْت بَيْنهمَا ؟ ) فَقَالَ : بَلْ صَحَحْت , قَالَ : ( صُمْ رَمَضَانَيْنِ وَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) وَهَذَا بَدَل مِنْ قَوْله : إِنَّهُ لَوْ تَمَادَى بِهِ مَرَضه لَا قَضَاء عَلَيْهِ . وَهَذَا يُشْبِه مَذْهَبهمْ فِي الْحَامِل وَالْمُرْضِع أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ وَلَا قَضَاء عَلَيْهِمَا , عَلَى مَا يَأْتِي .

وَاخْتَلَفَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِطْعَام فِي قَدْر مَا يَجِب أَنْ يُطْعِم , فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ يَقُولُونَ : يُطْعِم عَنْ كُلّ يَوْم مُدًّا . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : يُطْعِم نِصْف صَاع عَنْ كُلّ يَوْم .

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ أَوْ جَامَعَ فِي قَضَاء رَمَضَان مَاذَا يَجِب عَلَيْهِ , فَقَالَ مَالِك : مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ قَضَاء رَمَضَان نَاسِيًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْء غَيْر قَضَائِهِ , وَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ ثُمَّ يَقْضِيه , وَلَوْ أَفْطَرَهُ عَامِدًا أَثِمَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْر قَضَاء ذَلِكَ الْيَوْم وَلَا يَتَمَادَى ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَفِّهِ عَمَّا يَكُفّ الصَّائِم هَاهُنَا إِذْ هُوَ غَيْر صَائِم عِنْد جَمَاعَة الْعُلَمَاء لِإِفْطَارِهِ عَامِدًا , وَأَمَّا الْكَفَّارَة فَلَا خِلَاف عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّهَا لَا تَجِب فِي ذَلِكَ , وَهُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء . قَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ قَضَاء رَمَضَان بِإِصَابَةِ أَهْله أَوْ غَيْر ذَلِكَ كَفَّارَة , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ قَضَاء ذَلِكَ الْيَوْم . وَقَالَ قَتَادَة : عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي قَضَاء رَمَضَان الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاء رَمَضَان فَعَلَيْهِ يَوْمَانِ , وَكَانَ اِبْن الْقَاسِم يُفْتِي بِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : إِنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي قَضَاء الْقَضَاء كَانَ عَلَيْهِ مَكَانه صِيَام يَوْمَيْنِ , كَمَنْ أَفْسَدَ حَجّه بِإِصَابَةِ أَهْله , وَحَجَّ قَابِلًا فَأَفْسَدَ حَجّه أَيْضًا بِإِصَابَةِ أَهْله كَانَ عَلَيْهِ حَجَّتَانِ . قَالَ أَبُو عُمَر : قَدْ خَالَفَهُ فِي الْحَجّ اِبْن وَهْب وَعَبْد الْمَلِك , وَلَيْسَ يَجِب الْقِيَاس عَلَى أَصْل مُخْتَلَف فِيهِ , وَالصَّوَاب عِنْدِي - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ إِلَّا قَضَاء يَوْم وَاحِد ; لِأَنَّهُ يَوْم وَاحِد أَفْسَدَهُ مَرَّتَيْنِ .

قُلْت : وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " فَمَتَى أَتَى بِيَوْمٍ تَامّ بَدَلًا عَمَّا أَفْطَرَهُ فِي قَضَاء رَمَضَان فَقَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ , وَلَا يَجِب عَلَيْهِ غَيْر ذَلِكَ , وَاَللَّه أَعْلَم .

وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَان لِعِلَّةٍ فَمَاتَ مِنْ عِلَّتِهِ تِلْكَ , أَوْ سَافَرَ فَمَاتَ فِي سَفَره ذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ , وَقَالَ طَاوُس وَقَتَادَة فِي الْمَرِيض يَمُوت قَبْل أَنْ يَصِحّ : يُطْعَم عَنْهُ .

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْم مِنْ رَمَضَان لَمْ يَقْضِهِ , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ : لَا يَصُوم أَحَد عَنْ أَحَد , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَاللَّيْث وَأَبُو عُبَيْد وَأَهْل الظَّاهِر : يُصَام عَنْهُ , إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوهُ بِالنَّذْرِ , وَرُوِيَ مِثْله عَنْ الشَّافِعِيّ , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق فِي قَضَاء رَمَضَان : يُطْعَم عَنْهُ . اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالصَّوْمِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام صَامَ عَنْهُ وَلِيّه ) . إِلَّا أَنَّ هَذَا عَامّ فِي الصَّوْم , يُخَصِّصهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ أُمِّي قَدْ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم نَذْر - وَفِي رِوَايَة صَوْم شَهْر - أَفَأَصُوم عَنْهَا ؟ قَالَ : ( أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمّك دَيْن فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا ) قَالَتْ : نَعَمْ , قَالَ : ( فَصُومِي عَنْ أُمّك ) . اِحْتَجَّ مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانه : " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " [ الْأَنْعَام : 164 ] وَقَوْله : " وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى " [ النَّجْم : 39 ] وَقَوْله : " وَلَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا " [ الْأَنْعَام : 164 ] وَبِمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يُصَلِّي أَحَد عَنْ أَحَد وَلَا يَصُوم أَحَد عَنْ أَحَد وَلَكِنْ يُطْعِم عَنْهُ مَكَان يَوْم مُدًّا مِنْ حِنْطَة ) .

قُلْت : وَهَذَا الْحَدِيث عَامّ , فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : ( لَا يَصُوم أَحَد عَنْ أَحَد ) صَوْم رَمَضَان , فَأَمَّا صَوْم النَّذْر فَيَجُوز , بِدَلِيلِ حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَغَيْره , فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَيْضًا مِنْ حَدِيث بُرَيْدَة نَحْو حَدِيث اِبْن عَبَّاس , وَفِي بَعْض طُرُقه : صَوْم شَهْرَيْنِ أَفَأَصُوم عَنْهَا ؟ قَالَ : ( صُومِي عَنْهَا ) قَالَتْ : إِنَّهَا لَمْ تَحُجّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( حُجِّي عَنْهَا ) , فَقَوْلهَا : شَهْرَيْنِ , يَبْعُد أَنْ يَكُون رَمَضَان , وَاَللَّه أَعْلَم , وَأَقْوَى مَا يُحْتَجّ بِهِ لِمَالِك أَنَّهُ عَمَل أَهْل الْمَدِينَة , وَيَعْضُدهُ الْقِيَاس الْجَلِيّ , وَهُوَ أَنَّهُ عِبَادَة بَدَنِيَّة لَا مَدْخَل لِلْمَالِ فِيهَا فَلَا تُفْعَل عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ . وَلَا يُنْقَض هَذَا بِالْحَجِّ لِأَنَّ لِلْمَالِ فِيهِ مَدْخَلًا .

اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ قَالَ : إِنَّ الصَّوْم لَا يَنْعَقِد فِي السَّفَر وَعَلَيْهِ الْقَضَاء أَبَدًا , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " أَيْ فَعَلَيْهِ عِدَّة , وَلَا حَذْف فِي الْكَلَام وَلَا إِضْمَار وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر )

قَالَ : مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْبِرّ فَهُوَ مِنْ الْإِثْم , فَيَدُلّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صَوْم رَمَضَان لَا يَجُوز فِي السَّفَر ] , وَالْجُمْهُور يَقُولُونَ : فِيهِ مَحْذُوف فَأَفْطَرَ , كَمَا تَقَدَّمَ . وَهُوَ الصَّحِيح , لِحَدِيثِ أَنَس قَالَ : ( سَافَرْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَان فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِم عَلَى الْمُفْطِر وَلَا الْمُفْطِر عَلَى الصَّائِم ) رَوَاهُ مَالِك عَنْ حُمَيْد الطَّوِيل عَنْ أَنَس , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : ( غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِتِّ عَشْرَة مَضَتْ مِنْ رَمَضَان فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ , فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِم عَلَى الْمُفْطِر وَلَا الْمُفْطِر عَلَى الصَّائِم )

" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " قَرَأَ الْجُمْهُور بِكَسْرِ الطَّاء وَسُكُون الْيَاء , وَأَصْله يُطَوَّقُونَهُ نُقِلَتْ الْكَسْرَة إِلَى الطَّاء وَانْقَلَبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا , وَقَرَأَ حُمَيْد عَلَى الْأَصْل مِنْ غَيْر اِعْتِلَال , وَالْقِيَاس الِاعْتِلَال , وَمَشْهُور قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس " يُطَوَّقُونَهُ " بِفَتْحِ الطَّاء مُخَفَّفَة وَتَشْدِيد الْوَاو بِمَعْنَى يُكَلَّفُونَهُ . وَقَدْ رَوَى مُجَاهِد " يَطِيقُونَهُ " بِالْيَاءِ بَعْد الطَّاء عَلَى لَفْظ " يَكِيلُونَهُ " وَهِيَ بَاطِلَة وَمُحَال ; لِأَنَّ الْفِعْل مَأْخُوذ مِنْ الطَّوْق , فَالْوَاو لَازِمَة وَاجِبَة فِيهِ وَلَا مَدْخَل لِلْيَاءِ فِي هَذَا الْمِثَال . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَأَنْشَدَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى النَّحْوِيّ لِأَبِي ذُؤَيْب : فَقِيلَ تَحَمَّلْ فَوْق طَوْقك إِنَّهَا مُطَبَّعَة مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرهَا فَأَظْهَرَ الْوَاو فِي الطَّوْق , وَصَحَّ بِذَلِكَ أَنَّ وَاضِع الْيَاء مَكَانهَا يُفَارِق الصَّوَاب , وَرَوَى اِبْن الْأَنْبَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس " يَطَّيَّقُونَهُ " بِفَتْحِ الْيَاء وَتَشْدِيد الطَّاء وَالْيَاء مَفْتُوحَتَيْنِ بِمَعْنَى يُطِيقُونَهُ , يُقَال : طَاقَ وَأَطَاقَ وَأُطِيق بِمَعْنًى , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعَائِشَة وَطَاوُس وَعَمْرو بْن دِينَار " يَطَّوَّقُونَهُ " بِفَتْحِ الْيَاء وَشَدّ الطَّاء مَفْتُوحَة , وَهِيَ صَوَاب فِي اللُّغَة ; لِأَنَّ الْأَصْل يَتَطَوَّقُونَهُ فَأُسْكِنَتْ التَّاء وَأُدْغِمَتْ فِي الطَّاء فَصَارَتْ طَاء مُشَدَّدَة , وَلَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآن , خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَهَا قُرْآنًا , وَإِنَّمَا هِيَ قِرَاءَة عَلَى التَّفْسِير , وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَالشَّام " فِدْيَة طَعَام " مُضَافًا " مَسَاكِين " جَمْعًا , وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " طَعَام مِسْكِين " بِالْإِفْرَادِ فِيمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ عَطَاء عَنْهُ , وَهِيَ قِرَاءَة حَسَنَة ; لِأَنَّهَا بَيَّنَتْ الْحُكْم فِي الْيَوْم , وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْد , وَهِيَ قِرَاءَة أَبِي عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : فَبَيَّنَتْ أَنَّ لِكُلِّ يَوْم إِطْعَام وَاحِد , فَالْوَاحِد مُتَرْجَم عَنْ الْجَمِيع , وَلَيْسَ الْجَمِيع بِمُتَرْجَمٍ عَنْ وَاحِد , وَجَمْع الْمَسَاكِين لَا يُدْرَى كَمْ مِنْهُمْ فِي الْيَوْم إِلَّا مِنْ غَيْر الْآيَة , وَتَخْرُج قِرَاءَة الْجَمْع فِي " مَسَاكِين " لَمَّا كَانَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ جَمْع وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمْ يَلْزَمهُ مِسْكِين فَجُمِعَ لَفْظه , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة " [ النُّور : 4 ] أَيْ اِجْلِدُوا كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة , فَلَيْسَتْ الثَّمَانُونَ مُتَفَرِّقَة فِي جَمِيعهمْ , بَلْ لِكُلِّ وَاحِد ثَمَانُونَ , قَالَ مَعْنَاهُ أَبُو عَلِيّ , وَاخْتَارَ قِرَاءَة الْجَمْع النَّحَّاس قَالَ : وَمَا اِخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد مَرْدُود ; لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُعْرَف بِالدِّلَالَةِ , فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة طَعَام مَسَاكِين " أَنَّ لِكُلِّ يَوْم مِسْكِينًا , فَاخْتِيَار هَذِهِ الْقِرَاءَة لِتَرُدّ جَمْعًا عَلَى جَمْع . قَالَ النَّحَّاس : وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد أَنْ يُقْرَأ " فِدْيَة طَعَام " قَالَ : لِأَنَّ الطَّعَام هُوَ الْفِدْيَة , وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الطَّعَام نَعْتًا لِأَنَّهُ جَوْهَر وَلَكِنَّهُ يَجُوز عَلَى الْبَدَل , وَأَبْيَن مِنْهُ أَنْ يُقْرَأ " فِدْيَة طَعَام " بِالْإِضَافَةِ ; لِأَنَّ " فِدْيَة " مُبْهَمَة تَقَع لِلطَّعَامِ وَغَيْره , قِصَار مِثْل قَوْلك : هَذَا ثَوْب خَزّ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْآيَةِ , فَقِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَة . رَوَى الْبُخَارِيّ : " وَقَالَ اِبْن نُمَيْر حَدَّثَنَا الْأَعْمَش حَدَّثَنَا عَمْرو بْن مُرَّة حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَزَلَ رَمَضَان فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلّ يَوْم مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْم مِمَّنْ يُطِيقهُ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا " وَأَنْ تَصُومُوا خَيْر لَكُمْ " , وَعَلَى هَذَا قِرَاءَة الْجُمْهُور " يُطِيقُونَهُ " أَيْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ فَرْض الصِّيَام هَكَذَا : مَنْ أَرَادَ صَامَ وَمَنْ أَرَادَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة رُخْصَة لِلشُّيُوخِ وَالْعَجَزَة خَاصَّة إِذَا أَفْطَرُوا وَهُمْ يُطِيقُونَ الصَّوْم , ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ " [ الْبَقَرَة : 185 ] فَزَالَتْ الرُّخْصَة إِلَّا لِمَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ . قَالَ الْفَرَّاء : الضَّمِير فِي " يُطِيقُونَهُ " يَجُوز أَنْ يَعُود عَلَى الصِّيَام , أَيْ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصِّيَام أَنْ يُطْعِمُوا إِذَا أَفْطَرُوا , ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ : " وَأَنْ تَصُومُوا " , وَيَجُوز أَنْ يَعُود عَلَى الْفِدَاء , أَيْ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الْفِدَاء فِدْيَة , وَأَمَّا قِرَاءَة " يُطَوَّقُونَهُ " عَلَى مَعْنَى يُكَلَّفُونَهُ مَعَ الْمَشَقَّة اللَّاحِقَة لَهُمْ , كَالْمَرِيضِ وَالْحَامِل فَإِنَّهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ لَكِنْ بِمَشَقَّةٍ تَلْحَقهُمْ فِي أَنْفُسهمْ , فَإِنْ صَامُوا أَجْزَأَهُمْ وَإِنْ اِفْتَدَوْا فَلَهُمْ ذَلِكَ , فَفَسَّرَ اِبْن عَبَّاس - إِنْ كَانَ الْإِسْنَاد عَنْهُ صَحِيحًا - " يُطِيقُونَهُ " بِيُطَوَّقُونَهُ وَيَتَكَلَّفُونَهُ فَأَدْخَلَهُ بَعْض النَّقَلَة فِي الْقُرْآن . رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " قَالَ : أَثْبَتَتْ لِلْحُبْلَى وَالْمُرْضِع , وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة طَعَام مِسْكِين " قَالَ : كَانَتْ رُخْصَة لِلشَّيْخِ الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة وَهُمَا يُطِيقَانِ الصَّوْم أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَان كُلّ يَوْم مِسْكِينًا , وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِع إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادهمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا , وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ : رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِير أَنْ يُفْطِر وَيُطْعِم عَنْ كُلّ يَوْم مِسْكِينًا وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ , هَذَا إِسْنَاد صَحِيح . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة طَعَام " لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ , هُوَ الشَّيْخ الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا , فَيُطْعِمَا مَكَان كُلّ يَوْم مِسْكِينًا , وَهَذَا صَحِيح , وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ وَلَد لَهُ حُبْلَى أَوْ مُرْضِع : أَنْتِ مِنْ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الصِّيَام , عَلَيْك الْجَزَاء وَلَا عَلَيْك الْقَضَاء , وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح . وَفِي رِوَايَة : كَانَتْ لَهُ أُمّ وَلَد تُرْضِع - مِنْ غَيْر شَكّ - فَأُجْهِدَتْ فَأَمَرَهَا أَنْ تُفْطِر وَلَا تَقْضِي , هَذَا صَحِيح .

قُلْت : فَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاح عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْآيَة لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَأَنَّهَا مُحْكَمَة فِي حَقّ مَنْ ذُكِرَ , وَالْقَوْل الْأَوَّل صَحِيح أَيْضًا , إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون النَّسْخ هُنَاكَ بِمَعْنَى التَّخْصِيص , فَكَثِيرًا مَا يُطْلِق الْمُتَقَدِّمُونَ النَّسْخ بِمَعْنَاهُ , وَاَللَّه أَعْلَم , وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالضَّحَّاك وَالنَّخَعِيّ وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي : الْحَامِل وَالْمُرْضِع يُفْطِرَانِ وَلَا إِطْعَام عَلَيْهِمَا , بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيض يُفْطِر وَيَقْضِي , وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر , وَحَكَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْد عَنْ أَبِي ثَوْر , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر , وَهُوَ قَوْل مَالِك فِي الْحُبْلَى إِنْ أَفْطَرَتْ , فَأَمَّا الْمُرْضِع إِنْ أَفْطَرَتْ فَعَلَيْهَا الْقَضَاء وَالْإِطْعَام , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد : يُفْطِرَانِ وَيُطْعِمَانِ وَيَقْضِيَانِ , وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَشَايِخ وَالْعَجَائِز الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الصِّيَام أَوْ يُطِيقُونَهُ عَلَى مَشَقَّة شَدِيدَة أَنْ يُفْطِرُوا , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَلَيْهِمْ , فَقَالَ رَبِيعَة وَمَالِك : لَا شَيْء عَلَيْهِمْ , غَيْر أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَوْ أَطْعَمُوا عَنْ كُلّ يَوْم مِسْكِينًا كَانَ أَحَبّ إِلَيَّ . وَقَالَ أَنَس وَابْن عَبَّاس وَقَيْس بْن السَّائِب وَأَبُو هُرَيْرَة : عَلَيْهِمْ الْفِدْيَة , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , اِتِّبَاعًا لِقَوْلِ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْ جَمِيعهمْ , وَقَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " ثُمَّ قَالَ : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة طَعَام مِسْكِين " وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ , فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْفِدْيَة , وَالدَّلِيل لِقَوْلِ مَالِك : أَنَّ هَذَا مُفْطِر لِعُذْرٍ مَوْجُود فِيهِ وَهُوَ الشَّيْخُوخَة وَالْكِبَر فَلَمْ يَلْزَمهُ إِطْعَام كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيض , وَرُوِيَ هَذَا عَنْ الثَّوْرِيّ وَمَكْحُول , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر .

وَاخْتَلَفَ مَنْ أَوْجَبَ الْفِدْيَة عَلَى مَنْ ذُكِرَ فِي مِقْدَارهَا , فَقَالَ مَالِك : مُدّ بِمُدِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلّ يَوْم أَفْطَرَهُ , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : كَفَّارَة كُلّ يَوْم صَاع تَمْر أَوْ نِصْف صَاع بُرّ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس نِصْف صَاع مِنْ حِنْطَة , ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : مَنْ أَدْرَكَهُ الْكِبَر فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُوم فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْم مُدّ مِنْ قَمْح . وَرُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّهُ ضَعُفَ عَنْ الصَّوْم عَامًا فَصَنَعَ جَفْنَة مِنْ طَعَام ثُمَّ دَعَا بِثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ .


قَالَ اِبْن شِهَاب : مَنْ أَرَادَ الْإِطْعَام مَعَ الصَّوْم , وَقَالَ مُجَاهِد : مَنْ زَادَ فِي الْإِطْعَام عَلَى الْمُدّ . اِبْن عَبَّاس : " فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا " قَالَ : مِسْكِينًا آخَر فَهُوَ خَيْر لَهُ . ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إِسْنَاد صَحِيح ثَابِت . و " خَيْر " الثَّانِي صِفَة تَفْضِيل , وَكَذَلِكَ الثَّالِث و " خَيْر " الْأَوَّل , وَقَرَأَ عِيسَى بْن عَمْرو وَيَحْيَى بْن وَثَّاب وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " يَطَّوَّع خَيْرًا " مُشَدَّدًا وَجَزْم الْعَيْن عَلَى مَعْنَى يَتَطَوَّع . الْبَاقُونَ " تَطَوَّعَ " بِالتَّاءِ وَتَخْفِيف الطَّاء وَفَتْح الْعَيْن عَلَى الْمَاضِي .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة البقرة الآية رقم 185
فِيهِ سَبْع مَسَائِل الْأُولَى : قَالَ أَهْل التَّارِيخ : أَوَّل مَنْ صَامَ رَمَضَان نُوح عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا خَرَجَ مِنْ السَّفِينَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل مُجَاهِد : كَتَبَ اللَّه رَمَضَان عَلَى كُلّ أُمَّة , وَمَعْلُوم أَنَّهُ كَانَ قَبْل نُوح أُمَم , وَاَللَّه أَعْلَم , وَالشَّهْر مُشْتَقّ مِنْ الْإِشْهَار لِأَنَّهُ مُشْتَهِر لَا يَتَعَذَّر عِلْمه عَلَى أَحَد يُرِيدهُ , وَمِنْهُ يُقَال : شَهَرْت السَّيْف إِذَا سَلَلْته . وَرَمَضَان مَأْخُوذ مِنْ رَمَضَ الصَّائِم يُرْمَض إِذَا حَرَّ جَوْفه مِنْ شِدَّة الْعَطَش . وَالرَّمْضَاء مَمْدُودَة : شِدَّة الْحَرّ , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( صَلَاة الْأَوَّابِينَ إِذَا رَمِضَتْ الْفِصَال ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَرَمَض الْفِصَال أَنْ تُحْرِق الرَّمْضَاء أَخْفَافهَا فَتَبْرُك مِنْ شِدَّة حَرّهَا . فَرَمَضَان - فِيمَا ذَكَرُوا - وَافَقَ شِدَّة الْحَرّ , فَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الرَّمْضَاء . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَشَهْر رَمَضَان يُجْمَع عَلَى رَمَضَانَات وَأَرْمِضَاء , يُقَال إِنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاء الشُّهُور عَنْ اللُّغَة الْقَدِيمَة سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا , فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْر أَيَّام رَمِضَ الْحَرّ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَان لِأَنَّهُ يَرْمِض الذُّنُوب أَيْ يُحْرِقهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة , مِنْ الْإِرْمَاض وَهُوَ الْإِحْرَاق , وَمِنْهُ رَمِضَتْ قَدَمه مِنْ الرَّمْضَاء أَيْ اِحْتَرَقَتْ , وَأَرْمَضَتْنِي الرَّمْضَاء أَيْ أَحْرَقَتْنِي , وَمِنْهُ قِيلَ : أَرْمَضَنِي الْأَمْر , وَقِيلَ : لِأَنَّ الْقُلُوب تَأْخُذ فِيهِ مِنْ حَرَارَة الْمَوْعِظَة وَالْفِكْرَة فِي أَمْر الْآخِرَة كَمَا يَأْخُذ الرَّمْل وَالْحِجَارَة مِنْ حَرّ الشَّمْس , وَالرَّمْضَاء : الْحِجَارَة الْمُحْمَاة , وَقِيلَ : هُوَ مِنْ رَمَضْت النَّصْل أَرْمِضهُ وَأَرْمُضهُ رَمْضًا إِذَا دَقَقْته بَيْن حَجَرَيْنِ لِيَرِقّ . وَمِنْهُ نَصْل رَمِيض وَمَرْمُوض - عَنْ اِبْن السِّكِّيت - , وَسُمِّيَ الشَّهْر بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْمُضُونَ أَسْلِحَتهمْ فِي رَمَضَان لِيُحَارِبُوا بِهَا فِي شَوَّال قَبْل دُخُول الْأَشْهُر الْحُرُم , وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ اِسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة " نَاتِق " وَأَنْشَدَ لِلْمُفَضَّلِ : وَفِي نَاتِق أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَة الْوَغَى وَوَلَّتْ عَلَى الْأَدْبَار فُرْسَان خَثْعَمَا و " شَهْر " بِالرَّفْعِ قِرَاءَة الْجَمَاعَة عَلَى الِابْتِدَاء , وَالْخَبَر " الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن " . أَوْ يَرْتَفِع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ , الْمَعْنَى : الْمَفْرُوض عَلَيْكُمْ صَوْمه شَهْر رَمَضَان , أَوْ فِيمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْر رَمَضَان , وَيَجُوز أَنْ يَكُون " شَهْر " مُبْتَدَأ , و " الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن " صِفَة , وَالْخَبَر " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْر " , وَأُعِيدَ ذِكْر الشَّهْر تَعْظِيمًا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " الْحَاقَّة مَا الْحَاقَّة " [ الْحَاقَّة : 1 - 2 ] , وَجَازَ أَنْ يَدْخُلهُ مَعْنَى الْجَزَاء ; لِأَنَّ شَهْر رَمَضَان وَإِنْ كَانَ مَعْرِفَة فَلَيْسَ مَعْرِفَة بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ شَائِع فِي جَمِيع الْقَابِل , قَالَهُ أَبُو عَلِيّ . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَشَهْر بْن حَوْشَب نَصْب " شَهْر " , وَرَوَاهَا هَارُون الْأَعْوَر عَنْ أَبِي عَمْرو , وَمَعْنَاهُ : اِلْزَمُوا شَهْر رَمَضَان أَوْ صُومُوا . و " الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن " نَعْت لَهُ , وَلَا يَجُوز أَنْ يَنْتَصِب بِتَصُومُوا ; لِئَلَّا يُفَرَّق بَيْن الصِّلَة وَالْمَوْصُول بِخَبَرِ أَنْ وَهُوَ " خَيْر لَكُمْ " . الرُّمَّانِيّ : يَجُوز نَصْبه عَلَى الْبَدَل مِنْ قَوْل " أَيَّامًا مَعْدُودَات " [ الْبَقَرَة : 184 ] .

الثَّانِيَة : وَاخْتُلِفَ هَلْ يُقَال " رَمَضَان " دُون أَنْ يُضَاف إِلَى شَهْر , فَكَرِهَ ذَلِكَ مُجَاهِد وَقَالَ : يُقَال كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْخَبَر : ( لَا تَقُولُوا رَمَضَان بَلْ اُنْسُبُوهُ كَمَا نَسَبَهُ اللَّه فِي الْقُرْآن فَقَالَ شَهْر رَمَضَان ) , وَكَانَ يَقُول : بَلَغَنِي أَنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه . وَكَانَ يُكْرَه أَنْ يُجْمَع لَفْظه لِهَذَا الْمَعْنَى , وَيَحْتَجّ بِمَا رُوِيَ : رَمَضَان اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى , وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ مِنْ حَدِيث أَبِي مَعْشَر نَجِيح وَهُوَ ضَعِيف , وَالصَّحِيح جَوَاز إِطْلَاق رَمَضَان مِنْ غَيْر إِضَافَة كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاح وَغَيْرهَا . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا جَاءَ رَمَضَان فُتِحَتْ أَبْوَاب الرَّحْمَة وَغُلِّقَتْ أَبْوَاب النَّار وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِين ) . وَفِي صَحِيح الْبُسْتِيّ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَانَ رَمَضَان فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَاب الرَّحْمَة وَغُلِّقَتْ أَبْوَاب جَهَنَّم وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِين ) , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ أَنَس بْن أَبِي أَنَس أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُول . .. , فَذَكَرَهُ . قَالَ الْبُسْتِيّ : أَنَس بْن أَبِي أَنَس هَذَا هُوَ وَالِد مَالِك بْن أَنَس , وَاسْم أَبِي أَنَس مَالِك بْن أَبِي عَامِر مِنْ ثِقَات أَهْل الْمَدِينَة , وَهُوَ مَالِك اِبْن أَبِي عَامِر بْن عَمْرو بْن الْحَارِث بْن عُثْمَان بْن جُثَيْل بْن عَمْرو مِنْ ذِي أَصْبَح مِنْ أَقْيَال الْيَمَن , وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَاكُمْ رَمَضَان شَهْر مُبَارَك فَرَضَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامه تُفْتَح فِيهِ أَبْوَاب السَّمَاء وَتُغْلَق فِيهِ أَبْوَاب الْجَحِيم وَتُغَلّ فِيهِ مَرَدَة الشَّيَاطِين لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَة خَيْر مِنْ أَلْف شَهْر مَنْ حُرِمَ خَيْرهَا فَقَدْ حُرِمَ ) , وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ أَيْضًا وَقَالَ : فَقَوْله ( مَرَدَة الشَّيَاطِين ) تَقْيِيد لِقَوْلِهِ : ( صُفِّدَتْ الشَّيَاطِين وَسُلْسِلَتْ ) , وَرَوَى النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَار : ( إِذَا كَانَ رَمَضَان فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَة فِيهِ تَعْدِل حَجَّة ) , وَرَوَى النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ صِيَام رَمَضَان [ عَلَيْكُمْ ] وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامه فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) , وَالْآثَار فِي هَذَا كَثِيرَة , كُلّهَا بِإِسْقَاطِ شَهْر , وَرُبَّمَا أَسْقَطَتْ الْعَرَب ذِكْر الشَّهْر مِنْ رَمَضَان . قَالَ الشَّاعِر : جَارِيَة فِي دِرْعهَا الْفَضْفَاض أَبْيَض مِنْ أُخْت بَنِي إِبَاضِ جَارِيَة فِي رَمَضَان الْمَاضِي تُقَطِّع الْحَدِيث بِالْإِيمَاضِ وَفَضْل رَمَضَان عَظِيم , وَثَوَابه جَسِيم , يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَعْنَى الِاشْتِقَاق مِنْ كَوْنه مُحْرِقًا لِلذُّنُوبِ , وَمَا كَتَبْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيث .

الثَّالِثَة : فَرَضَ اللَّه صِيَام شَهْر رَمَضَان أَيْ مُدَّة هِلَاله , وَبِهِ سُمِّيَ الشَّهْر , كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث : ( فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ الشَّهْر ) أَيْ الْهِلَال , وَسَيَأْتِي , وَقَالَ الشَّاعِر : أَخَوَانِ مِنْ نَجْد عَلَى ثِقَة وَالشَّهْر مِثْل قُلَامَة الظُّفْر حَتَّى تَكَامَلَ فِي اِسْتِدَارَته فِي أَرْبَع زَادَتْ عَلَى عَشْر وَفُرِضَ عَلَيْنَا عِنْد غُمَّة الْهِلَال إِكْمَال عِدَّة شَعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا , وَإِكْمَال عِدَّة رَمَضَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا , حَتَّى نَدْخُل فِي الْعِبَادَة بِيَقِينٍ وَنَخْرُج عَنْهَا بِيَقِينٍ , فَقَالَ فِي كِتَابه " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْك الذِّكْر لِتُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " [ النَّحْل : 44 ] , وَرَوَى الْأَئِمَّة الْأَثْبَات عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَد ) فِي رِوَايَة ( فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ الشَّهْر فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ) . وَقَدْ ذَهَبَ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه بْن الشِّخِّير وَهُوَ مِنْ كِبَار التَّابِعِينَ وَابْن قُتَيْبَة مِنْ اللُّغَوِيِّينَ فَقَالَا : يُعَوَّل عَلَى الْحِسَاب عِنْد الْغَيْم بِتَقْدِيرِ الْمَنَازِل وَاعْتِبَار حِسَابهَا فِي صَوْم رَمَضَان , حَتَّى إِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحْوًا لَرُئِيَ , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ) أَيْ اِسْتَدِلُّوا عَلَيْهِ بِمَنَازِلِهِ , وَقَدِّرُوا إِتْمَام الشَّهْر بِحِسَابِهِ . وَقَالَ الْجُمْهُور : مَعْنَى ( فَاقْدُرُوا لَهُ ) فَأَكْمِلُوا الْمِقْدَار , يُفَسِّرهُ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ( فَأَكْمِلُوا الْعِدَّة ) . وَذَكَرَ الدَّاوُدِيّ أَنَّهُ قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْله " فَاقْدُرُوا لَهُ " : أَيْ قَدِّرُوا الْمَنَازِل , وَهَذَا لَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ بِهِ إِلَّا بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ يُعْتَبَر فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ , وَالْإِجْمَاع حُجَّة عَلَيْهِمْ , وَقَدْ رَوَى اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك فِي الْإِمَام لَا يَصُوم لِرُؤْيَةِ الْهِلَال وَلَا يُفْطِر لِرُؤْيَتِهِ , وَإِنَّمَا يَصُوم وَيُفْطِر عَلَى الْحِسَاب : إِنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يُتَّبَع . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ زَلَّ بَعْض أَصْحَابنَا فَحَكَى عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ قَالَ : يُعَوَّل عَلَى الْحِسَاب , وَهِيَ عَثْرَة لَا لَعًا لَهَا .

الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ هَلْ يَثْبُت هِلَال رَمَضَان بِشَهَادَةِ وَاحِد أَوْ شَاهِدَيْنِ , فَقَالَ مَالِك : لَا يُقْبَل فِيهِ شَهَادَة الْوَاحِد لِأَنَّهَا شَهَادَة عَلَى هِلَال فَلَا يُقْبَل فِيهَا أَقَلّ مِنْ اِثْنَيْنِ , أَصْله الشَّهَادَة عَلَى هِلَال شَوَّال وَذِي الْحَجَّة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : يُقْبَل الْوَاحِد , لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : تَرَاءَى النَّاس الْهِلَال فَأَخْبَرْت بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْته , فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاس بِصِيَامِهِ , وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : تَفَرَّدَ بِهِ مَرْوَان بْن مُحَمَّد عَنْ اِبْن وَهْب وَهُوَ ثِقَة . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ " أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْد عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَى رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان فَصَامَ , أَحْسَبهُ قَالَ : وَأَمَرَ النَّاس أَنْ يَصُومُوا , وَقَالَ : أَصُوم يَوْمًا مِنْ شَعْبَان أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِر يَوْمًا مِنْ رَمَضَان . قَالَ الشَّافِعِيّ : فَإِنْ لَمْ تَرَ الْعَامَّة هِلَال شَهْر رَمَضَان وَرَآهُ رَجُل عَدْل رَأَيْت أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ وَالِاحْتِيَاط , وَقَالَ الشَّافِعِيّ بَعْد : لَا يَجُوز عَلَى رَمَضَان إِلَّا شَاهِدَانِ . قَالَ الشَّافِعِيّ وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : لَا أَقْبَل عَلَيْهِ إِلَّا شَاهِدَيْنِ , وَهُوَ الْقِيَاس عَلَى كُلّ مُغَيَّب " .

الْخَامِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَأَى هِلَال رَمَضَان وَحْده أَوْ هِلَال شَوَّال , فَرَوَى الرَّبِيع عَنْ الشَّافِعِيّ : مَنْ رَأَى هِلَال رَمَضَان وَحْده فَلْيَصُمْهُ , وَمَنْ رَأَى هِلَال شَوَّال وَحْده فَلْيُفْطِرْ , وَلْيُخْفِ ذَلِكَ , وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك فِي الَّذِي يَرَى هِلَال رَمَضَان وَحْده أَنَّهُ يَصُوم ; لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِر وَهُوَ يَعْلَم أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ شَهْر رَمَضَان , وَمَنْ رَأَى هِلَال شَوَّال وَحْده فَلَا يُفْطِر ; لِأَنَّ النَّاس يُتَّهَمُونَ عَلَى أَنْ يُفْطِر مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مَأْمُونًا , ثُمَّ يَقُول أُولَئِكَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ : قَدْ رَأَيْنَا الْهِلَال . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهَذَا قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد وَأَحْمَد بْن حَنْبَل , وَقَالَ عَطَاء وَإِسْحَاق : لَا يَصُوم وَلَا يُفْطِر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يَصُوم وَيُفْطِر .

السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَخْبَرَ مُخْبِر عَنْ رُؤْيَة بَلَد , فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْرُب أَوْ يَبْعُد , فَإِنْ قَرُبَ فَالْحُكْم وَاحِد , وَإِنْ بَعُدَ فَلِأَهْلِ كُلّ بَلَد رُؤْيَتهمْ , رُوِيَ هَذَا عَنْ عِكْرِمَة وَالْقَاسِم وَسَالِم , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق , وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْبُخَارِيّ حَيْثُ بَوَّبَ : [ لِأَهْلِ كُلّ بَلَد رُؤْيَتهمْ ] وَقَالَ آخَرُونَ . إِذَا ثَبَتَ عِنْد النَّاس أَنَّ أَهْل بَلَد قَدْ رَأَوْهُ فَعَلَيْهِمْ قَضَاء مَا أَفْطَرُوا , هَكَذَا قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد وَالشَّافِعِيّ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا أَعْلَمهُ إِلَّا قَوْل الْمُزَنِيّ وَالْكُوفِيّ .

قُلْت : ذَكَرَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ فِي كِتَاب " أَحْكَام الْقُرْآن " لَهُ : وَأَجْمَعَ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَامَ أَهْل بَلَد ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ , وَأَهْل بَلَد تِسْعَة وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَنَّ عَلَى الَّذِينَ صَامُوا تِسْعَة وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَضَاء يَوْم . وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ , إِذْ كَانَتْ الْمَطَالِع فِي الْبُلْدَان يَجُوز أَنْ تَخْتَلِف , وَحُجَّة أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة قَوْله تَعَالَى : " وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة " وَثَبَتَ بِرُؤْيَةِ أَهْل بَلَد أَنَّ الْعِدَّة ثَلَاثُونَ فَوَجَبَ عَلَى هَؤُلَاءِ إِكْمَالهَا . وَمُخَالِفهمْ يَحْتَجّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ) الْحَدِيث , وَذَلِكَ يُوجِب اِعْتِبَار عَادَة كُلّ قَوْم فِي بَلَدهمْ , وَحَكَى أَبُو عُمَر الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاعَى الرُّؤْيَة فِيمَا بَعْد مِنْ الْبُلْدَان كَالْأَنْدَلُسِ مِنْ خُرَاسَان , قَالَ : وَلِكُلِّ بَلَد رُؤْيَتهمْ , إِلَّا مَا كَانَ كَالْمِصْرِ الْكَبِير وَمَا تَقَارَبَتْ أَقْطَاره مِنْ بُلْدَان الْمُسْلِمِينَ . رَوَى مُسْلِم عَنْ كُرَيْب أَنَّ أُمّ الْفَضْل بِنْت الْحَارِث بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَة بِالشَّامِ قَالَ : فَقَدِمْت الشَّام فَقَضَيْت حَاجَتهَا وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَان وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْت الْهِلَال لَيْلَة الْجُمُعَة ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَة فِي آخِر الشَّهْر فَسَأَلَنِي عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَال فَقَالَ : مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَال ؟ فَقُلْت : رَأَيْنَاهُ لَيْلَة الْجُمُعَة , فَقَالَ : أَنْتَ رَأَيْته ؟ فَقُلْت نَعَمْ , وَرَآهُ النَّاس وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَة , فَقَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَة السَّبْت فَلَا نَزَال نَصُوم حَتَّى نُكْمِل ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ , فَقُلْت : أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَة وَصِيَامه ؟ فَقَالَ لَا , هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْل اِبْن عَبَّاس ( هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) كَلِمَة تَصْرِيح بِرَفْعِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَمْرِهِ , فَهُوَ حُجَّة عَلَى أَنَّ الْبِلَاد إِذَا تَبَاعَدَتْ كَتَبَاعُدِ الشَّام مِنْ الْحِجَاز فَالْوَاجِب عَلَى أَهْل كُلّ بَلَد أَنْ تَعْمَل عَلَى رُؤْيَته دُون رُؤْيَة غَيْره , وَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْد الْإِمَام الْأَعْظَم , مَا لَمْ يَحْمِل النَّاس عَلَى ذَلِكَ , فَإِنْ حُمِلَ فَلَا تَجُوز مُخَالَفَته , وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : قَوْله ( هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَأَوَّلَ فِيهِ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ) , وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل قَوْل اِبْن عَبَّاس هَذَا فَقِيلَ : رَدَّهُ لِأَنَّهُ خَبَر وَاحِد , وَقِيلَ : رَدَّهُ لِأَنَّ الْأَقْطَار مُخْتَلِفَة فِي الْمَطَالِع , وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ كُرَيْبًا لَمْ يَشْهَد وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُكْم ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ , وَلَا خِلَاف فِي الْحُكْم الثَّابِت أَنَّهُ يَجْزِي فِيهِ خَبَر الْوَاحِد , وَنَظِيره مَا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَهَلَّ لَيْلَة الْجُمُعَة بِأَغْمَات وَأَهَلَّ بِأَشْبِيلِيَة لَيْلَة السَّبْت فَيَكُون لِأَهْلِ كُلّ بَلَد رُؤْيَتهمْ ; لِأَنَّ سُهَيْلًا يَكْشِف مِنْ أَغْمَات وَلَا يَكْشِف مِنْ أَشْبِيلِيَة , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى اِخْتِلَاف الْمَطَالِع .

قُلْت : وَأَمَّا مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فَرَوَى اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعَة أَنَّ أَهْل الْبَصْرَة إِذَا رَأَوْا هِلَال رَمَضَان ثُمَّ بَلَغَ ذَلِكَ إِلَى أَهْل الْكُوفَة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَن أَنَّهُ يَلْزَمهُمْ الصِّيَام أَوْ الْقَضَاء إِنْ فَاتَ الْأَدَاء , وَرَوَى الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاق عَنْ اِبْن الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثَبَتَ بِالْبَصْرَةِ بِأَمْرٍ شَائِع ذَائِع يُسْتَغْنَى عَنْ الشَّهَادَة وَالتَّعْدِيل لَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَم غَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْبِلَاد الْقَضَاء , وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عِنْد حَاكِمهمْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَلْزَم ذَلِكَ مِنْ الْبِلَاد إِلَّا مَنْ كَانَ يَلْزَمهُ حُكْم ذَلِكَ الْحَاكِم مِمَّنْ هُوَ فِي وِلَايَته , أَوْ يَكُون ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَيَلْزَم الْقَضَاء جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ . قَالَ : وَهَذَا قَوْل مَالِك .

السَّابِعَة : قَرَأَ جُمْهُور النَّاس " شَهْر " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر , أَيْ ذَلِكُمْ شَهْر , أَوْ الْمُفْتَرَض عَلَيْكُمْ صِيَامه شَهْر رَمَضَان , أَوْ الصَّوْم أَوْ الْأَيَّام , وَقِيلَ : اِرْتَفَعَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ب " كُتِبَ " أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْر رَمَضَان . و " رَمَضَان " لَا يَنْصَرِف لِأَنَّ النُّون فِيهِ زَائِدَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره " الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن " , وَقِيلَ : خَبَره " فَمَنْ شَهِدَ " , و " الَّذِي أُنْزِلَ " نَعْت لَهُ , وَقِيلَ : اِرْتَفَعَ عَلَى الْبَدَل مِنْ الصِّيَام , فَمَنْ قَالَ : إِنَّ الصِّيَام فِي قَوْله " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام " هِيَ ثَلَاثَة أَيَّام وَعَاشُورَاء قَالَ هُنَا بِالِابْتِدَاءِ , وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الصِّيَام هُنَاكَ رَمَضَان قَالَ هُنَا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالْبَدَلِ مِنْ الصِّيَام , أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْر رَمَضَان , وَقَرَأَ مُجَاهِد وَشَهْر بْن حَوْشَب " شَهْر " بِالنَّصْبِ . قَالَ الْكِسَائِيّ : الْمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام , وَأَنْ تَصُومُوا شَهْر رَمَضَان . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام أَيْ أَنْ تَصُومُوا شَهْر رَمَضَان . قَالَ النَّحَّاس : " لَا يَجُوز أَنْ يَنْتَصِب " شَهْر رَمَضَان " بِتَصُومُوا ; لِأَنَّهُ يَدْخُل فِي الصِّلَة ثُمَّ يُفَرَّق بَيْن الصِّلَة وَالْمَوْصُول , وَكَذَلِكَ إِنْ نَصَبْته بِالصِّيَامِ , وَلَكِنْ يَجُوز أَنْ تَنْصِبهُ عَلَى الْإِغْرَاء , أَيْ اِلْزَمُوا شَهْر رَمَضَان , وَصُومُوا شَهْر رَمَضَان , وَهَذَا بَعِيد أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّم ذِكْر الشَّهْر فَيَغْرَى بِهِ " .

قُلْت : قَوْله " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام " يَدُلّ عَلَى الشَّهْر فَجَازَ الْإِغْرَاء , وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , وَقَالَ الْأَخْفَش : اِنْتَصَبَ عَلَى الظَّرْف , وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَن وَأَبِي عَمْرو إِدْغَام الرَّاء فِي الرَّاء , وَهَذَا لَا يَجُوز لِئَلَّا يَجْتَمِع سَاكِنَانِ , وَيَجُوز أَنْ تُقْلَب حَرَكَة الرَّاء عَلَى الْهَاء فَتُضَمّ الْهَاء ثُمَّ تُدْغَم , وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ .

نَصّ فِي أَنَّ الْقُرْآن نُزِّلَ فِي شَهْر رَمَضَان , وَهُوَ يُبَيِّن قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " حم , وَالْكِتَاب الْمُبِين . إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة " [ الدُّخَان : 1 - 3 ] يَعْنِي لَيْلَة الْقَدْر , وَلِقَوْلِهِ : " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْر " [ الْقَدْر : 1 ] , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ لَيْلَة الْقَدْر إِنَّمَا تَكُون فِي رَمَضَان لَا فِي غَيْره , وَلَا خِلَاف أَنَّ الْقُرْآن أُنْزِلَ مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ لَيْلَة الْقَدْر - عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ - جُمْلَة وَاحِدَة , فَوُضِعَ فِي بَيْت الْعِزَّة فِي سَمَاء الدُّنْيَا , ثُمَّ كَانَ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِل بِهِ نَجْمًا نَجْمًا فِي الْأَوَامِر وَالنَّوَاهِي وَالْأَسْبَاب , وَذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أُنْزِلَ الْقُرْآن مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ جُمْلَة وَاحِدَة إِلَى الْكَتَبَة فِي سَمَاء الدُّنْيَا , ثُمَّ أُنْزِلَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نُجُومًا - يَعْنِي الْآيَة وَالْآيَتَيْنِ - فِي أَوْقَات مُخْتَلِفَة فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَة . وَقَالَ مُقَاتِل فِي قَوْله تَعَالَى : " شَهْر رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن " قَالَ أُنْزِلَ مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ كُلّ عَام فِي لَيْلَة الْقَدْر إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا , ثُمَّ نُزِّلَ إِلَى السَّفَرَة مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ فِي عِشْرِينَ شَهْرًا , وَنَزَلَ بِهِ جِبْرِيل فِي عِشْرِينَ سَنَة . قُلْت : وَقَوْل مُقَاتِل هَذَا خِلَاف مَا نُقِلَ مِنْ الْإِجْمَاع " أَنَّ الْقُرْآن أُنْزِلَ جُمْلَة وَاحِدَة " وَاَللَّه أَعْلَم , وَرَوَى وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أُنْزِلَتْ صُحُف إِبْرَاهِيم أَوَّل لَيْلَة مِنْ شَهْر رَمَضَان وَالتَّوْرَاة لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْهُ وَالْإِنْجِيل لِثَلَاثِ عَشْرَة وَالْقُرْآن لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ) .

قُلْت : وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة عَلَى مَا يَقُولهُ الْحَسَن أَنَّ لَيْلَة الْقَدْر تَكُون لَيْلَة أَرْبَع وَعِشْرِينَ , وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى بَيَان هَذَا .

" الْقُرْآن " : اِسْم لِكَلَامِ اللَّه تَعَالَى , وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَقْرُوء , كَالْمَشْرُوبِ يُسَمَّى شَرَابًا , وَالْمَكْتُوب يُسَمَّى كِتَابًا , وَعَلَى هَذَا قِيلَ : هُوَ مَصْدَر قَرَأَ يَقْرَأ قِرَاءَة وَقُرْآنًا بِمَعْنًى . قَالَ الشَّاعِر : ضَحُّوا بِأَشْمَط عِنْوَان السُّجُود بِهِ يَقْطَع اللَّيْل تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا أَيْ قِرَاءَة , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر ( أَنَّ فِي الْبَحْر شَيَاطِين مَسْجُونَة أَوْثَقَهَا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام يُوشِك أَنْ تَخْرُج فَتَقْرَأ عَلَى النَّاس قُرْآنًا ) أَيْ قِرَاءَة , وَفِي التَّنْزِيل : " وَقُرْآن الْفَجْر إِنَّ قُرْآن الْفَجْر كَانَ مَشْهُودًا " [ الْإِسْرَاء : 78 ] أَيْ قِرَاءَة الْفَجْر . وَيُسَمَّى الْمَقْرُوء قُرْآنًا عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي تَسْمِيَتهَا الْمَفْعُول بِاسْمِ الْمَصْدَر , كَتَسْمِيَتِهِمْ لِلْمَعْلُومِ عِلْمًا وَلِلْمَضْرُوبِ ضَرْبًا وَلِلْمَشْرُوبِ شُرْبًا , كَمَا ذَكَرْنَا , ثُمَّ اُشْتُهِرَ الِاسْتِعْمَال فِي هَذَا وَاقْتَرَنَ بِهِ الْعُرْف الشَّرْعِيّ , فَصَارَ الْقُرْآن اِسْمًا لِكَلَامِ اللَّه , حَتَّى إِذَا قِيلَ : الْقُرْآن غَيْر مَخْلُوق , يُرَاد بِهِ الْمَقْرُوء لَا الْقِرَاءَة لِذَلِكَ , وَقَدْ يُسَمَّى الْمُصْحَف الَّذِي يُكْتَب فِيهِ كَلَام اللَّه قُرْآنًا تَوَسُّعًا , وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْض الْعَدُوّ ) أَرَادَ بِهِ الْمُصْحَف . وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ قَرَأْت الشَّيْء جَمَعْته . وَقِيلَ : هُوَ اِسْم عَلَم لِكِتَابِ اللَّه , غَيْر مُشْتَقّ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل , وَهَذَا يُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيّ , وَالصَّحِيح الِاشْتِقَاق فِي الْجَمِيع , وَسَيَأْتِي .

" هُدًى " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال مِنْ الْقُرْآن , أَيْ هَادِيًا لَهُمْ . " وَبَيِّنَات " عَطْف عَلَيْهِ . و " الْهُدَى " الْإِرْشَاد وَالْبَيَان , كَمَا تَقَدَّمَ أَيْ بَيَانًا لَهُمْ وَإِرْشَادًا , وَالْمُرَاد الْقُرْآن بِجُمْلَتِهِ مِنْ مُحْكَم وَمُتَشَابِه وَنَاسِخ وَمَنْسُوخ , ثُمَّ شَرُفَ بِالذِّكْرِ وَالتَّخْصِيص الْبَيِّنَات مِنْهُ , يَعْنِي الْحَلَال وَالْحَرَام وَالْمَوَاعِظ وَالْأَحْكَام . " وَبَيِّنَات " جَمْع بَيِّنَة , مِنْ بَانَ الشَّيْء يَبِين إِذَا وَضَحَ . " وَالْفُرْقَان " مَا فَرَّقَ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل , أَيْ فَصَلَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .

قِرَاءَة الْعَامَّة بِجَزْمِ اللَّام , وَقَرَأَ الْحَسَن وَالْأَعْرَج بِكَسْرِ اللَّام , وَهِيَ لَام الْأَمْر وَحَقّهَا الْكَسْر إِذَا أُفْرِدَتْ , فَإِذَا وُصِلَتْ بِشَيْءٍ فَفِيهَا وَجْهَانِ : الْجَزْم وَالْكَسْر . وَإِنَّمَا تُوصَل بِثَلَاثَةِ أَحْرُف : بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ " فَلْيَصُمْهُ " " فَلْيَعْبُدُوا " [ قُرَيْش : 3 ] , وَالْوَاو كَقَوْلِهِ : " وَلْيُوفُوا " [ الْحَجّ : 29 ] . وَثُمَّ كَقَوْلِهِ : " ثُمَّ لْيَقْضُوا " [ الْحَجّ : 29 ] و " شَهِدَ " بِمَعْنَى حَضَرَ , وَفِيهِ إِضْمَار , أَيْ مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الْمِصْر فِي الشَّهْر عَاقِلًا بَالِغًا صَحِيحًا مُقِيمًا فَلْيَصُمْهُ , وَهُوَ يُقَال عَامّ فَيُخَصَّص بِقَوْلِهِ : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر " الْآيَة , وَلَيْسَ الشَّهْر بِمَفْعُولٍ وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْف زَمَان , وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا , فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَسُوَيْد بْن غَفْلَة وَعَائِشَة - أَرْبَعَة مِنْ الصَّحَابَة - وَأَبُو مِجْلَز لَاحَقَ بْن حُمَيْد وَعُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ : ( مَنْ شَهِدَ أَيْ مَنْ حَضَرَ دُخُول الشَّهْر وَكَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّله فِي بَلَده وَأَهْله فَلْيُكْمِلْ صِيَامه , سَافَرَ بَعْد ذَلِكَ أَوْ أَقَامَ , وَإِنَّمَا يُفْطِر فِي السَّفَر مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَان وَهُوَ فِي سَفَر ) وَالْمَعْنَى عِنْدهمْ : مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَان مُسَافِرًا أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ عِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر , وَمَنْ أَدْرَكَهُ حَاضِرًا فَلْيَصُمْهُ , وَقَالَ جُمْهُور الْأُمَّة : مَنْ شَهِدَ أَوَّل الشَّهْر وَآخِره فَلْيَصُمْ مَا دَامَ مُقِيمًا , فَإِنْ سَافَرَ أَفْطَرَ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعَلَيْهِ تَدُلّ الْأَخْبَار الثَّابِتَة . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه رَدًّا عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل " بَاب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَان ثُمَّ سَافَرَ " حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن يُوسُف قَالَ أَنْبَأَنَا مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيد أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاس . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : وَالْكَدِيد مَا بَيْن عُسْفَان وَقُدَيْد .

قُلْت : قَدْ يُحْتَمَل أَنْ يُحْمَل قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى السَّفَر الْمَنْدُوب كَزِيَارَةِ الْإِخْوَان مِنْ الْفُضَلَاء وَالصَّالِحِينَ , أَوْ الْمُبَاح فِي طَلَب الرِّزْق الزَّائِد عَلَى الْكِفَايَة . وَأَمَّا السَّفَر الْوَاجِب فِي طَلَب الْقُوت الضَّرُورِيّ , أَوْ فَتْح بَلَد إِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ , أَوْ دَفْع عَدُوّ , فَالْمَرْء فِيهِ مُخَيَّر وَلَا يَجِب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك , بَلْ الْفِطْر فِيهِ أَفْضَل لِلتَّقَوِّي , وَإِنْ كَانَ شَهِدَ الشَّهْر فِي بَلَده وَصَامَ بَعْضه فِيهِ , لِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره , وَلَا يَكُون فِي هَذَا خِلَاف إِنْ شَاءَ اللَّه وَاَللَّه أَعْلَم , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : مَنْ شَهِدَ الشَّهْر بِشُرُوطِ التَّكْلِيف غَيْر مَجْنُون وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ فَلْيَصُمْهُ , وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَان وَهُوَ مَجْنُون وَتَمَادَى بِهِ طُول الشَّهْر فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَد الشَّهْر بِصِفَةٍ يَجِب بِهَا الصِّيَام , وَمَنْ جُنَّ أَوَّل الشَّهْر وَآخِره فَإِنَّهُ يَقْضِي أَيَّام جُنُونه , وَنَصْبُ الشَّهْر عَلَى هَذَا التَّأْوِيل هُوَ عَلَى الْمَفْعُول الصَّرِيح ب " شَهِدَ " .

قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْض الصَّوْم مُسْتَحَقّ بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغ وَالْعِلْم بِالشَّهْرِ , فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِر أَوْ بَلَغَ الصَّبِيّ قَبْل الْفَجْر لَزِمَهُمَا الصَّوْم صَبِيحَة الْيَوْم , وَإِنْ كَانَ الْفَجْر اُسْتُحِبَّ لَهُمَا الْإِمْسَاك , وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاء الْمَاضِي مِنْ الشَّهْر وَلَا الْيَوْم الَّذِي بَلَغَ فِيهِ أَوْ أَسْلَمَ , وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْكَافِر يُسْلِم فِي آخِر يَوْم مِنْ رَمَضَان , هَلْ يَجِب عَلَيْهِ قَضَاء رَمَضَان كُلّه أَوْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِب عَلَيْهِ قَضَاء الْيَوْم الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ ؟ فَقَالَ الْإِمَام مَالِك وَالْجُمْهُور : لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء مَا مَضَى ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا ش أَنْ يَقْضِي الْيَوْم الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ , وَقَالَ عَطَاء وَالْحَسَن : يَصُوم مَا بَقِيَ وَيَقْضِي مَا مَضَى , وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُونِ : يَكُفّ عَنْ الْأَكْل فِي ذَلِكَ الْيَوْم وَيَقْضِيه , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق مِثْله , وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْر وَلَا ذَلِكَ الْيَوْم , وَقَالَ الْبَاجِيّ : مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابنَا إِنَّ الْكُفَّار مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِع الْإِسْلَام - وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل مَالِك وَأَكْثَر أَصْحَابه - أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاك فِي بَقِيَّة يَوْمه , وَرَوَاهُ فِي الْمُدَوَّنَة اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك , وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم , وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابنَا لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ قَالَ : لَا يَلْزَمهُ الْإِمْسَاك فِي بَقِيَّة يَوْمه , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل أَشْهَب وَعَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُونِ , وَقَالَهُ اِبْن الْقَاسِم .

قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " فَخَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ دُون غَيْرهمْ , وَهَذَا وَاضِح , فَلَا يَجِب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك فِي بَقِيَّة الْيَوْم وَلَا قَضَاء مَا مَضَى .

لِلْمَرِيضِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَلَّا يُطِيق الصَّوْم بِحَالٍ , فَعَلَيْهِ الْفِطْر وَاجِبًا . الثَّانِيَة : أَنْ يَقْدِر عَلَى الصَّوْم بِضَرَرٍ وَمَشَقَّة , فَهَذَا يُسْتَحَبّ لَهُ الْفِطْر وَلَا يَصُوم إِلَّا جَاهِل . قَالَ اِبْن سِيرِينَ : مَتَى حَصَلَ الْإِنْسَان فِي حَال يَسْتَحِقّ بِهَا اِسْم الْمَرَض صَحَّ الْفِطْر , قِيَاسًا عَلَى الْمُسَافِر لِعِلَّةِ السَّفَر , وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى الْفِطْر ضَرُورَة . قَالَ طَرِيف بْن تَمَّام الْعُطَارِدِيّ : دَخَلْت عَلَى مُحَمَّد بْن سِيرِينَ فِي رَمَضَان وَهُوَ يَأْكُل , فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : إِنَّهُ وَجِعَتْ أُصْبُعِي هَذِهِ , وَقَالَ جُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء : إِذَا كَانَ بِهِ مَرَض يُؤْلِمهُ وَيُؤْذِيه أَوْ يَخَاف تَمَادِيهِ أَوْ يَخَاف تَزَيُّده صَحَّ لَهُ الْفِطْر . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَذْهَب حُذَّاق أَصْحَاب مَالِك وَبِهِ يُنَاظِرُونَ , وَأَمَّا لَفْظ مَالِك فَهُوَ الْمَرَض الَّذِي يَشُقّ عَلَى الْمَرْء وَيَبْلُغ بِهِ , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي الْمَرَض الْمُبِيح لِلْفِطْرِ , فَقَالَ مَرَّة : هُوَ خَوْف التَّلَف مِنْ الصِّيَام . وَقَالَ مَرَّة : شِدَّة الْمَرَض وَالزِّيَادَة فِيهِ وَالْمَشَقَّة الْفَادِحَة , وَهَذَا صَحِيح مَذْهَبه وَهُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِر ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخُصّ مَرَضًا مِنْ مَرَض فَهُوَ مُبَاح فِي كُلّ مَرَض , إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيل مِنْ الصُّدَاع وَالْحُمَّى وَالْمَرَض الْيَسِير الَّذِي لَا كُلْفَة مَعَهُ فِي الصِّيَام . وَقَالَ الْحَسَن : إِذَا لَمْ يَقْدِر مِنْ الْمَرَض عَلَى الصَّلَاة قَائِمًا أَفْطَرَ , وَقَالَهُ النَّخَعِيّ , وَقَالَتْ فِرْقَة : لَا يُفْطِر بِالْمَرَضِ إِلَّا مَنْ دَعَتْهُ ضَرُورَة الْمَرَض نَفْسه إِلَى الْفِطْر , وَمَتَى اِحْتَمَلَ الضَّرُورَة مَعَهُ لَمْ يُفْطِر . وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى .

قُلْت : قَوْل اِبْن سِيرِينَ أَعْدَل شَيْء فِي هَذَا الْبَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الْبُخَارِيّ : اِعْتَلَلْت بِنَيْسَابُور عِلَّة خَفِيفَة وَذَلِكَ فِي شَهْر رَمَضَان , فَعَادَنِي إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ فِي نَفَر مِنْ أَصْحَابه فَقَالَ لِي : أَفْطَرْت يَا أَبَا عَبْد اللَّه ؟ فَقُلْت نَعَمْ , فَقَالَ : خَشِيت أَنْ تَضْعُف عَنْ قَبُول الرُّخْصَة . قُلْت : حَدَّثَنَا عَبْدَان عَنْ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ : مِنْ أَيّ الْمَرَض أُفْطِر ؟ قَالَ : مِنْ أَيّ مَرَض كَانَ , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا " قَالَ الْبُخَارِيّ : وَهَذَا الْحَدِيث لَمْ يَكُنْ عِنْد إِسْحَاق , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا خَافَ الرَّجُل عَلَى نَفْسه وَهُوَ صَائِم إِنْ لَمْ يُفْطِر أَنْ تَزْدَاد عَيْنه وَجَعًا أَوْ حُمَّاهُ شِدَّة أَفْطَرَ .
خْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي السَّفَر الَّذِي يَجُوز فِيهِ الْفِطْر وَالْقَصْر , بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى سَفَر الطَّاعَة كَالْحَجِّ وَالْجِهَاد , وَيَتَّصِل بِهَذَيْنِ سَفَر صِلَة الرَّحِم وَطَلَب الْمَعَاش الضَّرُورِيّ . أَمَّا سَفَر التِّجَارَات وَالْمُبَاحَات فَمُخْتَلَف فِيهِ بِالْمَنْعِ وَالْإِجَازَة , وَالْقَوْل بِالْجَوَازِ أَرْجَح , وَأَمَّا سَفَر الْعَاصِي فَيُخْتَلَف فِيهِ بِالْجَوَازِ وَالْمَنْع , وَالْقَوْل بِالْمَنْعِ أَرْجَح , قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة , وَمَسَافَة الْفِطْر عِنْد مَالِك حَيْثُ تُقْصَر الصَّلَاة وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَدْر ذَلِكَ , فَقَالَ مَالِك : يَوْم وَلَيْلَة , ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَهُوَ ظَاهِر مَذْهَبه , وَقَالَ مَرَّة : اِثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَقَالَ مَرَّة سِتَّة وَثَلَاثُونَ مِيلًا وَقَالَ مَرَّة : مَسِيرَة يَوْم وَلَيْلَة , وَرُوِيَ عَنْهُ يَوْمَانِ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ , وَفَصَّلَ مَرَّة بَيْن الْبَرّ وَالْبَحْر , فَقَالَ فِي الْبَحْر مَسِيرَة يَوْم وَلَيْلَة , وَفِي الْبَرّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا , وَفِي الْمَذْهَب ثَلَاثُونَ مِيلًا , وَفِي غَيْر الْمَذْهَب ثَلَاثَة أَمْيَال , وَقَالَ اِبْن عَمْرو وَابْن عَبَّاس وَالثَّوْرِيّ : الْفِطْر فِي سَفَر ثَلَاثَة أَيَّام , حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة .

قُلْت : وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيّ : وَكَانَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس يُفْطِرَانِ وَيَقْصُرَانِ فِي أَرْبَعَة بُرُد وَهِيَ سِتَّة عَشَر فَرْسَخًا .

اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُسَافِر فِي رَمَضَان لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُبَيِّت الْفِطْر ; لِأَنَّ الْمُسَافِر لَا يَكُون مُسَافِرًا بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُقِيم , وَإِنَّمَا يَكُون مُسَافِرًا بِالْعَمَلِ وَالنُّهُوض , وَالْمُقِيم لَا يَفْتَقِر إِلَى عَمَل ; لِأَنَّهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَة كَانَ مُقِيمًا فِي الْحِين ; لِأَنَّ الْإِقَامَة لَا تَفْتَقِر إِلَى عَمَل فَافْتَرَقَا , وَلَا خِلَاف بَيْنهمْ أَيْضًا فِي الَّذِي يُؤَمِّل السَّفَر أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُفْطِر قَبْل أَنْ يَخْرُج , فَإِنْ أَفْطَرَ فَقَالَ اِبْن حَبِيب : إِنْ كَانَ قَدْ تَأَهَّبَ لِسَفَرِهِ وَأَخَذَ فِي أَسْبَاب الْحَرَكَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَصْبَغ وَابْن الْمَاجِشُونِ , فَإِنْ عَاقَهُ عَنْ السَّفَر عَائِق كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَحَسْبه أَنْ يَنْجُو إِنْ سَافَرَ , وَرَوَى عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاء يَوْم ; لِأَنَّهُ مُتَأَوَّل فِي فِطْره , وَقَالَ أَشْهَب : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْكَفَّارَة سَافَرَ أَوْ لَمْ يُسَافِر , وَقَالَ سَحْنُون : عَلَيْهِ الْكَفَّارَة سَافَرَ أَوْ لَمْ يُسَافِر , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَة تَقُول : غَدًا تَأْتِينِي حَيْضَتِي , فَتُفْطِر لِذَلِكَ , ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْل عَبْد الْمَلِك وَأَصْبَغ وَقَالَ : لَيْسَ مِثْل الْمَرْأَة ; لِأَنَّ الرَّجُل يُحْدِث السَّفَر إِذَا شَاءَ , وَالْمَرْأَة لَا تُحْدِث الْحَيْضَة .

قُلْت : قَوْل اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب فِي نَفْي الْكَفَّارَة حَسَن ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَجُوز لَهُ فِعْله , وَالذِّمَّة بَرِيئَة , فَلَا يَثْبُت فِيهَا شَيْء إِلَّا بِيَقِينٍ وَلَا يَقِين مَعَ الِاخْتِلَاف , ثُمَّ إِنَّهُ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " أَوْ عَلَى سَفَر " , وَقَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا أَصَحّ أَقَاوِيلهمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ; لِأَنَّهُ غَيْر مُنْتَهِك لِحُرْمَةِ الصَّوْم بِقَصْدٍ إِلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَأَوِّل , وَلَوْ كَانَ الْأَكْل مَعَ نِيَّة السَّفَر يُوجِب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ كَانَ قَبْل خُرُوجه مَا أَسْقَطَهَا عَنْهُ خُرُوجه , فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدهُ كَذَلِكَ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر النَّيْسَابُورِيّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق بْن سَهْل بِمِصْر قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي مَرْيَم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر أَخْبَرَنِي زَيْد بْن أَسْلَم قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : أَتَيْت أَنَس بْن مَالِك فِي رَمَضَان وَهُوَ يُرِيد السَّفَر وَقَدْ رَحَلَتْ دَابَّته وَلَبِسَ ثِيَاب السَّفَر وَقَدْ تَقَارَبَ غُرُوب الشَّمْس , فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ رَكِبَ , فَقُلْت لَهُ : سُنَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , وَرُوِيَ عَنْ أَنَس أَيْضًا قَالَ : قَالَ لِي أَبُو مُوسَى : أَلَمْ أُنْبِئَنك إِذَا خَرَجْت خَرَجْت صَائِمًا , وَإِذَا دَخَلْت دَخَلْت صَائِمًا , فَإِذَا خَرَجْت فَاخْرُجْ مُفْطِرًا , وَإِذَا دَخَلْت فَادْخُلْ مُفْطِرًا , وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : يُفْطِر إِنْ شَاءَ فِي بَيْته يَوْم يُرِيد أَنْ يَخْرُج , وَقَالَ أَحْمَد : يُفْطِر إِذَا بَرَزَ عَنْ الْبُيُوت , وَقَالَ إِسْحَاق : لَا , بَلْ حِين يَضَع رِجْله فِي الرَّحْل . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل أَحْمَد صَحِيح ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ أَصْبَحَ صَحِيحًا ثُمَّ اِعْتَلَّ : إِنَّهُ يُفْطِر بَقِيَّة يَوْمه , وَكَذَلِكَ إِذَا أَصْبَحَ فِي الْحَضَر ثُمَّ خَرَجَ إِلَى السَّفَر فَلَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُفْطِر , وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يُفْطِر يَوْمه ذَلِكَ وَإِنْ نَهَضَ فِي سَفَره , كَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيّ وَمَكْحُول وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيّ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَاخْتَلَفُوا إِنْ فَعَلَ , فَكُلّهمْ قَالَ يَقْضِي وَلَا يُكَفِّر . قَالَ مَالِك : لِأَنَّ السَّفَر عُذْر طَارِئ , فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأ عَلَيْهِ , وَرُوِيَ عَنْ بَعْض أَصْحَاب مَالِك أَنَّهُ يَقْضِي وَيُكَفِّر , وَهُوَ قَوْل اِبْن كِنَانَة وَالْمَخْزُومِيّ , وَحَكَاهُ الْبَاجِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ بِهِ , قَالَ : لِأَنَّ السَّفَر عُذْر طَرَأَ بَعْد لُزُوم الْعِبَادَة وَيُخَالِف الْمَرَض وَالْحَيْض ; لِأَنَّ الْمَرَض يُبِيح لَهُ الْفِطْر , وَالْحَيْض يُحَرِّم عَلَيْهَا الصَّوْم , وَالسَّفَر لَا يُبِيح لَهُ ذَلِكَ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِهَتْكِ حُرْمَته . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْر فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة , وَأَمَّا قَوْلهمْ " لَا يُفْطِر " فَإِنَّمَا ذَلِكَ اِسْتِحْبَاب لِمَا عَقَدَهُ فَإِنْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّه كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاء , وَأَمَّا الْكَفَّارَة فَلَا وَجْه لَهَا , وَمَنْ أَوْجَبَهَا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبهُ اللَّه وَلَا رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة : ( يُفْطِر إِنْ شَاءَ فِي يَوْمه ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مُسَافِرًا ) وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق .

قُلْت : وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَة [ بَاب مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَر لِيَرَاهُ النَّاس ] وَسَاقَ الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَان , ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاس فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّة وَذَلِكَ فِي رَمَضَان , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَاب شَرِبَهُ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاس ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّة ) , وَهَذَا نَصّ فِي الْبَاب فَسَقَطَ مَا خَالَفَهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . وَفِيهِ أَيْضًا حُجَّة عَلَى مَنْ يَقُول : إِنَّ الصَّوْم لَا يَنْعَقِد فِي السَّفَر . رُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة وَابْن عُمَر . قَالَ اِبْن عُمَر : ( مَنْ صَامَ فِي السَّفَر قَضَى فِي الْحَضَر ) وَعَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : ( الصَّائِم فِي السَّفَر كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَر ) وَقَالَ بِهِ قَوْم مِنْ أَهْل الظَّاهِر , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه , وَبِمَا رَوَى كَعْب بْن عَاصِم قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر ) , وَفِيهِ أَيْضًا حُجَّة عَلَى مَنْ يَقُول : إِنَّ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْم فِي السَّفَر فَلَهُ أَنْ يُفْطِر وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُطَرِّف , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَعَلَيْهِ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث , وَكَانَ مَالِك يُوجِب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الصَّوْم وَالْفِطْر , فَلَمَّا اِخْتَارَ الصَّوْم وَبَيَّتَهُ لَزِمَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفِطْر , فَإِنْ أَفْطَرَ عَامِدًا مِنْ غَيْر عُذْر كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَصْحَابه إِلَّا عَبْد الْمَلِك فَإِنَّهُ قَالَ : إِنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ كَفَّرَ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى سَفَره وَلَا عُذْر لَهُ ; لِأَنَّ الْمُسَافِر إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْر لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى سَفَره . وَقَالَ سَائِر الْفُقَهَاء بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَاز : إِنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , مِنْهُمْ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَسَائِر فُقَهَاء الْكُوفَة , قَالَهُ أَبُو عُمَر .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَفْضَل مِنْ الْفِطْر أَوْ الصَّوْم فِي السَّفَر , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي بَعْض مَا رُوِيَ عَنْهُمَا : الصَّوْم أَفْضَل لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ , وَجُلّ مَذْهَب مَالِك التَّخْيِير وَكَذَلِكَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَنْ اِتَّبَعَهُ : هُوَ مُخَيَّر , وَلَمْ يُفَصِّل , وَكَذَلِكَ اِبْن عُلَيَّة , لِحَدِيثِ أَنَس قَالَ : ( سَافَرْنَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَان فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِم عَلَى الْمُفْطِر وَلَا الْمُفْطِر عَلَى الصَّائِم ) خَرَّجَهُ مَالِك وَالْبُخَارِيّ وَمُسْلِم , وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص الثَّقَفِيّ وَأَنْسَ بْن مَالِك صَاحِبَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا قَالَا : ( الصَّوْم فِي السَّفَر أَفْضَل لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ) وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس : الرُّخْصَة أَفْضَل , وَقَالَ بِهِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالشَّعْبِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . كُلّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْفِطْر أَفْضَل , لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر " [ الْبَقَرَة : 185 ]


فِي الْكَلَام حَذْف , أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَأَفْطَرَ فَلْيَقْضِ , وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ أَهْل الْبَلَد إِذَا صَامُوا تِسْعَة وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَفِي الْبَلَد رَجُل مَرِيض لَمْ يَصِحّ فَإِنَّهُ يَقْضِي تِسْعَة وَعِشْرِينَ يَوْمًا , وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ الْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ : إِنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا بِشَهْرٍ مِنْ غَيْر مُرَاعَاة عَدَد الْأَيَّام . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَهَذَا بَعِيد , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " وَلَمْ يَقُلْ فَشَهْر مِنْ أَيَّام أُخَر , وَقَوْله : " فَعِدَّة " يَقْتَضِي اِسْتِيفَاء عَدَد مَا أَفْطَرَ فِيهِ , وَلَا شَكّ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بَعْض رَمَضَان وَجَبَ قَضَاء مَا أَفْطَرَ بَعْده بِعَدَدِهِ , كَذَلِكَ يَجِب أَنْ يَكُون حُكْم إِفْطَاره جَمِيعه فِي اِعْتِبَار عَدَده .

" فَعِدَّة " اِرْتَفَعَ " عِدَّة " عَلَى خَبَر الِابْتِدَاء , تَقْدِيره فَالْحُكْم أَوْ فَالْوَاجِب عِدَّة , وَيَصِحّ فَعَلَيْهِ عِدَّة , وَقَالَ الْكِسَائِيّ : وَيَجُوز فَعِدَّة , أَيْ فَلْيَصُمْ عِدَّة مِنْ أَيَّام , وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَعَلَيْهِ صِيَام عِدَّة , فَحُذِفَ الْمُضَاف وَأُقِيمَتْ الْعِدَّة مَقَامَهُ , وَالْعِدَّة فِعْلَة مِنْ الْعَدّ , وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَعْدُود , كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُون , تَقُول : أَسْمَع جَعْجَعَة وَلَا أَرَى طَحْنًا , وَمِنْهُ عِدَّة الْمَرْأَة . " مِنْ أَيَّام أُخَر " لَمْ يَنْصَرِف " أُخَر " عِنْد سِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّهَا مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّ سَبِيل فُعَل مِنْ هَذَا الْبَاب أَنْ يَأْتِي بِالْأَلِفِ وَاللَّام , نَحْو الْكُبَر وَالْفُضَل , وَقَالَ الْكِسَائِيّ : هِيَ مَعْدُولَة عَنْ آخَر , كَمَا تَقُول : حَمْرَاء وَحُمَر , فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْصَرِف , وَقِيلَ : مُنِعَتْ مِنْ الصَّرْف لِأَنَّهَا عَلَى وَزْن جُمَع وَهِيَ صِفَة لِأَيَّامٍ , وَلَمْ يَجِئْ أُخْرَى لِئَلَّا يُشْكِل بِأَنَّهَا صِفَة لِلْعِدَّةِ , وَقِيلَ : إِنَّ " أُخَر " جَمْع أُخْرَى كَأَنَّهُ أَيَّام أُخْرَى ثُمَّ كُثِّرَتْ فَقِيلَ : أَيَّام أُخَر . وَقِيلَ : إِنَّ نَعْت الْأَيَّام يَكُون مُؤَنَّثًا فَلِذَلِكَ نُعِتَتْ بِأُخَر .

اِخْتَلَفَ النَّاس فِي وُجُوب تَتَابُعهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي " سُنَنه " , فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : نَزَلَتْ " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر مُتَتَابِعَات " فَسَقَطَتْ " مُتَتَابِعَات " قَالَ هَذَا إِسْنَاد صَحِيح . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْم مِنْ رَمَضَان فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يَقْطَعهُ ) فِي إِسْنَاده عَبْد الرَّحْمَن بْن إِبْرَاهِيم ضَعِيف الْحَدِيث , وَأَسْنَدَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَضَاء رَمَضَان " صُمْهُ كَيْف شِئْت " , وَقَالَ اِبْن عُمَر : " صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْته " , وَأُسْنِدَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وَابْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة وَمُعَاذ بْن جَبَل وَعَمْرو بْن الْعَاص , وَعَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ تَقْطِيع صِيَام رَمَضَان فَقَالَ : ( ذَلِكَ إِلَيْك أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدكُمْ دَيْن فَقَضَى الدِّرْهَم وَالدِّرْهَمَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ قَضَاهُ فَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يَعْفُو وَيَغْفِر ) . إِسْنَاده حَسَن إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَل وَلَا يَثْبُت مُتَّصِلًا , وَفِي مُوَطَّأ مَالِك عَنْ نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ يَقُول : يَصُوم رَمَضَان مُتَتَابِعًا مَنْ أَفْطَرَهُ مُتَتَابِعًا مِنْ مَرَض أَوْ فِي سَفَر . قَالَ الْبَاجِيّ فِي " الْمُنْتَقَى " : يُحْتَمَل أَنْ يُرِيد الْإِخْبَار عَنْ الْوُجُوب , وَيُحْتَمَل أَنْ يُرِيد الْإِخْبَار عَنْ الِاسْتِحْبَاب , وَعَلَى الِاسْتِحْبَاب جُمْهُور الْفُقَهَاء , وَإِنْ فَرَّقَهُ أَجْزَأَهُ , وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ . وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا قَوْله تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " وَلَمْ يَخُصّ مُتَفَرِّقَة مِنْ مُتَتَابِعَة , وَإِذَا أَتَى بِهَا مُتَفَرِّقَة فَقَدْ صَامَ عِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر , فَوَجَبَ أَنْ يَجْزِيه " . اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُع فِي الشَّهْر لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا , وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِين فِي الْقَضَاء فَجَازَ التَّفْرِيق .

لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوب الْقَضَاء مِنْ غَيْر تَعْيِين لِزَمَانٍ ; لِأَنَّ اللَّفْظ مُسْتَرْسِل عَلَى الْأَزْمَان لَا يَخْتَصّ بِبَعْضِهَا دُون بَعْض , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : يَكُون عَلَيَّ الصَّوْم مِنْ رَمَضَان فَمَا أَسْتَطِيع أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَان , الشُّغْل مِنْ رَسُول اللَّه , أَوْ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فِي رِوَايَة : وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَذَا نَصّ وَزِيَادَة بَيَان لِلْآيَةِ , وَذَلِكَ يَرُدّ عَلَى دَاوُد قَوْله : إِنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ثَانِي شَوَّال , وَمَنْ لَمْ يَصُمْهُ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ آثِم عِنْده , وَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْق رَقَبَة فَوَجَدَ رَقَبَة تُبَاع بِثَمَنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهَا وَيَشْتَرِي غَيْرهَا ; لِأَنَّ الْفَرْض عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِق أَوَّل رَقَبَة يَجِدهَا فَلَا يَجْزِيه غَيْرهَا , وَلَوْ كَانَتْ عِنْده رَقَبَة فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَشْتَرِي غَيْرهَا , وَلَوْ مَاتَ الَّذِي عِنْده فَلَا يَبْطُل الْعِتْق , كَمَا يَبْطُل فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِق رَقَبَة بِعَيْنِهَا فَمَاتَتْ يَبْطُل نَذْره , وَذَلِكَ يُفْسِد قَوْله . وَقَالَ بَعْض الْأُصُولِيِّينَ : إِذَا مَاتَ بَعْد مُضِيّ الْيَوْم الثَّانِي مِنْ شَوَّال لَا يَعْصِي عَلَى شَرْط الْعَزْم , وَالصَّحِيح أَنَّهُ غَيْر آثِم وَلَا مُفَرِّط , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور , غَيْر أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ تَعْجِيل الْقَضَاء لِئَلَّا تُدْرِكهُ الْمَنِيَّة فَيَبْقَى عَلَيْهِ الْفَرْض .

مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاء أَيَّام مِنْ رَمَضَان فَمَضَتْ عَلَيْهِ عِدَّتهَا مِنْ الْأَيَّام بَعْد الْفِطْر أَمْكَنَهُ فِيهَا صِيَامه فَأَخَّرَ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَهُ مَانِع مَنَعَهُ مِنْ الْقَضَاء إِلَى رَمَضَان آخَر فَلَا إِطْعَام عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ حِين فَعَلَ مَا يَجُوز لَهُ مِنْ التَّأْخِير . هَذَا قَوْل الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ , وَيَرَوْنَهُ قَوْل اِبْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة .

فَإِنْ أَخَّرَ قَضَاءَهُ عَنْ شَعْبَان الَّذِي هُوَ غَايَة الزَّمَان الَّذِي يُقْضَى فِيهِ رَمَضَان فَهَلْ يَلْزَمهُ لِذَلِكَ كَفَّارَة أَوْ لَا , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : نَعَمْ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ وَدَاوُد : لَا .

قُلْت : وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيّ لِقَوْلِهِ , وَيُذْكَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مُرْسَلًا وَابْن عَبَّاس أَنَّهُ يُطْعِم , وَلَمْ يَذْكُر اللَّه الْإِطْعَام , إِنَّمَا قَالَ : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " .

قُلْت : قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مُسْنَدًا فِيمَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاء رَمَضَان حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَان آخَر قَالَ : ( يَصُوم هَذَا مَعَ النَّاس , وَيَصُوم الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ وَيُطْعِم لِكُلِّ يَوْم مِسْكِينًا ) خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إِسْنَاد صَحِيح . وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُل أَفْطَرَ فِي شَهْر رَمَضَان مِنْ مَرَض ثُمَّ صَحَّ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَان آخَر قَالَ : ( يَصُوم الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ يَصُوم الشَّهْر الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِم لِكُلِّ يَوْم مِسْكِينًا ) . فِي إِسْنَاده اِبْن نَافِع وَابْن وَجِيه ضَعِيفَانِ .

فَإِنْ تَمَادَى بِهِ الْمَرَض فَلَمْ يَصِحّ حَتَّى جَاءَ رَمَضَان آخَر , فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عُمَر ( أَنَّهُ يُطْعِم مَكَان كُلّ يَوْم مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَة , ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء ) وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا لَمْ يَصِحّ بَيْن الرَّمَضَانَيْنِ صَامَ عَنْ هَذَا وَأَطْعَمَ عَنْ الثَّانِي وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ , وَإِذَا صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ رَمَضَان آخَر صَامَ عَنْ هَذَا وَأَطْعَمَ عَنْ الْمَاضِي , فَإِذَا أَفْطَرَ قَضَاهُ ) إِسْنَاد صَحِيح . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَأَقْوَال الصَّحَابَة عَلَى خِلَاف الْقِيَاس قَدْ يُحْتَجّ بِهَا , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ : مَرِضْت رَمَضَانَيْنِ ؟ فَقَالَ لَهُ اِبْن عَبَّاس : ( اِسْتَمَرَّ بِك مَرَضك , أَوْ صَحَحْت بَيْنهمَا ؟ ) فَقَالَ : بَلْ صَحَحْت , قَالَ : ( صُمْ رَمَضَانَيْنِ وَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) وَهَذَا بَدَل مِنْ قَوْله : إِنَّهُ لَوْ تَمَادَى بِهِ مَرَضه لَا قَضَاء عَلَيْهِ , وَهَذَا يُشْبِه مَذْهَبهمْ فِي الْحَامِل وَالْمُرْضِع أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ وَلَا قَضَاء عَلَيْهِمَا , عَلَى مَا يَأْتِي .

وَاخْتَلَفَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِطْعَام فِي قَدْر مَا يَجِب أَنْ يُطْعِم , فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ يَقُولُونَ : يُطْعِم عَنْ كُلّ يَوْم مُدًّا , وَقَالَ الثَّوْرِيّ : يُطْعِم نِصْف صَاع عَنْ كُلّ يَوْم .

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ أَوْ جَامَعَ فِي قَضَاء رَمَضَان مَاذَا يَجِب عَلَيْهِ , فَقَالَ مَالِك : مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ قَضَاء رَمَضَان نَاسِيًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْء غَيْر قَضَائِهِ , وَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ ثُمَّ يَقْضِيه , وَلَوْ أَفْطَرَهُ عَامِدًا أَثِمَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْر قَضَاء ذَلِكَ الْيَوْم وَلَا يَتَمَادَى ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَفِّهِ عَمَّا يَكُفّ الصَّائِم هَاهُنَا إِذْ هُوَ غَيْر صَائِم عِنْد جَمَاعَة الْعُلَمَاء لِإِفْطَارِهِ عَامِدًا , وَأَمَّا الْكَفَّارَة فَلَا خِلَاف عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّهَا لَا تَجِب فِي ذَلِكَ , وَهُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء . قَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ قَضَاء رَمَضَان بِإِصَابَةِ أَهْله أَوْ غَيْر ذَلِكَ كَفَّارَة , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ قَضَاء ذَلِكَ الْيَوْم , وَقَالَ قَتَادَة : عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي قَضَاء رَمَضَان الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة , وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاء رَمَضَان فَعَلَيْهِ يَوْمَانِ , وَكَانَ اِبْن الْقَاسِم يُفْتِي بِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : إِنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي قَضَاء الْقَضَاء كَانَ عَلَيْهِ مَكَانه صِيَام يَوْمَيْنِ , كَمَنْ أَفْسَدَ حَجّه بِإِصَابَةِ أَهْله , وَحَجَّ قَابِلًا فَأَفْسَدَ حَجّه أَيْضًا بِإِصَابَةِ أَهْله كَانَ عَلَيْهِ حَجَّتَانِ . قَالَ أَبُو عُمَر : قَدْ خَالَفَهُ فِي الْحَجّ اِبْن وَهْب وَعَبْد الْمَلِك , وَلَيْسَ يَجِب الْقِيَاس عَلَى أَصْل مُخْتَلَف فِيهِ . وَالصَّوَاب عِنْدِي - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ إِلَّا قَضَاء يَوْم وَاحِد ; لِأَنَّهُ يَوْم وَاحِد أَفْسَدَهُ مَرَّتَيْنِ .

قُلْت : وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " فَمَتَى أَتَى بِيَوْمٍ تَامّ بَدَلًا عَمَّا أَفْطَرَهُ فِي قَضَاء رَمَضَان فَقَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ , وَلَا يَجِب عَلَيْهِ غَيْر ذَلِكَ , وَاَللَّه أَعْلَم .

وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَان لِعِلَّةٍ فَمَاتَ مِنْ عِلَّته تِلْكَ , أَوْ سَافَرَ فَمَاتَ فِي سَفَره ذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ , وَقَالَ طَاوُس وَقَتَادَة فِي الْمَرِيض يَمُوت قَبْل أَنْ يَصِحّ : يُطْعَم عَنْهُ .

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْم مِنْ رَمَضَان لَمْ يَقْضِهِ , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ : لَا يَصُوم أَحَد عَنْ أَحَد , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَاللَّيْث وَأَبُو عُبَيْد وَأَهْل الظَّاهِر : يُصَام عَنْهُ , إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوهُ بِالنَّذْرِ , وَرُوِيَ مِثْله عَنْ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق فِي قَضَاء رَمَضَان : يُطْعَم عَنْهُ . اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالصَّوْمِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام صَامَ عَنْهُ وَلِيّه ) . إِلَّا أَنَّ هَذَا عَامّ فِي الصَّوْم , يُخَصِّصهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ أُمِّي قَدْ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم نَذْر - وَفِي رِوَايَة صَوْم شَهْر - أَفَأَصُوم عَنْهَا ؟ قَالَ : ( أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمّك دَيْن فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا ) قَالَتْ : نَعَمْ , قَالَ : ( فَصُومِي عَنْ أُمّك ) . اِحْتَجَّ مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانه : " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " [ الْأَنْعَام : 164 ] وَقَوْله : " وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى " [ النَّجْم : 39 ] وَقَوْله : " وَلَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا " [ الْأَنْعَام : 164 ] وَبِمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يُصَلِّي أَحَد عَنْ أَحَد وَلَا يَصُوم أَحَد عَنْ أَحَد وَلَكِنْ يُطْعَم عَنْهُ مَكَان كُلّ يَوْم مُدًّا مِنْ حِنْطَة ) .

قُلْت : وَهَذَا الْحَدِيث عَامّ , فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : ( لَا يَصُوم أَحَد عَنْ أَحَد ) صَوْم رَمَضَان , فَأَمَّا صَوْم النَّذْر فَيَجُوز , بِدَلِيلِ حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَغَيْره , فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَيْضًا مِنْ حَدِيث بُرَيْدَة نَحْو حَدِيث اِبْن عَبَّاس , وَفِي بَعْض طُرُقه : صَوْم شَهْرَيْنِ أَفَأَصُوم عَنْهَا ؟ قَالَ : ( صُومِي عَنْهَا ) قَالَتْ : إِنَّهَا لَمْ تَحُجّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( حُجِّي عَنْهَا ) , فَقَوْلهَا : شَهْرَيْنِ , يَبْعُد أَنْ يَكُون رَمَضَان , وَاَللَّه أَعْلَم , وَأَقْوَى مَا يُحْتَجّ بِهِ لِمَالِك أَنَّهُ عَمَل أَهْل الْمَدِينَة , وَيَعْضُدهُ الْقِيَاس الْجَلِيّ , وَهُوَ أَنَّهُ عِبَادَة بَدَنِيَّة لَا مَدْخَل لِلْمَالِ فِيهَا فَلَا تُفْعَل عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ , وَلَا يُنْقَض هَذَا بِالْحَجِّ ; لِأَنَّ لِلْمَالِ فِيهِ مَدْخَلًا .

اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ قَالَ : إِنَّ الصَّوْم لَا يَنْعَقِد فِي السَّفَر وَعَلَيْهِ الْقَضَاء أَبَدًا , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر " أَيْ فَعَلَيْهِ عِدَّة , وَلَا حَذْف فِي الْكَلَام وَلَا إِضْمَار وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر )

قَالَ : مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْبِرّ فَهُوَ مِنْ الْإِثْم , فَيَدُلّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صَوْم رَمَضَان لَا يَجُوز فِي السَّفَر ] . وَالْجُمْهُور يَقُولُونَ : فِيهِ مَحْذُوف فَأَفْطَرَ , كَمَا تَقَدَّمَ , وَهُوَ الصَّحِيح , لِحَدِيثِ أَنَس قَالَ : ( سَافَرْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَان فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِم عَلَى الْمُفْطِر وَلَا الْمُفْطِر عَلَى الصَّائِم ) رَوَاهُ مَالِك عَنْ حُمَيْد الطَّوِيل عَنْ أَنَس , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : ( غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِتّ عَشْرَة مَضَتْ مِنْ رَمَضَان فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ , فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِم عَلَى الْمُفْطِر وَلَا الْمُفْطِر عَلَى الصَّائِم ) .


قِرَاءَة جَمَاعَة " الْيُسْر " بِضَمِّ السِّين لُغَتَانِ , وَكَذَلِكَ " الْعُسْر " . قَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك : " الْيُسْر " الْفِطْر فِي السَّفَر , و " الْعُسْر " الصِّيَام فِي السَّفَر , وَالْوَجْه عُمُوم اللَّفْظ فِي جَمِيع أُمُور الدِّين , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج " [ الْحَجّ : 78 ] , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( دِين اللَّه يُسْر ) , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ) . وَالْيُسْر مِنْ السُّهُولَة , وَمِنْهُ الْيَسَار لِلْغِنَى . وَسُمِّيَتْ الْيَد الْيُسْرَى تَفَاؤُلًا , أَوْ لِأَنَّهُ يَسْهُل لَهُ الْأَمْر بِمُعَاوَنَتِهَا لِلْيُمْنَى , قَوْلَانِ , وَقَوْله : " وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر " هُوَ بِمَعْنَى قَوْله " يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر " فَكَرَّرَ تَأْكِيدًا .

دَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ اللَّه سُبْحَانه مُرِيد بِإِرَادَةِ قَدِيمَة أَزَلِيَّة زَائِدَة عَلَى الذَّات . هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة , كَمَا أَنَّهُ عَالِم بِعِلْمٍ , قَادِر بِقُدْرَةٍ , حَيّ بِحَيَاةٍ , سَمِيع بِسَمْعٍ , بَصِير بِبَصَرٍ , مُتَكَلِّم بِكَلَامٍ , وَهَذِهِ كُلّهَا مَعَانٍ وُجُودِيَّة أَزَلِيَّة زَائِدَة عَلَى الذَّات . وَذَهَبَ الْفَلَاسِفَة وَالشِّيعَة إِلَى نَفْيهَا , تَعَالَى اللَّه عَنْ قَوْل الزَّائِغِينَ وَإِبْطَال الْمُبْطِلِينَ , وَاَلَّذِي يَقْطَع دَابِر أَهْل التَّعْطِيل أَنْ يُقَال : لَوْ لَمْ يُصَدَّق كَوْنه ذَا إِرَادَة لَصُدِّقَ أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي إِرَادَة , وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ كُلّ مَا لَيْسَ بِذِي إِرَادَة نَاقِصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَهُ إِرَادَة , فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ الصِّفَات الْإِرَادِيَّة فَلَهُ أَنْ يُخَصِّص الشَّيْء وَلَهُ أَلَّا يُخَصِّصهُ , فَالْعَقْل السَّلِيم يَقْضِي بِأَنَّ ذَلِكَ كَمَال لَهُ وَلَيْسَ بِنُقْصَانٍ , حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قَدَرَ بِالْوَهْمِ سُلِبَ ذَلِكَ الْأَمْر عَنْهُ لَقَدْ كَانَ حَاله أَوَّلًا أَكْمَل بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَال ثَانِيًا , فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُون مَا لَمْ يَتَّصِف أَنْقَص مِمَّا هُوَ مُتَّصِف بِهِ , وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْمُحَال , فَإِنَّهُ كَيْف يُتَصَوَّر أَنْ يَكُون الْمَخْلُوق أَكْمَل مِنْ الْخَالِق , وَالْخَالِق أَنْقَص مِنْهُ , وَالْبَدِيهَة تَقْضِي بِرَدِّهِ وَإِبْطَاله , وَقَدْ وَصَفَ نَفْسه جَلَّ جَلَاله وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ بِأَنَّهُ مُرِيد فَقَالَ تَعَالَى : " فَعَّال لِمَا يُرِيد " [ هُود : 107 ] وَقَالَ سُبْحَانه : " يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر " [ الْبَقَرَة : 185 ] وَقَالَ : " يُرِيد اللَّه أَنْ يُخَفِّف عَنْكُمْ " [ النِّسَاء : 28 ] , إِذَا أَرَادَ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول كُنْ فَيَكُون , ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعَالَم عَلَى غَايَة مِنْ الْحِكْمَة وَالْإِتْقَان وَالِانْتِظَام وَالْإِحْكَام , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ جَائِز وُجُوده وَجَائِز عَدَمه , فَاَلَّذِي خَصَّصَهُ بِالْوُجُودِ يَجِب أَنْ يَكُون مُرِيدًا لَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ عَالِمًا بِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا قَادِرًا لَا يَصِحّ مِنْهُ صُدُور شَيْء , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا لَمْ يَكُنْ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَى نِظَام الْحِكْمَة وَالْإِتْقَان , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَمْ يَكُنْ تَخْصِيص بَعْض الْجَائِزَات بِأَحْوَالٍ وَأَوْقَات دُون الْبَعْض بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْس , إِذْ نِسْبَتهَا إِلَيْهِ نِسْبَة وَاحِدَة . قَالُوا : وَإِذْ ثَبَتَ كَوْنه قَادِرًا مُرِيدًا وَجَبَ أَنْ يَكُون حَيًّا , إِذْ الْحَيَاة شَرْط هَذِهِ الصِّفَات , وَيَلْزَم مِنْ كَوْنه حَيًّا أَنْ يَكُون سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا , فَإِنْ لَمْ تَثْبُت لَهُ هَذِهِ الصِّفَات فَإِنَّهُ لَا مَحَالَة مُتَّصِف بِأَضْدَادِهَا كَالْعَمَى وَالطَّرَش وَالْخَرَس عَلَى مَا عُرِفَ فِي الشَّاهِد , وَالْبَارِئ سُبْحَانه وَتَعَالَى يَتَقَدَّس عَنْ أَنْ يَتَّصِف بِمَا يُوجِب فِي ذَاته نَقْصًا .


فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا : إِكْمَال عِدَّة الْأَدَاء لِمَنْ أَفْطَرَ فِي سَفَره أَوْ مَرَضه . الثَّانِي : عِدَّة الْهِلَال سَوَاء كَانَتْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ . قَالَ جَابِر اِبْن عَبْد اللَّه قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الشَّهْر يَكُون تِسْعًا وَعِشْرِينَ ) . وَفِي هَذَا رَدّ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شَهْرَا عِيد لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَان وَذُو الْحَجَّة ) أَنَّهُمَا لَا يَنْقُصَانِ عَنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا , أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَتَأَوَّلَ جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمَا لَا يَنْقُصَانِ فِي الْأَجْر وَتَكْفِير الْخَطَايَا , سَوَاء كَانَا مِنْ تِسْع وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ .

وَلَا اِعْتِبَار بِرُؤْيَةِ هِلَال شَوَّال يَوْم الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَان نَهَارًا بَلْ هُوَ لِلَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي , هَذَا هُوَ الصَّحِيح , وَقَدْ اِخْتَلَفَ الرُّوَاة عَنْ عُمَر فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ شَقِيق قَالَ : جَاءَنَا كِتَاب عُمَر وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ قَالَ فِي كِتَابه : ( إِنَّ الْأَهِلَّة بَعْضهَا أَكْبَر مِنْ بَعْض , فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَال نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَد شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ ) وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل قَالَ : كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَر . .. , فَذَكَرَهُ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب مِثْل مَا ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق أَيْضًا , وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَأَنْسَ بْن مَالِك , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَبُو يُوسُف : إِنْ رُئِيَ بَعْد الزَّوَال فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي , وَإِنْ رُئِيَ قَبْل الزَّوَال فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَة , وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ عُمَر , ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ مُغِيرَة عَنْ شِبَاك عَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ : كَتَبَ عُمَر إِلَى عُتْبَة بْن فَرْقَد " إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَال نَهَارًا قَبْل أَنْ تَزُول الشَّمْس لِتَمَامِ ثَلَاثِينَ فَأَفْطِرُوا , وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْد مَا تَزُول الشَّمْس فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَمَسُّوا " , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ مِثْله , وَلَا يَصِحّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة شَيْء مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد عَلَى عَلِيّ , وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَان بْن رَبِيعَة مِثْل قَوْل الثَّوْرِيّ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب , وَبِهِ كَانَ يُفْتَى بِقُرْطُبَة , وَاخْتُلِفَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة , قَالَ أَبُو عُمَر : وَالْحَدِيث عَنْ عُمَر بِمَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة مُتَّصِل , وَالْحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ بِمَذْهَبِ الثَّوْرِيّ مُنْقَطِع , وَالْمُصَيِّر إِلَى الْمُتَّصِل أَوْلَى , وَقَدْ اِحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَب الثَّوْرِيّ بِأَنْ قَالَ : حَدِيث الْأَعْمَش مُجْمَل لَمْ يُخَصّ فِيهِ قَبْل الزَّوَال وَلَا بَعْده , وَحَدِيث إِبْرَاهِيم مُفَسَّر , فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُقَال بِهِ .

قُلْت : قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر مُتَّصِلًا مَوْقُوفًا رَوَتْهُ عَائِشَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : أَصْبَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا صُبْح ثَلَاثِينَ يَوْمًا , فَرَأَى هِلَال شَوَّال نَهَارًا فَلَمْ يُفْطِر حَتَّى أَمْسَى . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث الْوَاقِدِيّ وَقَالَ : قَالَ الْوَاقِدِيّ حَدَّثَنَا مُعَاذ بْن مُحَمَّد الْأَنْصَارِيّ قَالَ : سَأَلْت الزُّهْرِيّ عَنْ هِلَال شَوَّال إِذَا رُئِيَ بَاكِرًا , قَالَ سَمِعْت سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : إِنْ رُئِيَ هِلَال شَوَّال بَعْد أَنْ طَلَعَ الْفَجْر إِلَى الْعَصْر أَوْ إِلَى أَنْ تَغْرُب الشَّمْس فَهُوَ مِنْ اللَّيْلَة الَّتِي تَجِيء , قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ .

رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ رِبْعِيّ بْن حِرَاش عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ : اِخْتَلَفَ النَّاس فِي آخِر يَوْم مِنْ رَمَضَان فَقَدِمَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ لَأَهَلَّا الْهِلَال أَمْسِ عَشِيَّة , ( فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاس أَنْ يُفْطِرُوا وَأَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : هَذَا إِسْنَاد حَسَن ثَابِت . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا خِلَاف عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّهُ لَا تُصَلَّى صَلَاة الْعِيد فِي غَيْر يَوْم الْعِيد وَلَا فِي يَوْم الْعِيد بَعْد الزَّوَال , وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة . وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة , فَمَرَّة قَالَ بِقَوْلِ مَالِك , وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ وَقَالَ : إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصَلَّى فِي يَوْم الْعِيد بَعْد الزَّوَال فَالْيَوْم الثَّانِي أَبْعَد مِنْ وَقْتهَا وَأَحْرَى أَلَّا تُصَلَّى فِيهِ , وَعَنْ الشَّافِعِيّ رِوَايَة أُخْرَى أَنَّهَا تُصَلَّى فِي الْيَوْم الثَّانِي ضَحَّى , وَقَالَ الْبُوَيْطِيّ : لَا تُصَلَّى إِلَّا أَنْ يَثْبُت فِي ذَلِكَ حَدِيث . قَالَ أَبُو عُمَر : لَوْ قُضِيَتْ صَلَاة الْعِيد بَعْد خُرُوج وَقْتهَا لَأَشْبَهَتْ الْفَرَائِض , وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي سَائِر السُّنَن أَنَّهَا لَا تُقْضَى , فَهَذِهِ مِثْلهَا , وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل : يَخْرُجُونَ مِنْ الْغَد , وَقَالَ أَبُو يُوسُف فِي الْإِمْلَاء , وَقَالَ الْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ : لَا يَخْرُجُونَ فِي الْفِطْر وَيَخْرُجُونَ فِي الْأَضْحَى . قَالَ أَبُو يُوسُف : وَأَمَّا فِي الْأَضْحَى فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ فِي الْيَوْم الثَّالِث . قَالَ أَبُو عُمَر : لِأَنَّ الْأَضْحَى أَيَّام عِيد وَهِيَ صَلَاة عِيد , وَلَيْسَ الْفِطْر يَوْم عِيد إِلَّا يَوْم وَاحِد , فَإِذَا لَمْ تُصَلَّ فِيهِ لَمْ تُقْضَ فِي غَيْره ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ فَتُقْضَى , وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد : يَخْرُجُونَ فِي الْفِطْر وَالْأَضْحَى مِنْ الْغَد .

قُلْت : وَالْقَوْل بِالْخُرُوجِ إِنْ شَاءَ اللَّه أَصَحّ , لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَة فِي ذَلِكَ , وَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَسْتَثْنِي الشَّارِع مِنْ السُّنَن مَا شَاءَ فَيَأْمُر بِقَضَائِهِ بَعْد خُرُوج وَقْته , وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْر فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْد مَا تَطْلُع الشَّمْس ) . صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد . قَالَ التِّرْمِذِيّ : وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد بَعْض أَهْل الْعِلْم , وَبِهِ يَقُول سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُبَارَك , وَرُوِيَ عَنْ عُمَر أَنَّهُ فَعَلَهُ .

قُلْت : وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْت وَصَلَّى الصُّبْح وَتَرَكَ رَكْعَتَيْ الْفَجْر فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِمَا بَعْد طُلُوع الشَّمْس إِنْ شَاءَ , وَقِيلَ : لَا يُصَلِّيهِمَا حِينَئِذٍ , ثُمَّ إِذَا قُلْنَا : يُصَلِّيهِمَا فَهَلْ مَا يَفْعَلهُ قَضَاء , أَوْ رَكْعَتَانِ يَنُوب لَهُ ثَوَابهمَا عَنْ ثَوَاب رَكْعَتَيْ الْفَجْر . قَالَ الشَّيْخ أَبُو بَكْر : وَهَذَا الْجَارِي عَلَى أَصْل الْمَذْهَب , وَذِكْر الْقَضَاء تَجَوُّز .

قُلْت : وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون حُكْم صَلَاة الْفِطْر فِي الْيَوْم الثَّانِي عَلَى هَذَا الْأَصْل , لَا سِيَّمَا مَعَ كَوْنهَا مَرَّة وَاحِدَة فِي السَّنَة مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّة . رَوَى النَّسَائِيّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَة قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بِشْر عَنْ أَبِي عُمَيْر بْن أَنَس عَنْ عُمُومَة لَهُ : أَنَّ قَوْمًا رَأَوْا الْهِلَال فَأَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا بَعْد مَا اِرْتَفَعَ النَّهَار وَأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْعِيد مِنْ الْغَد . فِي رِوَايَة : وَيَخْرُجُوا لِمُصَلَّاهُمْ مِنْ الْغَد .

قَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم وَأَبُو عَمْرو - فِي بَعْض مَا رُوِيَ عَنْهُ - وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالْأَعْرَج " وَلِتُكَمِّلُوا الْعِدَّة " بِالتَّشْدِيدِ . وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ , وَاخْتَارَ الْكِسَائِيّ التَّخْفِيف , كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ " [ الْمَائِدَة : 3 ] . قَالَ النَّحَّاس : وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد , كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا " [ الطَّارِق : 17 ] , وَلَا يَجُوز " وَلْتُكْمِلُوا " بِإِسْكَانِ اللَّام , وَالْفَرْق بَيْن هَذَا وَبَيْن مَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّقْدِير : وَيُرِيد لِأَنْ تُكْمِلُوا , وَلَا يَجُوز حَذْف أَنْ وَالْكَسْرَة , هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ , وَنَحْوه قَوْل كَثِير أَبُو صَخْر : أُرِيد لِأَنْسَى ذِكْرهَا أَيْ لِأَنْ أَنْسَى , وَهَذِهِ اللَّام هِيَ الدَّاخِلَة عَلَى الْمَفْعُول , كَاَلَّتِي فِي قَوْلك : ضَرَبْت لِزَيْدٍ , الْمَعْنَى وَيُرِيد إِكْمَال الْعِدَّة , وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مُضْمَر بَعْد , تَقْدِيره : وَلِأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّة رُخِّصَ لَكُمْ هَذِهِ الرُّخْصَة , وَهَذَا قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَحَكَاهُ النَّحَّاس عَنْ الْفَرَّاء . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل حَسَن , وَمِثْله : " وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيم مَلَكُوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ " [ الْأَنْعَام : 75 ] أَيْ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ فَعَلْنَا ذَلِكَ . وَقِيلَ : الْوَاو مُقْحَمَة , وَقِيلَ : يُحْتَمَل أَنْ تَكُون هَذِهِ اللَّام لَام الْأَمْر وَالْوَاو عَاطِفَة جُمْلَة كَلَام عَلَى جُمْلَة كَلَام , وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن السَّرِيّ : هُوَ مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى , وَالتَّقْدِير : فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ لِيُسَهِّل عَلَيْكُمْ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة , قَالَ : وَمِثْله مَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ . بَادَتْ وَغَيَّرَ آيهنَّ مَعَ الْبِلَى إِلَّا رَوَاكِد جَمْرهنَّ هَبَاء وَمُشَجَّجٌ أَمَّا سَوَاء قَذَاله فَبَدَا وَغَيَّبَ سَارَهُ الْمَعْزَاءُ شَادَهُ يَشِيدهُ شَيْدًا جَصَّصَهُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَادَتْ إِلَّا رَوَاكِد بِهَا رَوَاكِد , فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَبِهَا مُشَجَّج أَوْ ثَمَّ مُشَجَّج .


عَطْف عَلَيْهِ , وَمَعْنَاهُ الْحَضّ عَلَى التَّكْبِير فِي آخِر رَمَضَان فِي قَوْل جُمْهُور أَهْل التَّأْوِيل , وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي حَدّه , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : رُوِيَ عَنْ سَعِيد اِبْن الْمُسَيِّب وَعُرْوَة وَأَبِي سَلَمَة أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ لَيْلَة الْفِطْر وَيَحْمَدُونَ , قَالَ : وَتُشْبِه لَيْلَة النَّحْر بِهَا , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : حَقّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا هِلَال شَوَّال أَنْ يُكَبِّرُوا وَرُوِيَ عَنْهُ : يُكَبِّر الْمَرْء مِنْ رُؤْيَة الْهِلَال إِلَى اِنْقِضَاء الْخُطْبَة , وَيُمْسِك وَقْت خُرُوج الْإِمَام وَيُكَبِّر بِتَكْبِيرِهِ , وَقَالَ قَوْم : يُكَبِّر مِنْ رُؤْيَة الْهِلَال إِلَى خُرُوج الْإِمَام لِلصَّلَاةِ , وَقَالَ سُفْيَان : هُوَ التَّكْبِير يَوْم الْفِطْر . زَيْد بْن أَسْلَم : يُكَبِّرُونَ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمُصَلَّى فَإِذَا اِنْقَضَتْ الصَّلَاة اِنْقَضَى الْعِيد , وَهَذَا مَذْهَب مَالِك , قَالَ مَالِك : هُوَ مِنْ حِين يَخْرُج مِنْ دَاره إِلَى أَنْ يَخْرُج الْإِمَام , وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم وَعَلِيّ بْن زِيَاد : أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ قَبْل طُلُوع الشَّمْس فَلَا يُكَبِّر فِي طَرِيقه وَلَا جُلُوسه حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس , وَإِنْ غَدَا بَعْد الطُّلُوع فَلْيُكَبِّرْ فِي طَرِيقه إِلَى الْمُصَلَّى وَإِذَا جَلَسَ حَتَّى يَخْرُج الْإِمَام , وَالْفِطْر وَالْأَضْحَى فِي ذَلِكَ سَوَاء عِنْد مَالِك , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُكَبِّر فِي الْأَضْحَى وَلَا يُكَبِّر فِي الْفِطْر , وَاللَّيْل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " وَلِتُكَبِّرُوا اللَّه " وَلِأَنَّ هَذَا يَوْم عِيد لَا يَتَكَرَّر فِي الْعَام فَسُنَّ التَّكْبِير فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ كَالْأَضْحَى . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ قَالَ : كَانُوا فِي التَّكْبِير فِي الْفِطْر أَشَدّ مِنْهُمْ فِي الْأَضْحَى , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : ( أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّر يَوْم الْفِطْر مِنْ حِين يَخْرُج مِنْ بَيْته حَتَّى يَأْتِي الْمُصَلَّى ) وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : أَنَّهُ كَانَ إِذَا غَدَا يَوْم الْأَضْحَى وَيَوْم الْفِطْر يَجْهَر بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَأْتِي ثُمَّ يُكَبِّر حَتَّى يَأْتِي الْإِمَام , وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم عَلَى التَّكْبِير فِي عِيد الْفِطْر مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر قَالَ : وَحَكَى ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيّ عَنْ إِلْيَاس , وَكَانَ الشَّافِعِيّ يَقُول إِذَا رَأَى هِلَال شَوَّال : أَحْبَبْت أَنْ يُكَبِّر النَّاس جَمَاعَة وَفُرَادَى , وَلَا يَزَالُونَ يُكَبِّرُونَ وَيُظْهِرُونَ التَّكْبِير حَتَّى يَغْدُوا إِلَى الْمُصَلَّى وَحِين يَخْرُج الْإِمَام إِلَى الصَّلَاة , وَكَذَلِكَ أُحِبّ لَيْلَة الْأَضْحَى لِمَنْ لَمْ يَحُجّ . وَسَيَأْتِي حُكْم صَلَاة الْعِيدَيْنِ وَالتَّكْبِير فِيهِمَا فِي " سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " [ الْأَعْلَى ] و " الْكَوْثَر " [ الْكَوْثَر ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

وَلَفْظ التَّكْبِير عِنْد مَالِك وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر , ثَلَاثًا , وَرُوِيَ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ يُكَبِّر وَيُهَلِّل وَيُسَبِّح أَثْنَاء التَّكْبِير , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : اللَّه أَكْبَر كَبِيرًا , وَالْحَمْد لِلَّهِ كَثِيرًا , وَسُبْحَان اللَّه بُكْرَة وَأَصِيلًا , وَكَانَ اِبْن الْمُبَارَك يَقُول إِذَا خَرَجَ مِنْ يَوْم الْفِطْر : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر , لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَاَللَّه أَكْبَر وَلِلَّهِ الْحَمْد , اللَّه أَكْبَر عَلَى مَا هَدَانَا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ مَالِك لَا يَحُدّ فِيهِ حَدًّا , وَقَالَ أَحْمَد : هُوَ وَاسِع . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " وَاخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا التَّكْبِير الْمُطْلَق , وَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن وَإِلَيْهِ أَمِيل " .


قِيلَ : لَمَّا ضَلَّ فِيهِ النَّصَارَى مِنْ تَبْدِيل صِيَامهمْ . وَقِيلَ : بَدَلًا عَمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ مِنْ التَّفَاخُر بِالْآبَاءِ وَالتَّظَاهُر بِالْأَحْسَابِ وَتَعْدِيد الْمَنَاقِب , وَقِيلَ : لِتُعَظِّمُوهُ عَلَى مَا أَرْشَدَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ الشَّرَائِع , فَهُوَ عَامّ .


كَيْ تَشْكُرُوا عَفْو اللَّه عَنْكُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى لَعَلَّ وَأَمَّا الشُّكْر فَهُوَ فِي اللُّغَة الظُّهُور مِنْ قَوْل دَابَّة شَكُور إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنْ السِّمَن فَوْق مَا تُعْطَى مِنْ الْعَلَف وَحَقِيقَته الثَّنَاء عَلَى الْإِنْسَان بِمَعْرُوفٍ يُولِيكَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَة قَالَ الْجَوْهَرِيّ الشُّكْر الثَّنَاء عَلَى الْمُحْسِن بِمَا أَوْلَاكَهُ مِنْ الْمَعْرُوف يُقَال شَكَرْته وَشَكَرْت لَهُ وَبِاللَّامِ أَفْصَح وَالشُّكْرَان خِلَاف الْكُفْرَان وَتَشَكَّرْت لَهُ مِثْل شَكَرْت لَهُ وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَا يَشْكُر اللَّه مَنْ لَا يَشْكُر النَّاس ) قَالَ الْخَطَّابِيّ هَذَا الْكَلَام يَتَأَوَّل عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ طَبْعه كُفْرَان نِعْمَة النَّاس وَتَرْك الشُّكْر لِمَعْرُوفِهِمْ كَانَ مِنْ عَادَته كُفْرَان نِعْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْك الشُّكْر لَهُ وَالْوَجْه الْآخَر أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَا يَقْبَل شُكْر الْعَبْد عَلَى إِحْسَانه إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْعَبْد لَا يَشْكُر إِحْسَان النَّاس إِلَيْهِ وَيَكْفُر مَعْرُوفهمْ لِاتِّصَالِ أَحَد الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ .

فِي عِبَارَات الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الشُّكْر فَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه الشُّكْر الِاجْتِهَاد فِي بَذْل الطَّاعَة مَعَ الِاجْتِنَاب لِلْمَعْصِيَةِ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَقَالَتْ فِرْقَة أُخْرَى الشُّكْر هُوَ الِاعْتِرَاف فِي تَقْصِير الشُّكْر لِلْمُنْعِمِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى " اِعْمَلُوا آل دَاوُد شُكْرًا " [ سَبَأ : 13 ] فَقَالَ دَاوُد ( كَيْف أَشْكُرك يَا رَبّ وَالشُّكْر نِعْمَة مِنْك قَالَ الْآن قَدْ عَرَفْتنِي وَشَكَرْتنِي إِذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الشُّكْر مِنِّي نِعْمَة قَالَ يَا رَبّ فَأَرِنِي أَخْفَى نِعَمك عَلَيَّ قَالَ يَا دَاوُد تَنَفَّسْ فَتَنَفَّسَ دَاوُد فَقَالَ اللَّه تَعَالَى مَنْ يُحْصِي هَذِهِ النِّعْمَة اللَّيْل وَالنَّهَار ) ( وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَيْف أَشْكُرك وَأَصْغَر نِعْمَة وَضَعْتهَا بِيَدَيَّ مِنْ نِعَمك لَا يُجَازَى بِهَا عَمَلِي كُلّه فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ يَا مُوسَى الْآن شَكَرْتنِي ) وَقَالَ الْجُنَيْد حَقِيقَة الشُّكْر الْعَجْز عَنْ الشُّكْر وَعَنْهُ قَالَ كُنْت بَيْن يَدَيْ السَّرِيّ السَّقَطِيّ أَلْعَب وَأَنَا اِبْن سَبْع سِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَمَاعَة يَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّكْر فَقَالَ لِي يَا غُلَام مَا الشُّكْر فَقُلْت أَلَّا يُعْصَى اللَّه بِنِعَمِهِ فَقَالَ لِي أَخْشَى أَنْ يَكُون حَظّك مِنْ اللَّه لِسَانك قَالَ الْجُنَيْد فَلَا أَزَال أَبْكِي عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَة الَّتِي قَالَهَا السَّرِيّ لِي وَقَالَ الشِّبْلِيّ الشُّكْر التَّوَاضُع وَالْمُحَافَظَة عَلَى الْحَسَنَات وَمُخَالَفَة الشَّهَوَات وَبَذْل الطَّاعَات وَمُرَاقَبَة جَبَّار الْأَرْض وَالسَّمَوَات وَقَالَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ أَبُو الْفَيْض الشُّكْر لِمَنْ فَوْقك بِالطَّاعَةِ وَلِنَظِيرِك بِالْمُكَافَأَةِ وَلِمَنْ دُونك بِالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَال
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَسورة البقرة الآية رقم 186
الْمَعْنَى وَإِذَا سَأَلُوك عَنْ الْمَعْبُود فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُ قَرِيب يُثِيب عَلَى الطَّاعَة وَيُجِيب الدَّاعِي , وَيَعْلَم مَا يَفْعَلهُ الْعَبْد مِنْ صَوْم وَصَلَاة وَغَيْر ذَلِكَ , وَاخْتُلِفَ فِي سَبَب نُزُولهَا , فَقَالَ مُقَاتِل : إِنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَاقَع اِمْرَأَته بَعْد مَا صَلَّى الْعِشَاء فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ وَبَكَى , وَجَاءَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَرَجَعَ مُغْتَمًّا , وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل نُزُول الرُّخْصَة , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " وَإِذَا سَأَلَك عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب " , وَقِيلَ : لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ فِي الِابْتِدَاء تَرْك الْأَكْل بَعْد النَّوْم فَأَكَلَ بَعْضهمْ ثُمَّ نَدِمَ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي قَبُول التَّوْبَة وَنَسْخ ذَلِكَ الْحُكْم , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَرَوَى الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَتْ الْيَهُود كَيْف يَسْمَع رَبّنَا دُعَاءَنَا , وَأَنْتَ تَزْعُم أَنَّ بَيْننَا وَبَيْن السَّمَاء خَمْسمِائَةِ عَام , وَغِلَظ كُلّ سَمَاء مِثْل ذَلِكَ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَقَالَ الْحَسَن : سَبَبهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَرِيب رَبّنَا فَنُنَاجِيه , أَمْ بَعِيد فَنُنَادِيه ؟ فَنَزَلَتْ , وَقَالَ عَطَاء وَقَتَادَة : لَمَّا نَزَلَتْ : " وَقَالَ رَبّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " [ غَافِر : 60 ] قَالَ قَوْم : فِي أَيّ سَاعَة نَدْعُوهُ ؟ فَنَزَلَتْ .


أَيْ بِالْإِجَابَةِ , وَقِيلَ بِالْعِلْمِ , وَقِيلَ : قَرِيب مِنْ أَوْلِيَائِي بِالْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَام .

أَيْ أَقْبَل عِبَادَة مَنْ عَبَدَنِي , فَالدُّعَاء بِمَعْنَى الْعِبَادَة , وَالْإِجَابَة بِمَعْنَى الْقَبُول . دَلِيله مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الدُّعَاء هُوَ الْعِبَادَة قَالَ رَبّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) فَسُمِّيَ الدُّعَاء عِبَادَة , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ " [ غَافِر : 60 ] أَيْ دُعَائِي , فَأَمَرَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَخَصَّ عَلَيْهِ وَسَمَّاهُ عِبَادَة , وَوَعَدَ بِأَنْ يَسْتَجِيب لَهُمْ . رَوَى لَيْث عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( أُعْطِيَتْ أُمَّتِي ثَلَاثًا لَمْ تُعْطَ إِلَّا الْأَنْبِيَاء كَانَ اللَّه إِذَا بَعَثَ نَبِيًّا قَالَ اُدْعُنِي أَسْتَجِبْ لَك وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّة اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَكَانَ اللَّه إِذَا بَعَثَ النَّبِيّ قَالَ لَهُ مَا جَعَلَ عَلَيْك فِي الدِّين مِنْ حَرَج وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّة مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج وَكَانَ اللَّه إِذَا بَعَثَ النَّبِيّ جَعَلَهُ شَهِيدًا عَلَى قَوْمه وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّة شُهَدَاء عَلَى النَّاس ) , وَكَانَ خَالِد الرَّبَعِيّ يَقُول : عَجِبْت لِهَذِهِ الْأُمَّة فِي " اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " [ غَافِر : 60 ] أَمَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ وَوَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ , وَلَيْسَ بَيْنهمَا شَرْط . قَالَ لَهُ قَائِل : مِثْل مَاذَا ؟ قَالَ مِثْل قَوْله : " وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات " [ الْبَقَرَة : 25 ] فَهَاهُنَا شَرْط , وَقَوْله : " وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَم صِدْق " [ يُونُس : 2 ] فَلَيْسَ فِيهِ شَرْط الْعَمَل , وَمِثْل قَوْله : " فَادْعُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " [ غَافِر : 14 ] فَهَاهُنَا شَرْط , وَقَوْله : " اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " لَيْسَ فِيهِ شَرْط , وَكَانَتْ الْأُمَم تَفْزَع إِلَى أَنْبِيَائِهَا فِي حَوَائِجهمْ حَتَّى تَسْأَل الْأَنْبِيَاء لَهُمْ ذَلِكَ .

فَإِنْ قِيلَ : فَمَا لِلدَّاعِي قَدْ يَدْعُو فَلَا يُجَاب ؟ فَالْجَوَاب أَنْ يَعْلَم أَنَّ قَوْله الْحَقّ فِي الْآيَتَيْنِ " أُجِيب " " أَسْتَجِبْ " لَا يَقْتَضِي الِاسْتِجَابَة مُطْلَقًا لِكُلِّ دَاعٍ عَلَى التَّفْصِيل , وَلَا بِكُلِّ مَطْلُوب عَلَى التَّفْصِيل , فَقَدْ قَالَ رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى : " اُدْعُوا رَبّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة إِنَّهُ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ " [ الْأَعْرَاف : 55 ] وَكُلّ مُصِرّ عَلَى كَبِيرَة عَالِمًا بِهَا أَوْ جَاهِلًا فَهُوَ مُعْتَدٍ , وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ فَكَيْف يَسْتَجِيب لَهُ , وَأَنْوَاع الِاعْتِدَاء كَثِيرَة , يَأْتِي بَيَانهَا هُنَا وَفِي [ الْأَعْرَاف ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : أُجِيب إِنْ شِئْت , كَمَا قَالَ : " فَيَكْشِف مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ " [ الْأَنْعَام : 41 ] فَيَكُون هَذَا مِنْ بَاب الْمُطْلَق وَالْمُقَيَّد , وَقَدْ دَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاث فَأُعْطِيَ اِثْنَتَيْنِ وَمُنِعَ وَاحِدَة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ الْأَنْعَام ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : إِنَّمَا مَقْصُود هَذَا الْإِخْبَار تَعْرِيف جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هَذَا وَصْف رَبّهمْ سُبْحَانه أَنْ يُجِيب دُعَاء الدَّاعِينَ فِي الْجُمْلَة , وَأَنَّهُ قَرِيب مِنْ الْعَبْد يَسْمَع دُعَاءَهُ وَيَعْلَم اِضْطِرَاره فَيُجِيبهُ بِمَا شَاءَ وَكَيْف شَاءَ " وَمَنْ أَضَلّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُون اللَّه مَنْ لَا يَسْتَجِيب لَهُ " [ الْأَحْقَاف : 5 ] الْآيَة . وَقَدْ يُجِيب السَّيِّد عَبْده وَالْوَالِد وَلَده ثُمَّ لَا يُعْطِيه رَسُوله , فَالْإِجَابَة كَانَتْ حَاصِلَة لَا مَحَالَة عِنْد وُجُود الدَّعْوَة ; لِأَنَّ أُجِيب وَأَسْتَجِبْ خَبَر لَا يُنْسَخ فَيَصِير الْمُخْبِر كَذَّابًا . يَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل مَا رَوَى اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاء فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَاب الْإِجَابَة ) . وَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد : أَنْ قُلْ لِلظَّلَمَةِ مِنْ عِبَادِي لَا يَدْعُونِي فَإِنِّي أَوْجَبْت عَلَى نَفْسِي أَنْ أُجِيب مَنْ دَعَانِي وَإِنِّي إِذَا أَجَبْت الظَّلَمَة لَعَنْتهمْ , وَقَالَ قَوْم : إِنَّ اللَّه يُجِيب كُلّ الدُّعَاء , فَإِمَّا أَنْ تَظْهَر الْإِجَابَة فِي الدُّنْيَا , وَإِمَّا أَنْ يُكَفِّر عَنْهُ , وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِر لَهُ فِي الْآخِرَة , لِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مُسْلِم يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْم وَلَا قَطِيعَة رَحِم إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّه بِهَا إِحْدَى ثَلَاث إِمَّا أَنْ يُعَجِّل لَهُ دَعْوَته وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِر لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُفّ عَنْهُ مِنْ السُّوء بِمِثْلِهَا ) . قَالُوا : إِذَنْ نُكْثِر ؟ قَالَ : ( لِلَّهِ أَكْثَر ) . خَرَّجَهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ , وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ , وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأ مُنْقَطِع السَّنَد . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا الْحَدِيث يُخَرَّج فِي التَّفْسِير الْمُسْنَد لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى " اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " [ غَافِر : 60 ] فَهَذَا كُلّه مِنْ الْإِجَابَة , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلّ عَبْد دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ , فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَدْعُو بِهِ رِزْقًا لَهُ فِي الدُّنْيَا أُعْطِيَهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِزْقًا لَهُ فِي الدُّنْيَا ذُخِرَ لَهُ .

قُلْت : وَحَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ وَإِنْ كَانَ إِذْنًا بِالْإِجَابَةِ فِي إِحْدَى ثَلَاث فَقَدْ دَلَّك عَلَى صِحَّة مَا تَقَدَّمَ مِنْ اِجْتِنَاب الِاعْتِدَاء الْمَانِع مِنْ الْإِجَابَة حَيْثُ قَالَ فِيهِ : ( مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَة رَحِم ) وَزَادَ مُسْلِم : ( مَا لَمْ يَسْتَعْجِل ) . رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَزَال يُسْتَجَاب لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَة رَحِم مَا لَمْ يَسْتَعْجِل - قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا الِاسْتِعْجَال ؟ قَالَ - يَقُول قَدْ دَعَوْت وَقَدْ دَعَوْت فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيب لِي فَيَسْتَحْسِر عِنْد ذَلِكَ وَيَدَع الدُّعَاء ) , وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُسْتَجَاب لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَل يَقُول دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : يَحْتَمِل قَوْله ( يُسْتَجَاب لِأَحَدِكُمْ ) الْإِخْبَار عَنْ وُجُوب وُقُوع الْإِجَابَة , وَالْإِخْبَار عَنْ جَوَاز وُقُوعهَا , فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِخْبَار عَنْ الْوُجُوب وَالْوُقُوع فَإِنَّ الْإِجَابَة تَكُون بِمَعْنَى الثَّلَاثَة الْأَشْيَاء الْمُتَقَدِّمَة , فَإِذَا قَالَ : قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي , بَطَلَ وُقُوع أَحَد هَذِهِ الثَّلَاثَة الْأَشْيَاء وَعَرِيَ الدُّعَاء مِنْ جَمِيعهَا , وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى جَوَاز الْإِجَابَة فَإِنَّ الْإِجَابَة حِينَئِذٍ تَكُون بِفِعْلِ مَا دَعَا بِهِ خَاصَّة , وَيَمْنَع مِنْ ذَلِكَ قَوْل الدَّاعِي : قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَاب الْقُنُوط وَضَعْف الْيَقِين وَالسَّخَط .

قُلْت : وَيَمْنَع مِنْ إِجَابَة الدُّعَاء أَيْضًا أَكْل الْحَرَام وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الرَّجُل يُطِيل السَّفَر أَشْعَث أَغْبَر يَمُدّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء يَا رَبّ يَا رَبّ وَمَطْعَمه حَرَام وَمَشْرَبه حَرَام وَمَلْبَسه حَرَام وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَاب لِذَلِكَ ) وَهَذَا اِسْتِفْهَام عَلَى جِهَة الِاسْتِبْعَاد مِنْ قَبُول دُعَاء مَنْ هَذِهِ صِفَته , فَإِنَّ إِجَابَة الدُّعَاء لَا بُدّ لَهَا مِنْ شُرُوط فِي الدَّاعِي وَفِي الدُّعَاء وَفِي الشَّيْء الْمَدْعُوّ بِهِ . فَمِنْ شَرْط الدَّاعِي أَنْ يَكُون عَالِمًا بِأَنْ لَا قَادِر عَلَى حَاجَته إِلَّا اللَّه , وَأَنَّ الْوَسَائِط فِي قَبْضَته وَمُسَخَّرَة بِتَسْخِيرِهِ , وَأَنْ يَدْعُو بِنِيَّةٍ صَادِقَة وَحُضُور قَلْب , فَإِنَّ اللَّه لَا يَسْتَجِيب دُعَاء مِنْ قَلْب غَافِل لَاهٍ , وَأَنْ يَكُون مُجْتَنِبًا لِأَكْلِ الْحَرَام , وَأَلَّا يَمَلّ مِنْ الدُّعَاء , وَمِنْ شَرْط الْمَدْعُوّ فِيهِ أَنْ يَكُون مِنْ الْأُمُور الْجَائِزَة الطَّلَب وَالْفِعْل شَرْعًا , كَمَا قَالَ : ( مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَة رَحِم ) فَيَدْخُل فِي الْإِثْم كُلّ مَا يَأْثَم بِهِ مِنْ الذُّنُوب , وَيَدْخُل فِي الرَّحِم جَمِيع حُقُوق الْمُسْلِمِينَ وَمَظَالِمهمْ , وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ : شُرُوط الدُّعَاء سَبْعَة : أَوَّلهَا التَّضَرُّع وَالْخَوْف وَالرَّجَاء وَالْمُدَاوَمَة وَالْخُشُوع وَالْعُمُوم وَأَكْل الْحَلَال , وَقَالَ اِبْن عَطَاء : إِنَّ لِلدُّعَاءِ أَرْكَانًا وَأَجْنِحَة وَأَسْبَابًا وَأَوْقَاتًا , فَإِنْ وَافَقَ أَرْكَانه قَوِيَ , وَإِنْ وَافَقَ أَجْنِحَته طَارَ فِي السَّمَاء , وَإِنْ وَافَقَ مَوَاقِيته فَازَ , وَإِنْ وَافَقَ أَسْبَابه أَنْجَحَ . فَأَرْكَانه حُضُور الْقَلْب وَالرَّأْفَة وَالِاسْتِكَانَة وَالْخُشُوع , وَأَجْنِحَته الصِّدْق , وَمَوَاقِيته الْأَسْحَار , وَأَسْبَابه الصَّلَاة عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقِيلَ : شَرَائِطه أَرْبَع : أَوَّلهَا حِفْظ الْقَلْب عِنْد الْوَحْدَة , وَحِفْظ اللِّسَان مَعَ الْخَلْق , وَحِفْظ الْعَيْن عَنْ النَّظَر إِلَى مَا لَا يَحِلّ , وَحِفْظ الْبَطْن مِنْ الْحَرَام , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مِنْ شَرْط الدُّعَاء أَنْ يَكُون سَلِيمًا مِنْ اللَّحْن , كَمَا أَنْشَدَ بَعْضهمْ : يُنَادِي رَبّه بِاللَّحْنِ لَيْث كَذَاك إِذَا دَعَاهُ لَا يُجِيب وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيم بْن أَدْهَم : مَا بَالنَا نَدْعُو فَلَا يُسْتَجَاب لَنَا ؟ قَالَ : لِأَنَّكُمْ عَرَفْتُمْ اللَّه فَلَمْ تُطِيعُوهُ , وَعَرَفْتُمْ الرَّسُول فَلَمْ تَتَّبِعُوا سُنَّته , وَعَرَفْتُمْ الْقُرْآن فَلَمْ تَعْمَلُوا بِهِ , وَأَكَلْتُمْ نِعَم اللَّه فَلَمْ تُؤَدُّوا شُكْرهَا , وَعَرَفْتُمْ الْجَنَّة فَلَمْ تَطْلُبُوهَا , وَعَرَفْتُمْ النَّار فَلَمْ تَهْرُبُوا مِنْهَا , وَعَرَفْتُمْ الشَّيْطَان فَلَمْ تُحَارِبُوهُ وَوَافَقْتُمُوهُ , وَعَرَفْتُمْ الْمَوْت فَلَمْ تَسْتَعِدُّوا لَهُ , وَدَفَنْتُمْ الْأَمْوَات فَلَمْ تَعْتَبِرُوا , وَتَرَكْتُمْ عُيُوبكُمْ وَاشْتَغَلْتُمْ بِعُيُوبِ النَّاس . قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِنَوْفٍ الْبَكَالِيّ : يَا نَوْف , إِنَّ اللَّه أَوْحَى إِلَى دَاوُد أَنْ مُرْ بَنِي إِسْرَائِيل أَلَّا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إِلَّا بِقُلُوبٍ طَاهِرَة , وَأَبْصَار خَاشِعَة , وَأَيْدٍ نَقِيَّة , فَإِنِّي لَا أَسْتَجِيب لِأَحَدٍ مِنْهُمْ , وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِي لَهُ عِنْده مَظْلِمَة . يَا نَوْف , لَا تَكُونَن شَاعِرًا وَلَا عَرِيفًا وَلَا شَرْطِيًّا وَلَا جَابِيًا وَلَا عَشَّارًا , فَإِنَّ دَاوُد قَامَ فِي سَاعَة مِنْ اللَّيْل فَقَالَ : إِنَّهَا سَاعَة لَا يَدْعُو عَبْد إِلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ فِيهَا , إِلَّا أَنْ يَكُون عَرِيفًا أَوْ شَرْطِيًّا أَوْ جَابِيًا أَوْ عَشَّارًا , أَوْ صَاحِب عَرْطَبَة , وَهِيَ الطُّنْبُور , أَوْ صَاحِب كُوبَة , وَهِيَ الطَّبْل . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلَا يَقُلْ الدَّاعِي : اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِنْ شِئْت , اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْت , اللَّهُمَّ اِرْحَمْنِي إِنْ شِئْت , بَلْ يُعَرِّي سُؤَاله وَدُعَاءَهُ مِنْ لَفْظ الْمَشِيئَة , وَيَسْأَل سُؤَال مَنْ يَعْلَم أَنَّهُ لَا يَفْعَل إِلَّا أَنْ يَشَاء . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي قَوْله : " إِنْ شِئْت " نَوْع مِنْ الِاسْتِغْنَاء عَنْ مَغْفِرَته وَعَطَائِهِ وَرَحْمَته , كَقَوْلِ الْقَائِل : إِنْ شِئْت أَنْ تُعْطِينِي كَذَا فَافْعَلْ , لَا يُسْتَعْمَل هَذَا إِلَّا مَعَ الْغِنَى عَنْهُ , وَأَمَّا الْمُضْطَرّ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَعْزِم فِي مَسْأَلَته وَيَسْأَل سُؤَال فَقِير مُضْطَرّ إِلَى مَا سَأَلَهُ . /و رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا دَعَا أَحَدكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَة لَا يَقُولَن اللَّهُمَّ إِنْ شِئْت فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِه لَهُ ) . وَفِي الْمُوَطَّأ : ( اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْت , اللَّهُمَّ اِرْحَمْنِي إِنْ شِئْت ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله ( فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَة ) دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْتَهِد فِي الدُّعَاء وَيَكُون عَلَى رَجَاء مِنْ الْإِجَابَة , وَلَا يَقْنُط مِنْ رَحْمَة اللَّه ; لِأَنَّهُ يَدْعُو كَرِيمًا . قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : لَا يَمْنَعَن أَحَدًا مِنْ الدُّعَاء مَا يَعْلَمهُ مِنْ نَفْسه فَإِنَّ اللَّه قَدْ أَجَابَ دُعَاء شَرّ الْخَلْق إِبْلِيس , قَالَ : رَبّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ , قَالَ فَإِنَّك مِنْ الْمُنْظَرِينَ , وَلِلدُّعَاءِ أَوْقَات وَأَحْوَال يَكُون الْغَالِب فِيهَا الْإِجَابَة , وَذَلِكَ كَالسَّحَرِ وَوَقْت الْفِطْر , وَمَا بَيْن الْأَذَان وَالْإِقَامَة , وَمَا بَيْن الظُّهْر وَالْعَصْر فِي يَوْم الْأَرْبِعَاء , وَأَوْقَات الِاضْطِرَار وَحَالَة السَّفَر وَالْمَرَض , وَعِنْد نُزُول الْمَطَر وَالصَّفّ فِي سَبِيل اللَّه . كُلّ هَذَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَار , وَيَأْتِي بَيَانهَا فِي مَوَاضِعهَا , وَرَوَى شَهْر بْن حَوْشَب أَنَّ أُمّ الدَّرْدَاء قَالَتْ لَهُ : يَا شَهْر , أَلَا تَجِد الْقُشَعْرِيرَة ؟ قُلْت نَعَمْ . قَالَتْ : فَادْعُ اللَّه فَإِنَّ الدُّعَاء مُسْتَجَاب عِنْد ذَلِكَ , وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه : دَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِد الْفَتْح ثَلَاثًا يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَيَوْم الثُّلَاثَاء فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْم الْأَرْبِعَاء بَيْن الصَّلَاتَيْنِ فَعَرَفْت السُّرُور فِي وَجْهه . قَالَ جَابِر : ( مَا نَزَلَ بِي أَمْر مُهِمّ غَلِيظ إِلَّا تَوَخَّيْت تِلْكَ السَّاعَة فَأَدْعُو فِيهَا فَأَعْرِف الْإِجَابَة )

قَالَ أَبُو رَجَاء الْخُرَاسَانِيّ : فَلْيَدْعُوا لِي . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : الْمَعْنَى فَلْيَطْلُبُوا أَنْ أُجِيبهُمْ , وَهَذَا هُوَ بَاب اِسْتَفْعَلَ أَيْ طَلَب الشَّيْء إِلَّا مَا شَذَّ مِثْل اِسْتَغْنَى اللَّه , وَقَالَ مُجَاهِد وَغَيْره : الْمَعْنَى فَلْيُجِيبُوا إِلَيَّ فِيمَا دَعَوْتهمْ إِلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان , أَيْ الطَّاعَة وَالْعَمَل وَيُقَال : أَجَابَ وَاسْتَجَابَ بِمَعْنًى , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْد ذَاكَ مُجِيب أَيْ لَمْ يُجِبْهُ وَالسِّين زَائِدَة وَاللَّام لَام الْأَمْر , وَجَزَمَتْ لَام الْأَمْر لِأَنَّهَا تَجْعَل الْفِعْل مُسْتَقْبِلًا لَا غَيْر فَأَشْبَهَتْ إِنْ الَّتِي لِلشَّرْطِ , وَقِيلَ : لِأَنَّهَا لَا تَقَع إِلَّا عَلَى الْفِعْل .


اللَّام لَام الْأَمْر وَجَزَمَتْ لِأَنَّهَا تَجْعَل الْفِعْل مُسْتَقْبِلًا لَا غَيْر , فَأَشْبَهَتْ إِنْ الَّتِي لِلشَّرْطِ , وَقِيلَ : لِأَنَّهَا لَا تَقَع إِلَّا عَلَى الْفِعْل . وَالرَّشَاد خِلَاف الْغَيّ , وَقَدْ رَشَدَ يَرْشُد رُشْدًا , وَرَشِدَ بِالْكَسْرِ يَرْشَد رَشَدًا , لُغَة فِيهِ , وَأَرْشَدَهُ اللَّه . وَالْمَرَاشِد : مَقَاصِد الطُّرُق , وَالطَّرِيق الْأَرْشَد : نَحْو الْأَقْصَد , وَتَقُول : هُوَ لِرِشْدَةٍ . خِلَاف قَوْلك : لِزِنْيَة وَأُمّ رَاشِد كُنْيَة لِلْفَأْرَةِ وَبَنُو رَشْدَان : بَطْن مِنْ الْعَرَب , عَنْ الْجَوْهَرِيّ , وَقَالَ الْهَرَوِيّ : الرُّشْد وَالرَّشَد وَالرَّشَاد : الْهُدَى وَالِاسْتِقَامَة , وَمِنْهُ قَوْله : " لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " .
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَسورة البقرة الآية رقم 187
لَفْظ " أُحِلَّ " يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا قَبْل ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ . رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى قَالَ وَحَدَّثَنَا أَصْحَابنَا قَالَ : وَكَانَ الرَّجُل إِذَا أَفْطَرَ فَنَامَ قَبْل أَنْ يَأْكُل لَمْ يَأْكُل حَتَّى يُصْبِح , قَالَ : فَجَاءَ عُمَر فَأَرَادَ اِمْرَأَته فَقَالَتْ : إِنِّي قَدْ نِمْت , فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلّ فَأَتَاهَا , فَجَاءَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَأَرَادَ طَعَامًا فَقَالُوا : حَتَّى نُسَخِّن لَك شَيْئًا فَنَامَ , فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة , وَفِيهَا : " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُمْ " , وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ الْبَرَاء قَالَ : كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُل صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَار فَنَامَ قَبْل أَنْ يُفْطِر لَمْ يَأْكُل لَيْلَته وَلَا يَوْمه حَتَّى يُمْسِي , وَأَنَّ قَيْس بْن صِرْمَة الْأَنْصَارِيّ كَانَ صَائِمًا - وَفِي رِوَايَة : كَانَ يَعْمَل فِي النَّخِيل بِالنَّهَارِ وَكَانَ صَائِمًا - فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَار أَتَى اِمْرَأَته فَقَالَ لَهَا : أَعْنَدك طَعَام ؟ قَالَتْ لَا , وَلَكِنْ أَنْطَلِق فَأَطْلُب لَك , وَكَانَ يَوْمه يَعْمَل , فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ , فَجَاءَتْهُ اِمْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ : خَيْبَة لَك فَلَمَّا اِنْتَصَفَ النَّهَار غُشِيَ عَلَيْهِ , فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُمْ " فَفَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا , فَنَزَلَتْ : " وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمْ الْخَيْط الْأَبْيَض مِنْ الْخَيْط الْأَسْوَد مِنْ الْفَجْر " , وَفِي الْبُخَارِيّ أَيْضًا عَنْ الْبَرَاء قَالَ : لَمَّا نَزَلَ صَوْم رَمَضَان كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاء رَمَضَان كُلّه , وَكَانَ رِجَال يَخُونُونَ أَنْفُسهمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " عَلِمَ اللَّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ " يُقَال : خَانَ وَاخْتَانَ بِمَعْنًى مِنْ الْخِيَانَة , أَيْ تَخُونُونَ أَنْفُسكُمْ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي لَيَالِي الصَّوْم , وَمَنْ عَصَى اللَّه فَقَدْ خَانَ نَفْسه إِذْ جَلَبَ إِلَيْهَا الْعِقَاب , وَقَالَ الْقُتَبِيّ : أَصْل الْخِيَانَة أَنْ يُؤْتَمَن الرَّجُل عَلَى شَيْء فَلَا يُؤَدِّي الْأَمَانَة فِيهِ , وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ : أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ رَجَعَ مِنْ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَمَرَ عِنْده لَيْلَة فَوَجَدَ اِمْرَأَته قَدْ نَامَتْ فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ لَهُ : قَدْ نِمْت , فَقَالَ لَهَا : مَا نِمْت , فَوَقَعَ بِهَا . وَصَنَعَ كَعْب بْن مَالِك مِثْله , فَغَدَا عُمُر عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَعْتَذِر إِلَى اللَّه وَإِلَيْك , فَإِنَّ نَفْسِي زَيَّنَتْ لِي فَوَاقَعْت أَهْلِي , فَهَلْ تَجِد لِي مِنْ رُخْصَة ؟ فَقَالَ لِي : ( لَمْ تَكُنْ حَقِيقًا بِذَلِكَ يَا عُمَر ) فَلَمَّا بَلَغَ بَيْته أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَنْبَأَهُ بِعُذْرِهِ فِي آيَة مِنْ الْقُرْآن . وَذَكَرَهُ النَّحَّاس وَمَكِّيّ , وَأَنَّ عُمَر نَامَ ثُمَّ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ , وَأَنَّهُ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ : " عَلِمَ اللَّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآن بَاشِرُوهُنَّ . .. " الْآيَة . و " لَيْلَة " نُصِبَ عَلَى الظَّرْف وَهِيَ اِسْم جِنْس فَلِذَلِكَ أُفْرِدَتْ .


وَالرَّفَث : كِنَايَة عَنْ الْجِمَاع لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَرِيم يَكْنِي , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ . وَقَالَ الزَّجَّاج : الرَّفَث كَلِمَة جَامِعَة لِكُلِّ مَا يُرِيد الرَّجُل مِنْ اِمْرَأَته , وَقَالَهُ الْأَزْهَرِيّ أَيْضًا , وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : الرَّفَث هَاهُنَا الْجِمَاع , وَالرَّفَث : التَّصْرِيح بِذِكْرِ الْجِمَاع وَالْإِعْرَاب بِهِ . قَالَ الشَّاعِر وَيُرَيْنَ مِنْ أُنْس الْحَدِيث زَوَانِيَا وَبِهِنَّ عَنْ رَفَث الرِّجَال نِفَار وَقِيلَ : الرَّفَث أَصْله قَوْل الْفُحْش , يُقَال : رَفَثَ وَأَرْفَثَ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْقَبِيحِ , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : وَرُبَّ أَسْرَاب حَجِيج كُظَّم عَنْ اللَّغَا وَرَفَث التَّكَلُّم وَتَعَدَّى " الرَّفَث " بِإِلَى فِي قَوْله تَعَالَى جَدّه : " الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُمْ " , وَأَنْتَ لَا تَقُول : رَفَثْت إِلَى النِّسَاء , وَلَكِنْ جِيءَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْإِفْضَاء الَّذِي يُرَاد بِهِ الْمُلَابَسَة فِي مِثْل قَوْله : " وَقَدْ أَفْضَى بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض " [ النِّسَاء : 21 ] . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى : " وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينهمْ " [ الْبَقَرَة : 14 ] كَمَا تَقَدَّمَ , وَقَوْله : " يَوْم يُحْمَى عَلَيْهَا " [ التَّوْبَة : 35 ] أَيْ يُوقَد ; لِأَنَّك تَقُول : أُحْمِيَتْ الْحَدِيدَة فِي النَّار , وَسَيَأْتِي , وَمِنْهُ قَوْله : " فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْره , " [ النُّور : 63 ] حُمِلَ عَلَى مَعْنَى يَنْحَرِفُونَ عَنْ أَمْره أَوْ يَرُوغُونَ عَنْ أَمْره ; لِأَنَّك تَقُول : خَالَفْت زَيْدًا , وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا " [ الْأَحْزَاب : 43 ] حُمِلَ عَلَى رَءُوف فِي نَحْو " بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوف رَحِيم " [ التَّوْبَة : 128 ] , أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُول : رَؤُفْت بِهِ , وَلَا تَقُول رَحِمْت بِهِ , وَلَكِنَّهُ لَمَّا وَافَقَهُ فِي الْمَعْنَى نَزَلَ مَنْزِلَته فِي التَّعْدِيَة , وَمِنْ هَذَا الضَّرْب قَوْل أَبِي كَبِير الْهُذَلِيّ : حَمَلَتْ بِهِ فِي لَيْلَة مَزْءُودَة كَرْهًا وَعَقْد نِطَاقهَا لَمْ يُحْلَل عَدَّى " حَمَلَتْ " بِالْبَاءِ , وَحَقّه أَنْ يَصِل إِلَى الْمَفْعُول بِنَفْسِهِ , كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل : " حَمَلَتْهُ أُمّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا " [ الْأَحْقَاف : 15 ] , وَلَكِنَّهُ قَالَ : حَمَلَتْ بِهِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى حَبِلَتْ بِهِ .


اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَشُدِّدَتْ النُّون مِنْ " هُنَّ " لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِيم وَالْوَاو فِي الْمُذَكَّر .


أَصْل اللِّبَاس فِي الثِّيَاب , ثُمَّ سُمِّيَ اِمْتِزَاج كُلّ وَاحِد مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ لِبَاسًا , لِانْضِمَامِ الْجَسَد إِلَى الْجَسَد وَامْتِزَاجهمَا وَتَلَازُمهمَا تَشْبِيهًا بِالثَّوْبِ , وَقَالَ النَّابِغَة الْجَعْدِيّ : إِذَا مَا الضَّجِيع ثَنَى جِيدهَا تَدَاعَتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا وَقَالَ أَيْضًا : لَبِسْت أُنَاسًا فَأَفْنَيْتُهُمْ وَأَفْنَيْت بَعْد أُنَاس أُنَاسَا وَقَالَ بَعْضهمْ : يُقَال لِمَا سَتَرَ الشَّيْء وَدَارَاهُ : لِبَاس , فَجَائِز أَنْ يَكُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا سِتْرًا لِصَاحِبِهِ عَمَّا لَا يَحِلّ , كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَر , وَقِيلَ : لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا سِتْر لِصَاحِبِهِ فِيمَا يَكُون بَيْنهمَا مِنْ الْجِمَاع مِنْ أَبْصَار النَّاس , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره : يُقَال لِلْمَرْأَةِ هِيَ لِبَاسك وَفِرَاشك وَإِزَارك . قَالَ رَجُل لِعُمَر بْن الْخَطَّاب : أَلَا أُبْلِغ أَبَا حَفْص رَسُولًا فَدَى لَك مِنْ أَخِي ثِقَة إِزَارِي قَالَ أَبُو عُبَيْد : أَيْ نِسَائِي , وَقِيلَ نَفْسِي , وَقَالَ الرَّبِيع : هُنَّ فِرَاش لَكُمْ , وَأَنْتُمْ لِحَاف لَهُنَّ . مُجَاهِد : أَيْ سَكَن لَكُمْ , أَيْ يَسْكُن بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض .


أَيْ يَسْتَأْمِر بَعْضكُمْ بَعْضًا فِي مُوَاقَعَة الْمَحْظُور مِنْ الْجِمَاع وَالْأَكْل بَعْد النَّوْم فِي لَيَالِي الصَّوْم , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " تَقْتُلُونَ أَنْفُسكُمْ " [ الْبَقَرَة : 85 ] يَعْنِي يَقْتُل بَعْضكُمْ بَعْضًا , وَيُحْتَمَل أَنْ يُرِيد بِهِ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ فِي نَفْسه بِأَنَّهُ يَخُونهَا , وَسَمَّاهُ خَائِنًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ ضَرَره عَائِدًا عَلَيْهِ , كَمَا تَقَدَّمَ .


يَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا - قَبُول التَّوْبَة مِنْ خِيَانَتهمْ لِأَنْفُسِهِمْ , وَالْآخَر - التَّخْفِيف عَنْهُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَة , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ " [ الْمُزَّمِّل : 20 ] أَيْ خَفَّفَ عَنْكُمْ , وَقَوْله عَقِيب الْقَتْل الْخَطَأ : " فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَة مِنْ اللَّه " [ النِّسَاء : 92 ] يَعْنِي تَخْفِيفًا ; لِأَنَّ الْقَاتِل خَطَأ لَمْ يَفْعَل شَيْئًا تَلْزَمهُ التَّوْبَة مِنْهُ , وَقَالَ تَعَالَى : " لَقَدْ تَابَ اللَّه عَلَى النَّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي سَاعَة الْعُسْرَة " [ التَّوْبَة : 117 ] وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيّ مَا يُوجِب التَّوْبَة مِنْهُ .


يَحْتَمِل الْعَفْو مِنْ الذَّنْب , وَيَحْتَمِل التَّوْسِعَة وَالتَّسْهِيل , كَقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوَّل الْوَقْت رِضْوَان اللَّه وَآخِره عَفْو اللَّه ) يَعْنِي تَسْهِيله وَتَوْسِعَته , فَمَعْنَى " عَلِمَ اللَّه " أَيْ عَلِمَ وُقُوع هَذَا مِنْكُمْ مُشَاهَدَة " فَتَابَ عَلَيْكُمْ " بَعْد مَا وَقَعَ , أَيْ خَفَّفَ عَنْكُمْ " وَعَفَا " أَيْ سَهَّلَ . و " تَخْتَانُونَ " مِنْ الْخِيَانَة , كَمَا تَقَدَّمَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " وَقَالَ عُلَمَاء الزُّهْد : وَكَذَا فَلْتَكُنْ الْعِنَايَة وَشَرَف الْمَنْزِلَة , خَانَ نَفْسه عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَجَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى شَرِيعَة , وَخَفَّفَ مِنْ أَجْله عَنْ الْأُمَّة فَرَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَرْضَاهُ " .


كِنَايَة عَنْ الْجِمَاع , أَيْ قَدْ أَحَلَّ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ . وَسُمِّيَ الْوِقَاع مُبَاشَرَة لِتَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ فِيهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ سَبَب الْآيَة جِمَاع عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَا جُوع قَيْس ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَب جُوع قَيْس لَقَالَ : فَالْآن كُلُوا , اِبْتَدَأَ بِهِ لِأَنَّهُ الْمُهِمّ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَة لِأَجْلِهِ .


قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة وَعِكْرِمَة وَالْحَسَن وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع وَالضَّحَّاك : مَعْنَاهُ وَابْتَغُوا الْوَلَد , يَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَقِيب قَوْله : " فَالْآن بَاشِرُوهُنَّ " , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا هُوَ الْقُرْآن . الزَّجَّاج : أَيْ اِبْتَغُوا الْقُرْآن بِمَا أُبِيحَ لَكُمْ فِيهِ وَأُمِرْتُمْ بِهِ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُعَاذ بْن جَبَل أَنَّ الْمَعْنَى وَابْتَغُوا لَيْلَة الْقَدْر , وَقِيلَ : الْمَعْنَى اُطْلُبُوا الرُّخْصَة وَالتَّوْسِعَة , قَالَهُ قَتَادَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهُوَ قَوْل حَسَن . قِيلَ : " اِبْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّه لَكُمْ " مِنْ الْإِمَاء وَالزَّوْجَات . وَقَرَأَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْحَسَن بْن قُرَّة " وَاتَّبِعُوا " مِنْ الِاتِّبَاع , وَجَوَّزَهَا اِبْن عَبَّاس , وَرَجَّحَ " اِبْتَغُوا " مِنْ الِابْتِغَاء .


هَذَا جَوَاب نَازِلَة قَيْس , وَالْأَوَّل جَوَاب عُمَر , وَقَدْ اِبْتَدَأَ بِنَازِلَةِ عُمَر لِأَنَّهُ الْمُهِمّ فَهُوَ الْمُقَدَّم .

" حَتَّى " غَايَة لِلتَّبْيِينِ , وَلَا يَصِحّ أَنْ يَقَع التَّبْيِين لِأَحَدٍ وَيُحَرَّم عَلَيْهِ الْأَكْل إِلَّا وَقَدْ مَضَى لِطُلُوعِ الْفَجْر قَدْر , وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدّ الَّذِي بِتَبَيُّنِهِ يَجِب الْإِمْسَاك , فَقَالَ الْجُمْهُور : ذَلِكَ الْفَجْر الْمُعْتَرِض فِي الْأُفُق يَمْنَة وَيَسْرَة , وَبِهَذَا جَاءَتْ الْأَخْبَار وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَمْصَار . رَوَى مُسْلِم عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَغُرَّنكُمْ مِنْ سُحُوركُمْ أَذَان بِلَال وَلَا بَيَاض الْأُفُق الْمُسْتَطِيل هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِير هَكَذَا ) , وَحَكَاهُ حَمَّاد بِيَدَيْهِ قَالَ : يَعْنِي مُعْتَرِضًا , وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود : ( إِنَّ الْفَجْر لَيْسَ الَّذِي يَقُول هَكَذَا - وَجَمَعَ أَصَابِعه ثُمَّ نَكَّسَهَا إِلَى الْأَرْض - وَلَكِنْ الَّذِي يَقُول هَكَذَا - وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَة عَلَى الْمُسَبِّحَة وَمَدَّ يَدَيْهِ ) , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبَّاس أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( هُمَا فَجْرَانِ فَأَمَّا الَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَب السِّرْحَان فَإِنَّهُ لَا يُحِلّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمهُ وَأَمَّا الْمُسْتَطِيل الَّذِي عَارَضَ الْأُفُق فَفِيهِ تَحِلّ الصَّلَاة وَيَحْرُم الطَّعَام ) هَذَا مُرْسَل وَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ بَعْد طُلُوع الْفَجْر وَتَبَيُّنه فِي الطُّرُق وَالْبُيُوت , رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر وَحُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَطَلْق بْن عَلِيّ وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَغَيْرهمْ أَنَّ الْإِمْسَاك يَجِب بِتَبْيِينِ الْفَجْر فِي الطُّرُق وَعَلَى رُءُوس الْجِبَال . وَقَالَ مَسْرُوق : لَمْ يَكُنْ يَعُدُّونَ الْفَجْر فَجْركُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعُدُّونَ الْفَجْر الَّذِي يَمْلَأ الْبُيُوت , وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَاصِم عَنْ زِرّ قَالَ قُلْنَا لِحُذَيْفَة : أَيّ سَاعَة تَسَحَّرْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : هُوَ النَّهَار إِلَّا أَنَّ الشَّمْس لَمْ تَطْلُع , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ طَلْق بْن عَلِيّ أَنَّ نَبِيّ اللَّه قَالَ : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَغُرَّنكُمْ السَّاطِع الْمُصْعِد وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْرِض لَكُمْ الْأَحْمَر ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : قَيْس بْن طَلْق لَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَقَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْل الْيَمَامَة . قَالَ الطَّبَرِيّ : وَاَلَّذِي قَادَهُمْ إِلَى هَذَا أَنَّ الصَّوْم إِنَّمَا هُوَ فِي النَّهَار , وَالنَّهَار عِنْدهمْ مِنْ طُلُوع الشَّمْس , وَآخِره غُرُوبهَا , وَقَدْ مَضَى الْخِلَاف فِي هَذَا بَيْن اللُّغَوِيِّينَ . وَتَفْسِير رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( إِنَّمَا هُوَ سَوَاد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار ) الْفَيْصَل فِي ذَلِكَ , وَقَوْله " أَيَّامًا مَعْدُودَات " [ الْبَقَرَة : 184 ] , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ لَمْ يُبَيِّت الصِّيَام قَبْل طُلُوع الْفَجْر فَلَا صِيَام لَهُ ) . تَفَرَّدَ بِهِ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاد عَنْ الْمُفَضَّل بْن فَضَالَة بِهَذَا الْإِسْنَاد , وَكُلّهمْ ثِقَات . وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ لَمْ يَجْمَع الصِّيَام قَبْل الْفَجْر فَلَا صِيَام لَهُ ) . رَفَعَهُ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر وَهُوَ مِنْ الثِّقَات الرُّفَعَاء , وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَة مَرْفُوعًا مِنْ قَوْلهَا , فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيل عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُور فِي الْفَجْر , وَيُمْنَع الصِّيَام دُون نِيَّة قَبْل الْفَجْر , خِلَافًا لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة , وَهِيَ :

وَذَلِكَ أَنَّ الصِّيَام مِنْ جُمْلَة الْعِبَادَات فَلَا يَصِحّ إِلَّا بِنِيَّةٍ , وَقَدْ وَقَّتَهَا الشَّارِع قَبْل الْفَجْر , فَكَيْف يُقَال : إِنَّ الْأَكْل وَالشُّرْب بَعْد الْفَجْر جَائِز وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ : أُنْزِلَتْ " وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمْ الْخَيْط الْأَبْيَض مِنْ الْخَيْط الْأَسْوَد " وَلَمْ يَنْزِل " مِنْ الْفَجْر " وَكَانَ رِجَال إِذَا أَرَادُوا الصَّوْم رَبَطَ أَحَدهمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْط الْأَبْيَض وَالْخَيْط الْأَسْوَد , وَلَا يَزَال يَأْكُل وَيَشْرَب حَتَّى يَتَبَيَّن لَهُ رُؤْيَتهمَا , فَأَنْزَلَ اللَّه بَعْد " مِنْ الْفَجْر " فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ بَيَاض النَّهَار . وَعَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَا الْخَيْط الْأَبْيَض مِنْ الْخَيْط الْأَسْوَد أَهُمَا الْخَيْطَانِ ؟ قَالَ : ( إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا إِنْ أَبْصَرْت الْخَيْطَيْنِ - ثُمَّ قَالَ - لَا بَلْ هُوَ سَوَاد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ , وَسُمِّيَ الْفَجْر خَيْطًا لِأَنَّ مَا يَبْدُو مِنْ الْبَيَاض يُرَى مُمْتَدًّا كَالْخَيْطِ . قَالَ الشَّاعِر : الْخَيْط الْأَبْيَض ضَوْء الصُّبْح مُنْفَلِق وَالْخَيْط الْأَسْوَد جُنْح اللَّيْل مَكْتُوم وَالْخَيْط فِي كَلَامهمْ عِبَارَة عَنْ اللَّوْن , وَالْفَجْر مَصْدَر فَجَّرْت الْمَاء أُفَجِّرهُ فَجْرًا إِذَا جَرَى وَانْبَعَثَ , وَأَصْله الشَّقّ , فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلطَّالِعِ مِنْ تَبَاشِير ضِيَاء الشَّمْس مِنْ مَطْلَعهَا : فَجْرًا لِانْبِعَاثِ ضَوْئِهِ , وَهُوَ أَوَّل بَيَاض النَّهَار الظَّاهِر الْمُسْتَطِير فِي الْأُفُق الْمُنْتَشِر , تُسَمِّيه الْعَرَب الْخَيْط الْأَبْيَض , كَمَا بَيَّنَّاهُ . قَالَ أَبُو دَاوُد الْإِيَادِيّ : فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سُدْفَة وَلَاحَ مِنْ الصُّبْح خَيْط أَنَارَا وَقَالَ آخَر : قَدْ كَادَ يَبْدُو وَبَدَتْ تُبَاشِرهُ وَسَدَف اللَّيْل الْبَهِيم سَاتِره وَقَدْ تُسَمِّيه أَيْضًا الصَّدِيع , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : اِنْصَدَعَ الْفَجْر , قَالَ بِشْر بْن أَبِي خَازِم أَوْ عَمْرو بْن مَعْدِيكَرِبَ : تَرَى السِّرْحَان مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاض لَبَّته صَدِيع وَشَبَّهَهُ الشَّمَّاخ بِمَفْرِقِ الرَّأْس فَقَالَ : إِذَا مَا اللَّيْل كَانَ الصُّبْح فِيهِ أَشُقّ كَمَفْرِقِ الرَّأْس الدَّهِين وَيَقُولُونَ فِي الْأَمْر الْوَاضِح : هَذَا كَفَلَقِ الصُّبْح , وَكَانْبِلَاجِ الْفَجْر , وَتَبَاشِير الصُّبْح . قَالَ الشَّاعِر : فَوَرَدْت قَبْل اِنْبِلَاج الْفَجْر وَابْن ذُكَاء كَامِن فِي كَفْر

فِيهَا سَبْعَة عَشَر مَسْأَلَة

الْأُولَى : جَعَلَ اللَّه جَلَّ ذِكْره اللَّيْل ظَرْفًا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْب وَالْجِمَاع , وَالنَّهَار ظَرْفًا لِلصِّيَامِ , فَبَيَّنَ أَحْكَام الزَّمَانَيْنِ وَغَايَرَ بَيْنهمَا , فَلَا يَجُوز فِي الْيَوْم شَيْء مِمَّا أَبَاحَهُ بِاللَّيْلِ إِلَّا لِمُسَافِرٍ أَوْ مَرِيض , كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه , فَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَان مِنْ غَيْر مَنْ ذَكَرَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُون عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا , فَإِنْ كَانَ الْأَوَّل فَقَالَ مَالِك : مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَان عَامِدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْب أَوْ جِمَاع فَعَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة , لِمَا رَوَاهُ فِي مُوَطَّئِهِ , وَمُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَان وَأَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنْ يُكَفِّر بِعِتْقِ رَقَبَة أَوْ صِيَام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَام سِتِّينَ مِسْكِينًا ) الْحَدِيث , وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيّ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَغَيْره : إِنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَة إِنَّمَا تَخْتَصّ بِمَنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ , لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة أَيْضًا قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَكْت يَا رَسُول اللَّه قَالَ : ( وَمَا أَهْلَكَك ) قَالَ : وَقَعْت عَلَى اِمْرَأَتِي فِي رَمَضَان . .. ) الْحَدِيث , وَفِيهِ ذِكْر الْكَفَّارَة عَلَى التَّرْتِيب , أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَحَمَلُوا هَذِهِ الْقَضِيَّة عَلَى الْقَضِيَّة الْأُولَى فَقَالُوا : هِيَ وَاحِدَة , وَهَذَا غَيْر مُسَلَّم بِهِ بَلْ هُمَا قَضِيَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ; لِأَنَّ مَسَاقهمَا مُخْتَلِف , وَقَدْ عَلَّقَ الْكَفَّارَة عَلَى مَنْ أَفْطَرَ مُجَرَّدًا عَنْ الْقُيُود فَلَزِمَ مُطْلَقًا , وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَالطَّبَرِيّ وَابْن الْمُنْذِر , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاء فِي رِوَايَة , وَعَنْ الْحَسَن وَالزُّهْرِيّ , وَيَلْزَم الشَّافِعِيّ الْقَوْل بِهِ فَإِنَّهُ يَقُول : تَرْك الِاسْتِفْصَال مَعَ تَعَارُض الْأَحْوَال يَدُلّ عَلَى عُمُوم الْحُكْم , وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيّ عَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاء الْعُقُوبَة لِانْتِهَاك حُرْمَة الشَّهْر .

الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا يَجِب عَلَى الْمَرْأَة يَطَؤُهَا زَوْجهَا فِي رَمَضَان , فَقَالَ مَالِك وَأَبُو يُوسُف وَأَصْحَاب الرَّأْي : عَلَيْهَا مِثْل مَا عَلَى الزَّوْج , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا كَفَّارَة وَاحِدَة , وَسَوَاء طَاوَعَتْهُ أَوْ أَكْرَهَهَا ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ السَّائِل بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَة وَلَمْ يُفَصِّل . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة : إِنْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا كَفَّارَة , وَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة لَا غَيْر , وَهُوَ قَوْل سَحْنُون بْن سَعِيد الْمَالِكِيّ , وَقَالَ مَالِك : عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ , وَهُوَ تَحْصِيل مَذْهَبه عِنْد جَمَاعَة أَصْحَابه .

الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ أَوْ أَكَلَ , فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق : لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ شَيْء , لَا قَضَاء وَلَا كَفَّارَة , وَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ : عَلَيْهِ الْقَضَاء وَلَا كَفَّارَة , وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ عَطَاء . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاء أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِنْ جَامَعَ , وَقَالَ : مِثْل هَذَا لَا يُنْسَى , وَقَالَ قَوْم مِنْ أَهْل الظَّاهِر : سَوَاء وَطِئَ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة , وَهُوَ قَوْل اِبْن الْمَاجِشُونِ عَبْد الْمَلِك , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَد بْن حَنْبَل ; لِأَنَّ الْحَدِيث الْمُوجِب لِلْكَفَّارَةِ لَمْ يُفَرَّق فِيهِ بَيْن النَّاسِي وَالْعَامِد . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا شَيْء عَلَيْهِ .

الرَّابِعَة : قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي : إِذَا أَكَلَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ فَطَّرَهُ فَجَامَعَ عَامِدًا أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاء وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول , وَقِيلَ فِي الْمَذْهَب : عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة إِنْ كَانَ قَاصِدًا لِهَتْكِ حُرْمَة صَوْمه جُرْأَة وَتَهَاوُنًا . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ كَانَ يَجِب عَلَى أَصْل مَالِك أَلَّا يُكَفِّر ; لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فَهُوَ عِنْده مُفْطِر يَقْضِي يَوْمه ذَلِكَ , فَأَيّ حُرْمَة هَتَكَ وَهُوَ مُفْطِر , وَعِنْد غَيْر مَالِك : لَيْسَ بِمُفْطِرٍ كُلّ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ .

قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح , وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور : إِنَّ كُلّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَإِنَّ صَوْمه تَامّ , لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَكَلَ الصَّائِم نَاسِيًا أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَإِنَّمَا هُوَ رِزْق سَاقَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ - فِي رِوَايَة - وَلْيُتِمَّ صَوْمه فَإِنَّ اللَّه أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ , وَقَالَ : إِسْنَاد صَحِيح وَكُلّهمْ ثِقَات . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَثْرَم : سَمِعْت أَبَا عَبْد اللَّه يَسْأَل عَمَّنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَان , قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه مَالِك : وَزَعَمُوا أَنَّ مَالِكًا يَقُول عَلَيْهِ الْقَضَاء وَضَحِكَ , وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا شَيْء عَلَيْهِ , لِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا : ( يَتِمّ صَوْمه ) وَإِذَا قَالَ ( يَتِمّ صَوْمه ) فَأَتَمَّهُ فَهُوَ صَوْم تَامّ كَامِل .

قُلْت : وَإِذَا كَانَ مَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا لَا قَضَاء عَلَيْهِ وَصَوْمه صَوْم تَامّ فَعَلَيْهِ إِذَا جَامَعَ عَامِدًا الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة - وَاَللَّه أَعْلَم - كَمَنْ لَمْ يُفْطِر نَاسِيًا , وَقَدْ اِحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى إِيجَاب الْقَضَاء بِأَنْ قَالُوا : الْمَطْلُوب مِنْهُ صِيَام يَوْم تَامّ لَا يَقَع بِهِ خَرْم , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَام إِلَى اللَّيْل " وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى التَّمَام فَهُوَ بَاقٍ عَلَيْهِ , وَلَعَلَّ الْحَدِيث فِي صَوْم التَّطَوُّع لِخِفَّتِهِ , وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم : ( مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِم فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمه ) فَلَمْ يَذْكُر قَضَاء وَلَا تَعَرَّضَ لَهُ , بَلْ الَّذِي تَعَرَّضَ لَهُ سُقُوط الْمُؤَاخَذَة وَالْأَمْر بِمُضِيِّهِ عَلَى صَوْمه وَإِتْمَامه , هَذَا إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقَضَاء , فَأَمَّا صَوْم التَّطَوُّع فَلَا قَضَاء فِيهِ لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا قَضَاء عَلَيْهِ ) .

قُلْت : هَذَا مَا اِحْتَجَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ صَحِيح , لَوْلَا مَا صَحَّ عَنْ الشَّارِع مَا ذَكَرْنَاهُ , وَقَدْ جَاءَ بِالنَّصِّ الصَّرِيح الصَّحِيح وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْر رَمَضَان نَاسِيًا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : تَفَرَّدَ بِهِ اِبْن مَرْزُوق وَهُوَ ثِقَة عَنْ الْأَنْصَارِيّ , فَزَالَ الِاحْتِمَال وَارْتَفَعَ الْإِشْكَال , وَالْحَمْد لِلَّهِ ذِي الْجَلَال وَالْكَمَال .

الْخَامِسَة : لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانه مَحْظُورَات الصِّيَام وَهِيَ الْأَكْل وَالشُّرْب وَالْجِمَاع , وَلَمْ يَذْكُر الْمُبَاشَرَة الَّتِي هِيَ اِتِّصَال الْبَشَرَة بِالْبَشَرَةِ كَالْقُبْلَةِ وَالْجَسَّة وَغَيْرهَا , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّة صَوْم مَنْ قَبَّلَ وَبَاشَرَ ; لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَام إِنَّمَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيم مَا أَبَاحَهُ اللَّيْل وَهُوَ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة , وَلَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى غَيْرهَا بَلْ هُوَ مَوْقُوف عَلَى الدَّلِيل ; وَلِذَلِكَ شَاعَ الِاخْتِلَاف فِيهِ , وَاخْتَلَفَ عُلَمَاء السَّلَف فِيهِ , فَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَاشَرَة . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُكْرَه لِمَنْ لَا يَأْمَن عَلَى نَفْسه وَلَا يَمْلِكهَا , لِئَلَّا يَكُون سَبَبًا إِلَى مَا يُفْسِد الصَّوْم . رَوَى مَالِك عَنْ نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ يَنْهَى عَنْ الْقُبْلَة وَالْمُبَاشَرَة لِلصَّائِمِ , وَهَذَا - وَاَللَّه أَعْلَم - خَوْف مَا يَحْدُث عَنْهُمَا , فَإِنْ قَبَّلَ وَسَلِمَ فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ إِنْ بَاشَرَ . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّل وَيُبَاشِر وَهُوَ صَائِم , وَمِمَّنْ كَرِهَ الْقُبْلَة لِلصَّائِمِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ يَقْضِي يَوْمًا مَكَانه , وَالْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا أَعْلَم أَحَدًا رَخَّصَ فِيهَا لِمَنْ يَعْلَم أَنَّهُ يَتَوَلَّد عَلَيْهِ مِنْهَا مَا يُفْسِد صَوْمه , فَإِنْ قَبَّلَ فَأَمْنَى عَلَيْهِ الْقَضَاء وَلَا كَفَّارَة , قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن وَالشَّافِعِيّ , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَقَالَ : لَا لَيْسَ لِمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة حُجَّة . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَوْ قَبَّلَ فَأَمْذَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْء عِنْدهمْ , وَقَالَ أَحْمَد : مَنْ قَبَّلَ فَأَمْذَى أَوْ أَمْنَى فَعَلَيْهِ الْقَضَاء وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , إِلَّا عَلَى مَنْ جَامَعَ فَأَوْلَجَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا , وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك فِيمَنْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فَأَنْعَظَ وَلَمْ يَخْرُج مِنْهُ مَاء جُمْلَة عَلَيْهِ الْقَضَاء , وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْهُ لَا قَضَاء عَلَيْهِ حَتَّى يُمْذِي . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : وَاتَّفَقَ أَصْحَابنَا عَلَى أَلَّا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ مَنِيًّا فَهَلْ تَلْزَمهُ الْكَفَّارَة مَعَ الْقَضَاء , فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون قَبَّلَ قُبْلَة وَاحِدَة فَأَنْزَلَ , أَوْ قَبَّلَ فَالْتَذَّ فَعَاوَدَ فَأَنْزَلَ , فَإِنْ كَانَ قَبَّلَ قُبْلَة وَاحِدَة أَوْ بَاشَرَ أَوْ لَمَسَ مَرَّة فَقَالَ أَشْهَب وَسَحْنُون : لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ حَتَّى يُكَرِّر , وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُكَفِّر فِي ذَلِكَ كُلّه , إِلَّا فِي النَّظَر فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ حَتَّى يُكَرِّر . وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَة عَلَيْهِ إِذَا قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ أَوْ لَاعَبَ اِمْرَأَته أَوْ جَامَعَ دُون الْفَرْج فَأَمْنَى : الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء وَابْن الْمُبَارَك وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق , وَهُوَ قَوْل مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة , وَحُجَّة قَوْل أَشْهَب : أَنَّ اللَّمْس وَالْقُبْلَة وَالْمُبَاشَرَة لَيْسَتْ تُفْطِر فِي نَفْسهَا , وَإِنَّمَا يَبْقَى أَنْ تَئُول إِلَى الْأَمْر الَّذِي يَقَع بِهِ الْفِطْر , فَإِذَا فَعَلَ مَرَّة وَاحِدَة لَمْ يَقْصِد الْإِنْزَال وَإِفْسَاد الصَّوْم فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ كَالنَّظَرِ إِلَيْهَا , وَإِذَا كَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَصَدَ إِفْسَاد صَوْمه فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة كَمَا لَوْ تَكَرَّرَ النَّظَر . قَالَ اللَّخْمِيّ : وَاتَّفَقَ جَمِيعهمْ فِي الْإِنْزَال عَنْ النَّظَر أَلَّا كَفَّارَة عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُتَابِع , وَالْأَصْل أَنَّهُ لَا تَجِب الْكَفَّارَة إِلَّا عَلَى مَنْ قَصَدَ الْفِطْر وَانْتِهَاك حُرْمَة الصَّوْم , فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُنْظَر إِلَى عَادَة مَنْ نَزَلَ بِهِ ذَلِكَ , فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَأْنه أَنْ يُنْزِل عَنْ قُبْلَة أَوْ مُبَاشَرَة مَرَّة , أَوْ كَانَتْ عَادَته مُخْتَلِفَة : مَرَّة يُنْزِل , وَمَرَّة لَا يُنْزِل , رَأَيْت عَلَيْهِ الْكَفَّارَة ; لِأَنَّ فَاعِل ذَلِكَ قَاصِد لِانْتِهَاكِ صَوْمه أَوْ مُتَعَرِّض لَهُ , وَإِنْ كَانَتْ عَادَته السَّلَامَة فَقُدِّرَ أَنْ يَكُون مِنْهُ خِلَاف الْعَادَة لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَة , وَقَدْ يُحْتَمَل قَوْل مَالِك فِي وُجُوب الْكَفَّارَة ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجْرِي إِلَّا مِمَّنْ يَكُون ذَلِكَ طَبْعه وَاكْتَفَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ . وَحَمَلَ أَشْهَب الْأَمْر عَلَى الْغَالِب مِنْ النَّاس أَنَّهُمْ يَسْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ , وَقَوْلهمْ فِي النَّظَر دَلِيل عَلَى ذَلِكَ .

قُلْت : مَا حَكَاهُ مِنْ الِاتِّفَاق فِي النَّظَر وَجَعَلَهُ أَصْلًا لَيْسَ كَذَلِكَ , فَقَدْ حَكَى الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى " فَإِنْ نَظَرَ نَظْرَة وَاحِدَة يَقْصِد بِهَا اللَّذَّة فَقَدْ قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن : عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة . قَالَ الْبَاجِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدِي ; لِأَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ الِاسْتِمْتَاع كَانَ كَالْقُبْلَةِ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاع الِاسْتِمْتَاع , وَاَللَّه أَعْلَم " , وَقَالَ جَابِر بْن زَيْد وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي فِيمَنْ رَدَّدَ النَّظَر إِلَى الْمَرْأَة حَتَّى أَمْنَى : فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة , قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر . قَالَ الْبَاجِيّ : وَرَوَى فِي الْمُدَوَّنَة اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك أَنَّهُ إِنْ نَظَر إِلَى اِمْرَأَته مُتَجَرِّدَة فَالْتَذَّ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاء دُون الْكَفَّارَة .

السَّادِسَة : وَالْجُمْهُور عَلَى صِحَّة صَوْم مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْر وَهُوَ جُنُب , وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : " وَذَلِكَ جَائِز إِجْمَاعًا , وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ بَيْن الصَّحَابَة كَلَام ثُمَّ اِسْتَقَرَّ الْأَمْر عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَإِنَّ صَوْمه صَحِيح " .

قُلْت : أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ وُقُوع الْكَلَام فَصَحِيح مَشْهُور , وَذَلِكَ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة : مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْم لَهُ , أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأ وَغَيْره , وَفِي كِتَاب النَّسَائِيّ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا رُوجِعَ : وَاَللَّه مَا أَنَا قُلْته , مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّه قَالَهُ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رُجُوعه عَنْهَا , وَأَشْهَر قَوْلَيْهِ عِنْد أَهْل الْعِلْم أَنَّهُ لَا صَوْم لَهُ , حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن بْن صَالِح , وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَيْضًا قَوْل ثَالِث قَالَ : إِذَا عَلِمَ بِجَنَابَتِهِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى يُصْبِح فَهُوَ مُفْطِر , وَإِنْ لَمْ يَعْلَم حَتَّى أَصْبَحَ فَهُوَ صَائِم , رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاء وَطَاوُس وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالنَّخَعِيّ أَنَّ ذَلِكَ يَجْزِي فِي التَّطَوُّع وَيُقْضَى فِي الْفَرْض .

قُلْت : فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقْوَال لِلْعُلَمَاءِ فِيمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا , وَالصَّحِيح مِنْهَا مَذْهَب الْجُمْهُور , لِحَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَأُمّ سَلَمَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِح جُنُبًا مِنْ جِمَاع غَيْر اِحْتِلَام ثُمَّ يَصُوم . وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكهُ الْفَجْر فِي رَمَضَان وَهُوَ جُنُب مِنْ غَيْر حُلْم فَيَغْتَسِل وَيَصُوم , أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم , وَهُوَ الَّذِي يُفْهَم مِنْ ضَرُورَة قَوْله تَعَالَى : " فَالْآن بَاشِرُوهُنَّ " الْآيَة , فَإِنَّهُ لَمَّا مَدَّ إِبَاحَة الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفَجْر فَبِالضَّرُورَةِ يَعْلَم أَنَّ الْفَجْر يَطْلُع عَلَيْهِ وَهُوَ جُنُب , وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى الْغُسْل بَعْد الْفَجْر , وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ : وَلَوْ كَانَ الذَّكَر دَاخِل الْمَرْأَة فَنَزَعَهُ مَعَ طُلُوع الْفَجْر أَنَّهُ لَا قَضَاء عَلَيْهِ , وَقَالَ الْمُزَنِيّ : عَلَيْهِ الْقَضَاء لِأَنَّهُ مِنْ تَمَام الْجِمَاع , وَالْأَوَّل أَصَحّ لِمَا ذَكَرْنَا , وَهُوَ قَوْل عُلَمَائِنَا .

السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَائِض تَطْهُر قَبْل الْفَجْر وَتَتْرُك التَّطَهُّر حَتَّى تُصْبِح , فَجُمْهُورهمْ عَلَى وُجُوب الصَّوْم عَلَيْهَا وَإِجْزَائِهِ , سَوَاء تَرَكَتْهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا كَالْجُنُبِ , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَابْن الْقَاسِم , وَقَالَ عَبْد الْمَلِك : إِذَا طَهُرَتْ الْحَائِض قَبْل الْفَجْر فَأَخَّرَتْ غُسْلهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْر فَيَوْمهَا يَوْم فِطْر ; لِأَنَّهَا فِي بَعْضه غَيْر طَاهِرَة , وَلَيْسَتْ كَالْجُنُبِ لِأَنَّ الِاحْتِلَام لَا يَنْقُض الصَّوْم , وَالْحَيْضَة تَنْقُضهُ . هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَج فِي كِتَابه عَنْ عَبْد الْمَلِك , وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : تَقْضِي لِأَنَّهَا فَرَّطَتْ فِي الِاغْتِسَال , وَذَكَرَ اِبْن الْجَلَّاب عَنْ عَبْد الْمَلِك أَنَّهَا إِنْ طَهُرَتْ قَبْل الْفَجْر فِي وَقْت يُمْكِنهَا فِيهِ الْغُسْل فَفَرَّطَتْ وَلَمْ تَغْتَسِل حَتَّى أَصْبَحَتْ لَمْ يَضُرّهَا كَالْجُنُبِ , وَإِنْ كَانَ الْوَقْت ضَيِّقًا لَا تُدْرِك فِيهِ الْغُسْل لَمْ يَجُزْ صَوْمهَا وَيَوْمهَا يَوْم فِطْر , وَقَالَهُ مَالِك , وَهِيَ كَمَنْ طَلَعَ عَلَيْهَا الْفَجْر وَهِيَ حَائِض , وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة فِي هَذِهِ : تَصُوم وَتَقْضِي , مِثْل قَوْل الْأَوْزَاعِيّ , وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ شَذَّ فَأَوْجَبَ عَلَى مَنْ طَهُرَتْ قَبْل الْفَجْر فَفَرَّطَتْ وَتَوَانَتْ وَتَأَخَّرَتْ حَتَّى تُصْبِح - الْكَفَّارَة مَعَ الْقَضَاء .

الثَّامِنَة : وَإِذَا طَهُرَتْ الْمَرْأَة لَيْلًا فِي رَمَضَان فَلَمْ تَدْرِ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْل الْفَجْر أَوْ بَعْده , صَامَتْ وَقَضَتْ ذَلِكَ الْيَوْم اِحْتِيَاطًا , وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهَا .

التَّاسِعَة : رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم ) . مِنْ حَدِيث ثَوْبَان وَحَدِيث شَدَّاد بْن أَوْس وَحَدِيث رَافِع بْن خَدِيج , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَصَحَّحَ أَحْمَد حَدِيث شَدَّاد بْن أَوْس , وَصَحَّحَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ حَدِيث رَافِع بْن خَدِيج , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ : لَا قَضَاء عَلَيْهِ , إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَه لَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْل التَّغْرِير , وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَة لِلصَّائِمِ ؟ قَالَ لَا , إِلَّا مِنْ أَجْل الضَّعْف , وَقَالَ أَبُو عُمَر : حَدِيث شَدَّاد وَرَافِع وَثَوْبَان عِنْدنَا مَنْسُوخ بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اِحْتَجَمَ صَائِمًا مُحْرِمًا ) لِأَنَّ فِي حَدِيث شَدَّاد بْن أَوْس وَغَيْره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَام الْفَتْح عَلَى رَجُل يَحْتَجِم لِثَمَانِ عَشْرَة لَيْلَة خَلَتْ مِنْ رَمَضَان فَقَالَ : ( أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم ) وَاحْتَجَمَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام حَجَّة الْوَدَاع وَهُوَ مُحْرِم صَائِم , فَإِذَا كَانَتْ حَجَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام حَجَّة الْوَدَاع فَهِيَ نَاسِخَة لَا مَحَالَة ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدْرِكهُ بَعْد ذَلِكَ رَمَضَان ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَبِيع الْأَوَّل .

الْعَاشِرَة : " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَام " أَمْر يَقْتَضِي الْوُجُوب مِنْ غَيْر خِلَاف . و " إِلَى " غَايَة , فَإِذَا كَانَ مَا بَعْدهَا مِنْ جِنْس مَا قَبْلهَا فَهُوَ دَاخِل فِي حُكْمه , كَقَوْلِهِ اِشْتَرَيْت الْفَدَّان إِلَى حَاشِيَته , أَوْ اِشْتَرَيْت مِنْك مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَة - وَالْمَبِيع شَجَر , فَإِنَّ الشَّجَرَة دَاخِلَة فِي الْمَبِيع . بِخِلَافِ قَوْلك : اِشْتَرَيْت الْفَدَّان إِلَى الدَّار , فَإِنَّ الدَّار لَا تَدْخُل فِي الْمَحْدُود إِذْ لَيْسَ مِنْ جِنْسه , فَشَرَطَ تَعَالَى تَمَام الصَّوْم حَتَّى يَتَبَيَّن اللَّيْل , كَمَا جَوَّزَ الْأَكْل حَتَّى يَتَبَيَّن النَّهَار .

الْحَادِيَة عَشْرَة : مِنْ تَمَام الصَّوْم اِسْتِصْحَاب النِّيَّة دُون رَفْعهَا , فَإِنْ رَفَعَهَا فِي بَعْض النَّهَار وَنَوَى الْفِطْر إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْكُل وَلَمْ يَشْرَب فَجَعَلَهُ فِي الْمُدَوَّنَة مُفْطِرًا وَعَلَيْهِ الْقَضَاء , وَفِي كِتَاب اِبْن حَبِيب أَنَّهُ عَلَى صَوْمه , قَالَ : وَلَا يُخْرِجهُ مِنْ الصَّوْم إِلَّا الْإِفْطَار بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ بِالنِّيَّةِ , وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة , وَقَالَ سَحْنُون : إِنَّمَا يُكَفِّر مِنْ بَيَّتَ الْفِطْر , فَأَمَّا مَنْ نَوَاهُ فِي نَهَاره فَلَا يَضُرّهُ , وَإِنَّمَا يَقْضِي اِسْتِحْسَانًا . قُلْت : هَذَا حَسَن .

الثَّانِيَة عَشْرَة : قَوْله تَعَالَى : " إِلَى اللَّيْل " إِذَا تَبَيَّنَ اللَّيْل سُنَّ الْفِطْر شَرْعًا , أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُل . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَام أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَنْ رَجُل حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يُفْطِر عَلَى حَارّ وَلَا بَارِد , فَأَجَابَ أَنَّهُ بِغُرُوبِ الشَّمْس مُفْطِر لَا شَيْء عَلَيْهِ , وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا جَاءَ اللَّيْل مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَار مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِم ) , وَسُئِلَ عَنْهَا الْإِمَام أَبُو نَصْر بْن الصَّبَّاغ صَاحِب الشَّامِل فَقَالَ : لَا بُدّ أَنْ يُفْطِر عَلَى حَارّ أَوْ بَارِد , وَمَا أَجَابَ بِهِ الْإِمَام أَبُو إِسْحَاق أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة .

الثَّالِثَة عَشْرَة : فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْس قَدْ غَابَتْ لِغَيْمٍ أَوْ غَيْره ثُمَّ ظَهَرَتْ الشَّمْس فَعَلَيْهِ الْقَضَاء فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء , وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَتْ : أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم غَيْم ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْس , قِيلَ لِهِشَامٍ : فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ , قَالَ : فَلَا بُدّ مِنْ قَضَاء ؟ . قَالَ عُمَر فِي الْمُوَطَّأ فِي هَذَا : الْخَطْب يَسِير , وَقَدْ اِجْتَهَدْنَا فِي الْوَقْت يُرِيد الْقَضَاء , وَرُوِيَ عَنْ عُمَر أَنَّهُ قَالَ : لَا قَضَاء عَلَيْهِ , وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : لَا قَضَاء عَلَيْهِ كَالنَّاسِي , وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق وَأَهْل الظَّاهِر , وَقَوْل اللَّه تَعَالَى : " إِلَى اللَّيْل " يَرُدّ هَذَا الْقَوْل , وَاَللَّه أَعْلَم .

الرَّابِعَة عَشْرَة : فَإِنْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكّ فِي غُرُوبهَا كَفَّرَ مَعَ الْقَضَاء , قَالَهُ مَالِك إِلَّا أَنْ يَكُون الْأَغْلَب عَلَيْهِ غُرُوبهَا , وَمَنْ شَكَّ عِنْده فِي طُلُوع الْفَجْر لَزِمَهُ الْكَفّ عَنْ الْأَكْل , فَإِنْ أَكَلَ مَعَ شَكّه فَعَلَيْهِ الْقَضَاء كَالنَّاسِي , لَمْ يَخْتَلِف فِي ذَلِكَ قَوْله , وَمِنْ أَهْل الْعِلْم بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرهَا مَنْ لَا يَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى يَتَبَيَّن لَهُ طُلُوع الْفَجْر , وَبِهِ قَالَ اِبْن الْمُنْذِر , وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَقَدْ ظَنَّ قَوْم أَنَّهُ إِذَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْر إِلَى أَوَّل الْفَجْر
وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 188
قِيلَ : إِنَّهُ نَزَلَ فِي عَبْدَان بْن أَشْوَع الْحَضْرَمِيّ , اِدَّعَى مَالًا عَلَى اِمْرِئِ الْقَيْس الْكِنْدِيّ وَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْكَرَ اِمْرُؤُ الْقَيْس وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِف فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , فَكَفَّ عَنْ الْيَمِين وَحَكَّمَ عَبْدَان فِي أَرْضه وَلَمْ يُخَاصِمهُ .

الْخِطَاب بِهَذِهِ الْآيَة يَتَضَمَّن جَمِيع أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْمَعْنَى : لَا يَأْكُل بَعْضكُمْ مَال بَعْض بِغَيْرِ حَقّ , فَيَدْخُل فِي هَذَا : الْقِمَار وَالْخِدَاع وَالْغُصُوب وَجَحْد الْحُقُوق , وَمَا لَا تَطِيب بِهِ نَفْس مَالِكه , أَوْ حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَة وَإِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْس مَالِكه , كَمَهْرِ الْبَغِيّ وَحُلْوَان الْكَاهِن وَأَثْمَان الْخُمُور وَالْخَنَازِير وَغَيْر ذَلِكَ , وَلَا يَدْخُل فِيهِ الْغَبْن فِي الْبَيْع مَعَ مَعْرِفَة الْبَائِع بِحَقِيقَةِ مَا بَاعَ لِأَنَّ الْغَبْن كَأَنَّهُ هِبَة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " النِّسَاء " , وَأُضِيفَتْ الْأَمْوَال إِلَى ضَمِير الْمَنْهِيّ لَمَّا كَانَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَنْهِيًّا وَمَنْهِيًّا عَنْهُ , كَمَا قَالَ : " تَقْتُلُونَ أَنْفُسكُمْ " [ الْبَقَرَة : 85 ] . وَقَالَ قَوْم : الْمُرَاد بِالْآيَةِ " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ " [ النِّسَاء : 29 ] أَيْ فِي الْمَلَاهِي وَالْقِيَان وَالشُّرْب وَالْبَطَالَة , فَيَجِيء عَلَى هَذَا إِضَافَة الْمَال إِلَى ضَمِير الْمَالِكِينَ .

مَنْ أَخَذَ مَال غَيْره لَا عَلَى وَجْه إِذْن الشَّرْع فَقَدْ أَكَلَهُ بِالْبَاطِلِ , وَمِنْ الْأَكْل بِالْبَاطِلِ أَنْ يَقْضِي الْقَاضِي لَك وَأَنْتَ تَعْلَم أَنَّك مُبْطِل , فَالْحَرَام لَا يَصِير حَلَالًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي بِالظَّاهِرِ , وَهَذَا إِجْمَاع فِي الْأَمْوَال , وَإِنْ كَانَ عِنْد أَبِي حَنِيفَة قَضَاؤُهُ يَنْفُذ فِي الْفُرُوج بَاطِنًا , وَإِذَا كَانَ قَضَاء الْقَاضِي لَا يُغَيِّر حُكْم الْبَاطِن فِي الْأَمْوَال فَهُوَ فِي الْفُرُوج أَوْلَى . وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْو مِمَّا أَسْمَع فَمَنْ قَطَعْت لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذهُ فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ قِطْعَة مِنْ نَار - فِي رِوَايَة - فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرهَا ) , وَعَلَى الْقَوْل بِهَذَا الْحَدِيث جُمْهُور الْعُلَمَاء وَأَئِمَّة الْفُقَهَاء , وَهُوَ نَصّ فِي أَنَّ حُكْم الْحَاكِم عَلَى الظَّاهِر لَا يُغَيِّر حُكْم الْبَاطِن , وَسَوَاء كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال وَالدِّمَاء وَالْفُرُوج , إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة فِي الْفُرُوج , وَزَعَمَ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَا زُور عَلَى رَجُل بِطَلَاقِ زَوْجَته وَحَكَمَ الْحَاكِم بِشَهَادَتِهِمَا لِعَدَالَتِهِمَا عِنْده فَإِنَّ فَرْجهَا يَحِلّ لِمُتَزَوِّجِهَا - مِمَّنْ يَعْلَم أَنَّ الْقَضِيَّة بَاطِل - بَعْد الْعِدَّة , وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا أَحَد الشَّاهِدَيْنِ جَازَ عِنْده ; لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ فِي الظَّاهِر كَانَ الشَّاهِد وَغَيْره سَوَاء ; لِأَنَّ قَضَاء الْقَاضِي قَطَعَ عِصْمَتهَا , وَأَحْدَثَ فِي ذَلِكَ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ , وَاحْتَجَّ بِحُكْمِ اللِّعَان وَقَالَ : مَعْلُوم أَنَّ الزَّوْجَة إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى فِرَاق زَوْجهَا بِاللِّعَانِ الْكَاذِب , الَّذِي لَوْ عَلِمَ الْحَاكِم كَذِبهَا فِيهِ لَحَدَّهَا وَمَا فَرَّقَ بَيْنهمَا , فَلَمْ يَدْخُل هَذَا فِي عُمُوم قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذهُ . .. ) الْحَدِيث .

وَهَذِهِ الْآيَة مُتَمَسَّك كُلّ مُؤَالِف وَمُخَالِف فِي كُلّ حُكْم يَدْعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوز , فَيُسْتَدَلّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ " [ النِّسَاء : 29 ] , فَجَوَابه أَنْ يُقَال لَهُ : لَا نُسَلِّم أَنَّهُ بَاطِل حَتَّى تُبَيِّنهُ بِالدَّلِيلِ , وَحِينَئِذٍ يَدْخُل فِي هَذَا الْعُمُوم , فَهِيَ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبَاطِل فِي الْمُعَامَلَات لَا يَجُوز , وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِين الْبَاطِل .

اِتَّفَقَ أَهْل السُّنَّة عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اِسْم مَال قَلَّ أَوْ كَثُرَ أَنَّهُ يُفَسَّق بِذَلِكَ , وَأَنَّهُ مُحَرَّم عَلَيْهِ أَخْذه . خِلَافًا لِبِشْرِ بْن الْمُعْتَمِر وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَة حَيْثُ قَالُوا : إِنَّ الْمُكَلَّف لَا يُفَسَّق إِلَّا بِأَخْذِ مِائَتَيْ دِرْهَم وَلَا يُفَسَّق بِدُونِ ذَلِكَ , وَخِلَافًا لِابْنِ الْجُبَّائِيّ حَيْثُ قَالَ : إِنَّهُ يُفَسَّق بِأَخْذِ عَشْرَة دَرَاهِم وَلَا يُفَسَّق بِدُونِهَا , وَخِلَافًا لِابْنِ الْهُذَيْل حَيْثُ قَالَ : يُفَسَّق بِأَخْذِ خَمْسَة دَرَاهِم , وَخِلَافًا لِبَعْضِ قَدَرِيَّة الْبَصْرَة حَيْثُ قَالَ : يُفَسَّق بِأَخْذِ دِرْهَم فَمَا فَوْق , وَلَا يُفَسَّق بِمَا دُون ذَلِكَ , وَهَذَا كُلّه مَرْدُود بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّة وَبِاتِّفَاقِ عُلَمَاء الْأُمَّة , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام ) الْحَدِيث , مُتَّفَق عَلَى صِحَّته .

الْبَاطِل فِي اللُّغَة : الذَّاهِب الزَّائِل , يُقَال : بَطَلَ يَبْطُل بُطُولًا وَبُطْلَانًا , وَجَمْع الْبَاطِل بَوَاطِل , وَالْأَبَاطِيل جَمْع الْبُطُولَة . وَتَبَطَّلَ أَيْ اِتَّبَعَ اللَّهْو , وَأَبْطَلَ فُلَان إِذَا جَاءَ بِالْبَاطِلِ , وَقَوْله تَعَالَى : " لَا يَأْتِيه الْبَاطِل " [ فُصِّلَتْ : 42 ] قَالَ قَتَادَة : هُوَ إِبْلِيس , لَا يَزِيد فِي الْقُرْآن وَلَا يَنْقُص , وَقَوْله : " وَيَمْحُ اللَّه الْبَاطِل " [ الشُّورَى : 24 ] يَعْنِي الشِّرْك , وَالْبَطَلَة : السَّحَرَة .

قِيلَ : يَعْنِي الْوَدِيعَة وَمَا لَا تَقُوم فِيهِ بَيِّنَة , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن . وَقِيلَ : هُوَ مَال الْيَتِيم الَّذِي هُوَ فِي أَيْدِي الْأَوْصِيَاء , يَرْفَعهُ إِلَى الْحُكَّام إِذَا طُولِبَ بِهِ لِيَقْتَطِع بَعْضه وَتَقُوم لَهُ فِي الظَّاهِر حُجَّة , وَقَالَ الزَّجَّاج : تَعْمَلُونَ مَا يُوجِبهُ ظَاهِر الْأَحْكَام وَتَتْرُكُونَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ الْحَقّ . يُقَال : أَدْلَى الرَّجُل بِحُجَّتِهِ أَوْ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَرْجُو النَّجَاح بِهِ , تَشْبِيهًا بِاَلَّذِي يُرْسِل الدَّلْو فِي الْبِئْر , يُقَال : أَدْلَى دَلْوه : أَرْسَلَهَا , وَدَلَّاهَا : أَخْرَجَهَا , وَجَمْع الدَّلْو وَالدِّلَاء : أَدْل وَدِلَاء وَدُلِيّ , وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : لَا تَجْمَعُوا بَيْن أَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ وَبَيْن الْإِدْلَاء إِلَى الْحُكَّام بِالْحُجَجِ الْبَاطِلَة , وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقّ " [ الْبَقَرَة : 42 ] . وَهُوَ مِنْ قَبِيل قَوْلك : لَا تَأْكُل السَّمَك وَتَشْرَب اللَّبَن , وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُصَانِعُوا بِأَمْوَالِكُمْ الْحُكَّام وَتَرْشُوهُمْ لِيَقْضُوا لَكُمْ عَلَى أَكْثَر مِنْهَا , فَالْبَاء إِلْزَاق مُجَرَّد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الْقَوْل يَتَرَجَّح ; لِأَنَّ الْحُكَّام مَظِنَّة الرِّشَاء إِلَّا مَنْ عُصِمَ وَهُوَ الْأَقَلّ , وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ مُتَنَاسِبَانِ : تُدْلُوا مِنْ إِرْسَال الدَّلْو , وَالرِّشْوَة مِنْ الرِّشَاء , كَأَنَّهُ يَمُدّ بِهَا لِيَقْضِيَ الْحَاجَة .

قُلْت : وَيُقَوِّي هَذَا قَوْله : " وَتُدْلُوا بِهَا " تُدْلُوا فِي مَوْضِع جَزْم عَطْفًا عَلَى تَأْكُلُوا كَمَا ذَكَرْنَا , وَفِي مُصْحَف أَبِي " وَلَا تُدْلُوا " بِتَكْرَارِ حَرْف النَّهْي , وَهَذِهِ الْقِرَاءَة تُؤَيِّد جَزْم " تُدْلُوا " فِي قِرَاءَة الْجَمَاعَة , وَقِيلَ : " تُدْلُوا " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الظَّرْف , وَاَلَّذِي يُنْصَب فِي مِثْل هَذَا عِنْد سِيبَوَيْهِ " أَنْ " مُضْمَرَة , وَالْهَاء فِي قَوْله " بِهَا " تَرْجِع إِلَى الْأَمْوَال , وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل إِلَى الْحُجَّة وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْر , فَقَوِيَ الْقَوْل الثَّانِي لِذِكْرِ الْأَمْوَال , وَاَللَّه أَعْلَم . فِي الصِّحَاح . " وَالرَّشْوَة مَعْرُوفَة , وَالرُّشْوَة بِالضَّمِّ مِثْله , وَالْجَمْع رُشًى وَرِشًى , وَقَدْ رَشَاهُ يَرْشُوهُ , وَارْتَشَى : أَخَذَ الرِّشْوَة , وَاسْتَرْشَى فِي حُكْمه : طَلَبَ الرِّشْوَة عَلَيْهِ " .

قُلْت : فَالْحُكَّام الْيَوْم عَيْن الرِّشَا لَا مَظِنَّته , وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ .

نُصِبَ بِلَامِ كَيْ . " فَرِيقًا " أَيْ قِطْعَة وَجُزْءًا , فَعَبَّرَ عَنْ الْفَرِيق بِالْقِطْعَةِ وَالْبَعْض , وَالْفَرِيق : الْقِطْعَة مِنْ الْغَنَم تَشِذّ عَنْ مُعْظَمهَا , وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , التَّقْدِير لِتَأْكُلُوا أَمْوَال فَرِيق مِنْ النَّاس .


مَعْنَاهُ بِالظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي , وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِثْمًا لَمَّا كَانَ الْإِثْم يَتَعَلَّق بِفَاعِلِهِ .


أَيْ بُطْلَان ذَلِكَ وَإِثْمه , وَهَذِهِ مُبَالَغَة فِي الْجُرْأَة وَالْمَعْصِيَة .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة البقرة الآية رقم 189
هَذَا مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ الْيَهُود وَاعْتَرَضُوا بِهِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ مُعَاذ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ الْيَهُود تَغْشَانَا وَيُكْثِرُونَ مَسْأَلَتنَا عَنْ الْأَهِلَّة فَمَا بَال الْهِلَال يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَزِيد حَتَّى يَسْتَوِي وَيَسْتَدِير , ثُمَّ يُنْتَقَص حَتَّى يَعُود كَمَا كَانَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة .

وَقِيلَ : إِنَّ سَبَب نُزُولهَا سُؤَال قَوْم مِنْ الْمُسْلِمِينَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْهِلَال وَمَا سَبَب مِحَاقه وَكَمَاله وَمُخَالَفَته لِحَالِ الشَّمْس , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَغَيْرهمْ .

الْأَهِلَّة جَمْع الْهِلَال , وَجُمِعَ وَهُوَ وَاحِد فِي الْحَقِيقَة مِنْ حَيْثُ كَوْنه هِلَالًا وَاحِدًا فِي شَهْر , غَيْر كَوْنه هِلَالًا فِي آخَر , فَإِنَّمَا جُمِعَ أَحْوَاله مِنْ الْأَهِلَّة . وَيُرِيد بِالْأَهِلَّةِ شُهُورهَا , وَقَدْ يُعَبَّر بِالْهِلَالِ عَنْ الشَّهْر لِحُلُولٍ فِيهِ , كَمَا قَالَ : أَخَوَانِ مِنْ نَجْد عَلَى ثِقَة وَالشَّهْر مِثْل قُلَامَة الظُّفْر وَقِيلَ : سُمِّيَ شَهْرًا لِأَنَّ الْأَيْدِي تُشْهِر بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَوْضِع الرُّؤْيَة وَيَدُلُّونَ عَلَيْهِ , وَيُطْلَق لَفْظ الْهِلَال لِلَّيْلَتَيْنِ مِنْ آخِر الشَّهْر , وَلَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّله , وَقِيلَ : لِثَلَاثٍ مِنْ أَوَّله , وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : هُوَ هِلَال حَتَّى يُحَجِّر وَيَسْتَدِير لَهُ كَالْخَيْطِ الرَّقِيق , وَقِيلَ : بَلْ هُوَ هِلَال حَتَّى يَبْهَر بِضَوْئِهِ السَّمَاء , وَذَلِكَ لَيْلَة سَبْع . قَالَ أَبُو الْعَبَّاس : وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ هِلَال لِأَنَّ النَّاس يَرْفَعُونَ أَصْوَاتهمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ . وَمِنْهُ اِسْتَهَلَّ الصَّبِيّ إِذَا ظَهَرَتْ حَيَاته بِصُرَاخِهِ , وَاسْتَهَلَّ وَجْهه فَرَحًا وَتَهَلَّلَ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ السُّرُور . قَالَ أَبُو كَبِير : وَإِذَا نَظَرْت إِلَى أَسِرَّة وَجْهه بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِض الْمُتَهَلِّل وَيُقَال : أَهْلَلْنَا الْهِلَال إِذَا دَخَلْنَا فِيهِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : " وَأَهَلَّ الْهِلَال وَاسْتَهَلَّ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَيُقَال أَيْضًا : اِسْتَهَلَّ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ , وَلَا يُقَال : أَهَلَّ وَيُقَال : أَهْلَلْنَا عَنْ لَيْلَة كَذَا , وَلَا يُقَال : أَهْلَلْنَاهُ فَهَلَّ , كَمَا يُقَال : أَدْخَلْنَاهُ فَدَخَلَ , وَهُوَ قِيَاسه " : قَالَ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحِيم الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيره : وَيُقَال : أَهَلَّ الْهِلَال وَاسْتَهَلَّ وَأَهْلَلْنَا الْهِلَال وَاسْتَهْلَلْنَا .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَن غَرِيمه أَوْ لَيَفْعَلَن كَذَا فِي الْهِلَال أَوْ رَأْس الْهِلَال أَوْ عِنْد الْهِلَال , فَفَعَلَ ذَلِكَ بَعْد رُؤْيَة الْهِلَال بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَحْنَث . وَجَمِيع الشُّهُور تَصْلُح لِجَمِيعِ الْعِبَادَات وَالْمُعَامَلَات عَلَى مَا يَأْتِي .

تَبْيِين لِوَجْهِ الْحِكْمَة فِي زِيَادَة الْقَمَر وَنُقْصَانه , وَهُوَ زَوَال الْإِشْكَال فِي الْآجَال وَالْمُعَامَلَات وَالْإِيمَان وَالْحَجّ وَالْعَدَد وَالصَّوْم وَالْفِطْر وَمُدَّة الْحَمْل وَالْإِجَارَات وَالْأَكْرِيَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ مَصَالِح الْعِبَاد , وَنَظِيره قَوْله الْحَقّ : " وَجَعَلْنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَة اللَّيْل وَجَعَلْنَا آيَة النَّهَار مُبْصِرَة لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَد السِّنِينَ وَالْحِسَاب " [ الْإِسْرَاء : 12 ] عَلَى مَا يَأْتِي , وَقَوْله : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِل لِتَعْلَمُوا عَدَد السِّنِينَ وَالْحِسَاب " [ يُونُس : 5 ] . وَإِحْصَاء الْأَهِلَّة أَيْسَر مِنْ إِحْصَاء الْأَيَّام .

وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَرُدّ عَلَى أَهْل الظَّاهِر وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ : إِنَّ الْمُسَاقَاة تَجُوز إِلَى الْأَجَل الْمَجْهُول سِنِينَ غَيْر مَعْلُومَة , وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ الْيَهُود عَلَى شَطْر الزَّرْع وَالنَّخْل مَا بَدَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْر تَوْقِيت , وَهَذَا لَا دَلِيل فِيهِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِلْيَهُودِ : ( أُقِرّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ اللَّه ) . وَهَذَا أَدَلّ دَلِيل وَأَوْضَح سَبِيل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوص لَهُ , فَكَانَ يَنْتَظِر فِي ذَلِكَ الْقَضَاء مِنْ رَبّه , وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْره , وَقَدْ أَحْكَمَتْ الشَّرِيعَة مَعَانِي الْإِجَارَات وَسَائِر الْمُعَامَلَات , فَلَا يَجُوز شَيْء مِنْهَا إِلَّا عَلَى مَا أَحْكَمَهُ الْكِتَاب وَالسُّنَّة , وَقَالَ بِهِ عُلَمَاء الْأُمَّة .

" مَوَاقِيت " الْمَوَاقِيت : جَمْع الْمِيقَات وَهُوَ الْوَقْت , وَقِيلَ : الْمِيقَات مُنْتَهَى الْوَقْت . و " مَوَاقِيت " لَا تَنْصَرِف ; لِأَنَّهُ جَمْع لَا نَظِير لَهُ فِي الْآحَاد , فَهُوَ جَمْع وَنِهَايَة جَمْع , إِذْ لَيْسَ يُجْمَع فَصَارَ كَأَنَّ الْجَمْع تَكَرَّرَ فِيهَا , وَصُرِفَتْ " قَوَارِير " فِي قَوْله : " قَوَارِيرًا " [ الْإِنْسَان : 16 ] لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي رَأْس آيَة فَنُوِّنَتْ كَمَا تُنَوَّن الْقَوَافِي , فَلَيْسَ هُوَ تَنْوِين الصَّرْف الَّذِي يَدُلّ عَلَى تَمَكُّن الِاسْم .

" وَالْحَجّ " بِفَتْحِ الْحَاء قِرَاءَة الْجُمْهُور , وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق بِالْكَسْرِ فِي جَمِيع الْقُرْآن , وَفِي قَوْله : " حَجّ الْبَيْت " [ آل عِمْرَان : 97 ] فِي " آل عِمْرَان " . سِيبَوَيْهِ : الْحَجّ كَالرَّدِّ وَالشَّدّ , وَالْحَجّ كَالذِّكْرِ , فَهُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى وَقِيلَ : الْفَتْح مَصْدَر , وَالْكَسْر الِاسْم .

أَفْرَدَ سُبْحَانه الْحَجّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاج فِيهِ إِلَى مَعْرِفَة الْوَقْت , وَأَنَّهُ لَا يَجُوز النَّسِيء فِيهِ عَنْ وَقْته , بِخِلَافِ مَا رَأَتْهُ الْعَرَب , فَإِنَّهَا كَانَتْ تَحُجّ بِالْعَدَدِ وَتُبْدِل الشُّهُور , فَأَبْطَلَ اللَّه قَوْلهمْ وَفِعْلهمْ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

اِسْتَدَلَّ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا فِي أَنَّ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ يَصِحّ فِي غَيْر أَشْهُر الْحَجّ بِهَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْأَهِلَّة كُلّهَا ظَرْفًا لِذَلِكَ , فَصَحَّ أَنْ يُحْرِم فِي جَمِيعهَا بِالْحَجِّ , وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيّ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " الْحَجّ أَشْهُر مَعْلُومَات " [ الْبَقَرَة : 197 ] عَلَى مَا يَأْتِي , وَأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة أَنَّ بَعْضهَا مَوَاقِيت لِلنَّاسِ , وَبَعْضهَا مَوَاقِيت لِلْحَجِّ , وَهَذَا كَمَا تَقُول : الْجَارِيَة لِزَيْدٍ وَعَمْرو , وَذَلِكَ يَقْضِي أَنْ يَكُون بَعْضهَا لِزَيْدٍ وَبَعْضهَا لِعَمْرٍو , وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال : جَمِيعهَا لِزَيْدٍ وَجَمِيعهَا لِعَمْرٍو , وَالْجَوَاب أَنْ يُقَال : إِنَّ ظَاهِر قَوْله " هِيَ مَوَاقِيت لِلنَّاسِ وَالْحَجّ " يَقْتَضِي كَوْن جَمِيعهَا مَوَاقِيت لِلنَّاسِ وَجَمِيعهَا مَوَاقِيت لِلْحَجِّ , وَلَوْ أَرَادَ التَّبْعِيض لَقَالَ : بَعْضهَا مَوَاقِيت لِلنَّاسِ وَبَعْضهَا مَوَاقِيت لِلْحَجِّ , وَهَذَا كَمَا تَقُول : إِنَّ شَهْر رَمَضَان مِيقَات لِصَوْمِ زَيْد وَعَمْرو , وَلَا خِلَاف أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ أَنَّ جَمِيعه مِيقَات لِصَوْمِ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا , وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْجَارِيَة فَصَحِيح ; لِأَنَّ كَوْنهَا جَمْعَاء لِزَيْدٍ مَعَ كَوْنهَا جَمْعَاء لِعَمْرٍو مُسْتَحِيل , وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتنَا , فَإِنَّ الزَّمَان يَصِحّ أَنْ يَكُون مِيقَاتًا لِزَيْدٍ وَمِيقَاتًا لِعَمْرٍو , فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ .

لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ مَنْ بَاعَ مَعْلُومًا مِنْ السِّلَع بِثَمَنٍ مَعْلُوم إِلَى أَجَل مَعْلُوم مِنْ شُهُور الْعَرَب أَوْ إِلَى أَيَّام مَعْرُوفَة الْعَدَد أَنَّ الْبَيْع جَائِز , وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي السَّلَم إِلَى الْأَجَل الْمَعْلُوم , وَاخْتَلَفُوا فِي مَنْ بَاعَ إِلَى الْحَصَاد أَوْ إِلَى الدِّيَاس أَوْ إِلَى الْعَطَاء وَشَبَه ذَلِكَ , فَقَالَ مَالِك : ذَلِكَ جَائِز لِأَنَّهُ مَعْرُوف , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر , وَقَالَ أَحْمَد : أَرْجُو أَلَّا يَكُون بِهِ بَأْس , وَكَذَلِكَ إِلَى قُدُوم الْغُزَاة , وَعَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَبْتَاع إِلَى الْعَطَاء , وَقَالَتْ طَائِفَة . ذَلِكَ غَيْر جَائِز ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى وَقَّتَ الْمَوَاقِيت وَجَعَلَهَا عَلَمًا لِآجَالِهِمْ فِي بِيَاعَاتِهِمْ وَمَصَالِحهمْ . كَذَلِكَ قَالَ اِبْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَالنُّعْمَان . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل اِبْن عَبَّاس صَحِيح .

إِذَا رُئِيَ الْهِلَال كَبِيرًا فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُعَوَّل عَلَى كِبَره وَلَا عَلَى صِغَره وَإِنَّمَا هُوَ اِبْن لَيْلَته . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيّ قَالَ : خَرَجْنَا لِلْعُمْرَةِ فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَة قَالَ : تَرَاءَيْنَا الْهِلَال , فَقَالَ بَعْض الْقَوْم : هُوَ اِبْن ثَلَاث , وَقَالَ بَعْض الْقَوْم : هُوَ اِبْن لَيْلَتَيْنِ . قَالَ : فَلَقِيَنَا اِبْن عَبَّاس فَقُلْنَا : إِنَّا رَأَيْنَا الْهِلَال فَقَالَ بَعْض الْقَوْم هُوَ اِبْن ثَلَاث , وَقَالَ بَعْض الْقَوْم هُوَ اِبْن لَيْلَتَيْنِ , فَقَالَ : أَيّ لَيْلَة رَأَيْتُمُوهُ ؟ قَالَ فَقُلْنَا : لَيْلَة كَذَا وَكَذَا , فَقَالَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه مَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ ) فَهُوَ لِلَّيْلَةِ رَأَيْتُمُوهُ .

تَّصَلَ هَذَا بِذِكْرِ مَوَاقِيت الْحَجّ لِاتِّفَاقِ وُقُوع الْقَضِيَّتَيْنِ فِي وَقْت السُّؤَال عَنْ الْأَهِلَّة وَعَنْ دُخُول الْبُيُوت مِنْ ظُهُورهَا , فَنَزَلَتْ الْآيَة فِيهِمَا جَمِيعًا , وَكَانَ الْأَنْصَار إِذَا حَجُّوا وَعَادُوا لَا يَدْخُلُونَ مِنْ أَبْوَاب بُيُوتهمْ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَة يَلْتَزِمُونَ شَرْعًا أَلَّا يَحُول بَيْنهمْ وَبَيْن السَّمَاء حَائِل , فَإِذَا خَرَجَ الرَّجُل مِنْهُمْ بَعْد ذَلِكَ , أَيْ مِنْ بَعْد إِحْرَامه مِنْ بَيْته , فَرَجَعَ لِحَاجَةٍ لَا يَدْخُل مِنْ بَاب الْحُجْرَة مِنْ أَجْل سَقْف الْبَيْت أَنْ يَحُول بَيْنه وَبَيْن السَّمَاء , فَكَانَ يَتَسَنَّم ظَهْر بَيْته عَلَى الْجُدْرَان ثُمَّ يَقُوم فِي حُجْرَته فَيَأْمُر بِحَاجَتِهِ فَتَخْرُج إِلَيْهِ مِنْ بَيْته . فَكَانُوا يَرَوْنَ هَذَا مِنْ النُّسُك وَالْبِرّ , كَمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَشْيَاء نُسُكًا , فَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِيهَا , وَبَيَّنَ الرَّبّ تَعَالَى أَنَّ الْبِرّ فِي اِمْتِثَال أَمْره . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح : كَانَ النَّاس فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي أَوَّل الْإِسْلَام إِذَا أَحْرَمَ رَجُل مِنْهُمْ بِالْحَجِّ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْمَدَر - يَعْنِي مِنْ أَهْل الْبُيُوت - نَقَّبَ فِي ظَهْر بَيْته فَمِنْهُ يَدْخُل وَمِنْهُ يَخْرُج , أَوْ يَضَع سُلَّمًا فَيَصْعَد مِنْهُ وَيَنْحَدِر عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْوَبَر - يَعْنِي أَهْل الْخِيَام - يَدْخُل مِنْ خَلْف الْخِيَام الْخَيْمَة , إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ الْحُمْس , وَرَوَى الزُّهْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ زَمَن الْحُدَيْبِيَة بِالْعُمْرَةِ فَدَخَلَ حُجْرَته وَدَخَلَ خَلْفه رَجُل أَنْصَارِيّ مِنْ بَنِي سَلَمَة , فَدَخَلَ وَخَرَقَ عَادَة قَوْمه , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِمَ دَخَلْت وَأَنْتَ قَدْ أَحْرَمْت ) , فَقَالَ : دَخَلْت أَنْتَ فَدَخَلْت بِدُخُولِك , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي أَحْمَسَ ) أَيْ مِنْ قَوْم لَا يَدِينُونَ بِذَلِكَ , فَقَالَ لَهُ الرَّجُل : وَأَنَا دِينِي دِينك , فَنَزَلَتْ الْآيَة , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَقَتَادَة , وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الرَّجُل هُوَ قُطْبَة بْن عَامِر الْأَنْصَارِيّ , وَالْحُمْس : قُرَيْش وَكِنَانَة وَخُزَاعَة وَثَقِيف وَجَشْم وَبَنُو عَامِر بْن صَعْصَعَة وَبَنُو نَصْر بْن مُعَاوِيَة , وَسُمُّوا حُمْسًا لِتَشْدِيدِهِمْ فِي دِينهمْ , وَالْحَمَاسَة الشِّدَّة . قَالَ الْعَجَّاج : وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَاف حُمْس أَيْ شِدَاد , ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلهَا , فَقِيلَ مَا ذَكَرْنَا , وَهُوَ الصَّحِيح , وَقِيلَ : إِنَّهُ النَّسِيء وَتَأْخِير الْحَجّ بِهِ , حَتَّى كَانُوا يَجْعَلُونَ الشَّهْر الْحَلَال حَرَامًا بِتَأْخِيرِ الْحَجّ إِلَيْهِ , وَالشَّهْر الْحَرَام حَلَالًا بِتَأْخِيرِ الْحَجّ عَنْهُ , فَيَكُون ذِكْر الْبُيُوت عَلَى هَذَا مَثَلًا لِمُخَالَفَةِ الْوَاجِب فِي الْحَجّ وَشُهُوره . وَسَيَأْتِي بَيَان النَّسِيء فِي سُورَة [ بَرَاءَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْآيَة ضَرْب مَثَل , الْمَعْنَى لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تَسْأَلُوا الْجُهَّال وَلَكِنْ اِتَّقُوا اللَّه وَاسْأَلُوا الْعُلَمَاء , فَهَذَا كَمَا تَقُول : أَتَيْت هَذَا الْأَمْر مِنْ بَابه , وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ وَمَكِّيّ عَنْ اِبْن الْأَنْبَارِيّ , وَالْمَاوَرْدِيّ عَنْ اِبْن زَيْد أَنَّ الْآيَة مَثَل فِي جِمَاع النِّسَاء , أَمْر بِإِتْيَانِهِنَّ فِي الْقُبُل لَا مِنْ الدُّبُر , وَسُمِّيَ النِّسَاء بُيُوتًا لِلْإِيوَاءِ إِلَيْهِنَّ كَالْإِيوَاءِ إِلَى الْبُيُوت . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا بَعِيد مُغَيِّر نَمَط الْكَلَام , وَقَالَ الْحَسَن : كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ , فَمَنْ سَافَرَ وَلَمْ تَحْصُل حَاجَته كَانَ يَأْتِي بَيْته مِنْ وَرَاء ظَهْره تَطَيُّرًا مِنْ الْخَيْبَة , فَقِيلَ لَهُمْ : لَيْسَ فِي التَّطَيُّر بِرّ , بَلْ الْبِرّ أَنْ تَتَّقُوا اللَّه وَتَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ .

قُلْت : الْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال , لِمَا رَوَاهُ الْبَرَاء قَالَ : كَانَ الْأَنْصَار إِذَا حَجُّوا فَرَجَعُوا لَمْ يَدْخُلُوا الْبُيُوت مِنْ أَبْوَابهَا , قَالَ : فَجَاءَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَدَخَلَ مِنْ بَابه , فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوت مِنْ ظُهُورهَا " وَهَذَا نَصّ فِي الْبُيُوت حَقِيقَة . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم , وَأَمَّا تِلْكَ الْأَقْوَال فَتُؤْخَذ مِنْ مَوْضِع آخَر لَا مِنْ الْآيَة , فَتَأَمَّلْهُ , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْآيَة خَرَجَتْ مَخْرَج التَّنْبِيه مِنْ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنْ يَأْتُوا الْبِرّ مِنْ وَجْهه , وَهُوَ الْوَجْه الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ , فَذَكَرَ إِتْيَان الْبُيُوت مِنْ أَبْوَابهَا مَثَلًا لِيُشِيرَ بِهِ إِلَى أَنْ نَأْتِي الْأُمُور مِنْ مَأْتَاهَا الَّذِي نَدَبَنَا اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ .

قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَصِحّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَقْوَال . وَالْبُيُوت جَمْع بَيْت , وَقُرِئَ بِضَمِّ الْبَاء وَكَسْرهَا .

وَالتَّقْوَى يُقَال أَصْلهَا فِي اللُّغَة قِلَّة الْكَلَام , حَكَاهُ اِبْن فَارِس قُلْت وَمِنْهُ الْحَدِيث ( التَّقِيّ مُلْجَم وَالْمُتَّقِي فَوْق الْمُؤْمِن وَالطَّائِع ) وَهُوَ الَّذِي يَتَّقِي بِصَالِحِ عَمَله وَخَالِص دُعَائِهِ عَذَاب اللَّه تَعَالَى , مَأْخُوذ مِنْ اِتِّقَاء الْمَكْرُوه بِمَا تَجْعَلهُ حَاجِزًا بَيْنك وَبَيْنه , كَمَا قَالَ النَّابِغَة : سَقَطَ النَّصِيف وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطه فَتَنَاوَلْته وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ وَقَالَ آخَر : فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونه الشَّمْس وَاتَّقَتْ بِأَحْسَن مَوْصُولِينَ كَفّ وَمِعْصَم وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ الْحَافِظ مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن زَرْبِيّ أَبِي عُبَيْدَة عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ زِرّ اِبْن حُبَيْش عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ يَوْمًا لِابْنِ أَخِيهِ : يَا بْن أَخِي تَرَى النَّاس مَا أَكْثَرهمْ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : لَا خَيْر فِيهِمْ إِلَّا تَائِب أَوْ تَقِيّ ثُمَّ قَالَ : يَا بْن أَخِي تَرَى النَّاس مَا أَكْثَرهمْ قُلْت : بَلَى , قَالَ : لَا خَيْر فِيهِمْ إِلَّا عَالِم أَوْ مُتَعَلِّم , وَقَالَ أَبُو يَزِيد الْبِسْطَامِيّ : الْمُتَّقِي مَنْ إِذَا قَالَ قَالَ لِلَّهِ , وَمَنْ إِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ , وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ : الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ نَزَعَ اللَّه عَنْ قُلُوبهمْ حُبّ الشَّهَوَات , وَقِيلَ الْمُتَّقِي الَّذِي اِتَّقَى الشِّرْك وَبَرِئَ مِنْ النِّفَاق . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا فَاسِد ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ فَاسِق . وَسَأَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ التَّقْوَى , فَقَالَ : هَلْ أَخَذْت طَرِيقًا ذَا شَوْك قَالَ : نَعَمْ قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهِ قَالَ : تَشَمَّرْت وَحَذِرْت , قَالَ : فَذَاكَ التَّقْوَى , وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى اِبْن الْمُعْتَزّ فَنَظَمَهُ : خَلِّ الذُّنُوب صَغِيرهَا وَكَبِيرهَا ذَلِكَ التُّقَى وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْق أَرْ ضِ الشَّوْك يَحْذَر مَا يَرَى لَا تُحَقِّرَنَّ صَغِيرَة إِنَّ الْجِبَال مِنْ الْحَصَى السَّادِسَة : التَّقْوَى فِيهَا جِمَاع الْخَيْر كُلّه , وَهَى وَصِيَّة اللَّه فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ , وَهَى خَيْر مَا يَسْتَفِيدهُ الْإِنْسَان , كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء وَقَدْ قِيلَ لَهُ : إِنَّ أَصْحَابك يَقُولُونَ الشِّعْر وَأَنْتَ مَا حُفِظَ عَنْك شَيْء , فَقَالَ : يُرِيد الْمَرْء أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا مَا أَرَادَا يَقُول الْمَرْء فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّه أَفْضَل مَا اِسْتَفَادَ الْمُؤْمِن وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي أُمَامَة عَنْ النَّبِيّ ( ص ) أَنَّهُ كَانَ يَقُول : ( مَا اِسْتَفَادَ الْمُؤْمِن بَعْد تَقْوَى اللَّه خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَة صَالِحَة إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسهَا وَمَالِهِ ) , وَالْأَصْل فِي التَّقْوَى : وَقْوَى عَلَى وَزْن فَعْلَى فَقُلِبَتْ الْوَاو تَاء مِنْ وَقَيْته أَقِيه أَيْ مَنَعْته , وَرَجُل تَقِيّ أَيْ خَائِف , أَصْله وَقِيّ , وَكَذَلِكَ تُقَاة كَانَتْ فِي الْأَصْل وُقَاة , كَمَا قَالُوا : تُجَاه وَتُرَاث , وَالْأَصْل وُجَاه وَوُرَاث .

فِي هَذِهِ الْآيَة بَيَان أَنَّ مَا لَمْ يَشْرَعهُ اللَّه قُرْبَة وَلَا نَدَبَ إِلَيْهِ لَا يَصِير قُرْبَة بِأَنْ يَتَقَرَّب بِهِ مُتَقَرِّب . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : إِذَا أَشْكَلَ مَا هُوَ بِرّ وَقُرْبَة بِمَا لَيْسَ هُوَ بِرّ وَقُرْبَة أَنْ يُنْظَر فِي ذَلِكَ الْعَمَل , فَإِنْ كَانَ لَهُ نَظِير فِي الْفَرَائِض وَالسُّنَن فَيَجُوز أَنْ يَكُون , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ بِبِرٍّ وَلَا قُرْبَة . قَالَ : وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْآثَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَذَكَرَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ : بَيْنَمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِم فِي الشَّمْس فَسَأَلَ عَنْهُ , فَقَالُوا : هُوَ أَبُو إِسْرَائِيل , نَذَرَ أَنْ يَقُوم وَلَا يَقْعُد وَلَا يَسْتَظِلّ وَلَا يَتَكَلَّم وَيَصُوم , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمه ) , فَأَبْطَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ غَيْر قُرْبَة مِمَّا لَا أَصْل لَهُ فِي شَرِيعَته , وَصَحَّحَ مَا كَانَ قُرْبَة مِمَّا لَهُ نَظِير فِي الْفَرَائِض وَالسُّنَن .


التَّقْوَى يُقَال أَصْلهَا فِي اللُّغَة قِلَّة الْكَلَام , حَكَاهُ اِبْن فَارِس قُلْت وَمِنْهُ الْحَدِيث ( التَّقِيّ مُلْجَم وَالْمُتَّقِي فَوْق الْمُؤْمِن وَالطَّائِع ) وَهُوَ الَّذِي يَتَّقِي بِصَالِحِ عَمَله وَخَالِص دُعَائِهِ عَذَاب اللَّه تَعَالَى , مَأْخُوذ مِنْ اِتِّقَاء الْمَكْرُوه بِمَا تَجْعَلهُ حَاجِزًا بَيْنك وَبَيْنه , كَمَا قَالَ النَّابِغَة : سَقَطَ النَّصِيف وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطه فَتَنَاوَلْته وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ وَقَالَ آخَر : فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونه الشَّمْس وَاتَّقَتْ بِأَحْسَن مَوْصُولِينَ كَفّ وَمِعْصَم وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ الْحَافِظ مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن زَرْبِي أَبِي عُبَيْدَة عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ زِرّ اِبْن حُبَيْش عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ يَوْمًا لِابْنِ أَخِيهِ : يَا بْن أَخِي تَرَى النَّاس مَا أَكْثَرهُمْ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : لَا خَيْر فِيهِمْ إِلَّا تَائِب أَوْ تَقِيّ ثُمَّ قَالَ : يَا بْن أَخِي تَرَى النَّاس مَا أَكْثَرهمْ قُلْت : بَلَى , قَالَ : لَا خَيْر فِيهِمْ إِلَّا عَالِم أَوْ مُتَعَلِّم , وَقَالَ أَبُو يَزِيد الْبِسْطَامِيّ : الْمُتَّقِي مَنْ إِذَا قَالَ قَالَ لِلَّهِ , وَمَنْ إِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ , وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ : الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ نَزَعَ اللَّه عَنْ قُلُوبهمْ حُبّ الشَّهَوَات , وَقِيلَ الْمُتَّقِي الَّذِي اِتَّقَى الشِّرْك وَبَرِئَ مِنْ النِّفَاق . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا فَاسِد ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ فَاسِق , وَسَأَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ التَّقْوَى , فَقَالَ : هَلْ أَخَذْت طَرِيقًا ذَا شَوْك قَالَ : نَعَمْ قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهِ قَالَ : تَشَمَّرْت وَحَذِرْت , قَالَ : فَذَاكَ التَّقْوَى , وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى اِبْن الْمُعْتَزّ فَنَظَمَهُ : خَلّ الذُّنُوب صَغِيرهَا وَكَبِيرهَا ذَلِكَ التُّقَى وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْق أَرْض الشَّوْك يَحْذَر مَا يَرَى لَا تُحَقِّرَن صَغِيرَة إِنَّ الْجِبَال مِنْ الْحَصَى التَّقْوَى فِيهَا جِمَاع الْخَيْر كُلّه , وَهَى وَصِيَّة اللَّه فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ , وَهَى خَيْر مَا يَسْتَفِيدهُ الْإِنْسَان , كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء وَقَدْ قِيلَ لَهُ : إِنَّ أَصْحَابك يَقُولُونَ الشِّعْر وَأَنْتَ مَا حُفِظَ عَنْك شَيْء , فَقَالَ : يُرِيد الْمَرْء أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا مَا أَرَادَا يَقُول الْمَرْء فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّه أَفْضَل مَا اِسْتَفَادَ الْمُؤْمِن وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي أُمَامَة عَنْ النَّبِيّ ( ص ) أَنَّهُ كَانَ يَقُول : ( مَا اِسْتَفَادَ الْمُؤْمِن بَعْد تَقْوَى اللَّه خَيْر لَهُ مِنْ زَوْجَة صَالِحَة إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسهَا وَمَالِهِ ) , وَالْأَصْل فِي التَّقْوَى : وَقْوَى عَلَى وَزْن فَعْلَى فَقُلِبَتْ الْوَاو تَاء مِنْ وَقَيْته أَقِيه أَيْ مَنَعْته , وَرَجُل تَقِيّ أَيْ خَائِف , أَصْله وَقِيّ , وَكَذَلِكَ تُقَاة كَانَتْ فِي الْأَصْل وُقَاة , كَمَا قَالُوا : تُجَاه وَتُرَاث , وَالْأَصْل وُجَاه وَوُرَاث .
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَسورة البقرة الآية رقم 190
هَذِهِ الْآيَة أَوَّل آيَة نَزَلَتْ فِي الْأَمْر بِالْقِتَالِ , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ الْقِتَال كَانَ مَحْظُورًا قَبْل الْهِجْرَة بِقَوْلِهِ : " اِدْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن " [ فُصِّلَتْ : 34 ] وَقَوْله : " فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ " [ الْمَائِدَة : 13 ] وَقَوْله : " وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا " [ الْمُزَّمِّل : 10 ] وَقَوْله : " لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر " [ الْغَاشِيَة : 22 ] وَمَا كَانَ مِثْله مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّة , فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة أُمِرَ بِالْقِتَالِ فَنَزَلَ : " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ " قَالَهُ الرَّبِيع بْن أَنَس وَغَيْره , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق أَنَّ أَوَّل آيَة نَزَلَتْ فِي الْقِتَال : " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا " [ الْحَجّ : 39 ] , وَالْأَوَّل أَكْثَر , وَأَنَّ آيَة الْإِذْن إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْقِتَال عَامَّة لِمَنْ قَاتَلَ وَلِمَنْ لَمْ يُقَاتِل مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابه إِلَى مَكَّة لِلْعُمْرَةِ , فَلَمَّا نَزَلَ الْحُدَيْبِيَة بِقُرْبِ مَكَّة - وَالْحُدَيْبِيَة اِسْم بِئْر , فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِع بِاسْمِ تِلْكَ الْبِئْر - فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْت , وَأَقَامَ بِالْحُدَيْبِيَةِ شَهْرًا , فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِع مِنْ عَامه ذَلِكَ كَمَا جَاءَ , عَلَى أَنْ تُخْلَى لَهُ مَكَّة فِي الْعَام الْمُسْتَقْبِل ثَلَاثَة أَيَّام , وَصَالَحُوهُ عَلَى أَلَّا يَكُون بَيْنهمْ قِتَال عَشْر سِنِينَ , وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة , فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِل تَجَهَّزَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاء , وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ غَدْر الْكُفَّار وَكَرِهُوا الْقِتَال فِي الْحَرَم وَفِي الشَّهْر الْحَرَام , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , أَيْ يَحِلّ لَكُمْ الْقِتَال إِنْ قَاتَلَكُمْ الْكُفَّار , فَالْآيَة مُتَّصِلَة بِمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْر الْحَجّ وَإِتْيَان الْبُيُوت مِنْ ظُهُورهَا , فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُقَاتِل مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ , حَتَّى نَزَلَ " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 5 ] فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَة , قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء , وَقَالَ اِبْن زَيْد وَالرَّبِيع : نَسَخَهَا " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة " [ التَّوْبَة : 36 ] فَأُمِرَ بِالْقِتَالِ لِجَمِيعِ الْكُفَّار , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمُجَاهِد : هِيَ مُحْكَمَة أَيْ قَاتِلُوا الَّذِينَ هُمْ بِحَالَةِ مَنْ يُقَاتِلُونَكُمْ , وَلَا تَعْتَدُوا فِي قَتْل النِّسَاء وَالصِّبْيَان وَالرُّهْبَان وَشَبَههمْ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَهَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ فِي السُّنَّة وَالنَّظَر , فَأَمَّا السُّنَّة فَحَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَعْض مَغَازِيه اِمْرَأَة مَقْتُولَة فَكَرِهَ ذَلِكَ , وَنَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاء وَالصِّبْيَان , رَوَاهُ الْأَئِمَّة , وَأَمَّا النَّظَر فَإِنَّ " فَاعِل " لَا يَكُون فِي الْغَالِب إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ , كَالْمُقَاتَلَةِ وَالْمُشَاتَمَة وَالْمُخَاصَمَة , وَالْقِتَال لَا يَكُون فِي النِّسَاء وَلَا فِي الصِّبْيَان وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ , كَالرُّهْبَانِ وَالزَّمْنَى وَالشُّيُوخ وَالْأُجَرَاء فَلَا يُقْتَلُونَ , وَبِهَذَا أَوْصَى أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَزِيد بْن أَبِي سُفْيَان حِين أَرْسَلَهُ إِلَى الشَّام , إِلَّا أَنْ يَكُون لِهَؤُلَاءِ إِذَايَة , أَخْرَجَهُ مَالِك وَغَيْره , وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ صُوَر سِتّ :

الْأُولَى : النِّسَاء إِنْ قَاتَلْنَ قُتِلْنَ , قَالَ سَحْنُون : فِي حَالَة الْمُقَاتَلَة وَبَعْدهَا , لِعُمُومِ قَوْله : " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ " , " وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ " [ الْبَقَرَة : 191 ] . وَلِلْمَرْأَةِ آثَار عَظِيمَة فِي الْقِتَال , مِنْهَا الْإِمْدَاد بِالْأَمْوَالِ , وَمِنْهَا التَّحْرِيض عَلَى الْقِتَال , وَقَدْ يَخْرُجْنَ نَاشِرَات شُعُورهنَّ نَادِبَات مُثِيرَات مُعَيِّرَات بِالْفِرَارِ , وَذَلِكَ يُبِيح قَتْلهنَّ , غَيْر أَنَّهُنَّ إِذَا حَصَلْنَ فِي الْأَسْر فَالِاسْتِرْقَاق أَنْفَع لِسُرْعَةِ إِسْلَامهنَّ وَرُجُوعهنَّ عَنْ أَدْيَانهنَّ , وَتَعَذُّر فِرَارهنَّ إِلَى أَوْطَانهنَّ بِخِلَافِ الرِّجَال .

الثَّانِيَة : الصِّبْيَان فَلَا يُقْتَلُونَ لِلنَّهْيِ الثَّابِت عَنْ قَتْل الذُّرِّيَّة ; وَلِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف عَلَيْهِمْ , فَإِنْ قَاتَلَ الصَّبِيّ قُتِلَ .

الثَّالِثَة : الرُّهْبَان لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ , بَلْ يُتْرَك لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنْ أَمْوَالهمْ , وَهَذَا إِذَا اِنْفَرَدُوا عَنْ أَهْل الْكُفْر , لِقَوْلِ أَبِي بَكْر لِيَزِيد : " وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسهمْ لِلَّهِ , فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسهمْ لَهُ " فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْكُفَّار فِي الْكَنَائِس قُتِلُوا , وَلَوْ تَرَهَّبَتْ الْمَرْأَة فَرَوَى أَشْهَب أَنَّهَا لَا تُهَاج . وَقَالَ سَحْنُون : لَا يُغَيِّر التَّرَهُّب حُكْمهَا . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : " وَالصَّحِيح عِنْدِي رِوَايَة أَشْهَب ; لِأَنَّهَا دَاخِلَة تَحْت قَوْله : " فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسهمْ لَهُ " .

الرَّابِعَة : الزَّمْنَى . قَالَ سَحْنُون : يُقْتَلُونَ , وَقَالَ اِبْن حَبِيب : لَا يُقْتَلُونَ , وَالصَّحِيح أَنْ تُعْتَبَر أَحْوَالهمْ , فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ إِذَايَة قُتِلُوا , وَإِلَّا تُرِكُوا وَمَا هُمْ بِسَبِيلِهِ مِنْ الزَّمَانَة وَصَارُوا مَالًا عَلَى حَالهمْ وَحَشْوَة .

الْخَامِسَة : الشُّيُوخ . قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : لَا يُقْتَلُونَ , وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْفُقَهَاء : إِنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا هَرِمًا لَا يُطِيق الْقِتَال , وَلَا يُنْتَفَع بِهِ فِي رَأْي وَلَا مُدَافَعَة فَإِنَّهُ لَا يُقْتَل , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : مِثْل قَوْل الْجَمَاعَة , وَالثَّانِي : يُقْتَل هُوَ وَالرَّاهِب , وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِقَوْلِ أَبِي بَكْر لِيَزِيد , وَلَا مُخَالِف لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاع , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِل وَلَا يُعِين الْعَدُوّ فَلَا يَجُوز قَتْله كَالْمَرْأَةِ , وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ تُخْشَى مَضَرَّته بِالْحَرْبِ أَوْ الرَّأْي أَوْ الْمَال فَهَذَا إِذَا أُسِرَ يَكُون الْإِمَام فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْن خَمْسَة أَشْيَاء : الْقَتْل أَوْ الْمَنّ أَوْ الْفِدَاء أَوْ الِاسْتِرْقَاق أَوْ عَقْد الذِّمَّة عَلَى أَدَاء الْجِزْيَة .

السَّادِسَة : الْعُسَفَاء , وَهُمْ الْأُجَرَاء وَالْفَلَّاحُونَ , فَقَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : لَا يُقْتَلُونَ وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يُقْتَل الْفَلَّاحُونَ وَالْأُجَرَاء وَالشُّيُوخ الْكِبَار إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَة . وَالْأَوَّل أَصَحّ , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث رَبَاح بْن الرَّبِيع ( اِلْحَقْ بِخَالِدِ بْن الْوَلِيد فَلَا يَقْتُلْنَ ذُرِّيَّة وَلَا عَسِيفًا ) , وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : اِتَّقُوا اللَّه فِي الذُّرِّيَّة وَالْفَلَّاحِينَ الَّذِي لَا يَنْصِبُونَ لَكُمْ الْحَرْب , وَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز لَا يَقْتُل حَرَّاثًا , ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر .

رَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ " أَهْل الْحُدَيْبِيَة أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ , وَالصَّحِيح أَنَّهُ خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , أُمِرَ كُلّ أَحَد أَنْ يُقَاتِل مَنْ قَاتَلَهُ إِذْ لَا يُمْكِن سِوَاهُ . أَلَا تَرَاهُ كَيْف بَيَّنَهَا فِي سُورَة " بَرَاءَة " بِقَوْلِهِ : " قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّار " [ التَّوْبَة : 123 ] وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُود أَوَّلًا كَانَ أَهْل مَكَّة فَتَعَيَّنَتْ الْبُدَاءَة بِهِمْ , فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه مَكَّة كَانَ الْقِتَال لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي حَتَّى تَعُمّ الدَّعْوَة وَتَبْلُغ الْكَلِمَة جَمِيع الْآفَاق وَلَا يَبْقَى أَحَد مِنْ الْكَفَرَة , وَذَلِكَ بَاقٍ مُتَمَادٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , مُمْتَدّ إِلَى غَايَة هِيَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْخَيْل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الْأَجْر وَالْمَغْنَم ) , وَقِيلَ : غَايَته نُزُول عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام , وَهُوَ مُوَافِق لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْله ; لِأَنَّ نُزُوله مِنْ أَشْرَاط السَّاعَة .


قِيلَ فِي تَأْوِيله مَا قَدَّمْنَاهُ , فَهِيَ مُحْكَمَة , فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَلَيْسَ إِلَّا الْقَتْل أَوْ التَّوْبَة , وَكَذَلِكَ أَهْل الزَّيْغ وَالضَّلَال لَيْسَ إِلَّا السَّيْف أَوْ التَّوْبَة , وَمَنْ أَسَرَّ الِاعْتِقَاد بِالْبَاطِلِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ يُقْتَل وَلَا يُسْتَتَاب . وَأَمَّا الْخَوَارِج عَلَى أَئِمَّة الْعَدْل فَيَجِب قِتَالهمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الْحَقّ , وَقَالَ قَوْم : الْمَعْنَى لَا تَعْتَدُوا فِي الْقِتَال لِغَيْرِ وَجْه اللَّه , كَالْحَمِيَّةِ وَكَسْب الذِّكْر , بَلْ قَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ , يَعْنِي دِينًا وَإِظْهَارًا لِلْكَلِمَةِ , وَقِيلَ : " لَا تَعْتَدُوا " أَيْ لَا تُقَاتِلُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِل , فَعَلَى هَذَا تَكُون الْآيَة مَنْسُوخَة بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ لِجَمِيعِ الْكُفَّار , وَاَللَّه أَعْلَم .
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 191
" ثَقِفْتُمُوهُمْ " يُقَال : ثَقِفَ يَثْقُف ثَقْفًا وَثَقَفًا , وَرَجُل ثَقْف لَقْف : إِذَا كَانَ مُحْكِمًا لِمَا يَتَنَاوَلهُ مِنْ الْأُمُور . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى قَتْل الْأَسِير , وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي " الْأَنْفَال " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


أَيْ مَكَّة . قَالَ الطَّبَرِيّ : الْخِطَاب لِلْمُهَاجِرِينَ وَالضَّمِير لِكُفَّارِ قُرَيْش .


أَيْ الْفِتْنَة الَّتِي حَمَلُوكُمْ عَلَيْهَا وَرَامُوا رُجُوعكُمْ بِهَا إِلَى الْكُفْر أَشَدّ مِنْ الْقَتْل . قَالَ مُجَاهِد : أَيْ مِنْ أَنْ يُقْتَل الْمُؤْمِن , فَالْقَتْل أَخَفّ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَة , وَقَالَ غَيْره : أَيْ شِرْكهمْ بِاَللَّهِ وَكُفْرهمْ بِهِ أَعْظَم جُرْمًا وَأَشَدّ مِنْ الْقَتْل الَّذِي عَيَّرُوكُمْ بِهِ , وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن عَمْرو بْن الْحَضْرَمِيّ حِين قَتَلَهُ وَاقِد بْن عَبْد اللَّه التَّمِيمِيّ فِي آخِر يَوْم مِنْ رَجَب الشَّهْر الْحَرَام , حَسَب مَا هُوَ مَذْكُور فِي سَرِيَّة عَبْد اللَّه بْن جَحْش , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه , قَالَهُ الطَّبَرِيّ وَغَيْره .

لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَة قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَة , وَالثَّانِي : أَنَّهَا مُحْكَمَة . قَالَ مُجَاهِد : الْآيَة مُحْكَمَة , وَلَا يَجُوز قِتَال أَحَد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَّا بَعْد أَنْ يُقَاتِل , وَبِهِ قَالَ طَاوُس , وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه نَصّ الْآيَة , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه , وَفِي الصَّحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم فَتْح مَكَّة : ( إِنَّ هَذَا الْبَلَد حَرَّمَهُ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض فَهُوَ حَرَام بِحُرْمَةِ اللَّه تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلّ الْقِتَال فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلّ لِي إِلَّا سَاعَة مِنْ نَهَار فَهُوَ حَرَام بِحُرْمَةِ اللَّه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) , وَقَالَ قَتَادَة : الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِذَا اِنْسَلَخَ الْأَشْهُر الْحُرُم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : 5 ] , وَقَالَ مُقَاتِل : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : " وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ " ثُمَّ نَسَخَ هَذَا قَوْله : " اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " , فَيَجُوز الِابْتِدَاء بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَم , وَمِمَّا اِحْتَجُّوا بِهِ أَنَّ " بَرَاءَة " نَزَلَتْ بَعْد سُورَة " الْبَقَرَة " بِسَنَتَيْنِ , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّة وَعَلَيْهِ الْمِغْفَر , فَقِيلَ : إِنَّ اِبْن خَطَل مُتَعَلِّق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة , فَقَالَ : ( اُقْتُلُوهُ ) .

وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام " مَنْسُوخَة ; لِأَنَّ الْإِجْمَاع قَدْ تَقَرَّرَ بِأَنَّ عَدُوًّا لَوْ اِسْتَوْلَى عَلَى مَكَّة وَقَالَ : لَأُقَاتِلكُمْ , وَأَمْنَعكُمْ مِنْ الْحَجّ وَلَا أَبْرَح مِنْ مَكَّة لَوَجَبَ قِتَاله وَإِنْ لَمْ يَبْدَأ بِالْقِتَالِ , فَمَكَّة وَغَيْرهَا مِنْ الْبِلَاد سَوَاء . وَإِنَّمَا قِيلَ فِيهَا : هِيَ حَرَام تَعْظِيمًا لَهَا , أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِد بْن الْوَلِيد يَوْم الْفَتْح وَقَالَ : ( اُحْصُدْهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَلْقَانِي عَلَى الصَّفَا ) حَتَّى جَاءَ الْعَبَّاس فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , ذَهَبَتْ قُرَيْش , فَلَا قُرَيْش بَعْد الْيَوْم . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي تَعْظِيمهَا : ( وَلَا يَلْتَقِط لُقَطَتهَا إِلَّا مُنْشِد ) وَاللُّقَطَة بِهَا وَبِغَيْرِهَا سَوَاء , وَيَجُوز أَنْ تَكُون مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ : " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُون فِتْنَة " [ الْبَقَرَة : 193 ] . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : حَضَرَتْ فِي بَيْت الْمَقْدِس - طَهَّرَهُ اللَّه - بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُقْبَة الْحَنَفِيّ , وَالْقَاضِي الزِّنْجَانِيّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْس فِي يَوْم جُمُعَة , فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُل بَهِيّ الْمَنْظَر عَلَى ظَهْره أَطْمَار , فَسَلَّمَ سَلَام الْعُلَمَاء وَتَصَدَّرَ فِي صَدْر الْمَجْلِس بِمَدَارِع الرِّعَاء , فَقَالَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيّ : مَنْ السَّيِّد ؟ فَقَالَ : رَجُل سَلَبَهُ الشُّطَّار أَمْسِ , وَكَانَ مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَم الْمُقَدَّس , وَأَنَا رَجُل مِنْ أَهْل صَاغَان مِنْ طَلَبَة الْعِلْم , فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا : سَلُوهُ - عَلَى الْعَادَة فِي إِكْرَام الْعُلَمَاء بِمُبَادَرَةِ سُؤَالهمْ - وَوَقَعَتْ الْقُرْعَة عَلَى مَسْأَلَة الْكَافِر إِذَا اِلْتَجَأَ إِلَى الْحَرَم هَلْ يُقْتَل أَمْ لَا ؟ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يُقْتَل , فَسُئِلَ عَنْ الدَّلِيل , فَقَالَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ " قُرِئَ " وَلَا تَقْتُلُوهُمْ , وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ " فَإِنْ قُرِئَ " وَلَا تَقْتُلُوهُمْ " فَالْمَسْأَلَة نَصّ , وَإِنْ قُرِئَ " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ " فَهُوَ تَنْبِيه ; لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ الْقِتَال الَّذِي هُوَ سَبَب الْقَتْل كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْي عَنْ الْقَتْل , فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي مُنْتَصِرًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِك , وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبهمَا , عَلَى الْعَادَة , فَقَالَ : هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : 5 ] , فَقَالَ لَهُ الصَّاغَانِيّ : هَذَا لَا يَلِيق بِمَنْصِبِ الْقَاضِي وَعِلْمه , فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَة الَّتِي اِعْتَرَضْت بِهَا عَامَّة فِي الْأَمَاكِن , وَاَلَّتِي اِحْتَجَجْت بِهَا خَاصَّة , وَلَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول : إِنَّ الْعَامّ يَنْسَخ الْخَاصّ , فَبُهِتَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيّ , وَهَذَا مِنْ بَدِيع الْكَلَام . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ لَجَأَ إِلَيْهِ كَافِر فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ , لِنَصِّ الْآيَة وَالسُّنَّة الثَّابِتَة بِالنَّهْيِ عَنْ الْقِتَال فِيهِ , وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِل فَلَا بُدّ مِنْ إِقَامَة الْحَدّ عَلَيْهِ , إِلَّا أَنْ يَبْتَدِئ الْكَافِر بِالْقِتَالِ فَيُقْتَل بِنَصِّ الْقُرْآن .

قُلْت : وَأَمَّا مَا اِحْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَتْل اِبْن خَطَل وَأَصْحَابه فَلَا حُجَّة فِيهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْوَقْت الَّذِي أُحِلَّتْ لَهُ مَكَّة وَهِيَ دَار حَرْب وَكُفْر , وَكَانَ لَهُ أَنْ يُرِيق دِمَاء مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلهَا فِي السَّاعَة الَّتِي أُحِلَّ لَهُ فِيهَا الْقِتَال . فَثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ الْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ , وَاَللَّه أَعْلَم .

قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبَاغِي عَلَى الْإِمَام بِخِلَافِ الْكَافِر , فَالْكَافِر يُقْتَل إِذَا قَاتَلَ بِكُلِّ حَال , وَالْبَاغِي إِذَا قَاتَلَ يُقَاتِل بِنِيَّةِ الدَّفْع , وَلَا يُتْبَع مُدَبَّر وَلَا يُجْهَز عَلَى جَرِيح . عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه مِنْ أَحْكَام الْبَاغِينَ فِي " الْحُجُرَات " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة البقرة الآية رقم 192
أَيْ عَنْ قِتَالكُمْ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّه يَغْفِر لَهُمْ جَمِيع مَا تَقَدَّمَ , وَيَرْحَم كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اِجْتَرَمَ , نَظِيره قَوْله تَعَالَى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " [ الْأَنْفَال : 38 ] . وَسَيَأْتِي .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 193
" وَقَاتِلُوهُمْ " أَمْر بِالْقِتَالِ لِكُلِّ مُشْرِك فِي كُلّ مَوْضِع , عَلَى مَنْ رَآهَا نَاسِخَة , وَمَنْ رَآهَا غَيْر نَاسِخَة قَالَ : الْمَعْنَى قَاتِلُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللَّه فِيهِمْ : " فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ " وَالْأَوَّل أَظْهَر , وَهُوَ أَمْر بِقِتَالٍ مُطْلَق لَا بِشَرْطِ أَنْ يَبْدَأ الْكُفَّار . دَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَيَكُون الدِّين لِلَّهِ " , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) , فَدَلَّتْ الْآيَة وَالْحَدِيث عَلَى أَنَّ سَبَب الْقِتَال هُوَ الْكُفْر ; لِأَنَّهُ قَالَ : " حَتَّى لَا تَكُون فِتْنَة " أَيْ كُفْر , فَجَعَلَ الْغَايَة عَدَم الْكُفْر , وَهَذَا ظَاهِر . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمْ : الْفِتْنَة هُنَاكَ الشِّرْك وَمَا تَابَعَهُ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ , وَأَصْل الْفِتْنَة : الِاخْتِبَار وَالِامْتِحَان مَأْخُوذ مِنْ فَتَنْت الْفِضَّة إِذَا أَدْخَلْتهَا فِي النَّار لِتُمَيِّز رَدِيئَهَا مِنْ جَيِّدهَا . وَسَيَأْتِي بَيَان مَحَامِلهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


" فَإِنْ اِنْتَهَوْا " أَيْ عَنْ الْكُفْر , إِمَّا بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَة قَبْل , أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَة فِي حَقّ أَهْل الْكِتَاب , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " بَرَاءَة " وَإِلَّا قُوتِلُوا وَهُمْ الظَّالِمُونَ لَا عُدْوَان إِلَّا عَلَيْهِمْ , وَسُمِّيَ مَا يُصْنَع بِالظَّالِمِينَ عُدْوَانًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَزَاء عُدْوَان , إِذْ الظُّلْم يَتَضَمَّن الْعُدْوَان , فَسُمِّيَ جَزَاء الْعُدْوَان عُدْوَانًا , كَقَوْلِهِ : " وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلهَا " [ الشُّورَى : 40 ] . وَالظَّالِمُونَ هُمْ عَلَى أَحَد التَّأْوِيلَيْنِ : مَنْ بَدَأَ بِقِتَالٍ , وَعَلَى التَّأْوِيل الْآخَر : مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْر وَفِتْنَة .
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَسورة البقرة الآية رقم 194
قَدْ تَقَدَّمَ اِشْتِقَاق الشَّهْر , وَسَبَب نُزُولهَا مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَمُجَاهِد وَمِقْسَم وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمْ قَالُوا : نَزَلَتْ فِي عُمْرَة الْقَضِيَّة وَعَام الْحُدَيْبِيَة , ( وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا حَتَّى بَلَغَ الْحُدَيْبِيَة ) فِي ذِي الْقَعْدَة سَنَة سِتّ , فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ كُفَّار قُرَيْش عَنْ الْبَيْت فَانْصَرَفَ , وَوَعَدَهُ اللَّه سُبْحَانه أَنَّهُ سَيَدْخُلُهُ , فَدَخَلَهُ سَنَة سَبْع وَقَضَى نُسُكه , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنُهِيت يَا مُحَمَّد عَنْ الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) . فَأَرَادُوا قِتَاله , فَنَزَلَتْ الْآيَة . الْمَعْنَى : إِنْ اِسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ , فَأَبَاحَ اللَّه بِالْآيَةِ مُدَافَعَتهمْ , وَالْقَوْل الْأَوَّل أَشْهَر وَعَلَيْهِ الْأَكْثَر .

الْحُرُمَات جَمْع حُرْمَة , كَالظُّلُمَاتِ جَمْع ظُلْمَة , وَالْحُجُرَات جَمْع حُجْرَة , وَإِنَّمَا جُمِعَتْ الْحُرُمَات لِأَنَّهُ أَرَادَ حُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام وَحُرْمَة الْبَلَد الْحَرَام , وَحُرْمَة الْإِحْرَام . وَالْحُرْمَة : مَا مُنِعْت مِنْ اِنْتِهَاكه , وَالْقِصَاص الْمُسَاوَاة , أَيْ اِقْتَصَصْت لَكُمْ مِنْهُمْ إِذْ صَدُّوكُمْ سَنَة سِتّ فَقَضَيْتُمْ الْعُمْرَة سَنَة سَبْع . ف " الْحُرُمَات قِصَاص " عَلَى هَذَا مُتَّصِل بِمَا قَبْله وَمُتَعَلِّق . بِهِ . وَقِيلَ : هُوَ مَقْطُوع مِنْهُ , وَهُوَ اِبْتِدَاء أَمْر كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام : إِنَّ مَنْ اِنْتَهَكَ حُرْمَتك نِلْت مِنْهُ مِثْل مَا اِعْتَدَى عَلَيْك , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ , وَقَالَتْ طَائِفَة : مَا تَنَاوَلَتْ الْآيَة مِنْ التَّعَدِّي بَيْن أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجِنَايَات وَنَحْوهَا لَمْ يُنْسَخ , وَجَازَ لِمَنْ تُعُدِّيَ عَلَيْهِ فِي مَال أَوْ جُرْح أَنْ يَتَعَدَّى بِمِثْلِ مَا تُعُدِّيَ بِهِ عَلَيْهِ إِذَا خَفِيَ لَهُ ذَلِكَ , وَلَيْسَ بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ شَيْء , قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَغَيْره , وَهِيَ رِوَايَة فِي مَذْهَب مَالِك , وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَصْحَاب مَالِك : لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ , وَأُمُور الْقِصَاص وَقْف عَلَى الْحُكَّام , وَالْأَمْوَال يَتَنَاوَلهَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ) . خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْره , فَمَنْ اِئْتَمَنَهُ مَنْ خَانَهُ فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَخُونهُ وَيَصِل إِلَى حَقّه مِمَّا اِئْتَمَنَهُ عَلَيْهِ , وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة تَمَسُّكًا بِهَذَا الْحَدِيث , وَقَوْله تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا " [ النِّسَاء : 58 ] , وَهُوَ قَوْل عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ . قَالَ قُدَامَة بْن الْهَيْثَم : سَأَلْت عَطَاء بْن مَيْسَرَة الْخُرَاسَانِيّ فَقُلْت لَهُ : لِي عَلَى رَجُل حَقّ , وَقَدْ جَحَدَنِي بِهِ وَقَدْ أَعْيَا عَلَيَّ الْبَيِّنَة , أَفَأَقْتَصُّ مِنْ مَاله ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ وَقَعَ بِجَارِيَتِك , فَعَلِمْت مَا كُنْت صَانِعًا .

قُلْت : وَالصَّحِيح جَوَاز ذَلِكَ كَيْف مَا تَوَصَّلَ إِلَى أَخْذ حَقّه مَا لَمْ يَعُدْ سَارِقًا , وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَحَكَاهُ الدَّاوُدِيّ عَنْ مَالِك , وَقَالَ بِهِ اِبْن الْمُنْذِر , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ , وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خِيَانَة وَإِنَّمَا هُوَ وُصُول إِلَى حَقّ , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ) وَأَخْذ الْحَقّ مِنْ الظَّالِم نَصْر لَهُ , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْد بِنْت عُتْبَة اِمْرَأَة أَبِي سُفْيَان لَمَّا قَالَتْ لَهُ : إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُل شَحِيح لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَة مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْت مِنْ مَاله بِغَيْرِ عِلْمه , فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاح ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خُذِي مَا يَكْفِيك وَيَكْفِي وَلَدك بِالْمَعْرُوفِ ) . فَأَبَاحَ لَهَا الْأَخْذ وَأَلَّا تَأْخُذ إِلَّا الْقَدْر الَّذِي يَجِب لَهَا , وَهَذَا كُلّه ثَابِت فِي الصَّحِيح , قَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ " قَاطِع فِي مَوْضِع الْخِلَاف .

وَاخْتَلَفُوا إِذَا ظَفِرَ لَهُ بِمَالٍ مِنْ غَيْر جِنْس مَاله , فَقِيلَ : لَا يَأْخُذ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِم , وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ , أَصَحّهمَا الْأَخْذ , قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ ظَفِرَ لَهُ مِنْ جِنْس مَاله , وَالْقَوْل الثَّانِي لَا يَأْخُذ لِأَنَّهُ خِلَاف الْجِنْس , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَتَحَرَّى قِيمَة مَا لَهُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذ مِقْدَار ذَلِكَ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الدَّلِيل , وَاَللَّه أَعْلَم .

وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْأَخْذ فَهَلْ يُعْتَبَر مَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُون وَغَيْر ذَلِكَ , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا , بَلْ يَأْخُذ مَا لَهُ عَلَيْهِ , وَقَالَ مَالِك : يُعْتَبَر مَا يَحْصُل لَهُ مَعَ الْغُرَمَاء فِي الْفَلَس , وَهُوَ الْقِيَاس , وَاَللَّه أَعْلَم .

عُمُوم مُتَّفَق عَلَيْهِ , إِمَّا بِالْمُبَاشَرَةِ إِنْ أَمْكَنَ , وَإِمَّا بِالْحُكَّامِ , وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْمُكَافَأَة هَلْ تُسَمَّى عُدْوَانًا أَمْ لَا , فَمَنْ قَالَ : لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَجَاز , قَالَ : الْمُقَابَلَة عُدْوَان , وَهُوَ عُدْوَان مُبَاح , كَمَا أَنَّ الْمَجَاز فِي كَلَام الْعَرَب كَذِب مُبَاح ; لِأَنَّ قَوْل الْقَائِل : فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَة وَكَذَلِكَ : اِمْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قَطْنِي وَكَذَلِكَ : شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُول السُّرَى وَمَعْلُوم أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاء لَا تَنْطِق , وَحَدّ الْكَذِب : إِخْبَار عَنْ الشَّيْء عَلَى خِلَاف مَا هُوَ بِهِ , وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآن مَجَاز سَمَّى هَذَا عُدْوَانًا عَلَى طَرِيق الْمَجَاز وَمُقَابَلَة الْكَلَام بِمِثْلِهِ , كَمَا قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : أَلَا لَا يَجْهَلَن أَحَد عَلَيْنَا فَنَجْهَل فَوْق جَهْل الْجَاهِلِينَا وَقَالَ الْآخَر : وَلِي فَرَس لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَم وَلِي فَرَس لِلْجَهْلِ بِالْجَهْلِ مُسْرَج وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمِي فَإِنِّي مُقَوَّم وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجِي فَإِنِّي مُعَوَّج يُرِيد : أُكَافِئ الْجَاهِل وَالْمُعْوَجّ , لَا أَنَّهُ اِمْتَدَحَ بِالْجَهْلِ وَالِاعْوِجَاج .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ اِسْتَهْلَكَ أَوْ أَفْسَدَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَان أَوْ الْعُرُوض الَّتِي لَا تُكَال وَلَا تُوزَن , فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِثْل , وَلَا يُعْدَل إِلَى الْقِيمَة إِلَّا عِنْد عَدَم الْمِثْل , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ " وَقَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ " [ النَّحْل : 126 ] . قَالُوا : وَهَذَا عُمُوم فِي جَمِيع الْأَشْيَاء كُلّهَا , وَعَضَدُوا هَذَا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ الْقَصْعَة الْمَكْسُورَة فِي بَيْت الَّتِي كَسَرَتْهَا وَدَفَعَ الصَّحِيحَة وَقَالَ : ( إِنَاء بِإِنَاءٍ وَطَعَام بِطَعَامٍ ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدِّد حَدَّثَنَا يَحْيَى ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا خَالِد عَنْ حُمَيْد عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْد بَعْض نِسَائِهِ , فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِم قَصْعَة فِيهَا طَعَام , قَالَ : فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَة . قَالَ اِبْن الْمُثَنَّى : فَأَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى , فَجَعَلَ يَجْمَع فِيهَا الطَّعَام وَيَقُول : ( غَارَتْ أُمّكُمْ ) . زَادَ اِبْن الْمُثَنَّى ( كُلُوا ) فَأَكَلُوا حَتَّى جَاءَتْ قَصْعَتهَا الَّتِي فِي بَيْتهَا , ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى لَفْظ حَدِيث مُسَدِّد وَقَالَ : ( كُلُوا ) وَحَبَسَ الرَّسُول وَالْقَصْعَة حَتَّى فَرَغُوا , فَدَفَعَ الْقَصْعَة الصَّحِيحَة إِلَى الرَّسُول وَحَبَسَ الْمَكْسُورَة فِي بَيْته . حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدِّد حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَان قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْت الْعَامِرِيّ - قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهُوَ أَفْلَت بْن خَلِيفَة - عَنْ جَسْرَة بِنْت دَجَاجَة قَالَتْ : قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : مَا رَأَيْت صَانِعًا طَعَامًا مِثْل صَفِيَّة , صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ , فَأَخَذَنِي أَفْكَل فَكَسَرْت الْإِنَاء , فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَا كَفَّارَة مَا صَنَعْت ؟ قَالَ : ( إِنَاء مِثْل إِنَاء وَطَعَام مِثْل طَعَام ) . قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : عَلَيْهِ فِي الْحَيَوَان وَالْعُرُوض الَّتِي لَا تُكَال وَلَا تُوزَن الْقِيمَة لَا الْمِثْل , بِدَلِيلِ تَضْمِين النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَعْتَقَ نِصْف عَبْده قِيمَة نِصْف شَرِيكه , وَلَمْ يُضَمِّنهُ مِثْل نِصْف عَبْده . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء عَلَى تَضْمِين الْمِثْل فِي الْمَطْعُومَات وَالْمَشْرُوبَات وَالْمَوْزُونَات , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( طَعَام بِطَعَامٍ ) .

لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ هَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي الْمُمَاثَلَة فِي الْقِصَاص , فَمَنْ قَتَلَ بِشَيْءٍ قُتِلَ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور , مَا لَمْ يَقْتُلهُ بِفِسْقٍ كَاللُّوطِيَّةِ وَإِسْقَاء الْخَمْر فَيُقْتَل بِالسَّيْفِ , وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْل : إِنَّهُ يُقْتَل بِذَلِكَ , فَيُتَّخَذ عُود عَلَى تِلْكَ الصِّفَة وَيُطْعَن بِهِ فِي دُبُره حَتَّى يَمُوت , وَيُسْقَى عَنْ الْخَمْر مَاء حَتَّى يَمُوت . وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُونِ : إِنَّ مَنْ قَتَلَ بِالنَّارِ أَوْ بِالسُّمِّ لَا يُقْتَل بِهِ , لِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يُعَذِّب بِالنَّارِ , إِلَّا اللَّه ) , وَالسُّمّ نَار بَاطِنَة , وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل بِذَلِكَ , لِعُمُومِ الْآيَة .

وَأَمَّا الْقَوَد بِالْعَصَا فَقَالَ مَالِك فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : إِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الْقَتْل بِالْعَصَا تَطْوِيل وَتَعْذِيب قُتِلَ بِالسَّيْفِ , رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب , وَقَالَهُ اِبْن الْقَاسِم , وَفِي الْأُخْرَى : يُقْتَل بِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ , وَرَوَى أَشْهَب وَابْن نَافِع عَنْ مَالِك فِي الْحَجَر وَالْعَصَا أَنَّهُ يُقْتَل بِهِمَا إِذَا كَانَتْ الضَّرْبَة مُجْهِزَة , فَأَمَّا أَنْ يَضْرِب ضَرَبَات فَلَا , وَعَلَيْهِ لَا يُرْمَى بِالنَّبْلِ وَلَا بِالْحِجَارَةِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْذِيب , وَقَالَهُ عَبْد الْمَلِك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " وَالصَّحِيح مِنْ أَقْوَال عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَة وَاجِبَة , إِلَّا أَنْ تَدْخُل فِي حَدّ التَّعْذِيب فَلْتُتْرَكْ إِلَى السَّيْف " , وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ يَده وَرِجْله وَفَقَأَ عَيْنه قَصْد التَّعْذِيب فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ , كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتَلَةِ الرِّعَاء , وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَة أَوْ مُضَارَبَة قُتِلَ بِالسَّيْفِ . وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى خِلَاف هَذَا كُلّه فَقَالُوا : لَا قَوَد إِلَّا بِالسَّيْفِ , وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ . وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا قَوَد إِلَّا بِحَدِيدَةٍ ) , وَبِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَة , وَقَوْله : ( لَا يُعَذِّب بِالنَّارِ إِلَّا رَبّ النَّار ) . وَالصَّحِيح مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُور , لِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ جَارِيَة وُجِدَ رَأْسهَا قَدْ رُضَّ بَيْن حَجَرَيْنِ , فَسَأَلُوهَا : مَنْ صَنَعَ هَذَا بِك ! أَفُلَان , أَفُلَان ؟ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا , فَأُخِذَ الْيَهُودِيّ فَأَقَرَّ , فَأَمَرَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرَضّ رَأْسه بِالْحِجَارَةِ , وَفِي رِوَايَة : فَقَتَلَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن حَجَرَيْنِ , وَهَذَا نَصّ صَرِيح صَحِيح , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ " [ النَّحْل : 126 ] , وَقَوْله : " فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ " . وَأَمَّا مَا اِسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيث جَابِر فَحَدِيث ضَعِيف عِنْد الْمُحَدِّثِينَ , لَا يُرْوَى عَنْ طَرِيق صَحِيح , لَوْ صَحَّ قُلْنَا بِمُوجَبِهِ , وَأَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا , يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث أَنَس : أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْس جَارِيَة بَيْن حَجَرَيْنِ فَرَضَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسه بَيْن حَجَرَيْنِ , وَأَمَّا النَّهْي عَنْ الْمُثْلَة فَنَقُول أَيْضًا بِمُوجِبِهَا إِذَا لَمْ يُمَثِّل , فَإِذَا مَثَّلَ مَثَّلْنَا بِهِ , يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث الْعُرَنِيِّينَ , وَهُوَ صَحِيح أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة , وَقَوْله : ( لَا يُعَذِّب بِالنَّارِ إِلَّا رَبّ النَّار ) صَحِيح إِذَا لَمْ يُحْرِق , فَإِنْ حَرَقَ حُرِقَ , يَدُلّ عَلَيْهِ عُمُوم الْقُرْآن . قَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ طَرَحَهُ فِي النَّار عَمْدًا طَرَحَهُ فِي النَّار حَتَّى يَمُوت , وَذَكَرَهُ الْوَقَار فِي مُخْتَصَره عَنْ مَالِك , وَهُوَ قَوْل مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَوْل كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم فِي الرَّجُل يَخْنُق الرَّجُل : عَلَيْهِ الْقَوَد , وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن فَقَالَ : لَوْ خَنَقَهُ حَتَّى مَاتَ أَوْ طَرَحَهُ فِي بِئْر فَمَاتَ , أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جَبَل أَوْ سَطْح فَمَاتَ , لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاص وَكَانَ عَلَى عَاقِلَته الدِّيَة , فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ - قَدْ خَنَقَ غَيْر وَاحِد - فَعَلَيْهِ الْقَتْل . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَمَّا أَقَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِيّ الَّذِي رَضَّ رَأْس الْجَارِيَة بِالْحَجَرِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَاهُ , فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ .

قُلْت : وَحَكَى هَذَا الْقَوْل غَيْره عَنْ أَبِي حَنِيفَة فَقَالَ : وَقَدْ شَذَّ أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ فِيمَنْ قَتَلَ بِخَنْقٍ أَوْ بِسُمٍّ أَوْ تَرْدِيَة مِنْ جَبَل أَوْ بِئْر أَوْ بِخَشَبَةٍ : إِنَّهُ لَا يُقْتَل وَلَا يُقْتَصّ مِنْهُ , إِلَّا إِذَا قَتَلَ بِمُحَدَّدٍ حَدِيد أَوْ حَجَر أَوْ خَشَب أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْخَنْقِ وَالتَّرْدِيَة وَكَانَ عَلَى عَاقِلَته الدِّيَة , وَهَذَا مِنْهُ رَدّ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّة , وَإِحْدَاث مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْر الْأُمَّة , وَذَرِيعَة إِلَى رَفْع الْقِصَاص الَّذِي شَرَعَهُ اللَّه لِلنُّفُوسِ , فَلَيْسَ عَنْهُ مَنَاص .

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَبَسَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَر , فَقَالَ عَطَاء : يُقْتَل الْقَاتِل وَيُحْبَس الْحَابِس حَتَّى يَمُوت , وَقَالَ مَالِك : إِنْ كَانَ حَبَسَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيد قَتْله قُتِلَا جَمِيعًا , وَفِي قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَالنُّعْمَان يُعَاقَب الْحَابِس , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر .

قُلْت : قَوْل عَطَاء صَحِيح , وَهُوَ مُقْتَضَى التَّنْزِيل , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُل الرَّجُل وَقَتَلَهُ الْآخَر يُقْتَل الْقَاتِل وَيُحْبَس الَّذِي أَمْسَكَهُ ) . رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر , وَرَوَاهُ مَعْمَر وَابْن جُرَيْج عَنْ إِسْمَاعِيل مُرْسَلًا .

" فَمَنْ اِعْتَدَى " الِاعْتِدَاء هُوَ التَّجَاوُز , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُود اللَّه " [ الْبَقَرَة : 229 ] أَيْ يَتَجَاوَزهَا , فَمَنْ ظَلَمَك فَخُذْ حَقّك مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتك , وَمَنْ شَتَمَك فَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْل قَوْله , وَمَنْ أَخَذَ عِرْضك فَخُذْ عِرْضه , لَا تَتَعَدَّى إِلَى أَبَوَيْهِ وَلَا إِلَى اِبْنه أَوْ قَرِيبه , وَلَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِب عَلَيْهِ وَإِنْ كَذَبَ عَلَيْك , فَإِنَّ الْمَعْصِيَة لَا تُقَابَل بِالْمَعْصِيَةِ , فَلَوْ قَالَ لَك مَثَلًا : يَا كَافِر , جَازَ لَك أَنْ تَقُول لَهُ : أَنْتَ الْكَافِر , وَإِنْ قَالَ لَك : يَا زَانٍ , فَقِصَاصك أَنْ تَقُول لَهُ : يَا كَذَّاب يَا شَاهِد زُور , وَلَوْ قُلْت لَهُ يَا زَانٍ , كُنْت كَاذِبًا وَأَثِمْت فِي الْكَذِب , وَإِنْ مَطَلَك وَهُوَ غَنِيّ دُون عُذْر فَقَالَ : يَا ظَالِم , يَا آكِل أَمْوَال النَّاس , قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيّ الْوَاجِد يُحِلّ عِرْضه وَعُقُوبَته ) . أَمَّا عِرْضه فَبِمَا فَسَّرْنَاهُ , وَأَمَّا عُقُوبَته فَالسِّجْن يُحْبَس فِيهِ , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَ هَذَا قَبْل أَنْ يَقْوَى الْإِسْلَام , فَأَمَرَ مَنْ أُوذِيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجَازِي بِمِثْلِ مَا أُوذِيَ بِهِ , أَوْ يَصْبِر أَوْ يَعْفُو , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة " [ التَّوْبَة : 36 ] , وَقِيلَ : نُسِخَ ذَلِكَ بِتَصْيِيرِهِ إِلَى السُّلْطَان , وَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصّ مِنْ أَحَد إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَان .

{194} الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
يُقَال أَصْلهَا فِي اللُّغَة قِلَّة الْكَلَام , حَكَاهُ اِبْن فَارِس قُلْت وَمِنْهُ الْحَدِيث ( التَّقِيّ مُلْجَم وَالْمُتَّقِي فَوْق الْمُؤْمِن وَالطَّائِع ) وَهُوَ الَّذِي يَتَّقِي بِصَالِحِ عَمَله وَخَالِص دُعَائِهِ عَذَاب اللَّه تَعَالَى , مَأْخُوذ مِنْ اِتِّقَاء الْمَكْرُوه بِمَا تَجْعَلهُ حَاجِزًا بَيْنك وَبَيْنه , كَمَا قَالَ النَّابِغَة : سَقَطَ النَّصِيف وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطه فَتَنَاوَلْته وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ وَقَالَ آخَر : فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونه الشَّمْس وَاتَّقَتْ بِأَحْسَن مَوْصُولِينَ كَفّ وَمِعْصَم وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ الْحَافِظ مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن زَرْبِي أَبِي عُبَيْدَة عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ زِرّ اِبْن حُبَيْش عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ يَوْمًا لِابْنِ أَخِيهِ : يَا بْن أَخِي تَرَى النَّاس مَا أَكْثَرهمْ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : لَا خَيْر فِيهِمْ إِلَّا تَائِب أَوْ تَقِيّ ثُمَّ قَالَ : يَا بْن أَخِي تَرَى النَّاس مَا أَكْثَرهمْ قُلْت : بَلَى , قَالَ : لَا خَيْر فِيهِمْ إِلَّا عَالِم أَوْ مُتَعَلِّم , وَقَالَ أَبُو يَزِيد الْبِسْطَامِيّ : الْمُتَّقِي مَنْ إِذَا قَالَ قَالَ لِلَّهِ , وَمَنْ إِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ , وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ : الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ نَزَعَ اللَّه عَنْ قُلُوبهمْ حُبّ الشَّهَوَات , وَقِيلَ الْمُتَّقِي الَّذِي اِتَّقَى الشِّرْك وَبَرِئَ مِنْ النِّفَاق . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا فَاسِد ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ فَاسِق , وَسَأَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ التَّقْوَى , فَقَالَ : هَلْ أَخَذْت طَرِيقًا ذَا شَوْك قَالَ : نَعَمْ قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهِ قَالَ : تَشَمَّرْت وَحَذِرْت , قَالَ : فَذَاكَ التَّقْوَى , وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى اِبْن الْمُعْتَزّ فَنَظَمَهُ : خَلّ الذُّنُوب صَغِيرهَا وَكَبِيرهَا ذَلِكَ التُّقَى وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْق أَرْض الشَّوْك يَحْذَر مَا يَرَى لَا تُحَقِّرَن صَغِيرَة إِنَّ الْجِبَال مِنْ الْحَصَى التَّقْوَى فِيهَا جِمَاع الْخَيْر كُلّه , وَهَى وَصِيَّة اللَّه فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ , وَهَى خَيْر مَا يَسْتَفِيدهُ الْإِنْسَان , كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء وَقَدْ قِيلَ لَهُ : إِنَّ أَصْحَابك يَقُولُونَ الشِّعْر وَأَنْتَ مَا حُفِظَ عَنْك شَيْء , فَقَالَ : يُرِيد الْمَرْء أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا مَا أَرَادَا يَقُول الْمَرْء فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّه أَفْضَل مَا اِسْتَفَادَ الْمُؤْمِن وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي أُمَامَة عَنْ النَّبِيّ ( ص ) أَنَّهُ كَانَ يَقُول : ( مَا اِسْتَفَادَ الْمُؤْمِن بَعْد تَقْوَى اللَّه خَيْر لَهُ مِنْ زَوْجَة صَالِحَة إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسهَا وَمَاله ) .

وَالْأَصْل فِي التَّقْوَى : وَقْوَى عَلَى وَزْن فَعْلَى فَقُلِبَتْ الْوَاو تَاء مِنْ وَقَيْته أَقِيه أَيْ مَنَعْته , وَرَجُل تَقِيّ أَيْ خَائِف , أَصْله وَقِيّ , وَكَذَلِكَ تُقَاة كَانَتْ فِي الْأَصْل وُقَاة , كَمَا قَالُوا : تُجَاه وَتُرَاث , وَالْأَصْل وُجَاه وَوُرَاث .
وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَسورة البقرة الآية رقم 195
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ حُذَيْفَة : " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّه وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " قَالَ : نَزَلَتْ فِي النَّفَقَة , وَرَوَى يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ أَسْلَم أَبِي عِمْرَان قَالَ : غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّة , وَعَلَى الْجَمَاعَة عَبْد الرَّحْمَن بْن الْوَلِيد , وَالرُّوم مُلْصِقُو ظُهُورهمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَة , فَحَمَلَ رَجُل عَلَى الْعَدُوّ , فَقَالَ النَّاس : مَهٍ مَهْ ! لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَة ! فَقَالَ أَبُو أَيُّوب : سُبْحَان اللَّه ! أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِينَا مَعَاشِر الْأَنْصَار لَمَّا نَصَرَ اللَّه نَبِيّه وَأَظْهَرَ دِينه , قُلْنَا : هَلُمَّ نُقِيم فِي أَمْوَالنَا وَنُصْلِحهَا , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّه " الْآيَة , وَالْإِلْقَاء بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَة أَنْ نُقِيم فِي أَمْوَالنَا وَنُصْلِحهَا وَنَدَع الْجِهَاد , فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوب مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اللَّه حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ , فَقَبْره هُنَاكَ , فَأَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوب أَنَّ الْإِلْقَاء بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَة هُوَ تَرْك الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه , وَأَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ . وَرُوِيَ مِثْله عَنْ حُذَيْفَة وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك .

قُلْت : وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ أَسْلَم أَبِي عِمْرَان هَذَا الْخَبَر بِمَعْنَاهُ فَقَالَ : " كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّوم , فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّوم , فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلهمْ أَوْ أَكْثَر , وَعَلَى أَهْل مِصْر عُقْبَة بْن عَامِر , وَعَلَى الْجَمَاعَة فَضَالَة بْن عُبَيْد , فَحَمَلَ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفّ الرُّوم حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ , فَصَاحَ النَّاس وَقَالُوا : سُبْحَان اللَّه يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَة , فَقَامَ أَبُو أَيُّوب الْأَنْصَارِيّ فَقَالَ : يَا أَيّهَا النَّاس , إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَة هَذَا التَّأْوِيل , وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِينَا مَعَاشِر الْأَنْصَار لَمَّا أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَام وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ , فَقَالَ بَعْضنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَمْوَالنَا قَدْ ضَاعَتْ , وَإِنَّ اللَّه قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَام وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ , فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا , فَأَنْزَلَ اللَّه عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدّ عَلَيْهِ مَا قُلْنَا : " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّه وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " . فَكَانَتْ التَّهْلُكَة الْإِقَامَة عَلَى الْأَمْوَال وَإِصْلَاحهَا وَتَرَكْنَا الْغَزْو , فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوب شَاخِصًا فِي سَبِيل اللَّه حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّوم . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب صَحِيح . وَقَالَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان وَابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَجُمْهُور النَّاس : الْمَعْنَى لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ بِأَنْ تَتْرُكُوا النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه وَتَخَافُوا الْعَيْلَة , فَيَقُول الرَّجُل : لَيْسَ عِنْدِي مَا أُنْفِقهُ , وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْبُخَارِيّ إِذْ لَمْ يَذْكُر غَيْره , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَنْفِقْ فِي سَبِيل اللَّه , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَك إِلَّا سَهْم أَوْ مِشْقَص , وَلَا يَقُولَن أَحَدكُمْ : لَا أَجِد شَيْئًا , وَنَحْوه عَنْ السُّدِّيّ : أَنْفِقْ وَلَوْ عِقَالًا , وَلَا تُلْقِي بِيَدِك إِلَى التَّهْلُكَة فَتَقُول : لَيْسَ عِنْدِي شَيْء , وَقَوْل ثَالِث قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ النَّاس بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَاد قَامَ إِلَيْهِ أُنَاس مِنْ الْأَعْرَاب حَاضِرِينَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالُوا : بِمَاذَا نَتَجَهَّز ! فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا زَادَ وَلَا يُطْعِمنَا أَحَد , فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّه " يَعْنِي تَصَدَّقُوا يَا أَهْل الْمَيْسَرَة فِي سَبِيل اللَّه , يَعْنِي فِي طَاعَة اللَّه . " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " يَعْنِي وَلَا تُمْسِكُوا بِأَيْدِيكُمْ عَنْ الصَّدَقَة فَتَهْلِكُوا , وَهَكَذَا قَالَ مُقَاتِل , وَمَعْنَى اِبْن عَبَّاس : وَلَا تُمْسِكُوا عَنْ الصَّدَقَة فَتَهْلِكُوا , أَيْ لَا تُمْسِكُوا عَنْ النَّفَقَة عَلَى الضُّعَفَاء , فَإِنَّهُمْ إِذَا تَخَلَّفُوا عَنْكُمْ غَلَبَكُمْ الْعَدُوّ فَتَهْلِكُوا , وَقَوْل رَابِع - قِيلَ لِلْبَرَاءِ بْن عَازِب فِي هَذِهِ الْآيَة : أَهُوَ الرَّجُل يَحْمِل عَلَى الْكَتِيبَة ؟ فَقَالَ لَا , وَلَكِنَّهُ الرَّجُل يُصِيب الذَّنْب فَيُلْقِي بِيَدَيْهِ وَيَقُول : قَدْ بَالَغْت فِي الْمَعَاصِي وَلَا فَائِدَة فِي التَّوْبَة , فَيَيْأَس مِنْ اللَّه فَيَنْهَمِك بَعْد ذَلِكَ فِي الْمَعَاصِي , فَالْهَلَاك : الْيَأْس مِنْ اللَّه , وَقَالَ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : الْمَعْنَى لَا تُسَافِرُوا فِي الْجِهَاد بِغَيْرِ زَاد , وَقَدْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْم فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِانْقِطَاع فِي الطَّرِيق , أَوْ يَكُون عَالَة عَلَى النَّاس , فَهَذِهِ خَمْسَة أَقْوَال . " سَبِيل اللَّه " هُنَا : الْجِهَاد , وَاللَّفْظ يَتَنَاوَل بَعْد جَمِيع سُبُله , وَالْبَاء فِي " بِأَيْدِيكُمْ " زَائِدَة , التَّقْدِير تُلْقُوا أَيْدِيكُمْ , وَنَظِيره : " أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّه يَرَى " [ الْعَلَق : 14 ] . وَقَالَ الْمُبَرِّد : " بِأَيْدِيكُمْ " أَيْ بِأَنْفُسِكُمْ , فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْ الْكُلّ , كَقَوْلِهِ : " فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ " , [ الشُّورَى : 30 ] , " بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك " [ الْحَجّ : 10 ] , وَقِيلَ : هَذَا ضَرْب مَثَل , تَقُول : فُلَان أَلْقَى بِيَدِهِ فِي أَمْر كَذَا إِذَا اِسْتَسْلَمَ ; لِأَنَّ الْمُسْتَسْلِم فِي الْقِتَال يُلْقِي سِلَاحه بِيَدَيْهِ , فَكَذَلِكَ فِعْل كُلّ عَاجِز فِي أَيّ فِعْل كَانَ , وَمِنْهُ قَوْل عَبْد الْمُطَّلِب : [ وَاَللَّه إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا لِلْمَوْتِ لَعَجْز ] وَقَالَ قَوْم : التَّقْدِير لَا تُلْقُوا أَنْفُسكُمْ بِأَيْدِيكُمْ , كَمَا تَقُول : لَا تُفْسِد حَالك بِرَأْيِك . التَّهْلُكَة بِضَمِّ اللَّام مَصْدَر مِنْ هَلَكَ يَهْلِك هَلَاكًا وَهُلْكًا وَتَهْلُكَة , أَيْ لَا تَأْخُذُوا فِيمَا يُهْلِككُمْ , قَالَهُ الزَّجَّاج وَغَيْره . أَيْ إِنْ لَمْ تُنْفِقُوا عَصَيْتُمْ اللَّه وَهَلَكْتُمْ , وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى الْآيَة لَا تُمْسِكُوا أَمْوَالكُمْ فَيَرِثهَا مِنْكُمْ غَيْركُمْ , فَتَهْلِكُوا بِحِرْمَانِ مَنْفَعَة أَمْوَالكُمْ , وَمَعْنًى آخَر : وَلَا تُمْسِكُوا فَيَذْهَب عَنْكُمْ الْخُلْف فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة . وَيُقَال : " لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " يَعْنِي لَا تُنْفِقُوا مِنْ حَرَام فَيُرَدّ عَلَيْكُمْ فَتَهْلِكُوا , وَنَحْوه عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " قَالَ : " وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ " [ الْبَقَرَة : 267 ] وَقَالَ الطَّبَرِيّ : قَوْله " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " عَامّ فِي جَمِيع مَا ذُكِرَ لِدُخُولِهِ فِيهِ , إِذْ اللَّفْظ يَحْتَمِلهُ .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي اِقْتِحَام الرَّجُل فِي الْحَرْب وَحَمْله عَلَى الْعَدُوّ وَحْده , فَقَالَ الْقَاسِم اِبْن مُخَيْمَرَة وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَعَبْد الْمَلِك مِنْ عُلَمَائِنَا : لَا بَأْس أَنْ يَحْمِل الرَّجُل وَحْده عَلَى الْجَيْش الْعَظِيم إِذَا كَانَ فِيهِ قُوَّة , وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَة , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّة فَذَلِكَ مِنْ التَّهْلُكَة , وَقِيلَ : إِذَا طَلَبَ الشَّهَادَة وَخَلَصَتْ النِّيَّة فَلْيَحْمِلْ ; لِأَنَّ مَقْصُوده وَاحِد مِنْهُمْ , وَذَلِكَ بَيِّن فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسه اِبْتِغَاء مَرْضَات اللَّه " [ الْبَقَرَة : 207 ] , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : فَأَمَّا أَنْ يَحْمِل الرَّجُل عَلَى مِائَة أَوْ عَلَى جُمْلَة الْعَسْكَر أَوْ جَمَاعَة اللُّصُوص وَالْمُحَارِبِينَ وَالْخَوَارِج فَلِذَلِكَ حَالَتَانِ : إِنْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنّه أَنْ سَيَقْتُلُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَنْجُو فَحَسَن , وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنّه أَنْ يَقْتُل وَلَكِنْ سَيُنْكَى نِكَايَة أَوْ سَيُبْلَى أَوْ يُؤْثِر أَثَرًا يَنْتَفِع بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَجَائِز أَيْضًا , وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَسْكَر الْمُسْلِمِينَ لَمَّا لَقِيَ الْفُرْس نَفَرَتْ خَيْل الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفِيَلَة , فَعَمَدَ رَجُل مِنْهُمْ فَصَنَعَ فِيلًا مِنْ طِين وَأَنَّسَ بِهِ فَرَسه حَتَّى أَلِفَهُ , فَلَمَّا أَصْبَحَ لَمْ يَنْفُر فَرَسه مِنْ الْفِيل فَحَمَلَ عَلَى الْفِيل الَّذِي كَانَ يَقْدُمهَا فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ قَاتِلك , فَقَالَ : لَا ضَيْر أَنْ أُقْتَل وَيُفْتَح لِلْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ يَوْم الْيَمَامَة لَمَّا تَحَصَّنَتْ بَنُو حَنِيفَة بِالْحَدِيقَةِ , قَالَ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ : ضَعُونِي فِي الْحَجَفَة وَأَلْقُونِي إِلَيْهِمْ , فَفَعَلُوا وَقَاتَلَهُمْ وَحْده وَفَتَحَ الْبَاب .

قُلْت : وَمِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْت فِي سَبِيل اللَّه صَابِرًا مُحْتَسِبًا ؟ قَالَ : ( فَلَك الْجَنَّة ) , فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوّ حَتَّى قُتِلَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُفْرِدَ يَوْم أُحُد فِي سَبْعَة مِنْ الْأَنْصَار وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْش , فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : ( مَنْ يَرُدّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّة ) أَوْ ( هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ) فَتَقَدَّمَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ , ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ : ( مَنْ يَرُدّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّة ) أَوْ ( هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ) , فَتَقَدَّمَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ . فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَة , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابنَا ) . هَكَذَا الرِّوَايَة ( أَنْصَفْنَا ) بِسُكُونِ الْفَاء ( أَصْحَابَنَا ) بِفَتْحِ الْبَاء , أَيْ لَمْ نَدُلّهُمْ لِلْقِتَالِ حَتَّى قُتِلُوا . وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْفَاء وَرَفْع الْبَاء , وَوَجْههَا أَنَّهَا تَرْجِع لِمَنْ فَرَّ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابه , وَاَللَّه أَعْلَم , وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن : لَوْ حَمَلَ رَجُل وَاحِد عَلَى أَلْف رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ وَحْده , لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْس إِذَا كَانَ يَطْمَع فِي نَجَاة أَوْ نِكَايَة فِي الْعَدُوّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوه ; لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسه لِلتَّلَفِ فِي غَيْر مَنْفَعَة لِلْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ كَانَ قَصْده تَجْرِئَة الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصْنَعُوا مِثْل صَنِيعه فَلَا يَبْعُد جَوَازه ; وَلِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَة لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْض الْوُجُوه , وَإِنْ كَانَ قَصْده إِرْهَاب الْعَدُوّ وَلِيُعْلِم صَلَابَة الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّين فَلَا يَبْعُد جَوَازه , وَإِذَا كَانَ فِيهِ نَفْع لِلْمُسْلِمِينَ فَتَلِفَتْ نَفْسه لِإِعْزَازِ دِين اللَّه وَتَوْهِين الْكُفْر فَهُوَ الْمَقَام الشَّرِيف الَّذِي مَدَحَ اللَّه بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله : " إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ " [ التَّوْبَة : 111 ] الْآيَة , إِلَى غَيْرهَا مِنْ آيَات الْمَدْح الَّتِي مَدَحَ اللَّه بِهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسه , وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون حُكْم الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر أَنَّهُ مَتَى رَجَا نَفْعًا فِي الدِّين فَبَذَلَ نَفْسه فِيهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَات الشُّهَدَاء , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَر وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الْأُمُور " [ لُقْمَان : 17 ] . وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَفْضَل الشُّهَدَاء حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَرَجُل تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقّ عِنْد سُلْطَان جَائِر فَقَتَلَهُ ) , وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِي هَذَا فِي [ آل عِمْرَان ] إِنْ شَاءَ تَعَالَى .


أَيْ فِي الْإِنْفَاق فِي الطَّاعَة , وَأَحْسِنُوا الظَّنّ بِاَللَّهِ فِي إِخْلَافه عَلَيْكُمْ , وَقِيلَ : " أَحْسِنُوا " فِي أَعْمَالكُمْ بِامْتِثَالِ الطَّاعَات , رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة .
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِسورة البقرة الآية رقم 196
فِيهَا سَبْعَة مَسَائِل

الْأُولَى : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِإِتْمَامِ الْحَجّ وَالْعُمْرَة لِلَّهِ , فَقِيلَ : أَدَاؤُهُمَا وَالْإِتْيَان بِهِمَا , كَقَوْلِهِ : " فَأَتِمهنَّ " [ الْبَقَرَة : 124 ] وَقَوْله : " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَام إِلَى اللَّيْل " [ الْبَقَرَة : 187 ] أَيْ اِئْتُوا بِالصِّيَامِ , وَهَذَا عَلَى مَذْهَب مَنْ أَوْجَبَ الْعُمْرَة , عَلَى مَا يَأْتِي , وَمَنْ لَمْ يُوجِبهَا قَالَ : الْمُرَاد تَمَامهمَا بَعْد الشُّرُوع فِيهِمَا , فَإِنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيّ فِيهِ وَلَا يَفْسَخهُ , قَالَ مَعْنَاهُ الشَّعْبِيّ وَابْن زَيْد , وَعَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِتْمَامهمَا أَنْ تُحْرِم بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَة أَهْلك , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص , وَفَعَلَهُ عِمْرَان بْن حُصَيْن , وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : إِتْمَامهمَا أَنْ تَخْرُج قَاصِدًا لَهُمَا لَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ , وَيُقَوِّي هَذَا قَوْله " لِلَّهِ " . وَقَالَ عُمَر : إِتْمَامهمَا أَنْ يُفْرِد كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ غَيْر تَمَتُّع وَقِرَان , وَقَالَهُ اِبْن حَبِيب , وَقَالَ مُقَاتِل : إِتْمَامهمَا أَلَّا تَسْتَحِلُّوا فِيهِمَا مَا لَا يَنْبَغِي لَكُمْ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ فِي إِحْرَامهمْ فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , لَا شَرِيك لَك إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك , تَمْلِكهُ وَمَا مَلَكَ , فَقَالَ : فَأَتِمُّوهُمَا وَلَا تَخْلِطُوهُمَا بِشَيْءٍ آخَر .

قُلْت : أَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَفَعَلَهُ عِمْرَان بْن حُصَيْن فِي الْإِحْرَام قَبْل الْمَوَاقِيت الَّتِي وَقَّتَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ بِهِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف , وَثَبَتَ أَنَّ عُمَر أَهَلَّ مِنْ إِيلِيَاء , وَكَانَ الْأَسْوَد وَعَلْقَمَة وَعَبْد الرَّحْمَن وَأَبُو إِسْحَاق يُحْرِمُونَ مِنْ بُيُوتهمْ , وَرَخَّصَ فِيهِ الشَّافِعِيّ , وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْت الْمَقْدِس بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَة كَانَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) فِي رِوَايَة ( غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ ) , وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ : " يَرْحَم اللَّه وَكِيعًا أَحْرَمَ مِنْ بَيْت الْمَقْدِس , يَعْنِي إِلَى مَكَّة " , فَفِي هَذَا إِجَازَة الْإِحْرَام قَبْل الْمِيقَات , وَكَرِهَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يُحْرِم أَحَد قَبْل الْمِيقَات , وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عِمْرَان بْن حُصَيْن إِحْرَامه مِنْ الْبَصْرَة , وَأَنْكَرَ عُثْمَان عَلَى اِبْن عُمَر إِحْرَامه قَبْل الْمِيقَات , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق : وَجْه الْعَمَل الْمَوَاقِيت , وَمِنْ الْحُجَّة لِهَذَا الْقَوْل أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ الْمَوَاقِيت وَعَيَّنَهَا , فَصَارَتْ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْحَجّ , وَلَمْ يُحْرِم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْته لِحَجَّتِهِ , بَلْ أَحْرَمَ مِنْ مِيقَاته الَّذِي وَقَّتَهُ لِأُمَّتِهِ , وَمَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْأَفْضَل إِنْ شَاءَ اللَّه , وَكَذَلِكَ صَنَعَ جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بَعْدهمْ , وَاحْتَجَّ أَهْل الْمَقَالَة الْأُولَى بِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَل بِقَوْلِ عَائِشَة : مَا خُيِّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن أَمْرَيْنِ إِلَّا اِخْتَارَ أَيْسَرهمَا , وَبِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَة مَعَ مَا ذُكِرَ عَنْ الصَّحَابَة فِي ذَلِكَ , وَقَدْ شَهِدُوا إِحْرَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّته مِنْ مِيقَاته , وَعَرَفُوا مَغْزَاهُ وَمُرَاده , وَعَلِمُوا أَنَّ إِحْرَامه مِنْ مِيقَاته كَانَ تَيْسِيرًا عَلَى أُمَّته .

الثَّانِيَة : رَوَى الْأَئِمَّة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة ذَا الْحُلَيْفَة , وَلِأَهْلِ الشَّام الْجُحْفَة , وَلِأَهْلِ نَجْد قَرْن , وَلِأَهْلِ الْيَمَن يَلَمْلَم , هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْر أَهْلهنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجّ وَالْعُمْرَة , وَمَنْ كَانَ دُون ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ , حَتَّى أَهْل مَكَّة مِنْ مَكَّة يُهِلُّونَ مِنْهَا , وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى الْقَوْل بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث وَاسْتِعْمَاله , لَا يُخَالِفُونَ شَيْئًا مِنْهُ , وَاخْتَلَفُوا فِي مِيقَات أَهْل الْعِرَاق وَفِيمَنْ وَقَّتَهُ , فَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِق الْعَقِيق . قَالَ التِّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيث حَسَن , وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاق ذَات عِرْق , وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاق ذَات عِرْق , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَمَنْ رَوَى أَنَّ عُمَر وَقَّتَهُ لِأَنَّ الْعِرَاق فِي وَقْته وَقَدْ اُفْتُتِحَتْ , فَغَفْلَة مِنْهُ , بَلْ وَقَّتَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَقَّتَ لِأَهْلِ الشَّام الْجُحْفَة , وَالشَّام كُلّهَا يَوْمئِذٍ دَار كُفْر كَمَا كَانَتْ الْعِرَاق وَغَيْرهَا يَوْمئِذٍ مِنْ الْبُلْدَان , وَلَمْ تُفْتَح الْعِرَاق وَلَا الشَّام إِلَّا عَلَى عَهْد عُمَر , وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن أَهْل السِّيَر . قَالَ أَبُو عُمَر : كُلّ عِرَاقِيّ أَوْ مَشْرِقِيّ أَحْرَمَ مِنْ ذَات عِرْق فَقَدْ أَحْرَمَ عِنْد الْجَمِيع مِنْ مِيقَاته , وَالْعَقِيق أَحْوَط عِنْدهمْ وَأَوْلَى مِنْ ذَات عِرْق , وَذَات عِرْق مِيقَاتهمْ أَيْضًا بِإِجْمَاعٍ .

الثَّالِثَة : أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْل أَنْ يَأْتِي الْمِيقَات أَنَّهُ مُحْرِم , وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَأَى الْإِحْرَام عِنْد الْمِيقَات أَفْضَل , كَرَاهِيَة أَنْ يُضَيِّق الْمَرْء عَلَى نَفْسه مَا قَدْ وَسَّعَ اللَّه عَلَيْهِ , وَأَنْ يَتَعَرَّض بِمَا لَا يُؤْمَن أَنْ يَحْدُث فِي إِحْرَامه , وَكُلّهمْ أَلْزَمَهُ الْإِحْرَام إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ زَادَ وَلَمْ يَنْقُص .

الرَّابِعَة : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب الْعُمْرَة ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا كَمَا أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجّ . قَالَ الصُّبَيّ بْن مَعْبَد : أَتَيْت عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقُلْت إِنِّي كُنْت نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْت , وَإِنِّي وَجَدْت الْحَجّ وَالْعُمْرَة مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ , وَإِنِّي أَهْلَلْت بِهِمَا جَمِيعًا , فَقَالَ لَهُ عُمَر هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيّك قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ قَوْله : " وَجَدْت الْحَجّ وَالْعُمْرَة مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ " , وَبِوُجُوبِهِمَا قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ : أَخْبَرَنِي نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ يَقُول : لَيْسَ مِنْ خَلْق اللَّه أَحَد إِلَّا عَلَيْهِ حَجَّة وَعُمْرَة وَاجِبَتَانِ مَنْ اِسْتَطَاعَ ذَلِكَ سَبِيلًا , فَمَنْ زَادَ بَعْدهَا شَيْئًا فَهُوَ خَيْر وَتَطَوُّع . قَالَ : وَلَمْ أَسْمَعهُ يَقُول فِي أَهْل مَكَّة شَيْئًا . قَالَ اِبْن جُرَيْج : وَأُخْبِرْت عَنْ عِكْرِمَة أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ : الْعُمْرَة وَاجِبَة كَوُجُوبِ الْحَجّ مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا , وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبهَا مِنْ التَّابِعِينَ عَطَاء وَطَاوُس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَالشَّعْبِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو بُرْدَة وَمَسْرُوق وَعَبْد اللَّه بْن شَدَّاد وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَابْن الْجَهْم مِنْ الْمَالِكِيِّينَ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : سَمِعْنَا أَنَّهَا وَاجِبَة , وَسُئِلَ زَيْد بْن ثَابِت عَنْ الْعُمْرَة قَبْل الْحَجّ , فَقَالَ : صَلَاتَانِ لَا يَضُرّك بِأَيِّهِمَا بَدَأْت , ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ , وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرّك بِأَيِّهِمَا بَدَأْت ) وَكَانَ مَالِك يَقُول : الْعُمْرَة سُنَّة وَلَا نَعْلَم أَحَدًا أَرْخَصَ فِي تَرْكهَا , وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي فِيمَا حَكَى اِبْن الْمُنْذِر , وَحَكَى بَعْض الْقَزْوِينِيِّينَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنَّهُ كَانَ يُوجِبهَا كَالْحَجِّ , وَبِأَنَّهَا سُنَّة ثَابِتَة , قَالَ اِبْن مَسْعُود وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم بْن زَكَرِيَّا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء أَبُو كُرَيْب حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحِيم بْن سُلَيْمَان عَنْ حَجَّاج عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : سَأَلَ رَجُل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحَجّ : أَوَاجِب هُوَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) فَسَأَلَهُ عَنْ الْعُمْرَة : أَوَاجِبَة هِيَ ؟ قَالَ : ( لَا وَأَنْ تَعْتَمِر خَيْر لَك ) . رَوَاهُ يَحْيَى بْن أَيُّوب عَنْ حَجَّاج وَابْن جُرَيْج عَنْ اِبْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر مَوْقُوفًا مِنْ قَوْل جَابِر فَهَذِهِ حَجَّة مَنْ لَمْ يُوجِبهَا مِنْ السُّنَّة قَالُوا : وَأَمَّا الْآيَة فَلَا حُجَّة فِيهَا لِلْوُجُوبِ ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه إِنَّمَا قَرَنَهَا فِي وُجُوب الْإِتْمَام لَا فِي الِابْتِدَاء , فَإِنَّهُ اِبْتَدَأَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَقَالَ " وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة " [ الْمُزَّمِّل : 20 ] , وَابْتَدَأَ بِإِيجَابِ الْحَجّ فَقَالَ : " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حَجّ الْبَيْت " [ آل عِمْرَان : 97 ] وَلَمَّا ذَكَرَ الْعُمْرَة أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا لَا بِابْتِدَائِهَا , فَلَوْ حَجَّ عَشْر حِجَج , أَوْ اِعْتَمَرَ عَشْر عُمَر لَزِمَ الْإِتْمَام فِي جَمِيعهَا , فَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَة لِإِلْزَامِ الْإِتْمَام لَا لِإِلْزَامِ الِابْتِدَاء , وَاَللَّه أَعْلَم , وَاحْتَجَّ الْمُخَالِف مِنْ جِهَة النَّظَر عَلَى وُجُوبهَا بِأَنْ قَالَ : عِمَاد الْحَجّ الْوُقُوف بِعَرَفَة , وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَة وُقُوف , فَلَوْ كَانَتْ كَسُنَّةِ الْحَجّ لَوَجَبَ أَنْ تُسَاوِيه فِي أَفْعَاله , كَمَا أَنَّ سُنَّة الصَّلَاة تُسَاوِي فَرِيضَتهَا فِي أَفْعَالهَا .

الْخَامِسَة : قَرَأَ الشَّعْبِيّ وَأَبُو حَيْوَة بِرَفْعِ التَّاء فِي " الْعُمْرَة " , وَهِيَ تَدُلّ عَلَى عَدَم الْوُجُوب , وَقَرَأَ الْجَمَاعَة " الْعُمْرَة " بِنَصْبِ التَّاء , وَهِيَ تَدُلّ عَلَى الْوُجُوب , وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود " وَأَتِمُّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَة إِلَى الْبَيْت لِلَّهِ " وَرُوِيَ عَنْهُ " وَأَقِيمُوا الْحَجّ وَالْعُمْرَة إِلَى الْبَيْت " , وَفَائِدَة التَّخْصِيص بِذِكْرِ اللَّه هُنَا أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ تَقْصِد الْحَجّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُر وَالتَّنَاضُل وَالتَّنَافُر وَقَضَاء الْحَاجَة وَحُضُور الْأَسْوَاق , وَكُلّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ طَاعَة , وَلَا حَظّ بِقَصْدٍ , وَلَا قُرْبَة بِمُعْتَقَدٍ , فَأَمَرَ اللَّه سُبْحَانه بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضه وَقَضَاء حَقّه , ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَة , عَلَى مَا يَأْتِي .

السَّادِسَة : لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِيمَنْ شَهِدَ مَنَاسِك الْحَجّ وَهُوَ لَا يَنْوِي حَجًّا وَلَا عُمْرَة وَالْقَلَم جَارٍ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنَّ شُهُودهَا بِغَيْرِ نِيَّة وَلَا قَصْد غَيْر مُغْنٍ عَنْهُ , وَأَنَّ النِّيَّة تَجِب فَرْضًا , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا } وَمِنْ تَمَام الْعِبَادَة حُضُور النِّيَّة , وَهِيَ فَرْض كَالْإِحْرَامِ عِنْد الْإِحْرَام , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَته : ( لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَة مَعًا ) عَلَى مَا يَأْتِي , وَذَكَرَ الرَّبِيع فِي كِتَاب الْبُوَيْطِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ قَالَ : وَلَوْ لَبَّى رَجُل وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَة لَمْ يَكُنْ حَاجًّا وَلَا مُعْتَمِرًا , وَلَوْ نَوَى وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى قَضَى الْمَنَاسِك كَانَ حَجّه تَامًّا , وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ) . قَالَ : وَمَنْ فَعَلَ مِثْل مَا فَعَلَ عَلِيّ حِين أَهَلَّ عَلَى إِهْلَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْزَتْهُ تِلْكَ النِّيَّة ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى نِيَّة لِغَيْرِهِ قَدْ تَقَدَّمَتْ , بِخِلَافِ الصَّلَاة .

السَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاهِق وَالْعَبْد يُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَحْتَلِم هَذَا وَيَعْتِق هَذَا قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَة , فَقَالَ مَالِك : لَا سَبِيل لَهُمَا إِلَى رَفْض الْإِحْرَام وَلَا لِأَحَدٍ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَة لِلَّهِ } وَمَنْ رَفَضَ إِحْرَامه فَلَا يَتِمّ حَجّه وَلَا عُمْرَته , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : جَائِز لِلصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَة أَنْ يُجَدِّد إِحْرَامًا , فَإِنْ تَمَادَى عَلَى حَجّه ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ حَجَّة الْإِسْلَام , وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْحَجّ يَجْزِي عَنْهُ , وَلَمْ يَكُنْ الْفَرْض لَازِمًا لَهُ حِين أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ لَزِمَهُ حِين بَلَغَ اِسْتَحَالَ أَنْ يُشْغَل عَنْ فَرْض قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِنَافِلَةٍ وَيُعَطَّل فَرْضه , كَمَنْ دَخَلَ فِي نَافِلَة وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْمَكْتُوبَة وَخَشِيَ فَوْتهَا قَطَعَ النَّافِلَة وَدَخَلَ فِي الْمَكْتُوبَة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَحْرَمَ الصَّبِيّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَة فَوَقَفَ بِهَا مُحْرِمًا أَجْزَأَهُ مِنْ حَجَّة الْإِسْلَام , وَكَذَلِكَ الْعَبْد . قَالَ : وَلَوْ عَتَقَ بِمُزْدَلِفَة وَبَلَغَ الصَّبِيّ بِهَا فَرَجَعَا إِلَى عَرَفَة بَعْد الْعِتْق وَالْبُلُوغ فَأَدْرَكَا الْوُقُوف بِهَا قَبْل طُلُوع الْفَجْر أَجْزَتْ عَنْهُمَا مِنْ حَجَّة الْإِسْلَام , وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا دَم , وَلَوْ اِحْتَاطَا فَأَهْرَاقَا دَمًا كَانَ أَحَبّ إِلَيَّ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنِ عِنْدِي , وَاحْتُجَّ فِي إِسْقَاط تَجْدِيد الْإِحْرَام بِحَدِيثِ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذْ قَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَقْبَلَ مِنْ الْيَمَن مُهِلًّا بِالْحَجِّ : ( بِمَ أَهْلَلْت ) قَالَ قُلْت : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ نَبِيّك , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنِّي أَهْلَلْت بِالْحَجِّ وَسُقْت الْهَدْي ) . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَته , وَلَا أَمَرَهُ بِتَجْدِيدِ نِيَّة لِإِفْرَادٍ أَوْ تَمَتُّع أَوْ قِرَان , وَقَالَ مَالِك فِي النَّصْرَانِيّ يُسْلِم عَشِيَّة عَرَفَة فَيُحْرِم بِالْحَجِّ : أَجْزَأَهُ مِنْ حَجَّة الْإِسْلَام , وَكَذَلِكَ الْعَبْد يَعْتِق , وَالصَّبِيّ يَبْلُغ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُحْرِمِينَ وَلَا دَم عَلَى وَاحِد مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا يَلْزَم الدَّم مَنْ أَرَادَ الْحَجّ وَلَمْ يُحْرِم مِنْ الْمِيقَات . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَلْزَم الْعَبْد الدَّم , وَهُوَ كَالْحُرِّ عِنْدهمْ فِي تَجَاوُز الْمِيقَات , بِخِلَافِ الصَّبِيّ وَالنَّصْرَانِيّ فَإِنَّهُمَا لَا يَلْزَمهُمَا الْإِحْرَام لِدُخُولِ مَكَّة لِسُقُوطِ الْفَرْض عَنْهُمَا , فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِر وَبَلَغَ الصَّبِيّ كَانَ حُكْمهمَا حُكْم الْمَكِّيّ , وَلَا شَيْء عَلَيْهِمَا فِي تَرْك الْمِيقَات .

فِيهَا إِحْدَى عَشْرَة مَسْأَلَة

الْأُولَى : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ آيَة مُشْكِلَة , عُضْلَة مِنْ الْعُضَل .

قُلْت : لَا إِشْكَال فِيهَا , وَنَحْنُ نُبَيِّنهَا غَايَة الْبَيَان فَنَقُول : الْإِحْصَار هُوَ الْمَنْع مِنْ الْوَجْه الَّذِي تَقْصِدهُ بِالْعَوَائِقِ جُمْلَة , " فَجُمْلَة " أَيْ بِأَيِّ عُذْر كَانَ , كَانَ حَصْر عَدُوّ أَوْ جَوْر سُلْطَان أَوْ مَرَض أَوْ مَا كَانَ , وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَعْيِين الْمَانِع هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّل : قَالَ عَلْقَمَة وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَغَيْرهمَا : هُوَ الْمَرَض لَا الْعَدُوّ . وَقِيلَ : الْعَدُوّ خَاصَّة , قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَأَنْسَ وَالشَّافِعِيّ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ اِخْتِيَار عُلَمَائِنَا , وَرَأَى أَكْثَر أَهْل اللُّغَة وَمُحَصِّلِيهَا عَلَى أَنَّ " أُحْصِرَ " عُرِّضَ لِلْمَرَضِ , و " حُصِرَ " نَزَلَ بِهِ الْعَدُوّ .

قُلْت : مَا حَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ مِنْ أَنَّهُ اِخْتِيَار عُلَمَائِنَا فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا أَشْهَب وَحْده , وَخَالَفَهُ سَائِر أَصْحَاب مَالِك فِي هَذَا وَقَالُوا : الْإِحْصَار إِنَّمَا هُوَ الْمَرَض , وَأَمَّا الْعَدُوّ فَإِنَّمَا يُقَال فِيهِ : حَصِرَ حَصْرًا فَهُوَ مَحْصُور , قَالَهُ الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى . وَحَكَى أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج أَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْد جَمِيع أَهْل اللُّغَة , عَلَى مَا يَأْتِي , وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْكِسَائِيّ : " أُحْصِرَ " بِالْمَرَضِ , و " حُصِرَ " بِالْعَدُوِّ , وَفِي الْمُجْمَل لِابْنِ فَارِس عَلَى الْعَكْس , فَحُصِرَ بِالْمَرَضِ , وَأُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ , وَقَالَتْ طَائِفَة : يُقَال أُحْصِرَ فِيهِمَا جَمِيعًا مِنْ الرُّبَاعِيّ , حَكَاهُ أَبُو عُمَر .

قُلْت : وَهُوَ يُشْبِه قَوْل مَالِك حَيْثُ تَرْجَمَ فِي مُوَطَّئِهِ " أُحْصِرَ " فِيهِمَا , فَتَأَمَّلْهُ , وَقَالَ الْفَرَّاء : هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد فِي الْمَرَض وَالْعَدُوّ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : وَادَّعَتْ الشَّافِعِيَّة أَنَّ الْإِحْصَار يُسْتَعْمَل فِي الْعَدُوّ , فَأَمَّا الْمَرَض فَيُسْتَعْمَل فِيهِ الْحَصْر , وَالصَّحِيح أَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِيهِمَا .

قُلْت : مَا اِدَّعَتْهُ الشَّافِعِيَّة قَدْ نَصَّ الْخَلِيل بْن أَحْمَد وَغَيْره عَلَى خِلَافه . قَالَ الْخَلِيل : حَصَرْت الرَّجُل حَصْرًا مَنَعْته وَحَبَسْته , وَأُحْصِرَ الْحَاجّ عَنْ بُلُوغ الْمَنَاسِك مِنْ مَرَض أَوْ نَحْوه , هَكَذَا قَالَ , جُعِلَ الْأَوَّل ثُلَاثِيًّا مِنْ حَصَرْت , وَالثَّانِي فِي الْمَرَض رُبَاعِيًّا , وَعَلَى هَذَا خَرَجَ قَوْل اِبْن عَبَّاس : لَا حَصْر إِلَّا حَصْر الْعَدُوّ , وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : أَحْصَرَهُ الْمَرَض إِذَا مَنَعَهُ مِنْ السَّفَر أَوْ مِنْ حَاجَة يُرِيدهَا , وَقَدْ حَصَرَهُ الْعَدُوّ يَحْصُرُونَهُ إِذَا ضَيَّقُوا عَلَيْهِ فَأَطَافُوا بِهِ , وَحَاصَرُوهُ مُحَاصَرَة وَحِصَارًا . قَالَ الْأَخْفَش : حَصَرْت الرَّجُل فَهُوَ مَحْصُور , أَيْ حَبَسْته . قَالَ : وَأَحْصَرَنِي بِوَلِيٍّ , وَأَحْصَرَنِي مَرَضِي , أَيْ جَعَلَنِي أَحْصُر نَفْسِي . قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ : حَصَرَنِي الشَّيْء وَأَحْصَرَنِي , أَيْ حَبَسَنِي .

قُلْت : فَالْأَكْثَر مِنْ أَهْل اللُّغَة عَلَى أَنَّ " حُصِرَ " فِي الْعَدُوّ , و " أُحْصِرَ " فِي الْمَرَض , وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيل اللَّه " [ الْبَقَرَة : 273 ] , وَقَالَ اِبْن مَيَّادَة : وَمَا هَجْر لَيْلَى أَنْ تَكُون تَبَاعَدَتْ عَلَيْك وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْك شُغُول وَقَالَ الزَّجَّاج : الْإِحْصَار عِنْد جَمِيع أَهْل اللُّغَة إِنَّمَا هُوَ مِنْ الْمَرَض , فَأَمَّا مِنْ الْعَدُوّ فَلَا يُقَال فِيهِ إِلَّا حُصِرَ , يُقَال : حُصِرَ حَصْرًا , وَفِي الْأَوَّل أُحْصِرَ إِحْصَارًا , فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . وَأَصْل الْكَلِمَة مِنْ الْحَبْس , وَمِنْهُ الْحَصِير لِلَّذِي يَحْبِس نَفْسه عَنْ الْبَوْح بِسِرِّهِ , وَالْحَصِير : الْمَلِك لِأَنَّهُ كَالْمَحْبُوسِ مِنْ وَرَاء الْحِجَاب . وَالْحَصِير الَّذِي يُجْلَس عَلَيْهِ لِانْضِمَامِ بَعْض طَاقَات الْبَرْدِيّ إِلَى بَعْض , كَحَبْسِ الشَّيْء مَعَ غَيْره .

الثَّانِيَة : وَلَمَّا كَانَ أَصْل الْحَصْر الْحَبْس قَالَتْ الْحَنَفِيَّة : الْمُحْصَر مَنْ يَصِير مَمْنُوعًا مِنْ مَكَّة بَعْد الْإِحْرَام بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوّ أَوْ غَيْر ذَلِكَ , وَاحْتَجُّوا بِمُقْتَضَى الْإِحْصَار مُطْلَقًا , قَالُوا : وَذِكْر الْأَمْن فِي آخِر الْآيَة لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُون مِنْ الْمَرَض , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الزُّكَام أَمَان مِنْ الْجُذَام ) وَقَالَ : ( مَنْ سَبَقَ الْعَاطِس بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنْ الشَّوْص وَاللَّوْص وَالْعِلَّوْص ) . الشَّوْص : وَجَع السِّنّ , وَاللَّوْص : وَجَع الْأُذُن . وَالْعِلَّوْص : وَجَع الْبَطْن . أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه . قَالُوا : وَإِنَّمَا جَعَلْنَا حَبْس الْعَدُوّ حِصَارًا قِيَاسًا عَلَى الْمَرَض إِذَا كَانَ فِي حُكْمه , لَا بِدَلَالَةِ الظَّاهِر , وَقَالَ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر وَابْن عَبَّاس وَالشَّافِعِيّ وَأَهْل الْمَدِينَة : الْمُرَاد بِالْآيَةِ حَصْر الْعَدُوّ ; لِأَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي سَنَة سِتّ فِي عُمْرَة الْحُدَيْبِيَة حِين صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَكَّة . قَالَ اِبْن عُمَر : خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّار قُرَيْش دُون الْبَيْت فَنَحَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيه وَحَلَقَ رَأْسه , وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا أَمِنْتُمْ " , وَلَمْ يَقُلْ : بَرَأْتُمْ , وَاَللَّه أَعْلَم .

الثَّالِثَة : جُمْهُور النَّاس عَلَى أَنَّ الْمُحْصَر بِعَدُوٍّ يَحِلّ حَيْثُ أُحْصِرَ وَيَنْحَر هَدْيه إِنْ كَانَ ثَمَّ هَدْي وَيَحْلِق رَأْسه , وَقَالَ قَتَادَة وَإِبْرَاهِيم : يَبْعَث بِهَدْيِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ , فَإِذَا بَلَغَ مَحِلّه صَارَ حَلَالًا , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : دَم الْإِحْصَار لَا يَتَوَقَّف عَلَى يَوْم النَّحْر , بَلْ يَجُوز ذَبْحه قَبْل يَوْم النَّحْر إِذَا بَلَغَ مَحِلّه , وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا : يَتَوَقَّف عَلَى يَوْم النَّحْر , وَإِنْ نَحَرَ قَبْله لَمْ يُجْزِهِ , وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة زِيَادَة بَيَان .

الرَّابِعَة : الْأَكْثَر مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ كَافِر أَوْ مُسْلِم أَوْ سُلْطَان حَبَسَهُ فِي سِجْن أَنَّ عَلَيْهِ الْهَدْي , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ , وَبِهِ قَالَ أَشْهَب , وَكَانَ اِبْن الْقَاسِم يَقُول : لَيْسَ عَلَى مَنْ صُدَّ عَنْ الْبَيْت فِي حَجّ أَوْ عُمْرَة هَدْي إِلَّا أَنْ يَكُون سَاقَهُ مَعَهُ , وَهُوَ قَوْل مَالِك , وَمِنْ حُجَّتهمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَحَرَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة هَدْيًا قَدْ كَانَ أَشْعَرَهُ وَقَلَّدَهُ حِين أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ , فَلَمَّا لَمْ يَبْلُغ ذَلِكَ الْهَدْي مَحِلّه لِلصَّدِّ أَمَرَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ هَدْيًا وَجَبَ بِالتَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَار , وَخَرَجَ لِلَّهِ فَلَمْ يَجُزْ الرُّجُوع فِيهِ , وَلَمْ يَنْحَرهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْل الصَّدّ , فَلِذَلِكَ لَا يَجِب عَلَى مَنْ صُدَّ عَنْ الْبَيْت هَدْي , وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلّ يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَلَمْ يَحْلِق رَأْسه حَتَّى نَحَرَ الْهَدْي , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْط إِحْلَال الْمُحْصَر ذَبْح هَدْي إِنْ كَانَ عِنْده , وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَمَتَى وَجَدَهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ لَا يَحِلّ إِلَّا بِهِ , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله : " فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي " , وَقَدْ قِيلَ : يَحِلّ وَيُهْدِي إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ , وَالْقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ , وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَجِد هَدْيًا يَشْتَرِيه , قَوْلَانِ .

الْخَامِسَة : قَالَ عَطَاء وَغَيْره : الْمُحْصَر بِمَرَضٍ كَالْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا : مَنْ أَحْصَرَهُ الْمَرَض فَلَا يُحِلّهُ إِلَّا الطَّوَاف بِالْبَيْتِ وَإِنْ أَقَامَ سِنِينَ حَتَّى يُفِيق , وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْطَأَ الْعَدَد أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْهِلَال . قَالَ مَالِك : وَأَهْل مَكَّة فِي ذَلِكَ كَأَهْلِ الْآفَاق . قَالَ : وَإِنْ اِحْتَاجَ الْمَرِيض إِلَى دَوَاء تَدَاوَى بِهِ وَافْتَدَى وَبَقِيَ عَلَى إِحْرَامه لَا يَحِلّ مِنْ شَيْء حَتَّى يَبْرَأ مِنْ مَرَضه , فَإِذَا بَرِئَ مِنْ مَرَضه مَضَى إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ سَبْعًا , وَسَعَى بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة , وَحَلَّ مِنْ حَجَّته أَوْ عُمْرَته , وَهَذَا كُلّه قَوْل الشَّافِعِيّ , وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَابْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمُحْصَر بِمَرَضٍ أَوْ خَطَأ الْعَدَد : إِنَّهُ لَا يُحِلّهُ إِلَّا الطَّوَاف بِالْبَيْتِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَصَابَهُ كَسْر أَوْ بَطْن مُنْخَرِق , وَحُكْم مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَاله عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه أَنْ يَكُون بِالْخِيَارِ إِذَا خَافَ فَوْت الْوُقُوف بِعَرَفَة لِمَرَضِهِ , إِنْ شَاءَ مَضَى إِذَا أَفَاقَ إِلَى الْبَيْت فَطَافَ وَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ , وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى إِحْرَامه إِلَى قَابِل , وَإِنْ أَقَامَ عَلَى إِحْرَامه وَلَمْ يُوَاقِع شَيْئًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ الْحَاجّ فَلَا هَدْي عَلَيْهِ , وَمِنْ حُجَّته فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاع مِنْ الصَّحَابَة عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْطَأَ الْعَدَد أَنَّ هَذَا حُكْمه لَا يُحِلّهُ إِلَّا الطَّوَاف بِالْبَيْتِ . وَقَالَ فِي الْمَكِّيّ إِذَا بَقِيَ مَحْصُورًا حَتَّى فَرَغَ النَّاس مِنْ حَجّهمْ : فَإِنَّهُ يَخْرُج إِلَى الْحِلّ فَيُلَبِّي وَيَفْعَل مَا يَفْعَلهُ الْمُعْتَمِر وَيَحِلّ , فَإِذَا كَانَ قَابِل حَجَّ وَأَهْدَى . وَقَالَ اِبْن شِهَاب الزُّهْرِيّ فِي إِحْصَار مَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّة مِنْ أَهْلهَا : لَا بُدّ لَهُ مِنْ أَنْ يَقِف بِعَرَفَة وَإِنْ نُعِشَ نَعْشًا , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن بُكَيْر الْمَالِكِيّ فَقَالَ : قَوْل مَالِك فِي الْمُحْصَر الْمَكِّيّ أَنَّ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْآفَاق مِنْ إِعَادَة الْحَجّ وَالْهَدْي خِلَاف ظَاهِر الْكِتَاب , لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْله حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام " . قَالَ : وَالْقَوْل عِنْدِي فِي هَذَا قَوْل الزُّهْرِيّ فِي أَنَّ الْإِبَاحَة مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْله حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَنْ يُقِيم لِبُعْدِ الْمَسَافَة يَتَعَالَج وَإِنْ فَاتَهُ الْحَجّ , فَأَمَّا مَنْ كَانَ بَيْنه وَبَيْن الْمَسْجِد الْحَرَام مَا لَا تُقْصَر فِي مِثْله الصَّلَاة فَإِنَّهُ يَحْضُر الْمَشَاهِد وَإِنْ نُعِشَ نَعْشًا لِقُرْبِ الْمَسَافَة بِالْبَيْتِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : كُلّ مَنْ مَنَعَ مِنْ الْوُصُول إِلَى الْبَيْت بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَض أَوْ ذَهَاب نَفَقَة أَوْ إِضْلَال رَاحِلَة أَوْ لَدْغ هَامَة فَإِنَّهُ يَقِف مَكَانه عَلَى إِحْرَامه وَيَبْعَث بِهَدْيِهِ أَوْ بِثَمَنِ هَدْيه , فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامه . كَذَلِكَ قَالَ عُرْوَة وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَمُجَاهِد وَأَهْل الْعِرَاق , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي " الْآيَة .

السَّادِسَة : قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : لَا يَنْفَع الْمُحْرِم الِاشْتِرَاط فِي الْحَجّ إِذَا خَافَ الْحَصْر بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوّ , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ , وَالِاشْتِرَاط أَنْ يَقُول إِذَا أَهَلَّ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , وَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي مِنْ الْأَرْض , وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْر : لَا بَأْس أَنْ يَشْتَرِط وَلَهُ شَرْطه , وَقَالَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَحُجَّتهمْ حَدِيث ضُبَاعَة بِنْت الزُّبَيْر بْن عَبْد الْمُطَّلِب أَنَّهَا أَتَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أَرَدْت الْحَجّ , أَأَشْتَرِطُ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) . قَالَتْ : فَكَيْف أَقُول ؟ قَالَ : ( قُولِي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْض حَيْثُ حَبَسْتنِي ) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرهمَا . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَوْ ثَبَتَ حَدِيث ضُبَاعَة لَمْ أَعُدّهُ , وَكَانَ مَحِلّه حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّه .

قُلْت : قَدْ صَحَّحَهُ غَيْر وَاحِد , مِنْهُمْ أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ وَابْن الْمُنْذِر , قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِضُبَاعَة بِنْت الزُّبَيْر : ( حُجِّي وَاشْتَرِطِي ) , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ إِذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ , ثُمَّ وَقَفَ عَنْهُ بِمِصْر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول , وَذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا اِبْن جُرَيْج قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْر أَنَّ طَاوُسًا وَعِكْرِمَة أَخْبَرَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : جَاءَتْ ضُبَاعَة بِنْت الزُّبَيْر إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنِّي اِمْرَأَة ثَقِيلَة وَإِنِّي أُرِيد الْحَجّ , فَكَيْف تَأْمُرنِي أَنْ أُهِلّ ؟ قَالَ : ( أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي ) . قَالَ : فَأَدْرَكَتْ , وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح .

السَّابِعَة : وَاخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاء أَيْضًا فِي وُجُوب الْقَضَاء عَلَى مَنْ أُحْصِرَ , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ بِحَجِّهِ وَلَا عُمْرَته , إِلَّا أَنْ يَكُون ضَرُورَة لَمْ يَكُنْ حَجّ , فَيَكُون عَلَيْهِ الْحَجّ عَلَى حَسَب وُجُوبه عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ الْعُمْرَة عِنْد مَنْ أَوْجَبَهَا فَرْضًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الْمُحْصَر بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوّ عَلَيْهِ حَجَّة وَعُمْرَة , وَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ . قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : إِنْ كَانَ مُهِلًّا بِحَجٍّ قَضَى حَجَّة وَعُمْرَة ; لِأَنَّ إِحْرَامه بِالْحَجِّ صَارَ عُمْرَة . وَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَضَى حَجَّة وَعُمْرَتَيْنِ , وَإِنْ كَانَ مُهِلًّا بِعُمْرَةٍ قَضَى عُمْرَة , وَسَوَاء عِنْدهمْ الْمُحْصَر بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوّ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مَيْمُون اِبْن مَهْرَان قَالَ : خَرَجْت مُعْتَمِرًا عَام حَاصَرَ أَهْل الشَّام اِبْن الزُّبَيْر بِمَكَّة وَبَعَثَ مَعِي رِجَال مِنْ قَوْمِي بِهَدْيٍ , فَلَمَّا اِنْتَهَيْت إِلَى أَهْل الشَّام مَنَعُونِي أَنْ أَدْخُل الْحَرَم , فَنَحَرْت الْهَدْي مَكَانِي ثُمَّ حَلَلْت ثُمَّ رَجَعْت , فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَام الْمُقْبِل خَرَجْت لِأَقْضِيَ عُمْرَتِي , فَأَتَيْت اِبْن عَبَّاس فَسَأَلْته , فَقَالَ : أَبْدِلْ الْهَدْي , فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابه أَنْ يُبْدِلُوا الْهَدْي الَّذِي نَحَرُوا عَام الْحُدَيْبِيَة فِي عُمْرَة الْقَضَاء , وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّة أُخْرَى أَوْ عُمْرَة أُخْرَى ) . رَوَاهُ عِكْرِمَة عَنْ الْحَجَّاج بْن عَمْرو الْأَنْصَارِيّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ عَرَجَ أَوْ كُسِرَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّة أُخْرَى ) . قَالُوا : فَاعْتِمَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه فِي الْعَام الْمُقْبِل مِنْ عَام الْحُدَيْبِيَة إِنَّمَا كَانَ قَضَاء لِتِلْكَ الْعُمْرَة , قَالُوا : وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهَا عُمْرَة الْقَضَاء . وَاحْتَجَّ مَالِك بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُر أَحَدًا مِنْ أَصْحَابه وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ , وَلَا حُفِظَ ذَلِكَ عَنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه , وَلَا قَالَ فِي الْعَام الْمُقْبِل : إِنَّ عُمْرَتِي هَذِهِ قَضَاء عَنْ الْعُمْرَة الَّتِي حُصِرْت فِيهَا , وَلَمْ يُنْقَل ذَلِكَ عَنْهُ . قَالُوا : وَعُمْرَة الْقَضَاء وَعُمْرَة الْقَضِيَّة سَوَاء , وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاضَى قُرَيْشًا وَصَالَحَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَام عَلَى الرُّجُوع عَنْ الْبَيْت وَقَصْده مِنْ قَابِل , فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ عُمْرَة الْقَضِيَّة .

الثَّامِنَة : لَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ الْفُقَهَاء فِيمَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ أَنَّهُ يَحِلّ مَكَانه بِنَفْسِ الْكَسْر غَيْر أَبِي ثَوْر عَلَى ظَاهِر حَدِيث الْحَجَّاج بْن عَمْرو , وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ دَاوُد بْن عَلِيّ وَأَصْحَابه , وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ يَحِلّ مَنْ كُسِرَ , وَلَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ يَحِلّ , فَقَالَ مَالِك وَغَيْره : يَحِلّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَا يَحِلّهُ غَيْره , وَمَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ يَقُول : يَحِلّ بِالنِّيَّةِ وَفِعْل مَا يَتَحَلَّل بِهِ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبه .

التَّاسِعَة : لَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْأَمْصَار أَنَّ الْإِحْصَار عَامّ فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة , وَقَالَ اِبْن سِيرِينَ : لَا إِحْصَار فِي الْعُمْرَة ; لِأَنَّهَا غَيْر مُؤَقَّتَة , وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْر مُؤَقَّتَة لَكِنْ فِي الصَّبْر إِلَى زَوَال الْعُذْر ضَرَر , وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَة , وَحُكِيَ عَنْ اِبْن الزُّبَيْر أَنَّ مَنْ أَحْصَرَهُ الْعَدُوّ أَوْ الْمَرَض فَلَا يَحِلّهُ إِلَّا الطَّوَاف بِالْبَيْتِ , وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِف لِنَصِّ الْخَبَر عَام الْحُدَيْبِيَة .

الْعَاشِرَة : الْحَاصِر لَا يَخْلُو أَنْ يَكُون كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا , فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَجُزْ قِتَاله وَلَوْ وَثِقَ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِ , وَيَتَحَلَّل بِمَوْضِعِهِ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام " كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ سَأَلَ الْكَافِر جُعْلًا لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ وَهْن فِي الْإِسْلَام , فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَمْ يَجُزْ قِتَاله بِحَالٍ , وَوَجَبَ التَّحَلُّل , فَإِنْ طَلَبَ شَيْئًا وَيَتَخَلَّى عَنْ الطَّرِيق جَازَ دَفْعه , وَلَمْ يَجُزْ الْقِتَال لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَاف الْمُهَج , وَذَلِكَ لَا يَلْزَم فِي أَدَاء الْعِبَادَات , فَإِنَّ الدِّين أَسْمَح . وَأَمَّا بَذْل الْجُعْل فَلِمَا فِيهِ مِنْ دَفْع أَعْظَم الضَّرَرَيْنِ بِأَهْوَنِهِمَا ; وَلِأَنَّ الْحَجّ مِمَّا يُنْفَق فِيهِ الْمَال , فَيُعَدّ هَذَا مِنْ النَّفَقَة .

الْحَادِيَة عَشْرَة : وَالْعَدُوّ الْحَاصِر لَا يَخْلُو أَنْ يُتَيَقَّن بَقَاؤُهُ وَاسْتِيطَانه لِقُوَّتِهِ وَكَثْرَته أَوَّلًا , فَإِنْ كَانَ الْأَوَّل حَلَّ الْمُحْصَر مَكَانه مِنْ سَاعَته , وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مِمَّا يُرْجَى زَوَاله فَهَذَا لَا يَكُون مَحْصُورًا حَتَّى يَبْقَى بَيْنه وَبَيْن الْحَجّ مِقْدَار مَا يُعْلَم أَنَّهُ إِنْ زَالَ الْعَدُوّ لَا يُدْرِك فِيهِ الْحَجّ , فَيَحِلّ حِينَئِذٍ عِنْد اِبْن الْقَاسِم وَابْن الْمَاجِشُونِ , وَقَالَ أَشْهَب : لَا يَحِلّ مَنْ حُصِرَ عَنْ الْحَجّ بِعَدُوٍّ حَتَّى يَوْم النَّحْر , وَلَا يَقْطَع التَّلْبِيَة حَتَّى يَرُوح النَّاس إِلَى عَرَفَة , وَجْه قَوْل اِبْن الْقَاسِم : أَنَّ هَذَا وَقْت يَأْس مِنْ إِكْمَال حَجّه لِعَدُوٍّ غَالِب , فَجَازَ لَهُ أَنْ يَحِلّ فِيهِ , أَصْل ذَلِكَ يَوْم عَرَفَة , وَوَجْه قَوْل أَشْهَب أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِي مِنْ حُكْم الْإِحْرَام بِمَا يُمْكِنهُ وَالْتِزَامه لَهُ إِلَى يَوْم النَّحْر , الْوَقْت الَّذِي يَجُوز لِلْحَاجِّ التَّحَلُّل بِمَا يُمْكِنهُ الْإِتْيَان بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .

" مَا " فِي مَوْضِع رَفْع , أَيْ فَالْوَاجِب أَوْ فَعَلَيْكُمْ مَا اِسْتَيْسَرَ , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ فَانْحَرُوا أَوْ فَاهْدُوا . و " مَا اِسْتَيْسَرَ " عِنْد جُمْهُور أَهْل الْعِلْم شَاة , وَقَالَ اِبْن عُمَر وَعَائِشَة وَابْن الزُّبَيْر : " مَا اِسْتَيْسَرَ " جَمَل دُون جَمَل , وَبَقَرَة دُون بَقَرَة لَا يَكُون مِنْ غَيْرهمَا , وَقَالَ الْحَسَن : أَعْلَى الْهَدْي بَدَنَة , وَأَوْسَطه بَقَرَة , وَأَخَسّه شَاة , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك مِنْ أَنَّ الْمُحْصَر بِعَدُوٍّ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْقَضَاء , لِقَوْلِهِ : " فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي " وَلَمْ يَذْكُر قَضَاء , وَاَللَّه أَعْلَم .

"مِنْ الْهَدْي " الْهَدْي وَالْهَدِيّ لُغَتَانِ . وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَى بَيْت اللَّه مِنْ بَدَنَة أَوْ غَيْرهَا , وَالْعَرَب تَقُول : كَمْ هَدِيّ بَنِي فُلَان , أَيْ كَمْ إِبِلهمْ . وَقَالَ أَبُو بَكْر : سُمِّيَتْ هَدْيًا لِأَنَّ مِنْهَا مَا يُهْدَى إِلَى بَيْت اللَّه , فَسُمِّيَتْ بِمَا يَلْحَق بَعْضهَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَات مِنْ الْعَذَاب " [ النِّسَاء : 25 ] . أَرَادَ فَإِنْ زَنَى الْإِمَاء فَعَلَى الْأَمَة مِنْهُنَّ إِذَا زَنَتْ نِصْف مَا عَلَى الْحُرَّة الْبِكْر إِذَا زَنَتْ , فَذَكَرَ اللَّه الْمُحْصَنَات وَهُوَ يُرِيد الْأَبْكَار ; لِأَنَّ الْإِحْصَان يَكُون فِي أَكْثَرهنَّ فَسُمِّينَ بِأَمْرٍ يُوجَد فِي بَعْضهنَّ , وَالْمُحْصَنَة مِنْ الْحَرَائِر هِيَ ذَات الزَّوْج , يَجِب عَلَيْهَا الرَّجْم إِذَا زَنَتْ , وَالرَّجْم لَا يَتَبَعَّض , فَيَكُون عَلَى الْأَمَة نِصْفه , فَانْكَشَفَ بِهَذَا أَنَّ الْمُحْصَنَات يُرَاد بِهِنَّ الْأَبْكَار لَا أُولَات الْأَزْوَاج , وَقَالَ الْفَرَّاء : أَهْل الْحِجَاز وَبَنُو أَسَد يُخَفِّفُونَ الْهَدْي , قَالَ : وَتَمِيم وَسُفْلَى قَيْس يُثَقِّلُونَ فَيَقُولُونَ : هَدِيّ . قَالَ الشَّاعِر : حَلَفْت بِرَبِّ مَكَّة وَالْمُصَلَّى وَأَعْنَاق الْهَدْي مُقَلَّدَات قَالَ : وَوَاحِد الْهَدْي هَدْيَة , وَيُقَال فِي جَمْع الْهَدْي : أَهْدَاء .

فِيهَا سَبْع مَسَائِل

الْأُولَى : الْخِطَاب لِجَمِيعِ الْأُمَّة مُحْصَر وَمُخَلًّى , وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ يَرَاهَا لِلْمُحْصَرِينَ خَاصَّة , أَيْ لَا تَتَحَلَّلُوا مِنْ الْإِحْرَام حَتَّى يُنْحَر الْهَدْي . وَالْمَحِلّ : الْمَوْضِع الَّذِي يَحِلّ فِيهِ ذَبْحه , فَالْمَحِلّ فِي حَصْر الْعَدُوّ عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ : مَوْضِع الْحَصْر , اِقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَن الْحُدَيْبِيَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالْهَدْي مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغ مَحِلّه " [ الْفَتْح : 25 ] قِيلَ : مَحْبُوسًا إِذَا كَانَ مُحْصَرًا مَمْنُوعًا مِنْ الْوُصُول إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق , وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة مَحِلّ الْهَدْي فِي الْإِحْصَار : الْحَرَم , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " ثُمَّ مَحِلّهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق " [ الْحَجّ : 33 ] , وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُخَاطَب بِهِ الْآمِن الَّذِي يَجِد الْوُصُول إِلَى الْبَيْت , فَأَمَّا الْمُحْصَر فَخَارِج مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " ثُمَّ مَحِلّهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق " بِدَلِيلِ نَحْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه هَدْيهمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْحَرَم , وَاحْتَجُّوا مِنْ السُّنَّة بِحَدِيثِ نَاجِيَة بْن جُنْدُب صَاحِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِبْعَثْ مَعِي الْهَدْي فَأَنْحَرهُ بِالْحَرَمِ . قَالَ : ( فَكَيْف تَصْنَع بِهِ ) قَالَ : أَخْرَجَهُ فِي الْأَوْدِيَة لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ , فَأَنْطَلِق بِهِ حَتَّى أَنْحَرهُ فِي الْحَرَم , وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا لَا يَصِحّ , وَإِنَّمَا يَنْحَر حَيْثُ حَلَّ , اِقْتِدَاء بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ الْأَئِمَّة ; وَلِأَنَّ الْهَدْي تَابِع لِلْمُهْدِي , وَالْمُهْدِي حَلَّ بِمَوْضِعِهِ , فَالْمُهْدَى أَيْضًا يَحِلّ مَعَهُ .

الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُحْصَر هَلْ لَهُ أَنْ يَحْلِق أَوْ يَحِلّ بِشَيْءٍ مِنْ الْحِلّ قَبْل أَنْ يَنْحَر مَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي , فَقَالَ مَالِك : السُّنَّة الثَّابِتَة الَّتِي لَا اِخْتِلَاف فِيهَا عِنْدنَا أَنَّهُ لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذ مِنْ شَعْره حَتَّى يَنْحَر هَدْيه , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسكُمْ حَتَّى يَبْلُغ الْهَدْي مَحِلّه " , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : إِذَا حَلَّ الْمُحْصَر قَبْل أَنْ يَنْحَر هَدْيه فَعَلَيْهِ دَم , وَيَعُود حَرَمًا كَمَا كَانَ حَتَّى يَنْحَر هَدْيه , وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا قَبْل أَنْ يَنْحَر الْهَدْي فَعَلَيْهِ الْجَزَاء , وَسَوَاء فِي ذَلِكَ الْمُوسِر وَالْمُعْسِر لَا يَحِلّ أَبَدًا حَتَّى يَنْحَر أَوْ يُنْحَر عَنْهُ . قَالُوا : وَأَقَلّ مَا يُهْدِيه شَاة , لَا عَمْيَاء وَلَا مَقْطُوعَة الْأُذُنَيْنِ , وَلَيْسَ هَذَا عِنْدهمْ مَوْضِع صِيَام . قَالَ أَبُو عُمَر : قَوْل الْكُوفِيِّينَ فِيهِ ضَعْف وَتَنَاقُض ; لِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ لِمُحْصَرٍ بِعَدُوٍّ وَلَا مَرَض أَنْ يَحِلّ حَتَّى يَنْحَر هَدْيه فِي الْحَرَم . وَإِذَا أَجَازُوا لِلْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَنْ يَبْعَث بِهَدْيٍ وَيُوَاعِد حَامِله يَوْمًا يَنْحَرهُ فِيهِ فَيَحِلّ وَيَحْلِق فَقَدْ أَجَازُوا لَهُ أَنْ يَحِلّ عَلَى غَيْر يَقِين مِنْ نَحْر الْهَدْي وَبُلُوغه , وَحَمَلُوهُ عَلَى الْإِحْلَال بِالظُّنُونِ , وَالْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لِمَنْ لَزِمَهُ شَيْء مِنْ فَرَائِضه أَنْ يَخْرُج مِنْهُ بِالظَّنِّ , وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ظَنّ قَوْلهمْ : لَوْ عَطِبَ ذَلِكَ الْهَدْي أَوْ ضَلَّ أَوْ سُرِقَ فَحَلَّ مُرْسِله وَأَصَابَ النِّسَاء وَصَادَ أَنَّهُ يَعُود حَرَامًا وَعَلَيْهِ جَزَاء مَا صَادَ , فَأَبَاحُوا لَهُ فَسَاد الْحَجّ وَأَلْزَمُوهُ مَا يَلْزَم مَنْ لَمْ يَحِلّ مِنْ إِحْرَامه , وَهَذَا مَا لَا خَفَاء فِيهِ مِنْ التَّنَاقُض وَضَعْف الْمَذَاهِب , وَإِنَّمَا بَنَوْا مَذْهَبهمْ هَذَا كُلّه عَلَى قَوْل اِبْن مَسْعُود وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي خِلَاف غَيْره لَهُ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْمُحْصَر إِذَا أَعْسَرَ بِالْهَدْيِ : فِيهِ قَوْلَانِ : لَا يَحِلّ أَبَدًا إِلَّا بِهَدْيٍ , وَالْقَوْل الْآخَر : أَنَّهُ مَأْمُور أَنْ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ , فَإِنْ لَمْ يَقْدِر عَلَى شَيْء كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِي بِهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : يَحِلّ مَكَانه وَيَذْبَح إِذَا قَدَرَ , فَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَكُون الذَّبْح بِمَكَّة لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَذْبَح إِلَّا بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَقْدِر ذَبَحَ حَيْثُ قَدَرَ . قَالَ وَيُقَال : لَا يُجْزِيه إِلَّا هَدْي , وَيُقَال : إِذَا لَمْ يَجِد هَدْيًا كَانَ عَلَيْهِ الْإِطْعَام أَوْ الصِّيَام , وَإِنْ لَمْ يَجِد وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَة أَتَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا إِذَا قَدَرَ , وَقَالَ فِي الْعَبْد : لَا يُجْزِيه إِلَّا الصَّوْم , تَقُوم لَهُ الشَّاة دَرَاهِم ثُمَّ الدَّرَاهِم طَعَامًا ثُمَّ يَصُوم عَنْ كُلّ مُدّ يَوْمًا .

الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا إِذَا نَحَرَ الْمُحْصَر هَدْيه هَلْ لَهُ أَنْ يَحْلِق أَوْ لَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِق رَأْسه ; لِأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُ النُّسُك , وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ بِالْإِحْصَارِ جَمِيع الْمَنَاسِك كَالطَّوَافِ وَالسَّعْي - وَذَلِكَ مِمَّا يَحِلّ بِهِ الْمُحْرِم مِنْ إِحْرَامه - سَقَطَ عَنْهُ سَائِر مَا يَحِلّ بِهِ الْمُحْرِم مِنْ أَجْل أَنَّهُ مُحْصَر , وَمِمَّنْ اِحْتَجَّ بِهَذَا وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَة وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن قَالَا : لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَر تَقْصِير وَلَا حِلَاق . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : يَحْلِق الْمُقَصِّر , فَإِنْ لَمْ يَحْلِق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَقَدْ حَكَى اِبْن أَبِي عِمْرَان عَنْ اِبْن سِمَاعَة عَنْ أَبِي يُوسُف فِي نَوَادِره أَنَّ عَلَيْهِ الْحِلَاق , وَالتَّقْصِير لَا بُدّ لَهُ مِنْهُ وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ الْحِلَاق لِلْمُحْصَرِ مِنْ النُّسُك , وَهُوَ قَوْل مَالِك , وَالْآخَر لَيْسَ مِنْ النُّسُك كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة , وَالْحُجَّة لِمَالِك أَنَّ الطَّوَاف بِالْبَيْتِ وَالسَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة قَدْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ كُلّه الْمُحْصَر وَقَدْ صُدَّ عَنْهُ , فَسَقَطَ عَنْهُ مَا قَدْ حِيلَ بَيْنه وَبَيْنه , وَأَمَّا الْحِلَاق فَلَمْ يَحُلْ بَيْنه وَبَيْنه , وَهُوَ قَادِر عَلَى أَنْ يَفْعَلهُ , وَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفْعَلهُ فَهُوَ غَيْر سَاقِط عَنْهُ وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحِلَاق بَاقٍ عَلَى الْمُحْصَر كَمَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مَنْ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْبَيْت سَوَاء قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسكُمْ حَتَّى يَبْلُغ الْهَدْي مَحِلّه " , وَمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة مِنْ دُعَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ وَاحِدَة , وَهُوَ الْحُجَّة الْقَاطِعَة وَالنَّظَر الصَّحِيح فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِك وَأَصْحَابه , وَالْحِلَاق عِنْدهمْ نُسُك عَلَى الْحَاجّ الَّذِي قَدْ أَتَمَّ حَجّه , وَعَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجّ , وَالْمُحْصَر بِعَدُوٍّ وَالْمُحْصَر بِمَرَضٍ .

الرَّابِعَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمَالِكٍ عَنْ نَافِع عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : ( اللَّهُمَّ اِرْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ) قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُول اللَّه , قَالَ : ( اللَّهُمَّ اِرْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ) قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُول اللَّه , قَالَ : ( وَالْمُقَصِّرِينَ ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَفِي دُعَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْحَلْق فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة أَفْضَل مِنْ التَّقْصِير , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسكُمْ " الْآيَة , وَلَمْ يَقُلْ تُقَصِّرُوا , وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ التَّقْصِير يُجْزِئ عَنْ الرِّجَال , إِلَّا شَيْء ذُكِرَ عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ كَانَ يُوجِب الْحَلْق فِي أَوَّل حَجَّة يَحُجّهَا الْإِنْسَان .

الْخَامِسَة : لَمْ تَدْخُل النِّسَاء فِي الْحَلْق , وَأَنَّ سُنَّتهنَّ التَّقْصِير , لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَيْسَ عَلَى النِّسَاء حَلْق إِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِير ) . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى الْقَوْل بِهِ . وَرَأَتْ جَمَاعَة أَنَّ حَلْقهَا رَأْسهَا مِنْ الْمُثْلَة , وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْر مَا تُقَصِّر مِنْ رَأْسهَا , فَكَانَ اِبْن عُمَر وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق يَقُولُونَ : تُقَصِّر مِنْ كُلّ قَرْن مِثْل الْأُنْمُلَة . وَقَالَ عَطَاء : قَدْر ثَلَاث أَصَابِع مَقْبُوضَة , وَقَالَ قَتَادَة : تُقَصِّر الثُّلُث أَوْ الرُّبُع , وَفَرَّقَتْ حَفْصَة بِنْت سِيرِينَ بَيْن الْمَرْأَة الَّتِي قَعَدَتْ فَتَأْخُذ الرُّبُع , وَفِي الشَّابَّة أَشَارَتْ بِأُنْمُلَتِهَا تَأْخُذ وَتُقَلِّل , وَقَالَ مَالِك : تَأْخُذ مِنْ جَمِيع قُرُون رَأْسهَا , وَمَا أَخَذَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ يَكْفِيهَا , وَلَا يُجْزِي عِنْده أَنْ تَأْخُذ مِنْ بَعْض الْقُرُون وَتُبْقِي بَعْضًا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يُجْزِي مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اِسْم تَقْصِير , وَأَحْوَط أَنْ تَأْخُذ مِنْ جَمِيع الْقُرُون قَدْر أُنْمُلَة .

السَّادِسَة : لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلِق رَأْسه حَتَّى يَنْحَر هَدْيه , وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّة الذَّبْح قَبْل الْحِلَاق , وَالْأَصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسكُمْ حَتَّى يَبْلُغ الْهَدْي مَحِلّه " وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ , بَدَأَ فَنَحَرَ هَدْيه ثُمَّ حَلَقَ بَعْد ذَلِكَ , فَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدَّمَ الْحِلَاق قَبْل النَّحْر فَلَا يَخْلُو أَنْ يُقَدِّمهُ خَطَأ وَجَهْلًا أَوْ عَمْدًا وَقَصْدًا , فَإِنْ كَانَ الْأَوَّل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , رَوَاهُ اِبْن حَبِيب عَنْ اِبْن الْقَاسِم , وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك , وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُونِ : عَلَيْهِ الْهَدْي , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ رَوَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن أَنَّهُ يَجُوز تَقْدِيم الْحَلْق عَلَى النَّحْر , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَالظَّاهِر مِنْ الْمَذْهَب الْمَنْع , وَالصَّحِيح الْجَوَاز , لِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْح وَالْحَلْق وَالرَّمْي وَالتَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فَقَالَ : ( لَا حَرَج ) رَوَاهُ مُسْلِم , وَخَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ قَبْل أَنْ يَحْلِق , أَوْ حَلَقَ قَبْل أَنْ يَذْبَح فَقَالَ : ( لَا حَرَج ) .

السَّابِعَة : لَا خِلَاف أَنَّ حَلْق الرَّأْس فِي الْحَجّ نُسُك مَنْدُوب إِلَيْهِ وَفِي غَيْر الْحَجّ جَائِز , خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إِنَّهُ مُثْلَة , وَلَوْ كَانَ مُثْلَة مَا جَازَ فِي الْحَجّ وَلَا غَيْره ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُثْلَة , وَقَدْ حَلَقَ رُءُوس بَنِي جَعْفَر بَعْد أَنْ أَتَاهُ قَتْله بِثَلَاثَةِ أَيَّام , وَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْحَلْق مَا حَلَقَهُمْ , وَكَانَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَحْلِق رَأْسه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى حَبْس الشَّعْر وَعَلَى إِبَاحَة الْحَلْق . وَكَفَى بِهَذَا حُجَّة , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .


فِيهَا تِسْع مَسَائِل

الْأُولَى : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا " اِسْتَدَلَّ بَعْض عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْمُحْصَر فِي أَوَّل الْآيَة الْعَدُوّ لَا الْمَرَض , وَهَذَا لَا يَلْزَم , فَإِنَّ مَعْنَى قَوْله : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسه " فَحَلَقَ " فَفِدْيَة " أَيْ فَعَلَيْهِ فِدْيَة , وَإِذَا كَانَ وَارِدًا فِي الْمَرَض بِلَا خِلَاف كَانَ الظَّاهِر أَنَّ أَوَّل الْآيَة وَرَدَ فِيمَنْ وَرَدَ فِيهِ وَسَطهَا وَآخِرهَا , لِاتِّسَاقِ الْكَلَام بَعْضه عَلَى بَعْض , وَانْتِظَام بَعْضه بِبَعْضٍ , وَرُجُوع الْإِضْمَار فِي آخِر الْآيَة إِلَى مَنْ خُوطِبَ فِي أَوَّلهَا , فَيَجِب حَمْل ذَلِكَ عَلَى ظَاهِره حَتَّى يَدُلّ الدَّلِيل عَلَى الْعُدُول عَنْهُ , وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة , رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ : عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَقَمْله يَتَسَاقَط عَلَى وَجْهه فَقَالَ : ( أَيُؤْذِيك هَوَامّك ) قَالَ نَعَمْ . ( فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِق وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَلَمْ يُبَيِّن لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَع أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّة , فَأَنْزَلَ اللَّه الْفِدْيَة , فَأَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِم فَرَقًا بَيْن سِتَّة مَسَاكِين , أَوْ يُهْدِي شَاة , أَوْ يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام ) . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ أَيْضًا , فَقَوْله : وَلَمْ يُبَيِّن لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا , يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَلَى يَقِين مِنْ حَصْر الْعَدُوّ لَهُمْ , فَإِذَا الْمُوجِب لِلْفِدْيَةِ الْحَلْق لِلْأَذَى وَالْمَرَض , وَاَللَّه أَعْلَم .

الثَّانِيَة : قَالَ الْأَوْزَاعِيّ فِي الْمُحْرِم يُصِيبهُ أَذًى فِي رَأْسه : إِنَّهُ يُجْزِيه أَنْ يُكَفِّر بِالْفِدْيَةِ قَبْل الْحَلْق .

قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَكُون الْمَعْنَى " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسه فَفِدْيَة مِنْ صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك " إِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْلِق , وَمَنْ قَدَرَ فَحَلَقَ فَفِدْيَة , فَلَا يَفْتَدِي حَتَّى يَحْلِق , وَاَللَّه أَعْلَم .

الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : كُلّ مَنْ ذَكَرَ النُّسُك فِي هَذَا الْحَدِيث مُفَسَّرًا فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِشَاةٍ , وَهُوَ أَمْر لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْعُلَمَاء , وَأَمَّا الصَّوْم وَالْإِطْعَام فَاخْتَلَفُوا فِيهِ , فَجُمْهُور فُقَهَاء الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّوْم ثَلَاثَة أَيَّام , وَهُوَ مَحْفُوظ صَحِيح فِي حَدِيث كَعْب بْن عُجْرَة . وَجَاءَ عَنْ الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَنَافِع قَالُوا : الصَّوْم فِي فِدْيَة الْأَذَى عَشْرَة أَيَّام , وَالْإِطْعَام عَشْرَة مَسَاكِين , وَلَمْ يَقُلْ أَحَد بِهَذَا مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار وَلَا أَئِمَّة الْحَدِيث , وَقَدْ جَاءَ مِنْ رِوَايَة أَبِي الزُّبَيْر عَنْ مُجَاهِد عَنْ عَبْد الرَّحْمَن عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ أَهَلَّ فِي ذِي الْقَعْدَة , وَأَنَّهُ قَمِلَ رَأْسه فَأَتَى عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوقِد تَحْت قِدْر لَهُ , فَقَالَ لَهُ : ( كَأَنَّك يُؤْذِيك هَوَامّ رَأْسك ) , فَقَالَ أَجَل . قَالَ : ( اِحْلِقْ وَاهْدِ هَدْيًا ) , فَقَالَ : مَا أَجِد هَدْيًا . قَالَ : ( فَأَطْعِمْ سِتَّة مَسَاكِين ) , فَقَالَ : مَا أَجِد . قَالَ : ( صُمْ ثَلَاثَة أَيَّام ) . قَالَ أَبُو عُمَر : كَانَ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث عَلَى التَّرْتِيب وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَلَوْ صَحَّ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ الِاخْتِيَار أَوَّلًا فَأَوَّلًا , وَعَامَّة الْآثَار عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة وَرَدَتْ بِلَفْظِ التَّخْيِير , وَهُوَ نَصّ الْقُرْآن , وَعَلَيْهِ مَضَى عَمَل الْعُلَمَاء فِي كُلّ الْأَمْصَار وَفَتْوَاهُمْ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .

الرَّابِعَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْإِطْعَام فِي فِدْيَة الْأَذَى , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ : الْإِطْعَام فِي ذَلِكَ مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْر وَدَاوُد , وَرُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفِدْيَة : مِنْ الْبُرّ نِصْف صَاع , وَمِنْ التَّمْر وَالشَّعِير وَالزَّبِيب صَاع . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَيْضًا مِثْله , جَعَلَ نِصْف صَاع بُرّ عَدْل صَاع تَمْر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا غَلَط ; لِأَنَّ فِي بَعْض أَخْبَار كَعْب أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : ( أَنْ تَصَّدَّق بِثَلَاثَةِ أُصُوع مِنْ تَمْر عَلَى سِتَّة مَسَاكِين ) , وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل مَرَّة كَمَا قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ , وَمَرَّة قَالَ : إِنْ أَطْعَمَ بُرًّا فَمُدّ لِكُلِّ مِسْكِين , وَإِنْ أَطْعَمَ تَمْرًا فَنِصْف صَاع .

الْخَامِسَة : وَلَا يُجْزِي أَنْ يُغَدِّي الْمَسَاكِين وَيُعَشِّيهِمْ فِي كَفَّارَة الْأَذَى حَتَّى يُعْطِي كُلّ مِسْكِين مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن , وَقَالَ أَبُو يُوسُف : يُجْزِيه أَنْ يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ .

السَّادِسَة : أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْمُحْرِم مَمْنُوع مِنْ حَلْق شَعْره وَجَزّه وَإِتْلَافه بِحَلْقٍ أَوْ نَوْرَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ إِلَّا فِي حَالَة الْعِلَّة كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآن , وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوب الْفِدْيَة عَلَى مَنْ حَلَقَ وَهُوَ مُحْرِم بِغَيْرِ عِلَّة , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , أَوْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ بِغَيْرِ عُذْر عَامِدًا , فَقَالَ مَالِك : بِئْسَ مَا فَعَلَ ! وَعَلَيْهِ الْفِدْيَة , وَهُوَ مُخَيَّر فِيهَا , وَسَوَاء عِنْده الْعَمْد فِي ذَلِكَ وَالْخَطَأ , لِضَرُورَةٍ وَغَيْر ضَرُورَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا وَأَبُو ثَوْر : لَيْسَ بِمُخَيَّرٍ إِلَّا فِي الضَّرُورَة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسه " فَإِذَا حَلَقَ رَأْسه عَامِدًا أَوْ لَبِسَ عَامِدًا لِغَيْرِ عُذْر فَلَيْسَ بِمُخَيَّرٍ وَعَلَيْهِ دَم لَا غَيْر .

السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَاسِيًا , فَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : الْعَامِد وَالنَّاسِي فِي ذَلِكَ سَوَاء فِي وُجُوب الْفِدْيَة , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث , وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : لَا فِدْيَة عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل دَاوُد وَإِسْحَاق , وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْفِدْيَة , وَأَكْثَر الْعُلَمَاء يُوجِبُونَ الْفِدْيَة عَلَى الْمُحْرِم بِلُبْسِ الْمَخِيط وَتَغْطِيَة الرَّأْس أَوْ بَعْضه , وَلُبْس الْخُفَّيْنِ وَتَقْلِيم الْأَظَافِر وَمَسّ الطِّيب وَإِمَاطَة الْأَذَى , وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَقَ شَعْر جَسَده أَوْ اِطَّلَى , أَوْ حَلَقَ مَوَاضِع الْمَحَاجِم , وَالْمَرْأَة كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ , وَعَلَيْهَا الْفِدْيَة فِي الْكُحْل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيب , وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَحِل بِمَا لَا طِيب فِيهِ , وَعَلَى الْمَرْأَة الْفِدْيَة إِذَا غَطَّتْ وَجْههَا أَوْ لَبِسَتْ الْقُفَّازَيْنِ , وَالْعَمْد وَالسَّهْو وَالْجَهْل فِي ذَلِكَ سَوَاء , وَبَعْضهمْ يَجْعَل عَلَيْهِمَا دَمًا فِي كُلّ شَيْء مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ دَاوُد : لَا شَيْء عَلَيْهِمَا فِي حَلْق شَعْر الْجَسَد .

الثَّامِنَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَوْضِع الْفِدْيَة الْمَذْكُورَة , فَقَالَ عَطَاء : مَا كَانَ مِنْ دَم فَبِمَكَّة , وَمَا كَانَ مِنْ طَعَام أَوْ صِيَام فَحَيْثُ شَاءَ , وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي , وَعَنْ الْحَسَن أَنَّ الدَّم بِمَكَّة , وَقَالَ طَاوُس وَالشَّافِعِيّ : الْإِطْعَام وَالدَّم لَا يَكُونَانِ إِلَّا بِمَكَّة , وَالصَّوْم حَيْثُ شَاءَ ; لِأَنَّ الصِّيَام لَا مَنْفَعَة فِيهِ لِأَهْلِ الْحَرَم , وَقَدْ قَالَ اللَّه سُبْحَانه " هَدْيًا بَالِغ الْكَعْبَة " [ الْمَائِدَة : 95 ] رِفْقًا لِمَسَاكِين جِيرَان بَيْته , فَالْإِطْعَام فِيهِ مَنْفَعَة بِخِلَافِ الصِّيَام , وَاَللَّه أَعْلَم , وَقَالَ مَالِك : يَفْعَل ذَلِكَ أَيْنَ شَاءَ , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْل , وَهُوَ قَوْل مُجَاهِد , وَالذَّبْح هُنَا عِنْد مَالِك نُسُك وَلَيْسَ بِهَدْيٍ لِنَصِّ الْقُرْآن وَالسُّنَّة , وَالنُّسُك يَكُون حَيْثُ شَاءَ , وَالْهَدْي لَا يَكُون إِلَّا بِمَكَّة , وَمِنْ حُجَّته أَيْضًا مَا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد فِي مُوَطَّئِهِ , وَفِيهِ : فَأَمَرَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِرَأْسِهِ - يَعْنِي رَأْس حُسَيْن - فَحَلَقَ ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا فَنَحَرَ عَنْهُ بَعِيرًا . قَالَ مَالِك قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيد : وَكَانَ حُسَيْن خَرَجَ مَعَ عُثْمَان فِي سَفَره ذَلِكَ إِلَى مَكَّة , فَفِي هَذَا أَوْضَح دَلِيل عَلَى أَنَّ فِدْيَة الْأَذَى جَائِز أَنْ تَكُون بِغَيْرِ مَكَّة , وَجَائِز عِنْد مَالِك فِي الْهَدْي إِذَا نَحَرَ فِي الْحَرَم أَنْ يُعْطَاهُ غَيْر أَهْل الْحَرَم ; لِأَنَّ الْبُغْيَة فِيهِ إِطْعَام مَسَاكِين الْمُسْلِمِينَ . قَالَ مَالِك : وَلَمَّا جَازَ الصَّوْم أَنْ يُؤْتَى بِهِ بِغَيْرِ الْحَرَم جَازَ إِطْعَام غَيْر أَهْل الْحَرَم , ثُمَّ إِنَّ قَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا " الْآيَة , أَوْضَحَ الدَّلَالَة عَلَى مَا قُلْنَاهُ , فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : " فَفِدْيَة مِنْ صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك " لَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِع دُون مَوْضِع , فَالظَّاهِر أَنَّهُ حَيْثُمَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ . وَقَالَ : " أَوْ نُسُك " فَسَمَّى مَا يُذْبَح نُسُكًا , وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُسَمِّهِ هَدْيًا , فَلَا يَلْزَمنَا أَنْ نَرُدّهُ قِيَاسًا عَلَى الْهَدْي , وَلَا أَنْ نَعْتَبِرهُ بِالْهَدْيِ مَعَ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ , وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ كَعْبًا بِالْفِدْيَةِ مَا كَانَ فِي الْحَرَم , فَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلّه يَكُون خَارِج الْحَرَم , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ مِثْل هَذَا فِي وَجْه بَعِيد .

التَّاسِعَة : " أَوْ نُسُك " النُّسُك : جَمْع نَسِيكَة , وَهِيَ الذَّبِيحَة يَنْسُكهَا الْعَبْد لِلَّهِ تَعَالَى , وَيُجْمَع أَيْضًا عَلَى نِسَائِك , وَالنُّسُك : الْعِبَادَة فِي الْأَصْل , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا " [ الْبَقَرَة : 128 ] أَيْ مُتَعَبَّدَاتنَا , وَقِيلَ : إِنَّ أَصْل النُّسُك فِي اللُّغَة الْغُسْل , وَمِنْهُ نَسَكَ ثَوْبه إِذَا غَسَلَهُ , فَكَأَنَّ الْعَابِد غَسَلَ نَفْسه مِنْ أَدْرَان الذُّنُوب بِالْعِبَادَةِ . وَقِيلَ : النُّسُك سَبَائِك الْفِضَّة , كُلّ سَبِيكَة مِنْهَا نَسِيكَة , فَكَأَنَّ الْعَابِد خَلَّصَ نَفْسه مِنْ دَنَس الْآثَام وَسَبَكَهَا .


قِيلَ : مَعْنَاهُ بَرَأْتُمْ مِنْ الْمَرَض , وَقِيلَ : مِنْ خَوْفكُمْ مِنْ الْعَدُوّ الْمُحْصِر , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة , وَهُوَ أَشْبَه بِاللَّفْظِ إِلَّا أَنْ يَتَخَيَّل الْخَوْف مِنْ الْمَرَض فَيَكُون الْأَمْن مِنْهُ , كَمَا تَقَدَّمَ , وَاَللَّه أَعْلَم .


فِيهَا إِحْدَى عَشْرَة مَسْأَلَة

الْأُولَى : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مَنْ الْمُخَاطَب بِهَذَا ؟ فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَعَلْقَمَة وَإِبْرَاهِيم : الْآيَة فِي الْمُحْصَرِينَ دُون الْمُخَلَّى سَبِيلهمْ . وَصُورَة الْمُتَمَتِّع عِنْد اِبْن الزُّبَيْر : أَنْ يُحْصَر الرَّجُل حَتَّى يَفُوتهُ الْحَجّ , ثُمَّ يَصِل إِلَى الْبَيْت فَيَحِلّ بِعُمْرَةٍ , ثُمَّ يَقْضِي الْحَجّ مِنْ قَابِل , فَهَذَا قَدْ تَمَتَّعَ بِمَا بَيْن الْعُمْرَة إِلَى حَجّ الْقَضَاء , وَصُورَة الْمُتَمَتِّع الْمُحْصَر عِنْد غَيْره : أَنْ يُحْصَر فَيَحِلّ دُون عُمْرَة وَيُؤَخِّرهَا حَتَّى يَأْتِي مِنْ قَابِل فَيَعْتَمِر فِي أَشْهُر الْحَجّ وَيَحُجّ مِنْ عَامه , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَجَمَاعَة : الْآيَة فِي الْمُحْصَرِينَ وَغَيْرهمْ مِمَّنْ خُلِّيَ سَبِيله .

الثَّانِيَة : لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي أَنَّ التَّمَتُّع جَائِز عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيله , وَأَنَّ الْإِفْرَاد جَائِز وَأَنَّ الْقُرْآن جَائِز ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ كُلًّا وَلَمْ يُنْكِرهُ فِي حَجَّته عَلَى أَحَد مِنْ أَصْحَابه , بَلْ أَجَازَهُ لَهُمْ وَرَضِيَهُ مِنْهُمْ , صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنَّمَا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا كَانَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا فِي حَجَّته وَفِي الْأَفْضَل مِنْ ذَلِكَ , لِاخْتِلَافِ الْآثَار الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ , فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ مَالِك : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفْرِدًا , وَالْإِفْرَاد أَفْضَل مِنْ الْقِرَان . قَالَ : وَالْقِرَان أَفْضَل مِنْ التَّمَتُّع , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلّ بِحَجٍّ وَعُمْرَة فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أُرَاد أَنْ يُهِلّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلّ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلّ ) قَالَتْ عَائِشَة : فَأَهَلَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ , وَأَهَلَّ بِهِ نَاس مَعَهُ , وَأَهَلَّ نَاس بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجّ , وَأَهَلَّ نَاس بِعُمْرَةٍ , وَكُنْت فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ , رَوَاهُ جَمَاعَة عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة , وَقَالَ بَعْضهمْ فِيهِ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَأَمَّا أَنَا فَأُهِلّ بِالْحَجِّ ) وَهَذَا نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف , وَهُوَ حُجَّة مَنْ قَالَ بِالْإِفْرَادِ وَفَضْله , وَحَكَى مُحَمَّد بْن الْحَسَن عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : إِذَا جَاءَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَر عَمِلَا بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ وَتَرَكَا الْآخَر كَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْحَقّ فِيمَا عَمِلَا بِهِ , وَاسْتَحَبَّ أَبُو ثَوْر الْإِفْرَاد أَيْضًا وَفَضَّلَهُ عَلَى التَّمَتُّع وَالْقِرَان , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنْهُ . وَاسْتَحَبَّ آخَرُونَ التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ , قَالُوا : وَذَلِكَ أَفْضَل . وَهُوَ مَذْهَب عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ الشَّافِعِيّ : اِخْتَرْت الْإِفْرَاد , وَالتَّمَتُّع حَسَن لَا نَكْرَههُ . اِحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ التَّمَتُّع بِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ : نَزَلَتْ آيَة الْمُتْعَة فِي كِتَاب اللَّه - يَعْنِي مُتْعَة الْحَجّ - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ تَنْزِل آيَة تَنْسَخ آيَة مُتْعَة الْحَجّ , وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ , قَالَ رَجُل بِرَأْيِهِ بَعْد مَا شَاءَ , وَرَوَى التِّرْمِذِيّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَة بْن سَعِيد عَنْ مَالِك بْن أَنَس عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن نَوْفَل أَنَّهُ سَمِعَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَالضَّحَّاك بْن قَيْس عَام حَجَّ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان وَهُمَا يَذْكُرَانِ التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ , فَقَالَ الضَّحَّاك بْن قَيْس : لَا يَصْنَع ذَلِكَ إِلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْر اللَّه تَعَالَى , فَقَالَ سَعْد : بِئْسَ مَا قُلْت يَا بْن أَخِي ! فَقَالَ الضَّحَّاك : فَإِنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَ سَعْد : قَدْ صَنَعَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ , هَذَا حَدِيث صَحِيح , وَرَوَى اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَالِم قَالَ : إِنِّي لَجَالِس مَعَ اِبْن عُمَر فِي الْمَسْجِد إِذْ جَاءَهُ رَجُل مِنْ أَهْل الشَّام فَسَأَلَهُ عَنْ التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ , فَقَالَ اِبْن عُمَر : ( حَسَن جَمِيل . قَالَ : فَإِنَّ أَبَاك كَانَ يَنْهَى عَنْهَا , فَقَالَ : وَيْلك ! فَإِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا وَقَدْ فَعَلَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِهِ , أَفَبِقَوْلِ أَبِي آخُذ , أَمْ بِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! ؟ قُمْ عَنِّي ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ , وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث صَالِح بْن كَيْسَان عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم , وَرُوِيَ عَنْ لَيْث عَنْ طَاوُس عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( تَمَتَّعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان , وَأَوَّل مَنْ نَهَى عَنْهَا مُعَاوِيَة ) حَدِيث حَسَن . قَالَ أَبُو عُمَر : حَدِيث لَيْث هَذَا حَدِيث مُنْكَر , وَهُوَ لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم ضَعِيف , وَالْمَشْهُور عَنْ عُمَر وَعُثْمَان أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنْ التَّمَتُّع , وَإِنْ كَانَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم قَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُتْعَة الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُمَر وَضَرَبَ عَلَيْهَا فَسْخ الْحَجّ فِي الْعُمْرَة , فَأَمَّا التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَلَا . وَزَعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهْي عُمَر عَنْ التَّمَتُّع أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِيُنْتَجَع الْبَيْت مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَر فِي الْعَام حَتَّى تَكْثُر عِمَارَته بِكَثْرَةِ الزُّوَّار لَهُ فِي غَيْر الْمَوْسِم , وَأَرَادَ إِدْخَال الرِّفْق عَلَى أَهْل الْحَرَم بِدُخُولِ النَّاس تَحْقِيقًا لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيم : " فَاجْعَلْ أَفْئِدَة مِنْ النَّاس تَهْوِي إِلَيْهِمْ " [ إِبْرَاهِيم : 37 ] , وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهُ رَأَى النَّاس مَالُوا إِلَى التَّمَتُّع لِيَسَارَتِهِ وَخِفَّته , فَخَشِيَ أَنْ يَضِيع الْإِفْرَاد وَالْقِرَان وَهُمَا سُنَّتَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاحْتَجَّ أَحْمَد فِي اِخْتِيَاره التَّمَتُّع بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ اِسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اِسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْي وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَة ) . أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة , وَقَالَ آخَرُونَ : الْقِرَان أَفْضَل , مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ , وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيّ قَالَ : لِأَنَّهُ يَكُون مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضَيْنِ جَمِيعًا , وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق . قَالَ إِسْحَاق : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا , وَهُوَ قَوْل عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب , وَاحْتَجَّ مَنْ اِسْتَحَبَّ الْقِرَان وَفَضَّلَهُ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيق يَقُول : ( أَتَانِي اللَّيْلَة آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَك وَقُلْ عُمْرَة فِي حَجَّة ) , وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَس قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّة ) , وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . قَالَ أَبُو عُمَر : وَالْإِفْرَاد إِنْ شَاءَ اللَّه أَفْضَل ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا , فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ أَفْضَل ; لِأَنَّ الْآثَار أَصَحّ عَنْهُ فِي إِفْرَاده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلِأَنَّ الْإِفْرَاد أَكْثَر عَمَلًا ثُمَّ الْعُمْرَة عَمَل آخَر . وَذَلِكَ كُلّه طَاعَة وَالْأَكْثَر مِنْهَا أَفْضَل , وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : الْمُفْرِد أَكْثَر تَعَبًا مِنْ الْمُتَمَتِّع , لِإِقَامَتِهِ عَلَى الْإِحْرَام وَذَلِكَ أَعْظَم لِثَوَابِهِ , وَالْوَجْه فِي اِتِّفَاق الْأَحَادِيث أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَنَا بِالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَان جَازَ أَنْ يُقَال : تَمَتَّعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : " وَنَادَى فِرْعَوْن فِي قَوْمه " [ الزُّخْرُف : 51 ] , وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : رَجَمْنَا وَرَجَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالرَّجْمِ .

قُلْت : الْأَظْهَر فِي حَجَّته عَلَيْهِ السَّلَام الْقِرَان , وَأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا , لِحَدِيثِ عُمَر وَأَنْسَ الْمَذْكُورَيْنِ , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ بَكْر عَنْ أَنَس قَالَ : ( سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَة مَعًا ) . قَالَ بَكْر : فَحَدَّثْت بِذَلِكَ اِبْن عُمَر فَقَالَ : لَبِّي بِالْحَجِّ وَحْده , فَلَقِيت أَنَسًا فَحَدَّثْته بِقَوْلِ اِبْن عُمَر , فَقَالَ أَنَس : مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا ! سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَبَّيْكَ عُمْرَة وَحَجًّا ) , وَفِي صَحِيح مُسْلِم أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَهَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ أَصْحَابه بِحَجٍّ , فَلَمْ يَحِلّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَنْ سَاقَ الْهَدْي مِنْ أَصْحَابه , وَحَلَّ بَقِيَّتهمْ . قَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا , وَإِذَا كَانَ قَارِنًا فَقَدْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ , وَاتَّفَقَتْ الْأَحَادِيث , وَقَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ , فَقَالَ مَنْ رَآهُ : تَمَتَّعَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ , فَقَالَ مَنْ رَآهُ : أَفْرَدَ ثُمَّ قَالَ : ( لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَة ) . فَقَالَ مَنْ سَمِعَهُ : قَرَنَ , فَاتَّفَقَتْ الْأَحَادِيث , وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَفْرَدْت الْحَجّ وَلَا تَمَتَّعْت , وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( قَرَنْت ) كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ عَلِيّ أَنَّهُ قَالَ : أَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي : ( كَيْف صَنَعْت ) قُلْت : أَهْلَلْت بِإِهْلَالِك . قَالَ ( فَإِنِّي سُقْت الْهَدْي وَقَرَنْت ) . قَالَ وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : ( لَوْ اِسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي كَمَا اِسْتَدْبَرْت لَفَعَلْت كَمَا فَعَلْتُمْ وَلَكِنِّي سُقْت الْهَدْي وَقَرَنْت ) . وَثَبَتَ عَنْ حَفْصَة قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَا بَال النَّاس قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتهمْ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ ؟ قَالَ : ( إِنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَسُقْت هَدْيِي فَلَا أَحِلّ حَتَّى أَنْحَر ) , وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا لَمْ يَمْتَنِع مِنْ نَحْر الْهَدْي . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ النَّحَّاس أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَفْرَدْت الْحَجّ ) فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَة عَائِشَة أَنَّهُ قَالَ : ( وَأَمَّا أَنَا فَأُهِلّ بِالْحَجِّ ) , وَهَذَا مَعْنَاهُ : فَأَنَا أُفْرِد الْحَجّ , إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَدْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ , ثُمَّ قَالَ : فَأَنَا أُهِلّ بِالْحَجِّ , وَمِمَّا يُبَيِّن هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ اِبْن عُمَر , وَفِيهِ : وَبَدَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ , فَلَمْ يَبْقَ فِي قَوْله : ( فَأَنَا أُهِلّ بِالْحَجِّ ) دَلِيل عَلَى الْإِفْرَاد , وَبَقِيَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَإِنِّي قَرَنْت ) , وَقَوْل أَنَس خَادِمه إِنَّهُ سَمِعَهُ يَقُول : ( لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَة مَعًا ) نَصّ صَرِيح فِي الْقِرَان لَا يَحْتَمِل التَّأْوِيل , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي قَتَادَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إِنَّمَا جَمَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَاجٍّ بَعْدهَا .

الثَّالِثَة : وَإِذَا مَضَى الْقَوْل فِي الْإِفْرَاد وَالتَّمَتُّع وَالْقِرَان وَأَنَّ كُلّ ذَلِكَ جَائِز بِإِجْمَاعٍ فَالتَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ عِنْد الْعُلَمَاء عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُه , مِنْهَا وَجْه وَاحِد مُجْتَمَع عَلَيْهِ , وَالثَّلَاثَة مُخْتَلَف فِيهَا .

فَأَمَّا الْوَجْه الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ فَهُوَ التَّمَتُّع الْمُرَاد بِقَوْلِ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ : " فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي " وَذَلِكَ أَنْ يُحْرِم الرَّجُل بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُر الْحَجّ - عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانهَا - وَأَنْ يَكُون مِنْ أَهْل الْآفَاق , وَقَدِمَ مَكَّة فَفَرَغَ مِنْهَا ثُمَّ أَقَامَ حَلَالًا بِمَكَّة إِلَى أَنْ أَنْشَأَ الْحَجّ مِنْهَا فِي عَامه ذَلِكَ قَبْل رُجُوعه إِلَى بَلَده , أَوْ قَبْل خُرُوجه إِلَى مِيقَات أَهْل نَاحِيَته , فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَعَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ اللَّه عَلَى الْمُتَمَتِّع , وَذَلِكَ مَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي , يَذْبَحهُ وَيُعْطِيه لِلْمَسَاكِينِ بِمِنًى أَوْ بِمَكَّة , فَإِنْ لَمْ يَجِد صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام , وَسَبْعَة إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَده - عَلَى مَا يَأْتِي - وَلَيْسَ لَهُ صِيَام يَوْم النَّحْر بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَاخْتُلِفَ فِي صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق عَلَى مَا يَأْتِي .

فَهَذَا إِجْمَاع مِنْ أَهْل الْعِلْم قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الْمُتْعَة , وَرَابِطهَا ثَمَانِيَة شُرُوط : الْأَوَّل : أَنْ يَجْمَع بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة . الثَّانِي : فِي سَفَر وَاحِد . الثَّالِث : فِي عَام وَاحِد . الرَّابِع : فِي أَشْهُر الْحَجّ . الْخَامِس : تَقْدِيم الْعُمْرَة . السَّادِس : أَلَّا يَمْزُجهَا , بَلْ يَكُون إِحْرَام الْحَجّ بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الْعُمْرَة . السَّابِع : أَنْ تَكُون الْعُمْرَة وَالْحَجّ عَنْ شَخْص وَاحِد . الثَّامِن : أَنْ يَكُون مِنْ غَيْر أَهْل مَكَّة . وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الشُّرُوط فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْم التَّمَتُّع تَجِدهَا .

وَالْوَجْه الثَّانِي مِنْ وُجُوه التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ : الْقِرَان , وَهُوَ أَنْ يَجْمَع بَيْنهمَا فِي إِحْرَام وَاحِد فَيُهِلّ بِهِمَا جَمِيعًا فِي أَشْهُر الْحَجّ أَوْ غَيْرهَا , يَقُول : لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَة مَعًا , فَإِذَا قَدِمَ مَكَّة طَافَ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَته طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعَى سَعْيًا وَاحِدًا , عِنْد مَنْ رَأَى ذَلِكَ , وَهُمْ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر , وَهُوَ مَذْهَب عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَطَاوُس , لِحَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : ( خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ . .. ) الْحَدِيث . وَفِيهِ : ( وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة يَوْم النَّفْر وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَحَاضَتْ : ( يَسَعك طَوَافك لِحَجِّك وَعُمْرَتك ) فِي رِوَايَة : ( يُجْزِئ عَنْك طَوَافك بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة عَنْ حَجّك وَعُمْرَتك ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم - أَوْ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ , عِنْد مَنْ رَأَى ذَلِكَ , وَهُوَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح وَابْن أَبِي لَيْلَى , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود , وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيّ وَجَابِر بْن زَيْد , وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيث عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ جَمَعَ بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ , ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ . أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه وَضَعَّفَهَا كُلّهَا , وَإِنَّمَا جُعِلَ الْقِرَان مِنْ بَاب التَّمَتُّع ; لِأَنَّ الْقَارِن يَتَمَتَّع بِتَرْكِ النَّصَب فِي السَّفَر إِلَى الْعُمْرَة مَرَّة وَإِلَى الْحَجّ أُخْرَى , وَيَتَمَتَّع بِجَمْعِهِمَا , وَلَمْ يُحْرِم لِكُلِّ وَاحِد مِنْ مِيقَاته , وَضَمَّ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة , فَدَخَلَ تَحْت قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي " , وَهَذَا وَجْه مِنْ التَّمَتُّع لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي جَوَازه . وَأَهْل الْمَدِينَة لَا يُجِيزُونَ الْجَمْع بَيْن الْعُمْرَة وَالْحَجّ إِلَّا بِسِيَاقِ الْهَدْي , وَهُوَ عِنْدهمْ بَدَنَة لَا يَجُوز دُونهَا . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقِرَان تَمَتُّع قَوْل اِبْن عُمَر : إِنَّمَا جُعِلَ الْقِرَان لِأَهْلِ الْآفَاق , وَتَلَا قَوْل اللَّه جَلَّ وَعَزَّ : " ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْله حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام " فَمَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَتَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَم قِرَان وَلَا تَمَتُّع . قَالَ مَالِك : وَمَا سَمِعْت أَنَّ مَكِّيًّا قَرَنَ , فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْي وَلَا صِيَام , وَعَلَى قَوْل مَالِك جُمْهُور الْفُقَهَاء فِي ذَلِكَ , وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُونِ : إِذَا قَرَنَ الْمَكِّيّ الْحَجّ مَعَ الْعُمْرَة كَانَ عَلَيْهِ دَم الْقِرَان مِنْ أَجْل أَنَّ اللَّه إِنَّمَا أَسْقَطَ عَنْ أَهْل مَكَّة الدَّم وَالصِّيَام فِي التَّمَتُّع .

وَالْوَجْه الثَّالِث مِنْ التَّمَتُّع : هُوَ الَّذِي تَوَعَّدَ عَلَيْهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَقَالَ : ( مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِب عَلَيْهِمَا : مُتْعَة النِّسَاء وَمُتْعَة الْحَجّ ) وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاء فِي جَوَاز هَذَا بَعْد هَلُمَّ جَرَّا , وَذَلِكَ أَنْ يُحْرِم الرَّجُل بِالْحَجِّ حَتَّى إِذَا دَخَلَ مَكَّة فَسَخَ حَجّه فِي عُمْرَة , ثُمَّ حَلَّ وَأَقَامَ حَلَالًا حَتَّى يُهِلّ بِالْحَجِّ يَوْم التَّرْوِيَة , فَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي تَوَارَدَتْ بِهِ الْآثَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابه فِي حَجَّته مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي وَلَمْ يَسُقْهُ وَقَدْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَنْ يَجْعَلهَا عُمْرَة ) وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَصْحِيح الْآثَار بِذَلِكَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدْفَعُوا شَيْئًا مِنْهَا , إِلَّا أَنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي الْقَوْل بِهَا وَالْعَمَل لِعِلَلٍ فَجُمْهُورهمْ عَلَى تَرْك الْعَمَل بِهَا ; لِأَنَّهَا عِنْدهمْ خُصُوص خَصَّ بِهَا رَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابه فِي حَجَّته تِلْكَ . قَالَ أَبُو ذَرّ : ( كَانَتْ الْمُتْعَة لَنَا فِي الْحَجّ خَاصَّة ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَفِي رِوَايَة عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَصْلُح الْمُتْعَتَانِ إِلَّا لَنَا خَاصَّة , يَعْنِي مُتْعَة النِّسَاء وَمُتْعَة الْحَجّ ) وَالْعِلَّة فِي الْخُصُوصِيَّة وَوَجْه الْفَائِدَة فِيهَا مَا قَالَهُ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : ( كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ مِنْ أَفْجَر الْفُجُور فِي الْأَرْض وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّم صَفَرًا وَيَقُولُونَ : إِذَا بَرَأَ الدَّبَر , وَعَفَا الْأَثَر , وَانْسَلَخَ صَفَر , حَلَّتْ الْعُمْرَة لِمَنْ اِعْتَمَرَ , فَقَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه صَبِيحَة رَابِعَة مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ , فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَة , فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدهمْ فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , أَيّ الْحِلّ ؟ قَالَ : ( الْحِلّ كُلّه ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَفِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لِأَبِي حَاتِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( وَاَللَّه مَا أَعْمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَة فِي ذِي الْحَجَّة إِلَّا لِيَقْطَع بِذَلِكَ أَمْر أَهْل الشِّرْك , فَإِنَّ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْش وَمَنْ دَانَ دِينهمْ كَانُوا يَقُولُونَ : إِذَا عَفَا الْوَبَر , وَبَرَّأَ الدَّبَر , وَانْسَلَخَ صَفَر , حَلَّتْ الْعُمْرَة لِمَنْ اِعْتَمَرَ , فَقَدْ كَانُوا يُحْرِمُونَ الْعُمْرَة حَتَّى يَنْسَلِخ ذُو الْحَجَّة , فَمَا أَعْمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَة إِلَّا لِيُنْقَض ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ ) فَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا فَسَخَ الْحَجّ فِي الْعُمْرَة لِيُرِيَهُمْ أَنَّ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ لَا بَأْس بِهَا , وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ خَاصَّة ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجّ وَالْعُمْرَة كُلّ مَنْ دَخَلَ فِيهَا أَمْرًا مُطْلَقًا , وَلَا يَجِب أَنْ يُخَالِف ظَاهِر كِتَاب اللَّه إِلَّا إِلَى مَا لَا إِشْكَال فِيهِ مِنْ كِتَاب نَاسِخ أَوْ سُنَّة مُبَيَّنَة . وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي ذَرّ وَبِحَدِيثِ الْحَارِث بْن بِلَال عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , فُسِخَ الْحَجّ لَنَا خَاصَّة أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّة ؟ قَالَ : ( بَلْ لَنَا خَاصَّة ) , وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة فُقَهَاء الْحِجَاز وَالْعِرَاق وَالشَّام , إِلَّا شَيْء يُرْوَى عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَالسُّدِّيّ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل . قَالَ أَحْمَد : لَا أَرُدّ تِلْكَ الْآثَار الْوَارِدَة الْمُتَوَاتِرَة الصِّحَاح فِي فَسْخ الْحَجّ فِي الْعُمْرَة بِحَدِيثِ الْحَارِث بْن بِلَال عَنْ أَبِيهِ وَبِقَوْلِ أَبِي ذَرّ . قَالَ : وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى مَا قَالَ أَبُو ذَرّ , وَلَوْ أَجْمَعُوا كَانَ حُجَّة , قَالَ : وَقَدْ خَالَفَ اِبْن عَبَّاس أَبَا ذَرّ وَلَمْ يَجْعَلهُ خُصُوصًا , وَاحْتَجَّ أَحْمَد بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح , حَدِيث جَابِر الطَّوِيل فِي الْحَجّ , وَفِيهِ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ أَنِّي اِسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اِسْتَدْبَرْت لَمْ أَسُقْ الْهَدْي وَجَعَلْتهَا عُمْرَة ) فَقَامَ سُرَاقَة بْن مَالِك بْن جُعْشُم فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ ؟ فَشَبَّكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعه وَاحِدَة فِي الْأُخْرَى وَقَالَ : ( دَخَلَتْ الْعُمْرَة فِي الْحَجّ - مَرَّتَيْنِ - لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَد ) لَفْظ مُسْلِم , وَإِلَى هَذَا وَاَللَّه أَعْلَم مَالَ الْبُخَارِيّ حَيْثُ تَرْجَمَ [ بَاب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ ] وَسَاقَ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه : قَدِمْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُول : لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ , فَأَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَة , وَقَالَ قَوْم : إِنَّ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْلَالِ كَانَ عَلَى وَجْه آخَر , وَذَكَرَ مُجَاهِد ذَلِكَ الْوَجْه , وَهُوَ أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانُوا فَرَضُوا الْحَجّ أَوَّلًا , بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يُهِلُّوا مُطْلَقًا وَيَنْتَظِرُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ , وَكَذَلِكَ أَهَلَّ عَلِيّ بِالْيَمَنِ , وَكَذَلِكَ كَانَ إِحْرَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَوْ اِسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اِسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْي وَجَعَلْتهَا عُمْرَة ) فَكَأَنَّهُ خَرَجَ يَنْتَظِر مَا يُؤْمَر بِهِ وَيَأْمُر أَصْحَابه بِذَلِكَ , وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَك وَقَالَ قُلْ حَجَّة فِي عُمْرَة ) .

وَالْوَجْه الرَّابِع مِنْ الْمُتْعَة : مُتْعَة الْمُحْصَر وَمَنْ صُدَّ عَنْ الْبَيْت , ذَكَرَ يَعْقُوب بْن شَيْبَة قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَة التَّبُوذَكِيّ حَدَّثَنَا وُهَيْب حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن سُوَيْد قَالَ سَمِعْت عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَهُوَ يَخْطُب يَقُول : أَيّهَا النَّاس , إِنَّهُ وَاَللَّه لَيْسَ التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ كَمَا تَصْنَعُونَ , وَلَكِنْ التَّمَتُّع أَنْ يَخْرُج الرَّجُل حَاجًّا فَيَحْبِسهُ عَدُوّ أَوْ أَمْر يُعْذَر بِهِ حَتَّى تَذْهَب أَيَّام الْحَجّ , فَيَأْتِي الْبَيْت فَيَطُوف وَيَسْعَى بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة , ثُمَّ يَتَمَتَّع بِحِلِّهِ إِلَى الْعَام الْمُسْتَقْبِل ثُمَّ يَحُجّ وَيُهْدِي .

وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي حُكْم الْمُحْصَر وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مُبَيِّنًا , وَالْحَمْد لِلَّهِ , فَكَانَ مِنْ مَذْهَبه أَنَّ الْمُحْصَر لَا يَحِلّ وَلَكِنَّهُ يَبْقَى عَلَى إِحْرَامه حَتَّى يُذْبَح عَنْهُ الْهَدْي يَوْم النَّحْر , ثُمَّ يَحْلِق وَيَبْقَى عَلَى إِحْرَامه حَتَّى يَقْدَم مَكَّة فَيَتَحَلَّل مِنْ حَجّه بِعَمَلِ عُمْرَة , وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن الزُّبَيْر خِلَاف عُمُوم قَوْله تَعَالَى : " فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي " بَعْد قَوْله : " وَأَتِمُّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَة لِلَّهِ " وَلَمْ يَفْصِل فِي حُكْم الْإِحْصَار بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة , وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه حِين أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ حَلُّوا وَحَلَّ , وَأَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْضًا لِمَ سُمِّيَ الْمُتَمَتِّع مُتَمَتِّعًا , فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ بِكُلِّ مَا لَا يَجُوز لِلْمُحْرِمِ فِعْله مِنْ وَقْت حِلّه فِي الْعُمْرَة إِلَى وَقْت إِنْشَائِهِ الْحَجّ . وَقَالَ غَيْره : سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ بِإِسْقَاطِ أَحَد السَّفَرَيْنِ , وَذَلِكَ أَنَّ حَقّ الْعُمْرَة أَنْ تُقْصَد بِسَفَرٍ , وَحَقّ الْحَجّ كَذَلِكَ , فَلَمَّا تَمَتَّعَ بِإِسْقَاطِ أَحَدهمَا أَلْزَمَهُ اللَّه هَدْيًا , كَالْقَارِنِ الَّذِي يَجْمَع بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فِي سَفَر وَاحِد , وَالْوَجْه الْأَوَّل أَعَمّ , فَإِنَّهُ يَتَمَتَّع بِكُلِّ مَا يَجُوز لِلْحَلَالِ أَنْ يَفْعَلهُ , وَسَقَطَ عَنْهُ السَّفَر بِحَجِّهِ مِنْ بَلَده , وَسَقَطَ عَنْهُ الْإِحْرَام مِنْ مِيقَاته فِي الْحَجّ , وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي كَرِهَهُ عُمَر وَابْن مَسْعُود , وَقَالَا أَوْ قَالَ أَحَدهمَا : يَأْتِي أَحَدكُمْ مِنًى وَذَكَرَهُ يَقْطر مَنِيًّا , وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز هَذَا , وَقَدْ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا كَرِهَهُ عُمَر لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُزَارَ الْبَيْت فِي الْعَام مَرَّتَيْنِ : مَرَّة فِي الْحَجّ , وَمَرَّة فِي الْعُمْرَة , وَرَأَى الْإِفْرَاد أَفْضَل , فَكَانَ يَأْمُر بِهِ وَيَمِيل إِلَيْهِ وَيَنْهَى عَنْ غَيْره اِسْتِحْبَابًا , وَلِذَلِكَ قَالَ : ( اِفْصِلُوا بَيْن حَجّكُمْ وَعُمْرَتكُمْ , فَإِنَّهُ أَتَمّ لِحَجِّ أَحَدكُمْ وَأَتَمّ لِعُمْرَتِهِ أَنْ يَعْتَمِر فِي غَيْر أَشْهُر الْحَجّ )

الرَّابِعَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ اِعْتَمَرَ فِي أَشْهُر الْحَجّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَده وَمَنْزِله ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامه , فَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء : لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ , وَلَا هَدْي عَلَيْهِ وَلَا صِيَام , وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : هُوَ مُتَمَتِّع وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْله , حَجَّ أَوْ لَمْ يَحُجّ . قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ يُقَال : عُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ مُتْعَة , رَوَاهُ هُشَيْم عَنْ يُونُس عَنْ الْحَسَن , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ يُونُس عَنْ الْحَسَن : لَيْسَ عَلَيْهِ هَدْي . وَالصَّحِيح الْقَوْل الْأَوَّل , هَكَذَا ذَكَرَ أَبُو عُمَر " حَجَّ أَوْ لَمْ يَحُجّ " وَلَمْ يَذْكُرهُ اِبْن الْمُنْذِر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَحَجَّته ظَاهِر الْكِتَاب قَوْل عَزَّ وَجَلَّ : " فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ " وَلَمْ يَسْتَثْنِ : رَاجِعًا إِلَى أَهْله وَغَيْر رَاجِع , وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ مُرَاد لَبَيَّنَهُ فِي كِتَابه أَوْ عَلَى لِسَان رَسُوله اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب مِثْل قَوْل الْحَسَن . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَن أَيْضًا فِي هَذَا الْبَاب قَوْل لَمْ يُتَابَع عَلَيْهِ أَيْضًا , وَلَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم , وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ اِعْتَمَرَ بَعْد يَوْم النَّحْر فَهِيَ مُتْعَة , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُس قَوْلَانِ هُمَا أَشَدّ شُذُوذًا مِمَّا ذَكَرْنَا عَنْ الْحَسَن , أَحَدهمَا : أَنَّ مَنْ اِعْتَمَرَ فِي غَيْر أَشْهُر الْحَجّ ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى دَخَلَ وَقْت الْحَجّ , ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامه أَنَّهُ مُتَمَتِّع . هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء غَيْره , وَلَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحَد مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار , وَذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنَّ شُهُور الْحَجّ أَحَقّ بِالْحَجِّ مِنْ الْعُمْرَة ; لِأَنَّ الْعُمْرَة جَائِزَة فِي السَّنَة كُلّهَا , وَالْحَجّ إِنَّمَا مَوْضِعه شُهُور مَعْلُومَة , فَإِذَا جَعَلَ أَحَد الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ فَقَدْ جَعَلَهَا فِي مَوْضِع كَانَ الْحَجّ أَوْلَى بِهِ , إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ رَخَّصَ فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمَل الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ لِلْمُتَمَتِّعِ وَلِلْقَارِنِ وَلِمَنْ شَاءَ أَنْ يُفْرِدهَا , رَحْمَة مِنْهُ , وَجَعَلَ فِيهِ مَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي , وَالْوَجْه الْآخَر قَالَهُ فِي الْمَكِّيّ إِذَا تَمَتَّعَ مِنْ مِصْر مِنْ الْأَمْصَار فَعَلَيْهِ الْهَدْي , وَهَذَا لَمْ يُعَرَّج عَلَيْهِ , لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : " ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْله حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام " وَالتَّمَتُّع الْجَائِز عِنْد جَمَاعَة الْعُلَمَاء مَا أَوْضَحْنَاهُ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا , وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقنَا .

الْخَامِسَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ رَجُلًا مِنْ غَيْر أَهْل مَكَّة لَوْ قَدِمَ مَكَّة مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُر الْحَجّ عَازِمًا عَلَى الْإِقَامَة بِهَا ثُمَّ أَنْشَأَ الْحَجّ مِنْ عَامه فَحَجَّ أَنَّهُ مُتَمَتِّع , عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُتَمَتِّع , وَأَجْمَعُوا فِي الْمَكِّيّ يَجِيء مِنْ وَرَاء الْمِيقَات مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ , ثُمَّ يُنْشِئ الْحَجّ مِنْ مَكَّة وَأَهْله بِمَكَّة وَلَمْ يَسْكُن سِوَاهَا أَنَّهُ لَا دَم عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ إِذَا سَكَنَ غَيْرهَا وَسَكَنَهَا وَكَانَ لَهُ فِيهَا أَهْل وَفِي غَيْرهَا , وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ اِنْتَقَلَ مِنْ مَكَّة بِأَهْلِهِ ثُمَّ قَدِمَهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ مُعْتَمِرًا فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامه أَنَّهُ مُتَمَتِّع .

السَّادِسَة : وَاتَّفَقَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو ثَوْر عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّع يَطُوف لِعُمْرَتِهِ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة , وَعَلَيْهِ بَعْد أَيْضًا طَوَاف آخَر لِحَجِّهِ وَسَعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة , وَرُوِيَ عَنْ عَطَاء وَطَاوُس أَنَّهُ يَكْفِيه سَعْي وَاحِد بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة , وَالْأَوَّل الْمَشْهُور , وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور , وَأَمَّا طَوَاف الْقَارِن فَقَدْ تَقَدَّمَ .

السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَنْشَأَ عُمْرَة فِي غَيْر أَشْهُر الْحَجّ ثُمَّ عَمِلَ لَهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ , فَقَالَ مَالِك : عُمْرَته فِي الشَّهْر الَّذِي حَلَّ فِيهِ , يُرِيد إِنْ كَانَ حَلَّ مِنْهَا فِي غَيْر أَشْهُر الْحَجّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ , وَإِنْ كَانَ حَلَّ مِنْهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ فَهُوَ مُتَمَتِّع إِنْ حَجَّ مِنْ عَامه , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ فِي الْأَشْهُر الْحُرُم لِلْعُمْرَةِ فَهُوَ مُتَمَتِّع إِنْ حَجَّ مِنْ عَامه , وَذَلِكَ أَنَّ الْعُمْرَة إِنَّمَا تَكْمُل بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ , وَإِنَّمَا يُنْظَر إِلَى كَمَالِهَا , وَهُوَ قَوْل الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة وَابْن شُبْرُمَة وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ , وَقَالَ قَتَادَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : عُمْرَته لِلشَّهْرِ الَّذِي أَهَلَّ فِيهِ , وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَقَالَ طَاوُس : عُمْرَته لِلشَّهْرِ الَّذِي يَدْخُل فِيهِ الْحَرَم , وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : إِنْ طَافَ لَهَا ثَلَاثَة أَشْوَاط فِي رَمَضَان , وَأَرْبَعَة أَشْوَاط فِي شَوَّال فَحَجَّ مِنْ عَامه أَنَّهُ مُتَمَتِّع , وَإِنْ طَافَ فِي رَمَضَان أَرْبَعَة أَشْوَاط , وَفِي شَوَّال ثَلَاثَة أَشْوَاط لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا , وَقَالَ أَبُو ثَوْر : إِذَا دَخَلَ فِي الْعُمْرَة فِي غَيْر أَشْهُر الْحَجّ فَسَوَاء أَطَافَ لَهَا فِي رَمَضَان أَوْ فِي شَوَّال لَا يَكُون بِهَذِهِ الْعُمْرَة مُتَمَتِّعًا , وَهُوَ مَعْنَى قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق : عُمْرَته لِلشَّهْرِ الَّذِي أَهَلَّ فِيهِ .

الثَّامِنَة : أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ لِمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُر الْحَجّ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا الْحَجّ مَا لَمْ يَفْتَتِح الطَّوَاف بِالْبَيْتِ , وَيَكُون قَارِنًا بِذَلِكَ , يَلْزَمهُ مَا يَلْزَم الْقَارِن الَّذِي أَنْشَأَ الْحَجّ وَالْعُمْرَة مَعًا . وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْخَال الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة بَعْد أَنْ اِفْتَتَحَ الطَّوَاف , فَقَالَ مَالِك : يَلْزَمهُ ذَلِكَ وَيَصِير قَارِنًا مَا لَمْ يُتِمّ طَوَافه , وَرُوِيَ مِثْله عَنْ أَبِي حَنِيفَة , وَالْمَشْهُور عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوز إِلَّا قَبْل الْأَخْذ فِي الطَّوَاف , وَقَدْ قِيلَ : لَهُ أَنْ يُدْخِل الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة مَا لَمْ يَرْكَع رَكْعَتَيْ الطَّوَاف , وَكُلّ ذَلِكَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه , فَإِذَا طَافَ الْمُعْتَمِر شَوْطًا وَاحِدًا لِعُمْرَتِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ صَارَ قَارِنًا , وَسَقَطَ عَنْهُ بَاقِي عُمْرَته وَلَزِمَهُ دَم الْقِرَان , وَكَذَلِكَ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي أَضْعَاف طَوَافه أَوْ بَعْد فَرَاغه مِنْهُ قَبْل رُكُوعه , وَقَالَ بَعْضهمْ : لَهُ أَنْ يُدْخِل الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة مَا لَمْ يُكْمِل السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا كُلّه شُذُوذ عِنْد أَهْل الْعِلْم , وَقَالَ أَشْهَب : إِذَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ شَوْطًا وَاحِدًا لَمْ يَلْزَمهُ الْإِحْرَام بِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَارِنًا , وَمَضَى عَلَى عُمْرَته حَتَّى يُتِمّهَا ثُمَّ يُحْرِم بِالْحَجِّ , وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَعَطَاء , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر .

التَّاسِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْخَال الْعُمْرَة عَلَى الْحَجّ , فَقَالَ مَالِك وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق : لَا تَدْخُل الْعُمْرَة عَلَى الْحَجّ , وَمَنْ أَضَافَ الْعُمْرَة إِلَى الْحَجّ فَلَيْسَتْ الْعُمْرَة بِشَيْءٍ , قَالَهُ مَالِك , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَهُوَ الْمَشْهُور عَنْهُ بِمِصْر , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم : يَصِير قَارِنًا , وَيَكُون عَلَيْهِ مَا عَلَى الْقَارِن مَا لَمْ يَطُفْ بِحَجَّتِهِ شَوْطًا وَاحِدًا , فَإِنْ طَافَ لَمْ يَلْزَمهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ فِي الْحَجّ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِقَوْلِ مَالِك أَقُول فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة .

الْعَاشِرَة : قَالَ مَالِك : مَنْ أَهْدَى هَدْيًا لِلْعُمْرَةِ وَهُوَ مُتَمَتِّع لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ , وَعَلَيْهِ هَدْي آخَر لِمُتْعَتِهِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِير مُتَمَتِّعًا إِذَا أَنْشَأَ الْحَجّ بَعْد أَنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَته , وَحِينَئِذٍ يَجِب عَلَيْهِ الْهَدْي , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق : لَا يَنْحَر هَدْيه إِلَّا يَوْم النَّحْر , وَقَالَ أَحْمَد : إِنْ قَدِمَ الْمُتَمَتِّع قَبْل الْعَشْر طَافَ وَسَعَى وَنَحَرَ هَدْيه , وَإِنْ قَدِمَ فِي الْعَشْر لَمْ يَنْحَر إِلَّا يَوْم النَّحْر , وَقَالَهُ عَطَاء , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَحِلّ مِنْ عُمْرَته إِذَا طَافَ وَسَعَى , سَاقَ هَدْيًا أَوْ لَمْ يَسُقْهُ .

الْحَادِيَة عَشْرَة : وَاخْتَلَفَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي الْمُتَمَتِّع يَمُوت , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَجَبَ عَلَيْهِ دَم الْمُتْعَة إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِذَلِكَ , حَكَاهُ الزَّعْفَرَانِيّ عَنْهُ , وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتَمَتِّع يَمُوت بَعْد مَا يُحْرِم بِالْحَجِّ بِعَرَفَة أَوْ غَيْرهَا , أَتَرَى عَلَيْهِ هَدْيًا ؟ قَالَ : مَنْ مَاتَ مِنْ أُولَئِكَ قَبْل أَنْ يَرْمِي جَمْرَة الْعَقَبَة فَلَا أَرَى عَلَيْهِ هَدْيًا , وَمَنْ رَمَى الْجَمْرَة ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الْهَدْي . قِيلَ لَهُ : مِنْ رَأْس الْمَال أَوْ مِنْ الثُّلُث ؟ قَالَ : بَلْ مِنْ رَأْس الْمَال .


" مَا " فِي مَوْضِع رَفْع , أَيْ فَالْوَاجِب أَوْ فَعَلَيْكُمْ مَا اِسْتَيْسَرَ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ فَانْحَرُوا أَوْ فَاهْدُوا . و " مَا اِسْتَيْسَرَ " عِنْد جُمْهُور أَهْل الْعِلْم شَاة , وَقَالَ اِبْن عُمَر وَعَائِشَة وَابْن الزُّبَيْر : " مَا اِسْتَيْسَرَ " جَمَل دُون جَمَل , وَبَقَرَة دُون بَقَرَة لَا يَكُون مِنْ غَيْرهمَا , وَقَالَ الْحَسَن : أَعْلَى الْهَدْي بَدَنَة , وَأَوْسَطه بَقَرَة , وَأَخَسّه شَاة , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك مِنْ أَنَّ الْمُحْصَر بِعَدُوٍّ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْقَضَاء , لِقَوْلِهِ : " فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي " وَلَمْ يَذْكُر قَضَاء , وَاَللَّه أَعْلَم .

" مِنْ الْهَدْي " الْهَدْي وَالْهَدِيّ لُغَتَانِ , وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَى بَيْت اللَّه مِنْ بَدَنَة أَوْ غَيْرهَا , وَالْعَرَب تَقُول : كَمْ هَدِيّ بَنِي فُلَان , أَيْ كَمْ إِبِلهمْ , وَقَالَ أَبُو بَكْر : سُمِّيَتْ هَدْيًا لِأَنَّ مِنْهَا مَا يُهْدَى إِلَى بَيْت اللَّه , فَسُمِّيَتْ بِمَا يَلْحَق بَعْضهَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَات مِنْ الْعَذَاب " [ النِّسَاء : 25 ] . أَرَادَ فَإِنْ زَنَى الْإِمَاء فَعَلَى الْأَمَة مِنْهُنَّ إِذَا زَنَتْ نِصْف مَا عَلَى الْحُرَّة الْبِكْر إِذَا زَنَتْ , فَذَكَرَ اللَّه الْمُحْصَنَات وَهُوَ يُرِيد الْأَبْكَار ; لِأَنَّ الْإِحْصَان يَكُون فِي أَكْثَرهنَّ فَسُمِّينَ بِأَمْرٍ يُوجَد فِي بَعْضهنَّ , وَالْمُحْصَنَة مِنْ الْحَرَائِر هِيَ ذَات الزَّوْج , يَجِب عَلَيْهَا الرَّجْم إِذَا زَنَتْ , وَالرَّجْم لَا يَتَبَعَّض , فَيَكُون عَلَى الْأَمَة نِصْفه , فَانْكَشَفَ بِهَذَا أَنَّ الْمُحْصَنَات يُرَاد بِهِنَّ الْأَبْكَار لَا أُولَات الْأَزْوَاج . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَهْل الْحِجَاز وَبَنُو أَسَد يُخَفِّفُونَ الْهَدْي , قَالَ : وَتَمِيم وَسُفْلَى قَيْس يُثَقِّلُونَ فَيَقُولُونَ : هَدْي . قَالَ الشَّاعِر : حَلَفْت بِرَبِّ مَكَّة وَالْمُصَلَّى وَأَعْنَاق الْهَدْي مُقَلَّدَات قَالَ : وَوَاحِد الْهَدْي هَدْيَة , وَيُقَال فِي جَمْع الْهَدْي : أَهْدَاء .


" فَمَنْ لَمْ يَجِد " يَعْنِي الْهَدْي , إِمَّا لِعَدَمِ الْمَال أَوْ لِعَدَمِ الْحَيَوَان , صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَده , وَالثَّلَاثَة الْأَيَّام فِي الْحَجّ آخِرهَا يَوْم عَرَفَة , هَذَا قَوْل طَاوُس , وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيّ وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَلْقَمَة وَعَمْرو بْن دِينَار وَأَصْحَاب الرَّأْي , حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَحَكَى أَبُو ثَوْر عَنْ أَبِي حَنِيفَة يَصُومهَا فِي إِحْرَامه بِالْعُمْرَةِ ; لِأَنَّهُ أَحَد إِحْرَامَيْ التَّمَتُّع , فَجَازَ صَوْم الْأَيَّام فِيهِ كَإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة أَيْضًا وَأَصْحَابه : يَصُوم قَبْل يَوْم التَّرْوِيَة يَوْمًا , وَيَوْم التَّرْوِيَة وَيَوْم عَرَفَة , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمَالِك بْن أَنَس : لَهُ أَنْ يَصُومهَا مُنْذُ يُحْرِم بِالْحَجِّ إِلَى يَوْم النَّحْر ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ " فَإِذَا صَامَهَا فِي الْعُمْرَة فَقَدْ أَتَاهُ قَبْل وَقْته فَلَمْ يُجْزِهِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل : يَصُومهُنَّ مَا بَيْن أَنْ يُهِلّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْم عَرَفَة , وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَعَائِشَة , وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِك , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله فِي مُوَطَّئِهِ , لِيَكُونَ يَوْم عَرَفَة مُفْطِرًا , فَذَلِكَ أَتْبَع لِلسُّنَّةِ , وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَة , وَسَيَأْتِي , وَعَنْ أَحْمَد أَيْضًا : جَائِز أَنْ يَصُوم الثَّلَاثَة قَبْل أَنْ يُحْرِم , وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : يَصُومهُنَّ مِنْ أَوَّل أَيَّام الْعَشْر , وَبِهِ قَالَ عَطَاء , وَقَالَ عُرْوَة : يَصُومهَا مَا دَامَ بِمَكَّة فِي أَيَّام مِنًى , وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِك وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة .

وَأَيَّام مِنًى هِيَ أَيَّام التَّشْرِيق الثَّلَاثَة الَّتِي تَلِي يَوْم النَّحْر . رَوَى مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُول : " الصِّيَام لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ لِمَنْ لَمْ يَجِد هَدْيًا مَا بَيْن أَنْ يُهِلّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْم عَرَفَة , فَإِنْ لَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّام مِنًى " , وَهَذَا اللَّفْظ يَقْتَضِي صِحَّة الصَّوْم مِنْ وَقْت يُحْرِم بِالْحَجِّ الْمُتَمَتِّع إِلَى يَوْم عَرَفَة , وَأَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأ , إِمَّا لِأَنَّهُ وَقْت الْأَدَاء وَمَا بَعْد ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَيَّام مِنًى وَقْت الْقَضَاء , عَلَى مَا يَقُولهُ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ , وَإِمَّا لِأَنَّ فِي تَقْدِيم الصِّيَام قَبْل يَوْم النَّحْر إِبْرَاء لِلذِّمَّةِ , وَذَلِكَ مَأْمُور بِهِ . وَالْأَظْهَر مِنْ الْمَذْهَب أَنَّهَا عَلَى وَجْه الْأَدَاء , وَإِنْ كَانَ الصَّوْم قَبْلهَا أَفْضَل , كَوَقْتِ الصَّلَاة الَّذِي فِيهِ سَعَة لِلْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ أَوَّله أَفْضَل مِنْ آخِره , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَأَنَّهَا أَدَاء لَا قَضَاء , فَإِنَّ قَوْله : " أَيَّام فِي الْحَجّ " يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد مَوْضِع الْحَجّ وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد أَيَّام الْحَجّ , فَإِنْ كَانَ الْمُرَاد أَيَّام الْحَجّ فَهَذَا الْقَوْل صَحِيح ; لِأَنَّ آخِر أَيَّام الْحَجّ يَوْم النَّحْر , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون آخِر أَيَّام الْحَجّ أَيَّام الرَّمْي ; لِأَنَّ الرَّمْي عَمَل مِنْ عَمَل الْحَجّ خَالِصًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْكَانه , وَإِنْ كَانَ الْمُرَاد مَوْضِع الْحَجّ صَامَهُ مَا دَامَ بِمَكَّة فِي أَيَّام مِنًى , كَمَا قَالَ عُرْوَة , وَيَقْوَى جِدًّا , وَقَدْ قَالَ قَوْم : لَهُ أَنْ يُؤَخِّرهَا اِبْتِدَاء إِلَى أَيَّام التَّشْرِيق ; لِأَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِ الصِّيَام إِلَّا بِأَلَّا يَجِد الْهَدْي يَوْم النَّحْر , فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ :

فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد وَعَلَيْهِ أَكْثَر أَصْحَابه إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق لِنَهْيِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَام أَيَّام مِنًى , قِيلَ لَهُ : إِنْ ثَبَتَ النَّهْي فَهُوَ عَامّ يُخَصَّص مِنْهُ الْمُتَمَتِّع بِمَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيّ أَنَّ عَائِشَة كَانَتْ تَصُومهَا , وَعَنْ اِبْن عُمَر وَعَائِشَة قَالَا : لَمْ يُرَخَّص فِي أَيَّام التَّشْرِيق أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِد الْهَدْي , وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : إِسْنَاده صَحِيح , وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا عَنْ اِبْن عُمَر وَعَائِشَة مِنْ طُرُق ثَلَاثَة ضَعَّفَهَا , وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي صَوْمهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَيَّامه إِلَّا بِمِقْدَارِهَا , وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّق وُجُوب الصَّوْم لِعَدَمِ الْهَدْي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ رُوِينَا عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَنَّهُ قَالَ : إِذَا فَاتَهُ الصَّوْم صَامَ بَعْد أَيَّام التَّشْرِيق , وَقَالَ الْحَسَن وَعَطَاء . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَذَلِكَ نَقُول , وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا فَاتَهُ الصَّوْم فِي الْعَشْر لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا الْهَدْي . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَطَاوُس وَمُجَاهِد , وَحَكَاهُ أَبُو عُمَر عَنْ أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه عَنْهُ , فَتَأَمَّلْهُ .

أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الصَّوْم لَا سَبِيل لِلْمُتَمَتِّعِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ يَجِد الْهَدْي , وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا كَانَ غَيْر وَاجِد لِلْهَدْيِ فَصَامَ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْي قَبْل إِكْمَال صَوْمه , فَذَكَرَ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك قَالَ : إِذَا دَخَلَ فِي الصَّوْم ثُمَّ وَجَدَ هَدْيًا فَأَحَبّ إِلَيَّ أَنْ يُهْدِي , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل أَجْزَاهُ الصِّيَام , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَمْضِي فِي صَوْمه وَهُوَ فَرْضه , وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو ثَوْر , وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا أَيْسَرَ فِي الْيَوْم الثَّالِث مِنْ صَوْمه بَطَلَ الصَّوْم وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْي , وَإِنْ صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ ثُمَّ أَيْسَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَصُوم السَّبْعَة الْأَيَّام لَا يَرْجِع إِلَى الْهَدْي , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي نَجِيح وَحَمَّاد .


قِرَاءَة الْجُمْهُور بِالْخَفْضِ عَلَى الْعَطْف , وَقَرَأَ زَيْد بْن عَلِيّ " وَسَبْعَة " بِالنَّصْبِ , عَلَى مَعْنَى : وَصُومُوا سَبْعَة .


يَعْنِي إِلَى بِلَادكُمْ , قَالَ اِبْن عُمَر وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَمُجَاهِد وَعَطَاء , وَقَالَهُ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . قَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع : هَذِهِ رُخْصَة مِنْ اللَّه تَعَالَى , فَلَا يَجِب عَلَى أَحَد صَوْم السَّبْعَة إِلَّا إِذَا وَصَلَ وَطَنه , إِلَّا أَنْ يَتَشَدَّد أَحَد , كَمَا يَفْعَل مَنْ يَصُوم فِي السَّفَر فِي رَمَضَان , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق : يُجْزِيه الصَّوْم فِي الطَّرِيق , وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَعَطَاء . قَالَ مُجَاهِد : إِنْ شَاءَ صَامَهَا فِي الطَّرِيق , إِنَّمَا هِيَ رُخْصَة , وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَة وَالْحَسَن . وَالتَّقْدِير عِنْد بَعْض أَهْل اللُّغَة : إِذَا رَجَعْتُمْ مِنْ الْحَجّ , أَيْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْل الْإِحْرَام مِنْ الْحِلّ , وَقَالَ مَالِك فِي الْكِتَاب : إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى فَلَا بَأْس أَنْ يَصُوم وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنْ كَانَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَة فَيَجُوز تَقْدِيم الرُّخَص وَتَرْك الرِّفْق فِيهَا إِلَى الْعَزِيمَة إِجْمَاعًا . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوْقِيتًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصّ , وَلَا ظَاهِر أَنَّهُ أَرَادَ الْبِلَاد , وَأَنَّهَا الْمُرَاد فِي الْأَغْلَب .

قُلْت : بَلْ فِيهِ ظَاهِر يَقْرُب إِلَى النَّصّ , يُبَيِّنهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : تَمَتَّعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ وَأَهْدَى , فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْي مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة , وَبَدَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ , وَتَمَتَّعَ النَّاس مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ , فَكَانَ مِنْ النَّاس مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْي , وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ , فَلَمَّا قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة قَالَ لِلنَّاسِ : ( مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ مِنْ شَيْء حُرِمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِي حَجّه وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ فَمَنْ لَمْ يَجِد هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْله ) الْحَدِيث , وَهَذَا كَالنَّصِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوز صَوْم السَّبْعَة الْأَيَّام إِلَّا فِي أَهْله وَبَلَده , وَاَللَّه أَعْلَم , وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيّ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس : ( ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّة التَّرْوِيَة أَنْ نُهِلّ بِالْحَجِّ فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِك جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَقَدْ تَمَّ حَجّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْي , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَاركُمْ [ الْبَقَرَة 196 ] . .. ) الْحَدِيث وَسَيَأْتِي . قَالَ النَّحَّاس : وَكَانَ هَذَا إِجْمَاعًا .


يُقَال : كَمَلَ يَكْمُل , مِثْل نَصَرَ يَنْصُر , وَكَمُلَ يَكْمُل , مِثْل عَظُمَ يَعْظُم , وَكَمِلَ يَكْمَل , مِثْل حَمِدَ يَحْمَد , ثَلَاث لُغَات , وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْله : " تِلْكَ عَشَرَة " وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا عَشَرَة , فَقَالَ الزَّجَّاج : لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَوَهَّم مُتَوَهِّم التَّخْيِير بَيْن ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ أَوْ سَبْعَة إِذَا رَجَعَ بَدَلًا مِنْهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَسَبْعَة أُخْرَى - أُزِيلَ ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ مِنْ قَوْله " تِلْكَ عَشَرَة " ثُمَّ قَالَ : " كَامِلَة " , وَقَالَ الْحَسَن : " كَامِلَة " فِي الثَّوَاب كَمَنْ أَهْدَى , وَقِيلَ : " كَامِلَة " فِي الْبَدَل عَنْ الْهَدْي , يَعْنِي الْعَشَرَة كُلّهَا بَدَل عَنْ الْهَدْي , وَقِيلَ : " كَامِلَة " فِي الثَّوَاب كَمَنْ لَمْ يَتَمَتَّع , وَقِيلَ : لَفْظهَا لَفْظ الْإِخْبَار وَمَعْنَاهَا الْأَمْر , أَيْ أَكْمِلُوهَا فَذَلِكَ فَرْضهَا , وَقَالَ الْمُبَرِّد : " عَشَرَة " دَلَالَة عَلَى اِنْقِضَاء الْعَدَد , لِئَلَّا يَتَوَهَّم مُتَوَهِّم أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْء بَعْد ذِكْر السَّبْعَة , وَقِيلَ : هُوَ تَوْكِيد , كَمَا تَقُول : كَتَبْت بِيَدَيَّ , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : ثَلَاث وَاثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْس وَسَادِسَة تَمِيل إِلَى شِمَامِي فَقَوْله " خَمْس " تَأْكِيد , وَمِثْله قَوْل الْآخَر : ثَلَاث بِالْغَدَاةِ فَذَاكَ حَسْي وَسِتّ حِين يُدْرِكنِي الْعِشَاء فَذَلِكَ تِسْعَة فِي الْيَوْم رَيِّي وَشُرْب الْمَرْء فَوْق الرَّيّ دَاء وَقَوْله " كَامِلَة " تَأْكِيد آخَر , فِيهِ زِيَادَة تَوْصِيَة بِصِيَامِهَا وَأَلَّا يَنْقُص مِنْ عَدَدهَا , كَمَا تَقُول لِمَنْ تَأْمُرهُ بِأَمْرٍ ذِي بَال : اللَّه اللَّه لَا تُقَصِّر .


أَيْ إِنَّمَا يَجِب دَم التَّمَتُّع عَنْ الْغَرِيب الَّذِي لَيْسَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام . خَرَّجَ الْبُخَارِيّ " عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَة الْحَجّ فَقَالَ : أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار وَأَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع وَأَهْلَلْنَا , فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِجْعَلُوا إِهْلَالكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَة إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْي ) طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَأَتَيْنَا النِّسَاء وَلَبِسْنَا الثِّيَاب , وَقَالَ : ( مَنْ قَلَّدَ الْهَدْي فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ حَتَّى يَبْلُغ الْهَدْي مَحِلّه ) ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّة التَّرْوِيَة أَنْ نُهِلّ بِالْحَجِّ , فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِك جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة فَقَدْ تَمَّ حَجّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْي , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ " إِلَى أَمْصَاركُمْ , الشَّاة تُجْزِي , فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَام بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَإِنَّ اللَّه أَنْزَلَهُ فِي كِتَابه وَسُنَّة نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْر أَهْل مَكَّة , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْله حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام " وَأَشْهُر الْحَجّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ شَوَّال وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحَجَّة , فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُر فَعَلَيْهِ دَم أَوْ صَوْم , وَالرَّفَث : الْجِمَاع وَالْفُسُوق : الْمَعَاصِي , وَالْجِدَال : الْمِرَاء .

اللَّام فِي قَوْله " لِمَنْ " بِمَعْنَى عَلَى , أَيْ وُجُوب الدَّم عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل مَكَّة , كَقَوْلِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاء ) , وَقَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا " [ الْإِسْرَاء : 7 ] أَيْ فَعَلَيْهَا , وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى التَّمَتُّع وَالْقِرَان لِلْغَرِيبِ عِنْد أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه , لَا مُتْعَة وَلَا قِرَان لِحَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام عِنْدهمْ . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ دَم جِنَايَة لَا يَأْكُل مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمِ تَمَتُّع . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَهُمْ دَم تَمَتُّع وَقِرَان , وَالْإِشَارَة تَرْجِع إِلَى الْهَدْي وَالصِّيَام , فَلَا هَدْي وَلَا صِيَام عَلَيْهِمْ , وَفَرَّقَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُونِ بَيْن التَّمَتُّع وَالْقِرَان , فَأَوْجَبَ الدَّم فِي الْقِرَان وَأَسْقَطَهُ فِي التَّمَتُّع , عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ .

وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام - بَعْد الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ أَهْل مَكَّة وَمَا اِتَّصَلَ بِهَا مِنْ حَاضِرِيهِ , وَقَالَ الطَّبَرِيّ : بَعْد الْإِجْمَاع عَلَى أَهْل الْحَرَم . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَيْسَ كَمَا قَالَ - فَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : مَنْ كَانَ يَجِب عَلَيْهِ الْجُمُعَة فَهُوَ حَضَرِيّ , وَمَنْ كَانَ أَبْعَد مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَدْوِيّ , فَجَعَلَ اللَّفْظَة مِنْ الْحَضَارَة وَالْبَدَاوَة , وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه هُمْ أَهْل مَكَّة وَمَا اِتَّصَلَ بِهَا خَاصَّة , وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه : هُمْ أَهْل الْمَوَاقِيت وَمَنْ وَرَاءَهَا مِنْ كُلّ نَاحِيَة , فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْمَوَاقِيت أَوْ مِنْ أَهْل مَا وَرَاءَهَا فَهُمْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه : هُمْ مَنْ لَا يَلْزَمهُ تَقْصِير الصَّلَاة مِنْ مَوْضِعه إِلَى مَكَّة , وَذَلِكَ أَقْرَب الْمَوَاقِيت , وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال مَذَاهِب السَّلَف فِي تَأْوِيل الْآيَة .


أَيْ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْكُمْ , وَقِيلَ : هُوَ أَمْر بِالتَّقْوَى عَلَى الْعُمُوم , وَتَحْذِير مِنْ شِدَّة عِقَابه .
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِسورة البقرة الآية رقم 197
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ خَيْر الزَّاد اِتِّقَاء الْمَنْهِيَّات فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى التَّزَوُّد التَّقْوَى , وَجَاءَ قَوْله " فَإِنَّ خَيْر الزَّاد التَّقْوَى " مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى " وَتَزَوَّدُوا " اِتَّقُوا اللَّه فِي اِتِّبَاع مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ الْخُرُوج بِالزَّادِ : وَقِيلَ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : فَإِنَّ خَيْر الزَّاد مَا اِتَّقَى بِهِ الْمُسَافِر مِنْ الْهَلَكَة أَوْ الْحَاجَة إِلَى السُّؤَال وَالتَّكَفُّف , وَقِيلَ : فِيهِ تَنْبِيه عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّار لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَار . قَالَ أَهْل الْإِشَارَات : ذَكَّرَهُمْ اللَّه تَعَالَى سَفَر الْآخِرَة وَحَثَّهُمْ عَلَى تَزَوُّد التَّقْوَى , فَإِنَّ التَّقْوَى زَاد الْآخِرَة . قَالَ الْأَعْشَى : إِذْ أَنْتَ لَمْ تَرْحَل بِزَادٍ مِنْ التُّقَى وَلَاقَيْت بَعْد الْمَوْت مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْت عَلَى أَلَّا تَكُون كَمِثْلِهِ وَأَنَّك لَمْ تَرْصُد كَمَا كَانَ أَرْصَدَا وَقَالَ آخَر : الْمَوْت بَحْر طَامِح مَوْجه تَذْهَب فِيهِ حِيلَة السَّابِح يَا نَفْس إِنِّي قَائِل فَاسْمَعِي مَقَالَة مِنْ مُشْفِق نَاصِح لَا يَصْحَب الْإِنْسَان فِي قَبْره غَيْر التُّقَى وَالْعَمَل الصَّالِح


خَصَّ أُولِي الْأَلْبَاب بِالْخِطَابِ - وَإِنْ كَانَ الْأَمْر يَعُمّ الْكُلّ - لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّة اللَّه , وَهُمْ قَابِلُو أَوَامِره وَالنَّاهِضُونَ بِهَا , وَالْأَلْبَاب جَمْع لُبّ , وَلُبّ كُلّ شَيْء : خَالِصه , وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْعَقْلِ : لُبّ . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت أَبَا إِسْحَاق يَقُول قَالَ لِي أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب : أَتَعْرِفُ فِي كَلَام الْعَرَب شَيْئًا مِنْ الْمُضَاعَف جَاءَ عَلَى فَعُلَ ؟ قُلْت نَعَمْ , حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ يُونُس : لَبُبْت تَلُبّ , فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ : مَا أَعْرِف لَهُ نَظِيرًا .

لَمَّا ذَكَرَ الْحَجّ وَالْعُمْرَة سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي قَوْله : " وَأَتِمُّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَة لِلَّهِ " [ الْبَقَرَة : 196 ] بَيَّنَ اِخْتِلَافهمَا فِي الْوَقْت , فَجَمِيع السَّنَة وَقْت لِلْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ , وَوَقْت الْعُمْرَة , وَأَمَّا الْحَجّ فَيَقَع فِي السَّنَة مَرَّة , فَلَا يَكُون فِي غَيْر هَذِهِ الْأَشْهُر . و " الْحَجّ أَشْهُر مَعْلُومَات " اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَفِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره : أَشْهُر الْحَجّ أَشْهُر , أَوْ وَقْت الْحَجّ أَشْهُر , أَوْ وَقْت عَمَل الْحَجّ أَشْهُر , وَقِيلَ التَّقْدِير : الْحَجّ فِي أَشْهُر , وَيَلْزَمهُ مَعَ سُقُوط حَرْف الْجَرّ نَصْب الْأَشْهُر , وَلَمْ يَقْرَأ أَحَد بِنَصْبِهَا , إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز فِي الْكَلَام النَّصْب عَلَى أَنَّهُ ظَرْف . قَالَ الْفَرَّاء : الْأَشْهُر رُفِعَ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَقْت الْحَجّ أَشْهُر مَعْلُومَات . قَالَ الْفَرَّاء : وَسَمِعْت الْكِسَائِيّ يَقُول : إِنَّمَا الصَّيْف شَهْرَانِ , وَإِنَّمَا الطَّيْلَسَان ثَلَاثَة أَشْهُر . أَرَادَ وَقْت الصَّيْف , وَوَقْت لِبَاس الطَّيْلَسَان , فَحَذَفَ .

وَاخْتُلِفَ فِي الْأَشْهُر الْمَعْلُومَات , فَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَعَطَاء وَالرَّبِيع وَمُجَاهِد وَالزُّهْرِيّ : أَشْهُر الْحَجّ شَوَّال وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحَجَّة كُلّه . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ : هِيَ شَوَّال وَذُو الْقَعْدَة وَعَشْرَة مِنْ ذِي الْحَجَّة , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود , وَقَالَهُ اِبْن الزُّبَيْر , وَالْقَوْلَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْ مَالِك , حَكَى الْأَخِير اِبْن حَبِيب , وَالْأَوَّل اِبْن الْمُنْذِر , وَفَائِدَة الْفَرْق تَعَلُّق الدَّم , فَمَنْ قَالَ : إِنَّ ذَا الْحَجَّة كُلّه مِنْ أَشْهُر الْحَجّ لَمْ يَرَ دَمًا فِيمَا يَقَع مِنْ الْأَعْمَال بَعْد يَوْم النَّحْر ; لِأَنَّهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ , وَعَلَى الْقَوْل الْأَخِير يَنْقَضِي الْحَجّ بِيَوْمِ النَّحْر , وَيَلْزَم الدَّم فِيمَا عَمِلَ بَعْد ذَلِكَ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْته .

لَمْ يُسَمِّ اللَّه تَعَالَى أَشْهُر الْحَجّ فِي كِتَابه ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَة عِنْدهمْ, وَلَفْظ الْأَشْهُر قَدْ يَقَع عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْض الثَّالِث ; لِأَنَّ بَعْض الشَّهْر يَتَنَزَّل مَنْزِلَة كُلّه , كَمَا يُقَال : رَأَيْتُك سَنَة كَذَا , أَوْ عَلَى عَهْد فُلَان , وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا رَآهُ فِي سَاعَة مِنْهَا , فَالْوَقْت يُذْكَر بَعْضه بِكُلِّهِ , كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيَّام مِنًى ثَلَاثَة ) . وَإِنَّمَا هِيَ يَوْمَانِ وَبَعْض الثَّالِث . وَيَقُولُونَ : رَأَيْتُك الْيَوْم , وَجِئْتُك الْعَام , وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ الِاثْنَانِ وَمَا فَوْقهمَا جَمْع قَالَ أَشْهُر , وَاَللَّه أَعْلَم .

اُخْتُلِفَ فِي الْإِهْلَال بِالْحَجِّ غَيْر أَشْهُر الْحَجّ , فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس : مِنْ سُنَّة الْحَجّ أَنْ يُحْرَم بِهِ فِي أَشْهُر الْحَجّ , وَقَالَ عَطَاء وَمُجَاهِد وَطَاوُس وَالْأَوْزَاعِيّ : مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُر الْحَجّ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ حَجِّهِ وَيَكُون عُمْرَة , كَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاة قَبْل وَقْتهَا فَإِنَّهُ لَا تُجْزِيه وَتَكُون نَافِلَة , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر , وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يَحِلّ بِعُمْرَةٍ , وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : هَذَا مَكْرُوه , وَرُوِيَ عَنْ مَالِك , وَالْمَشْهُور عَنْهُ جَوَاز الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فِي جَمِيع السَّنَة كُلّهَا , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة , وَقَالَ النَّخَعِيّ : لَا يَحِلّ حَتَّى يَقْضِي حَجّه , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّة قُلْ هِيَ مَوَاقِيت لِلنَّاسِ وَالْحَجّ " [ الْبَقَرَة : 189 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهَا , وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيّ أَصَحّ ; لِأَنَّ تِلْكَ عَامَّة , وَهَذِهِ الْآيَة خَاصَّة , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون مِنْ بَاب النَّصّ عَلَى بَعْض أَشْخَاص الْعُمُوم , لِفَضْلِ هَذِهِ الْأَشْهُر عَلَى غَيْرهَا , وَعَلَيْهِ فَيَكُون قَوْل مَالِك صَحِيحًا , وَاَللَّه أَعْلَم .


أَيْ أَلْزَمَهُ نَفْسه بِالشُّرُوعِ فِيهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا , وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا , وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا , قَالَهُ اِبْن حَبِيب وَأَبُو حَنِيفَة فِي التَّلْبِيَة . وَلَيْسَتْ التَّلْبِيَة عِنْد الشَّافِعِيّ مِنْ أَرْكَان الْحَجّ , وَهُوَ قَوْل الْحَسَن بْن حَيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ : تَكْفِي النِّيَّة فِي الْإِحْرَام بِالْحَجِّ , وَأَوْجَبَ التَّلْبِيَة أَهْل الظَّاهِر وَغَيْرهمْ , وَأَصْل الْفَرْض فِي اللُّغَة : الْحَزّ وَالْقَطْع , وَمِنْهُ فُرْضَة الْقَوْس وَالنَّهَر وَالْجَبَل , فَفَرْضِيَّة الْحَجّ لَازِمَة لِلْعَبْدِ الْحُرّ كَلُزُومِ الْحَزّ لِلْقَدَحِ , وَقِيلَ : " فَرَضَ " أَيْ أَبَانَ , وَهَذَا يَرْجِع إِلَى الْقَطْع ; لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أَبَانَهُ عَنْ غَيْره . و " مَنْ " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمَعْنَاهَا الشَّرْط , وَالْخَبَر قَوْله : " فَرَضَ " لِأَنَّ " مَنْ " لَيْسَتْ بِمَوْصُولَةٍ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : رَجُل فَرْض . وَقَالَ : " فِيهِنَّ " وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا , فَقَالَ قَوْم : هُمَا سَوَاء فِي الِاسْتِعْمَال . وَقَالَ الْمَازِنِيّ أَبُو عُثْمَان : الْجَمْع الْكَثِير لِمَا لَا يَعْقِل يَأْتِي كَالْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَة , وَالْقَلِيل لَيْسَ كَذَلِكَ , تَقُول : الْأَجْذَاع اِنْكَسَرْنَ , وَالْجُذُوع اِنْكَسَرَتْ , وَيُؤَيِّد ذَلِكَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ عِدَّة الشُّهُور " [ التَّوْبَة : 36 ] ثُمَّ قَالَ : " مِنْهَا " .


قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة وَالزُّهْرِيّ وَمُجَاهِد وَمَالِك : الرَّفَث الْجِمَاع , أَيْ فَلَا جِمَاع لِأَنَّهُ يُفْسِدهُ , وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْجِمَاع قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَة مُفْسِد لِلْحَجِّ , وَعَلَيْهِ حَجّ قَابِل وَالْهَدْي . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَطَاوُس وَعَطَاء وَغَيْرهمْ : الرَّفَث الْإِفْحَاش لِلْمَرْأَةِ بِالْكَلَامِ , لِقَوْلِهِ : إِذَا أَحْلَلْنَا فَعَلْنَا بِك كَذَا , مِنْ غَيْر كِنَايَة , وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا , وَأَنْشَدَ وَهُوَ مُحْرِم : وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا إِنْ تَصْدُق الطَّيْر نَنِكْ لَمِيسَا فَقَالَ لَهُ صَاحِبه حُصَيْن بْن قَيْس : أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِم فَقَالَ : إِنَّ الرَّفَث مَا قِيلَ عِنْد النِّسَاء , وَقَالَ قَوْم : الرَّفَث الْإِفْحَاش بِذِكْرِ النِّسَاء , كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِنَّ أَمْ لَا , وَقِيلَ : الرَّفَث كَلِمَة جَامِعَة لِمَا يُرِيدهُ الرَّجُل مِنْ أَهْله , وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الرَّفَث اللَّغَا مِنْ الْكَلَام , وَأَنْشَدَ : وَرُبَّ أَسْرَاب حَجِيج كُظَّم عَنْ اللَّغَا وَرَفَث التَّكَلُّم يُقَال : رَفَثَ يَرْفُث , بِضَمِّ الْفَاء وَكَسْرهَا , وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " فَلَا رُفُوث " عَلَى الْجَمْع . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " فَلَا رَفَث " نَفْيه مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا , فَإِنَّا نَجِد الرَّفَث فِيهِ وَنُشَاهِدهُ , وَخَبَر اللَّه سُبْحَانه لَا يَجُوز أَنْ يَقَع بِخِلَافِ مَخْبَره , وَإِنَّمَا يَرْجِع النَّفْي إِلَى وُجُوده مَشْرُوعًا لَا إِلَى وُجُوده مَحْسُوسًا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء " [ الْبَقَرَة : 228 ] مَعْنَاهُ : شَرْعًا لَا حِسًّا , فَإِنَّا نَجِد الْمُطَلَّقَات لَا يَتَرَبَّصْنَ , فَعَادَ النَّفْي إِلَى الْحُكْم الشَّرْعِيّ لَا إِلَى الْوُجُود الْحِسِّيّ , وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَا يَمَسّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الْوَاقِعَة : 79 ] إِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ وَارِد فِي الْآدَمِيِّينَ - وَهُوَ الصَّحِيح - أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسّهُ أَحَد مِنْهُمْ شَرْعًا , فَإِنْ وُجِدَ الْمَسّ فَعَلَى خِلَاف حُكْم الشَّرْع , وَهَذِهِ الدَّقِيقَة هِيَ الَّتِي فَاتَتْ الْعُلَمَاء فَقَالُوا : إِنَّ الْخَبَر يَكُون بِمَعْنَى النَّهْي , وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ , وَلَا يَصِحّ أَنْ يُوجَد , فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَة وَمُتَضَادَّانِ وَصْفًا .


يَعْنِي جَمِيع الْمَعَاصِي كُلّهَا , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالْحَسَن , وَكَذَلِكَ قَالَ اِبْن عُمَر وَجَمَاعَة : الْفُسُوق إِتْيَان مَعَاصِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي حَال إِحْرَامه بِالْحَجِّ , كَقَتْلِ الصَّيْد وَقَصّ الظُّفْر وَأَخْذ الشَّعْر , وَشَبَه ذَلِكَ , وَقَالَ اِبْن زَيْد وَمَالِك : الْفُسُوق الذَّبْح لِلْأَصْنَامِ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّه بِهِ " [ الْأَنْعَام : 145 ] . وَقَالَ الضَّحَّاك : الْفُسُوق التَّنَابُز بِالْأَلْقَابِ , وَمِنْهُ قَوْله : " بِئْسَ الِاسْم الْفُسُوق " [ الْحُجُرَات : 11 ] . وَقَالَ اِبْن عُمَر أَيْضًا : الْفُسُوق السِّبَاب , وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( سِبَاب الْمُسْلِم فُسُوق وَقِتَاله كُفْر ) , وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ ; لِأَنَّهُ يَتَنَاوَل جَمِيع الْأَقْوَال . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُث وَلَمْ يَفْسُق رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) , ( وَالْحَجّ الْمَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره , وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض مِنْ عَمَل أَفْضَل مِنْ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه أَوْ حَجَّة مَبْرُورَة لَا رَفَث فِيهَا وَلَا فُسُوق وَلَا جِدَال ) , وَقَالَ الْفُقَهَاء : الْحَجّ الْمَبْرُور هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ أَثْنَاء أَدَائِهِ , وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّه سُبْحَانه بَعْده , ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ اِبْن الْعَرَبِيّ رَحِمَهُ اللَّه . قُلْت : الْحَجّ الْمَبْرُور هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّه سُبْحَانه فِيهِ لَا بَعْده . قَالَ الْحَسَن : الْحَجّ الْمَبْرُور هُوَ أَنْ يَرْجِع صَاحِبه زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَة , وَقِيلَ غَيْر هَذَا , وَسَيَأْتِي .

قُرِئَ " فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين فِيهِمَا , وَقُرِئَا بِالنَّصْبِ بِغَيْرِ تَنْوِين , وَأَجْمَعُوا عَلَى الْفَتْح فِي " وَلَا جِدَال " , وَهُوَ يُقَوِّي قِرَاءَة النَّصْب فِيمَا قَبْله ; وَلِأَنَّ الْمَقْصُود النَّفْي الْعَامّ مِنْ الرَّفَث وَالْفُسُوق وَالْجِدَال , وَلِيَكُونَ الْكَلَام عَلَى نِظَام وَاحِد فِي عُمُوم الْمَنْفِيّ كُلّه , وَعَلَى النَّصْب أَكْثَر الْقُرَّاء , وَالْأَسْمَاء الثَّلَاثَة فِي مَوْضِع رَفْع , كُلّ وَاحِد مَعَ " لَا " , وَقَوْله " فِي الْحَجّ " خَبَر عَنْ جَمِيعهَا , وَوَجْه قِرَاءَة الرَّفْع أَنَّ " لَا " بِمَعْنَى " لَيْسَ " فَارْتَفَعَ الِاسْم بَعْدهَا ; لِأَنَّهُ اِسْمهَا , وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره : فَلَيْسَ رَفَث وَلَا فُسُوق فِي الْحَجّ , دَلَّ عَلَيْهِ " فِي الْحَجّ " الثَّانِي الظَّاهِر وَهُوَ خَبَر " لَا جِدَال " , وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : الرَّفْع بِمَعْنَى فَلَا يَكُونَن رَفَث وَلَا فُسُوق , أَيْ شَيْء يُخْرِج مِنْ الْحَجّ , ثُمَّ اِبْتَدَأَ النَّفْي فَقَالَ : وَلَا جِدَال . قُلْت : فَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون كَانَ تَامَّة , مِثْل قَوْله : " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة " فَلَا تَحْتَاج إِلَى خَبَر . وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون نَاقِصَة وَالْخَبَر مَحْذُوف , كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا , وَيَجُوز أَنْ يُرْفَع " رَفَث وَفُسُوق " بِالِابْتِدَاءِ , " وَلَا " لِلنَّفْيِ , وَالْخَبَر مَحْذُوف أَيْضًا . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَة , وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِم فِي بَعْض الطُّرُق وَعَلَيْهِ يَكُون " فِي الْحَجّ " خَبَر الثَّلَاثَة , كَمَا قُلْنَا فِي قِرَاءَة النَّصْب , وَإِنَّمَا لَمْ يَحْسُن أَنْ يَكُون " فِي الْحَجّ " خَبَر عَنْ الْجَمِيع مَعَ اِخْتِلَاف الْقِرَاءَة ; لِأَنَّ خَبَر لَيْسَ مَنْصُوب وَخَبَر " وَلَا جِدَال " مَرْفُوع ; لِأَنَّ " وَلَا جِدَال " مَقْطُوع مِنْ الْأَوَّل وَهُوَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَلَا يَعْمَل عَامِلَانِ فِي اِسْم وَاحِد , وَيَجُوز " فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق " تَعْطِفهُ عَلَى الْمَوْضِع , وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ : لَا نَسَب الْيَوْم وَلَا خُلَّة اِتَّسَعَ الْخَرْق عَلَى الرَّاقِع وَيَجُوز فِي الْكَلَام " فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوقًا وَلَا جِدَال فِي الْحَجّ " عَطْفًا عَلَى اللَّفْظ عَلَى مَا كَانَ يَجِب فِي " لَا " قَالَ الْفَرَّاء : وَمِثْله : فَلَا أَب وَابْنًا مِثْل مَرْوَان وَابْنه إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ اِرْتَدَى وَتَأَزَّرَا وَقَالَ أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ : " فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق " بِالنَّصْبِ فِيهِمَا , " وَلَا جِدَال " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين , وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش : هَذَا وَجَدّكُمْ الصِّغَار بِعَيْنِهِ لَا أُمّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلَا أَب وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى " فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق " النَّهْي , أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا . وَمَعْنَى " وَلَا جِدَال " النَّفْي , فَلَمَّا اِخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى خُولِفَ بَيْنهمَا فِي اللَّفْظ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَفِيهِ نَظَر , إِذْ قِيلَ : " وَلَا جِدَال " نَهْي أَيْضًا , أَيْ لَا تُجَادِلُوا , فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنهمَا

" وَلَا جِدَال " الْجِدَال وَزْنه فِعَال مِنْ الْمُجَادَلَة , وَهِيَ مُشْتَقَّة مِنْ الْجَدْل وَهُوَ الْقَتْل , وَمِنْهُ زِمَام مَجْدُول . وَقِيلَ : هِيَ مُشْتَقَّة مِنْ الْجَدَالَة الَّتِي هِيَ الْأَرْض فَكَأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ الْخَصْمَيْنِ يُقَاوِم صَاحِبه حَتَّى يَغْلِبهُ , فَيَكُون كَمَنْ ضَرَبَ بِهِ الْجَدَالَة . قَالَ الشَّاعِر : قَدْ أَرْكَب الْآلَة بَعْد الْآلَة وَأَتْرُك الْعَاجِز بِالْجَدَالَهْ مُنْعَفِرًا لَيْسَتْ لَهُ مَحَالَهْ وَاخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِهِ هُنَا عَلَى أَقْوَال سِتَّة , فَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء : الْجِدَال هُنَا أَنْ تُمَارِي مُسْلِمًا حَتَّى تُغْضِبهُ فَيَنْتَهِي إِلَى السِّبَاب , فَأَمَّا مُذَاكَرَة الْعِلْم فَلَا نَهْي عَنْهَا , وَقَالَ قَتَادَة : الْجِدَال السِّبَاب , وَقَالَ اِبْن زَيْد وَمَالِك بْن أَنَس : الْجِدَال هُنَا أَنْ يَخْتَلِف النَّاس : أَيّهمْ صَادَفَ مَوْقِف إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام , كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة حِين كَانَتْ قُرَيْش تَقِف فِي غَيْر مَوْقِف سَائِر الْعَرَب , ثُمَّ يَتَجَادَلُونَ بَعْد ذَلِكَ , فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيل : لَا جِدَال فِي مَوَاضِعه , وَقَالَتْ طَائِفَة : الْجِدَال هُنَا أَنْ تَقُول طَائِفَة : الْحَجّ الْيَوْم , وَتَقُول طَائِفَة : الْحَجّ غَدًا , وَقَالَ مُجَاهِد وَطَائِفَة مَعَهُ : الْجِدَال الْمُمَارَاة فِي الشُّهُور حَسَب مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَب مِنْ النَّسِيء , كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا الْحَجّ فِي غَيْر ذِي الْحَجَّة , وَيَقِف بَعْضهمْ بِجَمْعٍ وَبَعْضهمْ بِعَرَفَة , وَيَتَمَارَوْنَ فِي الصَّوَاب مِنْ ذَلِكَ .

قُلْت : فَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لَا جِدَال فِي وَقْته وَلَا فِي مَوْضِعه , وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ أَصَحّ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيل قَوْله " وَلَا جِدَال " , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض . .. ) الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي فِي " بَرَاءَة " . يَعْنِي رَجَعَ أَمْر الْحَجّ كَمَا كَانَ , أَيْ عَادَ إِلَى يَوْمه وَوَقْته , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ ) فَبَيَّنَ بِهَذَا مَوَاقِف الْحَجّ وَمَوَاضِعه , وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : الْجِدَال أَنْ تَقُول طَائِفَة : حَجّنَا أَبَرّ مِنْ حَجّكُمْ , وَيَقُول الْآخَر مِثْل ذَلِكَ , وَقِيلَ : الْجِدَال كَانَ فِي الْفَخْر بِالْآبَاءِ , وَاَللَّه أَعْلَم .


شَرْط وَجَوَابه , وَالْمَعْنَى : أَنَّ اللَّه يُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالكُمْ ; لِأَنَّ الْمُجَازَاة إِنَّمَا تَقَع مِنْ الْعَالِم بِالشَّيْءِ , وَقِيلَ : هُوَ تَحْرِيض وَحَثّ عَلَى حُسْن الْكَلَام مَكَان الْفُحْش , وَعَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى فِي الْأَخْلَاق مَكَان الْفُسُوق وَالْجِدَال . وَقِيلَ : جُعِلَ فِعْل الْخَيْر عِبَارَة عَنْ ضَبْط أَنْفُسهمْ حَتَّى لَا يُوجَد مَا نُهُوا عَنْهُ .

أَمْر بِاِتِّخَاذِ الزَّاد . قَالَ اِبْن عُمَر وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَابْن زَيْد : نَزَلَتْ الْآيَة فِي طَائِفَة مِنْ الْعَرَب كَانَتْ تَجِيء إِلَى الْحَجّ بِلَا زَاد , وَيَقُول بَعْضهمْ : كَيْف نَحُجّ بَيْت اللَّه وَلَا يُطْعِمنَا , فَكَانُوا يَبْقَوْنَ عَالَة عَلَى النَّاس , فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ , وَأُمِرُوا بِالزَّادِ . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر : كَانَ النَّاس يَتَّكِل بَعْضهمْ عَلَى بَعْض بِالزَّادِ , فَأُمِرُوا بِالزَّادِ , وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيره رَاحِلَة عَلَيْهَا زَاد , وَقَدِمَ عَلَيْهِ ثَلَثمِائَةِ رَجُل مِنْ مُزَيْنَة , فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَنْصَرِفُوا قَالَ : ( يَا عُمَر زَوِّدْ الْقَوْم ) , وَقَالَ بَعْض النَّاس : " تَزَوَّدُوا " الرَّفِيق الصَّالِح , وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا تَخْصِيص ضَعِيف , وَالْأَوْلَى فِي مَعْنَى الْآيَة : وَتَزَوَّدُوا لِمَعَادِكُمْ مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة .

قُلْت : الْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ , فَإِنَّ الْمُرَاد الزَّاد الْمُتَّخَذ فِي سَفَر الْحَجّ الْمَأْكُول حَقِيقَة كَمَا ذَكَرْنَا , كَمَا رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ أَهْل الْيَمَن يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ , فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّة سَأَلُوا النَّاس , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْر الزَّاد التَّقْوَى " وَهَذَا نَصّ فِيمَا ذَكَرْنَا , وَعَلَيْهِ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : قَالَ الشَّعْبِيّ : الزَّاد التَّمْر وَالسَّوِيق . اِبْن جُبَيْر : الْكَعْك وَالسَّوِيق . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ لِمَنْ كَانَ لَهُ مَال , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال فَإِنْ كَانَ ذَا حِرْفَة تَنْفُق فِي الطَّرِيق أَوْ سَائِلًا فَلَا خِطَاب عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّه أَهْل الْأَمْوَال الَّذِينَ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَمْوَالهمْ وَيَخْرُجُونَ بِغَيْرِ زَاد وَيَقُولُونَ : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ وَالتَّوَكُّل لَهُ شُرُوط , مَنْ قَامَ بِهَا خَرَجَ بِغَيْرِ زَاد وَلَا يَدْخُل فِي الْخِطَاب , فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَب مِنْ الْخَلْق وَهُمْ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَة التَّوَكُّل الْغَافِلُونَ عَنْ حَقَائِقه , وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم " . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : وَقَدْ لَبِسَ إِبْلِيس عَلَى قَوْم يَدَّعُونَ التَّوَكُّل , فَخَرَجُوا بِلَا زَاد وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوَكُّل وَهُمْ عَلَى غَايَة الْخَطَأ . قَالَ رَجُل لِأَحْمَد بْن حَنْبَل : أُرِيد أَنْ أَخْرُج إِلَى مَكَّة عَلَى التَّوَكُّل بِغَيْرِ زَاد , فَقَالَ لَهُ أَحْمَد : اُخْرُجْ فِي غَيْر الْقَافِلَة , فَقَالَ لَا , إِلَّا مَعَهُمْ . قَالَ : فَعَلَى جُرُب النَّاس تَوَكَّلْت ؟ !
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَسورة البقرة الآية رقم 198
" جُنَاح " أَيْ إِثْم , وَهُوَ اِسْم لَيْسَ . " أَنْ تَبْتَغُوا " فِي مَوْضِع نَصْب خَبَر لَيْسَ , أَيْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا , وَعَلَى قَوْل الْخَلِيل وَالْكِسَائِيّ أَنَّهَا فِي مَوْضِع خَفْض , وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِتَنْزِيهِ الْحَجّ عَنْ الرَّفَث وَالْفُسُوق وَالْجِدَال رَخَّصَ فِي التِّجَارَة , الْمَعْنَى : لَا جُنَاح عَلَيْكُمْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا فَضْل اللَّه , وَابْتِغَاء الْفَضْل وَرَدَ فِي الْقُرْآن بِمَعْنَى التِّجَارَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّه " [ الْجُمُعَة : 10 ] , وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( كَانَتْ عُكَاظ وَمَجَنَّة وَذُو الْمَجَاز أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّة فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِم فَنَزَلَتْ : " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبّكُمْ " فِي مَوَاسِم الْحَجّ )

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز التِّجَارَة فِي الْحَجّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاء الْعِبَادَة , وَأَنَّ الْقَصْد إِلَى ذَلِكَ لَا يَكُون شِرْكًا وَلَا يَخْرُج بِهِ الْمُكَلَّف عَنْ رَسْم الْإِخْلَاص الْمُفْتَرَض عَلَيْهِ , خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ . أَمَّا إِنَّ الْحَجّ دُون تِجَارَة أَفْضَل , لِعُرُوِّهَا عَنْ شَوَائِب الدُّنْيَا وَتَعَلُّق الْقَلْب بِغَيْرِهَا . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي أُمَامَة التَّيْمِيّ قَالَ قُلْت لِابْنِ عُمَر : إِنِّي رَجُل أُكَرِّي فِي هَذَا الْوَجْه , وَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا حَجّ لَك , فَقَالَ اِبْن عُمَر : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ مِثْل هَذَا الَّذِي سَأَلْتنِي , فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبّكُمْ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لَك حَجًّا ) .


أَيْ اِنْدَفَعْتُمْ , وَيُقَال : فَاضَ الْإِنَاء إِذَا اِمْتَلَأَ حَتَّى يَنْصَبّ عَنْ نَوَاحِيه , وَرَجُل فَيَّاض , أَيْ مُنْدَفِق بِالْعَطَاءِ . قَالَ زُهَيْر : وَأَبْيَض فَيَّاض يَدَاهُ غَمَامَة عَلَى مُعْتَفِيه مَا تُغِبّ فَوَاضِله وَحَدِيث مُسْتَفِيض , أَيْ شَائِع .

قِرَاءَة الْجَمَاعَة " عَرَفَات " بِالتَّنْوِينِ , وَكَذَلِكَ لَوْ سُمِّيَتْ اِمْرَأَة بِمُسْلِمَاتٍ ; لِأَنَّ التَّنْوِين هُنَا لَيْسَ فَرْقًا بَيْن مَا يَنْصَرِف وَمَا لَا يَنْصَرِف فَتَحْذِفهُ , وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّون فِي مُسْلِمِينَ . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا الْجَيِّد . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ الْعَرَب حَذْف التَّنْوِين مِنْ عَرَفَات , يَقُولهُ : هَذِهِ عَرَفَاتُ يَا هَذَا , وَرَأَيْت عَرَفَاتِ يَا هَذَا , بِكَسْرِ التَّاء وَبِغَيْرِ تَنْوِين , قَالَ : لَمَّا جَعَلُوهَا مَعْرِفَة حَذَفُوا التَّنْوِين , وَحَكَى الْأَخْفَش وَالْكُوفِيُّونَ فَتْح التَّاء , تَشْبِيهًا بِتَاءِ فَاطِمَة وَطَلْحَة , وَأَنْشَدُوا : تَنَوَّرْتهَا مِنْ أَذْرِعَات وَأَهْلهَا بِيَثْرِب أَدْنَى دَارهَا نَظَر عَالِ وَالْقَوْل الْأَوَّل أَحْسَن , وَأَنَّ التَّنْوِين فِيهِ عَلَى حَدّه فِي مُسْلِمَات , الْكَسْرَة مُقَابِلَة الْيَاء فِي مُسْلِمِينَ وَالتَّنْوِين مُقَابِل النُّون . وَعَرَفَات : اِسْم عَلَم , سُمِّيَ بِجَمْعٍ كَأَذْرِعَات , وَقِيلَ : سُمِّيَ بِمَا حَوْله , كَأَرْضٍ سَبَاسِب , وَقِيلَ : سُمِّيَتْ تِلْكَ الْبُقْعَة عَرَفَات لِأَنَّ النَّاس يَتَعَارَفُونَ بِهَا , وَقِيلَ : لِأَنَّ آدَم لَمَّا هَبَطَ وَقَعَ بِالْهِنْدِ , وَحَوَّاء بِجُدَّة , فَاجْتَمَعَا بَعْد طُول الطَّلَب بِعَرَفَاتٍ يَوْم عَرَفَة وَتَعَارَفَا , فَسُمِّيَ الْيَوْم عَرَفَة , وَالْمَوْضِع عَرَفَات , قَالَهُ الضَّحَّاك , وَقِيلَ غَيْر هَذَا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْره عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا " [ الْبَقَرَة : 128 ] . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالظَّاهِر أَنَّ اِسْمه مُرْتَجِل كَسَائِرِ أَسْمَاء الْبِقَاع , وَعَرَفَة هِيَ نَعْمَان الْأَرَاك , وَفِيهَا يَقُول الشَّاعِر : تَزَوَّدْت مِنْ نَعْمَان عُود أَرَاكَة لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبَلِّغهُ هِنْدًا وَقِيلَ : هِيَ مَأْخُوذَة مِنْ الْعَرْف وَهُوَ الطِّيب , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " عَرَّفَهَا لَهُمْ " [ مُحَمَّد : 6 ] أَيْ طَيَّبَهَا , فَهِيَ طَيِّبَة بِخِلَافِ مِنًى الَّتِي فِيهَا الْفُرُوث وَالدِّمَاء , فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَات . وَيَوْم الْوُقُوف يَوْم عَرَفَة , وَقَالَ بَعْضهمْ : أَصْل هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ الصَّبْر , يُقَال : رَجُل عَارِف . إِذَا كَانَ صَابِرًا خَاشِعًا , وَيُقَال فِي الْمَثَل : النَّفْس عَرُوف وَمَا حَمَّلْتهَا تَتَحَمَّل . قَالَ : فَصَبَرْت عَارِفَة لِذَلِكَ حُرَّة أَيْ نَفْس صَابِرَة . وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : عَرُوف لِمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ الْمَقَادِر أَيْ صَبُور عَلَى قَضَاء اللَّه , فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْم لِخُضُوعِ الْحَاجّ وَتَذَلُّلهمْ , وَصَبْرهمْ عَلَى الدُّعَاء وَأَنْوَاع الْبَلَاء وَاحْتِمَال الشَّدَائِد , لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْعِبَادَة .

أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَة يَوْم عَرَفَة قَبْل الزَّوَال ثُمَّ أَفَاضَ مِنْهَا قَبْل الزَّوَال أَنَّهُ لَا يُعْتَدّ بِوُقُوفِهِ ذَلِكَ قَبْل الزَّوَال , وَأَجْمَعُوا عَلَى تَمَام حَجّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَة بَعْد الزَّوَال وَأَفَاضَ نَهَارًا قَبْل اللَّيْل , إِلَّا مَالِك بْن أَنَس فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بُدّ أَنْ يَأْخُذ مِنْ اللَّيْل شَيْئًا , وَأَمَّا مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَة بِاللَّيْلِ فَإِنَّهُ لَا خِلَاف بَيْن الْأُمَّة فِي تَمَام حَجّه , وَالْحُجَّة لِلْجُمْهُورِ مُطْلَق قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات " وَلَمْ يَخُصّ لَيْلًا مِنْ نَهَار , وَحَدِيث عُرْوَة بْن مُضَرِّس قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَوْقِف مِنْ جَمْع , فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه , جِئْتُك مِنْ جَبَلَيْ طَيِّئ أَكْلَلْت مَطِيَّتِي , وَأَتْعَبْت نَفْسِي , وَاَللَّه إِنْ تَرَكْت مِنْ جَبَل إِلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ , فَهَلْ لِي مِنْ حَجّ يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ صَلَّى مَعَنَا صَلَاة الْغَدَاة بِجَمْعٍ وَقَدْ أَتَى عَرَفَات قَبْل ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ قَضَى تَفَثه وَتَمَّ حَجّه ) . أَخْرَجَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ الْأَئِمَّة , مِنْهُمْ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَاللَّفْظ لَهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث حَسَن صَحِيح , وَقَالَ أَبُو عُمَر : حَدِيث عُرْوَة بْن مُضَرِّس الطَّائِيّ حَدِيث ثَابِت صَحِيح , رَوَاهُ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب الشَّعْبِيّ الثِّقَات عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عُرْوَة بْن مُضَرِّس , مِنْهُمْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد وَدَاوُد بْن أَبِي هِنْد وَزَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَة وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي السَّفَر وَمُطَرِّف , كُلّهمْ عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عُرْوَة بْن مُضَرِّس بْن أَوْس بْن حَارِثَة بْن لَام , وَحُجَّة مَالِك مِنْ السُّنَّة الثَّابِتَة : حَدِيث جَابِر الطَّوِيل , خَرَّجَهُ مُسْلِم , وَفِيهِ : فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس وَذَهَبَتْ الصُّفْرَة قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْص , وَأَفْعَاله عَلَى الْوُجُوب , لَا سِيَّمَا فِي الْحَجّ وَقَدْ قَالَ : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ ) .

وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُور فِيمَنْ أَفَاضَ قَبْل غُرُوب الشَّمْس وَلَمْ يَرْجِع مَاذَا عَلَيْهِ مَعَ صِحَّة الْحَجّ , فَقَالَ عَطَاء وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي وَغَيْرهمْ : عَلَيْهِ دَم , وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : عَلَيْهِ هَدْي , وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : عَلَيْهِ بَدَنَة , وَقَالَ مَالِك : عَلَيْهِ حَجّ قَابِل , وَالْهَدْي يَنْحَرهُ فِي حَجّ قَابِل , وَهُوَ كَمَنْ فَاتَهُ الْحَجّ . فَإِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَة حَتَّى يَدْفَع بَعْد مَغِيب الشَّمْس فَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا شَيْء عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد , وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ : لَا يَسْقُط عَنْهُ الدَّم وَإِنْ رَجَعَ بَعْد غُرُوب الشَّمْس , وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو ثَوْر .

وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي أَنَّ الْوُقُوف بِعَرَفَة رَاكِبًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَل ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ وَقَفَ إِلَى أَنْ دَفَعَ مِنْهَا بَعْد غُرُوب الشَّمْس , وَأَرْدَفَ أُسَامَة بْن زَيْد , وَهَذَا مَحْفُوظ فِي حَدِيث جَابِر الطَّوِيل وَحَدِيث عَلِيّ , وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . قَالَ جَابِر : ( ثُمَّ رَكِبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِف , فَجَعَلَ بَطْن نَاقَته الْقَصْوَاء إِلَى الصَّخَرَات , وَجَعَلَ حَبْل الْمُشَاة بَيْن يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَة , فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس وَذَهَبَتْ الصُّفْرَة قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْص , وَأَرْدَفَ أُسَامَة بْن زَيْد خَلْفه . .. ) الْحَدِيث . فَإِنْ لَمْ يَقْدِر عَلَى الرُّكُوب وَقَفَ قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ دَاعِيًا , مَا دَامَ يَقْدِر , وَلَا حَرَج عَلَيْهِ فِي الْجُلُوس إِذَا لَمْ يَقْدِر عَلَى الْوُقُوف , وَفِي الْوُقُوف رَاكِبًا مُبَاهَاة وَتَعْظِيم لِلْحَجِّ " وَمَنْ يُعَظِّم شَعَائِر اللَّه فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب " الْحَجّ : 32 ] . قَالَ اِبْن وَهْب فِي مُوَطَّئِهِ قَالَ لِي مَالِك : الْوُقُوف بِعَرَفَة عَلَى الدَّوَابّ وَالْإِبِل أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقِف قَائِمًا , قَالَ : وَمَنْ وَقَفَ قَائِمًا فَلَا بَأْس أَنْ يَسْتَرِيح .

ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره عَنْ أُسَامَة بْن زَيْد أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام ( كَانَ إِذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَة يَسِير الْعَنَق فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَة نَصَّ ) قَالَ هِشَام بْن عُرْوَة : وَالنَّصّ فَوْق الْعَنَق وَهَكَذَا يَنْبَغِي عَلَى أَئِمَّة الْحَاجّ فَمَنْ دُونهمْ ; لِأَنَّ فِي اِسْتِعْجَال السَّيْر إِلَى الْمُزْدَلِفَة اِسْتِعْجَال الصَّلَاة بِهَا , وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَغْرِب لَا تُصَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا مَعَ الْعِشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ , وَتِلْكَ سُنَّتهَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

ظَاهِر عُمُوم الْقُرْآن وَالسُّنَّة الثَّابِتَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ عَرَفَة كُلّهَا مَوْقِف , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَوَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَة كُلّهَا مَوْقِف ) رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره مِنْ حَدِيث جَابِر الطَّوِيل , وَفِي مُوَطَّأ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( عَرَفَة كُلّهَا مَوْقِف وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْن عُرَنَة وَالْمُزْدَلِفَة كُلّهَا مَوْقِف وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْن مُحَسِّر ) . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : هَذَا الْحَدِيث يَتَّصِل مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَمِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس , وَمِنْ حَدِيث عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب , وَأَكْثَر الْآثَار لَيْسَ فِيهَا اِسْتِثْنَاء بَطْن عُرَنَة مِنْ عَرَفَة , وَبَطْن مُحَسِّر مِنْ الْمُزْدَلِفَة , وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا الْحُفَّاظ الثِّقَات الْأَثْبَات مِنْ أَهْل الْحَدِيث فِي حَدِيث جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِيمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَة بِعُرَنَة , فَقَالَ مَالِك فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر عَنْهُ : يُهْرِيق دَمًا وَحَجّه تَامّ , وَهَذِهِ رِوَايَة رَوَاهَا خَالِد بْن نِزَار عَنْ مَالِك , وَذَكَرَ أَبُو الْمُصْعَب أَنَّهُ كَمَنْ لَمْ يَقِف وَحَجّه فَائِت , وَعَلَيْهِ الْحَجّ مِنْ قَابِل إِذَا وَقَفَ بِبَطْنِ عُرَنَة , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَنْ أَفَاضَ مِنْ عُرَنَة فَلَا حَجّ لَهُ , وَهُوَ قَوْل اِبْن الْقَاسِم وَسَالِم , وَذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر هَذَا الْقَوْل عَنْ الشَّافِعِيّ , قَالَ وَبِهِ أَقُول : لَا يُجْزِيه أَنْ يَقِف بِمَكَانٍ أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يُوقَف بِهِ . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : الِاسْتِثْنَاء بِبَطْنِ عُرَنَة مِنْ عَرَفَة لَمْ يَجِئْ مَجِيئًا تَلْزَم حُجَّته , لَا مِنْ جِهَة النَّقْل وَلَا مِنْ جِهَة الْإِجْمَاع , وَحُجَّة مَنْ ذَهَبَ مَذْهَب أَبِي الْمُصْعَب أَنَّ الْوُقُوف بِعَرَفَة فَرْض مُجْمَع عَلَيْهِ فِي مَوْضِع مُعَيَّن , فَلَا يَجُوز أَدَاؤُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ , وَلَا يَقِين مَعَ الِاخْتِلَاف . وَبَطْن عُرَنَة يُقَال بِفَتْحِ الرَّاء وَضَمّهَا , وَهُوَ بِغَرْبِيِّ مَسْجِد عَرَفَة , حَتَّى ( لَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ الْجِدَار الْغَرْبِيّ مِنْ مَسْجِد عَرَفَة لَوْ سَقَطَ سَقَطَ فِي بَطْن عُرَنَة , وَحَكَى الْبَاجِيّ عَنْ اِبْن حَبِيب أَنَّ عَرَفَة فِي الْحِلّ , وَعُرَنَة فِي الْحَرَم . قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَمَّا بَطْن مُحَسِّر فَذَكَرَ وَكِيع : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَوْضَعَ فِي بَطْن مُحَسِّر )

وَلَا بَأْس بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَسَاجِد يَوْم عَرَفَة بِغَيْرِ عَرَفَة , تَشْبِيهًا بِأَهْلِ عَرَفَة . رَوَى شُعْبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ الْحَسَن قَالَ : أَوَّل مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ اِبْن عَبَّاس بِالْبَصْرَةِ . يَعْنِي اِجْتِمَاع النَّاس يَوْم عَرَفَة فِي الْمَسْجِد بِالْبَصْرَةِ , وَقَالَ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة : رَأَيْت عُمَر بْن حُرَيْث يَخْطُب يَوْم عَرَفَة وَقَدْ اِجْتَمَعَ النَّاس إِلَيْهِ , وَقَالَ الْأَثْرَم : سَأَلْت أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ التَّعْرِيف فِي الْأَمْصَار , يَجْتَمِعُونَ يَوْم عَرَفَة , فَقَالَ : أَرْجُو أَلَّا يَكُون بِهِ بَأْس , قَدْ فَعَلَهُ غَيْر وَاحِد : الْحَسَن وَبَكْر وَثَابِت وَمُحَمَّد بْن وَاسِع , كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِد يَوْم عَرَفَة .

فِي فَضْل يَوْم عَرَفَة , يَوْم عَرَفَة فَضْله عَظِيم وَثَوَابه جَسِيم , يُكَفِّر اللَّه فِيهِ الذُّنُوب الْعِظَام , وَيُضَاعِف فِيهِ الصَّالِح مِنْ الْأَعْمَال , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَوْم يَوْم عَرَفَة يُكَفِّر السَّنَة الْمَاضِيَة وَالْبَاقِيَة ) . أَخْرَجَهُ الصَّحِيح , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَفْضَل الدُّعَاء دُعَاء يَوْم عَرَفَة وَأَفْضَل مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ ) , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ يَوْم أَكْثَر أَنْ يُعْتِق اللَّه فِيهِ عَدَدًا مِنْ النَّار مِنْ يَوْم عَرَفَة وَإِنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَة يَقُول مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ) , وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن كَرِيز أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا رُئِيَ الشَّيْطَان يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَر وَلَا أَحْقَر وَلَا أَدْحَر وَلَا أَغْيَظ مِنْهُ فِي يَوْم عَرَفَة وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّل الرَّحْمَة وَتَجَاوُز اللَّه عَنْ الذُّنُوب الْعِظَام إِلَّا مَا رَأَى يَوْم بَدْر ) . قِيلَ : وَمَا رَأَى يَوْم بَدْر يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيل يَزَع الْمَلَائِكَة ) . قَالَ أَبُو عُمَر : رَوَى هَذَا الْحَدِيث أَبُو النَّضْر إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم الْعِجْلِيّ عَنْ مَالِك عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي عَبْلَة عَنْ طَلْحَة بْن عُبَيْد بْن كَرِيز عَنْ أَبِيهِ , وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْحَدِيث عَنْ أَبِيهِ غَيْره وَلَيْسَ بِشَيْءٍ , وَالصَّوَاب مَا فِي الْمُوَطَّأ , وَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول : حَدَّثَنَا حَاتِم بْن نُعَيْم التَّمِيمِيّ أَبُو رَوْح قَالَ حَدَّثَنَا هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الْقَاهِر بْن السَّرِيّ السُّلَمِيّ قَالَ حَدَّثَنِي اِبْنٌ لِكِنَانَة بْن عَبَّاس بْن مِرْدَاس عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَبَّاس بْن مِرْدَاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّة عَرَفَة بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة , وَأَكْثَرَ الدُّعَاء فَأَجَابَهُ : إِنِّي قَدْ فَعَلْت إِلَّا ظَلَمَ بَعْضهمْ بَعْضًا فَأَمَّا ذُنُوبهمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنهمْ فَقَدْ غَفَرْتهَا . قَالَ : يَا رَبّ إِنَّك قَادِر أَنْ تُثِيب هَذَا الْمَظْلُوم خَيْرًا مِنْ مَظْلِمَته وَتَغْفِر لِهَذَا الظَّالِم فَلَمْ يُجِبْهُ تِلْكَ الْعَشِيَّة , فَلَمَّا كَانَ الْغَدَاة غَدَاة الْمُزْدَلِفَة اِجْتَهَدَ فِي الدُّعَاء فَأَجَابَهُ : إِنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُمْ , فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقِيلَ لَهُ : تَبَسَّمْت يَا رَسُول اللَّه فِي سَاعَة لَمْ تَكُنْ تَتَبَسَّم فِيهَا ؟ فَقَالَ : تَبَسَّمْت مِنْ عَدُوّ اللَّه إِبْلِيس إِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّه قَدْ اِسْتَجَابَ لِي فِي أُمَّتِي أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور وَيَحْثِي التُّرَاب عَلَى رَأْسه وَيَفِرّ ) , وَذَكَرَ أَبُو عَبْد الْغَنِيّ الْحَسَن بْن عَلِيّ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق حَدَّثَنَا مَالِك عَنْ أَبِي الزِّنَاد عَنْ الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَانَ يَوْم عَرَفَة غَفَرَ اللَّه لِلْحَاجِّ الْخَالِص وَإِذَا كَانَ لَيْلَة الْمُزْدَلِفَة غَفَرَ اللَّه لِلتُّجَّارِ وَإِذَا كَانَ يَوْم مِنًى غَفَرَ اللَّه لِلْجَمَّالِينَ وَإِذَا كَانَ يَوْم جَمْرَة الْعَقَبَة غَفَرَ اللَّه لِلسُّؤَالِ وَلَا يَشْهَد ذَلِكَ الْمَوْقِف خَلْق مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه إِلَّا غَفَرَ لَهُ ) . قَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا حَدِيث غَرِيب مِنْ حَدِيث مَالِك , وَلَيْسَ مَحْفُوظًا عَنْهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه , وَأَبُو عَبْد الْغَنِيّ لَا أَعْرِفهُ , وَأَهْل الْعِلْم مَا زَالُوا يُسَامِحُونَ أَنْفُسهمْ فِي رِوَايَات الرَّغَائِب وَالْفَضَائِل عَنْ كُلّ أَحَد , وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَشَدَّدُونَ فِي أَحَادِيث الْأَحْكَام .

اِسْتَحَبَّ أَهْل الْعِلْم صَوْم يَوْم عَرَفَة إِلَّا بِعَرَفَة . رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ بِعَرَفَة , وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمّ الْفَضْل بِلَبَنٍ فَشَرِبَ . قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : ( حَجَجْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْهُ - يَعْنِي يَوْم عَرَفَة - وَمَعَ أَبِي بَكْر فَلَمْ يَصُمْهُ , وَمَعَ عُمَر فَلَمْ يَصُمْهُ ) وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَكْثَر أَهْل الْعِلْم , يَسْتَحِبُّونَ الْإِفْطَار بِعَرَفَة لِيَتَقَوَّى بِهِ الرَّجُل عَلَى الدُّعَاء , وَقَدْ صَامَ بَعْض أَهْل الْعِلْم يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَة , وَأُسْنِدَ عَنْ اِبْن عُمَر مِثْل الْحَدِيث الْأَوَّل , وَزَادَ فِي آخِره : وَمَعَ عُثْمَان فَلَمْ يَصُمْهُ , وَأَنَا لَا أَصُومهُ وَلَا آمُر بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ , حَدِيث حَسَن , وَذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر . وَقَالَ عَطَاء فِي صَوْم يَوْم عَرَفَة : أَصُوم فِي الشِّتَاء وَلَا أَصُوم فِي الصَّيْف . وَقَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيّ : يَجِب الْفِطْر يَوْم عَرَفَة , وَكَانَ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِي وَابْن الزُّبَيْر وَعَائِشَة يَصُومُونَ يَوْم عَرَفَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : الْفِطْر يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَاتٍ أَحَبّ إِلَيَّ , اِتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالصَّوْم بِغَيْرِ عَرَفَة أَحَبّ إِلَيَّ , لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَوْم يَوْم عَرَفَة فَقَالَ : ( يُكَفِّر السَّنَة الْمَاضِيَة وَالْبَاقِيَة ) , وَقَدْ رُوِينَا عَنْ عَطَاء أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَفْطَرَ يَوْم عَرَفَة لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاء فَإِنَّ لَهُ مِثْل أَجْر الصَّائِم .

أَيْ اُذْكُرُوهُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَة عِنْد الْمَشْعَر الْحَرَام , وَيُسَمَّى جَمْعًا لِأَنَّهُ يَجْمَع ثَمَّ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء , قَالَهُ قَتَادَة , وَقِيلَ : لِاجْتِمَاعِ آدَم فِيهِ مَعَ حَوَّاء , وَازْدَلَفَ إِلَيْهَا , أَيْ دَنَا مِنْهَا , وَبِهِ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَة . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : سُمِّيَتْ بِفِعْلِ أَهْلهَا ; لِأَنَّهُمْ يَزْدَلِفُونَ إِلَى اللَّه , أَيْ يَتَقَرَّبُونَ بِالْوُقُوفِ فِيهَا . وَسُمِّيَ مَشْعَرًا مِنْ الشِّعَار وَهُوَ الْعَلَامَة ; لِأَنَّهُ مَعْلَم لِلْحَجِّ وَالصَّلَاة وَالْمَبِيت بِهِ , وَالدُّعَاء عِنْده مِنْ شَعَائِر الْحَجّ , وَوُصِفَ بِالْحَرَامِ لِحُرْمَتِهِ .

ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا , وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم - لَا اِخْتِلَاف بَيْنهمْ - أَنَّ السُّنَّة أَنْ يَجْمَع الْحَاجّ بِجَمْعٍ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء , وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ صَلَّاهَا قَبْل أَنْ يَأْتِي جَمْعًا , فَقَالَ مَالِك : مَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَام وَدَفَعَ بِدَفْعِهِ فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَأْتِي الْمُزْدَلِفَة فَيَجْمَع بَيْنهَا , وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأُسَامَة بْن زَيْد : ( الصَّلَاة أَمَامك ) . قَالَ اِبْن حَبِيب : مَنْ صَلَّى قَبْل أَنْ يَأْتِي الْمُزْدَلِفَة دُون عُذْر يُعِيد مَتَى مَا عَلِمَ , بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ صَلَّى قَبْل الزَّوَال , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الصَّلَاة أَمَامك ) , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة , وَقَالَ أَشْهَب : لَا إِعَادَة عَلَيْهِ , إِلَّا أَنْ يُصَلِّيهِمَا قَبْل مَغِيب الشَّفَق فَيُعِيد الْعِشَاء وَحْدهَا , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن , وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ هَاتَيْنِ صَلَاتَانِ سُنَّ الْجَمْع بَيْنهمَا , فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي صِحَّتهمَا , وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِحْبَاب , كَالْجَمْعِ بَيْن الظُّهْر وَالْعَصْر بِعَرَفَة , وَاخْتَارَ اِبْن الْمُنْذِر هَذَا الْقَوْل , وَحَكَاهُ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَيَعْقُوب , وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُصَلِّي حَتَّى يَأْتِي الْمُزْدَلِفَة , فَإِنْ أَدْرَكَهُ نِصْف اللَّيْل قَبْل أَنْ يَأْتِي الْمُزْدَلِفَة صَلَّاهُمَا .

وَمَنْ أَسْرَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَة قَبْل مَغِيب الشَّفَق فَقَدْ قَالَ اِبْن حَبِيب : لَا صَلَاة لِمَنْ عَجَّلَ إِلَى الْمُزْدَلِفَة قَبْل مَغِيب الشَّفَق , لَا لِإِمَامٍ وَلَا غَيْره حَتَّى يَغِيب الشَّفَق , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الصَّلَاة أَمَامك ) ثُمَّ صَلَّاهَا بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْد مَغِيب الشَّفَق وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ وَقْت هَذِهِ الصَّلَاة بَعْد مَغِيب الشَّفَق , فَلَا يَجُوز أَنْ يُؤْتَى بِهَا قَبْله , وَلَوْ كَانَ لَهَا وَقْت قَبْل مَغِيب الشَّفَق لَمَا أُخِّرَتْ عَنْهُ .

وَأَمَّا مَنْ أَتَى عَرَفَة بَعْد دَفْع الْإِمَام , أَوْ كَانَ لَهُ عُذْر مِمَّنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَام فَقَدْ قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : مَنْ وَقَفَ بَعْد الْإِمَام فَلْيُصَلِّ كُلّ صَلَاة لِوَقْتِهَا , وَقَالَ مَالِك فِيمَنْ كَانَ لَهُ عُذْر يَمْنَعهُ أَنْ يَكُون مَعَ الْإِمَام : إِنَّهُ يُصَلِّي إِذَا غَابَ الشَّفَق الصَّلَاتَيْنِ يَجْمَع بَيْنهمَا , وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم فِيمَنْ وَقَفَ بَعْد الْإِمَام : إِنْ رَجَا أَنْ يَأْتِي الْمُزْدَلِفَة ثُلُث اللَّيْل فَلْيُؤَخِّرْ الصَّلَاة حَتَّى يَأْتِي الْمُزْدَلِفَة , وَإِلَّا صَلَّى كُلّ صَلَاة لِوَقْتِهَا , فَجَعَلَ اِبْن الْمَوَّاز تَأْخِير الصَّلَاة إِلَى الْمُزْدَلِفَة لِمَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَام دُون غَيْره , وَرَاعَى مَالِك الْوَقْت دُون الْمَكَان , وَاعْتَبَرَ اِبْن الْقَاسِم الْوَقْت الْمُخْتَار لِلصَّلَاةِ وَالْمَكَان , فَإِذَا خَافَ فَوَات الْوَقْت الْمُخْتَار بَطَلَ اِعْتِبَار الْمَكَان , وَكَانَ مُرَاعَاة وَقْتهَا الْمُخْتَار أَوْلَى .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَيْئَة الصَّلَاة بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : الْأَذَان وَالْإِقَامَة , وَالْآخَر : هَلْ يَكُون جَمْعهمَا مُتَّصِلًا لَا يُفْصَل بَيْنهمَا بِعَمَلٍ , أَوْ يَجُوز الْعَمَل بَيْنهمَا وَحَطّ الرِّحَال وَنَحْو ذَلِكَ , فَأَمَّا الْأَذَان وَالْإِقَامَة فَثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ . أَخْرَجَهُ الصَّحِيح مِنْ حَدِيث جَابِر الطَّوِيل , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذِر . وَقَالَ مَالِك : يُصَلِّيهِمَا بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ , وَكَذَلِكَ الظُّهْر وَالْعَصْر بِعَرَفَة , إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي أَوَّل وَقْت الظُّهْر بِإِجْمَاعٍ . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم فِيمَا قَالَهُ مَالِك حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه , وَلَكِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَزَادَ اِبْن الْمُنْذِر اِبْن مَسْعُود , وَمِنْ الْحُجَّة لِمَالِك فِي هَذَا الْبَاب مِنْ جِهَة النَّظَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ فِي الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَةِ وَعَرَفَة أَنَّ الْوَقْت لَهُمَا جَمِيعًا وَقْت وَاحِد , وَإِذَا كَانَ وَقْتهمَا وَاحِدًا وَكَانَتْ كُلّ صَلَاة تُصَلَّى فِي وَقْتهَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَة مِنْهُمَا أَوْلَى بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَة مِنْ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ لَيْسَ وَاحِدَة مِنْهُمَا تُقْضَى , وَإِنَّمَا هِيَ صَلَاة تُصَلَّى فِي وَقْتهَا , وَكُلّ صَلَاة صُلِّيَتْ فِي وَقْتهَا سُنَّتهَا أَنْ يُؤَذَّن لَهَا وَتُقَام فِي الْجَمَاعَة , وَهَذَا بَيِّن , وَاَللَّه أَعْلَم , وَقَالَ آخَرُونَ : أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا فَتُصَلَّى بِأَذَانٍ وَإِقَامَة , وَأَمَّا الثَّانِيَة فَتُصَلَّى بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة . قَالُوا : وَإِنَّمَا أَمَرَ عُمَر بِالتَّأْذِينِ الثَّانِي لِأَنَّ النَّاس قَدْ تَفَرَّقُوا لِعَشَائِهِمْ فَأَذَّنَ لِيَجْمَعهُمْ . قَالُوا : وَكَذَلِكَ نَقُول إِذَا تَفَرَّقَ النَّاس عَنْ الْإِمَام لِعَشَاءٍ أَوْ غَيْره , أَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ فَأَذَّنُوا لِيَجْمَعهُمْ , وَإِذَا أَذَّنَ أَقَامَ . قَالُوا : فَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر , وَذَكَرُوا حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد قَالَ : كَانَ اِبْن مَسْعُود يَجْعَل الْعِشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ بَيْن الصَّلَاتَيْنِ , وَفِي طَرِيق أُخْرَى وَصَلَّى كُلّ صَلَاة بِأَذَانٍ وَإِقَامَة , ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق , وَقَالَ آخَرُونَ : تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ جَمِيعًا بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَةٍ وَلَا أَذَان فِي شَيْء مِنْهُمَا , رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ , وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق وَعَبْد الْمَلِك بْن الصَّبَّاح عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ سَلَمَة بْن كُهَيْل عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : ( جَمَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِجَمْعٍ , صَلَّى الْمَغْرِب ثَلَاثًا وَالْعِشَاء رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة ) وَقَالَ آخَرُونَ : تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ جَمِيعًا بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة , وَذَهَبُوا فِي ذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ هُشَيْم عَنْ يُونُس بْن عُبَيْد عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ جَمَعَ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة , لَمْ يَجْعَل بَيْنهمَا شَيْئًا , وَرُوِيَ مِثْل هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث خُزَيْمَة بْن ثَابِت , وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَحَكَى الْجُوزْجَانِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن الْحَسَن عَنْ أَبِي يُوسُف عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنَّهُمَا تُصَلَّيَانِ بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ , يُؤَذَّن لِلْمَغْرِبِ وَيُقَام لِلْعِشَاءِ فَقَطْ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الطَّحَاوِيّ لِحَدِيثِ جَابِر , وَهُوَ الْقَوْل الْأَوَّل وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّل . وَقَالَ آخَرُونَ : تُصَلَّى بِإِقَامَتَيْنِ دُون أَذَان لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا , وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق وَأَحْمَد بْن حَنْبَل فِي أَحَد قَوْلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل سَالِم بْن عَبْد اللَّه وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد , وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم عَنْ اِبْن عُمَر ( أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَة جَمَعَ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء , صَلَّى الْمَغْرِب ثَلَاثًا وَالْعِشَاء رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنهمَا شَيْئًا ) قَالَ أَبُو عُمَر : وَالْآثَار عَنْ اِبْن عُمَر فِي هَذَا الْقَوْل مِنْ أَثْبَت مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَاب , وَلَكِنَّهَا مُحْتَمِلَة لِلتَّأْوِيلِ , وَحَدِيث جَابِر لَمْ يُخْتَلَف فِيهِ , فَهُوَ أَوْلَى , وَلَا مَدْخَل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة لِلنَّظَرِ , وَإِنَّمَا فِيهَا الِاتِّبَاع .

وَأَمَّا الْفَصْل بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِعَمَلِ غَيْر الصَّلَاة فَثَبَتَ عَنْ أُسَامَة بْن زَيْد ( أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَة نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوء , ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَصَلَّى الْمَغْرِب , ثُمَّ أَنَاخَ كُلّ إِنْسَان بَعِيره فِي مَنْزِله , ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَصَلَّاهَا , وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنهمَا شَيْئًا ) فِي رِوَايَة : ( وَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاء الْآخِرَة فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا ) وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ كَانَ يَجْعَل الْعِشَاء بَيْن الصَّلَاتَيْنِ , فَفِي هَذَا جَوَاز الْفَصْل بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِجَمْعٍ , وَقَدْ سُئِلَ مَالِك فِيمَنْ أَتَى الْمُزْدَلِفَة : أَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ أَوْ يُؤَخِّر حَتَّى يَحُطّ عَنْ رَاحِلَته ؟ فَقَالَ : أَمَّا الرَّحْل الْخَفِيف فَلَا بَأْس أَنْ يَبْدَأ بِهِ قَبْل الصَّلَاة , وَأَمَّا الْمَحَامِل وَالزَّوَامِل فَلَا أَرَى ذَلِكَ , وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاتَيْنِ ثُمَّ يَحُطّ عَنْ رَاحِلَته , وَقَالَ أَشْهَب فِي كُتُبه : لَهُ حَطّ رَحْله قَبْل الصَّلَاة , وَحَطّه لَهُ بَعْد أَنْ يُصَلِّي الْمَغْرِب أَحَبّ إِلَيَّ مَا لَمْ يَضْطَرّ إِلَى ذَلِكَ , لِمَا بِدَابَّتِهِ مِنْ الثِّقَل , أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُذْر , وَأَمَّا التَّنَفُّل بَيْن الصَّلَاتَيْنِ فَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا أَعْلَمهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مِنْ السُّنَّة أَلَّا يَتَطَوَّع بَيْنهمَا الْجَامِع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ , وَفِي حَدِيث اِبْن أُسَامَة : وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنهمَا شَيْئًا .

وَأَمَّا الْمَبِيت بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلَيْسَ رُكْنًا فِي الْحَجّ عِنْد الْجُمْهُور , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِب عَلَى مَنْ لَمْ يَبِتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَة النَّحْر وَلَمْ يَقِف بِجَمْعٍ , فَقَالَ مَالِك : مَنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَم , وَمَنْ قَامَ بِهَا أَكْثَر لَيْله فَلَا شَيْء عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَبِيت بِهَا لَيْلَة النَّحْر سُنَّة مُؤَكَّدَة عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه , لَا فَرْض , وَنَحْوه قَوْل عَطَاء وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي فِيمَنْ لَمْ يَبِتْ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْد نِصْف اللَّيْل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَإِنْ خَرَجَ قَبْل نِصْف اللَّيْل فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمُزْدَلِفَة اِفْتَدَى , وَالْفِدْيَة شَاة , وَقَالَ عِكْرِمَة وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ : الْوُقُوف بِالْمُزْدَلِفَةِ فَرْض , وَمَنْ فَاتَهُ جَمْع وَلَمْ يَقِف فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجّ , وَيُجْعَل إِحْرَامه عُمْرَة , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن الزُّبَيْر وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ , وَرُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيّ مِثْل ذَلِكَ , وَالْأَصَحّ عَنْهُ أَنَّ الْوُقُوف بِهَا سُنَّة مُؤَكَّدَة , وَقَالَ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان . مَنْ فَاتَتْهُ الْإِفَاضَة مِنْ جَمْع فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجّ , وَلْيَتَحَلَّلْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ لِيَحُجّ قَابِلًا , وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْكِتَاب وَالسُّنَّة , فَأَمَّا الْكِتَاب فَقَوْل اللَّه تَعَالَى : " فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات فَاذْكُرُوا اللَّه عِنْد الْمَشْعَر الْحَرَام " وَأَمَّا السُّنَّة فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا فَوَقَفَ مَعَ النَّاس حَتَّى يُفِيض فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ لَمْ يُدْرِك ذَلِكَ فَلَا حَجّ لَهُ ) . ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُرْوَة بْن مُضَرِّس : قَالَ أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِجَمْعٍ فَقُلْت لَهُ : يَا رَسُول اللَّه , هَلْ لِي مِنْ حَجّ ؟ فَقَالَ : ( مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاة ثُمَّ وَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نُفِيض وَقَدْ أَفَاضَ قَبْل ذَلِكَ مِنْ عَرَفَات لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجّه وَقَضَى تَفَثه ) . قَالَ الشَّعْبِيّ : مَنْ لَمْ يَقِف بِجَمْعٍ جَعَلَهَا عُمْرَة , وَأَجَابَ مَنْ اِحْتَجَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنْ قَالَ : أَمَّا الْآيَة فَلَا حُجَّة فِيهَا عَلَى الْوُجُوب فِي الْوُقُوف وَلَا الْمَبِيت , إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِيهَا , وَإِنَّمَا فِيهَا مُجَرَّد الذِّكْر , وَكُلّ قَدْ أَجْمَعَ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِمُزْدَلِفَة وَلَمْ يَذْكُر اللَّه أَنَّ حَجّه تَامّ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الذِّكْر الْمَأْمُور بِهِ مِنْ صُلْب الْحَجّ فَشُهُود الْمَوْطِن أَوْلَى بِأَلَّا يَكُون كَذَلِكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّ الشَّمْس إِذَا طَلَعَتْ يَوْم النَّحْر فَقَدْ فَاتَ وَقْت الْوُقُوف بِجَمْعٍ , وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوف بِهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس فَقَدْ أَدْرَكَ , مِمَّنْ يَقُول إِنَّ ذَلِكَ فَرْض , وَمَنْ يَقُول إِنَّ ذَلِكَ سُنَّة , وَأَمَّا حَدِيث عُرْوَة بْن مُضَرِّس فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض طُرُقه بَيَان الْوُقُوف بِعَرَفَة دُون الْمَبِيت بِالْمُزْدَلِفَةِ , وَمِثْله حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن يَعْمُر الدِّيلِيّ قَالَ : شَهِدْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَة , وَأَتَاهُ نَاس مِنْ أَهْل نَجْد فَسَأَلُوهُ عَنْ الْحَجّ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْحَجّ عَرَفَة مَنْ أَدْرَكَهَا قَبْل أَنْ يَطْلُع الْفَجْر مِنْ لَيْلَة جَمْع فَقَدْ تَمَّ حَجّه ) رَوَاهُ النَّسَائِيّ قَالَ : أَخْبَرَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيع قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان - يَعْنِي الثَّوْرِيّ - عَنْ بُكَيْر بْن عَطَاء عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَعْمُر الدِّيلِيّ قَالَ : شَهِدْت . .. , فَذَكَرَهُ , وَرَوَاهُ اِبْن عُيَيْنَة عَنْ بُكَيْر عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَعْمُر الدِّيلِيّ قَالَ : شَهِدْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( الْحَجّ عَرَفَات فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة قَبْل أَنْ يَطْلُع الْفَجْر فَقَدْ أَدْرَكَ وَأَيَّام مِنًى ثَلَاثَة فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ ) , وَقَوْله فِي حَدِيث عُرْوَة : ( مَنْ صَلَّى صَلَاتنَا هَذِهِ ) , فَذَكَرَ الصَّلَاة بِالْمُزْدَلِفَةِ , فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَوْ بَاتَ بِهَا وَوَقَفَ وَنَامَ عَنْ الصَّلَاة فَلَمْ يُصَلِّ مَعَ الْإِمَام حَتَّى فَاتَتْهُ إِنَّ حَجّه تَامّ , فَلَمَّا كَانَ حُضُور الصَّلَاة مَعَ الْإِمَام لَيْسَ مِنْ صُلْب الْحَجّ كَانَ الْوُقُوف بِالْمَوْطِنِ الَّذِي تَكُون فِيهِ الصَّلَاة أَحْرَى أَنْ يَكُون كَذَلِكَ . قَالُوا : فَلَمْ يَتَحَقَّق بِهَذَا الْحَدِيث ذَلِكَ الْفَرْض إِلَّا بِعَرَفَة خَاصَّة .

كَرَّرَ الْأَمْر تَأْكِيدًا , كَمَا تَقُول : اِرْمِ . اِرْمِ , وَقِيلَ : الْأَوَّل أَمْر بِالذِّكْرِ عِنْد الْمَشْعَر الْحَرَام , وَالثَّانِي أَمْر بِالذِّكْرِ عَلَى حُكْم الْإِخْلَاص وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالثَّانِي تَعْدِيد النِّعْمَة وَأَمْر بِشُكْرِهَا , ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِحَالِ ضَلَالهمْ لِيُظْهِر قَدْر الْإِنْعَام فَقَالَ : " وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْله لَمِنْ الضَّالِّينَ " وَالْكَاف فِي " كَمَا " نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف , و " مَا " مَصْدَرِيَّة أَوْ كَافَّة وَالْمَعْنَى : اُذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَة حَسَنَة , وَاذْكُرُوهُ كَمَا عَلَّمَكُمْ كَيْف تَذْكُرُونَهُ لَا تَعْدِلُوا عَنْهُ . و " إِنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة , يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ دُخُول اللَّام فِي الْخَبَر , قَالَهُ سِيبَوَيْهِ . الْفَرَّاء : نَافِيَة بِمَعْنَى مَا , وَاللَّام بِمَعْنَى إِلَّا , كَمَا قَالَ : ثَكِلَتْك أُمّك إِنْ قَتَلْت لَمُسْلِمًا حَلَّتْ عَلَيْك عُقُوبَة الرَّحْمَن أَوْ بِمَعْنَى قَدْ أَيْ قَدْ كُنْتُمْ ثَلَاثَة أَقْوَال وَالضَّمِير فِي " قَبْله " عَائِد إِلَى الْهَدْي , وَقِيلَ إِلَى الْقُرْآن , أَيْ مَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْل إِنْزَاله إِلَّا ضَالِّينَ . وَإِنْ شِئْت عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَايَة عَنْ غَيْر مَذْكُور , وَالْأَوَّل أَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم .
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة البقرة الآية رقم 199
قِيلَ : الْخِطَاب لِلْحُمْسِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقِفُونَ مَعَ النَّاس بِعَرَفَاتٍ , بَلْ كَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَم , وَكَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ قَطِين اللَّه , فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَظِّم الْحَرَم , وَلَا نُعَظِّم شَيْئًا مِنْ الْحِلّ , وَكَانُوا مَعَ مَعْرِفَتهمْ وَإِقْرَارهمْ إِنَّ عَرَفَة مَوْقِف إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْحَرَم , وَيَقِفُونَ بِجَمْعٍ وَيُفِيضُونَ مِنْهُ وَيَقِف النَّاس بِعَرَفَة , فَقِيلَ لَهُمْ : أَفِيضُوا مَعَ الْجُمْلَة . و " ثُمَّ " لَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْآيَة لِلتَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ جُمْلَة كَلَام هِيَ مِنْهَا مُنْقَطِعَة , وَقَالَ الضَّحَّاك : الْمُخَاطَب بِالْآيَةِ جُمْلَة الْأُمَّة , وَالْمُرَاد ب " النَّاس " إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام , كَمَا قَالَ : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس " [ آل عِمْرَان : 173 ] وَهُوَ يُرِيد وَاحِدًا . وَيُحْتَمَل عَلَى هَذَا أَنْ يُؤْمَرُوا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَة , وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون إِفَاضَة أُخْرَى , وَهِيَ الَّتِي مِنْ الْمُزْدَلِفَة , فَتَجِيء " ثُمَّ " عَلَى هَذَا الِاحْتِمَال عَلَى بَابهَا , وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَال عَوَّلَ الطَّبَرِيّ , وَالْمَعْنَى : أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ إِبْرَاهِيم مِنْ مُزْدَلِفَة جَمْع , أَيْ ثُمَّ أَفِيضُوا إِلَى مِنًى لِأَنَّ الْإِفَاضَة مِنْ عَرَفَات قَبْل الْإِفَاضَة مِنْ جَمْع .

قُلْت : وَيَكُون فِي هَذَا حُجَّة لِمَنْ أَوْجَبَ الْوُقُوف بِالْمُزْدَلِفَةِ , لِلْأَمْرِ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهَا , وَاَللَّه أَعْلَم , وَالصَّحِيح فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْقَوْل الْأَوَّل . رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَتْ قُرَيْش وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينهَا وَهُمْ الْحُمْس يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ يَقُولُونَ : نَحْنُ قَطِين اللَّه , وَكَانَ مَنْ سِوَاهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَة , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس " هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : الْحُمْس هُمْ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ : " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس " قَالَتْ : كَانَ النَّاس يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَات , وَكَانَ الْحُمْس يُفِيضُونَ مِنْ الْمُزْدَلِفَة , يَقُولُونَ : لَا نُفِيض إِلَّا مِنْ الْحَرَم , فَلَمَّا نَزَلَتْ : " أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس " رَجَعُوا إِلَى عَرَفَات , وَهَذَا نَصّ صَرِيح , وَمِثْله كَثِير صَحِيح , فَلَا مُعَوَّل عَلَى غَيْره مِنْ الْأَقْوَال . وَاَللَّه الْمُسْتَعَان , وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر " النَّاسِي " وَتَأْوِيله آدَم عَلَيْهِ السَّلَام , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِد لَهُ عَزْمًا " [ طَه : 115 ] , وَيَجُوز عِنْد بَعْضهمْ تَخْفِيف الْيَاء فَيَقُول النَّاس , كَالْقَاضِ وَالْهَادِ . اِبْن عَطِيَّة : أَمَّا جَوَازه فِي الْعَرَبِيَّة فَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ , وَأَمَّا جَوَازه مَقْرُوءًا بِهِ فَلَا أَحْفَظهُ , وَأَمَرَ تَعَالَى بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهَا مَوَاطِنه , وَمَظَانّ الْقَبُول وَمَسَاقِط الرَّحْمَة , وَقَالَتْ فِرْقَة : الْمَعْنَى وَاسْتَغْفِرُوا اللَّه مِنْ فِعْلكُمْ الَّذِي كَانَ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ إِبْرَاهِيم فِي وُقُوفكُمْ بِقُزَحٍ مِنْ الْمُزْدَلِفَة دُون عَرَفَة .

رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيّ قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحَ - يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُزَح فَقَالَ : ( هَذَا قُزَح وَهُوَ الْمَوْقِف وَجَمْع كُلّهَا مَوْقِف وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلّهَا مَنْحَر فَانْحَرُوا فِي رِحَالكُمْ ) . فَحُكْم الْحَجِيج إِذَا دَفَعُوا مِنْ عَرَفَة إِلَى الْمُزْدَلِفَة أَنْ يَبِيتُوا بِهَا ثُمَّ يُغَلِّس بِالصُّبْحِ الْإِمَام بِالنَّاسِ وَيَقِفُونَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَام , وَقُزَح هُوَ الْجَبَل الَّذِي يَقِف عَلَيْهِ الْإِمَام , وَلَا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ اللَّه وَيَدْعُونَ إِلَى قُرْب طُلُوع الشَّمْس , ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْل الطُّلُوع , عَلَى مُخَالَفَة الْعَرَب , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ بَعْد الطُّلُوع وَيَقُولُونَ : أَشْرِقْ ثَبِير , كَيْمَا نُغِير , أَيْ كَيْمَا نَقْرَب مِنْ التَّحَلُّل فَنَتَوَصَّل إِلَى الْإِغَارَة , وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ : شَهِدْت عُمَر صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْح ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس وَيَقُولُونَ : أَشْرِقْ ثَبِير , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ فَدَفَعَ قَبْل أَنْ تَطْلُع الشَّمْس , وَرَوَى اِبْن عُيَيْنَة عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ مُحَمَّد بْن مَخْرَمَة عَنْ اِبْن طَاوُس عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَة قَبْل غُرُوب الشَّمْس , وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ الْمُزْدَلِفَة بَعْد طُلُوع الشَّمْس , فَأَخَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا وَعَجَّلَ هَذَا , أَخَّرَ الدَّفْع مِنْ عَرَفَة , وَعَجَّلَ الدَّفْع مِنْ الْمُزْدَلِفَة مُخَالِفًا هَدْي الْمُشْرِكِينَ .

فَإِذَا دَفَعُوا قَبْل الطُّلُوع فَحُكْمهمْ أَنْ يَدْفَعُوا عَلَى هَيْئَة الدَّفْع مِنْ عَرَفَة , وَهُوَ أَنْ يَسِير الْإِمَام بِالنَّاسِ سَيْر الْعَنَق , فَإِذَا وَجَدَ أَحَدهمْ فُرْجَة زَادَ فِي الْعَنَق شَيْئًا , وَالْعَنَق : مَشْي لِلدَّوَابِّ مَعْرُوف لَا يُجْهَل , وَالنَّصّ : فَوْق الْعَنَق , كَالْخَبَبِ أَوْ فَوْق ذَلِكَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أُسَامَة بْن زَيْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَسُئِلَ : كَيْف كَانَ يَسِير رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَفَاضَ مِنْ عَرَفَة ؟ قَالَ : كَانَ يَسِير الْعَنَق , فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَة نَصَّ . قَالَ هِشَام : وَالنَّصّ فَوْق الْعَنَق , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُحَرِّك فِي بَطْن مُحَسِّر قَدْر رَمْيَة بِحَجَرٍ , فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَلَا حَرَج , وَهُوَ مِنْ مِنًى , وَرَوَى الثَّوْرِيّ وَغَيْره عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر قَالَ : دَفَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَة وَقَالَ لَهُمْ : ( أَوْضِعُوا فِي وَادِي مُحَسِّر ) وَقَالَ لَهُمْ : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ ) , فَإِذَا أَتَوْا مِنًى وَذَلِكَ غَدْوَة يَوْم النَّحْر , رَمَوْا جَمْرَة الْعَقَبَة بِهَا ضُحًى رُكْبَانًا إِنْ قَدَرُوا , وَلَا يُسْتَحَبّ الرُّكُوب فِي غَيْرهَا مِنْ الْجِمَار , وَيَرْمُونَهَا بِسَبْعِ حَصَيَات , كُلّ حَصَاة مِنْهَا مِثْل حَصَى الْخَذْف - عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه - فَإِذَا رَمَوْهَا حَلَّ لَهُمْ كُلّ مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللِّبَاس وَالتَّفَث كُلّه , إِلَّا النِّسَاء وَالطِّيب وَالصَّيْد عِنْد مَالِك وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُد الْخَفَّاف عَنْهُ . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عُمَر : يَحِلّ لَهُ كُلّ شَيْء إِلَّا النِّسَاء وَالطِّيب , وَمَنْ تَطَيَّبَ عِنْد مَالِك بَعْد الرَّمْي وَقَبْل الْإِفَاضَة لَمْ يُرَ عَلَيْهِ فِدْيَة , لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ , وَمَنْ صَادَ عِنْده بَعْد أَنْ رَمَى جَمْرَة الْعَقَبَة وَقَبْل أَنْ يُفِيض كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاء . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر : يَحِلّ لَهُ كُلّ شَيْء إِلَّا النِّسَاء , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس .

وَيَقْطَع الْحَاجّ التَّلْبِيَة بِأَوَّلِ حَصَاة يَرْمِيهَا مِنْ جَمْرَة الْعَقَبَة , وَعَلَى هَذَا أَكْثَر أَهْل الْعِلْم بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرهَا , وَهُوَ جَائِز مُبَاح عِنْد مَالِك , وَالْمَشْهُور عَنْهُ قَطْعهَا عِنْد زَوَال الشَّمْس مِنْ يَوْم عَرَفَة , عَلَى مَا ذَكَرَ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَلِيّ , وَقَالَ : هُوَ الْأَمْر عِنْدنَا .

قُلْت : وَالْأَصْل فِي هَذِهِ الْجُمْلَة مِنْ السُّنَّة مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ الْفَضْل بْن عَبَّاس , وَكَانَ رَدِيف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّة عَرَفَة وَغَدَاة جَمْع لِلنَّاسِ حِين دَفَعُوا : ( عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ) وَهُوَ كَافٍ نَاقَته حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا وَهُوَ مِنْ مِنًى قَالَ : ( عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْف الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَة ) , وَقَالَ : لَمْ يَزَلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَة الْعَقَبَة . فِي رِوَايَة : وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِير بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِف الْإِنْسَان , وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى الْجَمْرَة الْكُبْرَى جَعَلَ الْبَيْت عَنْ يَسَاره وَمِنًى عَنْ يَمِينه , وَرَمَى بِسَبْعٍ وَقَالَ : هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ وَذَبَحْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلّ شَيْء إِلَّا النِّسَاء وَحَلَّ لَكُمْ الثِّيَاب وَالطِّيب ) , وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : طَيَّبْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ , حِين أَحْرَمَ , وَلِحِلِّهِ حِين أَحَلَّ قَبْل أَنْ يَطُوف , وَبَسَطْت يَدَيْهَا , وَهَذَا هُوَ التَّحَلُّل الْأَصْغَر عِنْد الْعُلَمَاء . وَالتَّحَلُّل الْأَكْبَر : طَوَاف الْإِفَاضَة , وَهُوَ الَّذِي يَحِلّ النِّسَاء وَجَمِيع مَحْظُورَات الْإِحْرَام وَسَيَأْتِي ذِكْره فِي سُورَة " الْحَجّ " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

أَيْ يَغْفِر الْمَعَاصِي , فَأَوْلَى أَلَّا يُؤَاخِذ بِمَا رَخَّصَ فِيهِ , وَمِنْ رَحْمَته أَنَّهُ رَخَّصَ .
فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍسورة البقرة الآية رقم 200
قَالَ مُجَاهِد : الْمَنَاسِك الذَّبَائِح وَهِرَاقَة الدِّمَاء وَقِيلَ : هِيَ شَعَائِر الْحَجّ , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ ) . الْمَعْنَى : فَإِذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِك الْحَجّ فَاذْكُرُوا اللَّه وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِآلَائِهِ عِنْدكُمْ , وَأَبُو عَمْرو يُدْغِم الْكَاف فِي الْكَاف وَكَذَلِكَ " مَا سَلَكَكُمْ " لِأَنَّهُمَا مَثَلَانِ و " قَضَيْتُمْ " هُنَا بِمَعْنَى أَدَّيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاة " [ الْجُمُعَة : 10 ] أَيْ أَدَّيْتُمْ الْجُمُعَة . وَقَدْ يُعَبَّر بِالْقَضَاءِ عَمَّا فُعِلَ مِنْ الْعِبَادَات خَارِج وَقْتهَا الْمَحْدُود لَهَا .


كَانَتْ عَادَة الْعَرَب إِذَا قَضَتْ حَجّهَا تَقِف عِنْد الْجَمْرَة , فَتُفَاخِر بِالْآبَاءِ , وَتَذْكُر أَيَّام أَسْلَافهَا مِنْ بَسَالَة وَكَرَم , وَغَيْر ذَلِكَ , حَتَّى إِنَّ الْوَاحِد مِنْهُمْ لَيَقُول : اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيم الْقُبَّة , عَظِيم الْجَفْنَة , كَثِير الْمَال , فَأَعْطِنِي مِثْل مَا أَعْطَيْته فَلَا يَذْكُر غَيْر أَبِيهِ , فَنَزَلَتْ الْآيَة لِيُلْزِمُوا أَنْفُسهمْ ذِكْر اللَّه أَكْثَر مِنْ اِلْتِزَامهمْ ذِكْر آبَائِهِمْ أَيَّام الْجَاهِلِيَّة هَذَا قَوْل جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وَالرَّبِيع : مَعْنَى الْآيَة وَاذْكُرُوا اللَّه كَذِكْرِ الْأَطْفَال آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتهمْ : أَبَه أُمّه , أَيْ فَاسْتَغِيثُوا بِهِ وَالْجَئُوا إِلَيْهِ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي حَال صِغَركُمْ بِآبَائِكُمْ , وَقَالَتْ طَائِفَة : مَعْنَى الْآيَة اُذْكُرُوا اللَّه وَعَظِّمُوهُ وَذُبُّوا عَنْ حَرَمه , وَادْفَعُوا مَنْ أَرَادَ الشِّرْك فِي دِينه وَمَشَاعِره , كَمَا تَذْكُرُونَ آبَاءَكُمْ بِالْخَيْرِ إِذَا غَضَّ أَحَد مِنْهُمْ , وَتَحْمُونَ جَوَانِبهمْ وَتَذُبُّونَ عَنْهُمْ . وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاء لِابْنِ عَبَّاس : إِنَّ الرَّجُل الْيَوْم لَا يَذْكُر أَبَاهُ , فَمَا مَعْنَى الْآيَة ؟ قَالَ : لَيْسَ كَذَلِكَ , وَلَكِنْ أَنْ تَغْضَب لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا عُصِيَ أَشَدّ مِنْ غَضَبك لِوَالِدَيْك إِذَا شُتِمَا وَالْكَاف مِنْ قَوْله " كَذِكْرِكُمْ " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ .


قَالَ الزَّجَّاج : " أَوْ أَشَدّ " فِي مَوْضِع خَفْض عَطْفًا عَلَى ذِكْركُمْ , الْمَعْنَى : أَوْ كَأَشَدّ ذِكْرًا , وَلَمْ يَنْصَرِف لِأَنَّهُ " أَفْعَل " صِفَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِمَعْنَى أَوْ اُذْكُرُوهُ أَشَدّ . و " ذِكْرًا " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان


" مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَإِنْ شِئْت بِالصِّفَةِ يَقُول " رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا " صِلَة " مَنْ " الْمُرَاد الْمُشْرِكُونَ . قَالَ أَبُو وَائِل وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد : كَانَتْ الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة تَدْعُو فِي مَصَالِح الدُّنْيَا فَقَطْ , فَكَانُوا يَسْأَلُونَ الْإِبِل وَالْغَنَم وَالظَّفْر بِالْعَدُوِّ , وَلَا يَطْلُبُونَ الْآخِرَة , إِذْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا , فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ الدُّعَاء الْمَخْصُوص بِأَمْرِ الدُّنْيَا , وَجَاءَ النَّهْي فِي صِيغَة الْخَبَر عَنْهُمْ , وَيَجُوز أَنْ يَتَنَاوَل هَذَا الْوَعِيد الْمُؤْمِن أَيْضًا إِذَا قَصَرَ دَعَوَاته فِي الدُّنْيَا , وَعَلَى هَذَا ف " مَا لَهُ فِي الْآخِرَة مِنْ خَلَاق " أَيْ كَخَلَاقِ الَّذِي يَسْأَل الْآخِرَة , وَالْخَلَاق النَّصِيب . و " مِنْ " زَائِدَة وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِسورة البقرة الآية رقم 201
" وَمِنْهُمْ " أَيْ مِنْ النَّاس , وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ خَيْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل الْحَسَنَتَيْنِ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة , فَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا الْمَرْأَة الْحَسْنَاء , وَفِي الْآخِرَة الْحُور الْعِين . " وَقِنَا عَذَاب النَّار " : الْمَرْأَة السُّوء .

قُلْت : وَهَذَا فِيهِ بُعْد , وَلَا يَصِحّ عَنْ عَلِيّ ; لِأَنَّ النَّار حَقِيقَة فِي النَّار الْمُحْرِقَة , وَعِبَارَة الْمَرْأَة عَنْ النَّار تَجُوز , وَقَالَ قَتَادَة : حَسَنَة الدُّنْيَا الْعَافِيَة فِي الصِّحَّة وَكَفَاف الْمَال , وَقَالَ الْحَسَن : حَسَنَة الدُّنْيَا الْعِلْم وَالْعِبَادَة , وَقِيلَ غَيْر هَذَا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم أَنَّ الْمُرَاد بِالْحَسَنَتَيْنِ نِعَم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , فَإِنَّ اللَّفْظ يَقْتَضِي هَذَا كُلّه , فَإِنَّ " حَسَنَة " نَكِرَة فِي سِيَاق الدُّعَاء , فَهُوَ مُحْتَمِل لِكُلِّ حَسَنَة مِنْ الْحَسَنَات عَلَى الْبَدَل . وَحَسَنَة الْآخِرَة : الْجَنَّة بِإِجْمَاعٍ . وَقِيلَ : لَمْ يُرِدْ حَسَنَة وَاحِدَة , بَلْ أَرَادَ : أَعْطِنَا فِي الدُّنْيَا عَطِيَّة حَسَنَة , فَحَذَفَ الِاسْم .

هَذِهِ الْآيَة مِنْ جَوَامِع الدُّعَاء الَّتِي عَمَّتْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . قِيلَ لِأَنَسٍ : اُدْعُ اللَّه لَنَا , فَقَالَ : اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار . قَالُوا : زِدْنَا . قَالَ : مَا تُرِيدُونَ قَدْ سَأَلْت الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ! وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَس قَالَ : كَانَ أَكْثَر دَعْوَة يَدْعُو بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار ) . قَالَ : فَكَانَ أَنَس إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا , فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُو بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ , وَفِي حَدِيث عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَطُوف بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَقُول : رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار . مَا لَهُ هَجِّيرِي غَيْرهَا , ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْد , وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَأْمُر أَنْ يَكُون أَكْثَر دُعَاء الْمُسْلِم فِي الْمَوْقِف هَذِهِ الْآيَة : " رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ عِنْد الرُّكْن مَلَكًا قَائِمًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض يَقُول آمِينَ , فَقُولُوا : " رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار " وَسُئِلَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَهُوَ يَطُوف بِالْبَيْتِ , فَقَالَ عَطَاء : حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا فَمَنْ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك الْعَفْو وَالْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار قَالُوا آمِينَ . .. ) الْحَدِيث . خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي السُّنَن , وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ مُسْنَدًا فِي [ الْحَجّ ] إِنْ شَاءَ اللَّه .


أَصْل " قِنَا " أَوْقِنَا حُذِفَتْ الْوَاو كَمَا حُذِفَتْ فِي يَقِي وَيَشِي ; لِأَنَّهَا بَيْن يَاء وَكَسْرَة , مِثْل يَعِد , هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ , وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : حُذِفَتْ فَرْقًا بَيْن اللَّازِم وَالْمُتَعَدِّي . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : هَذَا خَطَأ ; لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول , وَرِمَ يَرِم , فَيَحْذِفُونَ الْوَاو , وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ الدُّعَاء فِي أَلَّا يَكُون الْمَرْء مِمَّنْ يَدْخُلهَا بِمَعَاصِيهِ وَتُخْرِجهُ الشَّفَاعَة , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون دُعَاء مُؤَكَّدًا لِطَلَبِ دُخُول الْجَنَّة , لِتَكُونَ الرَّغْبَة فِي مَعْنَى النَّجَاة وَالْفَوْز مِنْ الطَّرَفَيْنِ , كَمَا قَالَ أَحَد الصَّحَابَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا إِنَّمَا أَقُول فِي دُعَائِي : اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّة وَعَافِنِي مِنْ النَّار , وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتك وَلَا دَنْدَنَة مُعَاذ , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَوْلهَا نُدَنْدِن ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه وَابْن مَاجَهْ أَيْضًا .
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة البقرة الآية رقم 202
هَذَا يَرْجِع إِلَى الْفَرِيق الثَّانِي فَرِيق الْإِسْلَام , أَيْ لَهُمْ ثَوَاب الْحَجّ أَوْ ثَوَاب الدُّعَاء , فَإِنَّ دُعَاء الْمُؤْمِن عِبَادَة , وَقِيلَ : يَرْجِع " أُولَئِكَ " إِلَى الْفَرِيقَيْنِ , فَلِلْمُؤْمِنِ ثَوَاب عَمَله وَدُعَائِهِ , وَلِلْكَافِرِ عِقَاب شِرْكه وَقِصَر نَظَره عَلَى الدُّنْيَا , وَهُوَ مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَلِكُلٍّ دَرَجَات مِمَّا عَمِلُوا " [ الْأَنْعَام : 132 ] .

قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيب مِمَّا كَسَبُوا " هُوَ الرَّجُل يَأْخُذ مَالًا يَحُجّ بِهِ عَنْ غَيْره , فَيَكُون لَهُ ثَوَاب , وَرُوِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَاتَ أَبِي وَلَمْ يَحُجّ , أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْن فَقَضَيْته أَمَا كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي ) . قَالَ نَعَمْ . قَالَ : ( فَدَيْن اللَّه أَحَقّ أَنْ يُقْضَى ) . قَالَ : فَهَلْ لِي مِنْ أَجْر ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيب مِمَّا كَسَبُوا " يَعْنِي مَنْ حَجَّ عَنْ مَيِّت كَانَ الْأَجْر بَيْنه وَبَيْن الْمَيِّت . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن خُوَيْز مَنْدَاد فِي أَحْكَامه : قَوْل اِبْن عَبَّاس نَحْو قَوْل مَالِك ; لِأَنَّ تَحْصِيل مَذْهَب مَالِك أَنَّ الْمَحْجُوج عَنْهُ يَحْصُل لَهُ ثَوَاب النَّفَقَة , وَالْحَجَّة لِلْحَاجِّ , فَكَأَنَّهُ يَكُون لَهُ ثَوَاب بَدَنه وَأَعْمَاله , وَلِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَاب مَاله وَإِنْفَاقه ; وَلِهَذَا قُلْنَا : لَا يَخْتَلِف فِي هَذَا حُكْم مَنْ حَجَّ عَنْ نَفْسه حَجَّة الْإِسْلَام أَوْ لَمْ يَحُجّ ; لِأَنَّ الْأَعْمَال الَّتِي تَدْخُلهَا النِّيَابَة لَا يَخْتَلِف حُكْم الْمُسْتَنَاب فِيهَا بَيْن أَنْ يَكُون قَدْ أَدَّى عَنْ نَفْسه أَوْ لَمْ يُؤَدِّ , اِعْتِبَارًا بِأَعْمَالِ الدِّين وَالدُّنْيَا . أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ زَكَاة أَوْ كَفَّارَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ يَجُوز أَنْ يُؤَدِّي عَنْ غَيْره وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَنْ نَفْسه , وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرَاعِ مَصَالِحه فِي الدُّنْيَا يَصِحّ أَنْ يَنُوب عَنْ غَيْره مِنْ مِثْلهَا فَتَتِمّ لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَتِمّ لِنَفْسِهِ , وَيُزَوِّج غَيْره وَإِنْ لَمْ يُزَوِّج نَفْسه .

مِنْ سَرُعَ يَسْرُع - مِثْل عَظُمَ يَعْظُم - سِرْعًا وَسُرْعَة , فَهُوَ سَرِيع . " الْحِسَاب " : مَصْدَر كَالْمُحَاسَبَةِ , وَقَدْ يُسَمَّى الْمَحْسُوب حِسَابًا , وَالْحِسَاب الْعَدّ , يُقَال : حَسَبَ يَحْسُب حِسَابًا وَحِسَابَة وَحُسْبَانًا وَحِسْبَانًا وَحَسْبًا , أَيْ عَدَّ , وَأَنْشَدَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : يَا جُمْل أُسْقَاك بِلَا حِسَابه سُقْيَا مَلِيك حَسَن الرِّبَابَهْ قَتَلْتنِي بِالدَّلِّ وَالْخِلَابَهْ وَالْحَسَب : مَا عُدَّ مِنْ مَفَاخِر الْمَرْء , وَيُقَال : حَسْبه دِينه , وَيُقَال : مَاله , وَمِنْهُ الْحَدِيث : الْحَسَب الْمَال وَالْكَرَم التَّقْوَى ) رَوَاهُ سَمُرَة بْن جُنْدُب , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ , وَهُوَ فِي الشِّهَاب أَيْضًا , وَالرَّجُل حَسِيب , وَقَدْ حَسُبَ حَسَابَة ( بِالضَّمِّ ) , مِثْل خَطَبَ خَطَابَة . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه سَرِيع الْحِسَاب , لَا يَحْتَاج إِلَى عَدّ وَلَا إِلَى عَقْد وَلَا إِلَى إِعْمَال فِكْر كَمَا يَفْعَلهُ الْحَسَّاب , وَلِهَذَا قَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ مُنَزِّل الْكِتَاب سَرِيع الْحِسَاب ) الْحَدِيث , فَاَللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَالِم بِمَا لِلْعِبَادِ وَعَلَيْهِمْ فَلَا يَحْتَاج إِلَى تَذَكُّر وَتَأَمُّل , إِذْ قَدْ عَلِمَ مَا لِلْمُحَاسَبِ وَعَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْفَائِدَة فِي الْحِسَاب عِلْم حَقِيقَته , وَقِيلَ : سَرِيع الْمُجَازَاة لِلْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا يَشْغَلهُ شَأْن عَنْ شَأْن , فَيُحَاسِبهُمْ فِي حَالَة وَاحِدَة , كَمَا قَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " مَا خَلْقكُمْ وَلَا بَعْثكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة " [ لُقْمَان : 28 ] . قَالَ الْحَسَن : حِسَابه أَسْرَعَ مِنْ لَمْح الْبَصَر , وَفِي الْخَبَر ( إِنَّ اللَّه يُحَاسِب فِي قَدْر حَلْب شَاة ) , وَقِيلَ : هُوَ أَنَّهُ إِذَا حَاسَبَ وَاحِدًا فَقَدْ حَاسَبَ جَمِيع الْخَلْق , وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَيْف يُحَاسِب اللَّه الْعِبَاد فِي يَوْم ؟ قَالَ : كَمَا يَرْزُقهُمْ فِي يَوْم ! , وَمَعْنَى الْحِسَاب : تَعْرِيف اللَّه عِبَاده مَقَادِير الْجَزَاء عَلَى أَعْمَالهمْ , وَتَذْكِيره إِيَّاهُمْ بِمَا قَدْ نَسَوْهُ , بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا فَيُنَبِّئهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّه وَنَسُوهُ " [ الْمُجَادَلَة : 6 ] , وَقِيلَ : مَعْنَى الْآيَة سَرِيع بِمَجِيءِ يَوْم الْحِسَاب , فَالْمَقْصِد بِالْآيَةِ الْإِنْذَار بِيَوْمِ الْقِيَامَة .

قُلْت : وَالْكُلّ مُحْتَمَل فَيَأْخُذ الْعَبْد لِنَفْسِهِ فِي تَخْفِيف الْحِسَاب عَنْهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة , وَإِنَّمَا يَخِفّ الْحِسَاب فِي الْآخِرَة عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسه فِي الدُّنْيَا .
وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَسورة البقرة الآية رقم 203
فِيهِ سِتّ مَسَائِل : الْأُولَى : قَالَ الْكُوفِيُّونَ : الْأَلِف وَالتَّاء فِي " مَعْدُودَات " لِأَقَلّ الْعَدَد . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُمَا لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِير , بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ " [ سَبَأ : 37 ] وَالْغُرُفَات كَثِيرَة . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ الْأَيَّام الْمَعْدُودَات فِي هَذِهِ الْآيَة هِيَ أَيَّام مِنًى , وَهِيَ أَيَّام التَّشْرِيق , وَأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَة الْأَسْمَاء وَاقِعَة عَلَيْهَا , وَهِيَ أَيَّام رَمْي الْجِمَار , وَهِيَ وَاقِعَة عَلَى الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي يَتَعَجَّل الْحَاجّ مِنْهَا فِي يَوْمَيْنِ بَعْد يَوْم النَّحْر , فَقِفْ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ وَقَالَ إِبْرَاهِيم : الْأَيَّام الْمَعْدُودَات أَيَّام الْعَشْر , وَالْأَيَّام الْمَعْلُومَات أَيَّام النَّحْر , وَكَذَا حَكَى مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ أَنَّ الْأَيَّام الْمَعْدُودَات هِيَ أَيَّام الْعَشْر . وَلَا يَصِحّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِجْمَاع , عَلَى مَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْره . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَكُون مِنْ تَصْحِيف النُّسْخَة , وَإِمَّا أَنْ يُرِيد الْعَشْر الَّذِي بَعْد النَّحْر , وَفَى ذَلِكَ بُعْد .

الثَّانِيَة : أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى عِبَاده بِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّام الْمَعْدُودَات , وَهِيَ الثَّلَاثَة الَّتِي بَعْد يَوْم النَّحْر , وَلَيْسَ يَوْم النَّحْر مِنْهَا , لِإِجْمَاعِ النَّاس أَنَّهُ لَا يَنْفِر أَحَد يَوْم النَّفْر وَهُوَ ثَانِي يَوْم النَّحْر , وَلَوْ كَانَ يَوْم النَّحْر فِي الْمَعْدُودَات لَسَاغَ أَنْ يَنْفِر مَنْ شَاءَ مُتَعَجِّلًا يَوْم النَّفْر ; لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ يَوْمَيْنِ مِنْ الْمَعْدُودَات . خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَعْمَر الدِّيلِيّ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْل نَجْد أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَة فَسَأَلُوهُ , فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى : ( الْحَجّ عَرَفَة , فَمَنْ جَاءَ لَيْلَة جَمْع قَبْل طُلُوع الْفَجْر فَقَدْ أَدْرَكَ , أَيَّام مِنًى ثَلَاثَة فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ ) , أَيْ مَنْ تَعَجَّلَ مِنْ الْحَاجّ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّام مِنًى صَارَ مَقَامه بِمِنًى ثَلَاثَة أَيَّام بِيَوْمِ النَّحْر , وَيَصِير جَمِيع رَمْيه بِتِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ حَصَاة , وَيَسْقُط عَنْهُ رَمْي يَوْم الثَّالِث . وَمَنْ لَمْ يَنْفِر مِنْهَا إِلَّا فِي آخِر الْيَوْم الثَّالِث حَصَلَ لَهُ بِمِنًى مَقَام أَرْبَعَة أَيَّام مِنْ أَجْل يَوْم النَّحْر , وَاسْتَوْفَى الْعَدَد فِي الرَّمْي , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَمِنْ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ أَيَّام مِنًى ثَلَاثَة - مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ - قَوْل الْعَرْجِيّ : مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاث مِنًى حَتَّى يُفَرِّق بَيْننَا النَّفْر فَأَيَّام الرَّمْي مَعْدُودَات , وَأَيَّام النَّحْر مَعْلُومَات . وَرَوَى نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ الْأَيَّام الْمَعْدُودَات وَالْأَيَّام الْمَعْلُومَات يَجْمَعهَا أَرْبَعَة أَيَّام : يَوْم النَّحْر وَثَلَاثَة أَيَّام بَعْده , فَيَوْم النَّحْر مَعْلُوم غَيْر مَعْدُود , وَالْيَوْمَانِ بَعْده مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ , وَالْيَوْم الرَّابِع مَعْدُود لَا مَعْلُوم , وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَغَيْره . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّل لَيْسَ مِنْ الْأَيَّام الَّتِي تَخْتَصّ بِمِنًى فِي قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى : " وَاذْكُرُوا اللَّه فِي أَيَّام مَعْدُودَات " وَلَا مِنْ الَّتِي عَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( أَيَّام مِنًى ثَلَاثَة ) فَكَانَ مَعْلُومًا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَيَذْكُرُوا اِسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ " [ الْحَجّ : 28 ] وَلَا خِلَاف أَنَّ الْمُرَاد بِهِ النَّحْر , وَكَانَ النَّحْر فِي الْيَوْم الْأَوَّل وَهُوَ يَوْم الْأَضْحَى وَالثَّانِي وَالثَّالِث , وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِع نَحْر بِإِجْمَاعٍ مِنْ عُلَمَائِنَا , فَكَانَ الرَّابِع غَيْر مُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى : " مَعْلُومَاتٍ " لِأَنَّهُ لَا يُنْحَر فِيهِ وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ , فَصَارَ مَعْدُودًا لِأَجْلِ الرَّمْي , غَيْر مَعْلُوم لِعَدَمِ النَّحْر فِيهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْحَقِيقَة فِيهِ أَنَّ يَوْم النَّحْر مَعْدُود بِالرَّمْيِ مَعْلُوم بِالذَّبْحِ , لَكِنَّهُ عِنْد عُلَمَائِنَا لَيْسَ مُرَادًا فِي قَوْله تَعَالَى : " وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ " . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ : ( الْأَيَّام الْمَعْلُومَات الْعَشْر مِنْ أَوَّل يَوْم مِنْ ذِي الْحَجَّة , وَآخِرهَا يَوْم النَّحْر ) , لَمْ يَخْتَلِف قَوْلهمَا فِي ذَلِكَ , وَرَوَيَا ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَرَوَى الطَّحَاوِيّ عَنْ أَبِي يُوسُف أَنَّ الْأَيَّام الْمَعْلُومَات أَيَّام النَّحْر , قَالَ أَبُو يُوسُف : رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر وَعَلِيّ , وَإِلَيْهِ أَذْهَب , لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : " وَيَذْكُرُوا اِسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ " . وَحَكَى الْكَرْخِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن الْحَسَن أَنَّ الْأَيَّام الْمَعْلُومَات أَيَّام النَّحْر الثَّلَاثَة : يَوْم الْأَضْحَى وَيَوْمَانِ بَعْده . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : فَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد لَا فَرْق بَيْن الْمَعْلُومَات وَالْمَعْدُودَات ; لِأَنَّ الْمَعْدُودَات الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن أَيَّام التَّشْرِيق بِلَا خِلَاف , وَلَا يَشُكّ أَحَد أَنَّ الْمَعْدُودَات لَا تَتَنَاوَل أَيَّام الْعَشْر ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " وَلَيْسَ فِي الْعَشْر حُكْم يَتَعَلَّق بِيَوْمَيْنِ دُون الثَّالِث . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس ( أَنَّ الْمَعْلُومَات الْعَشْر , وَالْمَعْدُودَات أَيَّام التَّشْرِيق ) , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور .

قُلْت : وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْأَيَّام الْمَعْلُومَات عَشْر ذِي الْحَجَّة وَأَيَّام التَّشْرِيق , وَفِيهِ بُعْد , لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَظَاهِر الْآيَة يَدْفَعهُ . وَجَعَلَ اللَّه الذِّكْر فِي الْأَيَّام الْمَعْدُودَات وَالْمَعْلُومَات يَدُلّ عَلَى خِلَاف قَوْله , فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ .

الثَّالِثَة : وَلَا خِلَاف أَنَّ الْمُخَاطَب بِهَذَا الذِّكْر هُوَ الْحَاجّ , خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْد رَمْي الْجِمَار , وَعَلَى مَا رُزِقَ مِنْ بَهِيمَة الْأَنْعَام فِي الْأَيَّام الْمَعْلُومَات وَعِنْد أَدْبَار الصَّلَوَات دُون تَلْبِيَة , وَهَلْ يَدْخُل غَيْر الْحَاجّ فِي هَذَا أَمْ لَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار وَالْمَشَاهِير مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالتَّكْبِيرِ كُلّ أَحَد - وَخُصُوصًا فِي أَوْقَات الصَّلَوَات - فَكَبَّرَ عِنْد اِنْقِضَاء كُلّ صَلَاة - كَانَ الْمُصَلِّي وَحْده أَوْ فِي جَمَاعَة - تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّام , اِقْتِدَاء بِالسَّلَفِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَفِي الْمُخْتَصَر : وَلَا يُكَبِّر النِّسَاء دُبُر الصَّلَوَات , وَالْأَوَّل أَشْهَر ; لِأَنَّهُ يَلْزَمهَا حُكْم الْإِحْرَام كَالرَّجُلِ , قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَة .

الرَّابِعَة : وَمَنْ نَسِيَ التَّكْبِير بِإِثْرِ صَلَاة كَبَّرَ إِنْ كَانَ قَرِيبًا , وَإِنْ تَبَاعَدَ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , قَالَهُ اِبْن الْجَلَّاب . وَقَالَ مَالِك فِي الْمُخْتَصَر : يُكَبِّر مَا دَامَ فِي مَجْلِسه , فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَفِي الْمُدَوَّنَة مِنْ قَوْل مَالِك : إِنْ نَسِيَ الْإِمَام التَّكْبِير فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا قَعَدَ فَكَبَّرَ , وَإِنْ تَبَاعَدَ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَإِنْ ذَهَبَ وَلَمْ يُكَبِّر وَالْقَوْم جُلُوس فَلْيُكَبِّرُوا .

الْخَامِسَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي طَرَفَيْ مُدَّة التَّكْبِير , فَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس : ( يُكَبِّر مِنْ صَلَاة الصُّبْح يَوْم عَرَفَة إِلَى الْعَصْر مِنْ آخِر أَيَّام التَّشْرِيق ) . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَأَبُو حَنِيفَة : يُكَبِّر مِنْ غَدَاة عَرَفَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر مِنْ يَوْم النَّحْر . وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّل , قَوْل عُمَر وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , فَاتَّفَقُوا فِي الِابْتِدَاء دُون الِانْتِهَاء . وَقَالَ مَالِك : يُكَبِّر مِنْ صَلَاة الظُّهْر يَوْم النَّحْر إِلَى صَلَاة الصُّبْح مِنْ آخِر أَيَّام التَّشْرِيق , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس أَيْضًا . وَقَالَ زَيْد بْن ثَابِت : ( يُكَبِّر مِنْ ظُهْر يَوْم النَّحْر إِلَى آخِر أَيَّام التَّشْرِيق ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَأَمَّا مَنْ قَالَ : يُكَبِّر يَوْم عَرَفَة وَيَقْطَع الْعَصْر مِنْ يَوْم النَّحْر فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الظَّاهِر ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " فِي أَيَّام مَعْدُودَات " وَأَيَّامهَا ثَلَاثَة , وَقَدْ قَالَ هَؤُلَاءِ : يُكَبِّر فِي يَوْمَيْنِ , فَتَرَكُوا الظَّاهِر لِغَيْرِ دَلِيل . وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَوْم عَرَفَة وَأَيَّام التَّشْرِيق , فَقَالَ : إِنَّهُ قَالَ : " فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ " [ الْبَقَرَة : 198 ] , فَذِكْر " عَرَفَات " دَاخِل فِي ذِكْر الْأَيَّام , هَذَا كَانَ يَصِحّ لَوْ كَانَ قَالَ : يُكَبِّر مِنْ الْمَغْرِب يَوْم عَرَفَة ; لِأَنَّ وَقْت الْإِفَاضَة حِينَئِذٍ , فَأَمَّا قَبْلُ فَلَا يَقْتَضِيه ظَاهِر اللَّفْظ , وَيَلْزَمهُ أَنْ يَكُون مِنْ يَوْم التَّرْوِيَة عِنْد الْحُلُول بِمِنًى .

السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظ التَّكْبِير , فَمَشْهُور مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ يُكَبِّر إِثْر كُلّ صَلَاة ثَلَاث تَكْبِيرَات , رَوَاهُ زِيَاد بْن زِيَاد عَنْ مَالِك . وَفِي الْمَذْهَب رِوَايَة : يُقَال بَعْد التَّكْبِيرَات الثَّلَاث : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَاَللَّه أَكْبَر وَلِلَّهِ الْحَمْد . وَفِي الْمُخْتَصَر عَنْ مَالِك : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر , لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَاَللَّه أَكْبَر , اللَّه أَكْبَر وَلِلَّهِ الْحَمْد .

فِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَة : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَمَنْ تَعَجَّلَ " التَّعْجِيل أَبَدًا لَا يَكُون هُنَا إِلَّا فِي آخِر النَّهَار , وَكَذَلِكَ الْيَوْم الثَّالِث , لِأَنَّ الرَّمْي فِي تِلْكَ الْأَيَّام إِنَّمَا وَقْته بَعْد الزَّوَال . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَوْم النَّحْر لَا يُرْمَى فِيهِ غَيْر جَمْرَة الْعَقَبَة ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْمِ يَوْم النَّحْر مِنْ الْجَمَرَات غَيْرهَا , وَوَقْتهَا مِنْ طُلُوع الشَّمْس إِلَى الزَّوَال , وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّ وَقْت رَمْي الْجَمَرَات فِي أَيَّام التَّشْرِيق بَعْد الزَّوَال إِلَى الْغُرُوب , وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَمَى جَمْرَة الْعَقَبَة قَبْل طُلُوع الْفَجْر أَوْ بَعْد طُلُوع الْفَجْر قَبْل طُلُوع الشَّمْس , فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : جَائِز رَمْيهَا بَعْد الْفَجْر قَبْل طُلُوع الشَّمْس . وَقَالَ مَالِك : لَمْ يَبْلُغنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِأَحَدٍ بِرَمْيٍ قَبْل أَنْ يَطْلُع الْفَجْر , وَلَا يَجُوز رَمْيهَا قَبْل الْفَجْر , فَإِنْ رَمَاهَا قَبْل الْفَجْر أَعَادَهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يَجُوز رَمْيهَا , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق . وَرَخَّصَتْ طَائِفَة فِي الرَّمْي قَبْل طُلُوع الْفَجْر , رُوِيَ عَنْ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر أَنَّهَا كَانَتْ تَرْمِي بِاللَّيْلِ وَتَقُول : إِنَّا كُنَّا نَصْنَع هَذَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَطَاء وَابْن أَبِي مُلَيْكَة وَعِكْرِمَة بْن خَالِد , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ إِذَا كَانَ الرَّمْي بَعْد نِصْف اللَّيْل . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يُرْمَى حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس , قَالَهُ مُجَاهِد وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيّ . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : إِنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس فَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ , وَإِنْ أَجْمَعُوا , أَوْ كَانَتْ فِيهِ سُنَّة أَجْزَأَهُ . قَالَ أَبُو عُمَر : أَمَّا قَوْل الثَّوْرِيّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَحُجَّته أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَة بَعْد طُلُوع الشَّمْس وَقَالَ : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ) . وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : السُّنَّة أَلَّا تَرْمِي إِلَّا بَعْد طُلُوع الشَّمْس , وَلَا يُجْزِئ الرَّمْي قَبْل طُلُوع الْفَجْر , فَإِنْ رَمَى أَعَادَ , إِذْ فَاعِله مُخَالِف لِمَا سَنَّهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ . وَمَنْ رَمَاهَا بَعْد طُلُوع الْفَجْر قَبْل طُلُوع الشَّمْس فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ , إِذْ لَا أَعْلَم أَحَدًا قَالَ لَا يُجْزِئهُ .

الثَّانِيَة : رَوَى مَعْمَر قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ سَلَمَة أَنْ تُصْبِح بِمَكَّة يَوْم النَّحْر وَكَانَ يَوْمهَا . قَالَ أَبُو عُمَر : اُخْتُلِفَ عَلَى هِشَام فِي هَذَا الْحَدِيث , فَرَوَتْهُ طَائِفَة عَنْ هِشَام عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا كَمَا رَوَاهُ مَعْمَر , وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمّ سَلَمَة بِذَلِكَ مُسْنَدًا , وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَب بِنْت أَبِي سَلَمَة عَنْ أُمّ سَلَمَة مُسْنَدًا أَيْضًا , وَكُلّهمْ ثِقَات . وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا رَمَتْ الْجَمْرَة بِمِنًى قَبْل الْفَجْر ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تُصْبِح بِمَكَّة يَوْم النَّحْر , وَهَذَا لَا يَكُون إِلَّا وَقَدْ رَمَتْ الْجَمْرَة بِمِنًى لَيْلًا قَبْل الْفَجْر , وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا هَارُون بْن عَبْد اللَّه قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي فُدَيْك عَنْ الضَّحَّاك بْن عُثْمَان عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : أَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَة لَيْلَة النَّحْر فَرَمَتْ الْجَمْرَة قَبْل الْفَجْر ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ , وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم الْيَوْم الَّذِي يَكُون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدهَا . وَإِذَا ثَبَتَ فَالرَّمْي بِاللَّيْلِ جَائِز لِمَنْ فَعَلَهُ , وَالِاخْتِيَار مِنْ طُلُوع الشَّمْس إِلَى زَوَالهَا . قَالَ أَبُو عُمَر : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ وَقْت الِاخْتِيَار فِي رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة مِنْ طُلُوع الشَّمْس إِلَى زَوَالهَا , وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إِنْ رَمَاهَا قَبْل غُرُوب الشَّمْس مِنْ يَوْم النَّحْر فَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ , إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ قَالَ : أَسْتَحِبّ لَهُ إِنْ تَرَكَ جَمْرَة الْعَقَبَة حَتَّى أَمْسَى أَنْ يُهْرِيق دَمًا يَجِيء بِهِ مِنْ الْحِلّ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يَرْمِهَا حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس فَرَمَاهَا مِنْ اللَّيْل أَوْ مِنْ الْغَد , فَقَالَ مَالِك : عَلَيْهِ دَم , وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِرَمْيِ الْجَمْرَة وَقْتًا , وَهُوَ يَوْم النَّحْر , فَمَنْ رَمَى بَعْد غُرُوب الشَّمْس فَقَدْ رَمَاهَا بَعْد خُرُوج وَقْتهَا , وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا فِي الْحَجّ بَعْد وَقْته فَعَلَيْهِ دَم . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا دَم عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ السَّائِل : يَا رَسُول اللَّه , رَمَيْت بَعْد مَا أَمْسَيْت فَقَالَ : ( لَا حَرَج ) , قَالَ مَالِك : مَنْ نَسِيَ رَمْي الْجِمَار حَتَّى يُمْسِي فَلْيَرْمِ أَيَّة سَاعَة ذَكَرَ مِنْ لَيْل أَوْ نَهَار , كَمَا يُصَلِّي أَيَّة سَاعَة ذَكَرَ , وَلَا يَرْمِي إِلَّا مَا فَاتَهُ خَاصَّة , وَإِنْ كَانَتْ جَمْرَة وَاحِدَة رَمَاهَا , ثُمَّ يَرْمِي مَا رَمَى بَعْدهَا مِنْ الْجِمَار , فَإِنَّ التَّرْتِيب فِي الْجِمَار وَاجِب , فَلَا يَجُوز أَنْ يَشْرَع فِي رَمْي جَمْرَة حَتَّى يُكْمِل رَمْي الْجَمْرَة الْأُولَى كَرَكَعَاتِ الصَّلَاة , هَذَا هُوَ الْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب . وَقِيلَ : لَيْسَ التَّرْتِيب بِوَاجِبٍ فِي صِحَّة الرَّمْي , بَلْ إِذَا كَانَ الرَّمْي كُلّه فِي وَقْت الْأَدَاء أَجْزَأَهُ .

الثَّالِثَة : فَإِذَا مَضَتْ أَيَّام الرَّمْي فَلَا رَمْي فَإِنْ ذَكَرَ بَعْد مَا يُصْدِر وَهُوَ بِمَكَّة أَوْ بَعْد مَا يَخْرُج مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْي , وَسَوَاء تَرَكَ الْجِمَار كُلّهَا , أَوْ جَمْرَة مِنْهَا , أَوْ حَصَاة مِنْ جَمْرَة حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّام مِنًى فَعَلَيْهِ دَم . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ تَرَكَ الْجِمَار كُلّهَا فَعَلَيْهِ دَم , وَإِنْ تَرَكَ جَمْرَة وَاحِدَة كَانَ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَصَاة مِنْ الْجَمْرَة إِطْعَام مِسْكِين نِصْف صَاع , إِلَى أَنْ يَبْلُغ دَمًا فَيُطْعِم مَا شَاءَ , إِلَّا جَمْرَة الْعَقَبَة فَعَلَيْهِ دَم . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يَتَصَدَّق إِنْ تَرَكَ حَصَاة . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : يُطْعِم فِي الْحَصَاة وَالْحَصَاتَيْنِ وَالثَّلَاث , فَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعَة فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَم . وَقَالَ اللَّيْث : فِي الْحَصَاة الْوَاحِدَة دَم , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ . وَالْقَوْل الْآخَر وَهُوَ الْمَشْهُور : إِنَّ فِي الْحَصَاة الْوَاحِدَة مُدًّا مِنْ طَعَام , وَفِي حَصَاتَيْنِ مُدَّيْنِ , وَفِي ثَلَاث حَصَيَات دَم .

الرَّابِعَة : وَلَا سَبِيل عِنْد الْجَمِيع إِلَى رَمْي مَا فَاتَهُ مِنْ الْجِمَار فِي أَيَّام التَّشْرِيق حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس مِنْ آخِرهَا , وَذَلِكَ الْيَوْم الرَّابِع مِنْ يَوْم النَّحْر , وَهُوَ الثَّالِث مِنْ أَيَّام التَّشْرِيق , وَلَكِنْ يُجْزِئهُ الدَّم أَوْ الْإِطْعَام عَلَى حَسَب مَا ذَكَرْنَا .

الْخَامِسَة : وَلَا تَجُوز الْبَيْتُوتَة بِمَكَّة وَغَيْرهَا عَنْ مِنًى لَيَالِي التَّشْرِيق , فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْر جَائِز عِنْد الْجَمِيع إِلَّا لِلرِّعَاءِ , وَلِمَنْ وَلِيَ السِّقَايَة مِنْ آل الْعَبَّاس . قَالَ مَالِك : مَنْ تَرَكَ الْمَبِيت لَيْلَة مِنْ لَيَالِي مِنًى مِنْ غَيْر الرِّعَاء وَأَهْل السِّقَايَة فَعَلَيْهِ دَم . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ الْعَبَّاس اِسْتَأْذَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبِيتَ بِمَكَّة لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْل سِقَايَته فَأَذِنَ لَهُ . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : كَانَ الْعَبَّاس يَنْظُر فِي السِّقَايَة وَيَقُوم بِأَمْرِهَا , وَيَسْقِي الْحَاجّ شَرَابهَا أَيَّام الْمَوْسِم , فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهُ فِي الْمَبِيت عَنْ مِنًى , كَمَا أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِل مِنْ أَجْل حَاجَتهمْ لِرَعْيِ الْإِبِل وَضَرُورَتهمْ إِلَى الْخُرُوج بِهَا نَحْو الْمَرَاعِي الَّتِي تَبْعُد عَنْ مِنًى . وَسُمِّيَتْ مِنًى " مِنًى " لِمَا يُمْنَى فِيهَا مِنْ الدِّمَاء , أَيْ يُرَاق . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( إِنَّمَا سُمِّيت مِنًى لِأَنَّ جِبْرِيل قَالَ لِآدَم عَلَيْهِ السَّلَام : تَمَنَّ . قَالَ : أَتَمَنَّى الْجَنَّة , فَسُمِّيَتْ مِنًى . قَالَ : وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ جَمْعًا لِأَنَّهُ اِجْتَمَعَ بِهَا حَوَّاء وَآدَم عَلَيْهِمَا السَّلَام ) , وَالْجَمْع أَيْضًا هُوَ الْمُزْدَلِفَة , وَهُوَ الْمَشْعَر الْحَرَام , كَمَا تَقَدَّمَ .

السَّادِسَة : وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ الْمَبِيت لِلْحَاجِّ غَيْر الَّذِينَ رُخِّصَ لَهُمْ لَيَالِي مِنًى بِمِنًى مِنْ شَعَائِر الْحَجّ وَنُسُكه , وَالنَّظَر يُوجِب عَلَى كُلّ مُسْقِط لِنُسُكِهِ دَمًا , قِيَاسًا عَلَى سَائِر الْحَجّ وَنُسُكه . وَفِي الْمُوَطَّإِ : مَالِك عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ عُمَر : لَا يَبِيتَن أَحَد مِنْ الْحَاجّ لَيَالِي مِنًى مِنْ وَرَاء الْعَقَبَة . وَالْعَقَبَة الَّتِي مَنَعَ عُمَر أَنْ يَبِيت أَحَد وَرَاءَهَا هِيَ الْعَقَبَة الَّتِي عِنْد الْجَمْرَة الَّتِي يَرْمِيهَا النَّاس يَوْم النَّحْر مِمَّا يَلِي مَكَّة . رَوَاهُ اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك فِي الْمَبْسُوط , قَالَ : وَقَالَ مَالِك : وَمَنْ بَاتَ وَرَاءَهَا لَيَالِي مِنًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَة , وَذَلِكَ أَنَّهُ بَاتَ بِغَيْرِ مِنًى لَيَالِي مِنًى , وَهُوَ مَبِيت مَشْرُوع فِي الْحَجّ , فَلَزِمَ الدَّم بِتَرْكِهِ كَالْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ , وَمَعْنَى الْفِدْيَة هُنَا عِنْد مَالِك الْهَدْي . قَالَ مَالِك : هُوَ هَدْي يُسَاق مِنْ الْحِلّ إِلَى الْحَرَم .

السَّابِعَة : رَوَى مَالِك عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْم عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا الْبَدَّاح بْن عَاصِم بْن عَدِيّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِل فِي الْبَيْتُوتَة عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْم النَّحْر , ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَد , وَمِنْ بَعْد الْغَد لِيَوْمَيْنِ , ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْم النَّفْر . قَالَ أَبُو عُمَر : لَمْ يَقُلْ مَالِك بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيث , وَكَانَ يَقُول : يَرْمُونَ يَوْم النَّحْر - يَعْنِي جَمْرَة الْعَقَبَة - ثُمَّ لَا يَرْمُونَ مِنْ الْغَد , فَإِذَا كَانَ بَعْد الْغَد وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَيَّام التَّشْرِيق وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي يَتَعَجَّل فِيهِ النَّفْر مَنْ يُرِيد التَّعْجِيل أَوْ مَنْ يَجُوز لَهُ التَّعْجِيل رَمَوْا الْيَوْمَيْنِ لِذَلِكَ الْيَوْم وَلِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْله ; لِأَنَّهُمْ يَقْضُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ , وَلَا يَقْضِي أَحَد عِنْده شَيْئًا إِلَّا بَعْد أَنْ يَجِب عَلَيْهِ , هَذَا مَعْنَى مَا فَسَّرَ بِهِ مَالِك هَذَا الْحَدِيث فِي مُوَطَّئِهِ . وَغَيْره يَقُول : لَا بَأْس بِذَلِكَ كُلّه عَلَى مَا فِي حَدِيث مَالِك , لِأَنَّهَا أَيَّام رَمْي كُلّهَا , وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ عِنْد مَالِك لِلرِّعَاءِ تَقْدِيم الرَّمْي لِأَنَّ غَيْر الرِّعَاء لَا يَجُوز لَهُمْ أَنْ يَرْمُوا فِي أَيَّام التَّشْرِيق شَيْئًا مِنْ الْجِمَار قَبْل الزَّوَال , فَإِنْ رَمَى قَبْل الزَّوَال أَعَادَهَا , لَيْسَ لَهُمْ التَّقْدِيم . وَإِنَّمَا رُخِّصَ لَهُمْ فِي الْيَوْم الثَّانِي إِلَى الثَّالِث . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : الَّذِي قَالَهُ مَالِك فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مَوْجُود فِي رِوَايَة اِبْن جُرَيْج قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْم عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا الْبَدَّاح بْن عَاصِم بْن عَدِيّ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَتَعَاقَبُوا , فَيَرْمُوا يَوْم النَّحْر , ثُمَّ يَدَعُوا يَوْمًا وَلَيْلَة ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَد . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيَسْقُط رَمْي الْجَمْرَة الثَّالِثَة عَمَّنْ تَعَجَّلَ . قَالَ اِبْن أَبِي زَمَنِين يَرْمِيهَا يَوْم النَّفْر الْأَوَّل حِين يُرِيد التَّعْجِيل . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : يَرْمِي الْمُتَعَجِّل فِي يَوْمَيْنِ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاة , كُلّ جَمْرَة بِسَبْعِ حَصَيَات , فَيَصِير جَمِيع رَمْيه بِتِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ حَصَاة ; لِأَنَّهُ قَدْ رَمَى جَمْرَة الْعَقَبَة يَوْم النَّحْر بِسَبْعٍ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَيَسْقُط رَمْي الْيَوْم الثَّالِث .

الثَّامِنَة : رَوَى مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُر أَنَّهُ أَرْخَصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ , يَقُول فِي الزَّمَن الْأَوَّل . قَالَ الْبَاجِيّ : " قَوْله فِي الزَّمَن الْأَوَّل يَقْتَضِي إِطْلَاقه زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَوَّل زَمَن هَذِهِ الشَّرِيعَة , فَعَلَى هَذَا هُوَ مُرْسَل . وَيُحْتَمَل أَنْ يُرِيد بِهِ أَوَّل زَمَن أَدْرَكَهُ عَطَاء , فَيَكُون مَوْقُوفًا مُسْنَدًا " . وَاَللَّه أَعْلَم .

قُلْت : هُوَ مُسْنَد مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْره , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " الْمُقْتَبَس فِي شَرْح مُوَطَّإِ مَالِك بْن أَنَس " , وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمْ الرَّمْي بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ أَرْفَق بِهِمْ وَأَحْوَط فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ رَعْي الْإِبِل ; لِأَنَّ اللَّيْل وَقْت لَا تَرْعَى فِيهِ وَلَا تَنْتَشِر , فَيَرْمُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت . وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِيمَنْ فَاتَهُ الرَّمْي حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس , فَقَالَ عَطَاء : لَا رَمْي بِاللَّيْلِ إِلَّا لِرِعَاءِ الْإِبِل , فَأَمَّا التُّجَّار فَلَا . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ : مَنْ فَاتَهُ الرَّمْي حَتَّى تَغِيب الشَّمْس فَلَا يَرْمِ حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْ الْغَد , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق . وَقَالَ مَالِك : إِذَا تَرَكَهُ نَهَارًا رَمَاهُ لَيْلًا , وَعَلَيْهِ دَم فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم , وَلَمْ يَذْكُر فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَيَعْقُوب وَمُحَمَّد : إِذَا نَسِيَ الرَّمْي حَتَّى أَمْسَى يَرْمِي وَلَا دَم عَلَيْهِ . وَكَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ يُرَخِّص فِي رَمْي الْجِمَار لَيْلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَرْمِي وَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يَذْكُرهَا مِنْ اللَّيْل حَتَّى يَأْتِي الْغَد فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيهَا وَعَلَيْهِ دَم . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : إِذَا أَخَّرَ الرَّمْي إِلَى اللَّيْل نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا أَهْرَقَ دَمًا .

قُلْت : أَمَّا مَنْ رَمَى مِنْ رِعَاء الْإِبِل أَوْ أَهْل السِّقَايَة بِاللَّيْلِ فَلَا دَم يَجِب , لِلْحَدِيثِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرهمْ فَالنَّظَر يُوجِب الدَّم لَكِنْ مَعَ الْعَمْد , وَاَللَّه أَعْلَم .

التَّاسِعَة : ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى جَمْرَة الْعَقَبَة يَوْم النَّحْر عَلَى رَاحِلَته . وَاسْتَحَبَّ مَالِك وَغَيْره أَنْ يَكُون الَّذِي يَرْمِيهَا رَاكِبًا . وَقَدْ كَانَ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر وَسَالِم يَرْمُونَهَا وَهُمْ مُشَاة , وَيَرْمِي فِي كُلّ يَوْم مِنْ الثَّلَاثَة بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاة , يُكَبِّر مَعَ كُلّ حَصَاة , وَيَكُون وَجْهه فِي حَال رَمْيه إِلَى الْكَعْبَة , وَيُرَتِّب الْجَمَرَات وَيَجْمَعهُنَّ وَلَا يُفَرِّقهُنَّ وَلَا يُنَكِّسهُنَّ , يَبْدَأ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَات رَمْيًا وَلَا يَضَعهَا وَضْعًا , كَذَلِكَ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي , فَإِنْ طَرَحَهَا طَرْحًا جَازَ عِنْد أَصْحَاب الرَّأْي . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَا تُجْزِئ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا , وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْمِيهَا , وَلَا يَرْمِي عِنْدهمْ بِحَصَاتَيْنِ أَوْ أَكْثَر فِي مَرَّة , فَإِنْ فَعَلَ عَدَّهَا حَصَاة وَاحِدَة , فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا تَقَدَّمَ أَمَامهَا فَوَقَفَ طَوِيلًا لِلرِّعَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ . ثُمَّ يَرْمِي الثَّانِيَة وَهِيَ الْوُسْطَى وَيَنْصَرِف عَنْهَا ذَات الشِّمَال فِي بَطْن الْمَسِيل , وَيُطِيل الْوُقُوف عِنْدهَا لِلدُّعَاءِ . ثُمَّ يَرْمِي الثَّالِثَة بِمَوْضِعِ جَمْرَة الْعَقَبَة بِسَبْعِ حَصَيَات أَيْضًا , يَرْمِيهَا مِنْ أَسْفَلهَا وَلَا يَقِف عِنْدهَا , وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقهَا أَجْزَأَهُ , وَيُكَبِّر فِي ذَلِكَ كُلّه مَعَ كُلّ حَصَاة يَرْمِيهَا . وَسُنَّة الذِّكْر فِي رَمْي الْجِمَار التَّكْبِير دُون غَيْره مِنْ الذِّكْر , وَيَرْمِيهَا مَاشِيًا بِخِلَافِ جَمْرَة يَوْم النَّحْر , وَهَذَا كُلّه تَوْقِيف رَفَعَهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَمَى الْجَمْرَة الَّتِي تَلِي الْمَسْجِد - مَسْجِد مِنًى - يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَات , يُكَبِّر كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ , ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو , وَكَانَ يُطِيل الْوُقُوف . ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَة الثَّانِيَة فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَات , يُكَبِّر كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ , ثُمَّ يَنْحَدِر ذَات الْيَسَار مِمَّا يَلِي الْوَادِي فَيَقِف مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة رَافِعًا يَدَيْهِ ثُمَّ يَدْعُو . ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَة الَّتِي عِنْد الْعَقَبَة فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَات , يُكَبِّر كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ثُمَّ يَنْصَرِف وَلَا يَقِف عِنْدهَا . قَالَ الزُّهْرِيّ : سَمِعْت سَالِم بْن عَبْد اللَّه يُحَدِّث بِهَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَكَانَ اِبْن عُمَر يَفْعَلهُ , لَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ .

الْعَاشِرَة : وَحُكْم الْجِمَار أَنْ تَكُون طَاهِرَة غَيْر نَجِسَة , وَلَا مِمَّا رُمِيَ بِهِ , فَإِنْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْد مَالِك , وَقَدْ قَالَ عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم : إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَصَاة وَاحِدَة أَجْزَأَهُ , وَنَزَلَتْ بِابْنِ الْقَاسِم فَأَفْتَاهُ بِهَذَا .

الْحَادِيَة عَشْرَة : وَاسْتَحَبَّ أَهْل الْعِلْم أَخْذهَا مِنْ الْمُزْدَلِفَة لَا مِنْ حَصَى الْمَسْجِد , فَإِنْ أَخَذَ زِيَادَة عَلَى مَا يَحْتَاج وَبَقِيَ ذَلِكَ بِيَدِهِ بَعْد الرَّمْي دَفَنَهُ وَلَمْ يَطْرَحهُ , قَالَهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره .

الثَّانِيَة عَشْرَة : وَلَا تَغْسِل عِنْد الْجُمْهُور خِلَافًا لِطَاوُس , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَغْسِل الْجِمَار النَّجِسَة أَوْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ أَنَّهُ أَسَاءَ وَأَجْزَأَ عَنْهُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يُكْرَه أَنْ يَرْمِي بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ , وَيُجْزِئ إِنْ رَمَى بِهِ , إِذْ لَا أَعْلَم أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْإِعَادَة , وَلَا نَعْلَم فِي شَيْء مِنْ الْأَخْبَار الَّتِي جَاءَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَسَلَ الْحَصَى وَلَا أَمَرَ بِغَسْلِهِ , وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ طَاوُس أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلهُ .

الثَّالِثَة عَشْرَة : وَلَا يُجْزِئ فِي الْجِمَار الْمَدَر وَلَا شَيْء غَيْر الْحَجَر , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : يَجُوز بِالطِّينِ الْيَابِس , وَكَذَلِكَ كُلّ شَيْء رَمَاهَا مِنْ الْأَرْض فَهُوَ يُجْزِئ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : مَنْ رَمَى بِالْخَزَفِ وَالْمَدَر لَمْ يُعِدْ الرَّمْي . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا يُجْزِئ الرَّمْي إِلَّا بِالْحَصَى ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْف " . وَبِالْحَصَى رَمَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الرَّابِعَة عَشْرَة : وَاخْتُلِفَ فِي قَدْر الْحَصَى , فَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَكُون أَصْغَر مِنْ الْأُنْمُلَة طُولًا وَعَرْضًا . وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي : بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْف , وَرُوِّينَا عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَة بِمِثْلِ بَعْر الْغَنَم , وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَالِك : أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ أَحَبّ إِلَيَّ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الرَّمْي بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْف , وَيَجُوز أَنْ يُرْمَى بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اِسْم حَصَاة , وَاتِّبَاع السُّنَّة أَفْضَل , قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر .

قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يَجُوز خِلَافه لِمَنْ اِهْتَدَى وَاقْتَدَى . رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاة الْعَقَبَة وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته : ( هَاتِ اُلْقُطْ لِي - فَلَقَطْت لَهُ حَصَيَات هُنَّ حَصَى الْخَذْف , فَلَمَّا وَضَعْتهنَّ فِي يَده قَالَ - : بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ , وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوّ فِي الدِّين فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ الْغُلُوّ فِي الدِّين ) . فَدَلَّ قَوْله : ( وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوّ فِي الدِّين ) عَلَى كَرَاهَة الرَّمْي بِالْجِمَارِ الْكِبَار , وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغُلُوّ , وَاَللَّه أَعْلَم .

الْخَامِسَة عَشْرَة : وَمَنْ بَقِيَ فِي يَده حَصَاة لَا يَدْرِي مِنْ أَيّ الْجِمَار هِيَ جَعَلَهَا مِنْ الْأُولَى , وَرَمَى بَعْدهَا الْوُسْطَى وَالْآخِرَة , فَإِنْ طَالَ اِسْتَأْنَفَ جَمِيعًا .

السَّادِسَة عَشْرَة : قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَعَبْد الْمَلِك وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي فِيمَنْ قَدَّمَ جَمْرَة عَلَى جَمْرَة : لَا يُجْزِئهُ إِلَّا أَنْ يَرْمِي عَلَى الْوَلَاء . وَقَالَ الْحَسَن , وَعَطَاء وَبَعْض النَّاس : يُجْزِئهُ . وَاحْتَجَّ بَعْض النَّاس بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا بَيْن يَدَيْ نُسُك فَلَا حَرَج وَقَالَ : - لَا يَكُون هَذَا بِأَكْثَر مِنْ رَجُل اِجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ صَلَوَات أَوْ صِيَام فَقَضَى بَعْضًا قَبْل بَعْض ) . وَالْأَوَّل أَحْوَط , وَاَللَّه أَعْلَم .

السَّابِعَة عَشْرَة : وَاخْتَلَفُوا فِي رَمْي الْمَرِيض وَالرَّمْي عَنْهُ , فَقَالَ مَالِك : يُرْمَى عَنْ الْمَرِيض وَالصَّبِيّ اللَّذَيْنِ لَا يُطِيقَانِ الرَّمْي , وَيَتَحَرَّى الْمَرِيض حِين رَمْيهمْ فَيُكَبِّر سَبْع تَكْبِيرَات لِكُلِّ جَمْرَة وَعَلَيْهِ الْهَدْي , وَإِذَا صَحَّ الْمَرِيض فِي أَيَّام الرَّمْي رَمَى عَنْ نَفْسه , وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ دَم عِنْد مَالِك . وَقَالَ الْحَسَن وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي : يُرْمَى عَنْ الْمَرِيض , وَلَمْ يَذْكُرُوا هَدْيًا . وَلَا خِلَاف فِي الصَّبِيّ الَّذِي لَا يَقْدِر عَلَى الرَّمْي أَنَّهُ يُرْمَى عَنْهُ , وَكَانَ اِبْن عُمَر يَفْعَل ذَلِكَ .

الثَّامِنَة عَشْرَة : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ قُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , هَذِهِ الْجِمَار الَّتِي يُرْمَى بِهَا كُلّ عَام فَنَحْسِب أَنَّهَا تَنْقُص , فَقَالَ : ( إِنَّهُ مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا رُفِعَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَيْتهَا أَمْثَال الْجِبَال ) .

التَّاسِعَة عَشْرَة : قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ لِمَنْ أَرَادَ الْخُرُوج مِنْ الْحَاجّ مِنْ مِنًى شَاخِصًا إِلَى بَلَده خَارِجًا عَنْ الْحَرَم غَيْر مُقِيم بِمَكَّة فِي النَّفْر الْأَوَّل أَنْ يَنْفِر بَعْد زَوَال الشَّمْس إِذَا رَمَى فِي الْيَوْم الَّذِي يَلِي يَوْم النَّحْر قَبْل أَنْ يُمْسِي ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ذِكْره قَالَ : " فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " , فَلْيَنْفِرْ مَنْ أَرَادَ النَّفْر مَا دَامَ فِي شَيْء مِنْ النَّهَار . وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ النَّخَعِيّ وَالْحَسَن أَنَّهُمَا قَالَا : مَنْ أَدْرَكَهُ الْعَصْر وَهُوَ بِمِنًى مِنْ الْيَوْم الثَّانِي مِنْ أَيَّام التَّشْرِيق لَمْ يَنْفِر حَتَّى الْغَد . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَا قَالَا ذَلِكَ اِسْتِحْبَابًا , وَالْقَوْل الْأَوَّل بِهِ نَقُول , لِظَاهِرِ الْكِتَاب وَالسُّنَّة .

الْمُوَفِّيَة عِشْرِينَ : وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْل مَكَّة هَلْ يَنْفِرُونَ النَّفْر الْأَوَّل , فَرُوِّينَا عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ شَاءَ مِنْ النَّاس كُلّهمْ أَنْ يَنْفِرُوا فِي النَّفْر الْأَوَّل , إِلَّا آل خُزَيْمَة فَلَا يَنْفِرُونَ إِلَّا فِي النَّفْر الْآخِر . وَكَانَ أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول : لَا يُعْجِبنِي لِمَنْ نَفَرَ النَّفْر الْأَوَّل أَنْ يُقِيم بِمَكَّة , وَقَالَ : أَهْل مَكَّة أَخَفّ , وَجَعَلَ أَحْمَد وَإِسْحَاق مَعْنَى قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب : ( إِلَّا آل خُزَيْمَة ) أَيْ أَنَّهُمْ أَهْل حَرَم . وَكَانَ مَالِك يَقُول فِي أَهْل مَكَّة : مَنْ كَانَ لَهُ عُذْر فَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ , فَإِنْ أَرَادَ التَّخْفِيف عَنْ نَفْسه مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ أَمْر الْحَجّ فَلَا , فَرَأَى التَّعْجِيل لِمَنْ بَعُدَ قُطْره . وَقَالَتْ طَائِفَة : الْآيَة عَلَى الْعُمُوم , وَالرُّخْصَة لِجَمِيعِ النَّاس , أَهْل مَكَّة وَغَيْرهمْ , أَرَادَ الْخَارِج عَنْ مِنًى الْمُقَام بِمَكَّة أَوْ الشُّخُوص إِلَى بَلَده . وَقَالَ عَطَاء : هِيَ لِلنَّاسِ عَامَّة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهُوَ يُشْبِه مَذْهَب الشَّافِعِيّ , وَبِهِ نَقُول . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالنَّخَعِيّ : ( مَنْ نَفَرَ فِي الْيَوْم الثَّانِي مِنْ الْأَيَّام الْمَعْدُودَات فَلَا حَرَج , وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى الثَّالِث فَلَا حَرَج ) , فَمَعْنَى الْآيَة كُلّ ذَلِكَ مُبَاح , وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا التَّقْسِيم اِهْتِمَامًا وَتَأْكِيدًا , إِذْ كَانَ مِنْ الْعَرَب مَنْ يَذُمّ الْمُتَعَجِّل وَبِالْعَكْسِ , فَنَزَلَتْ الْآيَة رَافِعَة لِلْجُنَاحِ فِي كُلّ ذَلِكَ . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ أَيْضًا : ( مَعْنَى مَنْ تَعَجَّلَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ , وَمَنْ تَأَخَّرَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ ) , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْت فَلَمْ يَرْفُث وَلَمْ يَفْسُق خَرَجَ مِنْ خَطَايَاهُ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) . فَقَوْله : " فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " نَفْي عَامّ وَتَبْرِئَة مُطْلَقَة . وَقَالَ مُجَاهِد أَيْضًا : مَعْنَى الْآيَة , مَنْ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِلَى الْعَام الْمُقْبِل . وَأُسْنِدَ فِي هَذَا الْقَوْل أَثَر . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة فِي الْآيَة : لَا إِثْم عَلَيْهِ لِمَنْ اِتَّقَى بَقِيَّة عُمُره , وَالْحَاجّ مَغْفُور لَهُ الْبَتَّة , أَيْ ذَهَبَ إِثْمه كُلّه إِنْ اِتَّقَى اللَّه فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُره . وَقَالَ أَبُو صَالِح وَغَيْره : مَعْنَى الْآيَة لَا إِثْم عَلَيْهِ لِمَنْ اِتَّقَى قَتْل الصَّيْد , وَمَا يَجِب عَلَيْهِ تَجَنُّبه فِي الْحَجّ . وَقَالَ أَيْضًا : لِمَنْ اِتَّقَى فِي حَجّه فَأَتَى بِهِ تَامًّا حَتَّى كَانَ مَبْرُورًا .

الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ : " مَنْ " فِي قَوْله : " فَمَنْ تَعَجَّلَ " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن فَلَا إِثْم عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ مَعْنَى " مَنْ " جَمَاعَة , كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْك " [ يُونُس : 42 ] وَكَذَا " وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " . وَاللَّام مِنْ قَوْله : " لِمَنْ اِتَّقَى " مُتَعَلِّقَة بِالْغُفْرَانِ , التَّقْدِير الْمَغْفِرَة لِمَنْ اِتَّقَى , وَهَذَا عَلَى تَفْسِير اِبْن مَسْعُود وَعَلِيّ . قَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ اِبْن مَسْعُود قَالَ : إِنَّمَا جُعِلَتْ الْمَغْفِرَة لِمَنْ اِتَّقَى بَعْد اِنْصِرَافه مِنْ الْحَجّ عَنْ جَمِيع الْمَعَاصِي . وَقَالَ الْأَخْفَش : التَّقْدِير ذَلِكَ لِمَنْ اِتَّقَى . وَقَالَ بَعْضهمْ : لِمَنْ اِتَّقَى يَعْنِي قَتْل الصَّيْد فِي الْإِحْرَام وَفِي الْحَرَم . وَقِيلَ التَّقْدِير الْإِبَاحَة لِمَنْ اِتَّقَى , رُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن عُمَر . وَقِيلَ : السَّلَامَة لِمَنْ اِتَّقَى . وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِالذِّكْرِ الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى : " وَاذْكُرُوا " أَيْ الذِّكْر لِمَنْ اِتَّقَى . وَقَرَأَ سَالِم بْن عَبْد اللَّه " فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " بِوَصْلِ الْأَلِف تَخْفِيفًا , وَالْعَرَب قَدْ تَسْتَعْمِلهُ . قَالَ الشَّاعِر : إِنْ لَمْ أُقَاتِل فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا ثُمَّ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالتَّقْوَى وَذَكَّرَ بِالْحَشْرِ وَالْوُقُوف .
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِسورة البقرة الآية رقم 204
لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ قَصُرَتْ هِمَّتهمْ عَلَى الدُّنْيَا - فِي قَوْله : " فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُول رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا " [ الْبَقَرَة : 200 ] - وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا خَيْر الدَّارَيْنِ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَان وَأَسَرُّوا الْكُفْر . قَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَس بْن شَرِيق , وَاسْمه أُبَيّ , وَالْأَخْنَس لَقَبٌ لُقِّبَ بِهِ ; لِأَنَّهُ خَنَسَ يَوْم بَدْر بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُل مِنْ حُلَفَائِهِ مِنْ بَنِي زُهْرَة عَنْ قِتَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى مَا يَأْتِي فِي " آل عِمْرَان " بَيَانه . وَكَانَ رَجُلًا حُلْو الْقَوْل وَالْمَنْظَر , فَجَاءَ بَعْد ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَظْهَرَ الْإِسْلَام وَقَالَ : اللَّه يَعْلَم أَنَّى صَادِق , ثُمَّ هَرَبَ بَعْد ذَلِكَ , فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَبِحُمُرٍ فَأَحْرَقَ الزَّرْع وَعَقَرَ الْحُمُر . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَفِيهِ نَزَلَتْ " وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ " [ ن : 10 - 11 ] و " وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ " [ الْهُمَزَة : 1 ] . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : مَا ثَبَتَ قَطُّ أَنَّ الْأَخْنَس أَسْلَمَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ الْمُنَافِقِينَ تَكَلَّمُوا فِي الَّذِينَ قُتِلُوا فِي غَزْوَة الرَّجِيع : عَاصِم بْن ثَابِت , وَخُبَيْب , وَغَيْرهمْ , وَقَالُوا : وَيْح هَؤُلَاءِ الْقَوْم , لَا هُمْ قَعَدُوا فِي بُيُوتهمْ , وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَة صَاحِبهمْ ) , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي صِفَات الْمُنَافِقِينَ , ثُمَّ ذَكَرَ الْمُسْتَشْهِدِينَ فِي غَزْوَة الرَّجِيع فِي قَوْله : " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ " [ الْبَقَرَة : 207 ] . وَقَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : نَزَلَتْ فِي كُلّ مُبْطِن كُفْرًا أَوْ نِفَاقًا أَوْ كَذِبًا أَوْ إِضْرَارًا , وَهُوَ يُظْهِر بِلِسَانِهِ خِلَاف ذَلِكَ , فَهِيَ عَامَّة , وَهِيَ تُشْبِه مَا وَرَدَ فِي التِّرْمِذِيّ أَنَّ فِي بَعْض كُتُب اللَّه تَعَالَى : إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه قَوْمًا أَلْسِنَتهمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَل وَقُلُوبهمْ أَمَرّ مِنْ الصَّبِر , يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُود الضَّأْن مِنْ اللِّين , يَشْتَرُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ , يَقُول اللَّه تَعَالَى : أَبِي يَغْتَرُّونَ , وَعَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ , فَبِي حَلَفْت لِأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَة تَدَع الْحَلِيم مِنْهُمْ حَيْرَانًا . وَمَعْنَى " وَيُشْهِدُ اللَّهَ " أَيْ يَقُول : اللَّه يَعْلَم أَنِّي أَقُول حَقًّا . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن " وَيَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ " بِفَتْحِ الْيَاء وَالْهَاء فِي " يَشْهَد " " اللَّه " بِالرَّفْعِ , وَالْمَعْنَى يُعْجِبك قَوْله , وَاَللَّه يَعْلَم مِنْهُ خِلَاف مَا قَالَ . دَلِيل قَوْله : " وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ " [ الْمُنَافِقُونَ : 1 ] . وَقِرَاءَة اِبْن عَبَّاس : " وَاَللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ " . وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة أَبْلَغ فِي الذَّمّ ; لِأَنَّهُ قَوِيَ عَلَى نَفْسه اِلْتِزَام الْكَلَام الْحَسَن , ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ بَاطِنه خِلَافه . وَقَرَأَ أُبَيّ وَابْن مَسْعُود : " وَيَسْتَشْهِد اللَّه عَلَى مَا فِي قَلْبه " وَهِيَ حُجَّة لِقِرَاءَةِ الْجَمَاعَة .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل وَتَنْبِيه عَلَى الِاحْتِيَاط فِيمَا يَتَعَلَّق بِأُمُورِ الدِّين وَالدُّنْيَا , وَاسْتِبْرَاء أَحْوَال الشُّهُود وَالْقُضَاة , وَأَنَّ الْحَاكِم لَا يَعْمَل عَلَى ظَاهِر أَحْوَال النَّاس وَمَا يَبْدُو مِنْ إِيمَانهمْ وَصَلَاحهمْ حَتَّى يَبْحَث عَنْ بَاطِنهمْ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَحْوَال النَّاس , وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُظْهِر قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي قَبِيحًا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُعَارِضهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) الْحَدِيث , وَقَوْله : ( فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع ) فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام , حَيْثُ كَانَ إِسْلَامهمْ سَلَامَتهمْ , وَأَمَّا وَقَدْ عَمَّ الْفَسَاد فَلَا , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .

قُلْت : وَالصَّحِيح أَنَّ الظَّاهِر يُعْمَل عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّن خِلَافه , لِقَوْلِ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ : أَيّهَا النَّاس , إِنَّ الْوَحْي قَدْ اِنْقَطَعَ , وَإِنَّمَا نَأْخُذكُمْ الْآن بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالكُمْ , فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ , وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيرَته شَيْء , اللَّه يُحَاسِبهُ فِي سَرِيرَته , وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نُؤَمِّنهُ وَلَمْ نُصَدِّقهُ , وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَته حَسَنَة .


الْأَلَدّ : الشَّدِيد الْخُصُومَة , وَهُوَ رَجُل أَلَدّ , وَامْرَأَة لَدَّاء , وَهُمْ أَهْل لَدَد . وَقَدْ لَدِدْت - بِكَسْرِ الدَّال - تَلَدّ - بِالْفَتْحِ - لَدَدًا , أَيْ صِرْت أَلَدّ . وَلَدَدْته - بِفَتْحِ الدَّال - أَلُدّهُ - بِضَمِّهَا - إِذَا جَادَلْته فَغَلَبْته . وَالْأَلَدّ مُشْتَقّ مِنْ اللَّدِيدَيْنِ , وَهُمَا صَفْحَتَا الْعُنُق , أَيْ فِي أَيّ جَانِب أَخَذَ مِنْ الْخُصُومَة غَلَبَ . قَالَ الشَّاعِر : وَأَلَدّ ذِي حَنَق عَلَيَّ كَأَنَّمَا تَغْلِي عَدَاوَة صَدْره فِي مِرْجَل وَقَالَ آخَر : إِنَّ تَحْت التُّرَاب عَزْمًا وَحَزْمًا وَخَصِيمًا أَلَدّ ذَا مِغْلَاق و " الْخِصَام " فِي الْآيَة مَصْدَر خَاصَمَ , قَالَهُ الْخَلِيل . وَقِيلَ : جَمْع خَصْم , قَالَهُ الزَّجَّاج , كَكَلْبٍ وَكِلَاب , وَصَعْب وَصِعَاب , وَضَخْم وَضِخَام . وَالْمَعْنَى أَشَدّ الْمُخَاصِمِينَ خُصُومَة , أَيْ هُوَ ذُو جِدَال , إِذَا كَلَّمَك وَرَاجَعَك رَأَيْت لِكَلَامِهِ طَلَاوَة وَبَاطِنه بَاطِل . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْجِدَال لَا يَجُوز إِلَّا بِمَا ظَاهِره وَبَاطِنه سَوَاء . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَبْغَض الرِّجَال إِلَى اللَّه الْأَلَدّ الْخَصِم ) .
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَسورة البقرة الآية رقم 205
قِيلَ : " تَوَلَّى وَسَعَى " مِنْ فِعْل الْقَلْب , فَيَجِيء " تَوَلَّى " بِمَعْنَى ضَلَّ وَغَضِبَ وَأَنِفَ فِي نَفْسه . و " سَعَى " أَيْ سَعَى بِحِيلَتِهِ وَإِرَادَته الدَّوَائِر عَلَى الْإِسْلَام وَأَهْله , عَنْ اِبْن جُرَيْج وَغَيْره . وَقِيلَ : هُمَا فِعْل الشَّخْص , فَيَجِيء " تَوَلَّى " بِمَعْنَى أَدْبَرَ وَذَهَبَ عَنْك يَا مُحَمَّد . و " سَعَى " أَيْ بِقَدَمَيْهِ فَقَطَعَ الطَّرِيق وَأَفْسَدَهَا , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَكِلَا السَّعْيَيْنِ فَسَاد . يُقَال : سَعَى الرَّجُل يَسْعَى سَعْيًا , أَيْ عَدَا , وَكَذَلِكَ إِذَا عَمِلَ وَكَسَبَ . وَفُلَان يَسْعَى عَلَى عِيَاله أَيْ يَعْمَل فِي نَفْعهمْ .



عَطْف عَلَى لِيُفْسِدَ . وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " وَلِيُهْلِكَ " . وَقَرَأَ الْحَسَن وَقَتَادَة " وَيُهْلِكُ " بِالرَّفْعِ , وَفِي رَفْعه أَقْوَال : يَكُون مَعْطُوفًا عَلَى " يُعْجِبك " . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : هُوَ مَعْطُوف عَلَى " سَعَى " لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَسْعَى وَيُهْلِك , وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق : وَهُوَ يُهْلِك . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن كَثِير " وَيَهْلِكُ " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْكَاف , " الْحَرْث وَالنَّسْل " مَرْفُوعَانِ بِيَهْلِك , وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَأَبِي حَيْوَة وَابْن مُحَيْصِن , وَرَوَاهُ عَبْد الْوَارِث عَنْ أَبِي عَمْرو . وَقَرَأَ قَوْم " وَيَهْلَك " بِفَتْحِ الْيَاء وَاللَّام , وَرَفْع الْحَرْث , لُغَة هَلَكَ يَهْلَك , مِثْل رَكَنَ يَرْكَن , وَأَبَى يَأْبَى , وَسَلَى يَسْلَى , وَقَلَى يَقْلَى , وَشَبَهه . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة الْأَخْنَس فِي إِحْرَاقه الزَّرْع وَقَتْله الْحُمُر , قَالَهُ الطَّبَرِيّ . قَالَ غَيْره : وَلَكِنَّهَا صَارَتْ عَامَّة لِجَمِيعِ النَّاس , فَمَنْ عَمِلَ مِثْل عَمَله اِسْتَوْجَبَ تِلْكَ اللَّعْنَة وَالْعُقُوبَة . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ مَنْ يَقْتُل حِمَارًا أَوْ يُحْرِق كُدْسًا اِسْتَوْجَبَ الْمَلَامَة , وَلَحِقَهُ الشَّيْن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمُرَاد أَنَّ الظَّالِم يُفْسِد فِي الْأَرْض فَيُمْسِك اللَّه الْمَطَر فَيُهْلِك الْحَرْث وَالنَّسْل . وَقِيلَ : الْحَرْث النِّسَاء , وَالنَّسْل الْأَوْلَاد , وَهَذَا لِأَنَّ النِّفَاق يُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيق الْكَلِمَة وَوُقُوع الْقِتَال , وَفِيهِ هَلَاك الْخَلْق , قَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاج . وَالسَّعْي فِي الْأَرْض الْمَشْي بِسُرْعَةٍ , وَهَذِهِ عِبَارَة عَنْ إِيقَاع الْفِتْنَة وَالتَّضْرِيب بَيْن النَّاس , وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي الْحَدِيث : ( إِنَّ النَّاس إِذَا رَأَوْا الظَّالِم وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْ عِنْده ) . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


الْحَرْث فِي اللُّغَة : الشَّقّ , وَمِنْهُ الْمِحْرَاث لِمَا يُشَقّ بِهِ الْأَرْض . وَالْحَرْث : كَسْب الْمَال وَجَمْعه , وَفَى الْحَدِيث : ( اُحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيش أَبَدًا ) . وَالْحَرْث الزَّرْع . وَالْحَرَّاث الزَّرَّاع . وَقَدْ حَرَثَ وَاحْتَرَثَ , مِثْل زَرَعَ وَازْدَرَعَ وَيُقَال : اُحْرُثْ الْقُرْآن , أَيْ اُدْرُسْهُ . وَحَرَثْت النَّاقَة وَأَحْرَثْتُهَا , أَيْ سِرْت عَلَيْهَا حَتَّى هَزَلَتْ وَحَرَثْت النَّار حَرَّكْتهَا . وَالْمِحْرَاث : مَا يُحَرَّك بِهِ نَار التَّنُّور , عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَالنَّسْل : مَا خَرَجَ مِنْ كُلّ أُنْثَى مِنْ وَلَد . وَأَصْله الْخُرُوج وَالسُّقُوط , وَمِنْهُ نَسْل الشَّعْر , وَرِيش الطَّائِر , وَالْمُسْتَقْبَل يَنْسِل , وَمِنْهُ " إِلَى رَبّهمْ يَنْسِلُونَ " [ يس : 51 ] , " مِنْ كُلّ حَدَب يَنْسِلُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 96 ] وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابك تَنْسُلِ قُلْت : وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى الْحَرْث وَزِرَاعَة الْأَرْض , وَغَرْسهَا بِالْأَشْجَارِ حَمْلًا عَلَى الزَّرْع , وَطَلَب النَّسْل , وَهُوَ نَمَاء الْحَيَوَان , وَبِذَلِكَ يَتِمّ قِوَام الْإِنْسَان . وَهُوَ يَرُدّ عَلَى مَنْ قَالَ بِتَرْكِ الْأَسْبَاب , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي هَذَا الْكِتَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


قَالَ الْعَبَّاس بْن الْفَضْل : الْفَسَاد هُوَ الْخَرَاب . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : قَطْع الدَّرَاهِم مِنْ الْفَسَاد فِي الْأَرْض . وَقَالَ عَطَاء : إِنَّ رَجُلًا يُقَال لَهُ عَطَاء بْن مُنَبِّه أَحْرَمَ فِي جُبَّة فَأَمَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِعهَا . قَالَ قَتَادَة : قُلْت لِعَطَاءٍ : إِنَّا كُنَّا نَسْمَع أَنْ يَشُقّهَا , فَقَالَ عَطَاء : إِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْفَسَاد . قُلْت : وَالْآيَة بِعُمُومِهَا تَعُمّ كُلّ فَسَاد كَانَ فِي أَرْض أَوْ مَال أَوْ دِين , وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قِيلَ : مَعْنَى لَا يُحِبّ الْفَسَاد أَيْ لَا يُحِبّهُ مِنْ أَهْل الصَّلَاح , أَوْ لَا يُحِبّهُ دِينًا . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى لَا يَأْمُر بِهِ , وَاَللَّه أَعْلَم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُسورة البقرة الآية رقم 206
هَذِهِ صِفَة الْكَافِر وَالْمُنَافِق الذَّاهِب بِنَفْسِهِ زَهْوًا , وَيُكْرَه لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُوقِعهُ الْحَرَج فِي بَعْض هَذَا . وَقَالَ عَبْد اللَّه : كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَقُول لَهُ أَخُوهُ : اِتَّقِ اللَّه , فَيَقُول : عَلَيْك بِنَفْسِك , مِثْلك يُوصِينِي ! وَالْعِزَّة : الْقُوَّة وَالْغَلَبَة , مِنْ عَزَّهُ يَعُزّهُ إِذَا غَلَبَهُ . وَمِنْهُ : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] وَقِيلَ : الْعِزَّة هُنَا الْحَمِيَّة , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : أَخَذَتْهُ عِزَّة مِنْ جَهْله فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فَعَلَ الضَّجَر وَقِيلَ : الْعِزَّة هُنَا الْمَنَعَة وَشِدَّة النَّفْس , أَيْ اِعْتَزَّ فِي نَفْسه وَانْتَحَى فَأَوْقَعَتْهُ تِلْكَ الْعِزَّة فِي الْإِثْم حِين أَخَذَتْهُ وَأَلْزَمَتْهُ إِيَّاهُ . وَقَالَ قَتَادَة : الْمَعْنَى إِذَا قِيلَ لَهُ مَهْلًا اِزْدَادَ إِقْدَامًا عَلَى الْمَعْصِيَة , وَالْمَعْنَى حَمَلَتْهُ الْعِزَّة عَلَى الْإِثْم . وَقِيلَ : أَخَذَتْهُ الْعِزَّة بِمَا يُؤْثِمهُ , أَيْ اِرْتَكَبَ الْكُفْر لِلْعِزَّةِ وَحَمِيَّة الْجَاهِلِيَّة . وَنَظِيره : " بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّة وَشِقَاق " [ ص : 2 ] وَقِيلَ : الْبَاء فِي " بِالْإِثْمِ " بِمَعْنَى اللَّام , أَيْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة وَالْحَمِيَّة عَنْ قَبُول الْوَعْظ لِلْإِثْمِ الَّذِي فِي قَلْبه , وَهُوَ النِّفَاق , وَمِنْهُ قَوْل عَنْتَرَة يَصِف عَرَق النَّاقَة : وَكَأَنَّ رُبًّا أَوْ كُحَيْلًا مُعْقَدًا حَشَّ الْوُقُود بِهِ جَوَانِب قُمْقِمُ أَيْ حَشَّ الْوُقُود لَهُ وَقِيلَ : الْبَاء بِمَعْنَى مَعَ , أَيْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة مَعَ الْإِثْم , فَمَعْنَى الْبَاء يَخْتَلِف بِحَسَبِ التَّأْوِيلَات . وَذُكِرَ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَتْ لَهُ حَاجَة عِنْد هَارُون الرَّشِيد , فَاخْتَلَفَ إِلَى بَابه سَنَة , فَلَمْ يَقْضِ حَاجَته , فَوَقَفَ يَوْمًا عَلَى الْبَاب , فَلَمَّا خَرَجَ هَارُون سَعَى حَتَّى وَقَفَ بَيْن يَدَيْهِ وَقَالَ : اِتَّقِ اللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ! فَنَزَلَ هَارُون عَنْ دَابَّته وَخَرَّ سَاجِدًا , فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسه أَمَرَ بِحَاجَتِهِ فَقُضِيَتْ , فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , نَزَلْت عَنْ دَابَّتك لِقَوْلِ يَهُودِيّ ! قَالَ : لَا , وَلَكِنْ تَذَكَّرْت قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد " . حَسْبه أَيْ كَافِيه مُعَاقَبَة وَجَزَاء , كَمَا تَقُول لِلرَّجُلِ : كَفَاك مَا حَلَّ بِك ! وَأَنْتَ تَسْتَعْظِم وَتُعَظِّم عَلَيْهِ مَا حَلَّ . وَالْمِهَاد جَمْع الْمَهْد , وَهُوَ الْمَوْضِع الْمُهَيَّأ لِلنَّوْمِ , وَمِنْهُ مَهْد الصَّبِيّ . وَسَمَّى جَهَنَّم مِهَادًا لِأَنَّهَا مُسْتَقَرّ الْكُفَّار . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا بَدَل لَهُمْ مِنْ الْمِهَاد , كَقَوْلِهِ : " فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم " [ آل عِمْرَان : 21 ] وَنَظِيره مِنْ الْكَلَام قَوْلهمْ : تَحِيَّة بَيْنهمْ ضَرْب وَجِيع
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِسورة البقرة الآية رقم 207
وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّه " " اِبْتِغَاء " نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله . وَلَمَّا ذَكَرَ صَنِيع الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ بَعْده صَنِيع الْمُؤْمِنِينَ . قِيلَ : نَزَلَتْ فِي صُهَيْب فَإِنَّهُ أَقْبَلَ مُهَاجِرًا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعَهُ نَفَر مِنْ قُرَيْش , فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَته , وَانْتَثَلَ مَا فِي كِنَانَته , وَأَخَذَ قَوْسه , وَقَالَ : لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ , وَايْم اللَّه لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِي بِمَا فِي كِنَانَتِي , ثُمَّ أَضْرِب بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدَيَّ مِنْهُ شَيْء , ثُمَّ اِفْعَلُوا مَا شِئْتُمْ . فَقَالُوا : لَا نَتْرُكك تَذْهَب عَنَّا غَنِيًّا وَقَدْ جِئْتنَا صُعْلُوكًا , وَلَكِنْ دُلَّنَا عَلَى مَالِك بِمَكَّة وَنُخَلِّي عَنْك , وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَفَعَلَ , فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتْ : " وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ " الْآيَة , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَبِحَ الْبَيْع أَبَا يَحْيَى ) , وَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَة , أَخْرَجَهُ رَزِين , وَقَالَهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ صُهَيْبًا فَعَذَّبُوهُ , فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْب : إِنِّي شَيْخ كَبِير , لَا يَضُرّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْت أَمْ مِنْ غَيْركُمْ , فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي وَتَذَرُونِي وَدِينِي ؟ فَفَعَلُوا ذَلِكَ , وَكَانَ شُرِطَ عَلَيْهِ رَاحِلَة وَنَفَقَة , فَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَة فَتَلَقَّاهُ أَبُو بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَرِجَال , فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر : رَبِحَ بَيْعك أَبَا يَحْيَى . فَقَالَ لَهُ صُهَيْب : وَبَيْعك فَلَا يَخْسَر , فَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالَ : أَنْزَلَ اللَّه فِيك كَذَا , وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَة . وَقَالَ الْحَسَن : أَتَدْرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِم لَقِيَ الْكَافِر فَقَالَ لَهُ : قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , فَإِذَا قُلْتهَا عَصَمْت مَالَك وَنَفْسك , فَأَبَى أَنْ يَقُولهَا , فَقَالَ الْمُسْلِم : وَاَللَّه لَأَشْرِيَن نَفْسِي لِلَّهِ , فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِيمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَر , وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَهَا عُمَر وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , قَالَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس : ( اِقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ , أَيْ قَالَ الْمُغَيِّر لِلْمُفْسِدِ : اِتَّقِ اللَّه , فَأَبَى الْمُفْسِد وَأَخَذَتْهُ الْعِزَّة , فَشَرَى الْمُغَيِّر نَفْسه مِنْ اللَّه وَقَاتَلَهُ فَاقْتَتَلَا ) . وَقَالَ أَبُو الْخَلِيل : سَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب إِنْسَانًا يَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ عُمَر : ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ , قَامَ رَجُل يَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَر فَقُتِلَ ) . وَقِيلَ : إِنَّ عُمَر سَمِعَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : ( اِقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ عِنْد قِرَاءَة الْقَارِئ هَذِهِ الْآيَة ) , فَسَأَلَ عَمَّا قَالَ فَفُسِّرَ لَهُ هَذَا التَّفْسِير , فَقَالَ لَهُ عُمَر , ( لِلَّهِ تِلَادك يَا اِبْن عَبَّاس ) ! وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِيمَنْ يَقْتَحِم الْقِتَال . حَمَلَ هِشَام بْن عَامِر عَلَى الصَّفّ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ , فَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَة : "وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ " , وَمِثْله عَنْ أَبِي أَيُّوب . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي شُهَدَاء غَزْوَة الرَّجِيع . وَقَالَ قَتَادَة : هُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين تَرَكَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِرَاشه لَيْلَة خَرَجَ إِلَى الْغَار , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : الْآيَة عَامَّة , تَتَنَاوَل كُلّ مُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه , أَوْ مُسْتَشْهِد فِي ذَاته أَوْ مُغَيِّرِ مُنْكَرٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْم مَنْ حَمَلَ عَلَى الصَّفّ , وَيَأْتِي ذِكْر الْمُغَيِّر لِلْمُنْكَرِ وَشُرُوطه وَأَحْكَامه فِي " آل عِمْرَان " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . و " يَشْرِي " مَعْنَاهُ يَبِيع , وَمِنْهُ " وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ " [ يُوسُف : 20 ] أَيْ بَاعُوهُ , وَأَصْله الِاسْتِبْدَال , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ اللَّهَ اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ " [ التَّوْبَة : 111 ] . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : وَإِنْ كَانَ رَيْب الدَّهْر أَمْضَاك فِي الْأُلَى شَرَوْا هَذِهِ الدُّنْيَا بِجَنَّاتِهِ الْخُلْد وَقَالَ آخَر : وَشَرَيْت بُرْدًا لَيْتَنِي مِنْ بَعْد بُرْد كُنْت هَامه الْبُرْد هُنَا اِسْم غُلَام . وَقَالَ آخَر : يُعْطَى بِهَا ثَمَنًا فَيَمْنَعهَا وَيَقُول صَاحِبهَا أَلَا فَأَشْرِ وَبَيْع النَّفْس هُنَا هُوَ بَذْلهَا لِأَوَامِر اللَّه . " اِبْتِغَاء " مَفْعُول مِنْ أَجْله . وَوَقَفَ الْكِسَائِيّ عَلَى " مَرْضَات " بِالتَّاءِ , وَالْبَاقُونَ بِالْهَاءِ . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَقَفَ الْكِسَائِيّ بِالتَّاءِ إِمَّا عَلَى لُغَة مَنْ يَقُول : طَلْحَت وَعَلْقَمَت , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : بَلْ جَوْزِتَيْهَاء كَظَهْرِ الْحَجَفَت وَإِمَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي ضِمْن اللَّفْظَة وَلَا بُدّ أَثْبَتَ التَّاء كَمَا ثَبَتَتْ فِي الْوَصْل لِيُعْلَم أَنَّ الْمُضَاف إِلَيْهِ مُرَاد . وَالْمَرْضَاة الرِّضَا , يُقَال : رَضِيَ يَرْضَى رِضًا وَمَرْضَاة . وَحَكَى قَوْم أَنَّهُ يُقَال : شَرَى بِمَعْنَى اِشْتَرَى , وَيَحْتَاج إِلَى هَذَا مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَة فِي صُهَيْب , لِأَنَّهُ اِشْتَرَى نَفْسه بِمَالِهِ وَلَمْ يَبِعْهَا , اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَال : إِنَّ عَرْض صُهَيْب عَلَى قِتَالهمْ بَيْع لِنَفْسِهِ مِنْ اللَّه . فَيَسْتَقِيم اللَّفْظ عَلَى مَعْنَى بَاعَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌسورة البقرة الآية رقم 208
لَمَّا بَيَّنَ اللَّه سُبْحَانه النَّاس إِلَى مُؤْمِن وَكَافِر وَمُنَافِق فَقَالَ : كُونُوا عَلَى مِلَّة وَاحِدَة , وَاجْتَمِعُوا عَلَى الْإِسْلَام وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ . فَالسِّلْم هُنَا بِمَعْنَى الْإِسْلَام , قَالَهُ مُجَاهِد , وَرَوَاهُ أَبُو مَالِك عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر الْكِنْدِيّ : دَعَوْت عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا رَأَيْتهمْ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَا أَيْ إِلَى الْإِسْلَام لَمَّا اِرْتَدَّتْ كِنْدَة بَعْد وَفَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْأَشْعَث بْن قَيْس الْكِنْدِيّ , وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا قَطُّ بِالدُّخُولِ فِي الْمُسَالَمَة الَّتِي هِيَ الصُّلْح , وَإِنَّمَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْنَح لِلسِّلْمِ إِذَا جَنَحُوا لَهُ , وَأَمَّا أَنْ يَبْتَدِئ بِهَا فَلَا , قَالَهُ الطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : أَمَرَ مَنْ آمَنَ بِأَفْوَاهِهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بِقُلُوبِهِمْ . وَقَالَ طَاوُس وَمُجَاهِد : اُدْخُلُوا فِي أَمْر الدِّين . سُفْيَان الثَّوْرِيّ : فِي أَنْوَاع الْبِرّ كُلّهَا . وَقُرِئَ " السِّلْم " بِكَسْرِ السِّين . قَالَ الْكِسَائِيّ : السِّلْم وَالسَّلْم بِمَعْنًى وَاحِد , وَكَذَا هُوَ عِنْد أَكْثَر الْبَصْرِيِّينَ , وَهُمَا جَمِيعًا يَقَعَانِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسَالَمَة . وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء بَيْنهمَا , فَقَرَأَهَا هُنَا : " اُدْخُلُوا فِي السِّلْم " وَقَالَ هُوَ الْإِسْلَام . وَقَرَأَ الَّتِي فِي " الْأَنْفَال " وَاَلَّتِي فِي سُورَة " مُحَمَّد " صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " السَّلْم " بِفَتْحِ السِّين , وَقَالَ : هِيَ بِالْفَتْحِ الْمُسَالَمَة . وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّد هَذِهِ التَّفْرِقَة . وَقَالَ عَاصِم الْجَحْدَرِيّ : السِّلْم الْإِسْلَام , وَالسَّلْم الصُّلْح , وَالسَّلَم الِاسْتِسْلَام . وَأَنْكَرَ مُحَمَّد بْن يَزِيد هَذِهِ التَّفْرِيقَات وَقَالَ : اللُّغَة لَا تُؤْخَذ هَكَذَا , وَإِنَّمَا تُؤْخَذ بِالسَّمَاعِ لَا بِالْقِيَاسِ , وَيَحْتَاج مَنْ فَرَّقَ إِلَى دَلِيل . وَقَدْ حَكَى الْبَصْرِيُّونَ : بَنُو فُلَان سِلْمٌ وَسَلْم وَسَلَم , بِمَعْنًى وَاحِد . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالسِّلْم الصُّلْح , يُفْتَح وَيُكْسَر , وَيُذَكَّر وَيُؤَنَّث , وَأَصْله مِنْ الِاسْتِسْلَام وَالِانْقِيَاد , وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلصُّلْحِ : سِلْم . قَالَ زُهَيْر : وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نَدْرِك السِّلْم وَاسِعًا بِمَالٍ وَمَعْرُوف مِنْ الْأَمْر نَسْلَم وَرَجَّحَ الطَّبَرِيّ حَمْل اللَّفْظَة عَلَى مَعْنَى الْإِسْلَام بِمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان فِي هَذِهِ الْآيَة : الْإِسْلَام ثَمَانِيَة أَسْهُم , الصَّلَاة سَهْم , وَالزَّكَاة سَهْم , وَالصَّوْم سَهْم , وَالْحَجّ سَهْم , وَالْعُمْرَة سَهْم , وَالْجِهَاد سَهْم , وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ سَهْم , وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر سَهْم , وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْم لَهُ فِي الْإِسْلَام . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( نَزَلَتْ الْآيَة فِي أَهْل الْكِتَاب , وَالْمَعْنَى , يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَام بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافَّة ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ثُمَّ يَمُوت وَلَمْ يُؤْمِن بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّار ) . /و ( كَافَّة ) مَعْنَاهُ جَمِيعًا , فَهُوَ نَصْب عَلَى الْحَال مِنْ السَّلْم أَوْ مِنْ ضَمِير الْمُؤْمِنِينَ , وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ قَوْلهمْ : كَفَفْت أَيْ مَنَعْت , أَيْ لَا يَمْتَنِع مِنْكُمْ أَحَد مِنْ الدُّخُول فِي الْإِسْلَام . وَالْكَفّ الْمَنْع , وَمِنْهُ كُفَّة الْقَمِيص - بِالضَّمِّ - لِأَنَّهَا تَمْنَع الثَّوْب مِنْ الِانْتِشَار , وَمِنْهُ كِفَّة الْمِيزَان - بِالْكَسْرِ - الَّتِي تَجْمَع الْمَوْزُون وَتَمْنَعهُ أَنْ يَنْتَشِر , وَمِنْهُ كَفّ الْإِنْسَان الَّذِي يَجْمَع مَنَافِعه وَمَضَارّه , وَكُلّ مُسْتَدِير كِفَّة , وَكُلّ مُسْتَطِيل كَفَّة . وَرَجُل مَكْفُوف الْبَصَر , أَيْ مُنِعَ عَنْ النَّظَر , فَالْجَمَاعَة تُسَمَّى كَافَّة لِامْتِنَاعِهِمْ عَنْ التَّفَرُّق .


" وَلَا تَتَّبِعُوا " نَهْي . " خُطُوَات الشَّيْطَان " مَفْعُول , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ مُقَاتِل : اِسْتَأْذَنَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام وَأَصْحَابه بِأَنْ يَقْرَءُوا التَّوْرَاة فِي الصَّلَاة , وَأَنْ يَعْمَلُوا بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاة , فَنَزَلَتْ : " وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ " فَإِنَّ اِتِّبَاع السُّنَّة أَوْلَى بَعْد مَا بُعِثَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُطُوَات الشَّيْطَان . وَقِيلَ : لَا تَسْلُكُوا الطَّرِيق الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الشَّيْطَان .


ظَاهِر الْعَدَاوَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ .
فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌسورة البقرة الآية رقم 209
أَيْ تَنَحَّيْتُمْ عَنْ طَرِيق الِاسْتِقَامَة . وَأَصْل الزَّلَل فِي الْقَدَم , ثُمَّ يُسْتَعْمَل فِي الِاعْتِقَادَات وَالْآرَاء وَغَيْر ذَلِكَ , يُقَال : زَلَّ يَزِلّ زَلًّا وَزَلَلًا وَزُلُولًا , أَيْ دَحَضَتْ قَدَمه . وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال الْعَدَوِيّ " زَلِلْتُمْ " بِكَسْرِ اللَّام , وَهُمَا لُغَتَانِ . وَأَصْل الْحَرْف مِنْ الزَّلَق , وَالْمَعْنَى ضَلَلْتُمْ وَعِجْتُمْ عَنْ الْحَقّ .


أَيْ الْمُعْجِزَات وَآيَات الْقُرْآن , إِنْ كَانَ الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ , فَإِنْ كَانَ الْخِطَاب لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَالْبَيِّنَات مَا وَرَدَ فِي شَرْعهمْ مِنْ الْإِعْلَام بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّعْرِيف بِهِ . وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ عُقُوبَة الْعَالِم بِالذَّنْبِ أَعْظَم مِنْ عُقُوبَة الْجَاهِل بِهِ , وَمَنْ لَمْ تَبْلُغهُ دَعْوَة الْإِسْلَام لَا يَكُون كَافِرًا بِتَرْكِ الشَّرَائِع . وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ كَعْب الْأَحْبَار لَمَّا أَسْلَمَ كَانَ يَتَعَلَّم الْقُرْآن , فَأَقْرَأَهُ الَّذِي كَانَ يَعْلَمهُ " فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم " فَقَالَ كَعْب : إِنِّي لَأَسْتَنْكِر أَنْ يَكُون هَكَذَا , وَمَرَّ بِهِمَا رَجُل فَقَالَ كَعْب : كَيْف تَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة ؟ فَقَالَ الرَّجُل : " فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه عَزِيز حَكِيم " فَقَالَ كَعْب : هَكَذَا يَنْبَغِي .


لَا يَمْتَنِع عَلَيْهِ مَا يُرِيدهُ .


فِيمَا يَفْعَلهُ .
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُسورة البقرة الآية رقم 210
يَعْنِي التَّارِكِينَ الدُّخُول فِي السِّلْم , و " هَلْ " يُرَاد بِهِ هُنَا الْجَحْد , أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ .


نَظَرْته وَانْتَظَرْته بِمَعْنًى . وَالنَّظَر الِانْتِظَار . وَقَرَأَ قَتَادَة وَأَبُو جَعْفَر يَزِيد بْن الْقَعْقَاع وَالضَّحَّاك " فِي ظِلَالٍ مِنْ الْغَمَامِ " . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " وَالْمَلَائِكَةِ " بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْغَمَام , وَتَقْدِيره مَعَ الْمَلَائِكَة , تَقُول الْعَرَب : أَقْبَلَ الْأَمِير فِي الْعَسْكَر , أَيْ مَعَ الْعَسْكَر . " ظُلَل " جَمْع ظُلَّة فِي التَّكْسِير , كَظُلْمَةٍ وَظُلَم وَفِي التَّسْلِيم ظُلُلَات , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : إِذَا الْوَحْش ضَمَّ الْوَحْش فِي ظُلُلَاتِهَا سَوَاقِط مِنْ حَرّ وَقَدْ كَانَ أَظْهَرَا وَظُلَّات وَظِلَال , جَمْع ظِلّ فِي الْكَثِير , وَالْقَلِيل أَظْلَال . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ظِلَال جَمْع ظُلَّة , مِثْل قَوْله : قُلَّة وَقِلَال , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : مَمْزُوجَة بِمَاءِ الْقِلَال قَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : و " الْمَلَائِكَةِ " بِالْخَفْضِ بِمَعْنًى وَفِي الْمَلَائِكَة . قَالَ : وَالرَّفْع أَجْوَد , كَمَا قَالَ : " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَة " [ الْأَنْعَام : 158 ] , " وَجَاءَ رَبّك وَالْمَلَك صَفًّا صَفًّا " [ الْفَجْر : 22 ] . قَالَ الْفَرَّاء : وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه : " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّه وَالْمَلَائِكَة فِي ظُلَل مِنْ الْغَمَام " . قَالَ قَتَادَة : الْمَلَائِكَة يَعْنِي تَأْتِيهِمْ لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ , وَيُقَال يَوْم الْقِيَامَة , وَهُوَ أَظْهَر . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع : تَأْتِيهِمْ الْمَلَائِكَة فِي ظُلَل مِنْ الْغَمَام , وَيَأْتِيهِمْ اللَّه فِيمَا شَاءَ . وَقَالَ الزَّجَّاج : التَّقْدِير فِي ظُلَل مِنْ الْغَمَام وَمِنْ الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ : لَيْسَ الْكَلَام عَلَى ظَاهِره فِي حَقّه سُبْحَانه , وَإِنَّمَا الْمَعْنَى يَأْتِيهِمْ أَمْر اللَّه وَحُكْمه . وَقِيلَ : أَيْ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنْ الْحِسَاب وَالْعَذَاب فِي ظُلَل , مِثْل : " فَأَتَاهُمْ اللَّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا " [ الْحَشْر : 2 ] أَيْ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ , هَذَا قَوْل الزَّجَّاج , وَالْأَوَّل قَوْل الْأَخْفَش سَعِيد . وَقَدْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَعْنَى الْإِتْيَان رَاجِعًا إِلَى الْجَزَاء , فَسَمَّى الْجَزَاء إِتْيَانًا كَمَا سَمَّى التَّخْوِيف وَالتَّعْذِيب فِي قِصَّة نُمْرُوذ إِتْيَانًا فَقَالَ : " فَأَتَى اللَّه بُنْيَانهمْ مِنْ الْقَوَاعِد فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْف مِنْ فَوْقهمْ " [ النَّحْل : 26 ] . وَقَالَ فِي قِصَّة النَّضِير : " فَأَتَاهُمْ اللَّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب " , وَقَالَ : " وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا " [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] . وَإِنَّمَا اِحْتَمَلَ الْإِتْيَان هَذِهِ الْمَعَانِي لِأَنَّ أَصْل الْإِتْيَان عِنْد أَهْل اللُّغَة هُوَ الْقَصْد إِلَى الشَّيْء , فَمَعْنَى الْآيَة : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يُظْهِر اللَّه تَعَالَى فِعْلًا مِنْ الْأَفْعَال مَعَ خَلْق مِنْ خَلْقه يَقْصِد إِلَى مُجَازَاتهمْ وَيَقْضِي فِي أَمْرهمْ مَا هُوَ قَاضٍ , وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانه أَحْدَثَ فِعْلًا سَمَّاهُ نُزُولًا وَاسْتِوَاء كَذَلِكَ يُحْدِث فِعْلًا يُسَمِّيه إِتْيَانًا , وَأَفْعَال بِلَا آلَة وَلَا عِلَّة , سُبْحَانه ! وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح : هَذَا مِنْ الْمَكْتُوم الَّذِي لَا يُفَسَّر . وَقَدْ سَكَتَ بَعْضهمْ عَنْ تَأْوِيلهَا , وَتَأَوَّلَهَا بَعْضهمْ كَمَا ذَكَرْنَا . وَقِيلَ : الْفَاء بِمَعْنَى الْبَاء , أَيْ يَأْتِيهِمْ بِظُلَلٍ , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( يَأْتِيهِمْ اللَّه فِي صُورَة ) أَيْ بِصُورَةٍ اِمْتِحَانًا لَهُمْ وَلَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآن وَالْخَبَر عَلَى وَجْه الِانْتِقَال وَالْحَرَكَة وَالزَّوَال ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَات الْأَجْرَام وَالْأَجْسَام , تَعَالَى اللَّه الْكَبِير الْمُتَعَال , ذُو الْجَلَال وَالْإِكْرَام عَنْ مُمَاثَلَة الْأَجْسَام عُلُوًّا كَبِيرًا . وَالْغَمَام : السَّحَاب الرَّقِيق الْأَبْيَض , سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَغُمّ , أَيْ يَسْتُر , كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ مُعَاذ بْن جَبَل : " وَقَضَاء الْأَمْر " . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمَر " وَقُضِيَ الْأُمُور " بِالْجَمْعِ . وَالْجُمْهُور " وَقُضِيَ الْأَمْر " فَالْمَعْنَى وَقَعَ الْجَزَاء وَعُذِّبَ أَهْل الْعِصْيَان . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تَرْجِع الْأُمُور " عَلَى بِنَاء الْفِعْل لِلْفَاعِلِ , وَهُوَ الْأَصْل , دَلِيله " أَلَا إِلَى اللَّه تَصِير الْأُمُور " [ الشُّورَى : 53 ] , " إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ " [ الْمَائِدَة : 48 و 105 ] . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " تُرْجَع " عَلَى بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ , وَهِيَ أَيْضًا قِرَاءَة حَسَنَة , دَلِيله " ثُمَّ تُرَدُّونَ " [ التَّوْبَة : 94 ] " ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّه " [ الْأَنْعَام : 62 ] , " وَلَئِنْ رُدِدْت إِلَى رَبِّي " [ الْكَهْف : 36 ] . وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ بِمَعْنًى , وَالْأَصْل الْأَوْلَى , وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ تَوَسُّع وَفَرْع , وَالْأُمُور كُلّهَا رَاجِعَة إِلَى اللَّه قَبْل وَبَعْد . وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي يَوْم الْقِيَامَة عَلَى زَوَال مَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الْمُلُوك فِي الدُّنْيَا .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10