الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَسورة البقرة الآية رقم 61
" مَا " نَصْب بِإِنَّ , وَقَرَأَ اِبْن وَثَّاب وَالنَّخَعِيّ " سَأَلْتُمْ " بِكَسْرِ السِّين , يُقَال : سَأَلْت وَسَلْت بِغَيْرِ هَمْز . وَهُوَ مِنْ ذَوَات الْوَاو , بِدَلِيلِ قَوْلهمْ : يَتَسَاوَلَان .


أَيْ اِنْقَلَبُوا وَرَجَعُوا , أَيْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ . وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي دُعَائِهِ وَمُنَاجَاته : ( أَبُوء بِنِعْمَتِك عَلَيَّ ) أَيْ أُقِرّ بِهَا وَأُلْزِمهَا نَفْسِي . وَأَصْله فِي اللُّغَة الرُّجُوع , يُقَال بَاءَ بِكَذَا , أَيْ رَجَعَ بِهِ , وَبَاءَ إِلَى الْمَبَاءَة وَهِيَ الْمَنْزِل أَيْ رَجَعَ . وَالْبَوَاء : الرُّجُوع بِالْقَوَدِ . وَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْر بَوَاء , أَيْ سَوَاء , يَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى مَعْنَى وَاحِد . وَقَالَ الشَّاعِر : أَلَا تَنْتَهِي عَنَّا مُلُوك وَتَتَّقِي مَحَارِمنَا لَا يَبُوء الدَّم بِالدَّمِ أَيْ لَا يَرْجِع الدَّم بِالدَّمِ فِي الْقَوَد . وَقَالَ : فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا أَيْ رَجَعُوا وَرَجَعْنَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْغَضَب فِي الْفَاتِحَة .


ذَلِكَ تَعْلِيل .


أَيْ يَكْذِبُونَ


أَيْ بِكِتَابِهِ وَمُعْجِزَات أَنْبِيَائِهِ , كَعِيسَى وَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّد عَلَيْهِمْ السَّلَام .


مَعْطُوف عَلَى " يَكْفُرُونَ " وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن " يَقْتُلُونَ " وَعَنْهُ أَيْضًا كَالْجَمَاعَةِ . وَقَرَأَ نَافِع " النَّبِيئِينَ " بِالْهَمْزِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي سُورَة الْأَحْزَاب : " إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ " [ الْأَحْزَاب . 50 ] . وَ " لَا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ إِلَّا " [ الْأَحْزَاب : 53 ] فَإِنَّهُ قَرَأَ بِلَا مَدّ وَلَا هَمْز . وَإِنَّمَا تُرِكَ هَمْز هَذَيْنِ لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ . وَتَرَكَ الْهَمْزَ فِي جَمِيع ذَلِكَ الْبَاقُونَ . فَأَمَّا مَنْ هَمَزَ فَهُوَ عِنْده مِنْ أَنْبَأَ إِذَا أَخْبَرَ , وَاسْم فَاعِله مُنْبِئ . وَيُجْمَع نَبِيء أَنْبِيَاء , وَقَدْ جَاءَ فِي جَمْع نَبِيّ نُبَآء , قَالَ الْعَبَّاس ابْن مِرْدَاس السُّلَمِيّ يَمْدَح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا خَاتَم النُّبَآء إِنَّك مُرْسَل بِالْحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا هَذَا مَعْنَى قِرَاءَة الْهَمْز . وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَرْكِ الْهَمْز , فَمِنْهُمْ مَنْ اِشْتَقَّ اِشْتِقَاق مَنْ هَمَزَ , ثُمَّ سَهَّلَ الْهَمْز . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مُشْتَقّ مِنْ نَبَا يَنْبُو إِذَا ظَهَرَ . فَالنَّبِيّ مِنْ النُّبُوَّة وَهُوَ الِارْتِفَاع , فَمَنْزِلَة النَّبِيّ رَفِيعَة . وَالنَّبِيّ بِتَرْكِ الْهَمْز أَيْضًا الطَّرِيق , فَسُمِّيَ الرَّسُول نَبِيًّا لِاهْتِدَاءِ الْخَلْق بِهِ كَالطَّرِيقِ , قَالَ الشَّاعِر : لَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاق الْحَصَى مَكَان النَّبِيّ مِنْ الْكَاثِب رَتَمْت الشَّيْء : كَسَرْته , يُقَال : رَتَمَ أَنْفه وَرَثَمَهُ , بِالتَّاءِ وَالثَّاء جَمِيعًا . وَالرَّتْم أَيْضًا الْمَرْتُوم أَيْ الْمَكْسُور . وَالْكَاثِب اِسْم جَبَل . فَالْأَنْبِيَاء لَنَا كَالسُّبُلِ فِي الْأَرْض . وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : السَّلَام عَلَيْك يَا نَبِيء اللَّه , وَهَمَزَ . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَسْت بِنَبِيءِ اللَّه وَهَمَزَ وَلَكِنِّي نَبِيّ اللَّه ) وَلَمْ يَهْمِز . قَالَ أَبُو عَلِيّ : ضُعِّفَ سَنَد هَذَا الْحَدِيث , وَمِمَّا يُقَوِّي ضَعْفه أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ أَنْشَدَهُ الْمَادِح : يَا خَاتَم النُّبَآء . .. وَلَمْ يُؤْثَر فِي ذَلِكَ إِنْكَار .


تَعْظِيم لِلشُّنْعَةِ وَالذَّنْب الَّذِي أَتَوْهُ فَإِنْ قِيلَ : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحّ أَنْ يَقْتُلُوا بِالْحَقِّ , وَمَعْلُوم أَنَّ الْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْ أَنْ يَصْدُر مِنْهُمْ مَا يُقْتَلُونَ بِهِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا مَخْرَج الصِّفَة لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْم وَلَيْسَ بِحَقٍّ , فَكَانَ هَذَا تَعْظِيمًا لِلشُّنْعَةِ عَلَيْهِمْ , وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يُقْتَل نَبِيّ بِحَقٍّ , وَلَكِنْ يُقْتَل عَلَى الْحَقّ , فَصَرَّحَ قَوْله : " بِغَيْرِ الْحَقّ " عَنْ شُنْعَة الذَّنْب وَوُضُوحه , وَلَمْ يَأْتِ نَبِيّ قَطُّ بِشَيْءٍ يُوجِب قَتْله . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف جَازَ أَنْ يُخَلِّي بَيْن الْكَافِرِينَ وَقَتْل الْأَنْبِيَاء ؟ قِيلَ : ذَلِكَ كَرَامَة لَهُمْ وَزِيَادَة فِي مَنَازِلِهِمْ , كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَل فِي سَبِيل اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخِذْلَانٍ لَهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن : لَمْ يُقْتَل نَبِيّ قَطُّ مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَر بِقِتَالٍ , وَكُلّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ .


" ذَلِكَ " رَدّ عَلَى الْأَوَّل وَتَأْكِيد لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ . وَالْبَاء فِي " بِمَا " بَاءَ السَّبَب . قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ . وَالْعِصْيَان : خِلَاف الطَّاعَة . وَاعْتَصَتْ النَّوَاة إِذَا اِشْتَدَّتْ . وَالِاعْتِدَاء : تَجَاوُز الْحَدّ فِي كُلّ شَيْء , وَعُرِفَ . فِي الظُّلْم وَالْمَعَاصِي .


أَيْ أُلْزِمُوهُمَا وَقُضِيَ عَلَيْهِمْ بِهِمَا , مَأْخُوذ مِنْ ضَرْب الْقِبَاب , قَالَ الْفَرَزْدَق فِي جَرِير : ضَرَبَتْ عَلَيْك الْعَنْكَبُوت بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْك بِهِ الْكِتَاب الْمُنْزَل وَضَرَبَ الْحَاكِم عَلَى الْيَد , أَيْ حَمَلَ وَأَلْزَمَ . وَالذِّلَّة : الذُّلّ وَالصَّغَار . وَالْمَسْكَنَة : الْفَقْر . فَلَا يُوجَد يَهُودِيّ , وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا خَالِيًا مِنْ زِيّ الْفَقْر وَخُضُوعه وَمَهَانَته . وَقِيلَ : الذِّلَّة فَرْض الْجِزْيَة , عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . وَالْمَسْكَنَة الْخُضُوع , وَهِيَ مَأْخُوذَة مِنْ السُّكُون , أَيْ قَلَّلَ الْفَقْر حَرَكَته , قَالَهُ الزَّجَّاج . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الذِّلَّة الصَّغَار . وَالْمَسْكَنَة مَصْدَر الْمِسْكِين . وَرَوَى الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم عَنْ اِبْن عَبَّاس : " وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة " قَالَ : هُمْ أَصْحَاب الْقَبَالَات .


كَانَ هَذَا الْقَوْل مِنْهُمْ فِي التِّيه حِين مَلُّوا الْمَنّ وَالسَّلْوَى وَتَذَكَّرُوا عَيْشهمْ الْأَوَّل بِمِصْر قَالَ الْحَسَن كَانُوا نَتَانَى أَهْل كُرَّاث وَأَبْصَال وَأَعْدَاس فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرهمْ عِكْر السُّوء وَاشْتَاقَتْ طِبَاعهمْ إِلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتهمْ فَقَالُوا لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد وَكَنَّوْا عَنْ الْمَنّ وَالسَّلْوَى بِطَعَامٍ وَاحِد وَهُمَا اِثْنَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدهمَا بِالْآخَرِ فَلِذَلِكَ قَالُوا طَعَام وَاحِد وَقِيلَ لِتَكْرَارِهِمَا فِي كُلّ يَوْم غِذَاء كَمَا تَقُول لِمَنْ يُدَاوِم عَلَى الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْقِرَاءَة هُوَ عَلَى أَمْر وَاحِد لِمُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ وَقِيلَ الْمَعْنَى لَنْ نَصْبِر عَلَى الْغِنَى فَيَكُون جَمِيعنَا أَغْنِيَاء فَلَا يَقْدِر بَعْضنَا عَلَى الِاسْتِعَانَة بِبَعْضٍ لِاسْتِغْنَاءِ كُلّ وَاحِد مِنَّا بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ كَانُوا فَهُمْ أَوَّل مَنْ اِتَّخَذَ الْعَبِيد وَالْخَدَم


الطَّعَام يُطْلَق عَلَى مَا يُطْعَم وَيُشْرَب قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَمَنْ لَمْ يَطْعَمهُ فَإِنَّهُ مِنِّي " وَقَالَ " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات جُنَاح فِيمَا طَعِمُوا " [ الْمَائِدَة : 93 ] أَيْ مَا شَرِبُوهُ مِنْ الْخَمْر عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه وَإِنْ كَانَ السَّلْوَى الْعَسَل كَمَا حَكَى الْمُؤَرِّج فَهُوَ مَشْرُوب أَيْضًا وَرُبَّمَا خُصَّ بِالطَّعَامِ الْبُرّ وَالتَّمْر كَمَا فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ كُنَّا نُخْرِج صَدَقَة الْفِطْر عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَام أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِير الْحَدِيث وَالْعُرْف جَارٍ بِأَنَّ الْقَائِل ذَهَبْت إِلَى سُوق الطَّعَام فَلَيْسَ يُفْهَم مِنْهُ إِلَّا مَوْضِع بَيْعه دُون غَيْره مِمَّا يُؤْكَل أَوْ يُشْرَب وَالطَّعْم ( بِالْفَتْحِ ) هُوَ مَا يُؤَدِّيه الذَّوْق يُقَال طَعْمه مُرّ وَالطَّعْم أَيْضًا مَا يُشْتَهَى مِنْهُ يُقَال لَيْسَ لَهُ طَعْم وَمَا فُلَان بِذِي طَعْم إِذَا كَانَ غَثًّا وَالطُّعْم ( بِالضَّمِّ ) الطَّعَام قَالَ أَبُو خِرَاش أَرُدّ شُجَاع الْبَطْن لَوْ تَعْلَمِينَهُ وَأُوثِر غَيْرِي مِنْ عِيَالك بِالطُّعْمِ وَأَغْتَبِق الْمَاء الْقَرَاح فَانْتَهَى إِذَا الزَّاد أَمْسَى لِلْمُزَلَّجِ ذَا طَعْم أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الطَّعَام وَبِالثَّانِي مَا يُشْتَهَى مِنْهُ وَقَدْ طَعِمَ يَطْعَم فَهُوَ طَاعِم إِذَا أَكَلَ وَذَاقَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " وَمَنْ لَمْ يَطْعَمهُ فَإِنَّهُ مِنِّي " [ الْبَقَرَة : 249 ] أَيْ مَنْ لَمْ يَذُقْهُ وَقَالَ " فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا " [ الْأَحْزَاب : 53 ] أَيْ أَكَلْتُمْ وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمْزَم ( إِنَّهَا طَعَام طُعْم وَشِفَاء سُقْم ) وَاسْتَطْعَمَنِي فُلَان الْحَدِيث إِذَا أَرَادَ أَنْ تُحَدِّثهُ وَفِي الْحَدِيث ( إِذَا اِسْتَطْعَمَكُمْ الْإِمَام فَأَطْعِمُوهُ ) يَقُول إِذَا اِسْتَفْتَحَ فَافْتَحُوا عَلَيْهِ وَفُلَان مَا يَطْعَم النَّوْم إِلَّا قَائِمًا وَقَالَ الشَّاعِر نَعَامًا بِوَجْرَة صُفْر الْخُدُو د مَا تَطْعَم النَّوْم إِلَّا صِيَامًا


لُغَة بَنِي عَامِر " فَادْع " بِكَسْرِ الْعَيْن لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ يُجْرُونَ الْمُعْتَلّ مَجْرَى الصَّحِيح وَلَا يُرَاعُونَ الْمَحْذُوف و " يُخْرِج " مَجْزُوم عَلَى مَعْنَى سَلْهُ وَقُلْ لَهُ أَخْرِجْ يُخْرِج وَقِيلَ هُوَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاء عَلَى تَقْدِير حَذْف اللَّام وَضَعَّفَهُ الزَّجَّاج وَ " مِنْ " فِي قَوْله " مِمَّا " زَائِدَة فِي قَوْل الْأَخْفَش وَغَيْر زَائِدَة فِي قَوْل سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَام مُوجَب قَالَ النَّحَّاس وَإِنَّمَا دَعَا الْأَخْفَش إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجِد مَفْعُولًا لِـ " يُخْرِج " فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَل " مَا " مَفْعُولًا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُون الْمَفْعُول مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِر الْكَلَام التَّقْدِير يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مَأْكُولًا فَـ " مِنْ " الْأُولَى عَلَى هَذَا لِلتَّبْعِيضِ وَالثَّانِيَة لِلتَّخْصِيصِ


بَدَل مِنْ " مَا " بِإِعَادَةِ الْحَرْف , وَالْبَقْل مَعْرُوف وَهُوَ كُلّ نَبَات لَيْسَ لَهُ سَاق وَالشَّجَر مَا لَهُ سَاق .


عَطْف عَلَيْهِ وَكَذَا مَا بَعْده فَاعْلَمْهُ وَالْقِثَّاء أَيْضًا مَعْرُوف وَقَدْ تُضَمّ قَافه وَهِيَ قِرَاءَة يَحْيَى بْن وَثَّاب وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف لُغَتَانِ وَالْكَسْر أَكْثَر وَقِيلَ فِي جَمْع قِثَّاء قَثَائِيّ مِثْل عِلْبَاء وَعَلَابِيّ إِلَّا أَنَّ قِثَّاء مِنْ ذَوَات الْوَاو تَقُول أَقْثَأْت الْقَوْم أَيْ أَطْعَمْتهمْ ذَلِكَ [ وَفَثَأْت الْقِدْر سَكَّنْت غَلَيَانهَا بِالْمَاءِ قَالَ الْجَعْدِيّ : تَفُور عَلَيْنَا قِدْرهمْ فَنُدِيمهَا وَنَفْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيهَا غَلَا وَفَثَأْت الرَّجُل إِذَا كَسَرْته عَنْك بِقَوْلٍ أَوْ غَيْره وَسَكَّنْت غَضَبه وَعَدَا حَتَّى أَفْثَأَ أَيْ أَعْيَا وَانْبَهَرَ وَأَفْثَأَ الْحَرّ أَيْ سَكَنَ وَفَتَرَ وَمِنْ أَمْثَالهمْ فِي الْيَسِير مِنْ الْبِرّ قَوْلهمْ إِنَّ الرَّثِيئَة تَفْثَأ فِي الْغَضَب , وَأَصْله أَنَّ رَجُلًا كَانَ غَضِبَ عَلَى قَوْم وَكَانَ مَعَ غَضَبه جَائِعًا فَسَقَوْهُ رَثِيئَة فَسَكَنَ غَضَبه وَكَفَّ عَنْهُمْ الرَّثِيئَة اللَّبَن الْمَحْلُوب عَلَى الْحَامِض لِيَخْثُر رَثَأْت اللَّبَن رَثْأً إِذَا حَلَبْته عَلَى حَامِض فَخَثُرَ وَالِاسْم الرَّثِيئَة وَارْتَثَأَ اللَّبَن خَثُرَ . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر حَدَّثَنَا يُونُس بْن بُكَيْر حَدَّثَنَا هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ كَانَتْ أُمِّي تُعَالِجنِي لِلسِّمْنَة تُرِيد أَنْ تُدْخِلنِي عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا اِسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْت الْقِثَّاء بِالرُّطَبِ فَسَمِنْتُ كَأَحْسَن سِمْنَة وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح


اُخْتُلِفَ فِي الْفُوم فَقِيلَ هُوَ الثُّوم لِأَنَّهُ الْمُشَاكِل لِلْبَصَلِ رَوَاهُ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك وَالثَّاء تُبْدَل مِنْ الْفَاء كَمَا قَالُوا مَغَافِير وَمَغَاثِير وَجَدَث وَجَدَف لِلْقَبْرِ وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " ثُومهَا " بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت كَانَتْ مَنَازِلهمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَة فِيهَا الْفَرَادِيس وَالْفُومَان وَالْبَصَل الْفَرَادِيس وَاحِدهَا فَرْدِيس وَكَرْم مُفَرْدَس أَيْ مُعَرَّش وَقَالَ حَسَّان وَأَنْتُمْ أُنَاس لِئَام الْأُصُول طَعَامكُمْ الْفُوم وَالْحَوْقَل يَعْنِي الثُّوم وَالْبَصَل وَهُوَ قَوْل الْكِسَائِيّ وَالنَّضْر بْن شُمَيْل وَقِيلَ الْفُوم الْحِنْطَة رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس قَالَ : وَهُوَ أَوْلَى , وَمَنْ قَالَ بِهِ أَعْلَى وَأَسَانِيده صِحَاح , وَلَيْسَ جُوَيْبِر بِنَظِيرٍ لِرِوَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء قَدْ اِخْتَارَا الْقَوْل الْأَوَّل لِإِبْدَالِ الْعَرَب الْفَاء مِنْ الثَّاء , وَالْإِبْدَال لَا يُقَاس عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ فِي كَلَام الْعَرَب وَأَنْشَدَ اِبْن عَبَّاس لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْفُوم وَأَنَّهُ الْحِنْطَة قَوْل أُحَيْحَة بْن الْجُلَاح قَدْ كُنْت أَغْنَى النَّاس شَخْصًا وَاجِدَا وَرَدَ الْمَدِينَة عَنْ زِرَاعَة فُوم وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج وَكَيْف يَطْلُب الْقَوْم طَعَامًا لَا بِرّ فِيهِ وَالْبِرّ أَصْل الْغِذَاء , وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ أَبُو نَصْر : الْفُوم الْحِنْطَة وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش قَدْ كُنْت أَحْسَبنِي كَأَغْنَى وَاجِد نَزَلَ الْمَدِينَة عَنْ زِرَاعَة فُوم وَقَالَ اِبْن دُرَيْد الْفُومَة السُّنْبُلَة وَأَنْشَدَ وَقَالَ رَبِيئُهُمْ لَمَّا أَتَانَا بِكَفِّهِ فُومَة أَوْ فُومَتَانِ وَالْهَاء فِي " كَفّه " غَيْر مُشْبَعَة وَقَالَ بَعْضهمْ الْفُوم الْحِمَّص لُغَة شَامِيَّة وَبَائِعه فَامِيّ مُغَيَّر عَنْ فُومِيّ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُغَيِّرُونَ فِي النَّسَب , كَمَا قَالُوا سُهْلِيّ وَدُهْرِيّ . وَيُقَال : فَوِّمُوا لَنَا أَيْ اِخْتَبِزُوا . قَالَ الْفَرَّاء : هِيَ لُغَة قَدِيمَة . وَقَالَ عَطَاء وَقَتَادَة : الْفُوم كُلّ حَبّ يُخْتَبَز مَسْأَلَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَكْل الْبَصَل وَالثُّوم وَمَا لَهُ رَائِحَة كَرِيهَة مِنْ سَائِر الْبُقُول فَذَهَبَ جُمْهُور الْعُلَمَاء إِلَى إِبَاحَة ذَلِكَ , لِلْأَحَادِيثِ الثَّابِتَة فِي ذَلِكَ وَذَهَبَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الظَّاهِر الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة فَرْضًا إِلَى الْمَنْع , وَقَالُوا : كُلّ مَا مَنَعَ مِنْ إِتْيَان الْفَرْض وَالْقِيَام بِهِ فَحَرَام عَمَله وَالتَّشَاغُل بِهِ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا خَبِيثَة , وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَصَفَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ يُحَرِّم الْخَبَائِث . وَمِنْ الْحُجَّة لِلْجُمْهُورِ مَا ثَبَتَ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِبَدْرٍ فِيهِ خَضِرَات مِنْ بُقُول فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا , قَالَ : فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُول , فَقَالَ ( قَرِّبُوهَا ) إِلَى بَعْض أَصْحَابه كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلهَا , قَالَ : ( كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَأَبُو دَاوُد . فَهَذَا بَيِّن فِي الْخُصُوص لَهُ وَالْإِبَاحَة لِغَيْرِهِ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوب أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوب , فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فِيهِ ثُوم , فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِع أَصَابِع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقِيلَ لَهُ : لَمْ يَأْكُل فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَحَرَام هُوَ ؟ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا وَلَكِنِّي أَكْرَههُ ) . قَالَ فَإِنِّي أَكْرَه مَا تَكْرَه أَوْ مَا كَرِهْت , قَالَ : وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى ( يَعْنِي يَأْتِيه الْوَحْي ) فَهَذَا نَصّ عَلَى عَدَم التَّحْرِيم . وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَكَلُوا الثُّوم زَمَن خَيْبَر وَفَتْحهَا : ( أَيّهَا النَّاس إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيم مَا أَحَلَّ اللَّه وَلَكِنَّهَا شَجَرَة أَكْرَهُ رِيحهَا ) فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تُشْعِر بِأَنَّ الْحُكْم خَاصّ بِهِ , إِذْ هُوَ الْمَخْصُوص بِمُنَاجَاةِ الْمَلَك . لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا هَذَا الْحُكْم فِي حَدِيث جَابِر بِمَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَيْنه وَبَيْن غَيْره فِي هَذَا الْحُكْم حَيْثُ قَالَ : ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَة الثُّوم وَقَالَ مَرَّة مَنْ أَكَلَ الْبَصَل وَالثُّوم وَالْكُرَّاث فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَة تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَم ) وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي حَدِيث فِيهِ طُول إِنَّكُمْ أَيّهَا النَّاس تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ , هَذَا الْبَصَل وَالثُّوم . وَلَقَدْ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ رِيحهمَا مِنْ الرَّجُل فِي الْمَسْجِد أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيع , فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا . خَرَّجَهُ مُسْلِم .


الْعَدَس مَعْرُوف . وَالْعَدَسَة : بَثْرَة تَخْرُج بِالْإِنْسَانِ , وَرُبَّمَا قَتَلَتْ وَعَدَس : زَجْر لِلْبِغَالِ , قَالَ : عَدَس مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْك إِمَارَة نَجَوْت وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيق وَالْعَدَس : شِدَّة الْوَطْء , وَالْكَدْح أَيْضًا , يُقَال : عَدَسَهُ . وَعَدَسَ فِي الْأَرْض : ذَهَبَ فِيهَا . وَعَدَسَتْ إِلَيْهِ الْمَنِيَّة أَيْ سَارَتْ , قَالَ الْكُمَيْت : أُكَلِّفهَا هَوْل الظَّلَام وَلَمْ أَزَلْ أَخَا اللَّيْل مَعْدُوسًا إِلَيَّ وَعَادِسًا أَيْ يُسَار إِلَيَّ بِاللَّيْلِ . وَعَدَس : لُغَة فِي حَدَس , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . وَيُؤْثَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيث عَلِيّ أَنَّهُ قَالَ : ( عَلَيْكُمْ بِالْعَدَسِ فَإِنَّهُ مُبَارَك مُقَدَّس وَإِنَّهُ يَرِقّ الْقَلْب وَيُكْثِر الدَّمْعَة فَإِنَّهُ بَارَكَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا آخِرهمْ عِيسَى اِبْن مَرْيَم ) , ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَغَيْره . وَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز يَأْكُل يَوْمًا خُبْزًا بِزَيْتٍ , وَيَوْمًا بِلَحْمٍ , وَيَوْمًا بِعَدَسٍ . قَالَ الْحَلِيمِيّ : وَالْعَدَس وَالزَّيْت طَعَام الصَّالِحِينَ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَة إِلَّا أَنَّهُ ضِيَافَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَدِينَته لَا تَخْلُو مِنْهُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَة . وَهُوَ مِمَّا يُخَفِّف الْبَدَن فَيَخِفّ لِلْعِبَادَةِ , لَا تَثُور مِنْهُ الشَّهَوَات كَمَا تَثُور مِنْ اللَّحْم . وَالْحِنْطَة مِنْ جُمْلَة الْحُبُوب وَهِيَ الْفُوم عَلَى الصَّحِيح , وَالشَّعِير قَرِيب مِنْهَا وَكَانَ طَعَام أَهْل الْمَدِينَة , كَمَا كَانَ الْعَدَس مِنْ طَعَام قَرْيَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام , فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِد مِنْ الْحَبَّتَيْنِ بِأَحَدِ النَّبِيَّيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَام فَضِيلَة , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْبَع هُوَ وَأَهْله مِنْ خُبْز بُرّ ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَة مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَة إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ


الِاسْتِبْدَال : وَضْع الشَّيْء مَوْضِع الْآخَر , وَمِنْهُ الْبَدَل , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَ " أَدْنَى " مَأْخُوذ عِنْد الزَّجَّاج مِنْ الدُّنُوّ أَيْ الْقُرْب فِي الْقِيمَة , مِنْ قَوْلهمْ : ثَوْب مُقَارِب , أَيْ قَلِيل الثَّمَن . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : هُوَ مَهْمُوز مِنْ الدَّنِيء الْبَيِّن الدَّنَاءَة بِمَعْنَى الْأَخَسّ , إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ هَمْزَته . وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الدُّون أَيْ الْأَحَطّ , فَأَصْله أَدْوَن , أَفْعَل , قُلِبَ فَجَاءَ أَفْلَع , وَحُوِّلَتْ الْوَاو أَلِفًا لِتَطَرُّفِهَا . وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذّ " أَدْنَى " . وَمَعْنَى الْآيَة : أَتَسْتَبْدِلُونَ الْبَقْل وَالْقِثَّاء وَالْفُوم وَالْعَدَس وَالْبَصَل الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي هُوَ خَيْر . وَاخْتُلِفَ فِي الْوُجُوه الَّتِي تُوجِب فَضْل الْمَنّ وَالسَّلْوَى عَلَى الشَّيْء الَّذِي طَلَبُوهُ وَهِيَ خَمْسَة : [ الْأَوَّل ] أَنَّ الْبُقُول لَمَّا كَانَتْ لَا خَطَر لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنّ وَالسَّلْوَى كَانَا أَفْضَل , قَالَهُ الزَّجَّاج . [ الثَّانِي ] لَمَّا كَانَ الْمَنّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا مَنَّ اللَّه بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَكَانَ فِي اِسْتِدَامَة أَمْر اللَّه وَشُكْر نِعْمَته أَجْر وَذُخْر فِي الْآخِرَة , وَاَلَّذِي طَلَبُوهُ عَارٍ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِل كَانَ أَدْنَى فِي هَذَا الْوَجْه . [ الثَّالِث ] لَمَّا كَانَ مَا مَنَّ اللَّه بِهِ عَلَيْهِمْ أَطْيَب وَأَلَذّ مِنْ الَّذِي سَأَلُوهُ , كَانَ مَا سَأَلُوهُ أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْه لَا مَحَالَة . [ الرَّابِع ] لَمَّا كَانَ مَا أُعْطُوا لَا كُلْفَة فِيهِ وَلَا تَعَب , وَاَلَّذِي طَلَبُوهُ لَا يَجِيء إِلَّا بِالْحَرْثِ وَالزِّرَاعَة وَالتَّعَب كَانَ أَدْنَى . [ الْخَامِس ] لَمَّا كَانَ مَا يَنْزِل عَلَيْهِمْ لَا مِرْيَة فِي حِلّه وَخُلُوصه لِنُزُولِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , الْحُبُوب وَالْأَرْض يَتَخَلَّلهَا الْبُيُوع وَالْغُصُوب وَتَدْخُلهَا الشُّبَه , كَانَتْ أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْه . مَسْأَلَة : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز أَكْل الطَّيِّبَات وَالْمَطَاعِم الْمُسْتَلَذَّات , وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْحَلْوَى وَالْعَسَل , وَيَشْرَب الْمَاء الْبَارِد الْعَذْب , وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْمَائِدَة " وَ " النَّحْل " إِنْ شَاءَ اللَّه مُسْتَوْفًى .


تَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوط , وَهَذَا أَمْر مَعْنَاهُ التَّعْجِيز , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " قُلْ كُونُوا حِجَارَة أَوْ حَدِيدًا " [ الْإِسْرَاء : 50 ] لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي التِّيه وَهَذَا عُقُوبَة لَهُمْ . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ أُعْطُوا مَا طَلَبُوهُ . وَ " مِصْرًا " بِالتَّنْوِينِ مُنَكَّرًا قِرَاءَة الْجُمْهُور , وَهُوَ خَطّ الْمُصْحَف , قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره : فَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار غَيْر مُعَيَّن . وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " اِهْبِطُوا مِصْرًا " قَالَ : مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَار . وَقَالَتْ طَائِفَة مِمَّنْ صَرَفَهَا أَيْضًا : أَرَادَ مِصْر فِرْعَوْن بِعَيْنِهَا . اِسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا اِقْتَضَاهُ ظَاهِر الْقُرْآن مِنْ أَمْرهمْ دُخُول الْقَرْيَة , وَبِمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَة أَنَّهُمْ سَكَنُوا الشَّام بَعْد التِّيه . وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِمَا فِي الْقُرْآن مِنْ أَنَّ اللَّه أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيل دِيَار آل فِرْعَوْن وَآثَارهمْ , وَأَجَازُوا صَرْفهَا . قَالَ الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : لِخِفَّتِهَا وَشَبَههَا بِهِنْدٍ وَدَعْد , وَأَنْشَدَ : لَمْ تَتَلَفَّع بِفَضْلِ مِئْزَرهَا دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ فِي الْعُلَب فَجَمَعَ بَيْن اللُّغَتَيْنِ . وَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيل وَالْفَرَّاء لَا يُجِيزُونَ هَذَا ; لِأَنَّك لَوْ سَمَّيْت اِمْرَأَة بِزَيْدٍ لَمْ تَصْرِف . وَقَالَ غَيْر الْأَخْفَش : أَرَادَ الْمَكَان فَصَرَفَ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبَان بْن تَغْلِب وَطَلْحَة : " مِصْر " بِتَرْكِ الصَّرْف . وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب وَقِرَاءَة اِبْن مَسْعُود . وَقَالُوا : هِيَ مِصْر فِرْعَوْن . قَالَ أَشْهَب قَالَ لِي مَالِك : هِيَ عِنْدِي مِصْر قَرْيَتك مَسْكَن فِرْعَوْن , ذَكَرَهُ اِبْن عَطِيَّة وَالْمِصْر أَصْله فِي اللُّغَة الْحَدّ . وَمِصْر الدَّار : حُدُودهَا . قَالَ اِبْن فَارِس وَيُقَال : إِنَّ أَهْل هَجَر يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطهمْ " اِشْتَرَى فُلَان الدَّار بِمُصُورِهَا " أَيْ حُدُودهَا , قَالَ عَدِيّ : وَجَاعِل الشَّمْس مِصْرًا لَا خَفَاء بِهِ بَيْن النَّهَار وَبَيْن اللَّيْل قَدْ فَصَلَا
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 62
أَيْ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ سُفْيَان : الْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ . كَأَنَّهُ قَالَ : الَّذِينَ آمَنُوا فِي ظَاهِر أَمْرهمْ , فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ , ثُمَّ بَيَّنَ حُكْم مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر مِنْ جَمِيعهمْ


مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودًا , نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا وَهُوَ أَكْبَر وَلَد يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام , فَقَلَبَتْ الْعَرَب الذَّال دَالًا ; لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّة إِذَا عُرِّبَتْ غُيِّرَتْ عَنْ لَفْظهَا . وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَوْبَتِهِمْ عَنْ عِبَادَة الْعِجْل . هَادَ : تَابَ . وَالْهَائِد : التَّائِب , قَالَ الشَّاعِر : إِنِّي اِمْرُؤٌ مِنْ حُبّه هَائِد أَيْ تَائِب . وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك " [ الْأَعْرَاف : 156 ] أَيْ تُبْنَا . وَهَادَ الْقَوْم يَهُودُونَ هَوْدًا وَهِيَادَة إِذَا تَابُوا . وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : " هُدْنَا إِلَيْك " أَيْ سَكَنَّا إِلَى أَمْرك . وَالْهَوَادَة السُّكُون وَالْمُوَادَعَة . قَالَ : وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا " . وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال : " هَادُوا " بِفَتْحِ الدَّال .


جَمْع وَاحِده نَصْرَانِيّ . وَقِيلَ : نَصْرَان بِإِسْقَاطِ الْيَاء , وَهَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ . وَالْأُنْثَى نَصْرَانَة , كَنَدْمَان وَنَدْمَانَة . وَهُوَ نَكِرَة يُعَرَّف بِالْأَلِفِ وَاللَّام , قَالَ الشَّاعِر : صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لَا يَحِلّ لَهُ سَاقِي نَصَارَى قُبَيْل الْفِصْح صُوَّام فَوَصَفَهُ بِالنَّكِرَةِ . وَقَالَ الْخَلِيل : وَاحِد النَّصَارَى نَصْرِي , كَمَهْرِيّ وَمَهَارَى . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ شَاهِدًا عَلَى قَوْله : تَرَاهُ إِذَا دَار الْعِشَا مُتَحَنِّفًا وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَان شَامِس وَأُنْشِدَ : فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأُسْجِد رَأْسهَا كَمَا أَسُجِدَتْ نَصْرَانَة لَمْ تَحَنَّف يُقَال : أُسْجِدَ إِذَا مَالَ . وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَل نَصْرَان وَنَصْرَانَة إِلَّا بِيَاءَيْ النَّسَب ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا : رَجُل نَصْرَانِيّ وَامْرَأَة نَصْرَانِيَّة . وَنَصَّرَهُ : جَعَلَهُ نَصْرَانِيًّا . وَفِي الْحَدِيث : ( فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِن بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّار ) . وَقَدْ جَاءَتْ جُمُوع عَلَى غَيْر مَا يُسْتَعْمَل وَاحِدهَا , وَقِيَاسه النَّصْرَانِيُّونَ . ثُمَّ قِيلَ : سُمُوًّا بِذَلِكَ لِقَرْيَةٍ تُسَمَّى " نَاصِرَة " كَانَ يَنْزِلهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَنُسِبَ إِلَيْهَا فَقِيلَ : عِيسَى النَّاصِرِيّ , فَلَمَّا نُسِبَ أَصْحَابه إِلَيْهِ قِيلَ النَّصَارَى , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَنَصْرَان قَرْيَة بِالشَّامِ يُنْسَب إِلَيْهَا النَّصَارَى , وَيُقَال نَاصِرَة . وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُصْرَةِ بَعْضهمْ بَعْضًا , قَالَ الشَّاعِر : لَمَّا رَأَيْت نَبَطًا أَنْصَارًا شَمَّرْت عَنْ رُكْبَتِي الْإِزَارَا كُنْت لَهُمْ مِنْ النَّصَارَى جَارَا وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ : " مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه " [ آل عِمْرَان : 52 ] .


جَمْع صَابِئ , وَقِيلَ : صَابَ , وَلِذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي هَمْزه , وَهَمَزَهُ الْجُمْهُور إِلَّا نَافِعًا . فَمَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنْ صَبَأَتْ النُّجُوم إِذَا طَلَعَتْ , وَصَبَأَتْ ثَنِيَّة الْغُلَام إِذَا خَرَجَتْ . وَمَنْ لَمْ يَهْمِز جَعَلَهُ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ . فَالصَّابِئ فِي اللُّغَة : مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِين إِلَى دِين , وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَب تَقُول لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ . فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِين أَهْل الْكِتَاب . لَا خِلَاف فِي أَنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَهْل كِتَاب وَلِأَجْلِ كِتَابهمْ جَازَ نِكَاح نِسَائِهِمْ وَأَكْل طَعَامهمْ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي الْمَائِدَة وَضَرْب الْجِزْيَة عَلَيْهِمْ , عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَة " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه . وَاخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ , فَقَالَ السُّدِّيّ : هُمْ فِرْقَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَهُ إِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَقَالَ إِسْحَاق : لَا بَأْس بِذَبَائِح الصَّابِئِينَ لِأَنَّهُمْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا بَأْس بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَة نِسَائِهِمْ . وَقَالَ الْخَلِيل : هُمْ قَوْم يُشْبِه دِينهمْ دِين النَّصَارَى , إِلَّا أَنَّ قِبْلَتهمْ نَحْو مَهَبّ الْجَنُوب , يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِين نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن أَبِي نَجِيح : هُمْ قَوْم تَرَكَّبَ دِينهمْ بَيْن الْيَهُودِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة , لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهمْ . اِبْن عَبَّاس : وَلَا تُنْكَح نِسَاؤُهُمْ . وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَقَتَادَة هُمْ قَوْم يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَة وَيَقْرَءُونَ الزَّبُور وَيُصَلُّونَ الْخَمْس , رَآهُمْ زِيَاد اِبْن أَبِي سُفْيَان فَأَرَادَ وَضْع الْجِزْيَة عَنْهُمْ حِين عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة . وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبهمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْض عُلَمَائِنَا أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِير النُّجُوم , وَأَنَّهَا فَعَالَة , وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيّ الْقَادِر بِاَللَّهِ بِكُفْرِهِمْ حِين سَأَلَهُ عَنْهُمْ .


أَيْ صَدَّقَ . وَ " مَنْ " فِي قَوْله : " مَنْ آمَنَ " فِي مَوْضِع نَصْب بَدَل مِنْ " الَّذِينَ " . وَالْفَاء فِي قَوْله " فَلَهُمْ " دَاخِلَة بِسَبَبِ الْإِبْهَام الَّذِي فِي " مَنْ " . وَ " لَهُمْ أَجْرهمْ " اِبْتِدَاء وَخَبَر فِي مَوْضِع خَبَر إِنَّ . وَيَحْسُن أَنْ يَكُون " مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَمَعْنَاهَا الشَّرْط . وَ " آمَنَ " فِي مَوْضِع جَزْم بِالشَّرْطِ , وَالْفَاء الْجَوَاب . وَ " لَهُمْ أَجْرهمْ " خَبَر " مَنْ " , وَالْجُمْلَة كُلّهَا خَبَر " إِنَّ " , وَالْعَائِد عَلَى " الَّذِينَ " مَحْذُوف , تَقْدِيره مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ . وَفِي الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر اِنْدِرَاج الْإِيمَان بِالرُّسُلِ وَالْكُتُب وَالْبَعْث . إِنْ قَالَ قَائِل : لِمَ جُمِعَ الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى : " لَهُمْ أَجْرهمْ " وَ " آمَنَ " لَفْظ مُفْرَد لَيْسَ بِجَمْعٍ , وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَقِيم لَوْ قَالَ : لَهُ أَجْره . فَالْجَوَاب أَنَّ " مَنْ " يَقَع عَلَى الْوَاحِد وَالتَّثْنِيَة وَالْجَمْع , فَجَائِز أَنْ يَرْجِع الضَّمِير مُفْرَدًا وَمُثَنًّى وَمَجْمُوعًا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْك " [ يُونُس : 42 ] عَلَى الْمَعْنَى . وَقَالَ : " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِع إِلَيْك " عَلَى اللَّفْظ . وَقَالَ الشَّاعِر : أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا وَقُولَا لَهَا عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا وَقَالَ الْفَرَزْدَق : تَعَسّ فَإِنْ عَاهَدْتنِي لَا تَخُوننِي نَكُنْ مِثْل مَنْ يَا ذِئْب يَصْطَحِبَانِ فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى وَلَوْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظ لَقَالَ : يَصْطَحِب وَتَخَلَّفَ . قَالَ تَعَالَى : " وَمَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله يُدْخِلهُ جَنَّات " فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظ . ثُمَّ قَالَ : " خَالِدِينَ " فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى , وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظ لَقَالَ : خَالِدًا فِيهَا . وَإِذَا جَرَى مَا بَعْد " مَنْ " عَلَى اللَّفْظ فَجَائِز أَنْ يُخَالَف بِهِ بَعْد عَلَى الْمَعْنَى كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة . وَإِذَا جَرَى مَا بَعْدهَا عَلَى الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَالَف بِهِ بَعْد عَلَى اللَّفْظ لِأَنَّ الْإِلْبَاس يَدْخُل فِي الْكَلَام .


الْخَوْف هُوَ الذُّعْر وَلَا يَكُون إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَل وَخَاوَفَنِي فُلَان فَخِفْته أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ وَالتَّخَوُّف التَّنَقُّص , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " أَوْ يَأْخُذهُمْ عَلَى تَخَوُّف " [ النَّحْل : 47 ] وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب " فَلَا خَوْف " بِفَتْحِ الْفَاء عَلَى التَّبْرِئَة وَالِاخْتِيَار عِنْد النَّحْوِيِّينَ الرَّفْع وَالتَّنْوِين عَلَى الِابْتِدَاء لِأَنَّ الثَّانِي مَعْرِفَة لَا يَكُون فِيهِ إِلَّا الرَّفْع لِأَنَّ " لَا " لَا تَعْمَل فِي مَعْرِفَة فَاخْتَارُوا فِي الْأَوَّل الرَّفْع أَيْضًا لِيَكُونَ الْكَلَام مِنْ وَجْه وَاحِد وَيَجُوز أَنْ تَكُون " لَا " فِي قَوْلك فَلَا خَوْف بِمَعْنَى لَيْسَ وَالْحُزْن وَالْحَزَن ضِدّ السُّرُور , وَلَا يَكُون إِلَّا عَلَى مَاضٍ وَحَزِنَ الرَّجُل ( بِالْكَسْرِ ) فَهُوَ حَزِن وَحَزِين وَأَحْزَنَهُ غَيْره , وَحَزَّنَهُ أَيْضًا مِثْل أَسْلَكَهُ وَسَلَّكَهُ وَمَحْزُون بُنِيَ عَلَيْهِ قَالَ الْيَزِيدِيّ : حَزَّنَهُ لُغَة قُرَيْش وَأَحْزَنَهُ لُغَة تَمِيم , وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا وَاِحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ بِمَعْنًى , وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْن أَيْدِيهمْ مِنْ الْآخِرَة وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ الدُّنْيَا وَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى نَفْي أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة وَخَوْفهَا عَلَى الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله مِنْ شَدَائِد الْقِيَامَة إِلَّا أَنَّهُ يُخَفِّفهُ عَنْ الْمُطِيعِينَ وَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَته فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا وَاَللَّه أَعْلَم . رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ قَوْله : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا " [ الْحَجّ : 17 ] الْآيَة . مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ " [ آل عِمْرَان : 85 ] الْآيَة . وَقَالَ غَيْره : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ . وَهِيَ فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة الآية رقم 63
هَذِهِ الْآيَة تُفَسِّر مَعْنَى قَوْله تَعَالَى " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل فَوْقهمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة " [ الْأَعْرَاف : 171 ] . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمَعْنَى زَعْزَعْنَاهُ فَاسْتَخْرَجْنَاهُ مِنْ مَكَانه . قَالَ : وَكُلّ شَيْء قَلَعْته فَرَمَيْت بِهِ فَقَدْ نَتَقْته . وَقِيلَ : نَتَقْنَاهُ رَفَعْنَاهُ . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : النَّاتِق الرَّافِع , وَالنَّاتِق الْبَاسِط , وَالنَّاتِق الْفَاتِق . وَامْرَأَة نَاتِق وَمُنْتَاق : كَثِيرَة الْوَلَد . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ نَتْق السِّقَاء , وَهُوَ نَفْضه حَتَّى تُقْتَلَع الزُّبْدَة مِنْهُ . قَالَ وَقَوْله : " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل فَوْقهمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة " قَالَ : قُلِعَ مِنْ أَصْله . وَاخْتُلِفَ فِي الطُّور , فَقِيلَ : الطُّور اِسْم لِلْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّه عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ التَّوْرَاة دُون غَيْره , رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْهُ أَنَّ الطُّور مَا أَنْبَتَ مِنْ الْجِبَال خَاصَّة دُون مَا لَمْ يُنْبِتْ . وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : أَيّ جَبَل كَانَ . إِلَّا أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ : هُوَ اِسْم لِكُلِّ جَبَل بِالسُّرْيَانِيَّةِ , وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآن أَلْفَاظ مُفْرَدَة غَيْر مُعَرَّبَة مِنْ غَيْر كَلَام فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب . وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَزَعَمَ الْبَكْرِيّ أَنَّهُ سُمِّيَ بِطُورِ بْن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم . الْقَوْل فِي سَبَب رَفْع الطُّور وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ عِنْد اللَّه بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاة قَالَ لَهُمْ : خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا . فَقَالُوا : لَا إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّه بِهَا كَمَا كَلَّمَك . فَصُعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا . فَقَالَ لَهُمْ : خُذُوهَا . فَقَالُوا لَا , فَأَمَرَ اللَّه الْمَلَائِكَة فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا مِنْ جِبَال فِلَسْطِين طُوله فَرْسَخ فِي مِثْله , وَكَذَلِكَ كَانَ عَسْكَرهمْ , فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْل الظُّلَّة , وَأُتُوا بِبَحْرٍ مِنْ خَلْفهمْ , وَنَار مِنْ قِبَل وُجُوههمْ , وَقِيلَ لَهُمْ : خُذُوهَا وَعَلَيْكُمْ الْمِيثَاق أَلَّا تُضَيِّعُوهَا , وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمْ الْجَبَل . فَسَجَدُوا تَوْبَةً للَّه وَأَخَذُوا التَّوْرَاة بِالْمِيثَاقِ . قَالَ الطَّبَرِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء : لَوْ أَخَذُوهَا أَوَّل مَرَّة لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِيثَاق . وَكَانَ سُجُودهمْ عَلَى شِقّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْقُبُونَ الْجَبَل خَوْفًا , فَلَمَّا رَحِمَهُمْ اللَّه قَالُوا : لَا سَجْدَة أَفْضَل مِنْ سَجْدَة تَقَبَّلَهَا اللَّه وَرَحِمَ بِهَا عِبَاده , فَأَمَرُّوا سُجُودهمْ عَلَى شِقّ وَاحِد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي لَا يَصِحّ سِوَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى اِخْتَرَعَ وَقْت سُجُودهمْ الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ لَا أَنَّهُمْ آمَنُوا كُرْهًا وَقُلُوبهمْ غَيْر مُطْمَئِنَّة بِذَلِكَ .


أَيْ فَقُلْنَا خُذُوا , فَحُذِفَ .

أَعْطَيْنَاكُمْ .


أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَاد , قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ . وَقِيلَ : بِنِيَّةٍ وَإِخْلَاص . مُجَاهِد : الْقُوَّة الْعَمَل بِمَا فِيهِ . وَقِيلَ : بِقُوَّةٍ , بِكَثْرَةِ دَرْس .


أَيْ تَدَبَّرُوهُ وَاحْفَظُوا أَوَامِره وَوَعِيده , وَلَا تَنْسَوْهُ وَلَا تُضَيِّعُوهُ . قُلْت : هَذَا هُوَ الْمَقْصُود مِنْ الْكُتُب , الْعَمَل بِمُقْتَضَاهَا لَا تِلَاوَتهَا بِاللِّسَانِ وَتَرْتِيلهَا , فَإِنَّ ذَلِكَ نَبْذ لَهَا , عَلَى مَا قَالَهُ الشَّعْبِيّ وَابْن عُيَيْنَة , وَسَيَأْتِي قَوْلُهُمَا عِنْد قَوْله تَعَالَى : " نَبَذَ فَرِيق مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " [ الْبَقَرَة : 101 ] . وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ مِنْ شَرّ النَّاس رَجُلًا فَاسِقًا يَقْرَأ الْقُرْآن لَا يَرْعَوِي إِلَى شَيْء مِنْهُ ) . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَقْصُود الْعَمَل كَمَا بَيَّنَّا . وَقَالَ مَالِك : قَدْ يَقْرَأ الْقُرْآن مَنْ لَا خَيْر فِيهِ . فَمَا لَزِمَ إِذًا مَنْ قَبْلنَا وَأُخِذَ عَلَيْهِمْ لَازِم لَنَا وَوَاجِب عَلَيْنَا . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَاتَّبِعُوا أَحْسَن مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ " [ الزُّمَر : 55 ] فَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ كِتَابه وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ , لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ , كَمَا تَرَكْت الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَبَقِيَتْ أَشْخَاص الْكُتُب وَالْمَصَاحِف لَا تُفِيد شَيْئًا , لِغَلَبَةِ الْجَهْل وَطَلَب الرِّيَاسَة وَاتِّبَاع الْأَهْوَاء . رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ جُبَيْر بْن نُفَيْر عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ قَالَ : ( هَذَا أَوَان يُخْتَلَس فِيهِ الْعِلْم مِنْ النَّاس حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْء ) . فَقَالَ زِيَاد بْن لَبِيد الْأَنْصَارِيّ : كَيْف يُخْتَلَس مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآن فَوَاَللَّهِ لَأَقْرَأَنهُ وَلَأُقْرِئَنهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا . فَقَالَ : ( ثَكِلَتْك أُمّك يَا زِيَاد إِنْ كُنْت لَأَعُدّك مِنْ فُقَهَاء الْمَدِينَة هَذِهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ ) وَذَكَرَ الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي . وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث جُبَيْر بْن نُفَيْر أَيْضًا عَنْ عَوْف بْن مَالِك الْأَشْجَعِيّ مِنْ طَرِيق صَحِيحَة , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِزِيَادٍ : ( ثَكِلَتْك أُمّك يَا زِيَاد هَذِهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى ) . وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ لِإِنْسَانٍ : " إِنَّك فِي زَمَان كَثِير فُقَهَاؤُهُ , قَلِيل قُرَّاؤُهُ , تُحْفَظ فِيهِ حُدُود الْقُرْآن وَتُضَيَّع حُرُوفه , قَلِيل مَنْ يَسْأَل , كَثِير مَنْ يُعْطِي , يُطِيلُونَ الصَّلَاة وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَة , يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالهمْ قَبْل أَهْوَائِهِمْ . وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان قَلِيل فُقَهَاؤُهُ , كَثِير قُرَّاؤُهُ , تُحْفَظ فِيهِ حُرُوف الْقُرْآن , وَتُضَيَّع حُدُوده , كَثِير مَنْ يَسْأَل , قَلِيل مَنْ يُعْطِي , يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَة , وَيُقْصِرُونَ الصَّلَاة , يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْل أَعْمَالهمْ " . وَهَذِهِ نُصُوص تَدُلّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ قَالَ يَحْيَى سَأَلْت اِبْن نَافِع عَنْ قَوْله : يَبْدَءُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْل أَعْمَالهمْ ؟ قَالَ يَقُول : يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتْرُكُونَ الْعَمَل بِاَلَّذِي اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ .


وَتَقَدَّمَ الْقَوْل فِي مَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .
ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَسورة البقرة الآية رقم 64
تَوَلَّى تَفَعَّلَ , وَأَصْله الْإِعْرَاض وَالْإِدْبَار عَنْ الشَّيْء بِالْجِسْمِ , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْإِعْرَاض عَنْ الْأَوَامِر وَالْأَدْيَان وَالْمُعْتَقَدَات اِتِّسَاعًا وَمَجَازًا .


أَيْ مِنْ بَعْد الْبُرْهَان , وَهُوَ أَخْذ الْمِيثَاق وَرَفْع الْجَبَل .


" فَضْل " مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَر مَحْذُوف لَا يَجُوز إِظْهَاره ; لِأَنَّ الْعَرَب اِسْتَغْنَتْ عَنْ إِظْهَاره , إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا إِظْهَاره جَاءُوا بِأَنَّ , فَإِذَا جَاءُوا بِهَا لَمْ يَحْذِفُوا الْخَبَر . وَالتَّقْدِير فَلَوْلَا فَضْل اللَّه تَدَارَكَكُمْ .


عَطْف عَلَى " فَضْل " أَيْ لُطْفه وَإِمْهَاله


جَوَاب " لَوْلَا "


خَبَر كُنْتُمْ . وَالْخُسْرَان : النُّقْصَان , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : فَضْله قَبُول التَّوْبَة , و " رَحْمَته " الْعَفْو . وَالْفَضْل : الزِّيَادَة عَلَى مَا وَجَبَ . وَالْإِفْضَال : فِعْل مَا لَمْ يَجِب . قَالَ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل : الْفَضْل الزِّيَادَة وَالْخَيْر , وَالْإِفْضَال : الْإِحْسَان .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَسورة البقرة الآية رقم 65
" عَلِمْتُمْ " مَعْنَاهُ عَرَفْتُمْ أَعْيَانهمْ . وَقِيلَ : عَلِمْتُمْ أَحْكَامهمْ . وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الْمَعْرِفَة مُتَوَجِّهَة إِلَى ذَات الْمُسَمَّى . وَالْعِلْم مُتَوَجِّه إِلَى أَحْوَال الْمُسَمَّى . فَإِذَا قُلْت : عَرَفْت زَيْدًا , فَالْمُرَاد شَخْصه وَإِذَا قُلْت : عَلِمْت زَيْدًا , فَالْمُرَاد بِهِ الْعِلْم بِأَحْوَالِهِ مِنْ فَضْل وَنَقْص . فَعَلَى الْأَوَّل يَتَعَدَّى الْفِعْل إِلَى مَفْعُول وَاحِد , وَهُوَ قَوْل سِيبَوَيْهِ : " عَلِمْتُمْ " بِمَعْنَى عَرَفْتُمْ . وَعَلَى الثَّانِي إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَحَكَى الْأَخْفَش وَلَقَدْ عَلِمْت زَيْدًا وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمهُ . وَفِي التَّنْزِيل : " لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّه يَعْلَمهُمْ " [ الْأَنْفَال : 60 ] كُلّ هَذَا بِمَعْنَى الْمَعْرِفَة , فَاعْلَمْ . " الَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت " [ الْبَقَرَة : 65 ] صِلَة " الَّذِينَ " . وَالِاعْتِدَاء . التَّجَاوُز , وَقَدْ تَقَدَّمَ . رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ صَفْوَان بْن عَسَّال قَالَ : قَالَ يَهُودِيّ لِصَاحِبِهِ : اِذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيّ . فَقَالَ لَهُ صَاحِبه : لَا تَقُلْ نَبِيّ لَوْ سَمِعَك فَإِنَّ لَهُ أَرْبَعَة أَعْيُن . فَأَتَيَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْع آيَات بَيِّنَات , فَقَالَ لَهُمْ : ( لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَان وَلَا تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَة وَلَا تُوَلُّوا يَوْم الزَّحْف وَعَلَيْكُمْ خَ
اصَّة يَهُود أَلَّا تَعْدُوا فِي السَّبْت ) . فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا : نَشْهَد أَنَّك نَبِيّ . قَالَ : ( فَمَا يَمْنَعكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي ) قَالُوا : إِنَّ دَاوُد دَعَا بِأَلَّا يُزَال مِنْ ذُرِّيَّته نَبِيّ وَإِنَّا نَخَاف إِنْ اِتَّبَعْنَاك أَنْ تَقْتُلنَا يَهُود . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَسَيَأْتِي لَفْظه فِي سُورَة " سُبْحَان " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

مَعْنَاهُ فِي يَوْم السَّبْت , وَيُحْتَمَل أَنْ يُرِيد فِي حُكْم السَّبْت . وَالْأَوَّل قَوْل الْحَسَن , وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا فِيهِ الْحِيتَان عَلَى جِهَة الِاسْتِحْلَال . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : زَعَمَ اِبْن رُومَان أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذ الرَّجُل مِنْهُمْ خَيْطًا وَيَضَع فِيهِ وَهْقَة وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَب الْحُوت , وَفِي الطَّرَف الْآخَر مِنْ الْخَيْط وَتَد وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى الْأَحَد , ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاس حِين رَأَوْا مَنْ صَنَعَ لَا يُبْتَلَى , حَتَّى كَثُرَ صَيْد الْحُوت وَمُشِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاق , وَأَعْلَنَ الْفَسَقَة بِصَيْدِهِ . فَقَامَتْ فِرْقَة فَنَهَتْ وَجَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ . وَيُقَال : إِنَّ النَّاهِينَ قَالُوا : لَا نُسَاكِنكُمْ , فَقَسَمُوا الْقَرْيَة بِجِدَارٍ . فَأَصْبَحَ النَّاهُونَ ذَات يَوْم فِي مَجَالِسهمْ وَلَمْ يَخْرُج مِنْ الْمُعْتَدِينَ أَحَد , فَقَالُوا : إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا , فَعَلَوْا عَلَى الْجِدَار فَنَظَرُوا فَإِذَا هُمْ قِرَدَة , فَفَتَحُوا الْبَاب وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ , فَعَرَفَتْ الْقِرَدَة أَنْسَابهَا مِنْ الْإِنْس , وَلَا يَعْرِف الْإِنْس أَنْسَابهمْ مِنْ الْقِرَدَة , فَجَعَلَتْ الْقِرَدَة تَأْتِي نَسِيبهَا مِنْ الْإِنْس فَتَشُمّ ثِيَابه وَتَبْكِي , فَيَقُول : أَلَمْ نَنْهَكُمْ فَتَقُول بِرَأْسِهَا نَعَمْ . قَالَ قَتَادَة : صَارَ الشُّبَّان قِرَدَة , وَالشُّيُوخ خَنَازِير , فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرهمْ . وَسَيَأْتِي فِي " الْأَعْرَاف " قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاث فِرَق . وَهُوَ أَصَحّ مِنْ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّهُمْ لَمْ يَفْتَرِقُوا إِلَّا فِرْقَتَيْنِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَالسَّبْت مَأْخُوذ مِنْ السَّبْت وَهُوَ الْقَطْع , فَقِيلَ : إِنَّ الْأَشْيَاء سَبَتَتْ وَتَمَّتْ خِلْقَتهَا . وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ السُّبُوت الَّذِي هُوَ الرَّاحَة وَالدَّعَة . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَمْسُوخ هَلْ يَنْسِل عَلَى قَوْلَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاج : قَالَ قَوْم يَجُوز أَنْ تَكُون هَذِهِ الْقِرَدَة مِنْهُمْ . وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ . وَقَالَ الْجُمْهُور : الْمَمْسُوخ لَا يَنْسِل وَإِنَّ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير وَغَيْرهمَا كَانَتْ قَبْل ذَلِكَ , وَاَلَّذِينَ مَسَخَهُمْ اللَّه قَدْ هَلَكُوا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ نَسْل ; لِأَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُمْ السُّخْط وَالْعَذَاب , فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَرَار فِي الدُّنْيَا بَعْد ثَلَاثَة أَيَّام . قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يَعِشْ مَسْخ قَطُّ فَوْق ثَلَاثَة أَيَّام , وَلَمْ يَأْكُل وَلَمْ يَشْرَب وَلَمْ يَنْسِل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ أَنَّ الْمَمْسُوخ لَا يَنْسِل , وَلَا يَأْكُل وَلَا يَشْرَب وَلَا يَعِيش أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام . قُلْت : هَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا مَا اِحْتَجَّ بِهِ اِبْن الْعَرَبِيّ وَغَيْره عَلَى صِحَّة الْقَوْل الْأَوَّل مِنْ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فُقِدَتْ أُمَّة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلَا أَرَاهَا إِلَّا الْفَأْر أَلَا تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَان الْإِبِل لَمْ تَشْرَبهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَان الشَّاء شَرِبَتْهُ ) . رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَبِحَدِيثِ الضَّبّ رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيد وَجَابِر , قَالَ جَابِر : أُتِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ فَأَبَى أَنْ يَأْكُل مِنْهُ , وَقَالَ : ( لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنْ الْقُرُون الَّتِي مُسِخَتْ ) فَمُتَأَوَّل عَلَى مَا يَأْتِي . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : /و فِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة قِرَدَة قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتهَا مَعَهُمْ . ثَبَتَ فِي بَعْض نُسَخ الْبُخَارِيّ وَسَقَطَ فِي بَعْضهَا , وَثَبَتَ فِي نَصّ الْحَدِيث " قَدْ زَنَتْ " وَسَقَطَ هَذَا اللَّفْظ عِنْد بَعْضهمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ قِيلَ : وَكَأَنَّ الْبَهَائِم بَقِيَتْ فِيهِمْ مَعَارِف الشَّرَائِع حَتَّى وَرِثُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَف إِلَى زَمَان عَمْرو ؟ قُلْنَا : نَعَمْ كَذَلِكَ كَانَ , لِأَنَّ الْيَهُود غَيَّرُوا الرَّجْم فَأَرَادَ اللَّه أَنْ يُقِيمهُ فِي مُسُوخهمْ حَتَّى يَكُون أَبْلَغ فِي الْحُجَّة عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَغَيَّرُوهُ , حَتَّى تَشْهَد عَلَيْهِمْ كُتُبهمْ وَأَحْبَارهمْ وَمُسُوخهمْ , حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّه يَعْلَم مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ , وَيُحْصِي مَا يُبَدِّلُونَ وَمَا يُغَيِّرُونَ , وَيُقِيم عَلَيْهِمْ الْحُجَّة مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَيَنْصُر نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام , وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ . قُلْت : هَذَا كَلَامه فِي الْأَحْكَام , وَلَا حُجَّة فِي شَيْء مِنْهُ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّة عَمْرو فَذَكَرَ الْحُمَيْدِيّ فِي جَمْع الصَّحِيحَيْنِ : حَكَى أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ أَنَّ لِعَمْرِو بْن مَيْمُون الْأَوْدِيّ فِي الصَّحِيحَيْنِ حِكَايَة مِنْ رِوَايَة حُصَيْن عَنْهُ قَالَ : رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة قِرَدَة اِجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَة فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتهَا مَعَهُمْ . كَذَا حَكَى أَبُو مَسْعُود وَلَمْ يَذْكُر فِي أَيّ مَوْضِع أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ كِتَابه , فَبَحَثْنَا عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُ فِي بَعْض النُّسَخ لَا فِي كُلّهَا , فَذَكَرَ فِي كِتَاب أَيَّام الْجَاهِلِيَّة . وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النُّعَيْمِيّ عَنْ الْفَرَبْرِيّ أَصْلًا شَيْء مِنْ هَذَا الْخَبَر فِي الْقِرَدَة , وَلَعَلَّهَا مِنْ الْمُقْحَمَات فِي كِتَاب الْبُخَارِيّ . وَاَلَّذِي قَالَ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ الْكَبِير : قَالَ لِي نُعَيْم بْن حَمَّاد أَخْبَرَنَا هُشَيْم عَنْ أَبِي بَلْج وَحُصَيْن عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ : رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة قِرَدَة اِجْتَمَعَ عَلَيْهَا قُرُود فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتهَا مَعَهُمْ . وَلَيْسَ فِيهِ " قَدْ زَنَتْ " . فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَة فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيّ دَلَالَة عَلَى أَنَّ عَمْرو بْن مَيْمُون قَدْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّة وَلَمْ يُبَالِ بِظَنِّهِ الَّذِي ظَنَّهُ فِي الْجَاهِلِيَّة . وَذَكَرَ أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب عَمْرو بْن مَيْمُون وَأَنَّ كُنْيَته أَبُو عَبْد اللَّه " مَعْدُود فِي كِبَار التَّابِعِينَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ , وَهُوَ الَّذِي رَأَى الرَّجْم فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ الْقِرَدَة إِنْ صَحَّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ رُوَاته مَجْهُولُونَ . وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ نُعَيْم عَنْ هُشَيْم عَنْ حُصَيْن عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون الْأَوْدِيّ مُخْتَصَرًا قَالَ : رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة قِرَدَة زَنَتْ فَرَجَمُوهَا يَعْنِي الْقِرَدَة فَرَجَمْتهَا مَعَهُمْ . وَرَوَاهُ عَبَّاد بْن الْعَوَّام عَنْ حُصَيْن كَمَا رَوَاهُ هُشَيْم مُخْتَصَرًا . وَأَمَّا الْقِصَّة بِطُولِهَا فَإِنَّهَا تَدُور عَلَى عَبْد الْمَلِك بْن مُسْلِم عَنْ عِيسَى بْن حِطَّان , وَلَيْسَا مِمَّنْ يُحْتَجّ بِهِمَا . وَهَذَا عِنْد جَمَاعَة أَهْل الْعِلْم مُنْكَر إِضَافَة الزِّنَى إِلَى غَيْر مُكَلَّف , وَإِقَامَة الْحُدُود فِي الْبَهَائِم . وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا مِنْ الْجِنّ ; لِأَنَّ الْعِبَادَات فِي الْإِنْس وَالْجِنّ دُون غَيْرهمَا " . وَأَمَّا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : ( وَلَا أَرَاهَا إِلَّا الْفَأْر ) وَفِي الضَّبّ : ( لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنْ الْقُرُون الَّتِي مُسِخَتْ ) وَمَا كَانَ مِثْله , فَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا وَخَوْفًا لِأَنْ يَكُون الضَّبّ وَالْفَأْر وَغَيْرهمَا مِمَّا مُسِخَ , وَكَانَ هَذَا حَدْسًا مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل لِلْمَسْخِ نَسْلًا , فَلَمَّا أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ التَّخَوُّف , وَعَلِمَ أَنَّ الضَّبّ وَالْفَأْر لَيْسَا مِمَّا مُسِخَ , وَعِنْد ذَلِكَ أَخْبَرَنَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير : هِيَ مِمَّا مُسِخَ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّه لَمْ يُهْلِك قَوْمًا أَوْ يُعَذِّب قَوْمًا فَيَجْعَل لَهُمْ نَسْلًا وَإِنَّ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير كَانُوا قَبْل ذَلِكَ ) . وَهَذَا نَصّ صَرِيح صَحِيح رَوَاهُ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي كِتَاب الْقَدَر . وَثَبَتَتْ النُّصُوص بِأَكْلِ الضَّبّ بِحَضْرَتِهِ وَعَلَى مَائِدَته وَلَمْ يُنْكِر , فَدَلَّ عَلَى صِحَّة مَا ذَكَرْنَا . وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقنَا . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد فِي تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة أَنَّهُ إِنَّمَا مُسِخَتْ قُلُوبهمْ فَقَطْ , وَرُدَّتْ أَفْهَامهمْ كَأَفْهَامِ الْقِرَدَة . وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا أَعْلَم , وَاَللَّه أَعْلَم .

" قِرَدَة " خَبَر كَانَ . " خَاسِئِينَ " نَعْت , وَإِنْ شِئْت جَعَلْته خَبَرًا ثَانِيًا لِكَانَ , أَوْ حَالًا مِنْ الضَّمِير فِي " كُونُوا " . وَمَعْنَاهُ مُبْعَدِينَ . يُقَال : خَسَأْته فَخَسَأَ وَخُسِئَ , وَانْخَسَأَ أَيْ أَبْعَدْته فَبَعُدَ . وَقَوْله تَعَالَى : " يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خَاسِئًا " [ الْمُلْك : 4 ] أَيْ مُبْعَدًا . وَقَوْلُهُ : " اِخْسَئُوا فِيهَا " [ الْمُؤْمِنُونَ : 108 ] أَيْ تَبَاعَدُوا . تَبَاعُد سُخْط . قَالَ الْكِسَائِيّ : خَسَأَ الرَّجُل خُسُوءًا , وَخَسَأْته خَسْأً . وَيَكُون الْخَاسِئ بِمَعْنَى الصَّاغِر الْقَمِيء . يُقَال : قَمُؤَ الرَّجُل قِمَاء وَقَمَاءَة صَارَ قَمِيئًا , وَهُوَ الصَّاغِر الذَّلِيل . وَأَقْمَأْته : صَغَّرْته وَذَلَّلْته , فَهُوَ قَمِيء عَلَى فَعِيل .
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَسورة البقرة الآية رقم 66
لِمَنْ يَعْمَل مِثْل تِلْكَ الذُّنُوب . قَالَ الْفَرَّاء : جُعِلَتْ الْمَسْخَة نَكَالًا لِمَا مَضَى مِنْ الذُّنُوب , وَلِمَا يُعْمَل بَعْدهَا لِيَخَافُوا الْمَسْخ بِذُنُوبِهِمْ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل جَيِّد , وَالضَّمِيرَانِ لِلْعُقُوبَةِ . وَرَوَى الْحَكَم عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس : لِمَنْ حَضَرَ مَعَهُمْ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدهمْ . وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس , قَالَ : وَهُوَ أَشْبَه بِالْمَعْنَى , وَاَللَّه أَعْلَم . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . " لِمَا بَيْن يَدَيْهَا وَمَا خَلْفهَا " مِنْ الْقُرَى . وَقَالَ قَتَادَة : " لِمَا بَيْن يَدَيْهَا " مِنْ ذُنُوبهمْ " وَمَا خَلْفهَا " مِنْ صَيْد الْحِيتَان .


عَطْف عَلَى نَكَال , وَوَزْنهَا مَفْعِلَة مِنْ الِاتِّعَاظ وَالِانْزِجَار . وَالْوَعْظ : التَّخْوِيف . وَالْعِظَة الِاسْم . قَالَ الْخَلِيل : الْوَعْظ التَّذْكِير بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقّ لَهُ الْقَلْب . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ وَإِنْ كَانَتْ مَوْعِظَة لِلْعَالَمِينَ لِتَفَرُّدِهِمْ بِهَا عَنْ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاللَّفْظ يَعُمّ كُلّ مُتَّقٍ مِنْ كُلّ أُمَّة , وَقَالَ الزَّجَّاج " وَمَوْعِظَة لِلْمُتَّقِينَ " لِأُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْتَهِكُوا مِنْ حُرَم اللَّه جَلَّ وَعَزَّ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ فَيُصِيبهُمْ مَا أَصَابَ أَصْحَاب السَّبْت ; إِذْ اِنْتَهَكُوا حُرَم اللَّه فِي سَبْتهمْ

نَصْب عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي . وَفِي الْمَجْعُول نَكَالًا أَقَاوِيل , قِيلَ : الْعُقُوبَة . وَقِيلَ : الْقَرْيَة ; إِذْ مَعْنَى الْكَلَام يَقْتَضِيهَا وَقِيلَ : الْأُمَّة الَّتِي مُسِخَتْ . وَقِيلَ : الْحِيتَان , وَفِيهِ بُعْد . وَالنَّكَال : الزَّجْر وَالْعِقَاب . وَالنِّكْل وَالْأَنْكَال : الْقُيُود . وَسُمِّيَتْ الْقُيُود أَنْكَالًا لِأَنَّهَا يُنْكَل بِهَا , أَيْ يُمْنَع . وَيُقَال لِلِّجَامِ الثَّقِيل : نَكْل وَنِكْل ; لِأَنَّ الدَّابَّة تُمْنَع بِهِ وَنَكَلَ عَنْ الْأَمْر يَنْكُل , وَنَكِلَ يَنْكَل إِذَا اِمْتَنَعَ . وَالتَّنْكِيل : إِصَابَة الْأَعْدَاء بِعُقُوبَةٍ تُنَكِّل مَنْ وَرَاءَهُمْ , أَيْ تُجَبِّنهُمْ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : النَّكَال الْعُقُوبَة . اِبْن دُرَيْد : وَالْمَنْكَل : الشَّيْء الَّذِي يُنَكِّل بِالْإِنْسَانِ , قَالَ : فَارْمِ عَلَى أَقْفَائِهِمْ بِمَنْكَل


قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ : لِمَا بَيْن يَدَيْ الْمَسْخَة مَا قَبْلهَا مِنْ ذُنُوب الْقَوْم .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَسورة البقرة الآية رقم 67
حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو أَنَّهُ قَرَأَ " يَأْمُركُمْ " بِالسُّكُونِ , وَحَذْف الضَّمَّة مِنْ الرَّاء لِثِقَلِهَا . قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد : لَا يَجُوز هَذَا لِأَنَّ الرَّاء حَرْف الْإِعْرَاب , وَإِنَّمَا الصَّحِيح عَنْ أَبِي عَمْرو أَنَّهُ كَانَ يَخْتَلِس الْحَرَكَة . " أَنْ تَذْبَحُوا " فِي مَوْضِع نَصْب بِـ " يَأْمُركُمْ " أَيْ بِأَنْ تَذْبَحُوا . " بَقَرَة " نَصْب بِـ " تَذْبَحُوا " . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الذَّبْح فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ . " إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة " مُقَدَّم فِي التِّلَاوَة وَقَوْله " قَتَلْتُمْ نَفْسًا " مُقَدَّم فِي الْمَعْنَى عَلَى جَمِيع مَا اِبْتَدَأَ بِهِ مِنْ شَأْن الْبَقَرَة . وَيَجُوز أَنْ يَكُون قَوْله : " قَتَلْتُمْ " فِي النُّزُول مُقَدَّمًا , وَالْأَمْر بِالذَّبْحِ مُؤَخَّرًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون تَرْتِيب نُزُولهَا عَلَى حَسَب تِلَاوَتهَا , فَكَأَنَّ اللَّه أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَة حَتَّى ذَبَحُوهَا ثُمَّ وَقَعَ مَا وَقَعَ فِي أَمْر الْقَتْل , فَأُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا , وَيَكُون " وَإِذْ قَتَلْتُمْ " مُقَدَّمًا فِي الْمَعْنَى عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل حَسَب مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْوَاو لَا تُوجِب التَّرْتِيب . وَنَظِيره فِي التَّنْزِيل فِي قِصَّة نُوح بَعْد ذِكْر الطُّوفَان وَانْقِضَائِهِ فِي قَوْله : " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرنَا وَفَارَ التَّنُّور قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ " إِلَى قَوْله " إِلَّا قَلِيل " [ هُود : 40 ] . فَذَكَرَ إِهْلَاك مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : " وَقَالَ اِرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا " [ هُود : 41 ] . فَذَكَرَ الرُّكُوب مُتَأَخِّرًا فِي الْخِطَاب , وَمَعْلُوم أَنَّ رُكُوبهمْ كَانَ قَبْل الْهَلَاك . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْده الْكِتَاب وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا " [ هُود : 19 ] . وَتَقْدِيره : أَنْزَلَ عَلَى عَبْده الْكِتَاب قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا , وَمِثْله فِي الْقُرْآن كَثِير . لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ الذَّبْح أَوْلَى فِي الْغَنَم , وَالنَّحْر أَوْلَى فِي الْإِبِل , وَالتَّخَيُّر فِي الْبَقَر . وَقِيلَ : الذَّبْح أَوْلَى ; لِأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه , وَلِقُرْبِ الْمَنْحَر مِنْ الْمَذْبَح . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا أَعْلَم أَحَدًا حَرَّمَ أَكْل مَا نُحِرَ مِمَّا يُذْبَح , أَوْ ذُبِحَ مِمَّا يُنْحَر . وَكَرِهَ مَالِك ذَلِكَ . وَقَدْ يَكْرَه الْمَرْء الشَّيْء وَلَا يُحَرِّمهُ . وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " الْمَائِدَة " أَحْكَام الذَّبْح وَالذَّابِح وَشَرَائِطهمَا عِنْد قَوْله تَعَالَى : " إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ " [ الْمَائِدَة : 3 ] مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَإِنَّمَا أُمِرُوا وَاَللَّه أَعْلَم بِذَبْحِ بَقَرَة دُون غَيْرهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ جِنْس مَا عَبَدُوهُ مِنْ الْعِجْل لِيُهَوِّن عِنْدهمْ مَا كَانَ يَرَوْنَهُ مِنْ تَعْظِيمه , وَلِيَعْلَم بِإِجَابَتِهِمْ مَا كَانَ فِي نُفُوسهمْ مِنْ عِبَادَته . وَهَذَا الْمَعْنَى عِلَّة فِي ذَبْح الْبَقَرَة , وَلَيْسَ بَعِلَّة فِي جَوَاب السَّائِل , وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ يَحْيَا الْقَتِيل بِقَتْلِ حَيّ , فَيَكُون أَظْهَر لِقُدْرَتِهِ فِي اِخْتِرَاع الْأَشْيَاء مِنْ أَضْدَادهَا . " بَقَرَة " الْبَقَرَة اِسْم لِلْأُنْثَى , وَالثَّوْر اِسْم لِلذَّكَرِ مِثْل نَاقَة وَجَمَل وَامْرَأَة وَرَجُل . وَقِيلَ : الْبَقَرَة وَاحِد الْبَقَر , الْأُنْثَى وَالذَّكَر سَوَاء . وَأَصْله مِنْ قَوْلك : بَقَرَ بَطْنه , أَيْ شَقَّهُ , فَالْبَقَرَة تَشُقّ الْأَرْض بِالْحَرْثِ وَتُثِيرهُ . وَمِنْهُ الْبَاقِر لِأَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ زَيْن الْعَابِدِينَ ; لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْم وَعَرَفَ أَصْله , أَيْ شَقَّهُ . وَالْبَقِيرَة : ثَوْب يُشَقّ فَتُلْقِيه الْمَرْأَة فِي عُنُقهَا مِنْ غَيْر كُمَّيْنِ . وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي شَأْن الْهُدْهُد ( فَبَقَرَ الْأَرْض ) . قَالَ شَمِر : بَقَرَ نَظَرَ مَوْضِع الْمَاء , فَرَأَى الْمَاء تَحْت الْأَرْض . قَالَ الْأَزْهَرِيّ : الْبَقَر اِسْم لِلْجِنْسِ وَجَمْعه بَاقِر . اِبْن عَرَفَة : يُقَال بَقِير وَبَاقِر وَبَيْقُور . وَقَرَأَ عِكْرِمَة وَابْن يَعْمُر " إِنَّ الْبَاقِر " . وَالثَّوْر : وَاحِد الثِّيرَان . وَالثَّوْر : السَّيِّد مِنْ الرِّجَال . وَالثَّوْر الْقِطْعَة مِنْ الْأَقِط . وَالثَّوْر : الطُّحْلُب وَثَوْر جَبَل . وَثَوْر : قَبِيلَة مِنْ الْعَرَب . وَفِي الْحَدِيث : ( وَوَقْت الْعِشَاء مَا لَمْ يَغِبْ ثَوْر الشَّفَق ) يَعْنِي اِنْتِشَاره , يُقَال : ثَارَ يَثُور ثَوْرًا وَثَوَرَانًا إِذَا اِنْتَشَرَ فِي الْأُفُق وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ أَرَادَ الْعِلْم فَلْيُثَوِّرْ الْقُرْآن ) . قَالَ شَمِر : تَثْوِير الْقُرْآن قِرَاءَته وَمُفَاتَشَة الْعُلَمَاء بِهِ .


هَذَا جَوَاب مِنْهُمْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا قَالَ , لَهُمْ : " إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة " [ الْبَقَرَة : 67 ] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا قَتِيلًا بَيْن أَظْهُرهمْ قِيلَ : اِسْمه عاميل وَاشْتَبَهَ أَمْر قَاتِله عَلَيْهِمْ , وَوَقَعَ بَيْنهمْ خِلَاف , فَقَالُوا : نَقْتَتِل وَرَسُول اللَّه بَيْن أَظْهُرنَا , فَأَتَوْهُ وَسَأَلُوهُ الْبَيَان - وَذَلِكَ قَبْل نُزُول الْقَسَامَة فِي التَّوْرَاة , فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُو اللَّه فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام رَبّه فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَة , فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ مُوسَى وَلَيْسَ فِي ظَاهِره جَوَاب عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ وَاحْتَكَمُوا فِيهِ عِنْده , قَالُوا : أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا وَالْهُزْء : اللَّعِب وَالسُّخْرِيَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ " أَيَتَّخِذُنَا " بِالْيَاءِ , أَيْ قَالَ ذَلِكَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِقَوْلِهِ : " أَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُون مِنْ الْجَاهِلِينَ " [ الْبَقَرَة : 67 ] لِأَنَّ الْخُرُوج عَنْ جَوَاب السَّائِل الْمُسْتَرْشِد إِلَى الْهُزْء جَهْل , فَاسْتَعَاذَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام , لِأَنَّهَا صِفَة تَنْتِفِي عَنْ الْأَنْبِيَاء . وَالْجَهْل نَقِيض الْعِلْم . فَاسْتَعَاذَ مِنْ الْجَهْل , كَمَا جَهِلُوا فِي قَوْلهمْ : أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا , لِمَنْ يُخْبِرهُمْ عَنْ اللَّه تَعَالَى , وَظَاهِر هَذَا الْقَوْل يَدُلّ عَلَى فَسَاد اِعْتِقَاد مَنْ قَالَهُ . وَلَا يَصِحّ إِيمَان مَنْ قَالَ لِنَبِيٍّ قَدْ ظَهَرَتْ مُعْجِزَته , وَقَالَ : إِنَّ اللَّه يَأْمُرك بِكَذَا : أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ الْيَوْم أَحَد عَنْ بَعْض أَقْوَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَجَبَ تَكْفِيره . وَذَهَبَ قَوْم إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَة غِلَظ الطَّبْع وَالْجَفَاء وَالْمَعْصِيَة , عَلَى نَحْو مَا قَالَ الْقَائِل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَة غَنَائِم حُنَيْن : إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَة مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْه اللَّه . وَكَمَا قَالَ لَهُ الْآخَر : اِعْدِلْ يَا مُحَمَّد وَفِي هَذَا كُلّه أَدَلّ دَلِيل عَلَى قُبْح الْجَهْل , وَأَنَّهُ مُفْسِد لِلدِّينِ . " هُزُوًا " مَفْعُول ثَانٍ , وَيَجُوز تَخْفِيف الْهَمْزَة تَجْعَلهَا بَيْن الْوَاو وَالْهَمْزَة . وَجَعَلَهَا حَفْص وَاوًا مَفْتُوحَة ; لِأَنَّهَا هَمْزَة مَفْتُوحَة قَبْلهَا ضَمَّة فَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْبَدَل , كَقَوْلِهِ : " السُّفَهَاء وَلَكِنْ " . وَيَجُوز حَذْف الضَّمَّة مِنْ الزَّاي كَمَا تَحْذِفهَا مِنْ عَضُد , فَتَقُول : هُزُؤًا , كَمَا قَرَأَ أَهْل الْكُوفَة , وَكَذَلِكَ " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤًا أَحَد " . وَحَكَى الْأَخْفَش عَنْ عِيسَى بْن عُمَر أَنَّ كُلّ اِسْم عَلَى ثَلَاثَة أَحْرُف أَوَّلُهُ مَضْمُوم فَفِيهِ لُغَتَانِ : التَّخْفِيف وَالتَّثْقِيل , نَحْو الْعُسْر وَالْيُسْر وَالْهُزْء . وَمِثْله مَا كَانَ مِنْ الْجَمْع عَلَى فُعُل كَكُتُبٍ وَكُتْب , وَرُسُل وَرُسْل , وَعُوُن وَعُون . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : " وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَاده جُزْءًا " [ الزُّخْرُف : 15 ] فَلَيْسَ مِثْل هُزْء وَكُفْء ; لِأَنَّهُ عَلَى فُعْل , مِنْ الْأَصْل . عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . مَسْأَلَة : فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى مَنْع الِاسْتِهْزَاء بِدِينِ اللَّه وَدِين الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَجِب تَعْظِيمه , وَأَنَّ ذَلِكَ جَهْل وَصَاحِبه مُسْتَحِقّ لِلْوَعِيدِ . وَلَيْسَ الْمُزَاح مِنْ الِاسْتِهْزَاء بِسَبِيلٍ , أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْزَح وَالْأَئِمَّة بَعْده . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ إِلَى عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَة فَمَازَحَهُ عُبَيْد اللَّه فَقَالَ : جُبَّتك هَذِهِ مِنْ صُوف نَعْجَة أَوْ صُوف كَبْش فَقَالَ لَهُ : لَا تَجْهَل أَيّهَا الْقَاضِي فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّه : وَأَيْنَ وَجَدْت الْمُزَاح جَهْلًا فَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة , فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُبَيْد اللَّه ; لِأَنَّهُ رَآهُ جَاهِلًا لَا يَعْرِف الْمَزْح مِنْ الِاسْتِهْزَاء , وَلَيْسَ أَحَدهمَا مِنْ الْآخَر بِسَبِيلٍ .
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرُونَسورة البقرة الآية رقم 68
هَذَا تَعْنِيت مِنْهُمْ وَقِلَّة طَوَاعِيَة , وَلَوْ اِمْتَثَلُوا الْأَمْر وَذَبَحُوا أَيّ بَقَرَة كَانَتْ لَحَصَلَ الْمَقْصُود , لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسهمْ فَشَدَّدَ اللَّه عَلَيْهِمْ , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو الْعَالِيَة وَغَيْرهمَا . وَنَحْو ذَلِكَ رَوَى الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلُغَة بَنِي عَامِر " اُدْعُ " .


مَجْزُوم عَلَى جَوَاب الْأَمْر


اِبْتِدَاء وَخَبَر وَمَاهِيَّة الشَّيْء : حَقِيقَته وَذَاته الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا .

فِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز النَّسْخ قَبْل وَقْت الْفِعْل ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِبَقَرَةٍ اِقْتَضَى أَيّ بَقَرَة كَانَتْ , فَلَمَّا زَادَ فِي الصِّفَة نَسَخَ الْحُكْم الْأَوَّل بِغَيْرِهِ , كَمَا لَوْ قَالَ : فِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْإِبِل بِنْت مَخَاض , ثُمَّ نَسَخَهُ بِابْنَةِ لَبُون أَوْ حِقَّة . وَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا عَيَّنَ الصِّفَة صَارَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّم . وَالْفَارِض : الْمُسِنَّة . وَقَدْ فَرَضَتْ تَفْرِض فُرُوضًا , أَيْ أَسَنَّتْ . وَيُقَال لِلشَّيْءِ الْقَدِيم فَارِض , قَالَ الرَّاجِز : شَيَّبَ أَصْدَاغِي فَرَأْسِي أَبْيَض مَحَامِل فِيهَا رِجَال فُرَّض يَعْنِي هَرْمَى , قَالَ آخَر : لَعَمْرك قَدْ أَعْطَيْت جَارك فَارِضًا تُسَاق إِلَيْهِ مَا تَقُوم عَلَى رِجْل أَيْ قَدِيمًا , وَقَالَ آخَر : يَا رُبَّ ذِي ضِغْن عَلَيَّ فَارِض لَهُ قُرُوء كَقُرُوءِ الْحَائِض أَيْ قَدِيم . وَ " لَا فَارِض " رَفْع عَلَى الصِّفَة لِبَقَرَةٍ . " وَلَا بِكْر " عِطْف . وَقِيلَ : " لَا فَارِض " خَبَر مُبْتَدَأ مُضْمَر , أَيْ لَا هِيَ فَارِض وَكَذَا " لَا ذَلُول " , وَكَذَلِكَ " لَا تَسْقِ الْحَرْث " وَكَذَلِكَ " مُسَلَّمَة " فَاعْلَمْهُ . وَقِيلَ : الْفَارِض الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بُطُونًا كَثِيرَة فَيَتَّسِع جَوْفهَا لِذَلِكَ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْفَارِض فِي اللُّغَة الْوَاسِع , قَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ . وَالْبِكْر : الصَّغِيرَة الَّتِي لَمْ تَحْمِل . وَحَكَى الْقُتَبِيّ أَنَّهَا الَّتِي وَلَدَتْ . وَالْبِكْر : الْأَوَّل مِنْ الْأَوْلَاد , قَالَ : يَا بِكْر بِكْرَيْنِ وَيَا خِلْب الْكَبِد أَصْبَحْت مِنِّي كَذِرَاع مِنْ عَضُد وَالْبِكْر أَيْضًا فِي إِنَاث الْبَهَائِم وَبَنِي آدَم : مَا لَمْ يَفْتَحِلهُ الْفَحْل , وَهِيَ مَكْسُورَة الْبَاء . وَبِفَتْحِهَا الْفَتِيّ مِنْ الْإِبِل . وَالْعَوَان : النِّصْف الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ , وَهِيَ أَقْوَى مَا تَكُون مِنْ الْبَقَر وَأَحْسَنه , بِخِلَافِ الْخَيْل , قَالَ الشَّاعِر يَصِف فَرَسًا : كُمَيْت بَهِيم اللَّوْن لَيْسَ بِفَارِضٍ وَلَا بِعَوَانٍ ذَات لَوْن مُخَصَّف فَرَس أُخْصَف : إِذَا اِرْتَفَعَ الْبَلَق مِنْ بَطْنه إِلَى جَنْبه . وَقَالَ مُجَاهِد : الْعَوَان مِنْ الْبَقَرَة هِيَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ مَرَّة بَعْد مَرَّة . وَحَكَاهُ أَهْل اللُّغَة . وَيُقَال : إِنَّ الْعَوَان النَّخْلَة الطَّوِيلَة , وَهِيَ فِيمَا زَعَمُوا لُغَة يَمَانِيَّة . وَحَرْب عَوَان : إِذَا كَانَ قَبْلهَا حَرْب بِكْر , قَالَ زُهَيْر : إِذَا لَقِحَتْ حَرْب عَوَان مُضِرَّة ضَرُوس تُهِرّ النَّاس أَنْيَابهَا عُصْل أَيْ لَا هِيَ صَغِيرَة وَلَا هِيَ مُسِنَّة , أَيْ هِيَ عَوَان , وَجَمْعهَا " عُوْن " بِضَمِّ الْعَيْن وَسُكُون الْوَاو وَسُمِعَ " عُوُن " بِضَمِّ الْوَاو كَرُسُلٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَحَكَى الْفَرَّاء مِنْ الْعَوَان عَوَّنَتْ تَعْوِينًا .

تَجْدِيد لِلْأَمْرِ وَتَأْكِيد وَتَنْبِيه عَلَى تَرْك التَّعَنُّت فَمَا تَرَكُوهُ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْر الْوُجُوب كَمَا تَقُولهُ الْفُقَهَاء , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا هُوَ مَذْكُور فِي أُصُول الْفِقْه , وَعَلَى أَنَّ الْأَمْر عَلَى الْفَوْر , وَهُوَ مَذْهَب أَكْثَر الْفُقَهَاء أَيْضًا وَيَدُلّ عَلَى صِحَّة ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى اِسْتَقْصَرَهُمْ حِين لَمْ يُبَادِرُوا إِلَى فِعْل مَا أُمِرُوا بِهِ فَقَالَ : " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " [ الْبَقَرَة : 71 ] . وَقِيلَ : لَا , بَلْ عَلَى التَّرَاخِي ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَنِّفْهُمْ عَلَى التَّأْخِير وَالْمُرَاجَعَة فِي الْخِطَاب . قَالَهُ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد .
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَسورة البقرة الآية رقم 69
" مَا " اِسْتِفْهَام مُبْتَدَأَة وَ " لَوْنُهَا " الْخَبَر . وَيَجُوز نَصْب " لَوْنهَا بِـ " يُبَيِّن " , وَتَكُون " مَا " زَائِدَة . وَاللَّوْن وَاحِد الْأَلْوَان وَهُوَ هَيْئَة كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاض وَالْحُمْرَة . وَاللَّوْن : النَّوْع . وَفُلَان مُتَلَوِّن : إِذَا كَانَ لَا يَثْبُت عَلَى خَلَاق وَاحِد وَحَال وَاحِد , قَالَ : كُلّ يَوْم تَتَلَوَّن غَيْر هَذَا بِك أَجْمَل وَلَوَّنَ الْبُسْر تَلْوِينًا : إِذَا بَدَا فِيهِ أَثَر النُّضْج . وَاللَّوْن : الدَّقَل , وَهُوَ ضَرْب مِنْ النَّخْل . قَالَ الْأَخْفَش هُوَ جَمَاعَة , وَاحِدهَا لِينَة .


جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا صَفْرَاء اللَّوْن , مِنْ الصُّفْرَة الْمَعْرُوفَة . قَالَ مَكِّيّ عَنْ بَعْضهمْ : حَتَّى الْقَرْن وَالظِّلْف . وَقَالَ الْحَسَن وَابْن جُبَيْر : كَانَتْ صَفْرَاء الْقَرْن وَالظِّلْف فَقَطْ وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : " صَفْرَاء " مَعْنَاهُ سَوْدَاء , قَالَ الشَّاعِر : تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي هُنَّ صُفْر أَوْلَادهَا كَالزَّبِيبِ قُلْت : وَالْأَوَّل أَصَحّ لِأَنَّهُ الظَّاهِر , وَهَذَا شَاذّ لَا يُسْتَعْمَل مَجَازًا إِلَّا فِي الْإِبِل , قَالَ اللَّه تَعَالَى " كَأَنَّهُ جِمَالَة صُفْر " [ الْمُرْسَلَات : 33 ] وَذَلِكَ أَنَّ السُّود مِنْ الْإِبِل سَوَادهَا صُفْرَة . وَلَوْ أَرَاد السَّوَاد لَمَا أَكَّدَهُ بِالْفُقُوعِ , وَذَلِكَ نَعْت مُخْتَصّ بِالصُّفْرَةِ , وَلَيْسَ يُوصَف السَّوَاد بِذَلِكَ تَقُول الْعَرَب : أَسْوَد حَالِك وَحَلَكُوك وَحُلْكُوك , وَدَجُوجِيّ وَغِرْبِيب , وَأَحْمَر قَانِئ , وَأَبْيَض نَاصِع وَلَهِق وَلِهَاق وَيَقِق , وَأَخْضَر نَاضِر , وَأَصْفَر فَاقِع , هَكَذَا نَصَّ نَقَلَة اللُّغَة عَنْ الْعَرَب . قَالَ الْكِسَائِيّ : يُقَال فَقَعَ لَوْنهَا يَفْقَع فُقُوعًا إِذَا خَلَصَتْ صُفْرَته . وَالْإِفْقَاع : سُوء الْحَال . وَفَوَاقِع الدَّهْر بَوَائِقه . وَفَقَّعَ بِأَصَابِعِهِ إِذَا صَوَّتَ , وَمِنْهُ حَدِيث اِبْن عَبَّاس : نَهَى عَنْ التَّفْقِيع فِي الصَّلَاة , وَهِيَ الْفَرْقَعَة , وَهِيَ غَمْز الْأَصَابِع حَتَّى تُنْقِض . وَلَمْ يَنْصَرِف " صَفْرَاء " فِي مَعْرِفَة وَلَا نَكِرَة ; لِأَنَّ فِيهَا أَلِف التَّأْنِيث وَهِيَ مُلَازَمَة فَخَالَفَتْ الْهَاء ; لِأَنَّ مَا فِيهِ الْهَاء يَنْصَرِف فِي النَّكِرَة , كَفَاطِمَة وَعَائِشَة .


يُرِيد خَالِصًا لَوْنهَا لَا لَوْن فِيهَا سِوَى لَوْن جِلْدهَا .


قَالَ وَهْب : كَأَنَّ شُعَاع الشَّمْس يَخْرُج مِنْ جِلْدهَا , وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : الصُّفْرَة تَسُرّ النَّفْس . وَحَضَّ عَلَى لِبَاس النِّعَال الصُّفْر , حَكَاهُ عَنْهُ النَّقَّاش . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ لَبِسَ نَعْلَيْ جِلْد أَصْفَر قَلَّ هَمّه , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " صَفْرَاء فَاقِع لَوْنهَا تَسُرّ النَّاظِرِينَ " حَكَاهُ عَنْهُ الثَّعْلَبِيّ . وَنَهَى اِبْن الزُّبَيْر وَمُحَمَّد بْن أَبِي كَثِير عَنْ لِبَاس النِّعَال السُّود ; لِأَنَّهَا تُهِمّ . وَمَعْنَى " تَسُرّ " تُعْجِب . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : مَعْنَاهُ فِي سَمْتهَا وَمَنْظَرهَا فَهِيَ ذَات وَصْفَيْنِ , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَسورة البقرة الآية رقم 70
سَأَلُوا سُؤَالًا رَابِعًا , وَلَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْر بَعْد الْبَيَان . وَذَكَرَ الْبَقَر لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَمْع , وَلِذَلِكَ قَالَ : " إِنَّ الْبَقَر تَشَابَهَ عَلَيْنَا " فَذِكْرُهُ لِلَّفْظِ تَذْكِير الْبَقَر . قَالَ قُطْرُب : جَمْع الْبَقَرَة بَاقِر وَبَاقُور وَبَقَر . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : الْبَاقِر جَمْع بَاقِرَة , قَالَ : وَيُجْمَع بَقَر عَلَى بَاقُورَة , حَكَاهُ النَّحَّاس . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى : إِنَّ جِنْس الْبَقَر . وَقَرَأَ الْحَسَن فِيمَا ذَكَرَ النَّحَّاس , وَالْأَعْرَج فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ " إِنَّ الْبَقَر تَشَّابَهُ " بِالتَّاءِ وَشَدّ الشِّين , جَعَلَهُ فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا وَأَنَّثَهُ . وَالْأَصْل تَتَشَابَهُ , ثُمَّ أُدْغِمَ التَّاء فِي الشِّين . وَقَرَأَ مُجَاهِد " تَشَّبَّهُ " كَقِرَاءَتِهِمَا , إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ أَلِف . وَفِي مُصْحَف أُبَيّ " تَشَّابَهَتْ " بِتَشْدِيدِ الشِّين . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَهُوَ غَلَط ; لِأَنَّ التَّاء فِي هَذَا الْبَاب لَا تُدْغَم إِلَّا فِي الْمُضَارَعَة . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمُر " إِنَّ الْبَاقِر يَشَّابَه " جَعَلَهُ فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا , وَذَكَرَ الْبَقَر وَأَدْغَمَ . وَيَجُوز " إِنَّ الْبَقَر تَشَابَهُ " بِتَخْفِيفِ الشِّين وَضَمّ الْهَاء , وَحَكَاهَا الثَّعْلَبِيّ عَنْ الْحَسَن . النَّحَّاس : وَلَا يَجُوز " يَشَابَه " بِتَخْفِيفِ الشِّين وَالْيَاء , وَإِنَّمَا جَازَ فِي التَّاء لِأَنَّ الْأَصْل تَتَشَابَه فَحُذِفَتْ لِاجْتِمَاعِ التَّاءَيْنِ . وَالْبَقَر وَالْبَاقِر وَالْبَيْقُور وَالْبَقِير لُغَات بِمَعْنًى , وَالْعَرَب تُذَكِّرهُ وَتُؤَنِّثهُ , وَإِلَى ذَلِكَ تَرْجِع مَعَانِي الْقِرَاءَات فِي " تَشَابَهَ " . وَقِيلَ إِنَّمَا قَالُوا : " إِنَّ الْبَقَر تَشَابَهَ عَلَيْنَا " لِأَنَّ وُجُوه الْبَقَر تَتَشَابَه , وَمِنْهُ حَدِيث حُذَيْفَة بْن الْيَمَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ ( فِتَنًا كَقِطْعِ اللَّيْل تَأْتِي كَوُجُوهِ الْبَقَر ) . يُرِيد أَنَّهَا يُشْبِه بَعْضهَا بَعْضًا . وَوُجُوه الْبَقَر تَتَشَابَه ; وَلِذَلِكَ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيل : إِنَّ الْبَقَر تَشَابَهَ عَلَيْنَا .


اِسْتِثْنَاء مِنْهُمْ , وَفِي اِسْتِثْنَائِهِمْ فِي هَذَا السُّؤَال الْأَخِير إِنَابَة مَا وَانْقِيَاد , وَدَلِيل نَدَم عَلَى عَدَم مُوَافَقَة الْأَمْر . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَوْ مَا اِسْتَثْنَوْا مَا اِهْتَدَوْا إِلَيْهَا أَبَدًا ) . وَتَقْدِير الْكَلَام وَإِنَّا لَمُهْتَدُونَ إِنْ شَاءَ اللَّه . فَقَدَّمَ عَلَى ذِكْر الِاهْتِدَاء اِهْتِمَامًا بِهِ . وَ " شَاءَ " فِي مَوْضِع جَزْم بِالشَّرْطِ , وَجَوَابه عِنْد سِيبَوَيْهِ الْجُمْلَة " إِنْ " وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ . وَعِنْد أَبِي الْعَبَّاس الْمُبَرِّد مَحْذُوف .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَسورة البقرة الآية رقم 71
قَرَأَ الْجُمْهُور " لَا ذَلُولٌ " بِالرَّفْعِ عَلَى , الصِّفَة لِبَقَرَة . قَالَ الْأَخْفَش : " لَا ذَلُول " نَعْته وَلَا يَجُوز نَصْبه . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ " لَا ذَلُول " بِالنَّصْبِ عَلَى النَّفْي وَالْخَبَر مُضْمَر . وَيَجُوز لَا هِيَ ذَلُول , لَا هِيَ تَسْقِي الْحَرْث , هِيَ مُسَلَّمَة . وَمَعْنَى " لَا ذَلُول " لَمْ يُذَلِّلهَا الْعَمَل , يُقَال : بَقَرَة مُذَلَّلَة بَيِّنَة الذِّلّ ( بِكَسْرِ الذَّال ) . وَرَجُل ذَلِيل بَيِّن الذُّلّ ( بِضَمِّ الذَّال ) . أَيْ هِيَ بَقَرَة صَعْبَة غَيْر رَيِّضَة لَمْ تُذَلَّل بِالْعَمَلِ .


" تُثِير " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى الصِّفَة لِلْبَقَرَةِ أَيْ هِيَ بَقَرَة لَا ذَلُول مُثِيرَة . قَالَ الْحَسَن : وَكَانَتْ تِلْكَ الْبَقَرَة وَحْشِيَّة ; وَلِهَذَا وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهَا لَا تُثِير الْأَرْض وَلَا تَسْقِي الْحَرْث أَيْ لَا يُسْنَى بِهَا لِسَقْيِ الزَّرْع وَلَا يُسْقَى عَلَيْهَا . وَالْوَقْف هَاهُنَا حَسَن . وَقَالَ قَوْم : " تُثِير " فِعْل مُسْتَأْنَف , وَالْمَعْنَى إِيجَاب الْحَرْث لَهَا , وَأَنَّهَا كَانَتْ تَحْرُث وَلَا تَسْقِي . وَالْوَقْف عَلَى هَذَا التَّأْوِيل " لَا ذَلُول " وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : مَا ذَكَرَهُ النَّحَّاس , عَنْ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان أَنَّهُ قَالَ : لَا يَجُوز أَنْ يَكُون " تُثِير " مُسْتَأْنَفًا ; لِأَنَّ بَعْده " وَلَا تَسْقِي الْحَرْث " , فَلَوْ كَانَ مُسْتَأْنَفًا لَمَا جَمَعَ بَيْن الْوَاو وَ " لَا " . الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تُثِير الْأَرْض لَكَانَتْ الْإِثَارَة قَدْ ذَلَّلَتْهَا , وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَفَى عَنْهَا الذُّلَّ بِقَوْلِهِ : " لَا ذَلُول " قُلْت : وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون " تُثِير الْأَرْض " فِي غَيْر الْعَمَل مَرَحًا وَنَشَاطًا , كَمَا قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : يُهِيل وَيُذْرِي تُرْبه وَيُثِيرهُ إِثَارَة نَبَّاث الْهَوَاجِر مُخْمِس فَعَلَى هَذَا يَكُون " تُثِير " مُسْتَأْنَفًا , " وَلَا تَسْقِي " مَعْطُوف عَلَيْهِ , فَتَأَمَّلْهُ . وَإِثَارَة الْأَرْض : تَحْرِيكهَا وَبَحْثهَا , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( أَثِيرُوا الْقُرْآن فَإِنَّهُ عِلْم الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى : ( مَنْ أَرَادَ الْعِلْم فَلْيُثَوِّرْ الْقُرْآن ) وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَفِي التَّنْزِيل : " وَأَثَارُوا الْأَرْض " [ الرُّوم : 9 ] أَيْ قَلَّبُوهَا لِلزِّرَاعَةِ . وَالْحَرْث : مَا حُرِثَ وَزُرِعَ . وَسَيَأْتِي . مَسْأَلَة : فِي هَذِهِ الْآيَة أَدَلّ دَلِيل عَلَى حَصْر الْحَيَوَان بِصِفَاتِهِ , وَإِذَا ضُبِطَ بِالصِّفَةِ وَحُصِرَ بِهَا جَازَ السَّلَم فِيهِ . وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ . وَكَذَلِكَ كُلّ مَا يُضْبَط بِالصِّفَةِ , لِوَصْفِ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه وَصْفًا يَقُوم مَقَام التَّعْيِين , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَصِف الْمَرْأَة الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُر إِلَيْهَا ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّفَة تَقُوم مَقَام الرُّؤْيَة , وَجَعَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة الْخَطَأ فِي ذِمَّة مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ دَيْنًا إِلَى أَجَل , وَلَمْ يَجْعَلهَا عَلَى الْحُلُول . وَهُوَ يَرُدّ قَوْل الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح حَيْثُ قَالُوا : لَا يَجُوز السَّلَم فِي الْحَيَوَان . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَعَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة ; لِأَنَّ الْحَيَوَان لَا يُوقَف عَلَى حَقِيقَة صِفَته مِنْ مَشْي وَحَرَكَة , وَكُلّ ذَلِكَ يَزِيد فِي ثَمَنه وَيَرْفَع مِنْ قِيمَته . وَسَيَأْتِي حُكْم السَّلَم وَشُرُوطه فِي آخِر السُّورَة فِي آيَة الدَّيْن , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


أَيْ هِيَ مُسَلَّمَة . وَيَجُوز أَنْ يَكُون وَصْفًا , أَيْ أَنَّهَا بَقَرَة مُسَلَّمَة مِنْ الْعَرَج وَسَائِر الْعُيُوب , قَالَهُ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة . وَلَا يُقَال : مُسَلَّمَة مِنْ الْعَمَل لِنَفْيِ اللَّه الْعَمَل عَنْهَا . وَقَالَ الْحَسَن : يَعْنِي سَلِيمَة الْقَوَائِم لَا أَثَر فِيهَا لِلْعَمَلِ .


أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْن يُخَالِف مُعْظَم لَوْنهَا , هِيَ صَفْرَاء كُلّهَا لَا بَيَاض فِيهَا وَلَا حُمْرَة وَلَا سَوَاد , كَمَا قَالَ : " فَاقِع لَوْنهَا " . وَأَصْل " شِيَة " وَشِي حُذِفَتْ الْوَاو كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَشِي , وَالْأَصْل يُوشِي , وَنَظِيره الزِّنَة وَالْعِدَة وَالصِّلَة . وَالشِّيَة مَأْخُوذَة مِنْ وَشْي الثَّوْب إِذَا نُسِجَ عَلَى لَوْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . وَثَوْر مُوَشًّى : فِي وَجْهه وَقَوَائِمه سَوَاد . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الشِّيَة اللَّوْن . وَلَا يُقَال لِمَنْ نَمَّ : وَاشٍ , حَتَّى يُغَيِّر الْكَلَام وَيُلَوِّنهُ فَيَجْعَلهُ ضُرُوبًا وَيُزَيِّن مِنْهُ مَا شَاءَ . وَالْوَشْي : الْكَثْرَة . وَوَشَى بَنُو فُلَان : كَثُرُوا . وَيُقَال : فَرَس أَبْلَق , وَكَبْش أَخْرَج , وَتَيْس أَبْرَق , وَغُرَاب أَبْقَع , وَثَوْر أَشِيه كُلّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْبُلْقَة , هَكَذَا نَصَّ أَهْل اللُّغَة . وَهَذِهِ الْأَوْصَاف فِي الْبَقَرَة سَبَبهَا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّه عَلَيْهِمْ , وَدِين اللَّه يُسْر , وَالتَّعَمُّق فِي سُؤَال الْأَنْبِيَاء وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء مَذْمُوم , نَسْأَل اللَّه الْعَافِيَة . وَرُوِيَ فِي قَصَص هَذِهِ الْبَقَرَة رِوَايَات تَلْخِيصهَا : أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل وُلِدَ لَهُ اِبْن , وَكَانَتْ لَهُ عِجْلَة فَأَرْسَلَهَا فِي غَيْضَة وَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَوْدِعك هَذِهِ الْعِجْلَة لِهَذَا الصَّبِيّ . وَمَاتَ الرَّجُل , فَلَمَّا كَبِرَ الصَّبِيّ قَالَتْ لَهُ أُمّه وَكَانَ بَرًّا بِهَا : إِنَّ أَبَاك اِسْتَوْدَعَ اللَّه عِجْلَة لَك فَاذْهَبْ فَخُذْهَا , فَذَهَبَ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْبَقَرَة جَاءَتْ إِلَيْهِ حَتَّى أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا وَكَانَتْ مُسْتَوْحِشَة فَجَعَلَ يَقُودهَا نَحْو أُمّه , فَلَقِيَهُ بَنُو إِسْرَائِيل وَوَجَدُوا بَقَرَة عَلَى الصِّفَة الَّتِي أُمِرُوا بِهَا , فَسَامُوهُ فَاشْتَطَّ عَلَيْهِمْ . وَكَانَ قِيمَتهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة ثَلَاثَة دَنَانِير , فَأَتَوْا بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالُوا : إِنَّ هَذَا اِشْتَطَّ عَلَيْنَا , فَقَالَ لَهُمْ : أَرْضُوهُ فِي مُلْكه , فَاشْتَرَوْهَا مِنْهُ بِوَزْنِهَا مَرَّة , قَالَهُ عُبَيْدَة . السُّدِّيّ : بِوَزْنِهَا عَشْر مَرَّات . وَقِيلَ : بِمِلْءِ مَسْكهَا دَنَانِير . وَذَكَرَ مَكِّيّ : أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَة نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاء وَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَقَر الْأَرْض فَاَللَّه أَعْلَم .


أَيْ بَيَّنْت الْحَقّ , قَالَهُ قَتَادَة . وَحَكَى الْأَخْفَش : " قَالُوا أَلْآنَ " قَطَعَ أَلِف الْوَصْل , كَمَا يُقَال : يَا أَللَّه . وَحَكَى وَجْهًا آخَر " قَالُوا لَانَ " بِإِثْبَاتِ الْوَاو . نَظِيره قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَأَبِي عَمْرو " عَادًا لُولَى " وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " قَالُوا الْآن " بِالْهَمْزِ . وَقِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة " قَالُ لَانَ " بِتَخْفِيفِ الْهَمْز مَعَ حَذْف الْوَاو لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاج : " الْآن " مَبْنِيّ عَلَى الْفَتْح لِمُخَالَفَتِهِ سَائِر مَا فِيهِ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّ الْأَلِف وَاللَّام دَخَلَتَا لِغَيْرِ عَهْد , تَقُول : أَنْتَ إِلَى الْآن هُنَا , فَالْمَعْنَى إِلَى هَذَا الْوَقْت . فَبُنِيَتْ كَمَا بُنِيَ هَذَا , وَفُتِحَتْ النُّون لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَهُوَ عِبَارَة عَمَّا بَيْن الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَل .


أَجَازَ سِيبَوَيْهِ : كَادَ أَنْ يَفْعَل , تَشْبِيهًا بِعَسَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة . وَهَذَا إِخْبَار عَنْ تَثْبِيطهمْ فِي ذَبْحهَا وَقِلَّة مُبَادَرَتهمْ إِلَى أَمْر اللَّه . وَقَالَ الْقُرَظِيّ مُحَمَّد بْن كَعْب : لِغَلَاءِ ثَمَنهَا . وَقِيلَ : خَوْفًا مِنْ الْفَضِيحَة عَلَى أَنْفُسهمْ فِي مَعْرِفَة الْقَاتِل مِنْهُمْ , قَالَهُ وَهْب بْن مُنَبِّه .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَسورة البقرة الآية رقم 72
هَذَا الْكَلَام مُقَدَّم عَلَى أَوَّل الْقِصَّة , التَّقْدِير : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا . فَقَالَ مُوسَى : إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ بِكَذَا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْده الْكِتَاب وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا . قَيِّمًا " [ الْكَهْف : 1 - 2 ] أَيْ أَنْزَلَ عَلَى عَبْده قَيِّمًا , وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا , وَمِثْله كَثِير , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَوَّل الْقِصَّة . وَفِي سَبَب قَتْله قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : لِابْنَةٍ لَهُ حَسْنَاء أَحَبَّ أَنْ يَتَزَوَّجهَا اِبْن عَمّهَا فَمَنَعَهُ عَمّه , فَقَتَلَهُ وَحَمَلَهُ مِنْ قَرْيَته إِلَى قَرْيَة أُخْرَى فَأَلْقَاهُ هُنَاكَ . وَقِيلَ : أَلْقَاهُ بَيْن قَرْيَتَيْنِ . الثَّانِي : قَتَلَهُ طَلَبًا لِمِيرَاثِهِ , فَإِنَّهُ كَانَ فَقِيرًا وَادَّعَى قَتْله عَلَى بَعْض الْأَسْبَاط . قَالَ عِكْرِمَة : كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيل مَسْجِد لَهُ اِثْنَا عَشَر بَابًا لِكُلِّ بَاب قَوْم يَدْخُلُونَ مِنْهُ , فَوَجَدُوا قَتِيلًا فِي سِبْط مِنْ الْأَسْبَاط , فَادَّعَى هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ , وَادَّعَى هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ , ثُمَّ أَتَوْا مُوسَى يَخْتَصِمُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ : " إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة " [ الْبَقَرَة : 67 ] الْآيَة . وَمَعْنَى " اِدَّارَأْتُمْ " [ الْبَقَرَة : 72 ] الْآيَة . وَمَعْنَى " اِدَّارَأْتُمْ " : اِخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ , قَالَهُ مُجَاهِد . وَأَصْله تَدَارَأْتُمْ ثُمَّ أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الدَّال , وَلَا يَجُوز الِابْتِدَاء بِالْمُدْغَمِ ; لِأَنَّهُ سَاكِن فَزِيدَ أَلِف الْوَصْل . " وَاَللَّه مُخْرِج " اِبْتِدَاء وَخَبَر . " مَا كُنْتُمْ " فِي مَوْضِع نَصْب بِـ " مُخْرِج " , وَيَجُوز حَذْف التَّنْوِين عَلَى الْإِضَافَة . " تَكْتُمُونَ " جُمْلَة فِي مَوْضِع خَبَر كَانَ وَالْعَائِد مَحْذُوف التَّقْدِير تَكْتُمُونَهُ . وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ قَتَلَهُ طَلَبًا لِمِيرَاثِهِ لَمْ يَرِث قَاتِل عَمْد مِنْ حِينَئِذٍ , قَالَهُ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَتَلَ هَذَا الرَّجُل عَمّه لِيَرِثهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَبِمِثْلِهِ جَاءَ شَرْعنَا . وَحَكَى مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِي " مُوَطَّئِهِ " أَنَّ قِصَّة أُحَيْحَة بْن الْجُلَاح فِي عَمّه هِيَ كَانَتْ سَبَب أَلَّا يَرِثَ قَاتِل , ثُمَّ ثَبَّتَ ذَلِكَ الْإِسْلَام كَمَا ثَبَّتَ كَثِيرًا مِنْ نَوَازِل الْجَاهِلِيَّة . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَرِث قَاتِل الْعَمْد مِنْ الدِّيَة وَلَا مِنْ الْمَال , إِلَّا فِرْقَة شَذَّتْ عَنْ الْجُمْهُور كُلّهمْ أَهْل بِدَع . وَيَرِث قَاتِل الْخَطَأ مِنْ الْمَال وَلَا يَرِث مِنْ الدِّيَة فِي قَوْل مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَالشَّافِعِيّ ; لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَم عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِيَرِثهُ وَيَأْخُذ مَاله . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه , وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْل لَهُ آخَر : لَا يَرِث الْقَاتِل عَمْدًا وَلَا خَطَأ شَيْئًا مِنْ الْمَال وَلَا مِنْ الدِّيَة . وَهُوَ قَوْل شُرَيْح وَطَاوُس وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ . وَرَوَاهُ الشَّعْبِيّ عَنْ عُمَر وَعَلِيّ وَزَيْد قَالُوا : لَا يَرِث الْقَاتِل عَمْدًا وَلَا خَطَأ شَيْئًا . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد الْقَوْلَانِ جَمِيعًا . وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْبَصْرِيِّينَ : يَرِث قَاتِل الْخَطَأ مِنْ الدِّيَة وَمِنْ الْمَال جَمِيعًا , حَكَاهُ أَبُو عُمَر . وَقَوْل مَالِك أَصَحّ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي آيَة الْمَوَارِيث إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَسورة البقرة الآية رقم 73
قِيلَ : بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ آلَة الْكَلَام . وَقِيلَ : بِعَجْبِ الذَّنَب , إِذْ فِيهِ يُرَكَّب خَلْق الْإِنْسَان . وَقِيلَ : بِالْفَخِذِ . وَقِيلَ : بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامهَا , وَالْمَقْطُوع بِهِ عُضْو مِنْ أَعْضَائِهَا , فَلَمَّا ضُرِبَ بِهِ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ . مَسْأَلَة : اِسْتَدَلَّ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِي رِوَايَة اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَلَى صِحَّة الْقَوْل بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُول : دَمِي عِنْد فُلَان , أَوْ فُلَان قَتَلَنِي . وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء , قَالُوا : وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ قَوْل الْمَقْتُول : دَمِي عِنْد فُلَان , أَوْ فُلَان قَتَلَنِي , خَبَر يَحْتَمِل الصِّدْق وَالْكَذِب . وَلَا خِلَاف أَنَّ دَم الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْصُوم إِبَاحَته إِلَّا بِيَقِينٍ , وَلَا يَقِين مَعَ الِاحْتِمَال , فَبَطَلَ اِعْتِبَار قَوْل الْمَقْتُول دَمِي عِنْد فُلَان . وَأَمَّا قَتِيل بَنِي إِسْرَائِيل فَكَانَتْ مُعْجِزَة وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيه , وَذَلِكَ يَتَضَمَّن الْإِخْبَار بِقَاتِلِهِ خَبَرًا جَزْمًا لَا يَدْخُلهُ اِحْتِمَال , فَافْتَرَقَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْمُعْجِزَة كَانَتْ فِي إِحْيَائِهِ , فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامه كَسَائِرِ كَلَام النَّاس كُلّهمْ فِي الْقَبُول وَالرَّدّ . وَهَذَا فَنّ دَقِيق مِنْ الْعِلْم لَمْ يَتَفَطَّن لَهُ إِلَّا مَالِك , وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقه , فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْبُخَارِيّ وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء فَقَالُوا : كَيْف يُقْبَل قَوْله فِي الدَّم وَهُوَ لَا يُقْبَل قَوْله فِي دِرْهَم . مَسْأَلَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحُكْم بِالْقَسَامَةِ , فَرُوِيَ عَنْ سَالِم وَأَبِي قِلَابَة وَعُمْر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة التَّوَقُّف فِي الْحُكْم بِهَا . وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيّ ; لِأَنَّهُ أَتَى بِحَدِيثِ الْقَسَامَة فِي غَيْر مَوْضِعه . وَقَالَ الْجُمْهُور : الْحُكْم بِالْقَسَامَةِ ثَابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّة الْحُكْم بِهَا , فَقَالَتْ طَائِفَة : يَبْدَأ فِيهَا الْمُدَّعُونَ بِالْأَيْمَانِ فَإِنْ حَلَفُوا اِسْتَحَقُّوا , وَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرَءُوا . هَذَا قَوْل أَهْل الْمَدِينَة وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْر . وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيث حُوَيِّصَة وَمُحَيِّصَة , خَرَّجَهُ الْأَئِمَّة مَالِك وَغَيْره . وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ يَبْدَأ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُونَ وَيَبْرَءُونَ . رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيُّونَ , وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ شُعْبَة بْن عُبَيْد عَنْ بَشِير بْن يَسَار , وَفِيهِ : فَبَدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ , وَهُمْ الْيَهُود . وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَة ابْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ رِجَال مِنْ الْأَنْصَار أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ : ( أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا ) . فَأَبَوْا , فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ : ( اِسْتَحِقُّوا ) فَقَالُوا : نَحْلِف عَلَى الْغَيْب يَا رَسُول اللَّه فَجَعَلَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة عَلَى يَهُود ; لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْن أَظْهُرهمْ . وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَلَكِنَّ الْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) فَعُيِّنُوا قَالُوا : وَهَذَا هُوَ الْأَصْل الْمَقْطُوع بِهِ فِي الدَّعَاوَى الَّذِي نَبَّهَ الشَّرْع عَلَى حِكْمَته بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( لَوْ يُعْطَى النَّاس بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاس دِمَاء رِجَال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِنَّ الْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) رَدَّ عَلَيْهِمْ أَهْل الْمَقَالَة الْأُولَى فَقَالُوا : حَدِيث سَعِيد بْن عُبَيْد فِي تَبْدِيَة الْيَهُود وَهْم عِنْد أَهْل الْحَدِيث , وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ : وَلَمْ يُتَابَع سَعِيد فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فِيمَا أَعْلَم , وَقَدْ أَسْنَدَ حَدِيث بُشَيْر عَنْ سَهْل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْمُدَّعِينَ يَحْيَى بْن سَعِيد وَابْن عُيَيْنَة وَحَمَّاد بْن زَيْد وَعَبْد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ وَعِيسَى بْن حَمَّاد وَبِشْر بْن الْمُفَضَّل , فَهَؤُلَاءِ سَبْعَة . وَإِنْ كَانَ أَرْسَلَهُ مَالِك فَقَدْ وَصَلَهُ جَمَاعَة الْحُفَّاظ , وَهُوَ أَصَحّ مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن عُبَيْد . قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَصِيلِيّ : فَلَا يَجُوز أَنْ يُعْتَرَض بِخَبَرٍ وَاحِد عَلَى خَبَر جَمَاعَة , مَعَ أَنَّ سَعِيد بْن عُبَيْد قَالَ فِي حَدِيثه : فَوَدَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَة مِنْ إِبِل الصَّدَقَة , وَالصَّدَقَة لَا تُعْطَى فِي الدِّيَات وَلَا يُصَالَح بِهَا عَنْ غَيْر أَهْلهَا , وَحَدِيث أَبِي دَاوُد مُرْسَل فَلَا تُعَارَض بِهِ الْأَحَادِيث الصِّحَاح الْمُتَّصِلَة , وَأَجَابُوا عَنْ التَّمَسُّك بِالْأَصْلِ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْم أَصْل بِنَفْسِهِ لِحُرْمَةِ الدِّمَاء . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَالْحُكْم بِظَاهِرِ ذَلِكَ يَجِب , إِلَّا أَنْ يَخُصّ اللَّه فِي كِتَابه أَوْ عَلَى لِسَان نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا فِي شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء فَيُسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَة هَذَا الْخَبَر . فَمِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَاب إِلْزَام الْقَاذِف حَدّ الْمَقْذُوف إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَرْبَعَة شُهَدَاء يَشْهَدُونَ لَهُ عَلَى صِدْق مَا رَمَى بِهِ الْمَقْذُوف وَخَصَّ مَنْ رَمَى زَوْجَته بِأَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ الْحَدّ إِذَا شَهِدَ أَرْبَع شَهَادَات . وَمِمَّا خَصَّتْهُ السُّنَّة حُكْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ . وَقَدْ رَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْبَيِّنَة عَلَى مَنْ اِدَّعَى وَالْيَمِين عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَة ) . خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَقَدْ اِحْتَجَّ مَالِك لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي مُوَطَّئِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَة , فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ . مَسْأَلَة : وَاخْتَلَقُوا أَيْضًا فِي وُجُوب الْقَوَد بِالْقَسَامَةِ , فَأَوْجَبَتْ طَائِفَة الْقَوَد بِهَا , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْر , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِحُوَيِّصَة وَمُحَيِّصَة وَعَبْد الرَّحْمَن : ( أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَم صَاحِبكُمْ ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ مِنْ بَنِي نَضْر بْن مَالِك . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : نُسْخَة عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه صَحِيحَة , وَكَذَلِكَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ يُصَحِّح حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب , وَيَحْتَجّ بِهِ , وَقَالَ الْبُخَارِيّ : رَأَيْت عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْحُمَيْدِيّ وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ يَحْتَجُّونَ بِهِ قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي السُّنَن . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا قَوَد بِالْقَسَامَةِ , وَإِنَّمَا تُوجِب الدِّيَة . رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس , وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيّ وَالْحَسَن , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق , وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِك عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى بْن عَبْد اللَّه عَنْ سَهْل بْن أَبِي حَثْمَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله لِلْأَنْصَارِ : ( إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ ) . قَالُوا : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الدِّيَة لَا عَلَى الْقَوَد , قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَتَسْتَحِقُّونَ دَم صَاحِبكُمْ ) دِيَة دَم قَتِيلكُمْ لِأَنَّ الْيَهُود لَيْسُوا بِأَصْحَابٍ لَهُمْ , وَمَنْ اِسْتَحَقَّ دِيَة صَاحِبه فَقَدْ اِسْتَحَقَّ دَمَهُ ; لِأَنَّ الدِّيَة قَدْ تُؤْخَذ فِي الْعَمْد فَيَكُون ذَلِكَ اِسْتِحْقَاقًا لِلدَّمِ . مَسْأَلَة : الْمُوجِب لِلْقَسَامَةِ اللَّوْث وَلَا بُدّ مِنْهُ . وَاللَّوْث : أَمَارَة تَغْلِب عَلَى الظَّنّ صِدْق مُدَّعِي الْقَتْل , كَشَهَادَةِ الْعَدْل الْوَاحِد عَلَى رُؤْيَة الْقَتْل , أَوْ يُرَى الْمَقْتُول يَتَشَحَّط دَمه , وَالْمُتَّهَم نَحْوه أَوْ قُرْبه عَلَيْهِ آثَار الْقَتْل . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي اللَّوْث وَالْقَوْل بِهِ , فَقَالَ مَالِك : هُوَ قَوْل الْمَقْتُول دَمِي عِنْد فُلَان . وَالشَّاهِد الْعَدْل لَوْث . كَذَا فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهُ يَقْسِم مَعَ الشَّاهِد غَيْر الْعَدْل وَمَعَ الْمَرْأَة . وَرَوَى اِبْن وَهْب أَنَّ شَهَادَة النِّسَاء لَوْث . وَذَكَرَ مُحَمَّد عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّ شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ لَوْث دُون شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : اُخْتُلِفَ فِي اللَّوْث اِخْتِلَافًا كَثِيرًا , مَشْهُور الْمَذْهَب أَنَّهُ الشَّاهِد الْعَدْل . وَقَالَ مُحَمَّد : هُوَ أَحَبّ إِلَيَّ . قَالَ : وَأَخَذَ بِهِ اِبْن الْقَاسِم وَابْن عَبْد الْحَكَم . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان : أَنَّ الْمَجْرُوح أَوْ الْمَضْرُوب إِذَا قَالَ دَمِي عِنْد فُلَان وَمَاتَ كَانَتْ الْقَسَامَة . وَبِهِ قَالَ مَالِك وَاللَّيْث بْن سَعْد . وَاحْتَجَّ مَالِك بِقَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيل أَنَّهُ قَالَ : قَتَلَنِي فُلَان . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : اللَّوْث الشَّاهِد الْعَدْل , أَوْ يَأْتِي بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا . وَأَوْجَبَ الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيُّونَ الْقَسَامَة بِوُجُودِ الْقَتِيل فَقَطْ , وَاسْتَغْنَوْا عَنْ مُرَاعَاة قَوْل الْمَقْتُول وَعَنْ الشَّاهِد , قَالُوا : إِذَا وُجِدَ قَتِيل فِي مَحَلَّة قَوْم وَبِهِ أَثَر حَلَفَ أَهْل ذَلِكَ الْمَوْضِع أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَيَكُون عَقْله عَلَيْهِمْ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَر لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَاقِلَة شَيْء إِلَّا أَنْ تَقُوم الْبَيِّنَة عَلَى وَاحِد . وَقَالَ سُفْيَان : وَهَذَا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا , وَهُوَ قَوْل ضَعِيف خَالَفُوا فِيهِ أَهْل الْعِلْم , وَلَا سَلَف لَهُمْ فِيهِ , وَهُوَ مُخَالِف لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّة , وَلِأَنَّ فِيهِ إِلْزَام الْعَاقِلَة مَالًا بِغَيْرِ بَيِّنَة ثَبَتَتْ عَلَيْهِمْ وَلَا إِقْرَار مِنْهُمْ . وَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ الْقَتِيل إِذَا وُجِدَ فِي مَحَلَّة قَوْم أَنَّهُ هَدَر , لَا يُؤْخَذ بِهِ أَقْرَب النَّاس دَارًا ; لِأَنَّ الْقَتِيل قَدْ يُقْتَل ثُمَّ يُلْقَى عَلَى بَاب قَوْم لِيُلَطَّخُوا بِهِ , فَلَا يُؤَاخَذ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى تَكُون الْأَسْبَاب الَّتِي شَرَطُوهَا فِي وُجُوب الْقَسَامَة . وَقَدْ قَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز هَذَا مِمَّا يُؤَخَّر فِيهِ الْقَضَاء حَتَّى يَقْضِي اللَّه فِيهِ يَوْم الْقِيَامَة . مَسْأَلَة : قَالَ الْقَاسِم بْن مَسْعَدَة قُلْت لِلنَّسَائِيّ : لَا يَقُول مَالِك بِالْقَسَامَةِ إِلَّا بِاللَّوْثِ , فَلَمْ أَوْرَدَ حَدِيث الْقَسَامَة وَلَا لَوْث فِيهِ قَالَ النَّسَائِيّ : أَنْزَلَ مَالِك الْعَدَاوَة الَّتِي كَانَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن الْيَهُود بِمَنْزِلَةِ اللَّوْث , وَأَنْزَلَ اللَّوْث أَوْ قَوْل الْمَيِّت بِمَنْزِلَةِ الْعَدَاوَة . قَالَ اِبْن أَبِي زَيْد : وَأَصْل هَذَا فِي قِصَّة بَنِي إِسْرَائِيل حِين أَحْيَا اللَّه الَّذِي ضُرِبَ بِبَعْضِ الْبَقَرَة فَقَالَ : قَتَلَنِي فُلَان , وَبِأَنَّ الْعَدَاوَة لَوْث قَالَ الشَّافِعِيّ : وَلَا نَرَى قَوْل الْمَقْتُول لَوْثًا , كَمَا تَقَدَّمَ . قَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا كَانَ بَيْن قَوْم وَقَوْم عَدَاوَة ظَاهِرَة كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْن الْأَنْصَار وَالْيَهُود , وَوُجِدَ قَتِيل فِي أَحَد الْفَرِيقَيْنِ وَلَا يُخَالِطهُمْ غَيْرهمْ وَجَبَتْ الْقَسَامَة فِيهِ . مَسْأَلَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَتِيل يُوجَد فِي الْمَحَلَّة الَّتِي أَكْرَاهَا أَرْبَابهَا , فَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : هُوَ عَلَى أَهْل الْخُطَّة وَلَيْسَ عَلَى السُّكَّان شَيْء , فَإِنْ بَاعُوا دُورهمْ ثُمَّ وُجِدَ قَتِيل فَالدِّيَة عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ عَلَى السُّكَّان شَيْء , وَإِنْ كَانَ أَرْبَاب الدُّور غُيَّبًا وَقَدْ أَكْرَوْا دُورهمْ فَالْقَسَامَة وَالدِّيَة عَلَى أَرْبَاب الدُّور وَالْغُيَّب وَلَيْسَ عَلَى السُّكَّان الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيل بَيْن أَظْهُرهمْ شَيْء . ثُمَّ رَجَعَ يَعْقُوب مِنْ بَيْنهمْ عَنْ هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : الْقَسَامَة وَالدِّيَة عَلَى السُّكَّان فِي الدُّور . وَحَكَى هَذَا الْقَوْل عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى , وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَهْل خَيْبَر كَانُوا عُمَّالًا سُكَّانًا يَعْمَلُونَ فَوُجِدَ الْقَتِيل فِيهِمْ . قَالَ الثَّوْرِيّ : وَنَحْنُ نَقُول : هُوَ عَلَى أَصْحَاب الْأَصْل , يَعْنِي أَهْل الدُّور . وَقَالَ أَحْمَد : الْقَوْل قَوْل اِبْن أَبِي لَيْلَى فِي الْقَسَامَة لَا فِي الدِّيَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَذَلِكَ كُلّه سَوَاء , وَلَا عَقْل وَلَا قَوَد إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُوم , أَوْ مَا يُوجِب الْقَسَامَة فَيُقْسِم الْأَوْلِيَاء . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا أَصَحّ . مَسْأَلَة : وَلَا يُحْلَف فِي الْقَسَامَة أَقَلّ مِنْ خَمْسِينَ يَمِينًا , لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث حُوَيِّصَة وَمُحَيِّصَة : ( يُقْسِم خَمْسِينَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُل مِنْهُمْ ) . فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّونَ خَمْسِينَ حَلَفَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ يَمِينًا وَاحِدَة , فَإِنْ كَانُوا أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ نَكَلَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوز عَفْوه رُدَّتْ الْأَيْمَان عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ عَدَدهمْ . وَلَا يَحْلِف فِي الْعَمْد أَقَلّ مِنْ اِثْنَيْنِ مِنْ الرِّجَال , لَا يَحْلِف فِيهِ الْوَاحِد مِنْ الرِّجَال وَلَا النِّسَاء , يَحْلِف الْأَوْلِيَاء وَمَنْ يَسْتَعِين بِهِمْ الْأَوْلِيَاء مِنْ الْعَصَبَة خَمْسِينَ يَمِينًا . هَذَا مَذْهَب مَالِك وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد . وَرَوَى مُطَرِّف عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يَحْلِف مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحَد وَيَحْلِف هُمْ أَنْفُسهمْ كَمَا لَوْ كَانُوا وَاحِدًا فَأَكْثَر خَمْسِينَ يَمِينًا يُبَرِّئُونَ بِهَا أَنْفُسهمْ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَقْسِم إِلَّا وَارِث , كَانَ الْقَتْل عَمْدًا أَوْ خَطَأ . وَلَا يَحْلِف عَلَى مَال وَيَسْتَحِقّهُ إِلَّا مَنْ لَهُ الْمِلْك لِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ جَعَلَ اللَّه لَهُ الْمِلْك مِنْ الْوَرَثَة , وَالْوَرَثَة يَقْسِمُونَ عَلَى قَدْر مَوَارِيثهمْ . وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَهُوَ الصَّحِيح , لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَب يَتَوَجَّه عَلَيْهِ فِيهِ يَمِين . ثُمَّ مَقْصُود هَذِهِ الْأَيْمَان الْبَرَاءَة مِنْ الدَّعْوَى , وَمَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ بَرِيء . وَقَالَ مَالِك فِي الْخَطَأ : يَحْلِف فِيهَا الْوَاحِد مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء , فَمهمَا كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا مِنْ وَاحِد أَوْ أَكْثَر اِسْتَحَقَّ الْحَالِف مِيرَاثه , وَمَنْ نَكَلَ لَمْ يَسْتَحِقّ شَيْئًا , فَإِنْ جَاءَ مَنْ غَابَ حَلَفَ مِنْ الْأَيْمَان مَا كَانَ يَجِب عَلَيْهِ لَوْ حَضَرَ بِحَسَبِ مِيرَاثه . هَذَا قَوْل مَالِك الْمَشْهُور عَنْهُ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الْخَطَأ قَسَامَة . وَتَتْمِيم مَسَائِل الْقَسَامَة وَفُرُوعهَا وَأَحْكَامهَا مَذْكُور فِي كُتُب الْفِقْه وَالْخِلَاف , وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَة , وَاَللَّه الْمُوَفِّق . مَسْأَلَة : فِي قِصَّة الْبَقَرَة هَذِهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ شَرْع مَنْ قَبْلنَا شَرْع لَنَا , وَقَالَ بِهِ طَوَائِف مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَوْم مِنْ الْفُقَهَاء , وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيّ وَنَصَّ عَلَيْهِ اِبْن بُكَيْر الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا , وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب : هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُول مَالِك وَمَنَازِعه فِي كُتُبه , وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّافِعِيّ , وَقَدْ قَالَ اللَّه : " فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهِ " [ الْأَنْعَام : 90 ] عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


أَيْ كَمَا أَحْيَا هَذَا بَعْد مَوْته كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّه كُلّ مَنْ مَاتَ فَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهُ نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف .


أَيْ عَلَامَاته وَقُدْرَته .


كَيْ تَعْقِلُوا , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْ تَمْتَنِعُونَ مِنْ عِصْيَانه وَعَقَلْت نَفْسِي عَنْ كَذَا أَيْ مَنَعْتهَا مِنْهُ وَالْمَعَاقِل : الْحُصُون .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَسورة البقرة الآية رقم 74
الْقَسْوَة : الصَّلَابَة وَالشِّدَّة وَالْيُبْس وَهِيَ عِبَارَة عَنْ خُلُوّهَا مِنْ الْإِنَابَة وَالْإِذْعَان لِآيَاتِ اللَّه تَعَالَى . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : الْمُرَاد قُلُوب جَمِيع بَنِي إِسْرَائِيل . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمُرَاد قُلُوب وَرَثَة الْقَتِيل ; لِأَنَّهُمْ حِين حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ وَعَادَ إِلَى مَوْته أَنْكَرُوا قَتْله , وَقَالُوا : كَذَبَ , بَعْد مَا رَأَوْا هَذِهِ الْآيَة الْعُظْمَى , فَلَمْ يَكُونُوا قَطُّ أَعْمَى قُلُوبًا , وَلَا أَشَدّ تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ مِنْهُمْ عِنْد ذَلِكَ , لَكِنْ نَفَذَ حُكْم اللَّه بِقَتْلِهِ . رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُكْثِرُوا الْكَلَام بِغَيْرِ ذِكْر اللَّه فَإِنَّ كَثْرَة الْكَلَام بِغَيْرِ ذِكْر اللَّه قَسْوَة لِلْقَلْبِ , وَإِنَّ أَبْعَد النَّاس مِنْ اللَّه الْقَلْب الْقَاسِي ) . وَفِي مُسْنَد الْبَزَّار عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرْبَعَة مِنْ الشَّقَاء جُمُود الْعَيْن وَقَسَاوَة الْقَلْب وَطُول الْأَمَل وَالْحِرْص عَلَى الدُّنْيَا ) .


" أَوْ " قِيلَ هِيَ بِمَعْنَى الْوَاو كَمَا قَالَ : " آثِمًا أَوْ كَفُورًا " [ الْإِنْسَان : 24 ] . " عُذْرًا أَوْ نُذْرًا " وَقَالَ الشَّاعِر : نَالَ الْخِلَافَة أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا أَيْ وَكَانَتْ . وَقِيلَ : هِيَ بِمَعْنَى بَلْ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ " [ الصَّافَّات : 147 ] الْمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ . وَقَالَ الشَّاعِر : بَدَتْ مِثْل قَرْن الشَّمْس فِي رَوْنَق الضُّحَى وَصُورَتهَا أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْن أَمْلَح أَيْ بَلْ أَنْتَ وَقِيلَ : مَعْنَاهَا الْإِبْهَام عَلَى الْمُخَاطَب , وَمِنْهُ قَوْل أَبِي الْأَسْوَد الدُّؤَلِيّ أُحِبّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا وَعَبَّاسًا وَحَمْزَة أَوْ عَلِيًّا فَإِنْ يَكُ حُبّهمْ رُشْدًا أُصِبْهُ وَلَسْت بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيًّا وَلَمْ يَشُكّ أَبُو الْأَسْوَد أَنَّ حُبّهمْ رُشْد ظَاهِر , وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِبْهَام . وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي الْأَسْوَد حِين قَالَ ذَلِكَ : شَكَكْت قَالَ : كَلَّا , ثُمَّ اِسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَال مُبِين " [ سَبَأ : 24 ] وَقَالَ : أَوَ كَانَ شَاكًّا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا وَقِيلَ : مَعْنَاهَا التَّخْيِير , أَيْ شَبِّهُوهَا بِالْحِجَارَةِ تُصِيبُوا , أَوْ بِأَشَدّ مِنْ الْحِجَارَة تُصِيبُوا , وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِل : جَالِس الْحَسَن أَوْ اِبْن سِيرِينَ , وَتَعَلَّمَ الْفِقْه أَوْ الْحَدِيث أَوْ النَّحْو . قِيلَ : بَلْ هِيَ عَلَى بَابهَا مِنْ الشَّكّ , وَمَعْنَاهَا عِنْدكُمْ أَيّهَا الْمُخَاطَبُونَ وَفِي نَظَركُمْ أَنْ لَوْ شَاهَدْتُمْ قَسْوَتهَا لَشَكَكْتُمْ : أَهِي كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ مِنْ الْحِجَارَة وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْله تَعَالَى : " إِلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ " [ الصَّافَّات : 147 ] وَقَالَتْ فِرْقَة : إِنَّمَا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ قَلْبه كَالْحَجَرِ , وَفِيهِمْ مَنْ قَلْبه أَشَدّ مِنْ الْحَجَر فَالْمَعْنَى هُمْ فِرْقَتَانِ . " أَوْ أَشَدّ " أَشَدّ مَرْفُوع بِالْعَطْفِ عَلَى مَوْضِع الْكَاف فِي قَوْله " كَالْحِجَارَةِ " ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فَهِيَ مِثْل الْحِجَارَة أَوْ أَشَدّ . وَيَجُوز أَوْ " أَشَدّ " بِالْفَتْحِ عَطْف عَلَى الْحِجَارَة . وَ " قَسْوَة " نَصْب عَلَى التَّمْيِيز . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة " قَسَاوَة " وَالْمَعْنَى وَاحِد .


قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الِانْفِجَار . وَيَشَّقَّق أَصْله يَتَشَقَّق , أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الشِّين , وَهَذِهِ عِبَارَة عَنْ الْعُيُون الَّتِي لَمْ تَعْظُم حَتَّى تَكُون أَنْهَارًا , أَوْ عَنْ الْحِجَارَة الَّتِي تَتَشَقَّق , وَإِنْ لَمْ يَجْرِ مَاء مُنْفَسِح . وَقَرَأَ اِبْن مُصَرِّف " يَنْشَقِق " بِالنُّونِ , وَقَرَأَ " لَمَّا يَتَفَجَّر " " لَمَّا يَتَشَقَّق " بِتَشْدِيدِ " لَمَّا " فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَهِيَ قِرَاءَة غَيْر مُتَّجَهَة . وَقَرَأَ مَالِك بْن دِينَار " يَنْفَجِر " بِالنُّونِ وَكَسْر الْجِيم . قَالَ قَتَادَة : عَذَرَ الْحِجَارَة وَلَمْ يَعْذِر شَقِيّ بَنِي آدَم . قَالَ أَبُو حَاتِم : يَجُوز لَمَا تَتَفَجَّر بِالتَّاءِ , وَلَا يَجُوز لَمَا تَتَشَقَّق بِالتَّاءِ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ تَتَفَجَّر أَنَّثَهُ بِتَأْنِيثِ الْأَنْهَار , وَهَذَا لَا يَكُون فِي تَشَقَّقَ . قَالَ النَّحَّاس : يَجُوز مَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى , وَإِنَّ مِنْهَا لَحِجَارَة تَتَشَقَّق , وَأَمَّا يَشَّقَّق فَمَحْمُول عَلَى لَفْظ مَا . وَالشَّقّ وَاحِد الشُّقُوق , فَهُوَ فِي الْأَصْل مَصْدَر , تَقُول : بِيَدِ فُلَان وَرِجْلَيْهِ شُقُوق , وَلَا تَقُلْ : شِقَاق , إِنَّمَا الشِّقَاق دَاء يَكُون بِالدَّوَابِّ , وَهُوَ تَشَقُّق يُصِيب أَرْسَاغَهَا , وَرُبَّمَا اِرْتَفَعَ إِلَى وَظِيفهَا , عَنْ يَعْقُوب . وَالشَّقّ : الصُّبْح . وَ " مَا " فِي قَوْله : " لَمَا يَتَفَجَّر " فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهَا اِسْم إِنَّ وَاللَّام لِلتَّأْكِيدِ . " مِنْهُ " عَلَى لَفْظ مَا , وَيَجُوز مِنْهَا عَلَى الْمَعْنَى , وَكَذَلِكَ " وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّق فَيَخْرُج مِنْهُ الْمَاء " . وَقَرَأَ قَتَادَة " وَإِنْ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ , مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة


يَقُول إِنَّ مِنْ الْحِجَارَة مَا هُوَ أَنْفَع مِنْ قُلُوبكُمْ , لِخُرُوجِ الْمَاء مِنْهَا وَتَرَدِّيهَا . قَالَ مُجَاهِد : مَا تَرَدَّى حَجَر مِنْ رَأْس جَبَل , وَلَا تَفَجَّرَ نَهْر مِنْ حَجَر , وَلَا خَرَجَ مِنْهُ مَاء إِلَّا مِنْ خَشْيَة اللَّه , نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآن الْكَرِيم . وَمِثْله عَنْ اِبْن جُرَيْج . وَقَالَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْله : " وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط مِنْ خَشْيَة اللَّه " : الْبَرَد الْهَابِط مِنْ السَّحَاب . وَقِيلَ : لَفْظَة الْهُبُوط مَجَاز , وَذَلِكَ أَنَّ الْحِجَارَة لَمَّا كَانَتْ الْقُلُوب تَعْتَبِر بِخَلْقِهَا , وَتَخْشَع بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا , أُضِيفَ تَوَاضُع النَّاظِر إِلَيْهَا , كَمَا قَالَتْ الْعَرَب : نَاقَة تَاجِرَة , أَيْ تَبْعَث مَنْ يَرَاهَا عَلَى شِرَائِهَا . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ فِرْقَة أَنَّ الْخَشْيَة لِلْحِجَارَةِ مُسْتَعَارَة , كَمَا اُسْتُعِيرَتْ الْإِرَادَة لِلْجِدَارِ فِي قَوْله : " يُرِيد أَنْ يَنْقَضّ " , وَكَمَا قَالَ زَيْد الْخَيْل : لَمَّا أَتَى خَبَر الزُّبَيْر تَوَاضَعَتْ سُوَر الْمَدِينَة وَالْجِبَال الْخُشَّع وَذَكَرَ اِبْن بَحْر أَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِنَّ مِنْهَا " رَاجِع إِلَى الْقُلُوب لَا إِلَى الْحِجَارَة أَيْ مِنْ الْقُلُوب لَمَا يَخْضَع مِنْ خَشْيَة اللَّه . قُلْت : كُلّ مَا قِيلَ يَحْتَمِلهُ اللَّفْظ , وَالْأَوَّل صَحِيح , فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِع أَنْ يُعْطَى بَعْض الْجَمَادَات الْمَعْرِفَة فَيَعْقِل , كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ الْجِذْع الَّذِي كَانَ يَسْتَنِد إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ , فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْهُ حَنَّ , وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّم عَلَيَّ فِي الْجَاهِلِيَّة إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآن ) . وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَالَ لِي ثَبِير اِهْبِطْ فَإِنِّي أَخَاف أَنْ يَقْتُلُوك عَلَى ظَهْرِي فَيُعَذِّبنِي اللَّه ) . فَنَادَاهُ حِرَاء : إِلَيَّ يَا رَسُول اللَّه . وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال " [ الْأَحْزَاب : 72 ] الْآيَة . وَقَالَ : " لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن عَلَى جَبَل لَرَأَيْته خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَة اللَّه " [ الْحَشْر : 21 ] يَعْنِي تَذَلُّلًا وَخُضُوعًا , وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي سُورَة " سُبْحَان " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

" بِغَافِلٍ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى لُغَة أَهْل الْحِجَاز , وَعَلَى لُغَة تَمِيم فِي مَوْضِع رَفْع . وَالْبَاء تَوْكِيد " عَمَّا تَعْمَلُونَ " أَيْ عَنْ عَمَلِكُمْ حَتَّى لَا يُغَادِر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ , " فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ " [ الزَّلْزَلَة : 7 , 8 ] وَلَا تَحْتَاج " مَا " إِلَى عَائِد إِلَّا أَنْ يَجْعَلهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَيُحْذَف الْعَائِد لِطُولِ الِاسْم , أَيْ عَنْ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير " يَعْلَمُونَ " بِالْيَاءِ , وَالْمُخَاطَبَة عَلَى هَذَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام .
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 75
هَذَا اِسْتِفْهَام فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَار , كَأَنَّهُ أَيْأَسَهُمْ مِنْ إِيمَان هَذِهِ الْفِرْقَة مِنْ الْيَهُود , أَيْ إِنْ كَفَرُوا فَلَهُمْ سَابِقَة فِي ذَلِكَ . وَالْخِطَاب لِأَصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَار كَانَ لَهُمْ حِرْص عَلَى إِسْلَام الْيَهُود لِلْحِلْفِ وَالْجِوَار الَّذِي كَانَ بَيْنهمْ . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , عَنْ اِبْن عَبَّاس . أَيْ لَا تَحْزَن عَلَى تَكْذِيبهمْ إِيَّاكَ , وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل السُّوء الَّذِينَ مَضَوْا . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا , نُصِبَ بِأَنْ , وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّون . يُقَال : طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعِيَة - مُخَفَّف - فَهُوَ طَمِع , عَلَى وَزْن فَعِل . وَأَطْمَعَهُ فِيهِ غَيْره . وَيُقَال فِي التَّعَجُّب : طُمِعَ الرَّجُل - بِضَمِّ الْمِيم - أَيْ صَارَ كَثِير الطَّمَع . وَالطَّمَع : رِزْق الْجُنْد , يُقَال : أَمَرَ لَهُمْ الْأَمِير بِأَطْمَاعِهِمْ , أَيْ بِأَرْزَاقِهِمْ . وَامْرَأَة مِطْمَاع : تُطْمِع وَلَا تُمَكِّن .


الْفَرِيق اِسْم جَمْع لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه , وَجَمْعه فِي أَدْنَى الْعَدَد أَفْرِقَة , وَفِي الْكَثِير أَفْرِقَاء .


فِي مَوْضِع نَصْب خَبَر " كَانَ " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْخَبَر " مِنْهُمْ " , وَيَكُون " يَسْمَعُونَ " نَعْتًا لِفَرِيقٍ وَفِيهِ بُعْد .

قِرَاءَة الْجَمَاعَة . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " كَلِم اللَّه " عَلَى جَمْع كَلِمَة . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَاعْلَمْ أَنَّ نَاسًا مِنْ رَبِيعَة يَقُولُونَ " مِنْهِمْ " بِكَسْرِ الْهَاء إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْمِيم , وَلَمْ يَكُنْ الْمُسَكَّن حَاجِزًا حَصِينًا عِنْده . " كَلَام اللَّه " مَفْعُول ب " يَسْمَعُونَ " . وَالْمُرَاد السَّبْعُونَ الَّذِينَ اِخْتَارَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , فَسَمِعُوا كَلَام اللَّه فَلَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْره , وَحَرَّفُوا الْقَوْل فِي إِخْبَارهمْ لِقَوْمِهِمْ . هَذَا قَوْل الرَّبِيع وَابْن إِسْحَاق , وَفِي هَذَا الْقَوْل ضَعْف . وَمَنْ قَالَ : إِنَّ السَّبْعِينَ سَمِعُوا مَا سَمِعَ مُوسَى فَقَدْ أَخْطَأَ , وَأَذْهَبَ بِفَضِيلَةِ مُوسَى وَاخْتِصَاصه بِالتَّكْلِيمِ . وَقَدْ قَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره : لَمْ يُطِيقُوا سَمَاعه , وَاخْتَلَطَتْ أَذْهَانهمْ وَرَغِبُوا أَنْ يَكُون مُوسَى يَسْمَع وَيُعِيدهُ لَهُمْ , فَلَمَّا فَرَغُوا وَخَرَجُوا بَدَّلَتْ طَائِفَة مِنْهُمْ مَا سَمِعَتْ مِنْ كَلَام اللَّه عَلَى لِسَان نَبِيّهمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَإِنْ أَحَد مِنْ الْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه " . [ التَّوْبَة : 6 ] .

فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ قَوْم مُوسَى سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَل رَبّه أَنْ يُسْمِعهُمْ كَلَامه , فَسَمِعُوا صَوْتًا كَصَوْتِ الشَّبُّور : " إِنِّي أَنَا اللَّه لَا إِلَه إِلَّا أَنَا الْحَيّ الْقَيُّوم أَخْرَجْتُكُمْ مِنْ مِصْر بِيَدٍ رَفِيعَة وَذِرَاع شَدِيدَة " .

قُلْت : هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا يَصِحّ , رَوَاهُ اِبْن مَرْوَان عَنْ الْكَلْبِيّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيف لَا يُحْتَجّ بِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَام شَيْء خُصَّ بِهِ مُوسَى مِنْ بَيْن جَمِيع وَلَد آدَم , فَإِنْ كَانَ كَلَّمَ قَوْمه أَيْضًا حَتَّى أَسْمَعَهُمْ كَلَامه فَمَا فَضْل مُوسَى عَلَيْهِمْ , وَقَدْ قَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " إِنِّي اِصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاس بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي " [ الْأَعْرَاف : 144 ] . وَهَذَا وَاضِح .

وَاخْتَلَفَ النَّاس بِمَاذَا عَرَفَ مُوسَى كَلَام اللَّه وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ قَبْل ذَلِكَ خِطَابه , فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَات , وَلَيْسَ فِيهِ تَقْطِيع وَلَا نَفَس , فَحِينَئِذٍ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ كَلَام الْبَشَر وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام رَبّ الْعَالَمِينَ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامًا لَا مِنْ جِهَة , وَكَلَام الْبَشَر يُسْمَع مِنْ جِهَة مِنْ الْجِهَات السِّتّ , عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَام الْبَشَر . وَقِيلَ : إِنَّهُ صَارَ جَسَده كُلّه مَسَامِع حَتَّى سَمِعَ بِهَا ذَلِكَ الْكَلَام , فَعَلِمَ أَنَّهُ كَلَام اللَّه . وَقِيلَ فِيهِ : إِنَّ الْمُعْجِزَة دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَا سَمِعَهُ هُوَ كَلَام اللَّه , وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَلْقِ عَصَاك , فَأَلْقَاهَا فَصَارَتْ ثُعْبَانًا , فَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَة عَلَى صِدْق الْحَال , وَأَنَّ الَّذِي يَقُول لَهُ : " إِنِّي أَنَا رَبّك " [ طَه : 12 ] هُوَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ . وَقِيلَ : إِنَّهُ قَدْ كَانَ أَضْمَرَ فِي نَفْسه شَيْئًا لَا يَقِف عَلَيْهِ إِلَّا عَلَّام الْغُيُوب , فَأَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي خِطَابه بِذَلِكَ الضَّمِير , فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبهُ هُوَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ . وَسَيَأْتِي فِي سُورَة " الْقَصَص " بَيَان مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " نُودِيَ مِنْ شَاطِئ الْوَادِي الْأَيْمَن فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنْ الشَّجَرَة " [ الْقَصَص : 30 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


قَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ : هُمْ عُلَمَاء الْيَهُود الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاة فَيَجْعَلُونَ الْحَرَام حَلَالًا وَالْحَلَال حَرَامًا اِتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ .

أَيْ عَرَفُوهُ وَعَلِمُوهُ . وَهَذَا تَوْبِيخ لَهُمْ , أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُود قَدْ سَلَفَتْ لِآبَائِهِمْ أَفَاعِيل سُوء وَعِنَاد فَهَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ السُّنَن , فَكَيْف تَطْمَعُونَ فِي إِيمَانهمْ

وَدَلَّ هَذَا الْكَلَام أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَالِم بِالْحَقِّ الْمُعَانِد فِيهِ بَعِيد مِنْ الرُّشْد ; لِأَنَّهُ عَلِمَ الْوَعْد وَالْوَعِيد وَلَمْ يَنْهَهُ ذَلِكَ عَنْ عِنَاده .
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَسورة البقرة الآية رقم 76
أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي ذِكْر الْمُنَافِقِينَ . وأَصْل لَقُوا : لَقِيُوا , نُقِلَتْ الضَّمَّة إِلَى الْقَاف وَحُذِفَتْ الْيَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَقَرَأَ مُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع الْيَمَانِيّ : " لَاقُوا الَّذِينَ آمَنُوا " . وَالْأَصْل لَاقِيُوا , تَحَرَّكَتْ الْيَاء وَقَبْلهَا فَتْحَة اِنْقَلَبَتْ أَلِفًا , اِجْتَمَعَ سَاكِنَانِ الْأَلِف وَالْوَاو فَحُذِفَتْ الْأَلِف لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ثُمَّ حُرِّكَتْ الْوَاو بِالضَّمِّ . وَإِنْ قِيلَ : لِمَ ضُمَّتْ الْوَاو فِي لَاقُوا فِي الْإِدْرَاج وَحُذِفَتْ مِنْ لَقُوا ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّ قَبْل الْوَاو الَّتِي فِي لَقُوا ضَمَّة فَلَوْ حُرِّكَتْ الْوَاو بِالضَّمِّ لَثَقُلَ عَلَى اللِّسَان النُّطْق بِهَا فَحُذِفَتْ لِثِقَلِهَا , وَحُرِّكَتْ فِي لَاقُوا لِأَنَّ قَبْلهَا فَتْحَة .

الْآيَة فِي الْيَهُود , وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْعَرَب بِمَا عُذِّبَ بِهِ آبَاؤُهُمْ , فَقَالَتْ لَهُمْ الْيَهُود : " أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّه عَلَيْكُمْ " أَيْ حَكَمَ اللَّه عَلَيْكُمْ مِنْ الْعَذَاب , لِيَقُولُوا نَحْنُ أَكْرَم عَلَى اللَّه مِنْكُمْ , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ . وَقِيلَ : إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا نَازَلَ قُرَيْظَة يَوْم خَيْبَر سَمِعَ سَبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , لَا تَبْلُغ إِلَيْهِمْ , وَعَرَضَ لَهُ , فَقَالَ : ( أَظُنّك سَمِعْت شَتْمِي مِنْهُمْ لَوْ رَأَوْنِي لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ ) وَنَهَضَ إِلَيْهِمْ , فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمْسَكُوا , فَقَالَ لَهُمْ : ( أَنَقَضْتُمْ الْعَهْد يَا إِخْوَة الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير أَخْزَاكُمْ اللَّه وَأَنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَته ) فَقَالُوا : مَا كُنْت جَاهِلًا يَا مُحَمَّد فَلَا تَجْهَل عَلَيْنَا , مَنْ حَدَّثَك بِهَذَا ؟ مَا خَرَجَ هَذَا الْخَبَر إِلَّا مِنْ عِنْدنَا ! رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ مُجَاهِد .

" وَإِذَا خَلَا " الْأَصْل فِي " خَلَا " خَلَوَ , قُلِبَتْ الْوَاو أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاح مَا قَبْلهَا , وَتَقَدَّمَ مَعْنَى " خَلَا " فِي أَوَّل السُّورَة . وَمَعْنَى " فَتَحَ " حَكَمَ . وَالْفَتْح عِنْد الْعَرَب : الْقَضَاء وَالْحُكْم , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْننَا وَبَيْن قَوْمنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْر الْفَاتِحِينَ " أَيْ الْحَاكِمِينَ , وَالْفَتَّاح : الْقَاضِي بِلُغَةِ الْيَمَن , يُقَال : بَيْنِي وَبَيْنك الْفَتَّاح , قِيلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْصُر الْمَظْلُوم عَلَى الظَّالِم . وَالْفَتْح : النَّصْر , وَمِنْهُ قَوْله : " يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا " , [ الْبَقَرَة : 89 ] , وَقَوْله : " إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْح " [ الْأَنْفَال : 19 ] . وَيَكُون بِمَعْنَى الْفَرْق بَيْن الشَّيْئَيْنِ .


نُصِبَ بِلَامِ كَيْ , وَإِنْ شِئْت بِإِضْمَارِ أَنْ , وَعَلَامَة النَّصْب , حَذْف النُّون . قَالَ يُونُس : وَنَاس مِنْ الْعَرَب يَفْتَحُونَ لَام كَيْ . قَالَ الْأَخْفَش : لِأَنَّ الْفَتْح الْأَصْل . قَالَ خَلَف الْأَحْمَر : هِيَ لُغَة بَنِي الْعَنْبَر . وَمَعْنَى " لِيُحَاجُّوكُمْ " لِيُعَيِّرُوكُمْ , وَيَقُولُوا نَحْنُ أَكْرَم عَلَى اللَّه مِنْكُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لِيَحْتَجُّوا عَلَيْكُمْ بِقَوْلِكُمْ , يَقُولُونَ كَفَرْتُمْ بِهِ بَعْد أَنْ وَقَفْتُمْ عَلَى صِدْقه . وَقِيلَ : إِنَّ الرَّجُل مِنْ الْيَهُود كَانَ يَلْقَى صَدِيقه مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُول لَهُ : تَمَسَّكْ بِدِينِ مُحَمَّد فَإِنَّهُ نَبِيّ حَقًّا .


قِيلَ فِي الْآخِرَة , كَمَا قَالَ : " ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْم الْقِيَامَة عِنْد رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ " [ الزُّمَر : 31 ] . وَقِيلَ : عِنْد ذِكْر رَبّكُمْ . وَقِيلَ : " عِنْد " بِمَعْنَى " فِي " أَيْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ فِي رَبّكُمْ , فَيَكُونُوا أَحَقّ بِهِ مِنْكُمْ لِظُهُورِ الْحُجَّة عَلَيْكُمْ , رُوِيَ عَنْ الْحَسَن . وَالْحُجَّة : الْكَلَام الْمُسْتَقِيم عَلَى الْإِطْلَاق , وَمِنْ ذَلِكَ مَحَجَّة الطَّرِيق . وَحَاجَجْت فُلَانًا فَحَجَجْته , أَيْ غَلَبْته بِالْحُجَّةِ . وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( فَحَجَّ آدَم مُوسَى ) .



قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْأَحْبَار لِلْأَتْبَاعِ . وَقِيلَ : هُوَ خِطَاب مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ , أَيْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ بِهَذِهِ الْأَحْوَال .
أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَسورة البقرة الآية رقم 77
وَبَّخَهُمْ تَوْبِيخًا يُتْلَى فَقَالَ : " أَوَلَا يَعْلَمُونَ " الْآيَة . فَهُوَ اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّوْبِيخ وَالتَّقْرِيع . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " يَعْلَمُونَ " بِالْيَاءِ , وَابْن مُحَيْصِن بِالتَّاءِ , خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ . وَاَلَّذِي أَسَرُّوهُ كُفْرهمْ , وَاَلَّذِي أَعْلَنُوهُ الْجَحْد بِهِ .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَسورة البقرة الآية رقم 78
أَيْ مِنْ الْيَهُود . وَقِيلَ : مِنْ الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ أُمِّيُّونَ , أَيْ مَنْ لَا يَكْتُب وَلَا يَقْرَأ , وَاحِدهمْ أُمِّيّ , مَنْسُوب إِلَى الْأُمَّة الْأُمِّيَّة الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْل وِلَادَة أُمَّهَاتهَا لَمْ تَتَعَلَّم الْكِتَابَة وَلَا قِرَاءَتهَا , وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّا أُمَّة أُمِّيَّة لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب ) الْحَدِيث . وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأُمِّ الْكِتَاب , عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ أُمِّيُّونَ لِنُزُولِ الْكِتَاب عَلَيْهِمْ , كَأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى أُمّ الْكِتَاب , فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَمِنْهُمْ أَهْل الْكِتَاب لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَاب . عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك : هُمْ نَصَارَى الْعَرَب . وَقِيلَ : هُمْ قَوْم مِنْ أَهْل الْكِتَاب , رُفِعَ كِتَابهمْ لِذُنُوبٍ اِرْتَكَبُوهَا فَصَارُوا أُمِّيِّينَ . عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُمْ الْمَجُوس . قُلْت : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر , وَاَللَّه أَعْلَم .

" إِلَّا " هَاهُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ , فَهُوَ اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلَّا اِتِّبَاع الظَّنّ " [ النِّسَاء : 157 ] . وَقَالَ النَّابِغَة : حَلَفْت يَمِينًا غَيْر ذِي مَثْنَوِيَّة وَلَا عِلْم إِلَّا حُسْن ظَنّ بِصَاحِبٍ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَالْأَعْرَج " إِلَّا أَمَانِي " خَفِيفَة الْيَاء , حَذَفُوا إِحْدَى الْيَاءَيْنِ اِسْتِخْفَافًا . قَالَ أَبُو حَاتِم : كُلّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْو وَاحِده مُشَدَّد , فَلَك فِيهِ التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف , مِثْل أَثَافِيّ وَأَغَانِيّ وَأَمَانِيّ , وَنَحْوه . وَقَالَ الْأَخْفَش : هَذَا كَمَا يُقَال فِي جَمْع مِفْتَاح : مَفَاتِيح وَمَفَاتِح , وَهِيَ يَاء الْجَمْع . قَالَ النَّحَّاس : الْحَذْف فِي الْمُعْتَلّ أَكْثَر , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَهَلْ يَرْجِع التَّسْلِيم أَوْ يَكْشِف الْعَمَى ثَلَاث الْأَثَافِي وَالرُّسُوم الْبَلَاقِع وَالْأَمَانِيّ جَمْع أُمْنِيَّة وَهِيَ التِّلَاوَة , وَأَصْلهَا أُمْنُويَة عَلَى وَزْن أُفْعُولَة , فَأُدْغِمَتْ الْوَاو فِي الْيَاء فَانْكَسَرَتْ النُّون مِنْ أَجْل الْيَاء فَصَارَتْ أُمْنِيَّة , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أُمْنِيَّته " [ الْحَجّ : 52 ] أَيْ إِذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَان فِي تِلَاوَته . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك : وَقَالَ آخَر : تَمَنَّى كِتَاب اللَّه أَوَّل لَيْله وَآخِره لَاقَى حِمَام الْمُقَادِر وَقَالَ آخَر : تَمَنَّى كِتَاب اللَّه آخِر لَيْله تَمَنِّي دَاوُد الزَّبُور عَلَى رِسْل وَالْأَمَانِيّ أَيْضًا الْأَكَاذِيب , وَمِنْهُ قَوْل عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَا تَمَنَّيْت مُنْذُ أَسْلَمْت , أَيْ مَا كَذَبْت . وَقَوْل بَعْض الْعَرَب لِابْنِ دَأْب وَهُوَ يُحَدِّث : أَهَذَا شَيْء رُوِّيته أَمْ شَيْء تَمَنَّيْته ؟ أَيْ اِفْتَعَلْته . وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد " أَمَانِيّ " فِي الْآيَة . وَالْأَمَانِيّ أَيْضًا مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَان وَيَشْتَهِيه . قَالَ قَتَادَة : " إِلَّا أَمَانِيّ " يَعْنِي أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّه مَا لَيْسَ لَهُمْ . وَقِيلَ : الْأَمَانِيّ التَّقْدِير , يُقَال : مُنِّيَ لَهُ أَيْ قُدِّرَ , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ , وَحَكَاهُ اِبْن بَحْر , وَأَنْشَدَ قَوْل الشَّاعِر : لَا تَأْمَنَنّ وَإِنْ أَمْسَيْت فِي حَرَم حَتَّى تُلَاقِي مَا يَمْنِي لَك الْمَانِي أَيْ يُقَدِّر لَك الْمُقَدِّر .


" إِنْ " بِمَعْنَى مَا النَّافِيَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " إِنْ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُور " [ الْمُلْك : 20 ] .


يَكْذِبُونَ وَيُحْدِثُونَ , لِأَنَّهُمْ لَا عِلْم لَهُمْ بِصِحَّةِ مَا يَتْلُونَ , وَإِنَّمَا هُمْ مُقَلِّدُونَ لِأَحْبَارِهِمْ فِيمَا يَقْرَءُونَ بِهِ . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى النَّحْوِيّ أَنَّ الْعَرَب تَجْعَل الظَّنّ عِلْمًا وَشَكًّا وَكَذِبًا , وَقَالَ : إِذَا قَامَتْ بَرَاهِين الْعِلْم فَكَانَتْ أَكْثَر مِنْ بَرَاهِين الشَّكّ فَالظَّنّ يَقِين , وَإِذَا اِعْتَدَلَتْ بَرَاهِين الْيَقِين وَبَرَاهِين الشَّكّ فَالظَّنّ شَكّ , وَإِذَا زَادَتْ بَرَاهِين الشَّكّ عَلَى بَرَاهِين الْيَقِين فَالظَّنّ كَذِب , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ " أَرَادَ إِلَّا يَكْذِبُونَ .
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَسورة البقرة الآية رقم 79
" فَوَيْل " اُخْتُلِفَ فِي الْوَيْل مَا هُوَ , فَرَوَى عُثْمَان بْن عَفَّان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَبَل مِنْ نَار . وَرَوَى أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ الْوَيْل وَادٍ فِي جَهَنَّم بَيْن جَبَلَيْنِ يَهْوِي فِيهِ الْهَاوِي أَرْبَعِينَ خَرِيفًا . وَرَوَى سُفْيَان وَعَطَاء بْن يَسَار : إِنَّ الْوَيْل فِي هَذِهِ الْآيَة وَادٍ يَجْرِي بِفِنَاءِ جَهَنَّم مِنْ صَدِيد أَهْل النَّار . وَقِيلَ : صِهْرِيج فِي جَهَنَّم . وَحَكَى الزَّهْرَاوِيّ عَنْ آخَرِينَ : أَنَّهُ بَاب مِنْ أَبْوَاب جَهَنَّم . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : الْوَيْل الْمَشَقَّة مِنْ الْعَذَاب . وَقَالَ الْخَلِيل : الْوَيْل شِدَّة الشَّرّ . الْأَصْمَعِيّ : الْوَيْل تَفَجُّع وَتَرَحُّم . سِيبَوَيْهِ : وَيْل لِمَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَة , وَوَيْح زَجْر لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَكَة . اِبْن عَرَفَة : الْوَيْل الْحُزْن : يُقَال : تَوَيَّلَ الرَّجُل إِذَا دَعَا بِالْوَيْلِ , وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِكَ عِنْد الْحُزْن وَالْمَكْرُوه , وَمِنْهُ قَوْله : " فَوَيْل لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ " [ الْبَقَرَة : 79 ] . وَقِيلَ : أَصْله الْهَلَكَة , وَكُلّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَة دَعَا بِالْوَيْلِ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " يَا وَيْلَتنَا مَا لِهَذَا الْكِتَاب " [ الْكَهْف : 49 ] . وَهِيَ الْوَيْل وَالْوَيْلَة , وَهُمَا الْهَلَكَة , وَالْجَمْع الْوَيْلَات , قَالَ : لَهُ الْوَيْل إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمّ هَاشِم وَقَالَ أَيْضًا : فَقَالَتْ لَك الْوَيْلَات إِنَّك مُرْجِلِي وَارْتَفَعَ " وَيْل " بِالِابْتِدَاءِ , وَجَازَ الِابْتِدَاء بِهِ وَإِنْ كَانَ نَكِرَة لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاء . قَالَ الْأَخْفَش : وَيَجُوز النَّصْب عَلَى إِضْمَار فِعْل , أَيْ أَلْزَمَهُمْ اللَّه وَيْلًا . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْأَصْل فِي الْوَيْل " وَيْ " أَيْ حُزْن , كَمَا تَقُول : وَيْ لِفُلَانٍ , أَيْ حُزْن لَهُ , فَوَصَلَتْهُ الْعَرَب بِاللَّامِ وَقَدَّرُوهَا مِنْهُ فَأَعْرَبُوهَا . وَالْأَحْسَن فِيهِ إِذَا فُصِلَ عَنْ الْإِضَافَة الرَّفْع ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُقُوع . وَيَصِحّ النَّصْب عَلَى مَعْنَى الدُّعَاء , كَمَا ذَكَرْنَا .

قَالَ الْخَلِيل : وَلَمْ يُسْمَع عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا وَيْح وَوَيْس وَوَيْه وَوَيْك وَوَيْل وَوَيْب , وَكُلّه يَتَقَارَب فِي الْمَعْنَى . وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنهَا قَوْم , وَهِيَ مَصَادِر لَمْ تَنْطِق الْعَرَب مِنْهَا بِفِعْلٍ . قَالَ الْجَرْمِيّ : وَمِمَّا يَنْتَصِب اِنْتِصَاب الْمَصَادِر وَيْله وَعَوْله وَوَيْحه وَوَيْسه , فَإِذَا أُدْخِلَتْ اللَّام رُفِعَتْ فَقُلْت : وَيْل لَهُ , وَوَيْح لَهُ .

الْكِتَابَة مَعْرُوفَة . وَأَوَّل مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ وَخَطَّ بِهِ إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام , وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ , خَرَّجَهُ الْآجُرِّيّ وَغَيْره . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام أُعْطِيَ الْخَطّ فَصَارَ وِرَاثَة فِي وَلَده .


تَأْكِيد , فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَتْب لَا يَكُون إِلَّا بِالْيَدِ , فَهُوَ مِثْل قَوْله : " وَلَا طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " [ الْأَنْعَام : 38 ] , وَقَوْله : " يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ " [ آل عِمْرَان : 167 ] . وَقِيلَ : فَائِدَة " بِأَيْدِيهِمْ " بَيَان لِجُرْمِهِمْ وَإِثْبَات لِمُجَاهَرَتِهِمْ , فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّى الْفِعْل أَشَدّ مُوَاقَعَة مِمَّنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيًا لَهُ وَقَالَ اِبْن السَّرَّاج : " بِأَيْدِيهِمْ " كِنَايَة عَنْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ دُون أَنْ يُنَزَّل عَلَيْهِمْ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَة فِي كَتْب أَيْدِيهمْ .

فِي هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا التَّحْذِير مِنْ التَّبْدِيل وَالتَّغْيِير وَالزِّيَادَة فِي الشَّرْع , فَكُلّ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ أَوْ اِبْتَدَعَ فِي دِين اللَّه مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَجُوز فِيهِ فَهُوَ دَاخِل تَحْت هَذَا الْوَعِيد الشَّدِيد , وَالْعَذَاب الْأَلِيم , وَقَدْ حَذَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّته لَمَّا قَدْ عَلِمَ مَا يَكُون فِي آخِر الزَّمَان فَقَالَ : ( أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلكُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب اِفْتَرَقُوا عَلَى اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّة وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ فِرْقَة كُلّهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة ) الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي . فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا مِنْ تِلْقَاء أَنْفُسهمْ فِي الدِّين خِلَاف كِتَاب اللَّه أَوْ سُنَّته أَوْ سُنَّة أَصْحَابه فَيُضِلُّوا بِهِ النَّاس , وَقَدْ وَقَعَ مَا حَذَّرَهُ وَشَاعَ , وَكَثُرَ وَذَاعَ , فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : نَعَتَ اللَّه تَعَالَى أَحْبَارهمْ بِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ وَيُحَرِّفُونَ فَقَالَ وَقَوْله الْحَقّ : " فَوَيْل لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ " [ الْبَقَرَة : 79 ] الْآيَة . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَرَسَ الْأَمْر فِيهِمْ , وَسَاءَتْ رَعِيَّة عُلَمَائِهِمْ , وَأَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا حِرْصًا وَطَمَعًا , طَلَبُوا أَشْيَاء تَصْرِف وُجُوه النَّاس إِلَيْهِمْ , فَأَحْدَثُوا فِي شَرِيعَتهمْ وَبَدَّلُوهَا , وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِالتَّوْرَاةِ , وَقَالُوا لِسُفَهَائِهِمْ هَذَا مِنْ عِنْد اللَّه , لِيَقْبَلُوهَا عَنْهُمْ فَتَتَأَكَّد رِيَاسَتهمْ وَيَنَالُوا بِهِ حُطَام الدُّنْيَا وَأَوْسَاخهَا . وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَنْ قَالُوا : لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل , وَهُمْ الْعَرَب , أَيْ مَا أَخَذْنَا مِنْ أَمْوَالهمْ فَهُوَ حِلّ لَنَا . وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَنْ قَالُوا : لَا يَضُرّنَا ذَنْب , فَنَحْنُ أَحِبَّاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ! وَإِنَّمَا كَانَ فِي التَّوْرَاة " يَا أَحْبَارِي وَيَا أَبْنَاء رُسُلِي " فَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا " يَا أَحِبَّائِي وَيَا أَبْنَائِي " فَأَنْزَلَ اللَّه تَكْذِيبهمْ : " وَقَالَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبكُمْ بِذُنُوبِكُمْ " [ الْمَائِدَة : 18 ] . فَقَالَتْ : لَنْ يُعَذِّبنَا اللَّه , وَإِنْ عَذَّبْنَا فَأَرْبَعِينَ يَوْمًا مِقْدَار أَيَّام الْعِجْل , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَقَالُوا لَنْ تَمَسّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْد اللَّه عَهْدًا " [ الْبَقَرَة : 80 ] قَالَ اِبْن مِقْسَم : يَعْنِي تَوْحِيدًا , بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : " إِلَّا مَنْ اِتَّخَذَ عِنْد الرَّحْمَن عَهْدًا " [ مَرْيَم : 87 ] يَعْنِي لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " فَلَنْ يُخْلِف اللَّه عَهْده أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ " [ الْبَقَرَة : 80 ] ثُمَّ أَكْذَبَهُمْ فَقَالَ : " بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَة وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَته فَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَنَّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " . [ الْبَقَرَة : 81 - 82 ] . فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْخُلُود فِي النَّار وَالْجَنَّة إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْكُفْر وَالْإِيمَان , لَا بِمَا قَالُوهُ .

وَصَفَ اللَّه تَعَالَى مَا يَأْخُذُونَهُ بِالْقِلَّةِ , إِمَّا لِفَنَائِهِ وَعَدَم ثَبَاته , وَإِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا ; لِأَنَّ الْحَرَام لَا بَرَكَة فِيهِ وَلَا يَرْبُو عِنْد اللَّه . قَالَ اِبْن إِسْحَاق وَالْكَلْبِيّ : كَانَتْ صِفَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابهمْ رَبْعَة أَسْمَر , فَجَعَلُوهُ آدَم سَبْطًا طَوِيلًا , وَقَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ وَأَتْبَاعهمْ : اُنْظُرُوا إِلَى صِفَة النَّبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يُبْعَث فِي آخِر الزَّمَان لَيْسَ يُشْبِههُ نَعْت هَذَا , وَكَانَتْ لِلْأَحْبَارِ وَالْعُلَمَاء رِيَاسَة وَمَكَاسِب , فَخَافُوا إِنْ بَيَّنُوا أَنْ تَذْهَب مَآكِلهمْ وَرِيَاسَتهمْ , فَمِنْ ثَمَّ غَيَّرُوا .


قِيلَ مِنْ الْمَآكِل . وَقِيلَ مِنْ الْمَعَاصِي . وَكَرَّرَ الْوَيْل تَغْلِيظًا لِفِعْلِهِمْ .
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 80
يَعْنِي الْيَهُود .

اُخْتُلِفَ فِي سَبَب نُزُولهَا , فَقِيلَ : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ : ( مَنْ أَهْل النَّار ) . قَالُوا : نَحْنُ , ثُمَّ تَخْلُفُونَا أَنْتُمْ . فَقَالَ : ( كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لَا نَخْلُفكُمْ ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , قَالَهُ اِبْن زَيْد . وَقَالَ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة وَالْيَهُود تَقُول : إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف , وَإِنَّمَا يُعَذَّب النَّاس فِي النَّار لِكُلِّ أَلْف سَنَة مِنْ أَيَّام الدُّنْيَا يَوْم وَاحِد فِي النَّار مِنْ أَيَّام الْآخِرَة , وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَة أَيَّام , فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة , وَهَذَا قَوْل مُجَاهِد . وَقَالَتْ طَائِفَة : قَالَتْ الْيَهُود إِنَّ فِي التَّوْرَاة أَنَّ جَهَنَّم مَسِيرَة أَرْبَعِينَ سَنَة , وَأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِي كُلّ يَوْم سَنَة حَتَّى يُكْمِلُوهَا وَتَذْهَب جَهَنَّم . وَرَوَاهُ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : زَعَمَ الْيَهُود أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاة مَكْتُوبًا أَنَّ مَا بَيْن طَرَفَيْ جَهَنَّم مَسِيرَة أَرْبَعِينَ سَنَة إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَة الزَّقُّوم . وَقَالُوا : إِنَّمَا نُعَذَّب حَتَّى نَنْتَهِي إِلَى شَجَرَة الزَّقُّوم فَتَذْهَب جَهَنَّم وَتَهْلِك . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَقَتَادَة : أَنَّ الْيَهُود قَالَتْ إِنَّ اللَّه أَقْسَمَ أَنْ يُدْخِلهُمْ النَّار أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَدَد عِبَادَتهمْ الْعِجْل , فَأَكْذَبَهُمْ اللَّه , كَمَا تَقَدَّمَ .

فِي هَذِهِ الْآيَة رَدّ عَلَى أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه حَيْثُ اِسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( دَعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك ) فِي أَنَّ مُدَّة الْحَيْض مَا يُسَمَّى أَيَّام الْحَيْض , وَأَقَلّهَا ثَلَاثَة وَأَكْثَرهَا عَشَرَة , قَالُوا : لِأَنَّ مَا دُون الثَّلَاثَة يُسَمَّى يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ , وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشْرَة يُقَال فِيهِ أَحَد عَشَر يَوْمًا وَلَا يُقَال فِيهِ أَيَّام , وَإِنَّمَا يُقَال أَيَّام مِنْ الثَّلَاثَة إِلَى الْعَشَرَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ " [ الْبَقَرَة . 196 ] , " تَمَتَّعُوا فِي دَاركُمْ ثَلَاثَة أَيَّام " [ هُود : 65 ] , " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَة أَيَّام حُسُومًا " [ هُود : 7 ] .

فَيُقَال لَهُمْ : فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي الصَّوْم : " أَيَّامًا مَعْدُودَات " يَعْنِي جَمِيع الشَّهْر , وَقَالَ : " لَنْ تَمَسّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات " [ آل عِمْرَان : 24 ] يَعْنِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا . وَأَيْضًا فَإِذَا أُضِيفَتْ الْأَيَّام إِلَى عَارِض لَمْ يُرَدْ بِهِ تَحْدِيد الْعَدَد , بَلْ يُقَال : أَيَّام مَشْيك وَسَفَرك وَإِقَامَتك , وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ وَعِشْرِينَ وَمَا شِئْت مِنْ الْعَدَد , وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا كَانَ مُعْتَادًا لَهَا , وَالْعَادَة سِتّ أَوْ سَبْع , فَخَرَجَ الْكَلَام عَلَيْهِ , وَاَللَّه أَعْلَم .


وَأَصْل أتَّخَذْتُمْ اِئْتَخَذْتُمْ مِنْ الْأَخْذ وَوَزْنه اِفْتَعَلْتُمْ سُهِّلَتْ الْهَمْزَة الثَّانِيَة لِامْتِنَاعِ هَمْزَتَيْنِ فَجَاءَ اِيتَخَذْتُمْ فَاضْطَرَبَتْ الْيَاء فِي التَّصْرِيف جَاءَتْ أَلِفًا فِي يَاتَّخِذ وَوَاوًا فِي مُوتَّخِذ فَبُدِّلَتْ بِحَرْفٍ جَلْد ثَابِت مِنْ جِنْس مَا بَعْدهَا وَهِيَ التَّاء وَأُدْغِمَتْ ثُمَّ اُجْتُلِبَتْ أَلِف الْوَصْل لِلنُّطْقِ وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا إِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَام التَّقْرِير كَقَوْلِهِ تَعَالَى " قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْد اللَّه عَهْدًا " [ الْبَقَرَة : 80 ] فَاسْتَغْنَى عَنْ أَلِف الْوَصْل بِأَلِفِ التَّقْرِير قَالَ الشَّاعِر اسْتَحْدَثَ الرَّكْب عَنْ أَشْيَاعهمْ خَبَرًا أَمْ رَاجَعَ الْقَلْب مِنْ أَطْرَابِه طَرَب وَنَحْوه فِي الْقُرْآن " أَطَّلَعَ الْغَيْب " [ مَرْيَم : 78 ] " أَصْطَفَى الْبَنَات " [ الصَّافَّات : 153 ] " أَسْتَكْبَرْت أَمْ كُنْت " [ ص : 75 ] وَمَذْهَب أَبِي عَلِيّ الْفَارِسِيّ أَنَّ " أتَّخَذْتُمْ " مِنْ تَخِذَ لَا مِنْ أَخَذَ ,


أَيْ أَسْلَفْتُمْ عَمَلًا صَالِحًا فَآمَنْتُمْ وَأَطَعْتُمْ فَتَسْتَوْجِبُونَ بِذَلِكَ الْخُرُوج مِنْ النَّار ! أَوْ هَلْ عَرَفْتُمْ ذَلِكَ بِوَحْيِهِ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ .


تَوْبِيخ وَتَقْرِيع .
بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة الآية رقم 81
أَيْ لَيْسَ الْأَمْر كَمَا ذَكَرْتُمْ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : لَيْسَ " بَلَى " و " نَعَمْ " اِسْمَيْنِ . وَإِنَّمَا هُمَا حَرْفَانِ مِثْل " بَلْ " وَغَيْره , وَهِيَ رَدّ لِقَوْلِهِمْ : لَنْ تَمَسّنَا النَّار . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : أَصْلهَا بَلْ الَّتِي لِلْإِضْرَابِ عَنْ الْأَوَّل , زِيدَتْ عَلَيْهَا الْيَاء لِيَحْسُن الْوَقْف , وَضُمِّنَتْ الْيَاء مَعْنَى الْإِيجَاب وَالْإِنْعَام . ف " بَلْ " تَدُلّ عَلَى رَدّ الْجَحْد , وَالْيَاء تَدُلّ عَلَى الْإِيجَاب لِمَا بَعْد . قَالُوا : وَلَوْ قَالَ قَائِل : أَلَمْ تَأْخُذ دِينَارًا ؟ فَقُلْت : نَعَمْ , لَكَانَ الْمَعْنَى لَا , لَمْ آخُذ ; لِأَنَّك حَقَّقْت النَّفْي وَمَا بَعْده . فَإِذَا قُلْت : بَلَى , صَارَ الْمَعْنَى قَدْ أَخَذْت . قَالَ الْفَرَّاء : إِذَا قَالَ الرَّجُل لِصَاحِبِهِ : مَا لَك عَلَيَّ شَيْء , فَقَالَ الْآخَر : نَعَمْ , كَانَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا ; لِأَنَّ لَا شَيْء لَهُ عَلَيْهِ , وَلَوْ قَالَ : بَلَى , كَانَ رَدًّا لِقَوْلِهِ , وَتَقْدِيره : بَلَى لِي عَلَيْك . وَفِي التَّنْزِيل " أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى " [ الْأَعْرَاف : 172 ] وَلَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا .

" سَيِّئَة " السَّيِّئَة الشِّرْك . قَالَ اِبْن جُرَيْج قُلْت لِعَطَاءٍ : " مَنْ كَسَبَ سَيِّئَة " ؟ قَالَ : الشِّرْك , وَتَلَا " وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوههمْ فِي النَّار " . وَكَذَا قَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة , قَالَا : وَالْخَطِيئَة الْكَبِيرَة .

لِمَا قَالَ تَعَالَى : " بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَة وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَته " دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّق عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَتِمّ بِأَقَلِّهِمَا , وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " [ فُصِّلَتْ : 30 ] , وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِسُفْيَان بْن عَبْد اللَّه الثَّقَفِيّ وَقَدْ قَالَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه , قُلْ لِي فِي الْإِسْلَام قَوْلًا لَا أَسْأَل عَنْهُ أَحَدًا بَعْدك . قَالَ : ( قُلْ آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اِسْتَقِمْ ) . رَوَاهُ مُسْلِم . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِنْد قَوْله تَعَالَى لِآدَم وَحَوَّاء : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْبَقَرَة : 35 ] . وَقَرَأَ نَافِع " خَطِيئَاته " بِالْجَمْعِ , الْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ , وَالْمَعْنَى الْكَثْرَة , مِثْل قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَة اللَّه لَا تُحْصُوهَا " .
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة الآية رقم 82
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَسورة البقرة الآية رقم 83
تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي بَيَان هَذِهِ الْأَلْفَاظ . وَاخْتُلِفَ فِي الْمِيثَاق هُنَا , فَقَالَ مَكِّيّ : هُوَ الْمِيثَاق الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ حِين أُخْرِجُوا مِنْ صُلْب آدَم كَالذَّرِّ . وَقِيلَ : هُوَ مِيثَاق أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عُقَلَاء فِي حَيَاتهمْ عَلَى أَلْسِنَة أَنْبِيَائِهِمْ .

وَعِبَادَة اللَّه إِثْبَات تَوْحِيده , وَتَصْدِيق رُسُله , وَالْعَمَل بِمَا أَنْزَلَ فِي كُتُبه .

" لَا تَعْبُدُونَ " قَالَ سِيبَوَيْهِ : " لَا تَعْبُدُونَ " مُتَعَلِّق بِقَسَمٍ , وَالْمَعْنَى وَإِذْ اِسْتَخْلَفْنَاهُمْ وَاَللَّه لَا تَعْبُدُونَ , وَأَجَازَهُ الْمُبَرِّد وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء . وَقَرَأَ أُبَيّ وَابْن مَسْعُود " لَا تَعْبُدُوا " عَلَى النَّهْي , وَلِهَذَا وَصَلَ الْكَلَام بِالْأَمْرِ فَقَالَ : " وَقُومُوا , وَقُولُوا , وَأَقِيمُوا , وَآتُوا " . وَقِيلَ : هُوَ فِي مَوْضِع الْحَال , أَيْ أَخَذْنَا مِيثَاقهمْ مُوَحِّدِينَ , أَوْ غَيْر مُعَانِدِينَ , قَالَهُ قُطْرُب وَالْمُبَرِّد أَيْضًا . وَهَذَا إِنَّمَا يُتَّجَه عَلَى قِرَاءَة اِبْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " يَعْبُدُونَ " بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَل . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالزَّجَّاج وَجَمَاعَة : الْمَعْنَى أَخَذْنَا مِيثَاقهمْ بِأَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه , وَبِأَنْ يُحْسِنُوا لِلْوَالِدَيْنِ , وَبِأَلَّا يَسْفِكُوا الدِّمَاء , ثُمَّ حُذِفَتْ أَنْ وَالْبَاء فَارْتَفَعَ الْفِعْل لِزَوَالِهِمَا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَفَغَيْر اللَّه تَأْمُرُونِّي " . قَالَ الْمُبَرِّد : هَذَا خَطَأ ; لِأَنَّ كُلّ مَا أُضْمِرَ فِي الْعَرَبِيَّة فَهُوَ يَعْمَل عَمَله مُظْهَرًا , تَقُول : وَبَلَد قُطِعَتْ , أَيْ رُبَّ بَلَد .

قُلْت : لَيْسَ هَذَا بِخَطَإٍ , بَلْ هُمَا وَجْهَانِ صَحِيحَانِ وَعَلَيْهِمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَلَا أَيّهَا ذَا الزَّاجِرِي أَحْضُر الْوَغَى وَأَنْ أَشْهَد اللَّذَّات هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع , فَالنَّصْب عَلَى إِضْمَار أَنْ , وَالرَّفْع عَلَى حَذْفهَا .


أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا . وَقَرَنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة حَقّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ النَّشْأَة الْأُولَى مِنْ عِنْد اللَّه , وَالنَّشْء الثَّانِي - وَهُوَ التَّرْبِيَة - مِنْ جِهَة الْوَالِدَيْنِ , وَلِهَذَا قَرَنَ تَعَالَى الشُّكْر لَهُمَا بِشُكْرِهِ فَقَالَ : " أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك " [ لُقْمَان : 14 ] . وَالْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدَيْنِ : مُعَاشَرَتهمَا بِالْمَعْرُوفِ , وَالتَّوَاضُع لَهُمَا , وَامْتِثَال أَمْرهمَا , وَالدُّعَاء بِالْمَغْفِرَةِ بَعْد مَمَاتهمَا , وَصِلَة أَهْل وُدّهمَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه مُفَصَّلًا فِي " الْإِسْرَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


عَطَفَ ذِي الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ . وَالْقُرْبَى : بِمَعْنَى الْقَرَابَة , وَهُوَ مَصْدَر كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى , أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَات بِصِلَةِ أَرْحَامهمْ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا مُفَصَّلًا فِي سُورَة " الْقِتَال " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

الْيَتَامَى عُطِفَ أَيْضًا , وَهُوَ جَمْع يَتِيم , مِثْل نَدْمَى جَمْع نَدِيم . وَالَيْتُمْ فِي بَنِي آدَم بِفَقْدِ الْأَب , وَفِي الْبَهَائِم بِفَقْدِ الْأُمّ . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ الْيَتِيم يُقَال فِي بَنِي آدَم فِي فَقْد الْأُمّ , وَالْأَوَّل الْمَعْرُوف . وَأَصْله الِانْفِرَاد , يُقَال : صَبِيّ يَتِيم , أَيْ مُنْفَرِد مِنْ أَبِيهِ . وَبَيْت يَتِيم : أَيْ لَيْسَ قَبْله وَلَا بَعْده شَيْء مِنْ الشِّعْر . وَدُرَّة يَتِيمَة : لَيْسَ لَهَا نَظِير . وَقِيلَ : أَصْله الْإِبْطَاء , فَسُمِّيَ بِهِ الْيَتِيم ; لِأَنَّ الْبِرّ يُبْطِئ عَنْهُ . وَيُقَال : يَتُمَ يَيْتُم يُتْمًا , مِثْل عَظُمَ يَعْظُم . وَيَتِمَ يَيْتَم يُتْمًا وَيَتَمًا , مِثْل سَمِعَ يَسْمَع , ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْفَرَّاء . وَقَدْ أَيْتَمَهُ اللَّه . وَيَدُلّ هَذَا عَلَى الرَّأْفَة بِالْيَتِيمِ وَالْحَضّ عَلَى كَفَالَته وَحِفْظ مَاله , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " النِّسَاء " . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَافِل الْيَتِيم لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّة ) . وَأَشَارَ مَالِك بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى , رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَخَرَّجَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن دِينَار أَبِي سَعِيد الْبَصْرِيّ وَهُوَ الْحَسَن بْن وَاصِل قَالَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ هِصَّان عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا قَعَدَ يَتِيم مَعَ قَوْم عَلَى قَصْعَتهمْ فَيَقْرَب قَصْعَتهمْ الشَّيْطَان ) . وَخُرِّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيث حُسَيْن بْن قَيْس وَهُوَ أَبُو عَلِيّ الرَّحَبِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ بَيْن مُسْلِمِينَ إِلَى طَعَامه وَشَرَابه حَتَّى يُغْنِيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبه أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّه كَرِيمَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبه - قَالُوا : وَمَا كَرِيمَتَاهُ ؟ قَالَ : - عَيْنَاهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاث بَنَات أَوْ ثَلَاث أَخَوَات فَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُتْنَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبه ألْبَتَّة إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر ) فَنَادَاهُ رَجُل مِنْ الْأَعْرَاب مِمَّنْ هَاجَرَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه أَوْ اِثْنَتَيْنِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوْ اِثْنَتَيْنِ ) . فَكَانَ اِبْن عَبَّاس إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث قَالَ : هَذَا وَاَللَّه مِنْ غَرَائِب الْحَدِيث وَغُرَره .

السَّبَّابَة مِنْ الْأَصَابِع هِيَ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَام , وَكَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّة تُدْعَى بِالسَّبَّابَةِ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ بِهَا , فَلَمَّا جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ كَرِهُوا هَذَا الِاسْم فَسَمَّوْهَا الْمُشِيرَة ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا إِلَى اللَّه فِي التَّوْحِيد . وَتُسَمَّى أَيْضًا بِالسَّبَّاحَةِ , جَاءَ تَسْمِيَتهَا بِذَلِكَ فِي حَدِيث وَائِل بْن حُجْر وَغَيْره , وَلَكِنَّ اللُّغَة سَارَتْ بِمَا كَانَتْ تَعْرِفهُ فِي الْجَاهِلِيَّة فَغَلَبَتْ . وَرُوِيَ عَنْ أَصَابِع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُشِيرَة مِنْهَا كَانَتْ أَطْوَل مِنْ الْوُسْطَى , ثُمَّ الْوُسْطَى أَقْصَر مِنْهَا , ثُمَّ الْبِنْصِر أَقْصَر مِنْ الْوُسْطَى . رَوَى يَزِيد بْن هَارُون قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مِقْسَم الطَّائِفِيّ قَالَ حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي سَارَّة بِنْت مِقْسَم أَنَّهَا سَمِعَتْ مَيْمُونَة بِنْت كَرْدَم قَالَتْ : خَرَجْت فِي حَجَّة حَجَّهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَته وَسَأَلَهُ أَبِي عَنْ أَشْيَاء , فَلَقَدْ رَأَيْتنِي أَتَعَجَّب وَأَنَا جَارِيَة مِنْ طُول أُصْبُعه الَّتِي تَلِي الْإِبْهَام عَلَى سَائِر أَصَابِعه . فَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّة ) , وَقَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر : ( أُحْشَر أَنَا وَأَبُو بَكْر وَعُمَر يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا ) وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاث , فَإِنَّمَا أَرَادَ ذِكْر الْمَنَازِل وَالْإِشْرَاف عَلَى الْخَلْق فَقَالَ : نُحْشَر هَكَذَا وَنَحْنُ مُشْرِفُونَ وَكَذَا كَافِل الْيَتِيم تَكُون مَنْزِلَته رَفِيعَة . فَمَنْ لَمْ يَعْرِف شَأْن أَصَابِع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ تَأْوِيل الْحَدِيث عَلَى الِانْضِمَام وَالِاقْتِرَاب بَعْضهمْ مِنْ بَعْض فِي مَحَلّ الْقُرْبَة . وَهَذَا مَعْنًى بَعِيد ; لِأَنَّ مَنَازِل الرُّسُل وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ مَرَاتِب مُتَبَايِنَة , وَمَنَازِل مُخْتَلِفَة .


" الْمَسَاكِين " عَطْف أَيْضًا أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِين , وَهُمْ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمْ الْحَاجَة وَأَذَلَّتْهُمْ . وَهَذَا يَتَضَمَّن الْحَضّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْمُؤَاسَاة وَتَفَقُّد أَحْوَال الْمَسَاكِين وَالضُّعَفَاء . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَة وَالْمِسْكِين كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيل اللَّه - وَأَحْسِبهُ قَالَ - وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُر وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِر ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ طَاوُس يَرَى السَّعْي عَلَى الْأَخَوَات أَفْضَل مِنْ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه .


" حُسْنًا " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى لِيَحْسُنْ قَوْلكُمْ . وَقِيلَ : التَّقْدِير وَقُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا ذَا حُسْن , فَهُوَ مَصْدَر لَا عَلَى الْمَعْنَى . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " حَسَنًا " بِفَتْحِ الْحَاء وَالسِّين . قَالَ الْأَخْفَش : هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد , مِثْل الْبُخْل وَالْبَخَل , وَالرُّشْد وَالرَّشَد . وَحَكَى الْأَخْفَش : " حُسْنَى " بِغَيْرِ تَنْوِين عَلَى فُعْلَى . قَالَ النَّحَّاس : " وَهَذَا لَا يَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة , لَا يُقَال مِنْ هَذَا شَيْء إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّام , نَحْو الْفُضْلَى وَالْكُبْرَى وَالْحُسْنَى , هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " حُسُنًا " بِضَمَّتَيْنِ , مِثْل " الْحُلُم " . قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَعْنَى قُولُوا لَهُمْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَمُرُوهُمْ بِهَا . اِبْن جُرَيْج : قُولُوا لِلنَّاسِ صِدْقًا فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُغَيِّرُوا نَعْته . سُفْيَان الثَّوْرِيّ : مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَر . أَبُو الْعَالِيَة : قُولُوا لَهُمْ الطَّيِّب مِنْ الْقَوْل , وَجَازُوهُمْ بِأَحْسَن مَا تُحِبُّونَ أَنْ تُجَازُوا بِهِ . وَهَذَا كُلّه حَضّ عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق , فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُون قَوْله لِلنَّاسِ لَيِّنًا وَوَجْهه مُنْبَسِطًا طَلْقًا مَعَ الْبَرّ وَالْفَاجِر , وَالسُّنِّيّ وَالْمُبْتَدِع , مِنْ غَيْر مُدَاهَنَة , وَمِنْ غَيْر أَنْ يَتَكَلَّم مَعَهُ بِكَلَامٍ يَظُنّ أَنَّهُ يُرْضِي مَذْهَبه ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى وَهَارُون : " فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا " [ طَه : 44 ] . فَالْقَائِل لَيْسَ بِأَفْضَل مِنْ مُوسَى وَهَارُون , وَالْفَاجِر لَيْسَ بِأَخْبَث مِنْ فِرْعَوْن , وَقَدْ أَمَرَهُمَا اللَّه تَعَالَى بِاللِّينِ مَعَهُ . وَقَالَ طَلْحَة بْن عُمَر : قُلْت لِعَطَاءٍ إِنَّك رَجُل يَجْتَمِع عِنْدك نَاس ذَوُو أَهْوَاء مُخْتَلِفَة , وَأَنَا رَجُل فِيَّ حِدَّة فَأَقُول لَهُمْ بَعْض الْقَوْل الْغَلِيظ , فَقَالَ : لَا تَفْعَل ! يَقُول اللَّه تَعَالَى : " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا " . فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَكَيْف بِالْحَنِيفِيِّ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَة : ( لَا تَكُونِي فَحَّاشَة فَإِنَّ الْفُحْش لَوْ كَانَ رَجُلًا لَكَانَ رَجُل سُوء ) . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالنَّاسِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَقَوْلِهِ : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " [ النِّسَاء : 54 ] . فَكَأَنَّهُ قَالَ : قُولُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنًا . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ قَتَادَة أَنَّ قَوْله : " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا " مَنْسُوخ بِآيَةِ السَّيْف . وَحَكَاهُ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحِيم عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الِابْتِدَاء ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَة السَّيْف . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّة خُوطِبَتْ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظ فِي صَدْر الْإِسْلَام , وَأَمَّا الْخَبَر عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَمَا أُمِرُوا بِهِ فَلَا نَسْخ فِيهِ , وَاَللَّه أَعْلَم .

تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ . وَالْخِطَاب لِبَنِي إِسْرَائِيل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَزَكَاتهمْ هِيَ الَّتِي كَانُوا يَضَعُونَهَا فَتَنْزِل النَّار عَلَى مَا يُتَقَبَّل , وَلَا تَنْزِل عَلَى مَا لَمْ يُتَقَبَّل , وَلَمْ تَكُنْ كَزَكَاةِ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قُلْت : وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى نَقْل , كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِم . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الزَّكَاة الَّتِي أُمِرُوا بِهَا طَاعَة اللَّه وَالْإِخْلَاص .


الْخِطَاب لِمُعَاصِرِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ تَوَلِّي أَسْلَافهمْ إِذْ هُمْ كُلّهمْ بِتِلْكَ السَّبِيل فِي إِعْرَاضهمْ عَنْ الْحَقّ مِثْلهمْ , كَمَا قَالَ : " شِنْشِنَة أَعْرِفهَا مِنْ أَخْزَم " .


كَعَبْدِ اللَّه بْن سَلَام وَأَصْحَابه . و " قَلِيلًا " نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء , وَالْمُسْتَثْنَى عِنْد سِيبَوَيْهِ مَنْصُوب ; لِأَنَّهُ مُشَبَّه بِالْمَفْعُولِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : هُوَ مَفْعُول عَلَى الْحَقِيقَة , الْمَعْنَى اِسْتَثْنَيْت قَلِيلًا .



اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَالْإِعْرَاض وَالتَّوَلِّي بِمَعْنًى وَاحِد , مُخَالَف بَيْنهمَا فِي اللَّفْظ . وَقِيلَ : التَّوَلِّي فِيهِ بِالْجِسْمِ , وَالْإِعْرَاض بِالْقَلْبِ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : " وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ " حَال ; لِأَنَّ التَّوَلِّي فِيهِ دَلَالَة عَلَى الْإِعْرَاض .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَسورة البقرة الآية رقم 84
وَاخْتُلِفَ فِي الْمِيثَاق هُنَا , فَقَالَ مَكِّيّ : هُوَ الْمِيثَاق الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ حِين أُخْرِجُوا مِنْ صُلْب آدَم كَالذَّرِّ . وَقِيلَ : هُوَ مِيثَاق أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عُقَلَاء فِي حَيَاتهمْ عَلَى أَلْسِنَة أَنْبِيَائِهِمْ .

الْمُرَاد بَنُو إِسْرَائِيل , وَدَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى مَنْ بَعْدهمْ . " لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ " مِثْل " لَا تَعْبُدُونَ " [ الْبَقَرَة : 83 ] فِي الْإِعْرَاب . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف وَشُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة بِضَمِّ الْفَاء , وَهِيَ لُغَة , وَأَبُو نَهِيك " تُسَفِّكُونَ " بِضَمِّ التَّاء وَتَشْدِيد الْفَاء وَفَتْح السِّين . وَالسَّفْك : الصَّبّ .

فَإِنْ قِيلَ : وَهَلْ يَسْفِك أَحَد دَمه وَيُخْرِج نَفْسه مِنْ دَاره ؟ قِيلَ لَهُ : لَمَّا كَانَتْ مِلَّتهمْ وَاحِدَة وَأَمْرهمْ وَاحِد وَكَانُوا فِي الْأُمَم كَالشَّخْصِ الْوَاحِد جُعِلَ قَتْل بَعْضهمْ بَعْضًا وَإِخْرَاج بَعْضهمْ بَعْضًا قَتْلًا لِأَنْفُسِهِمْ وَنَفْيًا لَهَا . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْقِصَاص , أَيْ لَا يَقْتُل أَحَد فَيُقْتَل قِصَاصًا , فَكَأَنَّهُ سَفَكَ دَمه . وَكَذَلِكَ لَا يَزْنِي وَلَا يَرْتَدّ , فَإِنَّ ذَلِكَ يُبِيح الدَّم . وَلَا يُفْسِد فَيُنْفَى , فَيَكُون قَدْ أَخْرَجَ نَفْسه مِنْ دِيَاره . وَهَذَا تَأْوِيل فِيهِ بُعْد وَإِنْ كَانَ صَحِيح الْمَعْنَى . وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْر أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل فِي التَّوْرَاة مِيثَاقًا أَلَّا يَقْتُل بَعْضهمْ بَعْضًا , وَلَا يَنْفِيه وَلَا يَسْتَرِقّهُ , وَلَا يَدَعهُ يَسْرِق , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَات .

قُلْت : وَهَذَا كُلّه مُحَرَّم عَلَيْنَا , وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلّه بِالْفِتَنِ فِينَا , فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ! وَفِي التَّنْزِيل : " أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعًا وَيُذِيق بَعْضكُمْ بَأْس بَعْض " [ الْأَنْعَام : 65 ] وَسَيَأْتِي . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَقَدْ يَجُوز أَنْ يُرَاد بِهِ الظَّاهِر , لَا يَقْتُل الْإِنْسَان نَفْسه , وَلَا يَخْرُج مِنْ دَاره سَفَهًا , كَمَا تَقْتُل الْهِنْد أَنْفُسهَا . أَوْ يَقْتُل الْإِنْسَان نَفْسه مِنْ جَهْد وَبَلَاء يُصِيبهُ , أَوْ يَهِيم فِي الصَّحْرَاء وَلَا يَأْوِي الْبُيُوت جَهْلًا فِي دِيَانَته وَسَفَهًا فِي حِلْمه , فَهُوَ عُمُوم فِي جَمِيع ذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَان بْن مَظْعُون بَايَعَ فِي عَشَرَة مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَزَمُوا أَنْ يَلْبَسُوا الْمُسُوح , وَأَنْ يَهِيمُوا فِي الصَّحْرَاء وَلَا يَأْوُوا الْبُيُوت , وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْم وَلَا يَغْشُوا النِّسَاء , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى دَار عُثْمَان بْن مَظْعُون فَلَمْ يَجِدهُ , فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : ( مَا حَدِيث بَلَغَنِي عَنْ عُثْمَان ) ؟ وَكَرِهَتْ أَنْ تُفْشِي سِرّ زَوْجهَا , وَأَنْ تَكْذِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَك شَيْء فَهُوَ كَمَا بَلَغَك , فَقَالَ : ( قُولِي لِعُثْمَان أَخِلَاف لِسُنَّتِي أَمْ عَلَى غَيْر مِلَّتِي إِنِّي أُصَلِّي وَأَنَام وَأَصُوم وَأُفْطِر وَأَغْشَى النِّسَاء وَآوِي الْبُيُوت وَآكُل اللَّحْم فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) فَرَجَعَ عُثْمَان وَأَصْحَابه عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ .

مَعْطُوف .


النَّفْس مَأْخُوذَة مِنْ النَّفَاسَة , فَنَفْس الْإِنْسَان أَشْرَف مَا فِيهِ .


وَالدَّار : الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ أَبْنِيَة الْمَقَام بِخِلَافِ مَنْزِل الِارْتِحَال . وَقَالَ الْخَلِيل : كُلّ مَوْضِع حَلَّهُ قَوْم فَهُوَ دَار لَهُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ أَبْنِيَة . وَقِيلَ : سُمِّيَتْ دَارًا لِدَوْرِهَا عَلَى سُكَّانهَا , كَمَا سُمِّيَ الْحَائِط حَائِطًا لِإِحَاطَتِهِ عَلَى مَا يَحْوِيه .


مِنْ الْإِقْرَار , أَيْ بِهَذَا الْمِيثَاق الَّذِي أُخِذَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَوَائِلكُمْ .


مِنْ الشَّهَادَة , أَيْ شُهَدَاء بِقُلُوبِكُمْ عَلَى هَذَا وَقِيلَ : الشَّهَادَة بِمَعْنَى الْحُضُور , أَيْ تَحْضُرُونَ سَفْك دِمَائِكُمْ , وَإِخْرَاج أَنْفُسكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ .
ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَسورة البقرة الآية رقم 85
" أَنْتُمْ " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَلَا يُعْرَب ; لِأَنَّهُ مُضْمَر . وَضُمَّتْ التَّاء مِنْ " أَنْتُمْ " لِأَنَّهَا كَانَتْ مَفْتُوحَة إِذَا خَاطَبْت وَاحِدًا مُذَكَّرًا , وَمَكْسُورَة إِذَا خَاطَبْت وَاحِدَة مُؤَنَّثَة , فَلَمَّا ثُنِّيَتْ أَوْ جُمِعَتْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الضَّمَّة .


قَالَ الْقُتَبِيّ : التَّقْدِير يَا هَؤُلَاءِ . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا خَطَأ عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ , وَلَا يَجُوز هَذَا أَقْبِلْ . وَقَالَ الزَّجَّاج : هَؤُلَاءِ بِمَعْنَى الَّذِينَ .


دَاخِل فِي الصِّلَة , أَيْ ثُمَّ أَنْتُمْ الَّذِينَ تَقْتُلُونَ . وَقِيلَ : " هَؤُلَاءِ " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , و " أَنْتُمْ " خَبَر مُقَدَّم , و " تَقْتُلُونَ " حَال مِنْ أُولَاءِ . وَقِيلَ : " هَؤُلَاءِ " نُصِبَ بِإِضْمَارِ أَعْنِي . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ " تُقَتِّلُونَ " بِضَمِّ التَّاء مُشَدَّدًا , وَكَذَلِكَ " فَلِمَ تُقَتِّلُونَ أَنْبِيَاء اللَّه " [ الْبَقَرَة : 91 ] . وَهَذِهِ الْآيَة خِطَاب لِلْمُوَاجَهِينَ لَا يُحْتَمَل رَدّه إِلَى الْأَسْلَاف . نَزَلَتْ فِي بَنِي قَيْنُقَاع وَقُرَيْظَة وَالنَّضِير مِنْ الْيَهُود , وَكَانَتْ بَنُو قَيْنُقَاع أَعْدَاء قُرَيْظَة , وَكَانَتْ الْأَوْس حُلَفَاء بَنِي قَيْنُقَاع , وَالْخَزْرَج حُلَفَاء بَنِي قُرَيْظَة . وَالنَّضِير وَالْأَوْس وَالْخَزْرَج إِخْوَان , وَقُرَيْظَة وَالنَّضِير أَيْضًا إِخْوَان , ثُمَّ اِفْتَرَقُوا فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ , ثُمَّ يَرْتَفِع الْحَرْب فَيَفْدُونَ أَسْرَاهُمْ , فَعَيَّرَهُمْ اللَّه بِذَلِكَ فَقَالَ : " وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ " .


مَعْنَى " تَظَاهَرُونَ " تَتَعَاوَنُونَ , مُشْتَقّ مِنْ الظَّهْر ; لِأَنَّ بَعْضهمْ يُقَوِّي بَعْضًا فَيَكُون لَهُ كَالظَّهْرِ , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : تَظَاهَرْتُمْ أَسْتَاه بَيْت تَجَمَّعَتْ عَلَى وَاحِد لَا زِلْتُمْ قِرْن وَاحِد وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل مَكَّة " تَظَّاهَرُونَ " بِالتَّشْدِيدِ , يُدْغِمُونَ التَّاء فِي الظَّاء لِقُرْبِهَا مِنْهَا , وَالْأَصْل تَتَظَاهَرُونَ . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " تَظَاهَرُونَ " مُخَفَّفًا , حَذَفُوا التَّاء الثَّانِيَة لِدَلَالَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا , وَكَذَا " وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ " [ التَّحْرِيم : 4 ] . وَقَرَأَ قَتَادَة " تَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ " وَكُلّه رَاجِع إِلَى مَعْنَى التَّعَاوُن , وَمِنْهُ : " وَكَانَ الْكَافِر عَلَى رَبّه ظَهِيرًا " [ الْفُرْقَان : 55 ] وَقَوْله : " وَالْمَلَائِكَة بَعْد ذَلِكَ ظَهِير " [ التَّحْرِيم : 4 ] فَاعْلَمْهُ .


وَالْإِثْم : الْفِعْل الَّذِي يَسْتَحِقّ عَلَيْهِ صَاحِبه الذَّمّ . وَالْعُدْوَان : الْإِفْرَاط فِي الظُّلْم وَالتَّجَاوُز فِيهِ .

شَرْط وَجَوَابه : " تُفَادُوهُمْ " و " أُسَارَى " نُصِبَ عَلَى الْحَال . قَالَ أَبُو عُبَيْد وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَقُول : مَا صَارَ فِي أَيْدِيهمْ فَهُمْ الْأُسَارَى , وَمَا جَاءَ مُسْتَأْسَرًا فَهُمْ الْأَسْرَى . وَلَا يَعْرِف أَهْل اللُّغَة مَا قَالَ أَبُو عَمْرو , إِنَّمَا هُوَ كَمَا تَقُول : سُكَارَى وَسَكْرَى . وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة " أُسَارَى " مَا عَدَا حَمْزَة فَإِنَّهُ قَرَأَ " أَسْرَى " عَلَى فَعْلَى , جَمْع أَسِير بِمَعْنَى مَأْسُور , وَالْبَاب - فِي تَكْسِيره إِذَا كَانَ كَذَلِكَ - فَعْلَى , كَمَا تَقُول : قَتِيل وَقَتْلَى , وَجَرِيح وَجَرْحَى . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَلَا يَجُوز أَسَارَى . وَقَالَ الزَّجَّاج : يُقَال أَسَارَى كَمَا يُقَال سَكَارَى , وَفُعَالَى هُوَ الْأَصْل , وَفَعَالَى دَاخِلَة عَلَيْهَا . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد قَالَ : يُقَال أَسِير وَأُسَرَاء , كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاء . قَالَ اِبْن فَارِس : يُقَال فِي جَمْع أَسِير أَسْرَى وَأُسَارَى , وَقُرِئَ بِهِمَا . وَقِيلَ : أَسَارَى ( بِفَتْحِ الْهَمْزَة ) وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ .

الْأَسِير مُشْتَقّ مِنْ الْإِسَار , وَهُوَ الْقِدّ الَّذِي يُشَدّ بِهِ الْمَحْمِل فَسُمِّيَ أَسِيرًا ; لِأَنَّهُ يُشَدّ وَثَاقه , وَالْعَرَب تَقُول : قَدْ أَسَرَ قَتَبه , أَيْ شَدَّهُ , ثُمَّ سُمِّيَ كُلّ أَخِيذ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُؤْسَر , وَقَالَ الْأَعْشَى : وَقَيَّدَنِي الشِّعْر فِي بَيْته كَمَا قَيَّدَ الْآسِرَات الْحِمَارَا أَيْ أَنَا فِي بَيْته , يُرِيد ذَلِكَ بُلُوغه النِّهَايَة فِيهِ . فَأَمَّا الْأَسْر فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَشَدَدْنَا أَسْرهمْ " [ الْإِنْسَان : 28 ] فَهُوَ الْخَلْق . وَأُسْرَة الرَّجُل رَهْطه ; لِأَنَّهُ يَتَقَوَّى بِهِمْ .


كَذَا قَرَأَ نَافِع وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ . وَالْبَاقُونَ " تَفْدُوهُمْ " مِنْ الْفِدَاء . وَالْفِدَاء : طَلَب الْفِدْيَة فِي الْأَسِير الَّذِي فِي أَيْدِيهمْ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : " الْفِدَاء إِذَا كُسِرَ أَوَّله يُمَدّ وَيُقْصَر , وَإِذَا فُتِحَ فَهُوَ مَقْصُور , يُقَال : قُمْ فَدًى لَك أَبِي . وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَكْسِر " فِدَاء " بِالتَّنْوِينِ إِذَا جَاوَرَ لَام الْجَرّ خَاصَّة , فَيَقُول : فِدَاء لَك , لِأَنَّهُ نَكِرَة يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى الدُّعَاء . وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيّ لِلنَّابِغَةِ : مَهْلًا فِدَاء لَك الْأَقْوَام كُلّهمْ وَمَا أُثَمِّر مِنْ مَال وَمِنْ وَلَد وَيُقَال : فَدَاهُ وَفَادَاهُ إِذَا أَعْطَى فِدَاءَهُ فَأَنْقَذَهُ . وَفَدَاهُ بِنَفْسِهِ , وَفَدَاهُ يَفْدِيه إِذَا قَالَ جُعِلْت فِدَاك . وَتَفَادَوْا , أَيْ فَدَى بَعْضهمْ بَعْضًا " . وَالْفِدْيَة وَالْفِدَى وَالْفِدَاء كُلّه بِمَعْنًى وَاحِد . وَفَادَيْت نَفْسِي إِذَا أَطْلَقْتهَا بَعْد أَنْ دَفَعْت شَيْئًا , بِمَعْنَى فَدَيْت , وَمِنْهُ قَوْل الْعَبَّاس لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَادَيْت نَفْسِي وَفَادَيْت عَقِيلًا . وَهُمَا فِعْلَانِ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ الْجَرّ , تَقُول : فَدَيْت نَفْسِي بِمَالِي وَفَادَيْته بِمَالِي , قَالَ الشَّاعِر : قِفِي فَادِي أَسِيرك إِنَّ قَوْمِي وَقَوْمك مَا أَرَى لَهُمْ اِجْتِمَاعًا


" هُوَ " مُبْتَدَأ وَهُوَ كِنَايَة عَنْ الْإِخْرَاج , و " مُحَرَّم " خَبَره , و " إِخْرَاجهمْ " بَدَل مِنْ " هُوَ " وَإِنْ شِئْت كَانَ كِنَايَة عَنْ الْحَدِيث وَالْقِصَّة , وَالْجُمْلَة الَّتِي بَعْده خَبَره , أَيْ وَالْأَمْر مُحَرَّم عَلَيْكُمْ إِخْرَاجهمْ . ف " إِخْرَاجهمْ " مُبْتَدَأ ثَانٍ . و " مُحَرَّم " خَبَره , وَالْجُمْلَة خَبَر عَنْ " هُوَ " , وَفِي " مُحَرَّم " ضَمِير مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله يَعُود عَلَى الْإِخْرَاج . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " مُحَرَّم " مُبْتَدَأ , و " إِخْرَاجهمْ " مَفْعُول مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله يَسُدّ مَسَدّ خَبَر " مُحَرَّم " , وَالْجُمْلَة خَبَر عَنْ " هُوَ " . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ " هُوَ " عِمَاد , وَهَذَا عِنْد الْبَصْرِيِّينَ خَطَأ لَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّ الْعِمَاد لَا يَكُون فِي أَوَّل الْكَلَام . وَيُقْرَأ " وَهْوَ " بِسُكُونِ الْهَاء لِثِقَلِ الضَّمَّة , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَهْوَ لَا تَنْمِي رَمِيَّته مَا لَهُ لَا عُدَّ مِنْ نَفَره وَكَذَلِكَ إِنْ جِئْت بِاللَّامِ وَثُمَّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَة عُهُود : تَرْك الْقَتْل , وَتَرْك الْإِخْرَاج , وَتَرْك الْمُظَاهَرَة , وَفِدَاء أُسَارَاهُمْ , فَأَعْرَضُوا عَنْ كُلّ مَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا الْفِدَاء , فَوَبَّخَهُمْ اللَّه عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخًا يُتْلَى فَقَالَ : " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب " [ الْبَقَرَة : 85 ] وَهُوَ التَّوْرَاة " وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ " [ الْبَقَرَة : 85 ] ! !

قُلْت : وَلَعَمْر اللَّه لَقَدْ أَعْرَضْنَا نَحْنُ عَنْ الْجَمِيع بِالْفِتَنِ فَتَظَاهَرَ بَعْضنَا عَلَى بَعْض ! لَيْتَ بِالْمُسْلِمِينَ , بَلْ بِالْكَافِرِينَ ! حَتَّى تَرَكْنَا إِخْوَاننَا أَذِلَّاء صَاغِرِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْم الْمُشْرِكِينَ , فَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم ! .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِدَاء الْأُسَارَى وَاجِب وَإِنْ لَمْ يَبْقَ دِرْهَم وَاحِد . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : تَضَمَّنَتْ الْآيَة وُجُوب فَكّ الْأَسْرَى , وَبِذَلِكَ وَرَدَتْ الْآثَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَكَّ الْأُسَارَى وَأَمَرَ بِفَكِّهِمْ , وَجَرَى بِذَلِكَ عَمَل الْمُسْلِمِينَ وَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاع . وَيَجِب فَكّ الْأُسَارَى مِنْ بَيْت الْمَال , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فَرْض عَلَى كَافَّة الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُمْ أَسْقَطَ الْفَرْض عَنْ الْبَاقِينَ . وَسَيَأْتِي .


اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَالْخِزْي الْهَوَان . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَخَزِيَ - بِالْكَسْرِ - يُخْزَى خِزْيًا إِذَا ذَلَّ وَهَانَ . قَالَ اِبْن السِّكِّيت : وَقَعَ فِي بَلِيَّة . وَأَخْزَاهُ اللَّه , وَخَزِيَ أَيْضًا يَخْزَى خِزَايَة إِذَا اِسْتَحْيَا , فَهُوَ خَزْيَان . وَقَوْم خَزَايَا وَامْرَأَة خَزْيَا .


" يُرَدُّونَ " بِالْيَاءِ قِرَاءَة الْعَامَّة , وَقَرَأَ الْحَسَن " تُرَدُّونَ " بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب . و " يَوْم " مَنْصُوب ب " يُرَدُّونَ " .


" بِغَافِلٍ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى لُغَة أَهْل الْحِجَاز , وَعَلَى لُغَة تَمِيم فِي مَوْضِع رَفْع . وَالْيَاء تَوْكِيد " عَمَّا تَعْمَلُونَ " أَيْ عَنْ عَمَلكُمْ حَتَّى لَا يُغَادِر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ , " فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ " [ الزَّلْزَلَة : 7 , 8 ] وَلَا تَحْتَاج " مَا " إِلَى عَائِد إِلَّا أَنْ يَجْعَلهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَيَحْذِف الْعَائِد لِطُولِ الِاسْم , أَيْ عَنْ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير " يَعْمَلُونَ " بِالْيَاءِ ,
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَسورة البقرة الآية رقم 86
قَالَ سِيبَوَيْهِ : ضُمَّتْ الْوَاو فِي " اِشْتَرَوُا " فَرْقًا بَيْنهَا وَبَيْن الْوَاو الْأَصْلِيَّة , نَحْو : " وَأَنْ لَوْ اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة " . [ الْجِنّ : 16 ] . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : الضَّمَّة فِي الْوَاو أَخَفّ مِنْ غَيْرهَا لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : حُرِّكَتْ بِالضَّمِّ كَمَا فُعِلَ فِي " نَحْنُ " . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَيَحْيَى بْن يَعْمَر بِكَسْرِ الْوَاو عَلَى أَصْل اِلْتِقَاء السَّاكِنَيْنِ . وَرَوَى أَبُو زَيْد الْأَنْصَارِيّ عَنْ قَعْنَب أَبِي السَّمَّال الْعَدَوِيّ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاو لِخِفَّةِ الْفَتْحَة وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلهَا مَفْتُوحًا . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ هَمْز الْوَاو وَضَمّهَا كَأَدْؤُر . وَاشْتَرَوْا : مِنْ الشِّرَاء . وَالشِّرَاء هُنَا مُسْتَعَار . وَالْمَعْنَى اِسْتَحَبُّوا الْكُفْر عَلَى الْإِيمَان , كَمَا قَالَ : " فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى " [ فُصِّلَتْ : 17 ] فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالشِّرَاءِ ; لِأَنَّ الشِّرَاء إِنَّمَا يَكُون فِيمَا يُحِبّهُ مُشْتَرِيه . فَأَمَّا أَنْ يَكُون مَعْنَى شِرَاء الْمُعَاوَضَة فَلَا ; لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَيَبِيعُونَ إِيمَانهمْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَخَذُوا الضَّلَالَة وَتَرَكُوا الْهُدَى . وَمَعْنَاهُ اِسْتَبْدَلُوا وَاخْتَارُوا الْكُفْر عَلَى الْإِيمَان . وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الشِّرَاء تَوَسُّعًا ; لِأَنَّ الشِّرَاء وَالتِّجَارَة رَاجِعَانِ إِلَى الِاسْتِبْدَال , وَالْعَرَب تَسْتَعْمِل ذَلِكَ فِي كُلّ مَنْ اِسْتَبْدَلَ شَيْئًا بِشَيْءٍ . قَالَ أَبُو ذُؤَيْب : فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْت أَجْهَل فِيكُمْ فَإِنِّي شَرَيْت الْحِلْم بَعْدك بِالْجَهْلِ
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَسورة البقرة الآية رقم 87
يَعْنِي التَّوْرَاة .


أَيْ أَتْبَعْنَا وَالتَّقْفِيَة : الْإِتْبَاع وَالْإِرْدَاف , مَأْخُوذ مِنْ إِتْبَاع الْقَفَا وَهُوَ مُؤَخَّر الْعُنُق . تَقُول اِسْتَقْفَيْته إِذَا جِئْت مِنْ خَلْفه , وَمِنْهُ سُمِّيَتْ قَافِيَة الشِّعْر ; لِأَنَّهَا تَتْلُو سَائِر الْكَلَام . وَالْقَافِيَّة : الْقَفَا , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( يَعْقِد الشَّيْطَان عَلَى قَافِيَة رَأْس أَحَدكُمْ ) . وَالْقَفِيّ وَالْقَفَاوَة : مَا يُدَّخَر مِنْ اللَّبَن وَغَيْره لِمَنْ تُرِيد إِكْرَامه . وَقَفَوْت الرَّجُل : قَذَفْته بِفُجُورٍ . وَفُلَان قِفْوَتِي أَيْ تُهَمَتِي . وَقِفْوَتِي أَيْ خِيرَتِي . قَالَ اِبْن دُرَيْد كَأَنَّهُ مِنْ الْأَضْدَاد . قَالَ الْعُلَمَاء : وَهَذِهِ الْآيَة مِثْل قَوْله تَعَالَى : " ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا تَتْرَى " [ الْمُؤْمِنُونَ : 44 ] . وَكُلّ رَسُول جَاءَ بَعْد مُوسَى فَإِنَّمَا جَاءَ بِإِثْبَاتِ التَّوْرَاة وَالْأَمْر بِلُزُومِهَا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام . وَيُقَال : رُسُل وَرُسْل لُغَتَانِ , الْأُولَى لُغَة الْحِجَاز , وَالثَّانِيَة لُغَة تَمِيم , وَسَوَاء كَانَ مُضَافًا أَوْ غَيْر مُضَاف . وَكَانَ أَبُو عَمْرو يُخَفِّف إِذَا أَضَافَ إِلَى حَرْفَيْنِ , وَيُثَقِّل إِذَا أَضَافَ إِلَى حَرْف وَاحِد .


أَيْ الْحُجَج وَالدَّلَالَات , وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي " آل عِمْرَان " و " الْمَائِدَة " , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس .


أَيْ قَوَّيْنَاهُ . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن " آيَدْنَاه " بِالْمَدِّ , وَهُمَا لُغَتَانِ .


رَوَى أَبُو مَالِك وَأَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَا : جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ حَسَّان : وَجِبْرِيل رَسُول اللَّه فِينَا وَرُوح الْقُدُس لَيْسَ بِهِ خَفَاء قَالَ النَّحَّاس : وَسُمِّيَ جِبْرِيل رُوحًا وَأُضِيفَ إِلَى الْقُدُس ; لِأَنَّهُ كَانَ بِتَكْوِينِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ رُوحًا مِنْ غَيْر وِلَادَة وَالِد وَلَدَهُ , وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِيسَى رُوحًا لِهَذَا . وَرَوَى غَالِب بْن عَبْد اللَّه عَنْ مُجَاهِد قَالَ : الْقُدُس هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَكَذَا قَالَ الْحَسَن : الْقُدُس هُوَ اللَّه , وَرُوحه جِبْرِيل . وَرَوَى أَبُو رَوْق عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : " بِرُوحِ الْقُدُس " قَالَ : هُوَ الِاسْم الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ عِيسَى الْمَوْتَى , وَقَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر وَعُبَيْد بْن عُمَيْر , وَهُوَ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْإِنْجِيل , سَمَّاهُ رُوحًا كَمَا سَمَّى اللَّه الْقُرْآن رُوحًا فِي قَوْله تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرنَا " [ الشُّورَى : 52 ] . وَالْأَوَّل أَظْهَر , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم . وَالْقُدُس : الطَّهَارَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ .


أَيْ بِمَا لَا يُوَافِقهَا وَيُلَائِمهَا , وَحُذِفَتْ الْهَاء لِطُولِ الِاسْم , أَيْ بِمَا لَا تَهْوَاهُ .


عَنْ إِجَابَته اِحْتِقَارًا لِلرُّسُلِ , وَاسْتِبْعَادًا لِلرِّسَالَةِ . وَأَصْل الْهَوَى الْمَيْل إِلَى الشَّيْء , وَيُجْمَع أَهْوَاء , كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل , وَلَا يُجْمَع أَهْوِيَة , عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِي نَدًى أَنْدِيَة , قَالَ الشَّاعِر : فِي لَيْلَة مِنْ جُمَادَى ذَات أَنْدِيَة لَا يُبْصِر الْكَلْب فِي ظَلْمَائِهَا الطُّنُبَا قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَهُوَ شَاذّ وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّار , وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَل فِي الْغَالِب إِلَّا فِيمَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَفِيمَا لَا خَيْر فِيهِ , وَهَذِهِ الْآيَة مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْحَقّ , وَمِنْهُ قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي أُسَارَى بَدْر : فَهَوِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْر وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت . وَقَالَتْ عَائِشَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْحَدِيث : وَاَللَّه مَا أَرَى رَبّك إِلَّا يُسَارِع فِي هَوَاك . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِم .


" فَفَرِيقًا " مَنْصُوب ب " كَذَّبْتُمْ " , وَكَذَا " وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ "


فَكَانَ مِمَّنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام , وَمِمَّنْ قَتَلُوهُ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " سُبْحَان " [ الْإِسْرَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَسورة البقرة الآية رقم 88
يَعْنِي الْيَهُود


بِسُكُونِ اللَّام جَمْع أَغْلَف , أَيْ عَلَيْهَا أَغْطِيَة . وَهُوَ مِثْل قَوْله : " قُلُوبنَا فِي أَكِنَّة مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ " [ فُصِّلَتْ : 5 ] أَيْ فِي أَوْعِيَة . قَالَ مُجَاهِد : " غُلْف " عَلَيْهَا غِشَاوَة . وَقَالَ عِكْرِمَة : عَلَيْهَا طَابَع . وَحَكَى أَهْل اللُّغَة غَلَّفْت السَّيْف جَعَلْت لَهُ غِلَافًا , فَقَلْب أَغْلَف , أَيْ مَسْتُور عَنْ الْفَهْم وَالتَّمْيِيز . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالْأَعْرَج وَابْن مُحَيْصِن " غُلُف " بِضَمِّ اللَّام . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ قُلُوبنَا مُمْتَلِئَة عِلْمًا لَا تَحْتَاج إِلَى عِلْم مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْره . وَقِيلَ : هُوَ جَمْع غِلَاف . مِثْل خِمَار وَخُمُر , أَيْ قُلُوبنَا أَوْعِيَة لِلْعِلْمِ فَمَا بَالهَا لَا تَفْهَم عَنْك وَقَدْ وَعَيْنَا عِلْمًا كَثِيرًا ! وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَكَيْف يَعْزُب عَنْهَا عِلْم مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .


بَيَّنَ أَنَّ السَّبَب فِي نُفُورهمْ عَنْ الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُمْ لُعِنُوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرهمْ وَاجْتِرَائِهِمْ , وَهَذَا هُوَ الْجَزَاء عَلَى الذَّنْب بِأَعْظَم مِنْهُ . وَأَصْل اللَّعْن فِي كَلَام الْعَرَب الطَّرْد وَالْإِبْعَاد . وَيُقَال لِلذِّئْبِ : لَعِين . وَلِلرَّجُلِ الطَّرِيد : لَعِين , وَقَالَ الشَّمَّاخ : ذَعَرْت بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْت عَنْهُ مَقَام الذِّئْب كَالرَّجُلِ اللَّعِين وَوَجْه الْكَلَام : مَقَام الذِّئْب اللَّعِين كَالرَّجُلِ , فَالْمَعْنَى أَبْعَدَهُمْ اللَّه مِنْ رَحْمَته . وَقِيلَ : مِنْ تَوْفِيقه وَهِدَايَته . وَقِيلَ : مِنْ كُلّ خَيْر , وَهَذَا عَامّ . " فَقَلِيلًا " نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف , تَقْدِيره فَإِيمَانًا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ . وَقَالَ مَعْمَر : الْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهمْ وَيَكْفُرُونَ بِأَكْثَرِهِ , وَيَكُون " قَلِيلًا " مَنْصُوب بِنَزْعِ حَرْف الصِّفَة . و " مَا " صِلَة , أَيْ فَقَلِيلًا يُؤْمِنُونَ . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا , كَمَا تَقُول : مَا أَقَلّ مَا يَفْعَل كَذَا , أَيْ لَا يَفْعَلهُ ألْبَتَّة . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : تَقُول الْعَرَب مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلَّ مَا تُنْبِت الْكُرَّاث وَالْبَصَل , أَيْ لَا تُنْبِت شَيْئًا .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 89
يَعْنِي الْيَهُود .


يَعْنِي الْقُرْآن .


نَعْت لِكِتَابٍ , وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن نَصْبه عَلَى الْحَال , وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَف أُبَيّ بِالنَّصْبِ فِيمَا رُوِيَ .


يَعْنِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يُخْبِرهُمْ بِمَا فِيهِمَا .


أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ . وَالِاسْتِفْتَاح الِاسْتِنْصَار . اِسْتَفْتَحْت : اِسْتَنْصَرْت . وَفِي الْحَدِيث : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِح بِصَعَالِيك الْمُهَاجِرِينَ , أَيْ يَسْتَنْصِر بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتهمْ . وَمِنْهُ " فَعَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِي بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْر مِنْ عِنْده " [ الْمَائِدَة : 52 ] . وَالنَّصْر : فَتْح شَيْء مُغْلَق , فَهُوَ يَرْجِع إِلَى قَوْلهمْ فَتَحْت الْبَاب . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّمَا نَصَرَ اللَّه هَذِهِ الْأُمَّة بِضُعَفَائِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتهمْ وَإِخْلَاصهمْ ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( أَبْغُونِي الضَّعِيف فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ " . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ يَهُود خَيْبَر تُقَاتِل غَطَفَان فَلَمَّا اِلْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُود , فَعَادَتْ يَهُود بِهَذَا الدُّعَاء وَقَالُوا : إِنَّا نَسْأَلك بِحَقِّ النَّبِيّ الْأُمِّيّ الَّذِي وَعَدْتنَا أَنْ تُخْرِجهُ لَنَا فِي آخِر الزَّمَان إِلَّا تَنْصُرنَا عَلَيْهِمْ . قَالَ : فَكَانُوا إِذَا اِلْتَقَوْا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاء فَهَزَمُوا غَطَفَان , فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَكَانُوا مِنْ قَبْل يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا " أَيْ بِك يَا مُحَمَّد , إِلَى قَوْله : " فَلَعْنَة اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ " .


" وَلَمَّا جَاءَهُمْ " جَوَاب " لَمَّا " الْفَاء وَمَا بَعْدهَا فِي قَوْله " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا " فِي قَوْل الْفَرَّاء , وَجَوَاب " لَمَّا " الثَّانِيَة " كَفَرُوا " . وَقَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : جَوَاب " لَمَّا " مَحْذُوف لِعِلْمِ السَّامِع , وَقَالَهُ الزَّجَّاج . وَقَالَ الْمُبَرِّد : جَوَاب " لَمَّا " فِي قَوْله : " كَفَرُوا " , وَأُعِيدَتْ " لَمَّا " الثَّانِيَة لِطُولِ الْكَلَام . وَيُفِيد ذَلِكَ تَقْرِير الذَّنْب وَتَأْكِيدًا لَهُ .
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌسورة البقرة الآية رقم 90
بِئْسَ فِي كَلَام الْعَرَب مُسْتَوْفِيَة لِلذَّمِّ , كَمَا أَنَّ " نِعْمَ " مُسْتَوْفِيَة لِلْمَدْحِ . وَفِي كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا أَرْبَع لُغَات : بِئْسَ بَئْس بَئِسَ بِئِسَ . نِعْمَ نَعْم نَعِمَ نِعِمَ . وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ " مَا " فَاعِلَة بِئْسَ , وَلَا تَدْخُل إِلَّا عَلَى أَسْمَاء الْأَجْنَاس وَالنَّكِرَات . وَكَذَا نِعْمَ , فَتَقُول نِعْمَ الرَّجُل زَيْد , وَنِعْمَ رَجُلًا زَيْد , فَإِذَا كَانَ مَعَهَا اِسْم بِغَيْرِ أَلِف وَلَام فَهُوَ نَصْب أَبَدًا , فَإِذَا كَانَ فِيهِ أَلِف وَلَام فَهُوَ رَفْع أَبَدًا , وَنَصْب رَجُل عَلَى التَّمْيِيز . وَفِي نِعْمَ مُضْمَر عَلَى شَرِيطَة التَّفْسِير , وَزَيْد مَرْفُوع عَلَى وَجْهَيْنِ : عَلَى خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف , كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ الْمَمْدُوح ؟ قُلْت هُوَ زَيْد , وَالْآخَر عَلَى الِابْتِدَاء وَمَا قَبْله خَبَره . وَأَجَازَ أَبُو عَلِيّ أَنْ تَلِيهَا " مَا " مَوْصُولَة وَغَيْر مَوْصُولَة مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُبْهَمَة تَقَع عَلَى الْكَثْرَة وَلَا تَخُصّ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ , وَالتَّقْدِير عِنْد سِيبَوَيْهِ : بِئْسَ الشَّيْء اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسهمْ أَنْ يَكْفُرُوا . ف " أَنْ يَكْفُرُوا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَره فِيمَا قَبْله , كَقَوْلِك : بِئْسَ الرَّجُل زَيْد , و " مَا " عَلَى هَذَا الْقَوْل مَوْصُولَة . وَقَالَ الْأَخْفَش : " مَا " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى التَّمْيِيز , كَقَوْلِك : بِئْسَ رَجُلًا زَيْد , فَالتَّقْدِير بِئْسَ شَيْئًا أَنْ يَكْفُرُوا . ف " اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسهمْ " عَلَى هَذَا الْقَوْل صِفَة " مَا " . وَقَالَ الْفَرَّاء : " بِئْسَمَا " بِجُمْلَتِهِ شَيْء وَاحِد رُكِّبَ كَحَبَّذَا . وَفِي هَذَا الْقَوْل اِعْتِرَاض ; لِأَنَّهُ يَبْقَى فِعْل بِلَا فَاعِل . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : " مَا " و " اِشْتَرَوْا " بِمَنْزِلَةِ اِسْم وَاحِد قَائِم بِنَفْسِهِ , وَالتَّقْدِير بِئْسَ اِشْتِرَاؤُهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا . وَهَذَا مَرْدُود , فَإِنَّ نِعْمَ وَبِئْسَ لَا يَدْخُلَانِ عَلَى اِسْم مُعَيَّن مُعَرَّف , وَالشِّرَاء قَدْ تَعَرَّفَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِير . قَالَ النَّحَّاس : وَأَبْيَن هَذِهِ الْأَقْوَال قَوْل الْأَخْفَش وَسِيبَوَيْهِ . قَالَ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ : " أَنْ يَكْفُرُوا " إِنْ شِئْت كَانَتْ " أَنْ " فِي مَوْضِع خَفْض رَدًّا عَلَى الْهَاء فِي بِهِ . قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ اِشْتَرَوْا أَنْفُسهمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه . فَاشْتَرَى بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى اِبْتَاعَ , وَالْمَعْنَى : بِئْسَ الشَّيْء الَّذِي اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اِسْتَبْدَلُوا الْبَاطِل بِالْحَقِّ , وَالْكُفْر بِالْإِيمَانِ .


مَعْنَاهُ حَسَدًا , قَالَهُ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ , وَهُوَ مَفْعُول مِنْ أَجْله , وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَة مَصْدَر . الْأَصْمَعِيّ : وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : قَدْ بَغَى الْجُرْح إِذَا فَسَدَ . وَقِيلَ : أَصْله الطَّلَب , وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الزَّانِيَة بَغِيًّا .


فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ لَأَنْ يُنَزِّل , أَيْ لِأَجْلِ إِنْزَال اللَّه الْفَضْل عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب وَابْن مُحَيْصِن " أَنْ يُنْزِل " مُخَفَّفًا , وَكَذَلِكَ سَائِر مَا فِي الْقُرْآن , إِلَّا " وَمَا نُنَزِّلهُ " فِي " الْحِجْر " [ الْحِجْر : 21 ] , وَفِي " الْأَنْعَام " " عَلَى أَنْ يُنَزِّل آيَة " . [ الْأَنْعَام : 37 ] .


أَيْ رَجَعُوا , وَأَكْثَر مَا يُقَال فِي الشَّرّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .


تَقَدَّمَ مَعْنَى غَضَب اللَّه عَلَيْهِمْ , وَهُوَ عِقَابه , فَقِيلَ : الْغَضَب الْأَوَّل لِعِبَادَتِهِمْ الْعِجْل , وَالثَّانِي لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ عِكْرِمَة : لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِعِيسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ , يَعْنِي الْيَهُود . وَرَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة : الْأَوَّل لِكُفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ , وَالثَّانِي لِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ . وَقَالَ قَوْم : الْمُرَاد التَّأْبِيد وَشِدَّة الْحَال عَلَيْهِمْ , لَا أَنَّهُ أَرَادَ غَضَبَيْنِ مُعَلَّلَيْنِ بِمَعْصِيَتَيْنِ .


مَأْخُوذ مِنْ الْهَوَان , وَهُوَ مَا اِقْتَضَى الْخُلُود فِي النَّار دَائِمًا بِخِلَافِ خُلُود الْعُصَاة مِنْ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْحِيص لَهُمْ وَتَطْهِير , كَرَجْمِ الزَّانِي وَقَطْع يَد السَّارِق , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " النِّسَاء " مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10