الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَسورة البقرة الآية رقم 241
اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ أَبُو ثَوْر : هِيَ مُحْكَمَة , وَالْمُتْعَة لِكُلِّ مُطَلَّقَة , وَكَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيّ . قَالَ الزُّهْرِيّ : حَتَّى لِلْأَمَةِ يُطَلِّقهَا زَوْجهَا . وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لِكُلِّ مُطَلَّقَة مُتْعَة وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ لِهَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ مَالِك : لِكُلِّ مُطَلَّقَة - اِثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَة بَنَى بِهَا أَمْ لَا , سَمَّى لَهَا صَدَاقًا أَمْ لَا - الْمُتْعَة , إِلَّا الْمُطَلَّقَة قَبْل الْبِنَاء وَقَدْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَحَسْبهَا نِصْفه , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا كَانَ لَهَا الْمُتْعَة أَقَلّ مِنْ صَدَاق الْمِثْل أَوْ أَكْثَر , وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمُتْعَة حَدّ , حَكَاهُ عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم فِي إِرْخَاء السُّتُور مِنْ الْمُدَوَّنَة , قَالَ : جَعَلَ اللَّه تَعَالَى الْمُتْعَة لِكُلِّ مُطَلَّقَة بِهَذِهِ الْآيَة , ثُمَّ اِسْتَثْنَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى الَّتِي قَدْ فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يُدْخَل بِهَا فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْمُتْعَة , وَزَعَمَ اِبْن زَيْد أَنَّهَا نَسَخَتْهَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَفَرَّ اِبْن الْقَاسِم مِنْ لَفْظ النَّسْخ إِلَى لَفْظ الِاسْتِثْنَاء وَالِاسْتِثْنَاء لَا يُتَّجَه فِي هَذَا الْمَوْضِع , بَلْ هُوَ نَسْخ مَحْض كَمَا قَالَ زَيْد بْن أَسْلَم , وَإِذَا اِلْتَزَمَ اِبْن الْقَاسِم أَنَّ قَوْله : " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ " يَعُمّ كُلّ مُطَلَّقَة لَزِمَهُ الْقَوْل بِالنَّسْخِ وَلَا بُدّ . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَغَيْره : هَذِهِ الْآيَة فِي الثَّيِّبَات اللَّوَاتِي قَدْ جُومِعْنَ , إِذْ تَقَدَّمَ فِي غَيْر هَذِهِ الْآيَة ذِكْر الْمُتْعَة لِلَّوَاتِي لَمْ يُدْخَل بِهِنَّ , فَهَذَا قَوْل بِأَنَّ الَّتِي قَدْ فُرِضَ لَهَا قَبْل الْمَسِيس لَمْ تَدْخُل قَطُّ فِي الْعُمُوم . فَهَذَا يَجِيء عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ " [ الْبَقَرَة : 237 ] مُخَصَّصَة لِهَذَا الصِّنْف مِنْ النِّسَاء , وَمَتَى قِيلَ : إِنَّ هَذَا الْعُمُوم يَتَنَاوَلهَا فَذَلِكَ نَسْخ لَا تَخْصِيص . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر : إِنَّهُ لَا مُتْعَة إِلَّا لِلَّتِي طُلِّقَتْ قَبْل الدُّخُول وَلَيْسَ ثَمَّ مَسِيسٌ وَلَا فَرْض ; لِأَنَّ مَنْ اِسْتَحَقَّتْ شَيْئًا مِنْ الْمَهْر لَمْ تَحْتَجْ فِي حَقّهَا إِلَى الْمُتْعَة . وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي زَوْجَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعكُنَّ " [ الْأَحْزَاب : 28 ] مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ تَطَوُّع مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَا وُجُوب لَهُ . وَقَوْله : " فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ " [ الْأَحْزَاب : 49 ] مَحْمُول عَلَى غَيْر الْمَفْرُوضَة أَيْضًا , قَالَ الشَّافِعِيّ : وَالْمَفْرُوض لَهَا الْمَهْر إِذَا طُلِّقَتْ قَبْل الْمَسِيس لَا مُتْعَة لَهَا ; لِأَنَّهَا أَخَذَتْ نِصْف الْمَهْر مِنْ غَيْر جَرَيَان وَطْء , وَالْمَدْخُول بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَلَهَا الْمُتْعَة ; لِأَنَّ الْمَهْر يَقَع فِي مُقَابَلَة الْوَطْء وَالْمُتْعَة بِسَبَبِ الِابْتِذَال بِالْعَقْدِ . وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيّ الْمُتْعَة لِلْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُبَارِئَة . وَقَالَ أَصْحَاب مَالِك : كَيْف يَكُون لِلْمُفْتَدِيَةِ مُتْعَة وَهِيَ تُعْطِي , فَكَيْف تَأْخُذ مَتَاعًا لَا مُتْعَة لِمُخْتَارَةِ الْفِرَاق مِنْ مُخْتَلِعَة أَوْ مُفْتَدِيَة أَوْ مُبَارِئَة أَوْ مُصَالِحَة أَوْ مُلَاعِنَة أَوْ مُعْتَقَة تَخْتَار الْفِرَاق , دَخَلَ بِهَا أَمْ لَا , سَمَّى لَهَا صَدَاقًا أَمْ لَا , وَقَدْ مَضَى هَذَا مُبَيَّنًا .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَسورة البقرة الآية رقم 242
الْآيَات الْعَلَامَات الْهَادِيَة إِلَى الْحَقّ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَسورة البقرة الآية رقم 243
فِيهِ سِتّ مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ " هَذِهِ رُؤْيَة الْقَلْب بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَم . وَالْمَعْنَى عِنْد سِيبَوَيْهِ تَنَبَّهْ إِلَى أَمْر الَّذِينَ . وَلَا تَحْتَاج هَذِهِ الرُّؤْيَة إِلَى مَفْعُولَيْنِ . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ " أَلَمْ تَرَ " بِجَزْمِ الرَّاء , وَحُذِفَتْ الْهَمْزَة حَذْفًا مِنْ غَيْر إِلْقَاء حَرَكَة لِأَنَّ الْأَصْل أَلَمْ تَرَء .

وَقِصَّة هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ قَوْم مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَقَعَ فِيهِمْ الْوَبَاء , وَكَانُوا بِقَرْيَة يُقَال لَهَا [ دَاوَرْدَان ] فَخَرَجُوا مِنْهَا هَارِبِينَ فَنَزَلُوا وَادِيًا فَأَمَاتَهُمْ اللَّه تَعَالَى . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا أَرْبَعَة آلَاف خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ الطَّاعُون وَقَالُوا : نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ بِهَا مَوْت , فَأَمَاتَهُمْ اللَّه تَعَالَى , فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيّ فَدَعَا اللَّه تَعَالَى فَأَحْيَاهُمْ . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ مَاتُوا ثَمَانِيَة أَيَّام . وَقِيلَ : سَبْعَة , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الْحَسَن : أَمَاتَهُمْ اللَّه قَبْل آجَالهمْ عُقُوبَة لَهُمْ , ثُمَّ بَعَثَهُمْ إِلَى بَقِيَّة آجَالهمْ . وَقِيلَ : إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ مُعْجِزَة لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ , قِيلَ : كَانَ اِسْمه شَمْعُون . وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ الْحُمَّى . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ الْجِهَاد وَلَمَّا أَمَرَهُمْ اللَّه بِهِ عَلَى لِسَان حِزْقِيل النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام , فَخَافُوا الْمَوْت بِالْقَتْلِ فِي الْجِهَاد فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ , فَأَمَاتَهُمْ اللَّه لِيُعَرِّفهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ الْمَوْت شَيْء , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه " [ الْبَقَرَة : 190 ] , قَالَهُ الضَّحَّاك . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الْقَصَص كُلّه لَيِّنُ الْأَسَانِيد , وَإِنَّمَا اللَّازِم مِنْ الْآيَة أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارًا فِي عِبَارَة التَّنْبِيه وَالتَّوْقِيف عَنْ قَوْم مِنْ الْبَشَر خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ فِرَارًا مِنْ الْمَوْت فَأَمَاتَهُمْ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ أَحْيَاهُمْ , لِيَرَوْا هُمْ وَكُلّ مَنْ خَلَفَ مِنْ بَعْدهمْ أَنَّ الْإِمَاتَة إِنَّمَا هِيَ بِيَدِ اللَّه تَعَالَى لَا بِيَدِ غَيْره , فَلَا مَعْنَى لِخَوْفِ خَائِف وَلَا لِاغْتِرَارِ مُغْتَرّ . وَجَعَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة مُقَدَّمَة بَيْن يَدَيْ أَمْره الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَادِ , هَذَا قَوْل الطَّبَرِيّ وَهُوَ ظَاهِر وَصْف الْآيَة .

قَوْله تَعَالَى : " وَهُمْ أُلُوف " قَالَ الْجُمْهُور : هِيَ جَمْع أَلْف . قَالَ بَعْضهمْ : كَانُوا سِتّمِائَةِ أَلْف . وَقِيلَ : كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا . اِبْن عَبَّاس : أَرْبَعِينَ أَلْفًا . أَبُو مَالِك : ثَلَاثِينَ أَلْفًا . السُّدِّيّ : سَبْعَة وَثَلَاثِينَ أَلْفًا . وَقِيلَ : سَبْعِينَ أَلْفًا , قَالَهُ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَرْبَعِينَ أَلْفًا , وَثَمَانِيَة آلَاف , رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن جُرَيْج . وَعَنْهُ أَيْضًا ثَمَانِيَة آلَاف , وَعَنْهُ أَيْضًا أَرْبَعَة آلَاف , وَقِيلَ : ثَلَاثَة آلَاف . وَالصَّحِيح أَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى عَشَرَة آلَاف لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَهُمْ أُلُوف " وَهُوَ جَمْع الْكَثْرَة , وَلَا يُقَال فِي عَشَرَة فَمَا دُونهَا أُلُوف . وَقَالَ اِبْن زَيْد فِي لَفْظَة أُلُوف : إِنَّمَا مَعْنَاهَا وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ , أَيْ لَمْ تُخْرِجهُمْ فُرْقَة قَوْمهمْ وَلَا فِتْنَة بَيْنهمْ إِنَّمَا كَانُوا مُؤْتَلِفِينَ , فَخَالَفَتْ هَذِهِ الْفِرْقَة فَخَرَجَتْ فِرَارًا مِنْ الْمَوْت وَابْتِغَاء الْحَيَاة بِزَعْمِهِمْ , فَأَمَاتَهُمْ اللَّه فِي مَنْجَاهُمْ بِزَعْمِهِمْ . فَأُلُوف عَلَى هَذَا جَمْع آلِف , مِثْل جَالِس وَجُلُوس . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَاتَهُمْ اللَّه تَعَالَى مُدَّة عُقُوبَة لَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ , وَمَيْتَة الْعُقُوبَة بَعْدهَا حَيَاة , وَمَيْتَة الْأَجَل لَا حَيَاة بَعْدهَا . قَالَ مُجَاهِد : إِنَّهُمْ لَمَّا أُحْيُوا رَجَعُوا إِلَى قَوْمهمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْتَى وَلَكِنْ سَحْنَة الْمَوْت عَلَى وُجُوههمْ , وَلَا يَلْبَس أَحَد مِنْهُمْ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَفَنًا دَسِمًا حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمْ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُمْ . اِبْن جُرَيْج عَنْ اِبْن عَبَّاس : وَبَقِيَتْ الرَّائِحَة عَلَى ذَلِكَ السِّبْط مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل إِلَى الْيَوْم . وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا بِوَاسِطِ الْعِرَاق . وَيُقَال : إِنَّهُمْ أُحْيُوا بَعْد أَنْ أَنْتَنُوا , فَتِلْكَ الرَّائِحَة مَوْجُودَة فِي نَسْلهمْ إِلَى الْيَوْم .

الثَّانِيَة : " حَذَر الْمَوْت " أَيْ لِحَذَرِ الْمَوْت , فَهُوَ نُصِبَ لِأَنَّهُ مَفْعُول لَهُ . و " مُوتُوا " أَمْر تَكْوِين , وَلَا يَبْعُد أَنْ يُقَال : نُودُوا وَقِيلَ لَهُمْ : مُوتُوا . وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ مَلَكَيْنِ صَاحَا بِهِمْ : مُوتُوا فَمَاتُوا , فَالْمَعْنَى قَالَ لَهُمْ اللَّه بِوَاسِطَةِ الْمَلَكَيْنِ " مُوتُوا " , وَاَللَّه أَعْلَم .

الثَّالِثَة : أَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال وَأَبْيَنهَا وَأَشْهَرهَا أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ الْوَبَاء , رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ الطَّاعُون فَمَاتُوا , فَدَعَا اللَّه نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاء أَنْ يُحْيِيهُمْ حَتَّى يَعْبُدُوهُ فَأَحْيَاهُمْ اللَّه . وَقَالَ عَمْرو بْن دِينَار فِي هَذِهِ الْآيَة : وَقَعَ الطَّاعُون فِي قَرْيَتهمْ فَخَرَجَ أُنَاس وَبَقِيَ أُنَاس , وَمَنْ خَرَجَ أَكْثَر مِمَّنْ بَقِيَ , قَالَ : فَنَجَا الَّذِينَ خَرَجُوا وَمَاتَ الَّذِينَ أَقَامُوا , فَلَمَّا كَانَتْ الثَّانِيَة خَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا فَأَمَاتَهُمْ اللَّه وَدَوَابَّهُمْ , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادهمْ وَقَدْ تَوَالَدَتْ ذُرِّيَّتهمْ . وَقَالَ الْحَسَن : خَرَجُوا حَذَارًا مِنْ الطَّاعُون فَأَمَاتَهُمْ اللَّه وَدَوَابّهمْ فِي سَاعَة وَاحِدَة , وَهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا . قُلْت : وَعَلَى هَذَا تَتَرَتَّب الْأَحْكَام فِي هَذِهِ الْآيَة . فَرَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيث عَامِر بْن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَة بْن زَيْد يُحَدِّث سَعْدًا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْوَجَع فَقَالَ ( رِجْز أَوْ عَذَاب عُذِّبَ بِهِ بَعْض الْأُمَم ثُمَّ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّة فَيَذْهَب الْمَرَّة وَيَأْتِي الْأُخْرَى فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدَمَن عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلَا يَخْرُج فِرَارًا مِنْهُ ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فَقَالَ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَة أَنْبَأَنَا حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عَامِر بْن سَعْد عَنْ أُسَامَة بْن زَيْد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الطَّاعُون فَقَالَ : ( بَقِيَّة رِجْز أَوْ عَذَاب أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَلَسْتُمْ بِهَا فَلَا تَهْبِطُوا عَلَيْهَا ) قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأَحَادِيث عَمِلَ عُمَر وَالصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ سَرْغ حِين أَخْبَرَهُمْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف بِالْحَدِيثِ , عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْره . وَقَدْ كَرِهَ قَوْم الْفِرَار مِنْ الْوَبَاء وَالْأَرْض السَّقِيمَة , رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : الْفِرَار مِنْ الْوَبَاء كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْف . وَقِصَّة عُمَر فِي خُرُوجه إِلَى الشَّام مَعَ أَبِي عُبَيْدَة مَعْرُوفَة , وَفِيهَا : أَنَّهُ رَجَعَ . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : فِي حَدِيث سَعْد دَلَالَة عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْء تَوَقِّي الْمَكَارِه قَبْل نُزُولهَا , وَتَجَنُّب الْأَشْيَاء الْمَخُوفَة قَبْل هُجُومهَا , وَأَنَّ عَلَيْهِ الصَّبْر وَتَرْك الْجَزَع بَعْد نُزُولهَا , وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام نَهَى مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَرْض الْوَبَاء عَنْ دُخُولهَا إِذَا وَقَعَ فِيهَا , وَنَهَى مَنْ هُوَ فِيهَا عَنْ الْخُرُوج مِنْهَا بَعْد وُقُوعه فِيهَا فِرَارًا مِنْهُ , فَكَذَلِكَ الْوَاجِب أَنْ يَكُون حُكْم كُلّ مُتَّقٍ مِنْ الْأُمُور غَوَائِلهَا , سَبِيله فِي ذَلِكَ سَبِيل الطَّاعُون . وَهَذَا الْمَعْنَى نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوّ وَسَلُوا اللَّه الْعَافِيَة فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا ) .

قُلْت : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام , وَعَلَيْهِ عَمَل أَصْحَابه الْبَرَرَة الْكِرَام رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَقَدْ قَالَ عُمَر لِأَبِي عُبَيْدَة مُحْتَجًّا عَلَيْهِ لَمَّا قَالَ لَهُ : أَفِرَارًا مِنْ قَدَر اللَّه ! فَقَالَ عُمَر : لَوْ غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة ! نَعَمْ , نَفِرّ مِنْ قَدَر اللَّه إِلَى قَدَر اللَّه . الْمَعْنَى : أَيْ لَا مَحِيص لِلْإِنْسَانِ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّه لَهُ وَعَلَيْهِ , وَلَكِنْ أَمَرَنَا اللَّه تَعَالَى بِالتَّحَرُّزِ مِنْ الْمَخَاوِف وَالْمُهْلِكَات , وَبِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْع فِي التَّوَقِّي مِنْ الْمَكْرُوهَات . ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ لَك إِبِل فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصْبَة وَالْأُخْرَى جَدْبَة , أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْت الْخِصْبَة رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّه , وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَة رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . فَرَجَعَ عُمَر مِنْ مَوْضِعه ذَلِكَ إِلَى الْمَدِينَة . قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَلَا نَعْلَم خِلَافًا أَنَّ الْكُفَّار أَوْ قُطَّاع الطَّرِيق إِذَا قَصَدُوا بَلْدَة ضَعِيفَة لَا طَاقَة لِأَهْلِهَا بِالْقَاصِدِينَ فَلَهُمْ أَنْ يَتَنَحَّوْا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ , وَإِنْ كَانَتْ الْآجَال الْمُقَدَّرَة لَا تَزِيد وَلَا تَنْقُص . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ الْفِرَار مِنْهُ لِأَنَّ الْكَائِن بِالْمَوْضِعِ الَّذِي الْوَبَاء فِيهِ لَعَلَّهُ قَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ مِنْهُ , لِاشْتِرَاكِ أَهْل ذَلِكَ الْمَوْضِع فِي سَبَب ذَلِكَ الْمَرَض الْعَامّ , فَلَا فَائِدَة لِفِرَارِهِ , بَلْ يُضِيف إِلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ مَبَادِئ الْوَبَاء مَشَقَّات السَّفَر , فَتَتَضَاعَف الْآلَام وَيَكْثُر الضَّرَر فَيَهْلَكُونَ بِكُلِّ طَرِيق وَيُطْرَحُونَ فِي كُلّ فَجْوَة وَمَضِيق , وَلِذَلِكَ يُقَال : مَا فَرَّ أَحَد مِنْ الْوَبَاء فَسَلِمَ , حَكَاهُ اِبْن الْمَدَائِنِيّ . وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَوْعِظَة قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ وَهُمْ أُلُوف حَذَر الْمَوْت فَقَالَ لَهُمْ اللَّه مُوتُوا " وَلَعَلَّهُ إِنْ فَرَّ وَنَجَا يَقُول : إِنَّمَا نَجَوْت مِنْ أَجْل خُرُوجِي عَنْهُ فَيَسُوء اِعْتِقَاده . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفِرَار مِنْهُ مَمْنُوع لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَخْلِيَة الْبِلَاد : وَلَا تَخْلُو مِنْ مُسْتَضْعَفِينَ يَصْعُب عَلَيْهِمْ الْخُرُوج مِنْهَا , وَلَا يَتَأَتَّى لَهُمْ ذَلِكَ , وَيَتَأَذَّوْنَ بِخُلُوِّ الْبِلَاد مِنْ الْمَيَاسِير الَّذِينَ كَانُوا أَرْكَانًا لِلْبِلَادِ وَمَعُونَة لِلْمُسْتَضْعَفِينَ . وَإِذَا كَانَ الْوَبَاء بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدَم عَلَيْهِ أَحَد أَخْذًا بِالْحَزْمِ وَالْحَذَر وَالتَّحَرُّز مِنْ مَوَاضِع الضَّرَر , وَدَفْعًا لِلْأَوْهَامِ الْمُشَوِّشَة لِنَفْسِ الْإِنْسَان , وَفِي الدُّخُول عَلَيْهِ الْهَلَاك , وَذَلِكَ لَا يَجُوز فِي حُكْم اللَّه تَعَالَى , فَإِنَّ صِيَانَة النَّفْس عَنْ الْمَكْرُوه وَاجِبَة , وَقَدْ يُخَاف عَلَيْهِ مِنْ سُوء الِاعْتِقَاد بِأَنْ يَقُول : لَوْلَا دُخُولِي فِي هَذَا الْمَكَان لَمَا نَزَلَ بِي مَكْرُوه . فَهَذِهِ فَائِدَة النَّهْي عَنْ دُخُول أَرْض بِهَا الطَّاعُون أَوْ الْخُرُوج مِنْهَا , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ قَالَ اِبْن مَسْعُود : الطَّاعُون فِتْنَة عَلَى الْمُقِيم وَالْفَارّ , فَأَمَّا الْفَارّ فَيَقُول : فَبِفِرَارِي نَجَوْت , وَأَمَّا الْمُقِيم فَيَقُول : أَقَمْت فَمُتّ , وَإِلَى نَحْو هَذَا أَشَارَ مَالِك حِين سُئِلَ عَنْ كَرَاهَة النَّظَر إِلَى الْمَجْذُوم فَقَالَ : مَا سَمِعْت فِيهِ بِكَرَاهَةٍ , وَمَا أَرَى مَا جَاءَ مِنْ النَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِلَّا خِيفَة أَنْ يُفْزِعهُ أَوْ يُخِيفهُ شَيْء يَقَع فِي نَفْسه , قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَبَاء : ( إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْض فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ ) . وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْ الْبَلْدَة يَقَع فِيهَا الْمَوْت وَأَمْرَاض , فَهَلْ يُكْرَه الْخُرُوج مِنْهَا ؟ فَقَالَ : مَا أَرَى بَأْسًا خَرَجَ أَوْ أَقَامَ .

الرَّابِعَة : فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا وَقَعَ الْوَبَاء بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ ) . دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجُوز الْخُرُوج مِنْ بَلْدَة الطَّاعُون عَلَى غَيْر سَبِيل الْفِرَار مِنْهُ , إِذَا اِعْتَقَدَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئهُ , وَكَذَلِكَ حُكْم الدَّاخِل إِذَا أَيْقَنَ أَنَّ دُخُولهَا لَا يَجْلِب إِلَيْهِ قَدَرًا لَمْ يَكُنْ اللَّه قَدَّرَهُ لَهُ , فَبَاحَ لَهُ الدُّخُول إِلَيْهِ وَالْخُرُوج مِنْهُ عَلَى هَذَا الْحَدّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ , وَاَللَّه أَعْلَم .

الْخَامِسَة : فِي فَضْل الصَّبْر عَلَى الطَّاعُون وَبَيَانه . الطَّاعُون وَزْنه فَاعُول مِنْ الطَّعْن , غَيْر أَنَّهُ لَمَّا عُدِلَ بِهِ عَنْ أَصْله وُضِعَ دَالًّا عَلَى الْمَوْت الْعَامّ بِالْوَبَاءِ , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . وَيُرْوَى مِنْ حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( فَنَاء أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُون ) قَالَتْ : الطَّعْن قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُون ؟ قَالَ : ( غُدَّة كَغُدَّةِ الْبَعِير تَخْرُج فِي الْمَرَاقّ وَالْآبَاط ) . قَالَ الْعُلَمَاء : وَهَذَا الْوَبَاء قَدْ يُرْسِلهُ اللَّه نِقْمَة وَعُقُوبَة عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ الْعُصَاة مِنْ عَبِيده وَكَفَرَتهمْ , وَقَدْ يُرْسِلهُ شَهَادَة وَرَحْمَة لِلصَّالِحِينَ , كَمَا قَالَ مُعَاذ فِي طَاعُون عَمْوَاس : إِنَّهُ شَهَادَة وَرَحْمَة لَكُمْ وَدَعْوَة نَبِيّكُمْ , اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذًا وَأَهْله نَصِيبهمْ مِنْ رَحْمَتك . فَطُعِنَ فِي كَفّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قَالَ أَبُو قِلَابَة : قَدْ عَرَفْت الشَّهَادَة وَالرَّحْمَة وَلَمْ أَعْرِف مَا دَعْوَة نَبِيّكُمْ ؟ فَسَأَلْت عَنْهَا فَقِيلَ : دَعَا عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُجْعَل فَنَاء أُمَّته بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُون حِين دَعَا أَلَّا يُجْعَل بَأْس أُمَّته بَيْنهمْ فَمُنِعَهَا فَدَعَا بِهَذَا . وَيُرْوَى مِنْ حَدِيث جَابِر وَغَيْره عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْفَارّ مِنْ الطَّاعُون كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْف وَالصَّابِر فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْف ) . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمَر عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُون فَأَخْبَرَهَا نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثهُ اللَّه عَلَى مَنْ يَشَاء فَجَعَلَهُ اللَّه رَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْد يَقَع الطَّاعُون فَيَمْكُث فِي بَلَده صَابِرًا يَعْلَم أَنَّهُ لَنْ يُصِيبهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد ) . وَهَذَا تَفْسِير لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( الطَّاعُون شَهَادَة وَالْمَطْعُون شَهِيد ) . أَيْ الصَّابِر عَلَيْهِ الْمُحْتَسِب أَجْره عَلَى اللَّه الْعَالِم أَنَّهُ لَنْ يُصِيبهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِ , وَلِذَلِكَ تَمَنَّى مُعَاذ أَنْ يَمُوت فِيهِ لِعِلْمِهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فَهُوَ شَهِيد . وَأَمَّا مَنْ جَزِعَ مِنْ الطَّاعُون وَكَرِهَهُ وَفَرَّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْحَدِيث , وَاَللَّه أَعْلَم .

السَّادِسَة : قَالَ أَبُو عُمَر : لَمْ يَبْلُغنِي أَنَّ أَحَدًا مِنْ حَمَلَة الْعِلْم فَرَّ مِنْ الطَّاعُون إِلَّا مَا ذَكَرَهُ اِبْن الْمَدَائِنِيّ أَنَّ عَلِيّ بْن زَيْد بْن جُدْعَان هَرَبَ مِنْ الطَّاعُون إِلَى السَّيَالَة فَكَانَ يُجَمِّع كُلّ جُمُعَة وَيَرْجِع , فَكَانَ إِذَا جَمَّعَ صَاحُوا بِهِ : فِرَّ مِنْ الطَّاعُون ! فَمَاتَ بِالسَّيَالَةِ . قَالَ : وَهَرَبَ عَمْرو بْن عُبَيْد ورباط بْن مُحَمَّد إِلَى الرباطية فَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن عَلِيّ الْفُقَيْمِيّ فِي ذَلِكَ : وَلَمَّا اِسْتَفَزَّ الْمَوْت كُلّ مُكَذِّب صَبَرْت وَلَمْ يَصْبِر رباط وَلَا عَمْرو وَذَكَرَ أَبُو حَاتِم عَنْ الْأَصْمَعِيّ قَالَ : هَرَبَ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ مِنْ الطَّاعُون فَرَكِبَ حِمَارًا لَهُ وَمَضَى بِأَهْلِهِ نَحْو سَفَوَان , فَسَمِعَ حَادِيًا يَحْدُو خَلْفه : لَنْ يُسْبَق اللَّه عَلَى حِمَار وَلَا عَلَى ذِي مَنْعَة طَيَّار أَوْ يَأْتِي الْحَتْف عَلَى مِقْدَار قَدْ يُصْبِح اللَّه أَمَام السَّارِي وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيّ قَالَ : وَقَعَ الطَّاعُون بِمِصْر فِي وِلَايَة عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان فَخَرَجَ هَارِبًا مِنْهُ فَنَزَلَ قَرْيَة مِنْ قُرَى الصَّعِيد يُقَال لَهَا [ سُكَر ] . فَقَدِمَ عَلَيْهِ حِين نَزَلَهَا رَسُول لِعَبْدِ الْمَلِك بْن مَرْوَان . فَقَالَ لَهُ عَبْد الْعَزِيز : مَا اِسْمك ؟ فَقَالَ لَهُ : طَالِب بْن مُدْرِك . فَقَالَ : أَوْه مَا أَرَانِي رَاجِعًا إِلَى الْفُسْطَاط ! فَمَاتَ فِي تِلْكَ الْقَرْيَة .
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 244
هَذَا خِطَاب لِأُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيل اللَّه فِي قَوْل الْجُمْهُور . وَهُوَ الَّذِي يُنْوَى بِهِ أَنْ تَكُون كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا . وَسُبُل اللَّه كَثِيرَة فَهِيَ عَامَّة فِي كُلّ سَبِيل , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي " [ يُوسُف : 108 ] . قَالَ مَالِك : سُبُل اللَّه كَثِيرَة , وَمَا مِنْ سَبِيل إِلَّا يُقَاتَل عَلَيْهَا أَوْ فِيهَا أَوْ لَهَا , وَأَعْظَمهَا دِين الْإِسْلَام , لَا خِلَاف فِي هَذَا . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلَّذِينَ أُحْيُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك . وَالْوَاو عَلَى هَذَا فِي قَوْله " وَقَاتِلُوا " عَاطِفَة عَلَى الْأَمْر الْمُتَقَدِّم , وَفِي الْكَلَام مَتْرُوك تَقْدِيره : وَقَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا . وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل عَاطِفَة جُمْلَة كَلَام عَلَى جُمْلَة مَا تَقَدَّمَ , وَلَا حَاجَة إِلَى إِضْمَار فِي الْكَلَام . قَالَ النَّحَّاس : " وَقَاتِلُوا " أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَّا تَهْرُبُوا كَمَا هَرَبَ هَؤُلَاءِ .



أَيْ يَسْمَع قَوْلكُمْ إِنْ قُلْتُمْ مِثْل مَا قَالَ هَؤُلَاءِ وَيَعْلَم مُرَادكُمْ بِهِ , وَقَالَ الطَّبَرِيّ : لَا وَجْه لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَمْر بِالْقِتَالِ لِلَّذِينَ أُحْيُوا . وَاَللَّه أَعْلَم .
مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَسورة البقرة الآية رقم 245
فِيهِ تِسْع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا " لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْجِهَادِ وَالْقِتَال عَلَى الْحَقّ - إِذْ لَيْسَ شَيْء مِنْ الشَّرِيعَة إِلَّا وَيَجُوز الْقِتَال عَلَيْهِ وَعَنْهُ , وَأَعْظَمهَا دِين الْإِسْلَام كَمَا قَالَ مَالِك - حَرَّضَ عَلَى الْإِنْفَاق فِي ذَلِكَ . فَدَخَلَ فِي هَذَا الْخَبَر الْمُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه , فَإِنَّهُ يُقْرِض بِهِ رَجَاء الثَّوَاب كَمَا فَعَلَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي جَيْش الْعُسْرَة . و " مَنْ " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , و " ذَا " خَبَره , و " الَّذِي " نَعْت لِذَا , وَإِنْ شِئْت بَدَل . وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة بَادَرَ أَبُو الدَّحْدَاح إِلَى التَّصَدُّق بِمَالِهِ اِبْتِغَاء ثَوَاب رَبّه . أَخْبَرَنَا الشَّيْخ الْفَقِيه الْإِمَام الْمُحَدِّث الْقَاضِي أَبُو عَامِر يَحْيَى بْن عَامِر بْن أَحْمَد بْن مَنِيع الْأَشْعَرِيّ نَسَبًا وَمَذْهَبًا بِقُرْطُبَة - أَعَادَهَا اللَّه - فِي رَبِيع الْآخَر عَام ثَمَانِيَة وَعِشْرِينَ وَسِتّمِائَةٍ قِرَاءَة مِنِّي عَلَيْهِ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبِي إِجَازَة قَالَ : قَرَأْت عَلَى أَبِي بَكْر عَبْد الْعَزِيز بْن خَلَف بْن مَدْيَن الْأَزْدِيّ عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه بْن سَعْدُون سَمَاعًا عَلَيْهِ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن مِهْرَان قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن زَكَرِيَّا بْن حَيْوَة النَّيْسَابُورِيّ سَنَة سِتّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثمِائَةٍ , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَمِّي أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُعَاوِيَة بْن صَالِح قَالَ : حَدَّثَنَا خَلَف بْن خَلِيفَة عَنْ حُمَيْد الْأَعْرَج عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا " قَالَ أَبُو الدَّحْدَاح : يَا رَسُول اللَّه أَوَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُرِيد مِنَّا الْقَرْض ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاح ) قَالَ : أَرِنِي يَدك , قَالَ فَنَاوَلَهُ , قَالَ : فَإِنِّي أَقْرَضْت اللَّه حَائِطًا فِيهِ سِتّمِائَةِ نَخْلَة . ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْحَائِط وَأُمّ الدَّحْدَاح فِيهِ وَعِيَاله , فَنَادَاهَا : يَا أُمّ الدَّحْدَاح , قَالَتْ : لَبَّيْكَ , قَالَ : اُخْرُجِي , قَدْ أَقْرَضْت رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ حَائِطًا فِيهِ سِتّمِائَةِ نَخْلَة . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : لَمَّا نَزَلَ : " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا " قَالَ أَبُو الدَّحْدَاح : فِدَاك أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُول اللَّه إِنَّ اللَّه يَسْتَقْرِضنَا وَهُوَ غَنِيّ عَنْ الْقَرْض ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يُرِيد أَنْ يُدْخِلكُمْ الْجَنَّة بِهِ ) . قَالَ : فَإِنِّي إِنْ أَقْرَضْت رَبِّي قَرْضًا يَضْمَن لِي بِهِ وَلِصِبْيَتِي الدَّحْدَاحَة مَعِي الْجَنَّة ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) قَالَ : فَنَاوِلْنِي يَدك , فَنَاوَلَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَده : فَقَالَ : إِنَّ لِي حَدِيقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالسَّافِلَةِ وَالْأُخْرَى بِالْعَالِيَةِ , وَاَللَّه لَا أَمْلِك غَيْرهمَا , قَدْ جَعَلْتهمَا قَرْضًا لِلَّهِ تَعَالَى . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِجْعَلْ إِحْدَاهُمَا لِلَّهِ وَالْأُخْرَى دَعْهَا مَعِيشَة لَك وَلِعِيَالِك ) قَالَ : فَأُشْهِدك يَا رَسُول اللَّه أَنِّي قَدْ جَعَلْت خَيْرهمَا لِلَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ حَائِط فِيهِ سِتّمِائَةِ نَخْلَة . قَالَ : ( إِذًا يُجْزِيك اللَّه بِهِ الْجَنَّة ) . فَانْطَلَقَ أَبُو الدَّحْدَاح حَتَّى جَاءَ أُمّ الدَّحْدَاح وَهِيَ مَعَ صِبْيَانهَا فِي الْحَدِيقَة تَدُور تَحْت النَّخْل فَأَنْشَأَ يَقُول : هَدَاك رَبِّي سُبُل الرَّشَاد إِلَى سَبِيل الْخَيْر وَالسَّدَاد بِينِي مِنْ الْحَائِط بِالْوِدَادِ فَقَدْ مَضَى قَرْضًا إِلَى التَّنَاد أَقْرَضْته اللَّه عَلَى اِعْتِمَادِي بِالطَّوْعِ لَا مَنّ وَلَا اِرْتِدَاد إِلَّا رَجَاء الضِّعْف فِي الْمَعَاد فَارْتَحِلِي بِالنَّفْسِ وَالْأَوْلَاد وَالْبِرّ لَا شَكّ فَخَيْر زَاد قَدَّمَهُ الْمَرْء إِلَى الْمَعَاد قَالَتْ أُمّ الدَّحْدَاح : رَبِحَ بَيْعك بَارَكَ اللَّه لَك فِيمَا اِشْتَرَيْت , ثُمَّ أَجَابَتْهُ أُمّ الدَّحْدَاح وَأَنْشَأَتْ تَقُول : بَشَّرَك اللَّه بِخَيْرٍ وَفَرَحْ مِثْلُك أَدَّى مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ قَدْ مَتَّعَ اللَّه عِيَالِي وَمَنَحْ بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاء وَالزَّهْو الْبَلَحْ وَالْعَبْد يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ طُول اللَّيَالِي وَعَلَيْهِ مَا اِجْتَرَحْ ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمّ الدَّحْدَاح عَلَى صِبْيَانهَا تُخْرِج مَا فِي أَفْوَاههمْ وَتُنَفِّض مَا فِي أَكْمَامهمْ حَتَّى أَفْضَتْ إِلَى الْحَائِط الْآخَر , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَمْ مِنْ عِذْق رَدَاح وَدَار فَيَّاح لِأَبِي الدَّحْدَاح ) .

الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " اِنْقَسَمَ الْخَلْق بِحُكْمِ الْخَالِق وَحِكْمَته وَقُدْرَته وَمَشِيئَته وَقَضَائِهِ وَقَدَره حِين سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَة أَقْسَامًا , فَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ثَلَاثَة : [ الْفِرْقَة الْأُولَى ] الرَّذْلَى قَالُوا : إِنَّ رَبّ مُحَمَّد مُحْتَاج فَقِير إِلَيْنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاء , فَهَذِهِ جَهَالَة لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبّ , فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : " لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْل الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء " [ آل عِمْرَان : 181 ] . [ الْفِرْقَة الثَّانِيَة ] لَمَّا سَمِعَتْ هَذَا الْقَوْل آثَرَتْ الشُّحّ وَالْبُخْل وَقَدَّمَتْ الرَّغْبَة فِي الْمَال فَمَا أَنْفَقَتْ فِي سَبِيل اللَّه وَلَا فَكَّتْ أَسِيرًا وَلَا أَعَانَتْ أَحَدًا تَكَاسُلًا عَنْ الطَّاعَة وَرُكُونًا إِلَى هَذِهِ الدَّار . [ الْفِرْقَة الثَّالِثَة ] لَمَّا سَمِعَتْ بَادَرَتْ إِلَى اِمْتِثَاله وَآثَرَ الْمُجِيب مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ بِمَالِهِ كَأَبِي الدَّحْدَاح رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره . وَاَللَّه أَعْلَم .

الثَّالِثَة : " قَرْضًا حَسَنًا " الْقَرْض : اِسْم لِكُلِّ مَا يُلْتَمَس عَلَيْهِ الْجَزَاء وَأَقْرَضَ فُلَان فُلَانًا أَيْ أَعْطَاهُ مَا يَتَجَازَاهُ قَالَ الشَّاعِر وَهُوَ لَبِيد : وَإِذَا جُوزِيت قَرْضًا فَاجْزِهِ إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَل وَالْقِرْض بِالْكَسْرِ لُغَة فِيهِ حَكَاهَا الْكِسَائِيّ . وَاسْتَقْرَضْت مِنْ فُلَان أَيْ طَلَبْت مِنْهُ الْقَرْض فَأَقْرَضَنِي . وَاقْتَرَضْت مِنْهُ أَيْ أَخَذْت الْقَرْض . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْقَرْض فِي اللُّغَة الْبَلَاء الْحَسَن وَالْبَلَاء السَّيِّئ , قَالَ أُمَيَّة : كُلّ اِمْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضه حَسَنًا أَوْ سَيِّئًا وَمَدِينًا مِثْل مَا دَانَا وَقَالَ آخَر : تُجَازَى الْقُرُوض بِأَمْثَالِهَا فَبِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرًّا وَقَالَ الْكِسَائِيّ : الْقَرْض مَا أَسْلَفْت مِنْ عَمَل صَالِح أَوْ سَيِّئ . وَأَصْل الْكَلِمَة الْقَطْع , وَمِنْهُ الْمِقْرَاض . وَأَقْرَضْته أَيْ قَطَعْت لَهُ مِنْ مَالِي قِطْعَة يُجَازِي عَلَيْهَا . وَانْقَرَضَ الْقَوْم : اِنْقَطَعَ أَثَرهمْ وَهَلَكُوا . وَالْقَرْض هَهُنَا : اِسْم , وَلَوْلَاهُ لَقَالَ هَهُنَا إِقْرَاضًا . وَاسْتِدْعَاء الْقَرْض فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هِيَ تَأْنِيس وَتَقْرِيب لِلنَّاسِ بِمَا يَفْهَمُونَهُ , وَاَللَّه هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيد لَكِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ عَطَاء الْمُؤْمِن فِي الدُّنْيَا بِمَا يَرْجُو بِهِ ثَوَابه فِي الْآخِرَة بِالْقَرْضِ كَمَا شَبَّهَ إِعْطَاء النُّفُوس وَالْأَمْوَال فِي أَخْذ الْجَنَّة بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاء . حَسَب مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ بَرَاءَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ الْمُرَاد بِالْآيَةِ الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة وَإِنْفَاق الْمَال عَلَى الْفُقَرَاء وَالْمُحْتَاجِينَ وَالتَّوْسِعَة عَلَيْهِمْ , وَفِي سَبِيل اللَّه بِنُصْرَةِ الدِّين . وَكَنَّى اللَّه سُبْحَانه عَنْ الْفَقِير بِنَفْسِهِ الْعَلِيَّة الْمُنَزَّهَة عَنْ الْحَاجَات تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَة , كَمَا كَنَّى عَنْ الْمَرِيض وَالْجَائِع وَالْعَطْشَان بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَة عَنْ النَّقَائِص وَالْآلَام . فَفِي صَحِيح الْحَدِيث إِخْبَارًا عَنْ اللَّه تَعَالَى : ( يَا اِبْن آدَم مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي وَاسْتَطْعَمْتُك فَلَمْ تُطْعِمنِي وَاسْتَسْقَيْتُك فَلَمْ تَسْقِنِي ) قَالَ يَا رَبّ كَيْف أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : ( اِسْتَسْقَاك عَبْدِي فُلَان فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّك لَوْ سَقَيْته وَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي ) وَكَذَا فِيمَا قَبْل , أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَالْبُخَارِيّ وَهَذَا كُلّه خَرَجَ مَخْرَج التَّشْرِيف لِمَنْ كَنَّى عَنْهُ تَرْغِيبًا لِمَنْ خُوطِبَ بِهِ .

الرَّابِعَة : يَجِب عَلَى الْمُسْتَقْرِض رَدّ الْقَرْض ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيل اللَّه لَا يَضِيع عِنْد اللَّه تَعَالَى بَلْ يَرُدّ الثَّوَاب قَطْعًا وَأَبْهَمَ الْجَزَاء . وَفِي الْخَبَر : ( النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه تُضَاعَف إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف وَأَكْثَر ) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله تَعَالَى : " مَثَل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ فِي سَبِيل اللَّه كَمَثَلِ حَبَّة أَنْبَتَتْ سَبْع سَنَابِل " [ الْبَقَرَة : 261 ] الْآيَة . وَقَالَ هَهُنَا : " فَيُضَاعِفهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة " وَهَذَا لَا نِهَايَة لَهُ وَلَا حَدّ .

الْخَامِسَة : ثَوَاب الْقَرْض عَظِيم ; لِأَنَّ فِيهِ تَوْسِعَة عَلَى الْمُسْلِم وَتَفْرِيجًا عَنْهُ . خَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَأَيْت لَيْلَة أُسْرِيَ بِي عَلَى بَاب الْجَنَّة مَكْتُوبًا الصَّدَقَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا وَالْقَرْض بِثَمَانِيَةَ عَشَر فَقُلْت لِجِبْرِيل : مَا بَال الْقَرْض أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَة قَالَ لِأَنَّ السَّائِل يَسْأَل وَعِنْده وَالْمُسْتَقْرِض لَا يَسْتَقْرِض إِلَّا مِنْ حَاجَة ) . قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَلَف الْعَسْقَلَانِيّ حَدَّثَنَا يَعْلَى حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن يَسِير عَنْ قَيْس بْن رُومِيّ قَالَ : كَانَ سُلَيْمَان بْن أُذُنَانِ يُقْرِض عَلْقَمَة أَلْف دِرْهَم إِلَى عَطَائِهِ , فَلَمَّا خَرَجَ عَطَاؤُهُ تَقَاضَاهَا مِنْهُ , وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَقَضَاهُ , فَكَأَنَّ عَلْقَمَة غَضِبَ فَمَكَثَ أَشْهُرًا ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ : أَقْرِضْنِي أَلْف دِرْهَم إِلَى عَطَائِي , قَالَ : نَعَمْ وَكَرَامَة يَا أُمّ عُتْبَة هَلُمِّي تِلْكَ الْخَرِيطَة الْمَخْتُومَة الَّتِي عِنْدك , قَالَ : فَجَاءَتْ بِهَا , فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّه إِنَّهَا لَدَرَاهِمك الَّتِي قَضَيْتنِي مَا حَرَّكْت مِنْهَا دِرْهَمًا وَاحِدًا , قَالَ : فَلِلَّهِ أَبُوك ؟ مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت بِي ؟ قَالَ : مَا سَمِعْت مِنْك , قَالَ : مَا سَمِعْت مِنِّي ؟ قَالَ : سَمِعْتُك تَذْكُر عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِم يُقْرِض مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّة ) قَالَ : كَذَلِكَ أَنْبَأَنِي اِبْن مَسْعُود .

السَّادِسَة : قَرْض الْآدَمِيّ لِلْوَاحِدِ وَاحِد , أَيْ يَرُدّ عَلَيْهِ مِثْل مَا أَقْرَضَهُ . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ اِسْتِقْرَاض الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم وَالْحِنْطَة وَالشَّعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب وَكُلّ مَا لَهُ مِثْل مِنْ سَائِر الْأَطْعِمَة جَائِز . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ نَقْلًا عَنْ نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اِشْتِرَاط الزِّيَادَة فِي السَّلَف رِبًا وَلَوْ كَانَ قَبْضَة مِنْ عَلَف - كَمَا قَالَ اِبْن مَسْعُود - أَوْ حَبَّة وَاحِدَة . وَيَجُوز أَنْ يَرُدّ أَفْضَل مِمَّا يَسْتَلِف إِذَا لَمْ يُشْتَرَط ذَلِكَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَاب الْمَعْرُوف , اِسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة فِي الْبِكْر : ( إِنَّ خِيَاركُمْ أَحْسَنكُمْ قَضَاء ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة : الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا . فَأَثْنَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ الْقَضَاء , وَأَطْلَقَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقَيِّدهُ بِصِفَةٍ . وَكَذَلِكَ قَضَى هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِكْر وَهُوَ الْفَتِيّ الْمُخْتَار مِنْ الْإِبِل جَمَلًا خِيَارًا رَبَاعِيًّا , وَالْخِيَار : الْمُخْتَار , وَالرَّبَاعِيّ هُوَ الَّذِي دَخَلَ فِي السَّنَة الرَّابِعَة ; لِأَنَّهُ يُلْقِي فِيهَا رَبَاعِيَّته وَهِيَ الَّتِي تَلِي الثَّنَايَا وَهِيَ أَرْبَع رَبَاعِيَّات - مُخَفَّفَة الْبَاء - وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى جَوَاز قَرْض الْحَيَوَان , وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور , وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة وَقَدْ تَقَدَّمَ .

السَّابِعَة : وَلَا يَجُوز أَنْ يُهْدِي مَنْ اِسْتَقْرَضَ هَدِيَّة لِلْمُقْرِضِ , وَلَا يَحِلّ لِلْمُقْرِضِ قَبُولهَا إِلَّا أَنْ يَكُون عَادَتهُمَا ذَلِكَ , بِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّة : خَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ حَدَّثَنَا هِشَام بْن عَمَّار قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش حَدَّثَنَا عُتْبَة بْن حُمَيْد الضَّبِّيّ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي إِسْحَاق الْهُنَائِيّ قَالَ : سَأَلْت أَنَس بْن مَالِك عَنْ الرَّجُل مِنَّا يُقْرِض أَخَاهُ الْمَال فَيُهْدِي إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَقْرَضَ أَحَدكُمْ أَخَاهُ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّته فَلَا يَقْبَلهَا وَلَا يَرْكَبهَا إِلَّا أَنْ يَكُون جَرَى بَيْنه وَبَيْنه قَبْل ذَلِكَ ) .

الثَّامِنَة : الْقَرْض يَكُون مِنْ الْمَال - وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمه - وَيَكُون مِنْ الْعِرْض , وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيَعْجَزُ أَحَدكُمْ أَنْ يَكُون كَأَبِي ضَمْضَم كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْته قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادك ) . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : أَقْرِضْ مِنْ عِرْضك لِيَوْمِ فَقْرك , يَعْنِي مَنْ سَبَّك فَلَا تَأْخُذ مِنْهُ حَقًّا وَلَا تُقِمْ عَلَيْهِ حَدًّا حَتَّى تَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة مُوَفَّر الْأَجْر . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَجُوز التَّصَدُّق بِالْعِرْضِ لِأَنَّهُ حَقّ اللَّه تَعَالَى , وَرُوِيَ عَنْ مَالِك اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا فَاسِد , قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي الصَّحِيح : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام ) الْحَدِيث . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُون هَذِهِ الْمُحَرَّمَات الثَّلَاث تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا فِي كَوْنهَا بِاحْتِرَامِهَا حَقًّا لِلْآدَمِيِّ .

‎التَّاسِعَة : قَوْله تَعَالَى " حَسَنًا " قَالَ الْوَاقِدِيّ : مُحْتَسِبًا طَيِّبَة بِهِ نَفْسه . وَقَالَ عَمْرو بْن عُثْمَان الصَّدَفِيّ : لَا يَمُنّ بِهِ وَلَا يُؤْذِي . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : لَا يَعْتَقِد فِي قَرْضه عِوَضًا .


قَرَأَ عَاصِم وَغَيْره " فَيُضَاعِفَهُ " بِالْأَلِفِ وَنَصْب الْفَاء . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَيَعْقُوب بِالتَّشْدِيدِ فِي الْعَيْن مَعَ سُقُوط الْأَلِف وَنَصْب الْفَاء . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة بِالتَّشْدِيدِ وَرَفْع الْفَاء . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْأَلِفِ وَرَفْع الْفَاء . فَمَنْ رَفَعَهُ نَسَّقَهُ عَلَى قَوْله : " يُقْرِض " وَقِيلَ : عَلَى تَقْدِير هُوَ يُضَاعِفهُ . وَمَنْ نَصَبَ فَجَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ بِالْفَاءِ . وَقِيلَ : بِإِضْمَارِ " أَنْ " وَالتَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف لُغَتَانِ . دَلِيل التَّشْدِيد " أَضْعَافًا كَثِيرَة " لِأَنَّ التَّشْدِيد لِلتَّكْثِيرِ . وَقَالَ الْحَسَن وَالسُّدِّيّ : لَا نَعْلَم هَذَا التَّضْعِيف إِلَّا لِلَّهِ وَحْده , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " [ النِّسَاء : 40 ] . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : هَذَا فِي نَفَقَة الْجِهَاد , وَكُنَّا نَحْسُب وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن أَظْهُرنَا نَفَقَة الرَّجُل عَلَى نَفْسه وَرُفَقَائِهِ وَظَهْره بِأَلْفَيْ أَلْف .


هَذَا عَامّ فِي كُلّ شَيْء فَهُوَ الْقَابِض الْبَاسِط , وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِمَا فِي [ شَرْح الْأَسْمَاء الْحُسْنَى فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى ] .


وَعِيد , فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 246
ذَكَرَ فِي التَّحْرِيض عَلَى الْقِتَال قِصَّة أُخْرَى جَرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيل . وَالْمَلَأ : الْأَشْرَاف مِنْ النَّاس , كَأَنَّهُمْ مُمْتَلِئُونَ شَرَفًا . وَقَالَ الزَّجَّاج : سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُمْتَلِئُونَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ . وَالْمَلَأ فِي هَذِهِ الْآيَة الْقَوْم ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيه . وَالْمَلَأ : اِسْم لِلْجَمْعِ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْط . وَالْمَلَأ أَيْضًا : حُسْن الْخُلُق , وَمِنْهُ الْحَدِيث ( أَحْسِنُوا الْمَلَأ فَكُلّكُمْ سَيَرْوَى ) خَرَّجَهُ مُسْلِم .



أَيْ مِنْ بَعْد وَفَاته .


قِيلَ : هُوَ شَمْوِيل بْن بَال بْن عَلْقَمَة وَيُعْرَف بِابْنِ الْعَجُوز . وَيُقَال فِيهِ : شَمْعُون , قَالَهُ السُّدِّيّ : وَإِنَّمَا قِيلَ : اِبْن الْعَجُوز لِأَنَّ أُمّه كَانَتْ عَجُوزًا فَسَأَلَتْ اللَّه الْوَلَد وَقَدْ كَبِرَتْ وَعَقِمَتْ فَوَهَبَهُ اللَّه تَعَالَى لَهَا . وَيُقَال لَهُ : سَمْعُون لِأَنَّهَا دَعَتْ اللَّه أَنْ يَرْزُقهَا الْوَلَد فَسَمِعَ دُعَاءَهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ " سَمْعُون " , تَقُول : سَمِعَ اللَّه دُعَائِي , وَالسِّين تَصِير شِينًا بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّة , وَهُوَ مِنْ وَلَد يَعْقُوب . وَقَالَ مُقَاتِل : هُوَ مِنْ نَسْل هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ يُوشَع بْن نُون . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّ مُدَّة دَاوُد هِيَ مِنْ بَعْد مُوسَى بِقُرُونٍ مِنْ النَّاس , وَيُوشَع هُوَ فَتَى مُوسَى . وَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيّ أَنَّ اِسْمه إِسْمَاعِيل , وَاَللَّه أَعْلَم . وَهَذِهِ الْآيَة هِيَ خَبَر عَنْ قَوْم مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل نَالَتْهُمْ ذِلَّة وَغَلَبَة عَدُوّ فَطَلَبُوا الْإِذْن فِي الْجِهَاد وَأَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ , فَلَمَّا أُمِرُوا كَعَّ أَكْثَرهمْ وَصَبَرَ الْأَقَلّ فَنَصَرَهُمْ اللَّه . وَفِي الْخَبَر أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ هُمْ الَّذِينَ أُمِيتُوا ثُمَّ أُحْيُوا , وَاَللَّه أَعْلَم .

‎قَوْله تَعَالَى " نُقَاتِل " بِالنُّونِ وَالْجَزْم وَقِرَاءَة جُمْهُور الْقُرَّاء عَلَى جَوَاب الْأَمْر . وَقَرَأَ الضَّحَّاك وَابْن أَبِي عَبْلَة بِالْيَاءِ وَرَفْع الْفِعْل , فَهُوَ فِي مَوْضِع الصِّفَة لِلْمَلِكِ .


" عَسَيْتُمْ " بِالْفَتْحِ وَالْكَسْر لُغَتَانِ , وَبِالثَّانِيَةِ قَرَأَ نَافِع , وَالْبَاقُونَ بِالْأُولَى وَهِيَ الْأَشْهَر . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَلَيْسَ لِلْكَسْرِ وَجْه , وَبِهِ قَرَأَ الْحَسَن وَطَلْحَة . قَالَ مَكِّيّ فِي اِسْم الْفَاعِل : عَسٍ , فَهَذَا يَدُلّ عَلَى كَسْر السِّين فِي الْمَاضِي . وَالْفَتْح فِي السِّين هِيَ اللُّغَة الْفَاشِيَة . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَوَجْه الْكَسْر قَوْل الْعَرَب : هُوَ عَسٍ بِذَلِكَ , مِثْل حَرٍ وَشَجٍ , وَقَدْ جَاءَ فَعَل وَفَعِل فِي نَحْو نَعَم وَنَعِم , وَكَذَلِكَ عَسَيْت وَعَسِيت , فَإِنْ أُسْنِدَ الْفِعْل إِلَى ظَاهِر فَقِيَاس عَسَيْتُمْ أَنْ يُقَال : عَسِيَ زَيْد , مِثْل رَضِيَ زَيْد , فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ الْقِيَاس وَإِنْ لَمْ يَقُلْ , فَسَائِغ أَنْ يُؤْخَذ بِاللُّغَتَيْنِ فَتُسْتَعْمَل إِحْدَاهُمَا مَوْضِع الْأُخْرَى . وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَقَالَة : هَلْ أَنْتُمْ قَرِيب مِنْ التَّوَلِّي وَالْفِرَار ؟ . " إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَال أَلَّا تُقَاتِلُوا " قَالَ الزَّجَّاج : " أَلَّا تُقَاتِلُوا " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ هَلْ عَسَيْتُمْ مُقَاتَلَة .


قَالَ الْأَخْفَش : " أَنْ " زَائِدَة . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى , أَيْ وَمَا مَنَعَنَا , كَمَا تَقُول : مَا لَك أَلَّا تُصَلِّي ؟ أَيْ مَا مَنَعَك . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَأَيّ شَيْء لَنَا فِي أَلَّا نُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه ! قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا أَجْوَدهَا . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب . " وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارنَا " تَعْلِيل , وَكَذَلِكَ " وَأَبْنَائِنَا " أَيْ بِسَبَبِ ذَرَارِيّنَا .


أَيْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ .


أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقِتَال وَرَأَوْا الْحَقِيقَة وَرَجَعَتْ أَفْكَارهمْ إِلَى مُبَاشَرَة الْحَرْب وَأَنَّ نُفُوسهمْ رُبَّمَا قَدْ تَذْهَب " تَوَلَّوْا " أَيْ اِضْطَرَبَتْ نِيَّاتهمْ وَفَتَرَتْ عَزَائِمهمْ , وَهَذَا شَأْن الْأُمَم الْمُتَنَعِّمَة الْمَائِلَة إِلَى الدَّعَة تَتَمَنَّى الْحَرْب أَوْقَات الْأَنَفَة فَإِذَا حَضَرَتْ الْحَرْب كَعَّتْ وَانْقَادَتْ لِطَبْعِهَا . وَعَنْ هَذَا الْمَعْنَى نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوّ وَسَلُوا اللَّه الْعَافِيَة فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة . ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ قَلِيل مِنْهُمْ أَنَّهُمْ ثَبَتُوا عَلَى النِّيَّة الْأُولَى وَاسْتَمَرَّتْ عَزِيمَتهمْ عَلَى الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى .
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 247
أَيْ أَجَابَكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ , وَكَانَ طَالُوت سَقَّاء . وَقِيلَ : دَبَّاغًا . وَقِيلَ : مُكَارِيًا , وَكَانَ عَالِمًا فَلِذَلِكَ رَفَعَهُ اللَّه عَلَى مَا يَأْتِي : وَكَانَ مِنْ سِبْط بِنْيَامِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْط النُّبُوَّة وَلَا مِنْ سِبْط الْمُلْك , وَكَانَتْ النُّبُوَّة فِي بَنِي لَاوَى , وَالْمُلْك فِي سِبْط يَهُوذَا فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا . قَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : لَمَّا قَالَ الْمَلَأ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل لِشَمْوِيل بْن بَال مَا قَالُوا , سَأَلَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَبْعَث إِلَيْهِمْ مَلِكًا وَيَدُلّهُ عَلَيْهِ , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ : اُنْظُرْ إِلَى الْقَرَن الَّذِي فِيهِ الدُّهْن فِي بَيْتك فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْك رَجُل فَنَشَّ الدُّهْن الَّذِي فِي الْقَرَن , فَهُوَ مَلِك بَنِي إِسْرَائِيل فَادْهِنْ رَأْسه مِنْهُ وَمَلِّكْهُ عَلَيْهِمْ . قَالَ : وَكَانَ طَالُوت دَبَّاغًا فَخَرَجَ فِي اِبْتِغَاء دَابَّة أَضَلَّهَا , فَقَصَدَ شَمْوِيل عَسَى أَنْ يَدْعُو لَهُ فِي أَمْر الدَّابَّة أَوْ يَجِد عِنْده فَرَجًا , فَنَشَّ الدُّهْن عَلَى مَا زَعَمُوا , قَالَ : فَقَامَ إِلَيْهِ شَمْوِيل فَأَخَذَهُ وَدَهَنَ مِنْهُ رَأْس طَالُوت , وَقَالَ لَهُ : أَنْتَ مَلِك بَنِي إِسْرَائِيل الَّذِي أَمَرَنِي اللَّه تَعَالَى بِتَقْدِيمِهِ , ثُمَّ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيل : " إِنَّ اللَّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوت مَلِكًا " . وَطَالُوت وَجَالُوت اِسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ مُعَرَّبَانِ , وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفَا , وَكَذَلِكَ دَاوُد , وَالْجَمْع طَوَالِيت وَجَوَالِيت وَدَوَاوِيد , وَلَوْ سَمَّيْت رَجُلًا بِطَاوُس وَرَاقُود لَصَرَفْت وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيَّيْنِ . وَالْفَرْق بَيْن هَذَا وَالْأَوَّل أَنَّك تَقُول : الطَّاوُس , فَتُدْخِل الْأَلِف وَاللَّام فَيُمْكِن فِي الْعَرَبِيَّة وَلَا يُمْكِن هَذَا فِي ذَاكَ .


أَيْ كَيْف يَمْلِكنَا وَنَحْنُ أَحَقّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ . جَرَوْا عَلَى سُنَّتهمْ فِي تَعْنِيتهمْ الْأَنْبِيَاء وَحَيْدهمْ عَنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى فَقَالُوا : " أَنَّى " أَيْ مِنْ أَيّ جِهَة , ف " أَنَّى " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الظَّرْف , وَنَحْنُ مِنْ سِبْط الْمُلُوك وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ فَقِير , فَتَرَكُوا السَّبَب الْأَقْوَى وَهُوَ قَدَر اللَّه تَعَالَى وَقَضَاؤُهُ السَّابِق حَتَّى اِحْتَجَّ عَلَيْهِمْ نَبِيّهمْ بِقَوْلِهِ : " إِنَّ اللَّه اِصْطَفَاهُ " أَيْ اِخْتَارَهُ وَهُوَ الْحُجَّة الْقَاطِعَة , وَبَيَّنَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ تَعْلِيل اِصْطِفَاء طَالُوت , وَهُوَ بَسْطَته فِي الْعِلْم الَّذِي هُوَ مِلَاك الْإِنْسَان , وَالْجِسْم الَّذِي هُوَ مُعِينه فِي الْحَرْب وَعِدَّته عِنْد اللِّقَاء , فَتَضَمَّنَتْ بَيَان صِفَة الْإِمَام وَأَحْوَال الْإِمَامَة , وَإِنَّهَا مُسْتَحَقَّة بِالْعِلْمِ وَالدِّين وَالْقُوَّة لَا بِالنَّسَبِ , فَلَا حَظّ لِلنَّسَبِ فِيهَا مَعَ الْعِلْم وَفَضَائِل النَّفْس وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَة عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ اِخْتَارَهُ عَلَيْهِمْ لِعِلْمِهِ وَقُوَّته , وَإِنْ كَانُوا أَشْرَف مُنْتَسَبًا . وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل السُّورَة مِنْ ذِكْر الْإِمَامَة وَشُرُوطهَا مَا يَكْفِي وَيُغْنِي . وَهَذِهِ الْآيَة أَصْل فِيهَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ طَالُوت يَوْمئِذٍ أَعْلَم رَجُل فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَأَجْمَله وَأَتَمّه , وَزِيَادَة الْجِسْم مِمَّا يُهِيب الْعَدُوّ . وَقِيلَ : سُمِّيَ طَالُوت لِطُولِهِ . وَقِيلَ : زِيَادَة الْجِسْم كَانَتْ بِكَثْرَةِ مَعَانِي الْخَيْر وَالشَّجَاعَة , وَلَمْ يُرِدْ عِظَم الْجِسْم , أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْل الشَّاعِر : تَرَى الرَّجُل النَّحِيف فَتَزْدَرِيه وَفِي أَثْوَابه أَسَد هَصُور وَيُعْجِبك الطَّرِير فَتَبْتَلِيه فَيُخْلِف ظَنَّك الرَّجُل الطَّرِير وَقَدْ عَظُمَ الْبَعِير بِغَيْرِ لُبّ فَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالْعِظَمِ الْبَعِير قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَزْوَاجِهِ : ( أَسْرَعكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلكُنَّ يَدًا ) فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ , فَكَانَتْ زَيْنَب أَوَّلهنَّ مَوْتًا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَل بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّق , خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَوِّلِينَ : الْمُرَاد بِالْعِلْمِ عِلْم الْحَرْب , وَهَذَا تَخْصِيص الْعُمُوم مِنْ غَيْر دَلِيل . وَقَدْ قِيلَ : زِيَادَة الْعِلْم بِأَنْ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ , وَعَلَى هَذَا كَانَ طَالُوت نَبِيًّا , وَسَيَأْتِي .


ذَهَبَ بَعْض الْمُتَأَوِّلِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل شَمْوِيل وَهُوَ الْأَظْهَر . قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ مِنْ تَعَنُّتهمْ وَجِدَالهمْ فِي الْحُجَج , فَأَرَادَ أَنْ يُتْمِم كَلَامه بِالْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا اِعْتِرَاض عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَاَللَّه يُؤْتِي مُلْكه مَنْ يَشَاء " . وَإِضَافَة مُلْك الدُّنْيَا إِلَى اللَّه تَعَالَى إِضَافَة مَمْلُوك إِلَى مَلِك . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَة التَّغْبِيط وَالتَّنْبِيه مِنْ غَيْر سُؤَال مِنْهُمْ : " إِنَّ آيَة مُلْكه " . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوهُ الدَّلَالَة عَلَى صِدْقه فِي قَوْله : " إِنَّ اللَّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوت مَلِكًا " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْأَوَّل أَظْهَر بِمَسَاقِ الْآيَة , وَالثَّانِي أَشْبَه بِأَخْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيل الذَّمِيمَة , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّبَرِيّ .
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 248
أَيْ إِتْيَان التَّابُوت , وَالتَّابُوت كَانَ مِنْ شَأْنه فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّه عَلَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام , فَكَانَ عِنْده إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام , فَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل يَغْلِبُونَ بِهِ مَنْ قَاتَلَهُمْ حَتَّى عَصَوْا فَغُلِبُوا عَلَى التَّابُوت غَلَبَهُمْ عَلَيْهِ الْعَمَالِقَة : جَالُوت وَأَصْحَابه فِي قَوْل السُّدِّيّ , وَسَلَبُوا التَّابُوت مِنْهُمْ .

قُلْت : وَهَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعِصْيَان سَبَب الْخِذْلَان , وَهَذَا بَيِّن . قَالَ النَّحَّاس : وَالْآيَة فِي التَّابُوت عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسْمَع فِيهِ أَنِين , فَإِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ سَارُوا لِحَرْبِهِمْ , وَإِذَا هَدَأَ الْأَنِين لَمْ يَسِيرُوا وَلَمْ يَسِرْ التَّابُوت . وَقِيلَ : كَانُوا يَضَعُونَهُ فِي مَأْزِق الْحَرْب فَلَا تَزَال تَغْلِب حَتَّى عَصَوْا فَغُلِبُوا وَأُخِذَ مِنْهُمْ التَّابُوت وَذَلَّ أَمْرهمْ , فَلَمَّا رَأَوْا آيَة الِاصْطِلَام وَذَهَاب الذِّكْر , أَنِفَ بَعْضهمْ وَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرهمْ حَتَّى اِجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ أَنْ قَالُوا لِنَبِيِّ الْوَقْت : اِبْعَثْ لَنَا مَلِكًا , فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ : مَلِككُمْ طَالُوت رَاجَعُوهُ فِيهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ , فَلَمَّا قَطَعَهُمْ بِالْحُجَّةِ سَأَلُوهُ الْبَيِّنَة عَلَى ذَلِكَ , فِي قَوْل الطَّبَرِيّ . فَلَمَّا سَأَلُوا نَبِيّهمْ الْبَيِّنَة عَلَى مَا قَالَ , دَعَا رَبّه فَنَزَلَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ أَخَذُوا التَّابُوت دَاء بِسَبَبِهِ , عَلَى خِلَاف فِي ذَلِكَ . قِيلَ : وَضَعُوهُ فِي كَنِيسَة لَهُمْ فِيهَا أَصْنَام فَكَانَتْ الْأَصْنَام تُصْبِح مَنْكُوسَة . وَقِيلَ : وَضَعُوهُ فِي بَيْت أَصْنَامهمْ تَحْت الصَّنَم الْكَبِير فَأَصْبَحُوا وَهُوَ فَوْق الصَّنَم , فَأَخَذُوهُ وَشَدُّوهُ إِلَى رِجْلَيْهِ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ قُطِعَتْ يَدَا الصَّنَم وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَتْ تَحْت التَّابُوت , فَأَخَذُوهُ وَجَعَلُوهُ فِي قَرْيَة قَوْم فَأَصَابَ أُولَئِكَ الْقَوْم أَوْجَاع فِي أَعْنَاقهمْ . وَقِيلَ : جَعَلُوهُ فِي مَخْرَأَة قَوْم فَكَانُوا يُصِيبهُمْ الْبَاسُور , فَلَمَّا عَظُمَ بَلَاؤُهُمْ كَيْفَمَا كَانَ , قَالُوا : مَا هَذَا إِلَّا لِهَذَا التَّابُوت فَلْنَرُدَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَوَضَعُوهُ عَلَى عَجَلَة بَيْن ثَوْرَيْنِ وَأَرْسَلُوهُمَا فِي الْأَرْض نَحْو بِلَاد بَنِي إِسْرَائِيل , وَبَعَثَ اللَّه مَلَائِكَة تَسُوق الْبَقَرَتَيْنِ حَتَّى دَخَلَتَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل , وَهُمْ فِي أَمْر طَالُوت فَأَيْقَنُوا بِالنَّصْرِ , وَهَذَا هُوَ حَمْل الْمَلَائِكَة لِلتَّابُوتِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة . وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَة جَاءَتْ بِهِ تَحْمِلهُ وَكَانَ يُوشَع بْن نُون قَدْ جَعَلَهُ فِي الْبَرِّيَّة , فَرُوِيَ أَنَّهُمْ رَأَوْا التَّابُوت فِي الْهَوَاء حَتَّى نَزَلَ بَيْنهمْ , قَالَهُ الرَّبِيع بْن خَيْثَم . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : كَانَ قَدْر التَّابُوت نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَة أَذْرُع فِي ذِرَاعَيْنِ . الْكَلْبِيّ : وَكَانَ مِنْ عُود شمسار الَّذِي يُتَّخَذ مِنْهُ الْأَمْشَاط . وَقَرَأَ زَيْد بْن ثَابِت " التَّابُوه " وَهِيَ لُغَته , وَالنَّاس عَلَى قِرَاءَته بِالتَّاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ عَنْهُ " التَّيْبُوت " ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقَرَأَ حُمَيْد بْن قَيْس " يَحْمِلهُ " بِالْيَاءِ .


اِخْتَلَفَ النَّاس فِي السَّكِينَة وَالْبَقِيَّة , فَالسَّكِينَة فَعِيلَة مَأْخُوذَة مِنْ السُّكُون وَالْوَقَار وَالطُّمَأْنِينَة . فَقَوْله " فِيهِ سَكِينَة " أَيْ هُوَ سَبَب سُكُون قُلُوبكُمْ فِيمَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ أَمْر طَالُوت , وَنَظِيره " فَأَنْزَلَ اللَّه سَكِينَته عَلَيْهِ " [ التَّوْبَة : 40 ] أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَا سَكَنَ بِهِ قَلْبه . وَقِيلَ : أَرَادَ أَنَّ التَّابُوت كَانَ سَبَب سُكُون قُلُوبهمْ , فَأَيْنَمَا كَانُوا سَكَنُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَفِرُّوا مِنْ التَّابُوت إِذَا كَانَ مَعَهُمْ فِي الْحَرْب . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : السَّكِينَة رُوح مِنْ اللَّه تَتَكَلَّم , فَكَانُوا إِذَا اِخْتَلَفُوا فِي أَمْر نَطَقَتْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ , وَإِذَا صَاحَتْ فِي الْحَرْب كَانَ الظَّفَر لَهُمْ . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : هِيَ رِيح هَفَّافَة لَهَا وَجْه كَوَجْهِ الْإِنْسَان . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ رِيح خَجُوج لَهَا رَأْسَانِ . وَقَالَ مُجَاهِد : حَيَوَان كَالْهِرِّ لَهُ جَنَاحَانِ وَذَنَب وَلِعَيْنَيْهِ شُعَاع , فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْجَيْش اِنْهَزَمَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : طَسْت مِنْ ذَهَب مِنْ الْجَنَّة , كَانَ يُغْسَل فِيهِ قُلُوب الْأَنْبِيَاء , وَقَالَهُ السُّدِّيّ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالصَّحِيح أَنَّ التَّابُوت كَانَتْ فِيهِ أَشْيَاء فَاضِلَة مِنْ بَقَايَا الْأَنْبِيَاء وَآثَارهمْ , فَكَانَتْ النُّفُوس تَسْكُن إِلَى ذَلِكَ وَتَأْنَس بِهِ وَتَقْوَى .

قُلْت : وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ الْبَرَاء قَالَ : كَانَ رَجُل يَقْرَأ سُورَة " الْكَهْف " وَعِنْده فَرَس مَرْبُوط بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَة فَجَعَلَتْ تَدُور وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسه يَنْفِر مِنْهَا , فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : ( تِلْكَ السَّكِينَة تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ ) . وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ : أَنَّ أُسَيْد بْن الْحُضَيْر بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَة يَقْرَأ فِي مِرْبَده الْحَدِيث وَفِيهِ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تِلْكَ الْمَلَائِكَة كَانَتْ تَسْتَمِع لَك وَلَوْ قَرَأْت لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاس مَا تَسْتَتِر مِنْهُمْ ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نُزُول السَّكِينَة مَرَّة , وَمَرَّة عَنْ نُزُول الْمَلَائِكَة , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّكِينَة كَانَتْ فِي تِلْكَ الظُّلَّة , وَأَنَّهَا تَنْزِل أَبَدًا مَعَ الْمَلَائِكَة . وَفِي هَذَا حُجَّة لِمَنْ قَالَ إِنَّ السَّكِينَة رُوح أَوْ شَيْء لَهُ رُوح لِأَنَّهُ لَا يَصِحّ اِسْتِمَاع الْقُرْآن إِلَّا لِمَنْ يَعْقِل , وَاَللَّه أَعْلَم .



اُخْتُلِفَ فِي الْبَقِيَّة عَلَى أَقْوَال , فَقِيلَ : عَصَا مُوسَى وَعَصَا هَارُون وَرُضَاض الْأَلْوَاح ; لِأَنَّهَا اِنْكَسَرَتْ حِين أَلْقَاهَا مُوسَى , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . زَادَ عِكْرِمَة : التَّوْرَاة . وَقَالَ أَبُو صَالِح : الْبَقِيَّة : عَصَا مُوسَى وَثِيَابه وَثِيَاب هَارُون وَلَوْحَانِ مِنْ التَّوْرَاة . وَقَالَ عَطِيَّة بْن سَعْد : وَهِيَ عَصَا مُوسَى وَعَصَا هَارُون وَثِيَابهمَا وَرُضَاض الْأَلْوَاح . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : مِنْ النَّاس مَنْ يَقُول الْبَقِيَّة قَفِيزَا مَنٍّ فِي طَسْت مِنْ ذَهَب وَعَصَا مُوسَى وَعِمَامَة هَارُون وَرُضَاض الْأَلْوَاح . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ . وَمَعْنَى هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ قَوْمه بِالْأَلْوَاحِ فَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْل , أَلْقَى الْأَلْوَاح غَضَبًا فَتَكَسَّرَتْ , فَنَزَعَ مِنْهَا مَا كَانَ صَحِيحًا وَأَخَذَ رُضَاض مَا تَكَسَّرَ فَجَعَلَهُ فِي التَّابُوت . وَقَالَ الضَّحَّاك : الْبَقِيَّة : الْجِهَاد وَقِتَال الْأَعْدَاء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : أَيْ الْأَمْر بِذَلِكَ فِي التَّابُوت , إِمَّا أَنَّهُ مَكْتُوب فِيهِ , وَإِمَّا أَنَّ نَفْس الْإِتْيَان بِهِ هُوَ كَالْأَمْرِ بِذَلِكَ , وَأُسْنِدَ التَّرْك إِلَى آل مُوسَى وَآل هَارُون مِنْ حَيْثُ كَانَ الْأَمْر مُنْدَرِجًا مِنْ قَوْم إِلَى قَوْم وَكُلّهمْ آل مُوسَى وَآل هَارُون . وَآل الرَّجُل قَرَابَته . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَسورة البقرة الآية رقم 249
" فَصَلَ " مَعْنَاهُ خَرَجَ بِهِمْ . فَصَلْت الشَّيْء فَانْفَصَلَ , أَيْ قَطَعْته فَانْقَطَعَ . قَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوت قَالُوا لَهُ إِنَّ الْمِيَاه لَا تَحْمِلنَا فَادْعُ اللَّه أَنْ يُجْرِي لَنَا نَهَرًا فَقَالَ لَهُمْ طَالُوت : إِنَّ اللَّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ . وَكَانَ عَدَد الْجُنُود - فِي قَوْل السُّدِّيّ - ثَمَانِينَ أَلْفًا . وَقَالَ وَهْب : لَمْ يَتَخَلَّف عَنْهُ إِلَّا ذُو عُذْر مِنْ صِغَر أَوْ كِبَر أَوْ مَرَض . وَالِابْتِلَاء الِاخْتِبَار . وَالنَّهَر وَالنَّهْر لُغَتَانِ . وَاشْتِقَاقه مِنْ السَّعَة , وَمِنْهُ النَّهَار وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ قَتَادَة : النَّهَر الَّذِي اِبْتَلَاهُمْ اللَّه بِهِ هُوَ نَهَر بَيْن الْأُرْدُنّ وَفِلَسْطِين . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " بِنَهَرٍ " بِفَتْحِ الْهَاء . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد الْأَعْرَج " بِنَهْرٍ " بِإِسْكَانِ الْهَاء . وَمَعْنَى هَذَا الِابْتِلَاء أَنَّهُ اِخْتِبَار لَهُمْ , فَمَنْ ظَهَرَتْ طَاعَته فِي تَرْك الْمَاء عُلِمَ أَنَّهُ مُطِيع فِيمَا عَدَا ذَلِكَ , وَمَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَته فِي الْمَاء وَعَصَى الْأَمْر فَهُوَ فِي الْعِصْيَان فِي الشَّدَائِد أَحْرَى , فَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَتَوْا النَّهَر وَقَدْ نَالَهُمْ عَطَش وَهُوَ فِي غَايَة الْعُذُوبَة وَالْحُسْن , فَلِذَلِكَ رُخِّصَ لِلْمُطِيعِينَ فِي الْغَرْفَة لِيَرْتَفِع عَنْهُمْ أَذَى الْعَطَش بَعْض الِارْتِفَاع وَلِيَكْسِرُوا نِزَاع النَّفْس فِي هَذِهِ الْحَال . وَبَيَّنَ أَنَّ الْغَرْفَة كَافَّة ضَرَر الْعَطَش عِنْد الْحَزَمَة الصَّابِرِينَ عَلَى شَظَف الْعَيْش الَّذِينَ هَمُّهُمْ فِي غَيْر الرَّفَاهِيَة , كَمَا قَالَ عُرْوَة : وَاحْسُوا قَرَاح الْمَاء وَالْمَاء بَارِد قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( حَسْب الْمَرْء لُقَيْمَات يُقِمْنَ صُلْبه ) . وَقَالَهُ بَعْض مَنْ يَتَعَاطَى غَوَامِض الْمَعَانِي : هَذِهِ الْآيَة مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلدُّنْيَا فَشَبَّهَهَا اللَّه بِالنَّهَرِ وَالشَّارِب مِنْهُ وَالْمَائِل إِلَيْهَا وَالْمُسْتَكْثِر مِنْهَا وَالتَّارِك لِشُرْبِهِ بِالْمُنْحَرِفِ عَنْهَا وَالزَّاهِد فِيهَا , وَالْمُغْتَرِف بِيَدِهِ غَرْفَة بِالْآخِذِ مِنْهَا قَدْر الْحَاجَة , وَأَحْوَال الثَّلَاثَة عِنْد اللَّه مُخْتَلِفَة .

قُلْت : مَا أَحْسَن هَذَا لَوْلَا مَا فِيهِ مِنْ التَّحْرِيف فِي التَّأْوِيل وَالْخُرُوج عَنْ الظَّاهِر , لَكِنْ مَعْنَاهُ صَحِيح مِنْ غَيْر هَذَا .

اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّ طَالُوت كَانَ نَبِيًّا بِقَوْلِهِ : " إِنَّ اللَّه مُبْتَلِيكُمْ " وَأَنَّ اللَّه أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَلْهَمَهُ , وَجَعَلَ الْإِلْهَام اِبْتِلَاء مِنْ اللَّه لَهُمْ . وَمَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا قَالَ : أَخْبَرَهُ نَبِيّهمْ شَمْوِيل بِالْوَحْيِ حِين أَخْبَرَ طَالُوت قَوْمه بِهَذَا , وَإِنَّمَا وَقَعَ هَذَا الِابْتِلَاء لِيَتَمَيَّز الصَّادِق مِنْ الْكَاذِب . وَقَدْ ذَهَبَ قَوْم إِلَى أَنَّ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة السَّهْمِيّ صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَ أَصْحَابه بِإِيقَادِ النَّار وَالدُّخُول فِيهَا تَجْرِبَة لِطَاعَتِهِمْ ; لَكِنَّهُ حَمَلَ مِزَاحه عَلَى تَخْشِين الْأَمْر الَّذِي كَلَّفَهُمْ , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي [ النِّسَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


شَرِبَ قِيلَ مَعْنَاهُ كَرَعَ . وَمَعْنَى " فَلَيْسَ مِنِّي " أَيْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي فِي هَذِهِ الْحَرْب , وَلَمْ يُخْرِجهُمْ بِذَلِكَ عَنْ الْإِيمَان . قَالَ السُّدِّيّ : كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا , وَلَا مَحَالَة أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ الْمُؤْمِن وَالْمُنَافِق وَالْمُجِدّ وَالْكَسْلَان , وَفِي الْحَدِيث ( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) أَيْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابنَا وَلَا عَلَى طَرِيقَتنَا وَهَدْينَا . قَالَ : إِذَا حَاوَلْت فِي أَسَد فُجُورًا فَإِنِّي لَسْت مِنْك وَلَسْت مِنِّي وَهَذَا مَهْيَع فِي كَلَام الْعَرَب , يَقُول الرَّجُل لِابْنِهِ إِذَا سَلَكَ غَيْر أُسْلُوبه : لَسْت مِنِّي .


يُقَال : طَعِمْت الشَّيْء أَيْ ذُقْته . وَأَطْعَمْته الْمَاء أَيْ أَذَقْته , وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبهُ لِأَنَّ مِنْ عَادَة الْعَرَب إِذَا كَرَّرُوا شَيْئًا أَنْ يُكَرِّرُوهُ بِلَفْظٍ آخَر , وَلُغَة الْقُرْآن أَفْصَح اللُّغَات , فَلَا عِبْرَة بِقَدْحِ مَنْ يَقُول : لَا يُقَال طَعِمْت الْمَاء .

‎اِسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذَا عَلَى الْقَوْل بِسَدِّ الذَّرَائِع ; لِأَنَّ أَدْنَى الذَّوْق يَدْخُل فِي لَفْظ الطَّعْم , فَإِذَا وَقَعَ النَّهْي عَنْ الطَّعْم فَلَا سَبِيل إِلَى وُقُوع الشُّرْب مِمَّنْ يَتَجَنَّب الطَّعْم , وَلِهَذِهِ الْمُبَالَغَة لَمْ يَأْتِ الْكَلَام " وَمَنْ لَمْ يَشْرَب مِنْهُ " .

لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " وَمَنْ لَمْ يَطْعَمهُ " دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَاء طَعَام وَإِذَا كَانَ طَعَامًا كَانَ قُوتًا لِبَقَائِهِ وَاقْتِيَات الْأَبْدَان بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا , قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ الْمَذْهَب . قَالَ أَبُو عُمَر قَالَ مَالِك : لَا بَأْس بِبَيْعِ الْمَاء عَلَى الشَّطّ بِالْمَاءِ مُتَفَاضِلًا وَإِلَى أَجَل , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَبِي يُوسُف . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن : هُوَ مِمَّا يُكَال وَيُوزَن , فَعَلَى هَذَا الْقَوْل لَا يَجُوز عِنْده التَّفَاضُل , وَذَلِكَ عِنْده فِيهِ رِبًا ; لِأَنَّ عِلَّته فِي الرِّبَا الْكَيْل وَالْوَزْن . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز بَيْع الْمَاء مُتَفَاضِلًا وَلَا يَجُوز فِيهِ الْأَجَل , وَعِلَّته فِي الرِّبَا أَنْ يَكُون مَأْكُولًا جِنْسًا .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ أَبُو حَنِيفَة : مَنْ قَالَ إِنْ شَرِبَ عَبْدِي فُلَان مِنْ الْفُرَات فَهُوَ حُرّ فَلَا يُعْتَق إِلَّا أَنْ يَكْرَع فِيهِ , وَالْكَرْع أَنْ يَشْرَب الرَّجُل بِفِيهِ مِنْ النَّهَر , فَإِنْ شَرِبَ بِيَدِهِ أَوْ اِغْتَرَفَ بِالْإِنَاءِ مِنْهُ لَمْ يُعْتَق ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه فَرَّقَ بَيْن الْكَرْع فِي النَّهَر وَبَيْن الشُّرْب بِالْيَدِ . قَالَ : وَهَذَا فَاسِد لِأَنَّ شُرْب الْمَاء يُطْلَق عَلَى كُلّ هَيْئَة وَصِفَة فِي لِسَان الْعَرَب مِنْ غَرْفٍ بِالْيَدِ أَوْ كَرْع بِالْفَمِ اِنْطِلَاقًا وَاحِدًا , فَإِذَا وُجِدَ الشُّرْب الْمَحْلُوف عَلَيْهِ لُغَة وَحَقِيقَة حَنِثَ , فَاعْلَمْهُ .

قُلْت : قَوْل أَبِي حَنِيفَة أَصَحّ , فَإِنَّ أَهْل اللُّغَة فَرَّقُوا بَيْنهمَا كَمَا فَرَّقَ الْكِتَاب وَالسُّنَّة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره : وَكَرَعَ فِي الْمَاء كُرُوعًا إِذَا تَنَاوَلَهُ بِفِيهِ مِنْ مَوْضِعه مِنْ غَيْر أَنْ يَشْرَب بِكَفَّيْهِ وَلَا بِإِنَاءٍ , وَفِيهِ لُغَة أُخْرَى [ كَرِعَ ] بِكَسْرِ الرَّاء يَكْرَع كَرَعًا . وَالْكَرَع : مَاء السَّمَاء يُكْرَع فِيهِ . وَأَمَّا السُّنَّة فَذَكَرَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه : حَدَّثَنَا وَاصِل بْن عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا اِبْن فُضَيْل عَنْ لَيْث عَنْ سَعِيد بْن عَامِر عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : مَرَرْنَا عَلَى بِرْكَة فَجَعَلْنَا نَكْرَع فِيهَا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَكْرَعُوا وَلَكِنْ اِغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اِشْرَبُوا فِيهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ إِنَاء أَطْيَب مِنْ الْيَد ) وَهَذَا نَصّ . وَلَيْث بْن أَبِي سُلَيْم خَرَّجَ لَهُ مُسْلِم وَقَدْ ضُعِّفَ .

الِاغْتِرَاف : الْأَخْذ مِنْ الشَّيْء بِالْيَدِ وَبِآلَةٍ , وَمِنْهُ الْمِغْرَفَة , وَالْغَرْف مِثْل الِاغْتِرَاف . وَقُرِئَ " غَرْفَة " بِفَتْحِ الْغَيْن وَهِيَ مَصْدَر , وَلَمْ يَقُلْ اِغْتِرَافَة ; لِأَنَّ مَعْنَى الْغَرْف وَالِاغْتِرَاف وَاحِد . وَالْغَرْفَة الْمَرَّة الْوَاحِدَة . وَقُرِئَ " غُرْفَة " بِضَمِّ الْغَيْن وَهِيَ الشَّيْء الْمُغْتَرَف . وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : الْغَرْفَة بِالْكَفِّ الْوَاحِد وَالْغُرْفَة بِالْكَفَّيْنِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : كِلَاهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الْأَكُفّ أَنْظَف الْآنِيَة , وَمِنْهُ قَوْل الْحَسَن : لَا يَدْلِفُونَ إِلَى مَاء بِآنِيَةٍ إِلَّا اِغْتِرَافًا مِنْ الْغُدْرَان بِالرَّاحِ الدَّلِيف : الْمَشْي الرُّوَيْد .

قُلْت : وَمَنْ أَرَادَ الْحَلَال الصِّرْف فِي هَذِهِ الْأَزْمَان دُون شُبْهَة وَلَا اِمْتِرَاء وَلَا اِرْتِيَاب فَلْيَشْرَبْ بِكَفَّيْهِ الْمَاء مِنْ الْعُيُون وَالْأَنْهَار الْمُسَخَّرَة بِالْجَرَيَانِ آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار , مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ مِنْ اللَّه كَسْب الْحَسَنَات وَوَضْع الْأَوْزَار وَاللُّحُوق بِالْأَئِمَّةِ الْأَبْرَار , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ شَرِبَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِر عَلَى إِنَاء يُرِيد بِهِ التَّوَاضُع كَتَبَ اللَّه لَهُ بِعَدَدِ أَصَابِعه حَسَنَات وَهُوَ إِنَاء عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام إِذْ طَرَحَ الْقَدَح فَقَالَ أُفّ هَذَا مَعَ الدُّنْيَا ) . خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَب عَلَى بُطُوننَا وَهُوَ الْكَرْع , وَنَهَانَا أَنْ نَغْتَرِف بِالْيَدِ الْوَاحِدَة , وَقَالَ : ( لَا يَلَغ أَحَدكُمْ كَمَا يَلَغ الْكَلْب وَلَا يَشْرَب بِالْيَدِ الْوَاحِدَة كَمَا يَشْرَب الْقَوْم الَّذِينَ سَخِطَ اللَّه عَلَيْهِمْ وَلَا يَشْرَب بِاللَّيْلِ فِي إِنَاء حَتَّى يُحَرِّكهُ إِلَّا أَنْ يَكُون إِنَاء مُخَمَّرًا وَمَنْ شَرِبَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِر عَلَى إِنَاء . .. ) الْحَدِيث كَمَا تَقَدَّمَ , وَفِي إِسْنَاده بَقِيَّة بْن الْوَلِيد , قَالَ أَبُو حَاتِم : يُكْتَب حَدِيثه وَلَا يُحْتَجّ بِهِ . وَقَالَ أَبُو زُرْعَة : إِذَا حَدَّثَ بَقِيَّة عَنْ الثِّقَات فَهُوَ ثِقَة .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : شَرِبُوا عَلَى قَدْر يَقِينهمْ فَشَرِبَ الْكُفَّار شُرْب الْهِيم وَشَرِبَ الْعَاصُونَ دُون ذَلِكَ , وَانْصَرَفَ مِنْ الْقَوْم سِتَّة وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَبَقِيَ بَعْض الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَشْرَب شَيْئًا وَأَخَذَ بَعْضهمْ الْغُرْفَة , فَأَمَّا مَنْ شَرِبَ فَلَمْ يُرْوَ , بَلْ بَرَّحَ بِهِ الْعَطَش , وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَاء فَحَسُنَتْ حَاله وَكَانَ أَجْلَد مِمَّنْ أَخَذَ الْغُرْفَة .



" فَلَمَّا جَاوَزَهُ " الْهَاء تَعُود عَلَى النَّهَر , و " هُوَ " تَوْكِيد . " وَاَلَّذِينَ " فِي مَوْضِع رَفْع عَطْفًا عَلَى الْمُضْمَر فِي " جَاوَزَهُ " يُقَال : جَاوَزْت الْمَكَان مُجَاوَزَة وَجَوَازًا . وَالْمَجَاز فِي الْكَلَام مَا جَازَ فِي الِاسْتِعْمَال وَنَفَذَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى وَجْهه . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ : جَازَ مَعَهُ فِي النَّهَر أَرْبَعَة آلَاف رَجُل فِيهِمْ مَنْ شَرِبَ , فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى جَالُوت وَجُنُوده وَكَانُوا مِائَة أَلْف كُلّهمْ شَاكُّونَ فِي السِّلَاح رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَة آلَاف وَسِتّمِائَةٍ وَبِضْعَة وَثَمَانُونَ , فَعَلَى هَذَا الْقَوْل قَالَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالرُّجُوع إِلَى اللَّه تَعَالَى عِنْد ذَلِكَ وَهُمْ عِدَّة أَهْل بَدْر : " كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَة كَثِيرَة بِإِذْنِ اللَّه " . وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ مَعَهُ النَّهَر مَنْ لَمْ يَشْرَب جُمْلَة , فَقَالَ بَعْضهمْ : كَيْف نُطِيق الْعَدُوّ مَعَ كَثْرَتهمْ ! فَقَالَ أُولُو الْعَزْم مِنْهُمْ : " كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَة كَثِيرَة بِإِذْنِ اللَّه " . قَالَ الْبَرَاء بْن عَازِب : كُنَّا نَتَحَدَّث أَنَّ عِدَّة أَهْل بَدْر كَعِدَّةِ أَصْحَاب طَالُوت الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَر ثَلَاثمِائَةٍ وَبِضْعَة عَشَر رَجُلًا - وَفِي رِوَايَة : وَثَلَاثَة عَشَر رَجُلًا - وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِن .



وَالظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِين , وَيَجُوز أَنْ يَكُون شَكًّا لَا عِلْمًا , أَيْ قَالَ الَّذِينَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ مَعَ طَالُوت فَيَلْقَوْنَ اللَّه شُهَدَاء , فَوَقَعَ الشَّكّ فِي الْقَتْل .

الْفِئَة : الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس وَالْقِطْعَة مِنْهُمْ مِنْ فَأَوْت رَأْسه بِالسَّيْفِ وَفَأْيَته أَيْ قَطَعْته . وَفِي قَوْلهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ : " كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة " الْآيَة تَحْرِيض عَلَى الْقِتَال وَاسْتِشْعَار لِلصَّبْرِ وَاقْتِدَاء بِمَنْ صَدَّقَ رَبّه .

‎قُلْت : هَكَذَا يَجِب عَلَيْنَا نَحْنُ أَنْ نَفْعَل ؟ لَكِنْ الْأَعْمَال الْقَبِيحَة وَالنِّيَّات الْفَاسِدَة مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَنْكَسِر الْعَدَد الْكَبِير مِنَّا قُدَّام الْيَسِير مِنْ الْعَدُوّ كَمَا شَاهَدْنَاهُ غَيْر مَرَّة , وَذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِينَا وَفِي الْبُخَارِيّ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء : إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ . وَفِيهِ مُسْنَد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ) . فَالْأَعْمَال فَاسِدَة وَالضُّعَفَاء مُهْمَلُونَ وَالصَّبْر قَلِيل وَالِاعْتِمَاد ضَعِيف وَالتَّقْوَى زَائِلَة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " اِصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه " [ آل عِمْرَان : 200 ] وَقَالَ : " وَعَلَى اللَّه فَتَوَكَّلُوا " [ الْمَائِدَة : 23 ] وَقَالَ : " إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ " [ النَّحْل : 128 ] وَقَالَ : " وَلَيَنْصُرَن اللَّه مَنْ يَنْصُرهُ " [ الْحَجّ : 40 ] وَقَالَ : " إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّه كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [ الْأَنْفَال : 45 ] . فَهَذِهِ أَسْبَاب النَّصْر وَشُرُوطه وَهِيَ مَعْدُومَة عِنْدنَا غَيْر مَوْجُودَة فِينَا , فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا أَصَابَنَا وَحَلَّ بِنَا بَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْإِسْلَام إِلَّا ذِكْره , وَلَا مِنْ الدِّين إِلَّا رَسْمه لِظُهُورِ الْفَسَاد وَلِكَثْرَةِ الطُّغْيَان وَقِلَّة الرَّشَاد حَتَّى اِسْتَوْلَى الْعَدُوّ شَرْقًا وَغَرْبًا بَرًّا وَبَحْرًا , وَعَمَّتْ الْفِتَن وَعَظُمَتْ الْمِحَن وَلَا عَاصِم إِلَّا مَنْ رَحِمَ .
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 250
" بَرَزُوا " صَارُوا فِي الْبَرَاز وَهُوَ الْأَفْسَح مِنْ الْأَرْض الْمُتَّسِع . وَكَانَ جَالُوت أَمِير الْعَمَالِقَة وَمَلِكهمْ ظِلُّهُ مِيل . وَيُقَال : إِنَّ الْبَرْبَر مِنْ نَسْله , وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ فِي ثَلَاثمِائَةِ أَلْف فَارِس . وَقَالَ عِكْرِمَة : فِي تِسْعِينَ أَلْفًا , وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ كَثْرَة عَدُوّهُمْ تَضَرَّعُوا إِلَى رَبّهمْ , وَهَذَا كَقَوْلِهِ : " وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير " [ آل عِمْرَان : 146 ] إِلَى قَوْله " وَمَا كَانَ قَوْلهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا " [ آل عِمْرَان : 147 ] الْآيَة . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ يَقُول فِي الْقِتَال : ( اللَّهُمَّ بِك أَصُول وَأَجُول ) وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِك مِنْ شُرُورهمْ وَأَجْعَلك فِي نُحُورهمْ ) وَدَعَا يَوْم بَدْر حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ يَسْتَنْجِز اللَّه وَعْده عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ آل عِمْرَان ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَسورة البقرة الآية رقم 251
أَيْ فَأَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ النَّصْر " فَهَزَمُوهُمْ " : فَكَسَرُوهُمْ . وَالْهَزْم : الْكَسْر وَمِنْهُ سِقَاء مُتَهَزِّم , أَيْ اِنْثَنَى بَعْضه عَلَى بَعْض مَعَ الْجَفَاف , وَمِنْهُ مَا قِيلَ فِي زَمْزَم : إِنَّهَا هَزْمَةُ جِبْرِيل أَيْ هَزَمَهَا جِبْرِيل بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاء . وَالْهَزْم : مَا تَكَسَّرَ مِنْ يَابِس الْحَطَب .


وَذَلِكَ أَنَّ طَالُوت الْمَلِك اِخْتَارَهُ مِنْ بَيْن قَوْمه لِقِتَالِ جَالُوت , وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا مِسْقَامًا مِصْفَارًا أَصْغَر أَزْرَق , وَكَانَ جَالُوت مِنْ أَشَدّ النَّاس وَأَقْوَاهُمْ وَكَانَ يَهْزِم الْجُيُوش وَحْده , وَكَانَ قَتْل جَالُوت وَهُوَ رَأْس الْعَمَالِقَة عَلَى يَده . وَهُوَ دَاوُد بْن إِيشَى - بِكَسْرِ الْهَمْزَة , وَيُقَال : دَاوُد بْن زَكَرِيَّا بْن رشوى , وَكَانَ مِنْ سِبْط يَهُوذَا بْن يَعْقُوب بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمْ السَّلَام , وَكَانَ مِنْ أَهْل بَيْت الْمَقْدِس جُمِعَ لَهُ بَيْن النُّبُوَّة وَالْمُلْك بَعْد أَنْ كَانَ رَاعِيًا وَكَانَ أَصْغَر إِخْوَته وَكَانَ يَرْعَى غَنَمًا , وَكَانَ لَهُ سَبْعَة إِخْوَة فِي أَصْحَاب طَالُوت , فَلَمَّا حَضَرَتْ الْحَرْب قَالَ فِي نَفْسه : لَأَذْهَبَن إِلَى رُؤْيَة هَذِهِ الْحَرْب , فَلَمَّا نَهَضَ فِي طَرِيقه مَرَّ بِحَجَرٍ فَنَادَاهُ : يَا دَاوُد خُذْنِي فَبِي تَقْتُل جَالُوت , ثُمَّ نَادَاهُ حَجَر آخَر ثُمَّ آخَر فَأَخَذَهَا وَجَعَلَهَا فِي مِخْلَاته وَسَارَ , فَخَرَجَ جَالُوت يَطْلُب مُبَارِزًا فَكَعَّ النَّاس عَنْهُ حَتَّى قَالَ طَالُوت : مَنْ يَبْرُز إِلَيْهِ وَيَقْتُلهُ فَأَنَا أُزَوِّجهُ اِبْنَتِي وَأُحَكِّمهُ فِي مَالِي , فَجَاءَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : أَنَا أَبْرُز إِلَيْهِ وَأَقْتُلهُ , فَازْدَرَاهُ طَالُوت حِين رَآهُ لِصِغَرِ سِنّه وَقِصَره فَرَدَّهُ , وَكَانَ دَاوُد أَزْرَق قَصِيرًا , ثُمَّ نَادَى ثَانِيَة وَثَالِثَة فَخَرَجَ دَاوُد , فَقَالَ طَالُوت لَهُ : هَلْ جَرَّبْت نَفْسك بِشَيْءٍ ؟ قَالَ نَعَمْ , قَالَ بِمَاذَا ؟ قَالَ : وَقَعَ ذِئْب فِي غَنَمِي فَضَرَبْته ثُمَّ أَخَذْت رَأْسه فَقَطَعْته مِنْ جَسَده . قَالَ طَالُوت : الذِّئْب ضَعِيف , هَلْ جَرَّبْت نَفْسك فِي غَيْره ؟ قَالَ : نَعَمْ , دَخَلَ الْأَسَد فِي غَنَمِي فَضَرَبْته ثُمَّ أَخَذْت بِلَحْيَيْهِ فَشَقَقْتهمَا , أَفَتَرَى هَذَا أَشَدّ مِنْ الْأَسَد ؟ قَالَ لَا , وَكَانَ عِنْد طَالُوت دِرْع لَا تَسْتَوِي إِلَّا عَلَى مَنْ يَقْتُل جَالُوت , فَأَخْبَرَهُ بِهَا وَأَلْقَاهَا عَلَيْهِ فَاسْتَوَتْ , فَقَالَ طَالُوت : فَارْكَبْ فَرَسِي وَخُذْ سِلَاحِي فَفَعَلَ , فَلَمَّا مَشَى قَلِيلًا رَجَعَ فَقَالَ النَّاس : جَبُنَ الْفَتَى فَقَالَ دَاوُد : إِنَّ اللَّه إِنْ لَمْ يَقْتُلهُ لِي وَيُعِنِّي عَلَيْهِ لَمْ يَنْفَعنِي هَذَا الْفَرَس وَلَا هَذَا السِّلَاح , وَلَكِنِّي أُحِبّ أَنْ أُقَاتِلهُ عَلَى عَادَتِي . قَالَ : وَكَانَ دَاوُد مِنْ أَرْمَى النَّاس بِالْمِقْلَاعِ , فَنَزَلَ وَأَخَذَ مِخْلَاته فَتَقَلَّدَهَا وَأَخَذَ مِقْلَاعه وَخَرَجَ إِلَى جَالُوت , وَهُوَ شَاكٌّ فِي سِلَاحه عَلَى رَأْسه بَيْضَة فِيهَا ثَلَاثمِائَةِ رِطْل , فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيْره , فَقَالَ لَهُ جَالُوت : أَنْتَ يَا فَتَى تَخْرُج إِلَيَّ ! قَالَ نَعَمْ , قَالَ : هَكَذَا كَمَا تَخْرُج إِلَى الْكَلْب ! قَالَ نَعَمْ , وَأَنْتَ أَهْوَن . قَالَ : لَأُطْعِمَن لَحْمك الْيَوْم لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاع , ثُمَّ تَدَانَيَا وَقَصَدَ جَالُوت أَنْ يَأْخُذ دَاوُد بِيَدِهِ اِسْتِخْفَافًا بِهِ , فَأَدْخَلَ دَاوُد يَده إِلَى الْحِجَارَة , فَرُوِيَ أَنَّهَا اِلْتَأَمَتْ فَصَارَتْ حَجَرًا وَاحِدًا , فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ فِي الْمِقْلَاع وَسَمَّى اللَّه وَأَدَارَهُ وَرَمَاهُ فَأَصَابَ بِهِ رَأْس جَالُوت فَقَتَلَهُ , وَحَزَّ رَأْسه وَجَعَلَهُ فِي مِخْلَاته , وَاخْتَلَطَ النَّاس وَحَمَلَ أَصْحَاب طَالُوت فَكَانَتْ الْهَزِيمَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا أَصَابَ بِالْحَجَرِ مِنْ الْبَيْضَة مَوْضِع أَنْفه , وَقِيلَ : عَيْنه وَخَرَجَ مِنْ قَفَاهُ , وَأَصَابَ جَمَاعَة مِنْ عَسْكَره فَقَتَلَهُمْ . وَقِيلَ : إِنَّ الْحَجَر تَفَتَّتَ حَتَّى أَصَابَ كُلّ مَنْ فِي الْعَسْكَر شَيْء مِنْهُ , وَكَانَ كَالْقَبْضَةِ الَّتِي رَمَى بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِن يَوْم حُنَيْن , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاس فِي قَصَص هَذِهِ الْآي , وَقَدْ ذَكَرْت لَك مِنْهَا الْمَقْصُود وَاَللَّه الْمَحْمُود .

قُلْت : وَفِي قَوْل طَالُوت : ( مَنْ يَبْرُز لَهُ وَيَقْتُلهُ فَإِنِّي أُزَوِّجهُ اِبْنَتِي وَأُحَكِّمهُ فِي مَالِي ) مَعْنَاهُ ثَابِت فِي شَرْعنَا , وَهُوَ أَنْ يَقُول الْإِمَام : مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ كَذَا , أَوْ أَسِير فَلَهُ كَذَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ الْأَنْفَال ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُبَارَزَة لَا تَكُون إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام , كَمَا يَقُولهُ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَغَيْرهمَا . وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحْمِل أَحَد إِلَّا بِإِذْنِ إِمَامه . وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْس بِهِ , فَإِنْ نَهَى الْإِمَام عَنْ الْبَرَاز فَلَا يُبَارِز أَحَد إِلَّا بِإِذْنِهِ . وَأَبَاحَتْ طَائِفَة الْبَرَاز وَلَمْ تَذْكُر بِإِذْنِ الْإِمَام وَلَا بِغَيْرِ إِذْنه , هَذَا قَوْل مَالِك . سُئِلَ مَالِك عَنْ الرَّجُل يَقُول بَيْن الصَّفَّيْنِ : مَنْ يُبَارِز ؟ فَقَالَ : ذَلِكَ إِلَى نِيَّته إِنْ كَانَ يُرِيد بِذَلِكَ اللَّه فَأَرْجُو أَلَّا يَكُون بِهِ بَأْس , قَدْ كَانَ يُفْعَل ذَلِكَ فِيمَا مَضَى . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا بَأْس بِالْمُبَارَزَةِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : الْمُبَارَزَة بِإِذْنِ الْإِمَام حَسَن , وَلَيْسَ عَلَى مَنْ بَارَزَ بِغَيْرِ إِذْن الْإِمَام حَرَج , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَكْرُوهٍ لِأَنِّي لَا أَعْلَم خَبَرًا يَمْنَع مِنْهُ .


قَالَ السُّدِّيّ : أَتَاهُ اللَّه مُلْك طَالُوت وَنُبُوَّة شَمْعُون . وَاَلَّذِي عَلَّمَهُ هُوَ صَنْعَة الدُّرُوع وَمَنْطِق الطَّيْر وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاع مَا عُلِّمَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ أَنَّ اللَّه أَعْطَاهُ سِلْسِلَة مَوْصُولَة بِالْمَجَرَّةِ وَالْفَلَك وَرَأْسهَا عِنْد صَوْمَعَة دَاوُد , فَكَانَ لَا يَحْدُث فِي الْهَوَاء حَدَث إِلَّا صَلْصَلَتْ السِّلْسِلَة فَيَعْلَم دَاوُد مَا حَدَثَ , وَلَا يَمَسّهَا ذُو عَاهَة إِلَّا بَرِئَ , وَكَانَتْ عَلَامَة دُخُول قَوْمه فِي الدِّين أَنْ يَمَسُّوهَا بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَ أَكُفّهُمْ عَلَى صُدُورهمْ , وَكَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا بَعْد دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَنْ رُفِعَتْ .



أَيْ مِمَّا شَاءَ , وَقَدْ يُوضَع الْمُسْتَقْبَل مَوْضِع الْمَاضِي , وَقَدْ تَقَدَّمَ .


فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْلَا دَفْع اللَّه النَّاس بَعْضهمْ بِبَعْضٍ " كَذَا قِرَاءَة الْجَمَاعَة , إِلَّا نَافِعًا فَإِنَّهُ قَرَأَ " دِفَاعُ " وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَصْدَرًا لِفِعْلٍ كَمَا يُقَال : حَسَبْت الشَّيْء حِسَابًا , وَآبَ إِيَابًا , وَلَقِيته لِقَاء , وَمِثْله كَتَبَهُ كِتَابًا , وَمِنْهُ " كِتَاب اللَّه عَلَيْكُمْ " [ النِّسَاء : 24 ] النَّحَّاس : وَهَذَا حَسَن , فَيَكُون دِفَاع وَدَفْع مَصْدَرَيْنِ لِدَفَعَ وَهُوَ مَذْهَب سِيبَوَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : دَافَعَ وَدَفَعَ بِمَعْنًى وَاحِد , مِثْل طَرَقْت النَّعْل وَطَارَقْت , أَيْ خَصَفْت إِحْدَاهُمَا فَوْق الْأُخْرَى , وَالْخَصْف : الْخَرْز . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَة قِرَاءَة الْجُمْهُور " وَلَوْلَا دَفْع اللَّه " . وَأَنْكَرَ أَنْ يُقْرَأ " دِفَاع " وَقَالَ : لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يُغَالِبهُ أَحَد . قَالَ مَكِّيّ : هَذَا وَهْم تَوَهَّمَ فِيهِ بَاب الْمُفَاعَلَة وَلَيْسَ بِهِ , وَاسْم " اللَّه " فِي مَوْضِع رَفْع بِالْفِعْلِ , أَيْ لَوْلَا أَنْ يَدْفَع اللَّه . و " دِفَاع " مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ . " النَّاس " مَفْعُول , " بَعْضهمْ " بَدَل مِنْ النَّاس , " بِبَعْضٍ " فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي عِنْد سِيبَوَيْهِ , وَهُوَ عِنْده مِثْل قَوْلك : ذَهَبْت بِزَيْدٍ , فَزَيْد فِي مَوْضِع مَفْعُول فَاعْلَمْهُ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي النَّاس الْمَدْفُوع بِهِمْ الْفَسَاد مَنْ هُمْ ؟ فَقِيلَ : هُمْ الْأَبْدَال وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ وَاحِد بَدَّلَ اللَّه آخَر , فَإِذَا كَانَ عِنْد الْقِيَامَة مَاتُوا كُلّهمْ , اِثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِنْهُمْ بِالشَّامِ وَثَمَانِيَة عَشَر بِالْعِرَاقِ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الْأَبْدَال يَكُونُونَ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُل أَبْدَلَ اللَّه مَكَانه رَجُلًا يُسْقَى بِهِمْ الْغَيْث وَيُنْصَر بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاء وَيُصْرَف بِهِمْ عَنْ أَهْل الْأَرْض الْبَلَاء ) ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي " نَوَادِر الْأُصُول " . وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : إِنَّ الْأَنْبِيَاء كَانُوا أَوْتَاد الْأَرْض , فَلَمَّا اِنْقَطَعَتْ النُّبُوَّة أَبْدَلَ اللَّه مَكَانهمْ قَوْمًا مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَال لَهُمْ الْأَبْدَال , لَمْ يَفْضُلُوا النَّاس بِكَثْرَةِ صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَكِنْ بِحُسْنِ الْخُلُق وَصِدْق الْوَرَع وَحُسْن النِّيَّة وَسَلَامَة الْقُلُوب لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصِيحَة لَهُمْ اِبْتِغَاء مَرْضَاة اللَّه بِصَبْرٍ وَحِلْم وَلُبّ وَتَوَاضُع فِي غَيْر مَذَلَّة , فَهُمْ خُلَفَاء الْأَنْبِيَاء قَوْم اِصْطَفَاهُمْ اللَّه لِنَفْسِهِ وَاسْتَخْلَصَهُمْ بِعِلْمِهِ لِنَفْسِهِ , وَهُمْ أَرْبَعُونَ صِدِّيقًا مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا عَلَى مِثْل يَقِين إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن , يَدْفَع اللَّه بِهِمْ الْمَكَارِه عَنْ أَهْل الْأَرْض وَالْبَلَايَا عَنْ النَّاس , وَبِهِمْ يُمْطَرُونَ وَيُرْزَقُونَ , لَا يَمُوت الرَّجُل مِنْهُمْ حَتَّى يَكُون اللَّه قَدْ أَنْشَأَ مَنْ يَخْلُفهُ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : وَلَوْلَا دَفْع اللَّه الْعَدُوّ بِجُنُودِ الْمُسْلِمِينَ لَغَلَبَ الْمُشْرِكُونَ فَقَتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ وَخَرَّبُوا الْبِلَاد وَالْمَسَاجِد . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : هُمْ الشُّهُود الَّذِينَ تُسْتَخْرَج بِهِمْ الْحُقُوق . وَحَكَى مَكِّيّ أَنَّ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى : لَوْلَا أَنَّ اللَّه يَدْفَع بِمَنْ يُصَلِّي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي وَبِمَنْ يَتَّقِي عَمَّنْ لَا يَتَّقِي لَأُهْلِكَ النَّاس بِذُنُوبِهِمْ , وَكَذَا ذَكَرَ النَّحَّاس وَالثَّعْلَبِيّ أَيْضًا . قَالَ الثَّعْلَبِيّ وَقَالَ سَائِر الْمُفَسِّرِينَ : وَلَوْلَا دِفَاع اللَّه الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَار عَنْ الْفُجَّار وَالْكُفَّار لَفَسَدَتْ الْأَرْض , أَيْ هَلَكَتْ وَذَكَرَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه يَدْفَع الْعَذَاب بِمَنْ يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي وَبِمَنْ يَصُوم عَمَّنْ لَا يَصُوم وَبِمَنْ يَحُجّ عَمَّنْ لَا يَحُجّ وَبِمَنْ يُجَاهِد عَمَّنْ لَا يُجَاهِد , وَلَوْ اِجْتَمَعُوا عَلَى تَرْك هَذِهِ الْأَشْيَاء مَا أَنْظَرَهُمْ اللَّه طَرْفَة عَيْن - ثُمَّ تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْلَا دَفْع اللَّه النَّاس بَعْضهمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْض ) . وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَة تُنَادِي كُلّ يَوْم لَوْلَا عِبَاد رُكَّعٌ وَأَطْفَال رُضَّع وَبَهَائِم رُتَّع لَصُبَّ عَلَيْكُمْ الْعَذَاب صَبًّا ) خَرَّجَهُ أَبُو بَكْر الْخَطِيب بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيث الْفُضَيْل بْن عِيَاض . حَدَّثَنَا مَنْصُور عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْلَا فِيكُمْ رِجَال خُشَّع وَبَهَائِم رُتَّع وَصِبْيَان رُضَّع لَصُبَّ الْعَذَاب عَلَى الْمُؤْمِنِينَ صَبًّا ) . أَخَذَ بَعْضهمْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : لَوْلَا عِبَاد لِلْإِلَهِ رُكَّع وَصِبْيَة مِنْ الْيَتَامَى رُضَّع وَمُهْمَلَات فِي الْفَلَاة رُتَّع صُبَّ عَلَيْكُمْ الْعَذَاب الْأَوْجَع وَرَوَى جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه لَيُصْلِح بِصَلَاحِ الرَّجُل وَلَده وَوَلَد وَلَده وَأَهْله دُوَيْرَته وَدُوَيْرَات حَوْله وَلَا يَزَالُونَ فِي حِفْظ اللَّه مَا دَامَ فِيهِمْ ) . وَقَالَ قَتَادَة : يَبْتَلِي اللَّه الْمُؤْمِن بِالْكَافِرِ وَيُعَافِي الْكَافِر بِالْمُؤْمِنِ . وَقَالَ اِبْن عُمَر قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه لَيَدْفَع بِالْمُؤْمِنِ الصَّالِح عَنْ مِائَة مِنْ أَهْل بَيْته وَجِيرَانه الْبَلَاء ) . ثُمَّ قَرَأَ اِبْن عُمَر " وَلَوْلَا دَفْع اللَّه النَّاس بَعْضهمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْض " . وَقِيلَ : هَذَا الدَّفْع بِمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَة الرُّسُل مِنْ الشَّرَائِع , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَسَالَبَ النَّاس وَتَنَاهَبُوا وَهَلَكُوا , وَهَذَا قَوْل حَسَن فَإِنَّهُ عُمُوم فِي الْكَفّ وَالدَّفْع وَغَيْر ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ . " وَلَكِنَّ اللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْعَالَمِينَ " . بَيَّنَ سُبْحَانه أَنَّ دَفْعه بِالْمُؤْمِنِينَ شَرّ الْكَافِرِينَ فَضْل مِنْهُ وَنِعْمَة .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَسورة البقرة الآية رقم 252
" تِلْكَ " اِبْتِدَاء " آيَات اللَّه " خَبَره , وَإِنْ شِئْت كَانَ بَدَلًا وَالْخَبَر " نَتْلُوهَا عَلَيْك بِالْحَقِّ " . " وَإِنَّك لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ " خَبَر إِنَّ أَيْ وَإِنَّك لَمُرْسَل . نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَات الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرهَا لَا يَعْلَمهَا إِلَّا نَبِيّ مُرْسَل .
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُسورة البقرة الآية رقم 253
قَالَ : " تِلْكَ " وَلَمْ يَقُلْ : ذَلِكَ مُرَاعَاة لِتَأْنِيثِ لَفْظ الْجَمَاعَة , وَهِيَ رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . و " الرُّسُل " نَعْته , وَخَبَر الِابْتِدَاء الْجُمْلَة . وَقِيلَ : الرُّسُل عَطْف بَيَان , و " فَضَّلْنَا " الْخَبَر . وَهَذِهِ آيَة مُشْكِلَة وَالْأَحَادِيث ثَابِتَة بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تُخَيِّرُوا بَيْن الْأَنْبِيَاء ) /و ( لَا تُفَضِّلُوا بَيْن أَنْبِيَاء اللَّه ) رَوَاهَا الْأَئِمَّة الثِّقَات , أَيْ لَا تَقُولُوا : فُلَان خَيْر مِنْ فُلَان , وَلَا فُلَان أَفْضَل مِنْ فُلَان . يُقَال : خَيَّرَ فُلَان بَيْن فُلَان وَفُلَان , وَفَضَّلَ ( مُشَدَّدًا ) إِذَا قَالَ ذَلِكَ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا الْمَعْنَى , فَقَالَ قَوْم : إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِالتَّفْضِيلِ , وَقَبْل أَنْ يَعْلَم أَنَّهُ سَيِّد وَلَد آدَم , وَإِنَّ الْقُرْآن نَاسِخ لِلْمَنْعِ مِنْ التَّفْضِيل . وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم ) يَوْم الْقِيَامَة ; لِأَنَّهُ الشَّافِع يَوْمئِذٍ وَلَهُ لِوَاء الْحَمْد وَالْحَوْض , وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى " عَلَى طَرِيق التَّوَاضُع , كَمَا قَالَ أَبُو بَكْر : وُلِّيتُكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ . وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله : ( لَا يَقُلْ أَحَد أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى ) عَلَى مَعْنَى التَّوَاضُع . وَفِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت " [ الْقَلَم : 48 ] ا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل مِنْهُ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : وَلَا تَكُنْ مِثْله , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْله : ( لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ ) مِنْ طَرِيق التَّوَاضُع . وَيَجُوز أَنْ يُرِيد لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ فِي الْعَمَل فَلَعَلَّهُ أَفْضَل عَمَلًا مِنِّي , وَلَا فِي الْبَلْوَى وَالِامْتِحَان فَإِنَّهُ أَعْظَم مِحْنَة مِنِّي . وَلَيْسَ مَا أَعْطَاهُ اللَّه لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السُّؤْدُد وَالْفَضْل يَوْم الْقِيَامَة عَلَى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل بِعَمَلِهِ بَلْ بِتَفْضِيلِ اللَّه إِيَّاهُ وَاخْتِصَاصه لَهُ , وَهَذَا التَّأْوِيل اِخْتَارَهُ الْمُهَلَّب . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّمَا نَهَى عَنْ الْخَوْض فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخَوْض فِي ذَلِكَ ذَرِيعَة إِلَى الْجِدَال وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَذْكُر مِنْهُمْ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُر وَيَقِلّ اِحْتِرَامهمْ عِنْد الْمُمَارَاة . قَالَ شَيْخنَا : فَلَا يُقَال : النَّبِيّ أَفْضَل مِنْ الْأَنْبِيَاء كُلّهمْ وَلَا مِنْ فُلَان وَلَا خَيْر , كَمَا هُوَ ظَاهِر النَّهْي لِمَا يُتَوَهَّم مِنْ النَّقْص فِي الْمَفْضُول ; لِأَنَّ النَّهْي اِقْتَضَى مِنْهُ إِطْلَاق اللَّفْظ لَا مَنْع اِعْتِقَاد ذَلِكَ الْمَعْنَى , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ الرُّسُل مُتَفَاضِلُونَ , فَلَا تَقُول : نَبِيّنَا خَيْر مِنْ الْأَنْبِيَاء وَلَا مِنْ فُلَان النَّبِيّ اِجْتِنَابًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ وَتَأَدُّبًا بِهِ وَعَمَلًا بِاعْتِقَادِ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآن مِنْ التَّفْضِيل , وَاَللَّه بِحَقَائِق الْأُمُور عَلِيم .

قُلْت : وَأَحْسَن مِنْ هَذَا قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمَنْع مِنْ التَّفْضِيل إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَة النُّبُوَّة الَّتِي هِيَ خَصْلَة وَاحِدَة لَا تَفَاضُل فِيهَا , وَإِنَّمَا التَّفْضِيل فِي زِيَادَة الْأَحْوَال وَالْخُصُوص وَالْكَرَامَات وَالْأَلْطَاف وَالْمُعْجِزَات الْمُتَبَايِنَات , وَأَمَّا النُّبُوَّة فِي نَفْسهَا فَلَا تَتَفَاضَل وَإِنَّمَا تَتَفَاضَل بِأُمُورٍ أُخَر زَائِدَة عَلَيْهَا , وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُل وَأُولُو عَزْم , وَمِنْهُمْ مَنْ اُتُّخِذَ خَلِيلًا , وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه وَرُفِعَ بَعْضهمْ دَرَجَات , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْض النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض وَآتَيْنَا دَاوُد زَبُورًا " [ الْإِسْرَاء : 55 ] وَقَالَ : " تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضهمْ عَلَى بَعْض " [ الْبَقَرَة : 253 ] . قُلْت : وَهَذَا قَوْل حَسَن , فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْن الْآي وَالْأَحَادِيث مِنْ غَيْر نَسْخ , وَالْقَوْل بِتَفْضِيلِ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض إِنَّمَا هُوَ بِمَا مُنِحَ مِنْ الْفَضَائِل وَأُعْطِيَ مِنْ الْوَسَائِل , وَقَدْ أَشَارَ اِبْن عَبَّاس إِلَى هَذَا فَقَالَ : إِنَّ اللَّه فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى الْأَنْبِيَاء وَعَلَى أَهْل السَّمَاء , فَقَالُوا : بِمَ يَا اِبْن عَبَّاس فَضَّلَهُ عَلَى أَهْل السَّمَاء ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَه مِنْ دُونه فَذَلِكَ نَجْزِيه جَهَنَّم كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 29 ] . وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِر لَك اللَّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبك وَمَا تَأَخَّرَ " [ الْفَتْح : 1 - 2 ] . قَالُوا : فَمَا فَضْله عَلَى الْأَنْبِيَاء ؟ . قَالَ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمه لِيُبَيِّنَ لَهُمْ " [ إِبْرَاهِيم : 4 ] وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة لِلنَّاسِ " [ سَبَأ : 28 ] فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس , ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّد الدَّارِمِيّ فِي مُسْنَده . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : خَيْر بَنِي آدَم نُوح وَإِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُمْ أُولُو الْعَزْم مِنْ الرُّسُل , وَهَذَا نَصّ مِنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة فِي التَّعْيِين , وَمَعْلُوم أَنَّ مَنْ أُرْسِلَ أَفْضَل مِمَّنْ لَمْ يُرْسَل , فَإِنَّ مَنْ أُرْسِلَ فُضِّلَ عَلَى غَيْره بِالرِّسَالَةِ وَاسْتَوَوْا فِي النُّبُوَّة إِلَى مَا يَلْقَاهُ الرُّسُل مِنْ تَكْذِيب أُمَمهمْ وَقَتْلهمْ إِيَّاهُمْ , وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاء فِيهِ , إِلَّا أَنَّ اِبْن عَطِيَّة أَبَا مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ قَالَ : إِنَّ الْقُرْآن يَقْتَضِي التَّفْضِيل , وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَة دُون تَعْيِين أَحَد مَفْضُول , وَكَذَلِكَ هِيَ الْأَحَادِيث , وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا أَكْرَم وَلَد آدَم عَلَى رَبِّي ) وَقَالَ : ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم ) وَلَمْ يُعَيِّن , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى ) وَقَالَ : ( لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى ) . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَفِي هَذَا نَهْي شَدِيد عَنْ تَعْيِين الْمَفْضُول ; لِأَنَّ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ شَابًّا وَتَفَسَّخَ تَحْت أَعْبَاء النُّبُوَّة . فَإِذَا كَانَ التَّوْقِيف لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَيْره أَحْرَى .

قُلْت : مَا اِخْتَرْنَاهُ أَوْلَى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض جَعَلَ يُبَيِّن بَعْض الْمُتَفَاضِلِينَ وَيَذْكُر الْأَحْوَال الَّتِي فُضِّلُوا بِهَا فَقَالَ : " مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه وَرَفَعَ بَعْضهمْ دَرَجَات وَآتَيْنَا عِيسَى اِبْن مَرْيَم الْبَيِّنَات " [ الْبَقَرَة : 253 ] وَقَالَ " وَآتَيْنَا دَاوُد زَبُورًا " [ الْإِسْرَاء : 55 ] وَقَالَ تَعَالَى : " وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل " [ الْمَائِدَة : 46 ] " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفُرْقَان وَضِيَاء وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : 48 ] وَقَالَ تَعَالَى : " وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَان عِلْمًا " [ النَّمْل : 15 ] وَقَالَ : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح " [ الْأَحْزَاب : 7 ] فَعَمَّ ثُمَّ خَصَّ وَبَدَأَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَذَا ظَاهِر .

قُلْت : وَهَكَذَا الْقَوْل فِي الصَّحَابَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , اِشْتَرَكُوا فِي الصُّحْبَة ثُمَّ تَبَايَنُوا فِي الْفَضَائِل بِمَا مَنَحَهُمْ اللَّه مِنْ الْمَوَاهِب وَالْوَسَائِل , فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ بِتِلْكَ مَعَ أَنَّ الْكُلّ شَمَلَتْهُمْ الصُّحْبَة وَالْعَدَالَة وَالثَّنَاء عَلَيْهِمْ , وَحَسْبك بِقَوْلِهِ الْحَقّ : " مُحَمَّد رَسُول اللَّه وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّار " [ الْفَتْح : 29 ] إِلَى آخِر السُّورَة . وَقَالَ : " وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا وَأَهْلهَا " [ الْفَتْح : 26 ] ثُمَّ قَالَ : " لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْل الْفَتْح وَقَاتَلَ " [ الْحَدِيد : 10 ] وَقَالَ : " لَقَدْ رَضِيَ اللَّه عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَك تَحْت الشَّجَرَة " [ الْفَتْح : 18 ] فَعَمَّ وَخَصَّ , وَنَفَى عَنْهُمْ الشَّيْن وَالنَّقْص , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَنَفَّعَنَا بِحُبِّهِمْ آمِينَ .


الْمُكَلَّم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَقَدْ سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آدَم أَنَبِيّ مُرْسَل هُوَ ؟ فَقَالَ : ( نَعَمْ نَبِيّ مُكَلَّم ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْض النَّاس أَنَّ تَكْلِيم آدَم كَانَ فِي الْجَنَّة , فَعَلَى هَذَا تَبْقَى خَاصِّيَّة مُوسَى . وَحُذِفَتْ الْهَاء لِطُولِ الِاسْم , وَالْمَعْنَى مَنْ كَلَّمَهُ اللَّه .


قَالَ النَّحَّاس : بَعْضهمْ هُنَا عَلَى قَوْل اِبْن عَبَّاس وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بُعِثْت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأَسْوَد وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْض مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَة شَهْر وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِم وَأُعْطِيت الشَّفَاعَة ) . وَمِنْ ذَلِكَ الْقُرْآن وَانْشِقَاق الْقَمَر وَتَكْلِيمه الشَّجَر وَإِطْعَامه الطَّعَام خَلْقًا عَظِيمًا مِنْ تُمَيْرَات وَدُرُور شَاة أُمّ مَعْبَد بَعْد جَفَاف . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة مَعْنَاهُ , وَزَادَ : وَهُوَ أَعْظَم النَّاس أُمَّة وَخُتِمَ بِهِ النَّبِيُّونَ إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْخُلُق الْعَظِيم الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّه . وَيَحْتَمِل اللَّفْظ أَنْ يُرَاد بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْره مِمَّنْ عُظِّمَتْ آيَاته , وَيَكُون الْكَلَام تَأْكِيدًا . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِهِ رَفْع إِدْرِيس الْمَكَان الْعَلِيّ , وَمَرَاتِب الْأَنْبِيَاء فِي السَّمَاء كَمَا فِي حَدِيث الْإِسْرَاء , وَسَيَأْتِي .


وَبَيِّنَات عِيسَى هِيَ إِحْيَاء الْمَوْتَى وَإِبْرَاء الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَخَلْق الطَّيْر مِنْ الطِّين كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيل . " وَأَيَّدْنَاهُ " قَوَّيْنَاهُ . " بِرُوحِ الْقُدُس " جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام , وَقَدْ تَقَدَّمَ .



" وَلَوْ شَاءَ اللَّه مَا اِقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدهمْ " أَيْ مِنْ بَعْد الرُّسُل . وَقِيلَ : الضَّمِير لِمُوسَى وَعِيسَى , وَالِاثْنَانِ جَمْع . وَقِيلَ : مِنْ بَعْد جَمِيع الرُّسُل , وَهُوَ ظَاهِر اللَّفْظ . وَقِيلَ : إِنَّ الْقِتَال إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدهمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَعْنَى , بَلْ الْمُرَاد مَا اِقْتَتَلَ النَّاس بَعْد كُلّ نَبِيّ , وَهَذَا كَمَا تَقُول : اِشْتَرَيْت خَيْلًا ثُمَّ بِعْتهَا , فَجَائِز لَك هَذِهِ الْعِبَارَة وَأَنْتَ إِنَّمَا اِشْتَرَيْت فَرَسًا وَبِعْته ثُمَّ آخَر وَبِعْته ثُمَّ آخَر وَبِعْته , وَكَذَلِكَ هَذِهِ النَّوَازِل إِنَّمَا اِخْتَلَفَ النَّاس بَعْد كُلّ نَبِيّ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بَغْيًا وَحَسَدًا وَعَلَى حُطَام الدُّنْيَا , وَذَلِكَ كُلّه بِقَضَاءٍ وَقَدَر وَإِرَادَة مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَلَوْ شَاءَ خِلَاف ذَلِكَ لَكَانَ وَلَكِنَّهُ الْمُسْتَأْثِر بِسِرِّ الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ الْفِعْل لِمَا يُرِيد . وَكُسِرَتْ النُّون مِنْ " وَلَكِنِ اِخْتَلَفُوا " لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَيَجُوز حَذْفهَا فِي غَيْر الْقُرْآن , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : فَلَسْت بِآتِيهِ وَلَا أَسْتَطِيعهُ وَلَاك اِسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُك ذَا فَضْل " فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ " " مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَالصِّفَة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة البقرة الآية رقم 254
قَالَ الْحَسَن : هِيَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج وَسَعِيد بْن جُبَيْر : هَذِهِ الْآيَة تَجْمَع الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وَالتَّطَوُّع . قَالَ اِبْن عَطِيَّة . وَهَذَا صَحِيح , وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَات فِي ذِكْر الْقِتَال وَأَنَّ اللَّه يَدْفَع بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُدُور الْكَافِرِينَ يَتَرَجَّح مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّدْب إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيل اللَّه , وَيُقَوِّي ذَلِكَ فِي آخِر الْآيَة قَوْله : " وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ " أَيْ فَكَافِحُوهُمْ بِالْقِتَالِ بِالْأَنْفُسِ وَإِنْفَاق الْأَمْوَال .

قُلْت : وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَكُون إِنْفَاق الْأَمْوَال مَرَّة وَاجِبًا وَمَرَّة نَدْبًا بِحَسَبِ تَعَيُّن الْجِهَاد وَعَدَم تَعَيُّنه . وَأَمَرَ تَعَالَى عِبَاده بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّه وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ الْإِمْسَاك إِلَى أَنْ يَجِيء يَوْم لَا يُمْكِن فِيهِ بَيْع وَلَا شِرَاء وَلَا اِسْتِدْرَاك نَفَقَة , كَمَا قَالَ : " فَيَقُول رَبّ لَوْلَا أَخَّرْتنِي إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّق " [ الْمُنَافِقِينَ : 10 ] . وَالْخُلَّة : خَالِص الْمَوَدَّة , مَأْخُوذَة مِنْ تَخَلُّل الْأَسْرَار بَيْن الصَّدِيقَيْنِ . وَالْخِلَالَة وَالْخَلَالَة وَالْخُلَالَة : الصَّدَاقَة وَالْمَوَدَّة , قَالَ الشَّاعِر : وَكَيْف تُوَاصِل مَنْ أَصْبَحَتْ خِلَالَته كَأَبِي مَرْحَب وَأَبُو مَرْحَب كُنْيَة الظِّلّ , وَيُقَال : هُوَ كُنْيَة عُرْقُوب الَّذِي قِيلَ فِيهِ : مَوَاعِيد عُرْقُوب . وَالْخُلَّة بِالضَّمِّ أَيْضًا : مَا خَلَا مِنْ النَّبْت , يُقَال : الْخُلَّة خُبْز الْإِبِل وَالْحمض فَاكِهَتهَا . وَالْخَلَّة بِالْفَتْحِ : الْحَاجَة وَالْفَقْر . وَالْخَلَّة : اِبْن مَخَاض , عَنْ الْأَصْمَعِيّ . يُقَال : أَتَاهُمْ بِقُرْصٍ كَأَنَّهُ فِرْسِن خَلَّة . وَالْأُنْثَى خَلَّة أَيْضًا . وَيُقَال لِلْمَيِّتِ : اللَّهُمَّ أَصْلِحْ خَلَّته , أَيْ الثُّلْمَة الَّتِي تَرَكَ . وَالْخَلَّة : الْخَمْرَة الْحَامِضَة . وَالْخِلَّة ( بِالْكَسْرِ ) : وَاحِدَة خِلَل السُّيُوف , وَهِيَ بَطَائِن كَانَتْ تُغْشَى بِهَا أَجْفَان السُّيُوف مَنْقُوشَة بِالذَّهَبِ وَغَيْره , وَهِيَ أَيْضًا سُيُور تُلْبَس ظَهْر سِيَتَيْ الْقَوْس . وَالْخِلَّة أَيْضًا : مَا يَبْقَى بَيْن الْأَسْنَان . وَسَيَأْتِي فِي [ النِّسَاء ] اِشْتِقَاق الْخَلِيل وَمَعْنَاهُ . فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَلَّا خُلَّة فِي الْآخِرَة وَلَا شَفَاعَة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه . وَحَقِيقَتهَا رَحْمَة مِنْهُ تَعَالَى شَرَّفَ بِهَا الَّذِي أُذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَع . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " لَا بَيْع فِيهِ وَلَا خُلَّة وَلَا شَفَاعَة " بِالنَّصْبِ مِنْ غَيْر تَنْوِين , وَكَذَلِكَ فِي سُورَة [ إِبْرَاهِيم ] " لَا بَيْع فِيهِ وَلَا خِلَال " [ إِبْرَاهِيم : 31 ] وَفِي [ الطُّور ] " لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تَأْثِيم " [ الطُّور : 23 ] وَأَنْشَدَ حَسَّان بْن ثَابِت : أَلَا طِعَان وَلَا فُرْسَان عَادِيَة إِلَّا تَجَشُّؤُكُمْ عِنْد التَّنَانِير وَأَلِف الِاسْتِفْهَام غَيْر مُغَيِّرَة عَمَل " لَا " كَقَوْلِك : أَلَا رَجُل عِنْدك , وَيَجُوز أَلَا رَجُل وَلَا اِمْرَأَة كَمَا جَازَ فِي غَيْر الِاسْتِفْهَام فَاعْلَمْهُ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ جَمِيع ذَلِكَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين , كَمَا قَالَ الرَّاعِيّ : وَمَا صَرَمْتك حَتَّى قُلْت مُعْلِنَة لَا نَاقَة لِي فِي هَذَا وَلَا جَمَل وَيُرْوَى " وَمَا هَجَرْتُك " فَالْفَتْح عَلَى النَّفْي الْعَامّ الْمُسْتَغْرِق لِجَمِيعِ الْوُجُوه مِنْ ذَلِكَ الصِّنْف , كَأَنَّهُ جَوَاب لِمَنْ قَالَ : هَلْ فِيهِ مِنْ بَيْع ؟ فَسَأَلَ سُؤَالًا عَامًّا فَأُجِيبَ جَوَابًا عَامًّا بِالنَّفْيِ . و " لَا " مَعَ الِاسْم الْمَنْفِيّ بِمَنْزِلَةِ اِسْم وَاحِد فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " فِيهِ " . وَإِنْ شِئْت جَعَلْته صِفَة لِيَوْمٍ , وَمَنْ رَفَعَ جَعَلَ " لَا " بِمَنْزِلَةِ لَيْسَ . وَجُعِلَ الْجَوَاب غَيْر عَامّ , وَكَأَنَّهُ جَوَاب مَنْ قَالَ : هَلْ فِيهِ بَيْع ؟ بِإِسْقَاطِ مَنْ , فَأَتَى الْجَوَاب غَيْر مُغَيِّر عَنْ رَفْعه , وَالْمَرْفُوع مُبْتَدَأ أَوْ اِسْم لَيْسَ و " فِيهِ " الْخَبَر . قَالَ مَكِّيّ : وَالِاخْتِيَار الرَّفْع ; لِأَنَّ أَكْثَر الْقُرَّاء عَلَيْهِ , وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن لَا بَيْع فِيهِ وَلَا خُلَّة , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِرَجُلٍ مِنْ مَذْحِج : هَذَا لَعَمْركُمْ الصَّغَار بِعَيْنِهِ لَا أُمّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلَا أَب وَيَجُوز أَنْ تَبْنِي الْأَوَّل وَتَنْصِب الثَّانِي وَتُنَوِّنهُ فَتَقُول : لَا رَجُل فِيهِ وَلَا اِمْرَأَة , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : لَا نَسَب الْيَوْم وَلَا خُلَّة اِتَّسَعَ الْخَرْق عَلَى الرَّاقِع ف " لَا " زَائِدَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ , الْأَوَّل عَطْف عَلَى الْمَوْضِع وَالثَّانِي عَلَى اللَّفْظ وَوَجْه خَامِس أَنْ تَرْفَع الْأَوَّل وَتَبْنِي الثَّانِي كَقَوْلِك : لَا رَجُل فِيهَا وَلَا اِمْرَأَة , قَالَ أُمَيَّة : فَلَا لَغْو وَلَا تَأْثِيم فِيهَا وَمَا فَاهُوا بِهِ أَبَدًا مُقِيم وَهَذِهِ الْخَمْسَة الْأَوْجُه جَائِزَة فِي قَوْلك : لَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَالْحَمْد لِلَّهِ . " وَالْكَافِرُونَ " اِبْتِدَاء . " هُمْ " اِبْتِدَاء ثَانٍ , " الظَّالِمُونَ " خَبَر الثَّانِي , وَإِنْ شِئْت كَانَتْ " هُمْ " زَائِدَة لِلْفَصْلِ و " الظَّالِمُونَ " خَبَر " الْكَافِرُونَ " . قَالَ عَطَاء بْن دِينَار : وَالْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي قَالَ : " وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ " وَلَمْ يَقُلْ وَالظَّالِمُونَ هُمْ الْكَافِرُونَ .
اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُسورة البقرة الآية رقم 255
هَذِهِ آيَة الْكُرْسِيّ سَيِّدَة آي الْقُرْآن وَأَعْظَم آيَة , كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْفَاتِحَة , وَنَزَلَتْ لَيْلًا وَدَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا . رُوِيَ عَنْ مُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ آيَة الْكُرْسِيّ خَرَّ كُلّ صَنَم فِي الدُّنْيَا , وَكَذَلِكَ خَرَّ كُلّ مَلِك فِي الدُّنْيَا وَسَقَطَتْ التِّيجَان عَنْ رُءُوسهمْ , وَهَرَبَتْ الشَّيَاطِين يَضْرِب بَعْضهمْ عَلَى بَعْض إِلَى أَنْ أَتَوْا إِبْلِيس فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ ذَلِكَ , فَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَة فَبَلَغَهُمْ أَنَّ آيَة الْكُرْسِيّ قَدْ نَزَلَتْ . وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَبَا الْمُنْذِر أَتَدْرِي أَيّ آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه مَعَك أَعْظَم ) ؟ قَالَ قُلْت : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم , قَالَ : ( يَا أَبَا الْمُنْذِر أَتَدْرِي أَيّ آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه مَعَك أَعْظَم ) ؟ قَالَ قُلْت : " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : ( لِيَهِنك الْعِلْم يَا أَبَا الْمُنْذِر ) . زَادَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم أَبُو عَبْد اللَّه : ( فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لِهَذِهِ الْآيَة لَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّس الْمَلِك عِنْد سَاق الْعَرْش ) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : فَهَذِهِ آيَة أَنْزَلَهَا اللَّه جَلَّ ذِكْره , وَجَعَلَ ثَوَابهَا لِقَارِئِهَا عَاجِلًا وَآجِلًا , فَأَمَّا فِي الْعَاجِل فَهِيَ حَارِسَة لِمَنْ قَرَأَهَا مِنْ الْآفَات , وَرُوِيَ لَنَا عَنْ نَوْف الْبِكَالِيّ أَنَّهُ قَالَ : آيَة الْكُرْسِيّ تُدْعَى فِي التَّوْرَاة وَلِيَّة اللَّه . يُرِيد يُدْعَى قَارِئُهَا فِي مَلَكُوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض عَزِيزًا , قَالَ : فَكَانَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف إِذَا دَخَلَ بَيْته قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي زَوَايَا بَيْته الْأَرْبَع , مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ يَلْتَمِس بِذَلِكَ أَنْ تَكُون لَهُ حَارِسًا مِنْ جَوَانِبه الْأَرْبَع , وَأَنْ تَنْفِي عَنْهُ الشَّيْطَان مِنْ زَوَايَا بَيْته . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر أَنَّهُ صَارَعَ جِنِّيًّا فَصَرَعَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , فَقَالَ لَهُ الْجِنِّيّ : خَلِّ عَنِّي حَتَّى أُعَلِّمك مَا تَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَّا , فَخَلَّى عَنْهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ : إِنَّكُمْ تَمْتَنِعُونَ مِنَّا بِآيَةِ الْكُرْسِيّ .

قُلْت : هَذَا صَحِيح , وَفِي الْخَبَر : مَنْ قَرَأَ الْكُرْسِيّ دُبُر كُلّ صَلَاة كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْض رُوحه ذُو الْجَلَال وَالْإِكْرَام , وَكَانَ كَمَنْ قَاتَلَ مَعَ أَنْبِيَاء اللَّه حَتَّى يُسْتَشْهَد . وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول وَهُوَ عَلَى أَعْوَاد الْمِنْبَر : ( مَنْ قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ دُبُر كُلّ صَلَاة لَمْ يَمْنَعهُ مِنْ دُخُول الْجَنَّة إِلَّا الْمَوْت وَلَا يُوَاظِب عَلَيْهَا إِلَّا صِدِّيق أَوْ عَابِد , وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعه آمَنَهُ اللَّه عَلَى نَفْسه وَجَاره وَجَار جَاره وَالْأَبْيَات حَوْله ) . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاة رَمَضَان , وَذَكَرَ قِصَّة وَفِيهَا : فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه , زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمنِي كَلِمَات يَنْفَعنِي اللَّه بِهَا فَخَلَّيْت سَبِيله , قَالَ : ( مَا هِيَ ) ؟ قُلْت قَالَ لِي : إِذَا آوَيْت إِلَى فِرَاشك فَاقْرَأْ آيَة الْكُرْسِيّ مِنْ أَوَّلهَا حَتَّى تَخْتِم " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " . وَقَالَ لِي : لَنْ يَزَال عَلَيْك مِنْ اللَّه حَافِظ وَلَا يَقْرَبك شَيْطَان حَتَّى تُصْبِح , وَكَانُوا أَحْرَص شَيْء عَلَى الْخَيْر . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَك وَهُوَ كَذُوب تَعْلَم مَنْ تُخَاطِب مُنْذُ ثَلَاث لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَة ) ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : ( ذَاكَ شَيْطَان ) . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ أَبِي مُحَمَّد قَالَ الشَّعْبِيّ قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : لَقِيَ رَجُل مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْجِنّ فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ الْإِنْسِيّ , فَقَالَ لَهُ الْإِنْسِيّ : إِنِّي لَأَرَاك ضَئِيلًا شَخِيتًا كَأَنَّ ذُرَيِّعَتَيْك ذَرَيِّعَتَا كَلْب فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ مَعْشَر الْجِنّ , أَمْ أَنْتَ مِنْ بَيْنهمْ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّه إِنِّي مِنْهُمْ لَضَلِيع وَلَكِنْ عَاوِدْنِي الثَّانِيَة فَإِنْ صَرَعْتنِي عَلَّمْتُك شَيْئًا يَنْفَعك , قَالَ نَعَمْ , فَصَرَعَهُ , قَالَ : تَقْرَأ آيَة الْكُرْسِيّ : " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَإِنَّك لَا تَقْرَأهَا فِي بَيْت إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَان لَهُ خَبَج كَخَبَج الْحِمَار ثُمَّ لَا يَدْخُلهُ حَتَّى يُصْبِح . أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم عَنْ أَبِي عَاصِم الثَّقَفِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ . وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَة فِي غَرِيب حَدِيث عُمَر حَدَّثَنَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ أَبِي عَاصِم الثَّقَفِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّه : أَهُوَ عُمَر ؟ فَقَالَ : مَا عَسَى أَنْ يَكُون إِلَّا عُمَر . قَالَ أَبُو مُحَمَّد الدَّارِمِيّ : الضَّئِيل : الدَّقِيق , وَالشَّخِيت : الْمَهْزُول , وَالضَّلِيع : جَيِّد الْأَضْلَاع , وَالْخَبَج : الرِّيح . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْخَبَج : الضُّرَاط , وَهُوَ الْحَبَج أَيْضًا بِالْحَاءِ . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَرَأَ حم - الْمُؤْمِن - إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِير وَآيَة الْكُرْسِيّ حِين يُصْبِح حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِي , وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِين يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِح ) قَالَ : حَدِيث غَرِيب . وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّه التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم : وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ نُدِبُوا إِلَى الْمُحَافَظَة عَلَى قِرَاءَتهَا دُبُر كُلّ صَلَاة . عَنْ أَنَس رَفَعَ الْحَدِيث إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَوْحَى اللَّه إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَنْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَة آيَة الْكُرْسِيّ دُبُر كُلّ صَلَاة أَعْطَيْته فَوْق مَا أُعْطِي الشَّاكِرِينَ وَأَجْر النَّبِيِّينَ وَأَعْمَال الصِّدِّيقِينَ وَبَسَطْت عَلَيْهِ يَمِينِي بِالرَّحْمَةِ وَلَمْ يَمْنَعهُ أَنْ أُدْخِلهُ الْجَنَّة إِلَّا أَنْ يَأْتِيه مَلَك الْمَوْت ) قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام : يَا رَبّ مَنْ سَمِعَ بِهَذَا لَا يُدَاوِم عَلَيْهِ ؟ قَالَ : ( إِنِّي لَا أُعْطِيه مِنْ عِبَادِي إِلَّا لِنَبِيٍّ أَوْ صِدِّيق أَوْ رَجُل أُحِبّهُ أَوْ رَجُل أُرِيد قَتْله فِي سَبِيلِي ) . وَعَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( يَا مُوسَى مَنْ قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي دُبُر كُلّ صَلَاة أَعْطَيْته ثَوَاب الْأَنْبِيَاء ) قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : مَعْنَاهُ عِنْدِي أَعْطَيْته ثَوَاب عَمَل الْأَنْبِيَاء , فَأَمَّا ثَوَاب النُّبُوَّة فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ . وَهَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ التَّوْحِيد وَالصِّفَات الْعُلَا , وَهِيَ خَمْسُونَ كَلِمَة , وَفِي كُلّ كَلِمَة خَمْسُونَ بَرَكَة , وَهِيَ تَعْدِل ثُلُث الْقُرْآن , وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيث , ذَكَرَهُ اِبْن عَطِيَّة . و " اللَّه " مُبْتَدَأ , و " لَا إِلَه " مُبْتَدَأ ثَانٍ وَخَبَره مَحْذُوف تَقْدِيره مَعْبُود أَوْ مَوْجُود . و " إِلَّا هُوَ " بَدَل مِنْ مَوْضِع لَا إِلَه . وَقِيلَ : " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ " اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَهُوَ مَرْفُوع مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى , أَيْ مَا إِلَه إِلَّا هُوَ , وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن لَا إِلَه إِلَّا إِيَّاهُ , نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء . قَالَ أَبُو ذَرّ فِي حَدِيثه الطَّوِيل : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيّ آيَة أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك مِنْ الْقُرْآن أَعْظَم ؟ فَقَالَ : ( اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَشْرَف آيَة فِي الْقُرْآن آيَة الْكُرْسِيّ . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لِأَنَّهُ يُكَرَّر فِيهَا اِسْم اللَّه تَعَالَى بَيْن مُضْمَر وَظَاهِر ثَمَانِي عَشْرَة مَرَّة .

" لْحَيّ الْقَيُّوم " نَعْت لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَإِنْ شِئْت كَانَ بَدَلًا مِنْ " هُوَ " , وَإِنْ شِئْت كَانَ خَبَرًا بَعْد خَبَر , وَإِنْ شِئْت عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن النَّصْب عَلَى الْمَدْح . و " الْحَيّ " اِسْم مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى يُسَمَّى بِهِ , وَيُقَال : إِنَّهُ اِسْم اللَّه تَعَالَى الْأَعْظَم . وَيُقَال : إِنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْيِي الْمَوْتَى يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء : يَا حَيّ يَا قَيُّوم . وَيُقَال : إِنَّ آصَف بْن بَرْخِيَا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي بِعَرْشِ بِلْقِيس إِلَى سُلَيْمَان دَعَا بِقَوْلِهِ يَا حَيّ يَا قَيُّوم . وَيُقَال : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل سَأَلُوا مُوسَى عَنْ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم فَقَالَ لَهُمْ : أيا هيا شرا هيا , يَعْنِي يَا حَيّ يَا قَيُّوم . وَيُقَال : هُوَ دُعَاء أَهْل الْبَحْر إِذَا خَافُوا الْغَرَق يَدْعُونَ بِهِ . قَالَ الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم : إِنَّهُ يُقَال حَيّ قَيُّوم كَمَا وَصَفَ نَفْسه , وَيُسَلَّم ذَلِكَ دُون أَنْ يُنْظَر فِيهِ . وَقِيلَ : سَمَّى نَفْسه حَيًّا لِصَرْفِهِ الْأُمُور مَصَارِيفهَا وَتَقْدِيره الْأَشْيَاء مَقَادِيرهَا . وَقَالَ قَتَادَة : الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْمُرَاد بِالْحَيِّ الْبَاقِي . قَالَ لَبِيد : فَإِمَّا تَرِينِي الْيَوْم أَصْبَحْت سَالِمًا فَلَسْت بِأَحْيَا مِنْ كِلَاب وَجَعْفَر وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا الِاسْم هُوَ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . " الْقَيُّوم " مِنْ قَامَ , أَيْ الْقَائِم بِتَدْبِيرِ مَا خَلَقَ , عَنْ قَتَادَة . وَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَاهُ الْقَائِم عَلَى كُلّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ حَتَّى يُجَازِيهَا بِعَمَلِهَا , مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِم بِهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُحَوَّل وَلَا يَزُول , قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : لَمْ تُخْلَق السَّمَاء وَالنُّجُوم وَالشَّمْس مَعَهَا قَمَر يَقُوم قَدَّرَهُ مُهَيْمِن قَيُّوم وَالْحَشْر وَالْجَنَّة وَالنَّعِيم إِلَّا لِأَمْرٍ شَأْنه عَظِيم قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَرَأَيْت فِي " عُيُون التَّفْسِير " لِإِسْمَاعِيل الضَّرِير تَفْسِير الْقَيُّوم قَالَ : وَيُقَال هُوَ الَّذِي لَا يَنَام , وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ عَقِيبه فِي آيَة الْكُرْسِيّ : " لَا تَأْخُذهُ سِنَة وَلَا نَوْم " . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : الْقَيُّوم الَّذِي لَا بَدْء لَهُ , ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ . وَأَصْل قَيُّوم قَيْوُوم اِجْتَمَعَتْ الْوَاو وَالْيَاء وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَأُدْغِمَتْ الْأُولَى فِي الثَّانِيَة بَعْد قَلْب الْوَاو يَاء , وَلَا يَكُون قَيُّوم فَعُّولًا ; لِأَنَّهُ مِنْ الْوَاو فَكَانَ يَكُون قَيْوُومًا . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَعَلْقَمَة وَالْأَعْمَش وَالنَّخَعِيّ " الْحَيّ الْقَيَّام " بِالْأَلِفِ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر . وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل اللُّغَة فِي أَنَّ الْقَيُّوم أَعْرَف عِنْد الْعَرَب وَأَصَحّ بِنَاء وَأَثْبَت عِلَّة . وَالْقَيَّام مَنْقُول عَنْ الْقَوَّام إِلَى الْقَيَّام , صُرِفَ عَنْ الْفَعَّال إِلَى الْفَيْعَال , كَمَا قِيلَ لِلصَّوَّاغِ الصَّيَّاغ , قَالَ الشَّاعِر : إِنَّ ذَا الْعَرْش لَلَّذِي يَرْزُق الْنَا س وَحَيّ عَلَيْهِمْ قَيُّوم ثُمَّ نَفَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَأْخُذهُ سِنَة وَلَا نَوْم . وَالسِّنَة : النُّعَاس فِي قَوْل الْجَمِيع . وَالنُّعَاس مَا كَانَ مِنْ الْعَيْن فَإِذَا صَارَ فِي الْقَلْب صَارَ نَوْمًا , قَالَ عَدِيّ بْن الرَّقَّاع يَصِف اِمْرَأَة بِفُتُورِ النَّظَر : وَسْنَان أَقْصَدَهُ النُّعَاس فَرَنَّقَتْ فِي عَيْنه سِنَة وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَفَرَّقَ الْمُفَضَّل بَيْنهمَا فَقَالَ : السِّنَة مِنْ الرَّأْس , وَالنُّعَاس فِي الْعَيْن , وَالنَّوْم فِي الْقَلْب . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْوَسْنَان الَّذِي يَقُوم مِنْ النَّوْم وَهُوَ لَا يَعْقِل , حَتَّى رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْف عَلَى أَهْله . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن زَيْد فِيهِ نَظَر , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَفْهُومٍ مِنْ كَلَام الْعَرَب . وَقَالَ السُّدِّيّ : السِّنَة : رِيح النَّوْم الَّذِي يَأْخُذ فِي الْوَجْه فَيَنْعَس الْإِنْسَان . قُلْت : وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ فُتُور يَعْتَرِي الْإِنْسَان وَلَا يَفْقِد مَعَهُ عَقْله . وَالْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُدْرِكهُ خَلَل وَلَا يَلْحَقهُ مَلَل بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَال . وَالْأَصْل فِي سِنَة وَسْنَة حُذِفَتْ الْوَاو كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَسِن . وَالنَّوْم هُوَ الْمُسْتَثْقَل الَّذِي يَزُول مَعَهُ الذِّهْن فِي حَقّ الْبَشَر . وَالْوَاو لِلْعَطْفِ و " لَا " تَوْكِيد .

قُلْت : وَالنَّاس يَذْكُرُونَ فِي هَذَا الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَى الْمِنْبَر قَالَ : ( وَقَعَ فِي نَفْس مُوسَى هَلْ يَنَام اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَأَرْسَلَ اللَّه إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلّ يَد قَارُورَة وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظ بِهِمَا قَالَ فَجَعَلَ يَنَام وَتَكَاد يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ ثُمَّ يَسْتَيْقِظ فَيُنَحِّي أَحَدَيْهِمَا عَنْ الْأُخْرَى حَتَّى نَامَ نَوْمَة فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتْ الْقَارُورَتَانِ - قَالَ - ضَرَبَ اللَّه لَهُ مَثَلًا أَنْ لَوْ كَانَ يَنَام لَمْ تَتَمَسَّك السَّمَاء وَالْأَرْض ) وَلَا يَصِحّ هَذَا الْحَدِيث , ضَعَّفَهُ غَيْر وَاحِد مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيّ .


أَيْ بِالْمِلْكِ فَهُوَ مَالِك الْجَمِيع وَرَبّه وَجَاءَتْ الْعِبَارَة ب " مَا " وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَة مَنْ يَعْقِل مِنْ حَيْثُ الْمُرَاد الْجُمْلَة وَالْمَوْجُود . قَالَ الطَّبَرِيّ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة لَمَّا قَالَ الْكُفَّار : مَا نَعْبُد أَوْثَانًا إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّه زُلْفَى .

" مَنْ " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ و " ذَا " خَبَره , و " الَّذِي " نَعْت ل " ذَا " , وَإِنْ شِئْت بَدَل , وَلَا يَجُوز أَنْ تَكُون " ذَا " زَائِدَة كَمَا زِيدَتْ مَعَ " مَا " لِأَنَّ " مَا " مُبْهَمَة فَزِيدَتْ " ذَا " مَعَهَا لِشَبَهِهَا بِهَا . وَتَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ اللَّه يَأْذَن لِمَنْ يَشَاء فِي الشَّفَاعَة , وَهُمْ الْأَنْبِيَاء وَالْعُلَمَاء وَالْمُجَاهِدُونَ وَالْمَلَائِكَة وَغَيْرهمْ مِمَّنْ أَكْرَمَهُمْ وَشَرَّفَهُمْ اللَّه , ثُمَّ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى , كَمَا قَالَ : " وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى " [ الْأَنْبِيَاء : 28 ] قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ يَشْفَعُونَ فِيمَنْ لَمْ يَصِل إِلَى النَّار وَهُوَ بَيْن الْمَنْزِلَتَيْنِ , أَوْ وَصَلَ وَلَكِنْ لَهُ أَعْمَال صَالِحَة . وَفِي الْبُخَارِيّ فِي " بَاب بَقِيَّة مِنْ أَبْوَاب الرُّؤْيَة " : إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ : رَبّنَا إِنَّ إِخْوَاننَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا . وَهَذِهِ شَفَاعَة فِيمَنْ يَقْرُب أَمْره , وَكَمَا يَشْفَع الطِّفْل الْمُحْبَنْطِئ عَلَى بَاب الْجَنَّة . وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي قَرَابَاتهمْ وَمَعَارِفهمْ . وَإِنَّ الْأَنْبِيَاء يَشْفَعُونَ فِيمَنْ حَصَلَ فِي النَّار مِنْ عُصَاة أُمَمهمْ بِذُنُوبٍ دُون قُرْبَى وَلَا مَعْرِفَة إِلَّا بِنَفْسِ الْإِيمَان , ثُمَّ تَبْقَى شَفَاعَة أَرْحَم الرَّاحِمِينَ فِي الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوب الَّذِينَ لَمْ تَعْمَل فِيهِمْ شَفَاعَة الْأَنْبِيَاء . وَأَمَّا شَفَاعَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيل الْحِسَاب فَخَاصَّة لَهُ .

قُلْت : قَدْ بَيَّنَ مُسْلِم فِي صَحِيحه كَيْفِيَّة الشَّفَاعَة بَيَانًا شَافِيًا , وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّه لَمْ يَقْرَأهُ وَأَنَّ الشَّافِعِينَ يَدْخُلُونَ النَّار وَيُخْرِجُونَ مِنْهَا أُنَاسًا اِسْتَوْجَبُوا الْعَذَاب , فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُد أَنْ يَكُون لِلْمُؤْمِنِينَ شَفَاعَتَانِ : شَفَاعَة فِيمَنْ لَمْ يَصِل إِلَى النَّار , وَشَفَاعَة فِيمَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا وَدَخَلَهَا , أَجَارَنَا اللَّه مِنْهَا . فَذَكَرَ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ : ( ثُمَّ يُضْرَب الْجِسْر عَلَى جَهَنَّم وَتَحِلّ الشَّفَاعَة وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ - قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا الْجِسْر ؟ قَالَ : دَحْض مَزِلَّة فِيهَا خَطَاطِيف وَكَلَالِيب وَحَسَكَة تَكُون بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَة يُقَال لَهَا السَّعْدَان فَيَمُرّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْن وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيد الْخَيْل وَالرِّكَاب فَنَاجٍ جَهَنَّم حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَد مِنْكُمْ بِأَشَدّ مُنَاشَدَة لِلَّهِ فِي اِسْتِيفَاء الْحَقّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْم الْقِيَامَة لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّار , يَقُولُونَ رَبّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ , فَيُقَال لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ , فَتُحَرَّم صُوَرهمْ عَلَى النَّار فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّار إِلَى نِصْف سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ , فَيَقُول عَزَّ وَجَلَّ اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ , فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا , ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ , ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال نِصْف دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ , فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ , ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ , فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا خَيْرًا - وَكَانَ أَبُو سَعِيد يَقُول : إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيث فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " [ النِّسَاء : 40 ] ( فَيَقُول اللَّه تَعَالَى : شَفَعَتْ الْمَلَائِكَة وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِض قَبْضَة مِنْ النَّار فَيُخْرِج مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَذُكِرَ مِنْ حَدِيث أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَقُول يَا رَبّ اِئْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ لَك - أَوْ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْك - وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لَأُخْرِجَن مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) . وَذُكِرَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّه مِنْ الْقَضَاء بَيْن الْعِبَاد وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِج بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْل النَّار أَمَرَ الْمَلَائِكَة أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّار مَنْ كَانَ لَا يُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَرْحَمهُ مِمَّنْ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّار يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُود تَأْكُل النَّار اِبْن آدَم إِلَّا أَثَر السُّجُود حَرَّمَ اللَّه عَلَى النَّار أَنْ تَأْكُل أَثَر السُّجُود ) الْحَدِيث بِطُولِهِ .

قُلْت : فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث عَلَى أَنَّ شَفَاعَة الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرهمْ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ دَخَلَ النَّار وَحَصَلَ فِيهَا , أَجَارَنَا اللَّه مِنْهَا وَقَوْل اِبْن عَطِيَّة : " مِمَّنْ لَمْ يَصِل أَوْ وَصَلَ " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَخَذَهُ مِنْ أَحَادِيث أُخَر , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ خَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُصَفّ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة صُفُوفًا - وَقَالَ اِبْن نُمَيْر أَهْل الْجَنَّة - فَيَمُرّ الرَّجُل مِنْ أَهْل النَّار عَلَى الرَّجُل فَيَقُول يَا فُلَان أَمَا تَذْكُر يَوْم اِسْتَسْقَيْت فَسَقَيْتُك شَرْبَة ؟ قَالَ فَيَشْفَع لَهُ وَيَمُرّ الرَّجُل عَلَى الرَّجُل فَيَقُول أَمَا تَذْكُر يَوْم نَاوَلْتُك طَهُورًا ؟ فَيَشْفَع لَهُ - قَالَ اِبْن نُمَيْر - وَيَقُول يَا فُلَان أَمَا تَذْكُر يَوْم بَعَثْتنِي لِحَاجَةِ كَذَا وَكَذَا فَذَهَبْت لَك ؟ فَيَشْفَع لَهُ ) .

وَأَمَّا شَفَاعَات نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتُلِفَ فِيهَا , فَقِيلَ ثَلَاث , وَقِيلَ اِثْنَتَانِ , وَقِيلَ : خَمْس , يَأْتِي بَيَانهَا فِي " سُبْحَان " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ .


الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ عَلَى كُلّ مَنْ يَعْقِل مِمَّنْ تَضَمَّنَهُ قَوْله : " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الْأَرْض " . وَقَالَ مُجَاهِد : " مَا بَيْن أَيْدِيهمْ " الدُّنْيَا " وَمَا خَلْفهمْ " الْآخِرَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكُلّ هَذَا صَحِيح فِي نَفْسه لَا بَأْس بِهِ ; لِأَنَّ مَا بَيْن الْيَد هُوَ كُلّ مَا تَقَدَّمَ الْإِنْسَان , وَمَا خَلْفه هُوَ كُلّ مَا يَأْتِي بَعْده , وَبِنَحْوِ قَوْل مُجَاهِد قَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره .


الْعِلْم هُنَا بِمَعْنَى الْمَعْلُوم , أَيْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاته , وَهَذَا كَقَوْلِ الْخَضِر لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين نَقَرَ الْعُصْفُور فِي الْبَحْر : مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمك مِنْ عِلْم اللَّه إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُور مِنْ هَذَا الْبَحْر . فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ رَاجِع إِلَى الْمَعْلُومَات لِأَنَّ عِلْم اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَة ذَاته لَا يَتَبَعَّض . وَمَعْنَى الْآيَة لَا مَعْلُوم لِأَحَدٍ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَعْلَمهُ .


ذَكَرَ اِبْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْكُرْسِيّ لُؤْلُؤَة وَالْقَلَم لُؤْلُؤَة وَطُول الْقَلَم سَبْعمِائَةِ سَنَة وَطُول الْكُرْسِيّ حَيْثُ لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه ) . وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة - وَهُوَ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود - عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : بَيْن كُلّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام وَبَيْن السَّمَاء السَّابِعَة وَبَيْن الْكُرْسِيّ خَمْسمِائَةِ عَام , وَبَيْن الْكُرْسِيّ وَبَيْن الْعَرْش مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام , وَالْعَرْش فَوْق الْمَاء وَاَللَّه فَوْق الْعَرْش يَعْلَم مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ . يُقَال كُرْسِيّ وَكِرْسِيّ وَالْجَمْع الْكَرَاسِيّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُرْسِيّه عِلْمه . وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيّ , قَالَ : وَمِنْهُ الْكُرَّاسَة الَّتِي تَضُمّ الْعِلْم , وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ : الْكَرَاسِيّ ; لِأَنَّهُمْ الْمُعْتَمَد عَلَيْهِمْ , كَمَا يُقَال : أَوْتَاد الْأَرْض قَالَ الشَّاعِر : يَحُفّ بِهِمْ بِيض الْوُجُوه وَعُصْبَة كَرَاسِيّ بِالْأَحْدَاثِ حِين تَنُوب أَيْ عُلَمَاء بِحَوَادِث الْأُمُور . وَقِيلَ : كُرْسِيّه قُدْرَته الَّتِي يُمْسِك بِهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض , كَمَا تَقُول : اِجْعَلْ لِهَذَا الْحَائِط كُرْسِيًّا , أَيْ مَا يَعْمِدهُ . وَهَذَا قَرِيب مِنْ قَوْل اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله " وَسِعَ كُرْسِيّه " . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَرُّوِينَا عَنْ اِبْن مَسْعُود وَسَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله " وَسِعَ كُرْسِيّه " قَالَ : عِلْمه . وَسَائِر الرِّوَايَات عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْكُرْسِيّ الْمَشْهُور مَعَ الْعَرْش . وَرَوَى إِسْرَائِيل عَنْ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك فِي قَوْله " وَسِعَ كُرْسِيّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض " قَالَ : إِنَّ الصَّخْرَة الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْض السَّابِعَة وَمُنْتَهَى الْخَلْق عَلَى أَرْجَائِهَا , عَلَيْهَا أَرْبَعَة مِنْ الْمَلَائِكَة لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمْ أَرْبَعَة وُجُوه : وَجْه إِنْسَان وَوَجْه أَسَد وَوَجْه ثَوْر وَوَجْه نَسْر , فَهُمْ قِيَام عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطُوا بِالْأَرَضِينَ وَالسَّمَاوَات , وَرُءُوسهمْ تَحْت الْكُرْسِيّ وَالْكُرْسِيّ تَحْت الْعَرْش وَاَللَّه وَاضِع كُرْسِيّه فَوْق الْعَرْش . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى كُرْسِيَّيْنِ : أَحَدهمَا تَحْت الْعَرْش , وَالْآخَر مَوْضُوع عَلَى الْعَرْش . وَفِي رِوَايَة أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله " وَسِعَ كُرْسِيّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض " فَإِنَّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي جَوْف الْكُرْسِيّ وَالْكُرْسِيّ بَيْن يَدَيْ الْعَرْش . وَأَرْبَاب الْإِلْحَاد يَحْمِلُونَهَا عَلَى عِظَم الْمُلْك وَجَلَالَة السُّلْطَان , وَيُنْكِرُونَ وُجُود الْعَرْش وَالْكُرْسِيّ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ . وَأَهْل الْحَقّ يُجِيزُونَهُمَا , إِذْ فِي قُدْرَة اللَّه مُتَّسَع فَيَجِب الْإِيمَان بِذَلِكَ . قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ : الْكُرْسِيّ مَوْضِع الْقَدَمَيْنِ وَلَهُ أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْل . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : قَدْ رُوِّينَا أَيْضًا فِي هَذَا عَنْ اِبْن عَبَّاس وَذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ فِيمَا يُرَى أَنَّهُ مَوْضُوع مِنْ الْعَرْش مَوْضِع الْقَدَمَيْنِ مِنْ السَّرِير , وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَات الْمَكَان لِلَّهِ تَعَالَى . وَعَنْ اِبْن بُرَيْدَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ جَعْفَر مِنْ الْحَبَشَة قَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَعْجَب شَيْء رَأَيْته ) ؟ قَالَ : رَأَيْت اِمْرَأَة عَلَى رَأْسهَا مِكْتَل طَعَام فَمَرَّ فَارِس فَأَذْرَاهُ فَقَعَدَتْ تَجْمَع طَعَامهَا , ثُمَّ اِلْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : وَيْل لَك يَوْم يَضَع الْمَلِك كُرْسِيّه فَيَأْخُذ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِم فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهَا : ( لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ - أَوْ كَيْف تُقَدَّس أُمَّة - لَا يَأْخُذ ضَعِيفهَا حَقّه مِنْ شَدِيدهَا ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فِي قَوْل أَبِي مُوسَى " الْكُرْسِيّ مَوْضِع الْقَدَمَيْنِ " يُرِيد هُوَ مِنْ عَرْش الرَّحْمَن كَمَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ أَسِرَّة الْمُلُوك , فَهُوَ مَخْلُوق عَظِيم بَيْن يَدَيْ الْعَرْش نِسْبَته إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ الْكُرْسِيّ إِلَى سَرِير الْمَلِك . وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن : الْكُرْسِيّ هُوَ الْعَرْش نَفْسه , وَهَذَا لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ , وَاَلَّذِي تَقْتَضِيه الْأَحَادِيث أَنَّ الْكُرْسِيّ مَخْلُوق بَيْن يَدَيْ الْعَرْش وَالْعَرْش أَعْظَم مِنْهُ . وَرَوَى أَبُو إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , أَيّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْك أَعْظَم ؟ قَالَ : ( آيَة الْكُرْسِيّ - ثُمَّ قَالَ - يَا أَبَا ذَرّ مَا السَّمَاوَات السَّبْع مَعَ الْكُرْسِيّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاة فِي أَرْض فَلَاة وَفَضْل الْعَرْش عَلَى الْكُرْسِيّ كَفَضْلِ الْفَلَاة عَلَى الْحَلْقَة ) . أَخْرَجَهُ الْآجُرِّيّ وَأَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ فِي صَحِيح مُسْنَده وَالْبَيْهَقِيّ وَذَكَرَ أَنَّهُ صَحِيح . وَقَالَ مُجَاهِد : مَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي الْكُرْسِيّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ حَلْقَة مُلْقَاة فِي أَرْض فَلَاة . وَهَذِهِ الْآيَة مُنْبِئَة عَنْ عِظَم مَخْلُوقَات اللَّه تَعَالَى , وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ عِظَم قُدْرَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذْ لَا يَئُودهُ حِفْظ هَذَا الْأَمْر الْعَظِيم .



" يَئُودهُ " مَعْنَاهُ يُثْقِلهُ , يُقَال : آدَنِي الشَّيْء بِمَعْنَى أَثْقَلَنِي وَتَحَمَّلْت مِنْهُ الْمَشَقَّة , وَبِهَذَا فَسَّرَ اللَّفْظَة اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمْ . قَالَ الزَّجَّاج : فَجَائِز أَنْ تَكُون الْهَاء لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَجَائِز أَنْ تَكُون لِلْكُرْسِيِّ , وَإِذَا كَانَتْ لِلْكُرْسِيِّ , فَهُوَ مِنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى . و " الْعَلِيّ " يُرَاد بِهِ عُلُوّ الْقَدْر وَالْمَنْزِلَة لَا عُلُوّ الْمَكَان ; لِأَنَّ اللَّه مُنَزَّه عَنْ التَّحَيُّز . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ الْعَلِيّ عَنْ خَلْقه بِارْتِفَاعِ مَكَانه عَنْ أَمَاكِن خَلْقه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ , وَكَانَ الْوَجْه أَلَّا يُحْكَى . وَعَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن قُرْط أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ تَسْبِيحًا فِي السَّمَاوَات الْعُلَى : سُبْحَان اللَّه الْعَلِيّ الْأَعْلَى سُبْحَانه وَتَعَالَى . وَالْعَلِيّ وَالْعَالِي : الْقَاهِر الْغَالِب لِلْأَشْيَاءِ , تَقُول الْعَرَب : عَلَا فُلَان فُلَانًا أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ , قَالَ الشَّاعِر : فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمْ تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِر وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ فِرْعَوْن عَلَا فِي الْأَرْض " [ الْقَصَص : 4 ] . و " الْعَظِيم " صِفَة بِمَعْنَى عَظِيم الْقَدْر وَالْخَطَر وَالشَّرَف , لَا عَلَى مَعْنَى عِظَم الْأَجْرَام . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم أَنَّ الْعَظِيم مَعْنَاهُ الْمُعَظَّم , كَمَا يُقَال : الْعَتِيق بِمَعْنَى الْمُعْتَق , وَأَنْشَدَ بَيْت الْأَعْشَى : فَكَأَنَّ الْخَمْر الْعَتِيق مِنْ الْإِسْ فِنْط مَمْزُوجَة بِمَاءٍ زُلَال وَحُكِيَ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : لَوْ كَانَ بِمَعْنَى مُعَظَّم لَوَجَبَ أَلَّا يَكُون عَظِيمًا قَبْل أَنْ يَخْلُق الْخَلْق وَبَعْد فَنَائِهِمْ , إِذْ لَا مُعَظِّم لَهُ حِينَئِذٍ .
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 256
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " الدِّين فِي هَذِهِ الْآيَة الْمُعْتَقَد وَالْمِلَّة بِقَرِينَةِ قَوْله : " قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " . وَالْإِكْرَاه الَّذِي فِي الْأَحْكَام مِنْ الْإِيمَان وَالْبُيُوع وَالْهِبَات وَغَيْرهَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه , وَإِنَّمَا يَجِيء فِي تَفْسِير قَوْله : " إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ " [ النَّحْل : 106 ] . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن " قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ , يُقَال : رَشَدَ يَرْشُد رُشْدًا , وَرَشِدَ يَرْشَد رَشَدًا : إِذَا بَلَغَ مَا يُحِبّ . وَغَوَى ضِدّه , عَنْ النَّحَّاس . وَحَكَى اِبْن عَطِيَّة عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ أَنَّهُ قَرَأَ " الرَّشَاد " بِالْأَلِفِ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن أَيْضًا " الرُّشُد " بِضَمِّ الرَّاء وَالشِّين . " الْغَيّ " مَصْدَر مِنْ غَوَى يَغْوِي إِذَا ضَلَّ فِي مُعْتَقَد أَوْ رَأْي , وَلَا يُقَال الْغَيّ فِي الضَّلَال عَلَى الْإِطْلَاق .

الثَّانِيَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة عَلَى سِتَّة أَقْوَال :

[ الْأَوَّل ] قِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَة ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَب عَلَى دِين الْإِسْلَام وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ , قَالَهُ سُلَيْمَان بْن مُوسَى , قَالَ : نَسَخَتْهَا " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " [ التَّوْبَة : 73 ] . وَرُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن مَسْعُود وَكَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ .

[ الثَّانِي ] لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة , وَأَنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَام إِذَا أَدَّوْا الْجِزْيَة , وَاَلَّذِينَ يُكْرَهُونَ أَهْل الْأَوْثَان فَلَا يُقْبَل مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَام فَهُمْ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " . هَذَا قَوْل الشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَالضَّحَّاك . وَالْحُجَّة لِهَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب يَقُول لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّة : أَسْلِمِي أَيَّتهَا الْعَجُوز تَسْلَمِي , إِنَّ اللَّه بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ . قَالَتْ : أَنَا عَجُوز كَبِيرَة وَالْمَوْت إِلَيَّ قَرِيب ! فَقَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ اِشْهَدْ , وَتَلَا " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " .

[ الثَّالِث ] مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ فِي الْأَنْصَار , كَانَتْ تَكُون الْمَرْأَة مِقْلَاتًا فَتَجْعَل عَلَى نَفْسهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَد أَنْ تُهَوِّدهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِير كَانَ فِيهِمْ كَثِير مِنْ أَبْنَاء الْأَنْصَار فَقَالُوا : لَا نَدَع أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَالْمِقْلَات الَّتِي لَا يَعِيش لَهَا وَلَد . فِي رِوَايَة : إِنَّمَا فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينهمْ أَفْضَل مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ , وَأَمَّا إِذَا جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ فَنُكْرِههُمْ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " مَنْ شَاءَ اِلْتَحَقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَام . وَهَذَا قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : كَانَ سَبَب كَوْنهمْ فِي بَنِي النَّضِير الِاسْتِرْضَاع . قَالَ النَّحَّاس : قَوْل اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة أَوْلَى الْأَقْوَال لِصِحَّةِ إِسْنَاده , وَأَنَّ مِثْله لَا يُؤْخَذ بِالرَّأْيِ .

[ الرَّابِع ] قَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ الْآيَة فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ أَبُو حُصَيْن كَانَ لَهُ اِبْنَانِ , فَقَدِمَ تُجَّار مِنْ الشَّام إِلَى الْمَدِينَة يَحْمِلُونَ الزَّيْت , فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوج أَتَاهُمْ اِبْنَا الْحُصَيْن فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَتَنَصَّرَا وَمَضَيَا مَعَهُمْ إِلَى الشَّام , فَأَتَى أَبُوهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَكِيًا أَمْرهمَا , وَرَغِبَ فِي أَنْ يَبْعَث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَرُدّهُمَا فَنَزَلَتْ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " وَلَمْ يُؤْمَر يَوْمئِذٍ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَ : ( أَبْعَدَهُمَا اللَّه هُمَا أَوَّل مَنْ كَفَرَ ) فَوَجَدَ أَبُو الْحُصَيْن فِي نَفْسه عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين لَمْ يَبْعَث فِي طَلَبهمَا فَأَنْزَلَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ " فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنهمْ " [ النِّسَاء : 65 ] الْآيَة ثُمَّ إِنَّهُ نَسَخَ " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " فَأُمِرَ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب فِي سُورَة [ بَرَاءَة ] . وَالصَّحِيح فِي سَبَب قَوْله تَعَالَى : " فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ " حَدِيث الزُّبَيْر مَعَ جَاره الْأَنْصَارِيّ فِي السَّقْي , عَلَى مَا يَأْتِي فِي [ النِّسَاء ] بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

[ وَقِيلَ ] مَعْنَاهَا لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ تَحْت السَّيْف مُجْبَرًا مُكْرَهًا , وَهُوَ الْقَوْل الْخَامِس .

[ وَقَوْل سَادِس ] وَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي السَّبْي مَتَى كَانُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمْ يُجْبَرُوا إِذَا كَانُوا كِبَارًا , وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا أَوْ وَثَنِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَام ; لِأَنَّ مَنْ سَبَاهُمْ لَا يَنْتَفِع بِهِمْ مَعَ كَوْنهمْ وَثَنِيِّينَ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهمْ وَلَا تُوطَأ نِسَاؤُهُمْ , وَيَدِينُونَ بِأَكْلِ الْمَيْتَة وَالنَّجَاسَات وَغَيْرهمَا , وَيَسْتَقْذِرهُمْ الْمَالِك لَهُمْ وَيَتَعَذَّر عَلَيْهِ الِانْتِفَاع بِهِمْ مِنْ جِهَة الْمِلْك فَجَازَ لَهُ الْإِجْبَار . وَنَحْو هَذَا رَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك . وَأَمَّا أَشْهَب فَإِنَّهُ قَالَ : هُمْ عَلَى دِين مَنْ سَبَاهُمْ , فَإِذَا اِمْتَنَعُوا أُجْبِرُوا عَلَى الْإِسْلَام , وَالصِّغَار لَا دِين لَهُمْ فَلِذَلِكَ أُجْبِرُوا عَلَى الدُّخُول فِي دِين الْإِسْلَام لِئَلَّا يَذْهَبُوا إِلَى دِين بَاطِل . فَأَمَّا سَائِر أَنْوَاع الْكُفْر مَتَى بَذَلُوا الْجِزْيَة لَمْ نُكْرِههُمْ عَلَى الْإِسْلَام سَوَاء كَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا قُرَيْشًا أَوْ غَيْرهمْ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْجِزْيَة وَمَنْ تُقْبَل مِنْهُ فِي [ بَرَاءَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .


" فَمَنْ يَكْفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ " جَزْم بِالشَّرْطِ . وَالطَّاغُوت مُؤَنَّثَة مِنْ طَغَى يَطْغَى . - وَحَكَى الطَّبَرِيّ يَطْغُو - إِذَا جَاوَزَ الْحَدّ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ . وَوَزْنه فَعَلُوت , وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اِسْم مُذَكَّر مُفْرَد كَأَنَّهُ اِسْم جِنْس يَقَع لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِير . وَمَذْهَب أَبِي عَلِيّ أَنَّهُ مَصْدَر كَرَهَبُوتٍ وَجَبَرُوت , وَهُوَ يُوصَف بِهِ الْوَاحِد وَالْجَمْع , وَقُلِبَتْ لَامه إِلَى مَوْضِع الْعَيْن وَعَيْنه مَوْضِع اللَّام كَجَبَذَ وَجَذَبَ , فَقُلِبَتْ الْوَاو أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَتَحَرُّك مَا قَبْلهَا فَقِيلَ طَاغُوت , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل النَّحَّاس . وَقِيلَ : أَصْل طَاغُوت فِي اللُّغَة مَأْخُوذَة مِنْ الطُّغْيَان يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْر اِشْتِقَاق , كَمَا قِيلَ : لَآلٍ مِنْ اللُّؤْلُؤ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : هُوَ جَمْع . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَلِكَ مَرْدُود . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالطَّاغُوت الْكَاهِن وَالشَّيْطَان وَكُلّه رَأْس فِي الضَّلَال , وَقَدْ يَكُون وَاحِدًا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ " [ النِّسَاء : 60 ] . وَقَدْ يَكُون جَمْعًا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوت " [ الْبَقَرَة 257 ] وَالْجَمْع الطَّوَاغِيت . " وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ " عَطْف . " فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " جَوَاب الشَّرْط , وَجَمْع الْوُثْقَى الْوُثْق مِثْل الْفُضْلَى وَالْفُضْل , فَالْوُثْقَى فُعْلَى مِنْ الْوَثَاقَة , وَهَذِهِ الْآيَة تَشْبِيه . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَة الْمُفَسِّرِينَ فِي الشَّيْء الْمُشَبَّه بِهِ , فَقَالَ مُجَاهِد : الْعُرْوَة الْإِيمَان . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْإِسْلَام . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالضَّحَّاك , لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَهَذِهِ عِبَارَات تَرْجِع إِلَى مَعْنًى وَاحِد . ثُمَّ قَالَ : " لَا اِنْفِصَام لَهَا " قَالَ مُجَاهِد : أَيْ لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ , أَيْ لَا يُزِيل عَنْهُمْ اِسْم الْإِيمَان حَتَّى يَكْفُرُوا . وَالِانْفِصَام : الِانْكِسَار مِنْ غَيْر بَيْنُونَة . وَالْقَصْم : كَسْر بِبَيْنُونَةٍ , وَفِي صَحِيح الْحَدِيث ( فَيَفْصِم عَنْهُ الْوَحْي وَإِنَّ جَبِينه لَيَتَفَصَّد عَرَقًا ) أَيْ يُقْلِع . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : فَصْم الشَّيْء كَسْره مِنْ غَيْر أَنْ يَبِين , تَقُول : فَصَمْته فَانْفَصَمَ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : لَا اِنْفِصَام لَهَا " وَتُفْصَم مِثْله , قَالَهُ ذُو الرُّمَّة يَذْكُر غَزَالًا يُشَبِّههُ بِدُمْلُجِ فِضَّة : كَأَنَّهُ دُمْلُج مِنْ فِضَّة نَبَه فِي مَلْعَب مِنْ جَوَارِي الْحَيّ مَفْصُوم وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَفْصُومًا لِتَثَنِّيه وَانْحِنَائِهِ إِذَا نَامَ . وَلَمْ يَقُلْ " مَقْصُوم " بِالْقَافِ فَيَكُون بَائِنًا بِاثْنَيْنِ . وَأفْصَمَ الْمَطَر : أَقْلَعَ . وَأَفْصَمَتْ عَنْهُ الْحُمَّى .



لَمَّا كَانَ الْكُفْر بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَان بِاَللَّهِ مِمَّا يَنْطِق بِهِ اللِّسَان وَيَعْتَقِدهُ الْقَلْب حَسُنَ فِي الصِّفَات " سَمِيع " مِنْ أَجْل النُّطْق " عَلِيم " مِنْ أَجْل الْمُعْتَقَد .
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة الآية رقم 257
" اللَّه وَلِيّ الَّذِينَ آمَنُوا " الْوَلِيّ فَعِيل بِمَعْنَى فَاعِل . قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْوَلِيّ النَّاصِر يَنْصُر عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " اللَّه وَلِيّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إِلَى النُّور " , وَقَالَ " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ " [ مُحَمَّد : 11 ] قَالَ قَتَادَة : الظُّلُمَات الضَّلَالَة , وَالنُّور الْهُدَى , وَبِمَعْنَاهُ قَالَ الضَّحَّاك وَالرَّبِيع . وَقَالَ مُجَاهِد وَعَبْدَة بْن أَبِي لُبَابَة : قَوْله " اللَّه وَلِيّ الَّذِينَ آمَنُوا " نَزَلَتْ فِي قَوْم آمَنُوا بِعِيسَى فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ , فَذَلِكَ إِخْرَاجهمْ مِنْ النُّور إِلَى الظُّلُمَات . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَكَانَ هَذَا الْمُعْتَقَد أَحْرَز نُورًا فِي الْمُعْتَقَد خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الظُّلُمَات , وَلَفْظ الْآيَة مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَا التَّخْصِيص , بَلْ هُوَ مُتَرَتِّب فِي كُلّ أُمَّة كَافِرَة آمَنَ بَعْضهَا كَالْعَرَبِ , وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَاَللَّه وَلِيّه أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلْمَة الْكُفْر إِلَى نُور الْإِيمَان , وَمَنْ كَفَرَ بَعْد وُجُود النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّاعِي الْمُرْسَل فَشَيْطَانه مُغْوِيه , كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْإِيمَان إِذْ هُوَ مَعَهُ مُعَدٌّ وَأَهْل لِلدُّخُولِ فِيهِ , وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالدُّخُولِ فِي النَّار لِكُفْرِهِمْ , عَدْلًا مِنْهُ , لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل . وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّوَاغِيت " يَعْنِي الشَّيَاطِين , وَاَللَّه أَعْلَم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 258
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ " هَذِهِ أَلِف التَّوْقِيف , وَفِي الْكَلَام مَعْنَى التَّعَجُّب , أَيْ اِعْجَبُوا لَهُ . وَقَالَ الْفَرَّاء : " أَلَمْ تَرَ " بِمَعْنَى هَلْ رَأَيْت , أَيْ هَلْ رَأَيْت الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيم , وَهَلْ رَأَيْت الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة , وَهُوَ النُّمْرُوذ بْن كوش بْن كَنْعَان بْن سَام بْن نُوح مَلِك زَمَانه وَصَاحِب النَّار وَالْبَعُوضَة هَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَالسُّدِّيّ وَابْن إِسْحَاق وَزَيْد بْن أَسْلَم وَغَيْرهمْ . وَكَانَ إِهْلَاكه لَمَّا قَصَدَ الْمُحَارَبَة مَعَ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ فَتَحَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ بَابًا مِنْ الْبَعُوض فَسَتَرُوا عَيْن الشَّمْس وَأَكَلُوا عَسْكَره وَلَمْ يَتْرُكُوا إِلَّا الْعِظَام , وَدَخَلَتْ وَاحِدَة مِنْهَا فِي دِمَاغه فَأَكَلَتْهُ حَتَّى صَارَتْ مِثْل الْفَأْرَة , فَكَانَ أَعَزّ النَّاس عِنْده بَعْد ذَلِكَ مَنْ يَضْرِب دِمَاغه بِمِطْرَقَةٍ عَتِيدَة لِذَلِكَ , فَبَقِيَ فِي الْبَلَاء أَرْبَعِينَ يَوْمًا . قَالَ اِبْن جُرَيْج : هُوَ أَوَّل مَلِك فِي الْأَرْض . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَرْدُود . وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ أَوَّل مَنْ تَجَبَّرَ وَهُوَ صَاحِب الصَّرْح بِبَابِل . وَقِيلَ : إِنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا , وَهُوَ أَحَد الْكَافِرِينَ , وَالْآخَر بُخْت نَصَّر . وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيم نُمْرُوذ بْن فالخ بْن عَابِر بْن شالخ بْن أرفخشد بْن سَام , حَكَى جَمِيعه اِبْن عَطِيَّة . وَحَكَى السُّهَيْلِيّ أَنَّهُ النُّمْرُوذ بْن كوش بْن كَنْعَان بْن حَام بْن نُوح وَكَانَ مَلِكًا عَلَى السَّوَاد وَكَانَ مَلَّكَهُ الضَّحَّاك الَّذِي يُعْرَف بالازدهاق وَاسْمه بيوراسب بْن أندراست وَكَانَ مَلِك الْأَقَالِيم كُلّهَا , وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ أفريدون بْن أثفيان , وَفِيهِ يَقُول حَبِيب : وَكَأَنَّهُ الضَّحَّاك مِنْ فَتَكَاتِه فِي الْعَالَمِينَ وَأَنْتَ أَفْرِيدُون وَكَانَ الضَّحَّاك طَاغِيًا جَبَّارًا وَدَامَ مُلْكه أَلْف عَام فِيمَا ذَكَرُوا . وَهُوَ أَوَّل مَنْ صَلَبَ وَأَوَّل مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل , وَلِلنُّمّرُوذ اِبْن لِصُلْبِهِ يُسَمَّى [ كوشا ] أَوْ نَحْو هَذَا الِاسْم , وَلَهُ اِبْن يُسَمَّى نُمْرُوذ الْأَصْغَر . وَكَانَ مُلْك نُمْرُوذ الْأَصْغَر عَامًا وَاحِدًا , وَكَانَ مُلْك نُمْرُوذ الْأَكْبَر أَرْبَعمِائَةِ عَام فِيمَا ذَكَرُوا . وَفِي قَصَص هَذِهِ الْمُحَاجَّة رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى عِيد لَهُمْ فَدَخَلَ إِبْرَاهِيم عَلَى أَصْنَامهمْ فَكَسَّرَهَا , فَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ لَهُمْ : أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ؟ فَقَالُوا : فَمَنْ تَعْبُد ؟ قَالَ : أَعْبُد رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ نُمْرُوذ كَانَ يَحْتَكِر الطَّعَام فَكَانُوا إِذَا اِحْتَاجُوا إِلَى الطَّعَام يَشْتَرُونَهُ مِنْهُ , فَإِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا لَهُ , فَدَخَلَ إِبْرَاهِيم فَلَمْ يَسْجُد لَهُ , فَقَالَ : مَا لَك لَا تَسْجُد لِي ! قَالَ : أَنَا لَا أَسْجُد إِلَّا لِرَبِّي . فَقَالَ لَهُ نُمْرُوذ : مَنْ رَبّك ؟ قَالَ إِبْرَاهِيم : رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت . وَذَكَرَ زَيْد بْن أَسْلَم أَنَّ النُّمْرُوذ هَذَا قَعَدَ يَأْمُر النَّاس بِالْمِيرَةِ , فَكُلَّمَا جَاءَ قَوْم يَقُول : مَنْ رَبّكُمْ وَإِلَهكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ أَنْتَ , فَيَقُول : مِيرُوهُمْ . وَجَاءَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يَمْتَار فَقَالَ لَهُ : مَنْ رَبّك وَإِلَهك ؟ قَالَ إِبْرَاهِيم : رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت , فَلَمَّا سَمِعَهَا نُمْرُوذ قَالَ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت , فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيم بِأَمْرِ الشَّمْس فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ , وَقَالَ لَا تَمِيرُوهُ , فَرَجَعَ إِبْرَاهِيم إِلَى أَهْله دُون شَيْء فَمَرَّ عَلَى كَثِيب رَمْل كَالدَّقِيقِ فَقَالَ فِي نَفْسه : لَوْ مَلَأْت غِرَارَتَيَّ مِنْ هَذَا فَإِذَا دَخَلْت بِهِ فَرِحَ الصِّبْيَان حَتَّى أَنْظُر لَهُمْ , فَذَهَبَ بِذَلِكَ فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِله فَرِحَ الصِّبْيَان وَجَعَلُوا يَلْعَبُونَ فَوْق الْغِرَارَتَيْنِ وَنَامَ هُوَ مِنْ الْإِعْيَاء , فَقَالَتْ اِمْرَأَته : لَوْ صَنَعْت لَهُ طَعَامًا يَجِدهُ حَاضِرًا إِذَا اِنْتَبَهَ , فَفَتَحَتْ إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ فَوَجَدَتْ أَحْسَن مَا يَكُون مِنْ الْحُوَّارَى فَخَبَزَتْهُ , فَلَمَّا قَامَ وَضَعَتْهُ بَيْن يَدَيْهِ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ هَذَا ؟ فَقَالَتْ : مِنْ الدَّقِيق الَّذِي سُقْت . فَعَلِمَ إِبْرَاهِيم أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَسَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ .

قُلْت : وَذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ أَبِي صَالِح قَالَ : اِنْطَلَقَ إِبْرَاهِيم النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام يَمْتَار فَلَمْ يَقْدِر عَلَى الطَّعَام , فَمَرَّ بِسِهْلَةٍ حَمْرَاء فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْله فَقَالُوا : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : حِنْطَة حَمْرَاء , فَفَتَحُوهَا فَوَجَدُوهَا حِنْطَة حَمْرَاء , قَالَ : وَكَانَ إِذَا زَرَعَ مِنْهَا شَيْئًا جَاءَ سُنْبُله مِنْ أَصْلهَا إِلَى فَرْعهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا . وَقَالَ الرَّبِيع وَغَيْره فِي هَذَا الْقَصَص : إِنَّ النُّمْرُوذ لَمَّا قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدهمَا وَأَرْسَلَ الْآخَر فَقَالَ : قَدْ أَحْيَيْت هَذَا وَأَمَتّ هَذَا , فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الشَّمْس بُهِتَ . وَرُوِيَ فِي الْخَبَر : أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى آتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِب لِيُعْلَم أَنِّي أَنَا الْقَادِر عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ أَمَرَ نُمْرُوذ بِإِبْرَاهِيم فَأُلْقِيَ فِي النَّار , وَهَكَذَا عَادَة الْجَبَابِرَة فَإِنَّهُمْ إِذَا عُورِضُوا بِشَيْءٍ وَعَجَزُوا عَنْ الْحُجَّة اِشْتَغَلُوا بِالْعُقُوبَةِ , فَأَنْجَاهُ اللَّه مِنْ النَّار , عَلَى مَا يَأْتِي . وَقَالَ السُّدِّيّ : إِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيم مِنْ النَّار أَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِك - وَلَمْ يَكُنْ قَبْل ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ - فَكَلَّمَهُ وَقَالَ لَهُ : مَنْ رَبّك ؟ فَقَالَ : رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت . قَالَ النُّمْرُوذ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت , وَأَنَا آخُذ أَرْبَعَة نَفَر فَأَدْخَلَهُمْ بَيْتًا وَلَا يُطْعَمُونَ شَيْئًا وَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى إِذَا جَاعُوا أَخْرَجْتهمْ فَأَطْعَمْت اِثْنَيْنِ فَحَيِيَا وَتَرَكْت اِثْنَيْنِ فَمَاتَا . فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيم بِالشَّمْسِ فَبُهِتَ . وَذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا وَصَفَ رَبّه تَعَالَى بِمَا هُوَ صِفَة لَهُ مِنْ الْإِحْيَاء وَالْإِمَاتَة لَكِنَّهُ أَمْر لَهُ حَقِيقَة وَمَجَاز , قَصَدَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْحَقِيقَة , وَفَزِعَ نُمْرُوذ إِلَى الْمَجَاز وَمَوَّهَ عَلَى قَوْمه , فَسَلَّمَ لَهُ إِبْرَاهِيم تَسْلِيم الْجَدَل وَانْتَقَلَ مَعَهُ مِنْ الْمِثَال وَجَاءَهُ بِأَمْرٍ لَا مَجَاز فِيهِ " فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ " أَيْ اِنْقَطَعَتْ حُجَّته وَلَمْ يُمْكِنهُ أَنْ يَقُول أَنَا الْآتِي بِهَا مِنْ الْمَشْرِق ; لِأَنَّ ذَوِي الْأَلْبَاب يُكَذِّبُونَهُ .

الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى جَوَاز تَسْمِيَة الْكَافِر مَلِكًا إِذَا آتَاهُ الْمُلْك وَالْعِزّ وَالرِّفْعَة فِي الدُّنْيَا , وَتَدُلّ عَلَى إِثْبَات الْمُنَاظَرَة وَالْمُجَادَلَة وَإِقَامَة الْحُجَّة . وَفِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة مِنْ هَذَا كَثِير لِمَنْ تَأَمَّلَهُ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " [ الْبَقَرَة : 111 ] . " إِنْ عِنْدكُمْ مِنْ سُلْطَان " [ يُونُس : 68 ] أَيْ مِنْ حُجَّة . وَقَدْ وَصَفَ خُصُومَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَوْمه وَرَدّه عَلَيْهِمْ فِي عِبَادَة الْأَوْثَان كَمَا فِي سُورَة [ الْأَنْبِيَاء ] وَغَيْرهَا . وَقَالَ فِي قِصَّة نُوح عَلَيْهِ السَّلَام : " قَالُوا يَا نُوح قَدْ جَادَلْتنَا فَأَكْثَرْت جِدَالنَا " [ هُود : 32 ] الْآيَات إِلَى قَوْله : " وَأَنَا بَرِيء مِمَّا تُجْرِمُونَ " [ هُود : 35 ] . وَكَذَلِكَ مُجَادَلَة مُوسَى مَعَ فِرْعَوْن إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآي . فَهُوَ كُلّه تَعْلِيم مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ السُّؤَال وَالْجَوَاب وَالْمُجَادَلَة فِي الدِّين ; لِأَنَّهُ لَا يَظْهَر الْفَرْق بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل إِلَّا بِظُهُورِ حُجَّة الْحَقّ وَدَحْض حُجَّة الْبَاطِل . وَجَادَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل الْكِتَاب وَبَاهَلَهُمْ بَعْد الْحُجَّة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ آل عِمْرَان ] . وَتَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى فَغَلَبَهُ آدَم بِالْحُجَّةِ . وَتَجَادَلَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم السَّقِيفَة وَتَدَافَعُوا وَتَقَرَّرُوا وَتَنَاظَرُوا حَتَّى صَدَرَ الْحَقّ فِي أَهْله , وَتَنَاظَرُوا بَعْد مُبَايَعَة أَبِي بَكْر فِي أَهْل الرِّدَّة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُر إِيرَاده . وَفِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم " [ آل عِمْرَان : 66 ] دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاج بِالْعِلْمِ مُبَاح شَائِع لِمَنْ تَدَبَّرَ . قَالَ الْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ : وَمِنْ حَقّ الْمُنَاظَرَة أَنْ يُرَاد بِهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يُقْبَل مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ . وَقَالُوا : لَا تَصِحّ الْمُنَاظَرَة وَيَظْهَر الْحَقّ بَيْن الْمُتَنَاظِرِينَ حَتَّى يَكُونُوا مُتَقَارِبِينَ أَوْ مُسْتَوِيِينَ فِي مَرْتَبَة وَاحِدَة مِنْ الدِّين وَالْعَقْل وَالْفَهْم وَالْإِنْصَاف , وَإِلَّا فَهُوَ مِرَاء وَمُكَابَرَة .

قِرَاءَات - قَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب " أَلَمْ تَرْ " بِجَزْمِ الرَّاء , وَالْجُمْهُور بِتَحْرِيكِهَا , وَحُذِفَتْ الْيَاء لِلْجَزْمِ . " أَنْ آتَاهُ اللَّه الْمُلْك " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ لِأَنْ آتَاهُ اللَّه , أَوْ مِنْ أَجْل أَنْ آتَاهُ اللَّه . وَقَرَأَ جُمْهُور الْقُرَّاء " أَنَ أُحْيِي " بِطَرْحِ الْأَلِف الَّتِي بَعْد النُّون مِنْ " أَنَا " فِي الْوَصْل , وَأَثْبَتَهَا نَافِع وَابْن أَبِي أُوَيْس , إِذَا لَقِيَتْهَا هَمْزَة فِي كُلّ الْقُرْآن إِلَّا فِي قَوْله تَعَالَى : " إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِير " [ الْأَعْرَاف : 188 ] فَإِنَّهُ يَطْرَحهَا فِي هَذَا الْمَوْضِع مِثْل سَائِر الْقُرَّاء لِقِلَّةِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ لَمْ يَقَع مِنْهُ فِي الْقُرْآن إِلَّا ثَلَاثَة مَوَاضِع أَجْرَاهَا مَجْرَى مَا لَيْسَ بَعْده هَمْزَة لِقِلَّتِهِ فَحُذِفَ الْأَلِف فِي الْوَصْل . قَالَ النَّحْوِيُّونَ : ضَمِير الْمُتَكَلِّم الِاسْم فِيهِ الْهَمْزَة وَالنُّون , فَإِذَا قُلْت : أَنَا أَوْ أَنَّهُ فَالْأَلِف وَالْهَاء لِبَيَانِ الْحَرَكَة فِي الْوَقْف , فَإِذَا اِتَّصَلَتْ الْكَلِمَة بِشَيْءٍ سَقَطَتَا ; لِأَنَّ الشَّيْء الَّذِي تَتَّصِل بِهِ الْكَلِمَة يَقُوم مَقَام الْأَلِف , فَلَا يُقَال : أَنَا فَعَلْت بِإِثْبَاتِ الْأَلِف إِلَّا شَاذًّا فِي الشِّعْر كَمَا قَالَ الشَّاعِر : أَنَا سَيْف الْعَشِيرَة فَاعْرِفُونِي حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْت السَّنَامَا قَالَ النَّحَّاس : عَلَى أَنَّ نَافِعًا قَدْ أَثْبَتَ الْأَلِف فَقَرَأَ " أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت " وَلَا وَجْه لَهُ . قَالَ مَكِّيّ : وَالْأَلِف زَائِدَة عِنْد الْبَصْرِيِّينَ , وَالِاسْم الْمُضْمَر عِنْدهمْ الْهَمْزَة وَالنُّون وَزِيدَتْ الْأَلِف لِلتَّقْوِيَةِ . وَقِيلَ : زِيدَتْ لِلْوَقْفِ لِتَظْهَر حَرَكَة النُّون . وَالِاسْم عِنْد الْكُوفِيِّينَ " أَنَا " بِكَمَالِهِ , فَنَافِع فِي إِثْبَات الْأَلِف عَلَى قَوْلهمْ عَلَى الْأَصْل , وَإِنَّمَا حَذَفَ الْأَلِف مَنْ حَذَفَهَا تَخْفِيفًا ; وَلِأَنَّ الْفَتْحَة تَدُلّ عَلَيْهَا . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَأَمَّا قَوْلهمْ " أَنَا " فَهُوَ اِسْم مَكْنِيّ وَهُوَ لِلْمُتَكَلِّمِ وَحْده , وَإِنَّمَا بُنِيَ عَلَى الْفَتْح فَرْقًا بَيْنه وَبَيْن " أَنْ " الَّتِي هِيَ حَرْف نَاصِب لِلْفِعْلِ , وَالْأَلِف الْأَخِيرَة إِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ الْحَرَكَة فِي الْوَقْف , فَإِنْ تَوَسَّطَتْ الْكَلَام سَقَطَتْ إِلَّا فِي لُغَة رَدِيئَة , كَمَا قَالَ : أَنَا سَيْف الْعَشِيرَة فَاعْرِفُونِي حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْت السَّنَامَا وَبَهُتَ الرَّجُل وَبَهِتَ وَبُهِتَ إِذَا اِنْقَطَعَ وَسَكَتَ مُتَحَيِّرًا , عَنْ النَّحَّاس وَغَيْره . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : وَحُكِيَ عَنْ بَعْض الْعَرَب فِي هَذَا الْمَعْنَى " بَهَتَ " بِفَتْحِ الْبَاء وَالْهَاء . قَالَ اِبْن جِنِّيّ قَرَأَ أَبُو حَيْوَة : " فَبَهُتَ الَّذِي كَفَرَ " بِفَتْحِ الْبَاء وَضَمّ الْهَاء , وَهِيَ لُغَة فِي " بُهِتَ " بِكَسْرِ الْهَاء . قَالَ : وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " فَبَهَتَ " بِفَتْحِ الْبَاء وَالْهَاء عَلَى مَعْنَى فَبَهَتَ إِبْرَاهِيم الَّذِي كَفَرَ , فَاَلَّذِي فِي مَوْضِع نَصْب . قَالَ : وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون بَهَتَ بِفَتْحِهَا لُغَة فِي بَهُتَ . قَالَ : وَحَكَى أَبُو الْحَسَن الْأَخْفَش قِرَاءَة " فَبَهِتَ " بِكَسْرِ الْهَاء كَغَرِقَ وَدَهِشَ . قَالَ : وَالْأَكْثَرُونَ بِالضَّمِّ فِي الْهَاء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْم فِي قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " فَبَهَتَ " بِفَتْحِهَا أَنَّهُ بِمَعْنَى سَبَّ وَقَذَفَ , وَأَنَّ نُمْرُوذ هُوَ الَّذِي سَبَّ حِين اِنْقَطَعَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ حِيلَة .
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 259
" أَوْ " لِلْعَطْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى وَالتَّقْدِير عِنْد الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : هَلْ رَأَيْت كَاَلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيم فِي رَبّه , أَوْ كَاَلَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة . وَقَالَ الْمُبَرِّد : الْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيم فِي رَبّه , أَلَمْ تَرَ مَنْ هُوَ ! كَاَلَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة . فَأُضْمِرَ فِي الْكَلَام مَنْ هُوَ . وَقَرَأَ أَبُو سُفْيَان بْن حُسَيْن " أَوَكَاَلَّذِي مَرَّ " بِفَتْحِ الْوَاو , وَهِيَ وَاو الْعَطْف دَخَلَ عَلَيْهَا أَلِف الِاسْتِفْهَام الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْرِير . وَسُمِّيَتْ الْقَرْيَة قَرْيَة لِاجْتِمَاعِ النَّاس فِيهَا , مِنْ قَوْلهمْ : قَرَيْت الْمَاء أَيْ جَمَعْته , وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ سُلَيْمَان بْن بُرَيْدَة وَنَاجِيَة بْن كَعْب وَقَتَادَة وَابْن عَبَّاس وَالرَّبِيع وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك : الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَة هُوَ عُزَيْر . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه وَعَبْد اللَّه بْن عُبَيْد بْن عُمَيْر وَعَبْد اللَّه بْن بَكْر بْن مُضَر : هُوَ إرمياء وَكَانَ نَبِيًّا . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : إرمياء هُوَ الْخَضِر , وَحَكَاهُ النَّقَّاش عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ , إِلَّا أَنْ يَكُون اِسْمًا وَافَقَ اِسْمًا ; لِأَنَّ الْخَضِر مُعَاصِر لِمُوسَى , وَهَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَة هُوَ بَعْده بِزَمَانٍ مِنْ سِبْط هَارُون فِيمَا رَوَاهُ وَهْب بْن مُنَبِّه .

قُلْت : إِنْ كَانَ الْخَضِر هُوَ إرمياء فَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون هُوَ ; لِأَنَّ الْخَضِر لَمْ يَزَلْ حَيًّا مِنْ وَقْت مُوسَى حَتَّى الْآن عَلَى الصَّحِيح فِي ذَلِكَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " الْكَهْف " . وَإِنْ كَانَ مَاتَ قَبْل هَذِهِ الْقِصَّة فَقَوْل اِبْن عَطِيَّة صَحِيح , وَاَللَّه أَعْلَم . وَحَكَى النَّحَّاس وَمَكِّيّ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ رَجُل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل غَيْر مُسَمًّى . قَالَ النَّقَّاش : وَيُقَال هُوَ غُلَام لُوط عَلَيْهِ السَّلَام . وَحَكَى السُّهَيْلِيّ عَنْ الْقُتَبِيّ هُوَ شَعْيَا فِي أَحَد قَوْلَيْهِ . وَاَلَّذِي أَحْيَاهَا بَعْد خَرَابهَا كوشك الْفَارِسِيّ . وَالْقَرْيَة الْمَذْكُورَة هِيَ بَيْت الْمَقْدِس فِي قَوْل وَهْب بْن مُنَبِّه وَقَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَغَيْرهمْ . قَالَ : وَكَانَ مُقْبِلًا مِنْ مِصْر وَطَعَامه وَشَرَابه الْمَذْكُور تِين أَخْضَر وَعِنَب وَرَكْوَة مِنْ خَمْر . وَقِيلَ مِنْ عَصِير . وَقِيلَ : قُلَّةُ مَاء هِيَ شَرَابه . وَاَلَّذِي أَخْلَى بَيْت الْمَقْدِس حِينَئِذٍ بُخْت نَصَّر وَكَانَ وَالِيًا عَلَى الْعِرَاق لِلْهَرَاسِب ثُمَّ ليستاسب بن لهراسب وَالِد اسبندياد . وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ قَوْمًا قَالُوا : هِيَ الْمُؤْتَفِكَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح : إِنَّ بُخْت نَصَّر غَزَا بَنِي إِسْرَائِيل فَسَبَى مِنْهُمْ أُنَاسًا كَثِيرَة فَجَاءَ بِهِمْ وَفِيهِمْ عُزَيْر بْن شرخيا وَكَانَ مِنْ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيل فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى بَابِل , فَخَرَجَ ذَات يَوْم فِي حَاجَة لَهُ إِلَى دَيْر هزقل عَلَى شَاطِئ الدِّجْلَة . فَنَزَلَ تَحْت ظِلّ شَجَرَة وَهُوَ عَلَى حِمَار لَهُ , فَرَبَطَ الْحِمَار تَحْت ظِلّ الشَّجَرَة ثُمَّ طَافَ بِالْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ بِهَا سَاكِنًا وَهِيَ خَاوِيَة عَلَى عُرُوشهَا فَقَالَ : أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّه بَعْد مَوْتهَا . وَقِيلَ : إِنَّهَا الْقَرْيَة الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْأُلُوف حَذَر الْمَوْت , قَالَهُ اِبْن زَيْد . وَعَنْ اِبْن زَيْد أَيْضًا أَنَّ الْقَوْم الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ وَهُمْ أُلُوف حَذَر الْمَوْت فَقَالَ لَهُمْ اللَّه مُوتُوا , مَرَّ رَجُل عَلَيْهِمْ وَهُمْ عِظَام نَخِرَة تَلُوح فَوَقَفَ يَنْظُر فَقَالَ : أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّه بَعْد مَوْتهَا فَأَمَاتَهُ اللَّه مِائَة عَام . قَالَ : اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الْقَوْل مِنْ اِبْن زَيْد مُنَاقِض لِأَلْفَاظِ الْآيَة , إِذْ الْآيَة إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ قَرْيَة خَاوِيَة لَا أَنِيس فِيهَا , وَالْإِشَارَة ب " هَذِهِ " إِنَّمَا هِيَ إِلَى الْقَرْيَة . وَإِحْيَاؤُهَا إِنَّمَا هُوَ بِالْعِمَارَةِ وَوُجُود الْبِنَاء وَالسُّكَّان . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالرَّبِيع وَعِكْرِمَة : الْقَرْيَة بَيْت الْمَقْدِس لَمَّا خَرَّبَهَا بُخْت نَصَّر الْبَابِلِيّ . وَفِي الْحَدِيث الطَّوِيل حِين أَحْدَثَتْ بَنُو إِسْرَائِيل الْأَحْدَاث وَقَفَ إرمياء أَوْ عُزَيْر عَلَى الْقَرْيَة وَهِيَ كَالتَّلِّ الْعَظِيم وَسَط بَيْت الْمَقْدِس ; لِأَنَّ بُخْت نَصَّر أَمَرَ جُنْده بِنَقْلِ التُّرَاب إِلَيْهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْجَبَلِ , وَرَأَى إرمياء الْبُيُوت قَدْ سَقَطَتْ حِيطَانهَا عَلَى سُقُفهَا فَقَالَ : أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّه بَعْد مَوْتهَا .

وَالْعَرِيش : سَقْف الْبَيْت . وَكُلّ مَا يُتَهَيَّأ لِيُظِلّ أَوْ يُكِنّ فَهُوَ عَرِيش , وَمِنْهُ عَرِيش الدَّالِيَة , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَمِمَّا يَعْرِشُونَ " [ النَّحْل : 68 ] . قَالَ السُّدِّيّ : يَقُول هِيَ سَاقِطَة عَلَى سُقُفهَا , أَيْ سَقَطَتْ السُّقُف ثُمَّ سَقَطَتْ الْحِيطَان عَلَيْهَا , وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ . وَقَالَ غَيْر السُّدِّيّ : مَعْنَاهُ خَاوِيَة مِنْ النَّاس وَالْبُيُوت قَائِمَة , وَخَاوِيَة مَعْنَاهَا خَالِيَة , وَأَصْل الْخَوَاء الْخُلُوّ , يُقَال : خَوَتْ الدَّار وَخَوِيَتْ تَخْوَى خَوَاء ( مَمْدُود ) وَخُوِيًّا : أَقْوَتْ , وَكَذَلِكَ إِذَا سَقَطَتْ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَتِلْكَ بُيُوتهمْ خَاوِيَة بِمَا ظَلَمُوا " [ النَّمْل : 52 ] أَيْ خَالِيَة , وَيُقَال سَاقِطَة , كَمَا يُقَال : " فَهِيَ خَاوِيَة عَلَى عُرُوشهَا " أَيْ سَاقِطَة عَلَى سُقُفهَا . وَالْخَوَاء الْجُوع لِخُلُوِّ الْبَطْن مِنْ الْغِذَاء . وَخَوَتْ الْمَرْأَة وَخَوِيَتْ أَيْضًا خَوًى أَيْ خَلَا جَوْفهَا عِنْد الْوِلَادَة . وَخَوَّيْت لَهَا تَخْوِيَة إِذَا عَمِلْت لَهَا خَوِيَّة تَأْكُلهَا وَهِيَ طَعَام . وَالْخَوِيّ الْبَطْن السَّهْل مِنْ الْأَرْض عَلَى فَعِيل . وَخَوَّى الْبَعِير إِذَا جَافَى بَطْنه عَنْ الْأَرْض فِي بُرُوكه , وَكَذَلِكَ الرَّجُل فِي سُجُوده .


مَعْنَاهُ مِنْ أَيّ طَرِيق وَبِأَيِّ سَبَب , وَظَاهِر اللَّفْظ السُّؤَال عَنْ إِحْيَاء الْقَرْيَة بِعِمَارَةٍ وَسُكَّان , كَمَا يُقَال الْآن فِي الْمُدُن الْخَرِبَة الَّتِي يَبْعُد أَنْ تُعَمَّر وَتُسْكَن : أَنَّى تُعَمَّر هَذِهِ بَعْد خَرَابهَا . فَكَأَنَّ هَذَا تَلَهُّف مِنْ الْوَاقِف الْمُعْتَبِر عَلَى مَدِينَته الَّتِي عَهِدَ فِيهَا أَهْله وَأَحِبَّته . وَضُرِبَ لَهُ الْمَثَل فِي نَفْسه بِمَا هُوَ أَعْظَم مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ , وَالْمِثَال الَّذِي ضُرِبَ لَهُ فِي نَفْسه يُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَلَى أَنَّ سُؤَاله إِنَّمَا كَانَ عَلَى إِحْيَاء الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَم , أَيْ أَنَّى يُحْيِي اللَّه مَوْتَاهَا . وَقَدْ حَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ هَذَا الْقَوْل شَكًّا فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى عَلَى الْإِحْيَاء , فَلِذَلِكَ ضُرِبَ لَهُ الْمَثَل فِي نَفْسه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَيْسَ يَدْخُل شَكّ فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى عَلَى إِحْيَاء قَرْيَة بِجَلْبِ الْعِمَارَة إِلَيْهَا وَإِنَّمَا يُتَصَوَّر الشَّكّ مِنْ جَاهِل فِي الْوَجْه الْآخَر , وَالصَّوَاب أَلَّا يَتَأَوَّل فِي الْآيَة شَكّ .



" مِائَة " نُصِبَ عَلَى الظَّرْف . وَالْعَام : السَّنَة , يُقَال : سِنُونَ عُوَّم وَهُوَ تَأْكِيد لِلْأَوَّلِ , كَمَا يُقَال : بَيْنهمْ شُغْل شَاغِل . وَقَالَ الْعَجَّاج : مِنْ مُرّ أَعْوَام السِّنِينَ الْعُوَّم وَهُوَ فِي التَّقْدِير جَمْع عَائِم , إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفْرَد بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَوْكِيد , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . وَقَالَ النَّقَّاش : الْعَام مَصْدَر كَالْعَوْمِ , سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْر مِنْ الزَّمَان لِأَنَّهَا عَوْمَة مِنْ الشَّمْس فِي الْفَلَك . وَالْعَوْم كَالسَّبْحِ , وَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " كُلّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 33 ] . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذَا بِمَعْنَى قَوْل النَّقَّاش , وَالْعَام عَلَى هَذَا كَالْقَوْلِ وَالْقَال , وَظَاهِر هَذِهِ الْإِمَاتَة أَنَّهَا بِإِخْرَاجِ الرُّوح مِنْ الْجَسَد . وَرُوِيَ فِي قَصَص هَذِهِ الْآيَة أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَ لَهَا مَلِكًا مِنْ الْمُلُوك يُعَمِّرهَا وَيَجِدّ فِي ذَلِكَ حَتَّى كَانَ كَمَال عِمَارَتهَا عِنْد بَعْث الْقَائِل . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ لَمَّا مَضَى لِمَوْتِهِ سَبْعُونَ سَنَة أَرْسَلَ اللَّه مَلِكًا مِنْ مُلُوك فَارِس عَظِيمًا يُقَال لَهُ " كوشك " فَعَمَّرَهَا فِي ثَلَاثِينَ سَنَة .



مَعْنَاهُ أَحْيَاهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهِ .


اُخْتُلِفَ فِي الْقَائِل لَهُ " كَمْ لَبِثْت " , فَقِيلَ . اللَّه جَلَّ وَعَزَّ , وَلَمْ يَقُلْ لَهُ إِنْ كُنْت صَادِقًا كَمَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : سَمِعَ هَاتِفًا مِنْ السَّمَاء يَقُول لَهُ ذَلِكَ . وَقِيلَ : خَاطَبَهُ جِبْرِيل . وَقِيلَ : نَبِيّ . وَقِيلَ : رَجُل مُؤْمِن مِمَّنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَوْمه عِنْد مَوْته وَعُمِّرَ إِلَى حِين إِحْيَائِهِ فَقَالَ لَهُ : كَمْ لَبِثْت .

قُلْت : وَالْأَظْهَر أَنَّ الْقَائِل هُوَ اللَّه تَعَالَى , لِقَوْلِهِ : " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَام كَيْف نُنْشِزهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا " وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَرَأَ أَهْل الْكُوفَة " كَمْ لَبِتَّ " بِإِدْغَامِ الثَّاء فِي التَّاء لِقُرْبِهَا مِنْهَا فِي الْمَخْرَج . فَإِنَّ مَخْرَجهمَا مِنْ طَرَف اللِّسَان وَأُصُول الثَّنَايَا وَفِي أَنَّهُمَا مَهْمُوسَتَانِ . قَالَ النَّحَّاس : وَالْإِظْهَار أَحْسَن لِتَبَايُنِ مَخْرَج الثَّاء مِنْ مَخْرَج التَّاء . وَيُقَال : كَانَ هَذَا السُّؤَال بِوَاسِطَةِ الْمَلِك عَلَى جِهَة التَّقْرِير . و " كَمْ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الظَّرْف .


" قَالَ لَبِثْت يَوْمًا أَوْ بَعْض يَوْم " إِنَّمَا قَالَ هَذَا عَلَى مَا عِنْده وَفِي ظَنّه , وَعَلَى هَذَا لَا يَكُون كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ , وَمِثْله قَوْل أَصْحَاب الْكَهْف " قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْض يَوْم " [ الْكَهْف : 19 ] وَإِنَّمَا لَبِثُوا ثَلَاثمِائَةِ سَنَة وَتِسْع سِنِينَ - عَلَى مَا يَأْتِي - وَلَمْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَمَّا عِنْدهمْ , كَأَنَّهُمْ قَالُوا : الَّذِي عِنْدنَا وَفِي ظُنُوننَا أَنَّنَا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْض يَوْم . وَنَظِيره قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّة ذِي الْيَدَيْنِ : ( لَمْ أُقَصِّر وَلَمْ أَنْسَ ) . وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول : إِنَّهُ كَذِب عَلَى مَعْنَى وُجُود حَقِيقَة الْكَذِب فِيهِ وَلَكِنَّهُ لَا مُؤَاخَذَة بِهِ , وَإِلَّا فَالْكَذِب الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء عَلَى خِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِف بِالْعِلْمِ وَالْجَهْل , وَهَذَا بَيِّن فِي نَظَر الْأُصُول . فَعَلَى هَذَا يَجُوز أَنْ يُقَال : إِنَّ الْأَنْبِيَاء لَا يُعْصَمُونَ عَنْ الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء عَلَى خِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ قَصْد , كَمَا لَا يُعْصَمُون عَنْ السَّهْو وَالنِّسْيَان . فَهَذَا مَا يَتَعَلَّق بِهَذِهِ الْآيَة , وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ . قَالَ اِبْن جُرَيْج وَقَتَادَة وَالرَّبِيع : أَمَاتَهُ اللَّه غَدْوَة يَوْم ثُمَّ بُعِثَ قَبْل الْغُرُوب فَظَنَّ هَذَا الْيَوْم وَاحِدًا فَقَالَ : لَبِثَتْ يَوْمًا , ثُمَّ رَأَى بَقِيَّة مِنْ الشَّمْس فَخَشِيَ أَنْ يَكُون كَاذِبًا فَقَالَ : أَوْ بَعْض يَوْم . فَقِيلَ : بَلْ لَبِثْت مِائَة عَام , وَرَأَى مِنْ عِمَارَة الْقَرْيَة وَأَشْجَارهَا وَمَبَانِيهَا مَا دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ .



وَهُوَ التِّين الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ أَشْجَار الْقَرْيَة الَّتِي مَرَّ عَلَيْهَا .



قَرَأَ اِبْن مَسْعُود " وَهَذَا طَعَامك وَشَرَابك لَمْ يَتَسَنَّه " . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف غَيْره " وَانْظُرْ لِطَعَامِك وَشَرَابك لِمِائَةِ سَنَة " . وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِإِثْبَاتِ الْهَاء فِي الْوَصْل إِلَّا الْأَخَوَانِ فَإِنَّهُمَا يَحْذِفَانِهَا , وَلَا خِلَاف أَنَّ الْوَقْف عَلَيْهَا بِالْهَاءِ . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف أَيْضًا " لَمْ يَسَّنَّ " " وَانْظُرْ " أُدْغِمَ التَّاء فِي السِّين , فَعَلَى قِرَاءَة الْجُمْهُور الْهَاء أَصْلِيَّة , وَحُذِفَتْ الضَّمَّة لِلْجَزْمِ , وَيَكُون " يَتَسَنَّه " مِنْ السَّنَة أَيْ لَمْ تُغَيِّرهُ السِّنُون . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَيُقَال سِنُونَ , وَالسَّنَة وَاحِدَة السِّنِينَ , وَفِي نُقْصَانهَا قَوْلَانِ : أَحَدهمَا الْوَاو , وَالْآخَر الْهَاء . وَأَصْلهَا سَنْهَة مِثْل الْجَبْهَة ; لِأَنَّهُ مِنْ سَنِهَتْ النَّخْلَة وَتَسَنَّهَتْ إِذَا أَتَتْ عَلَيْهَا السِّنُون . وَنَخْلَة سَنَّاء أَيْ تَحْمِل سَنَة وَلَا تَحْمِل أُخْرَى , وَسَنْهَاء أَيْضًا , قَالَ بَعْض الْأَنْصَار : فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاء وَلَا رُجَبِيَّة وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِح وَأَسْنَهْتُ عِنْد بَنِي فُلَان أَقَمْت عِنْدهمْ , وَتَسَنَّيْتُ أَيْضًا . وَاسْتَأْجَرْته مُسَانَاة وَمُسَانَهَة أَيْضًا . وَفِي التَّصْغِير سُنَيَّة وَسُنَيْهَة . قَالَ النَّحَّاس : مَنْ قَرَأَ " لَمْ يَتَسَنَّ " و " اُنْظُرْ " قَالَ فِي التَّصْغِير : سُنَيَّة وَحُذِفَتْ الْأَلِف لِلْجَزْمِ , وَيَقِف عَلَى الْهَاء فَيَقُول : " لَمْ يَتَسَنَّه " تَكُون الْهَاء لِبَيَانِ الْحَرَكَة . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون أَصْله مِنْ سَانَيْتُهُ مُسَانَاة , أَيْ عَامَلْته سَنَة بَعْد سَنَة , أَوْ مِنْ سَانَهْت بِالْهَاءِ , فَإِنْ كَانَ مِنْ سَانَيْت فَأَصْله يَتَسَنَّى فَسَقَطَتْ الْأَلِف لِلْجَزْمِ , وَأَصْله مِنْ الْوَاو بِدَلِيلِ قَوْلهمْ سَنَوَات وَالْهَاء فِيهِ لِلسَّكْتِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ سَانَهْت فَالْهَاء لَام الْفِعْل , وَأَصْل سَنَة عَلَى هَذَا سَنْهَة . وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل سَنَوَة . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ أَسِنَ الْمَاء إِذَا تَغَيَّرَ , وَكَانَ يَجِب أَنْ يَكُون عَلَى هَذَا يَتَأَسَّن . أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ : هُوَ مِنْ قَوْله " حَمَإ مَسْنُون " [ الْحِجْر : 26 ] فَالْمَعْنَى لَمْ يَتَغَيَّر . الزَّجَّاج , لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ قَوْله " مَسْنُون " لَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَغَيِّر وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَصْبُوب عَلَى سُنَّة الْأَرْض . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَأَصْله عَلَى قَوْل الشَّيْبَانِيّ " يَتَسَنَّ " فَأُبْدِلَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ يَاء كَرَاهَة التَّضْعِيف فَصَارَ يَتَسَنَّى , ثُمَّ سَقَطَتْ الْأَلِف لِلْجَزْمِ وَدَخَلَتْ الْهَاء لِلسَّكْتِ . وَقَالَ مُجَاهِد : " لَمْ يَتَسَنَّه " لَمْ يُنْتِن . قَالَ النَّحَّاس : أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ مِنْ السَّنَة , أَيْ لَمْ تُغَيِّرهُ السِّنُون . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون مِنْ السَّنَة وَهِيَ الْجَدْب , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ أَخَذْنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ " [ الْأَعْرَاف : 130 ] وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ( اللَّهُمَّ اِجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف ) . يُقَال مِنْهُ : أَسَنَتْ الْقَوْم أَيْ أَجْدَبُوا , فَيَكُون الْمَعْنَى لَمْ يُغَيِّر طَعَامك الْقُحُوط وَالْجُدُوب , أَوْ لَمْ تُغَيِّرهُ السِّنُون وَالْأَعْوَام , أَيْ هُوَ بَاقٍ عَلَى طَرَاوَته وَغَضَارَته .



قَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه وَغَيْره : وَانْظُرْ إِلَى اِتِّصَال عِظَامه وَإِحْيَائِهِ جُزْءًا جُزْءًا . وَيُرْوَى أَنَّهُ أَحْيَاهُ اللَّه كَذَلِكَ حَتَّى صَارَ عِظَامًا مُلْتَئِمَة , ثُمَّ كَسَاهُ لَحْمًا حَتَّى كَمُلَ حِمَارًا , ثُمَّ جَاءَهُ مَلَك فَنَفَخَ فِيهِ الرُّوح فَقَامَ الْحِمَار يَنْهَق , عَلَى هَذَا أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاك وَوَهْب بْن مُنَبِّه أَيْضًا أَنَّهُمَا قَالَا : بَلْ قِيلَ لَهُ : وَانْظُرْ إِلَى حِمَارك قَائِمًا فِي مِرْبَطه لَمْ يُصِبْهُ شَيْء مِائَة عَام , وَإِنَّمَا الْعِظَام الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهَا عِظَام نَفْسه بَعْد أَنْ أَحْيَا اللَّه مِنْهُ عَيْنَيْهِ وَرَأْسه , وَسَائِر جَسَده مَيِّت , قَالَا : وَأَعْمَى اللَّه الْعُيُون عَنْ إرمياء وَحِمَاره طُول هَذِهِ الْمُدَّة .



قَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاو فِي قَوْله " وَلِنَجْعَلك " دَلَالَة عَلَى أَنَّهَا شَرْط لِفِعْلٍ بَعْده , مَعْنَاهُ " وَلِنَجْعَلك آيَة لِلنَّاسِ " وَدَلَالَة عَلَى الْبَعْث بَعْد الْمَوْت جَعَلْنَا ذَلِكَ . وَإِنْ شِئْت جَعَلْت الْوَاو مُقْحَمَة زَائِدَة . وَقَالَ الْأَعْمَش : مَوْضِع كَوْنه آيَة هُوَ أَنَّهُ جَاءَ شَابًّا عَلَى حَاله يَوْم مَاتَ , فَوَجَدَ الْأَبْنَاء وَالْحَفَدَة شُيُوخًا . عِكْرِمَة : وَكَانَ يَوْم مَاتَ اِبْن أَرْبَعِينَ سَنَة . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِ أَنَّ عُزَيْرًا خَرَجَ مِنْ أَهْله وَخَلَّفَ اِمْرَأَته حَامِلًا , وَلَهُ خَمْسُونَ سَنَة فَأَمَاتَهُ اللَّه مِائَة عَام , ثُمَّ بَعَثَهُ فَرَجَعَ إِلَى أَهْله وَهُوَ اِبْن خَمْسِينَ سَنَة وَلَهُ وَلَد مِنْ مِائَة سَنَة فَكَانَ اِبْنه أَكْبَر مِنْهُ بِخَمْسِينَ سَنَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا أَحْيَا اللَّه عُزَيْرًا رَكِبَ حِمَاره فَأَتَى مَحَلَّته فَأَنْكَرَ النَّاس وَأَنْكَرُوهُ , فَوَجَدَ فِي مَنْزِله عَجُوزًا عَمْيَاء كَانَتْ أَمَة لَهُمْ , خَرَجَ عَنْهُمْ عُزَيْر وَهِيَ بِنْت عِشْرِينَ سَنَة , فَقَالَ لَهَا : أَهَذَا مَنْزِل عُزَيْر ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ ! ثُمَّ بَكَتْ وَقَالَتْ : فَارَقَنَا عُزَيْر مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَة قَالَ : فَأَنَا عُزَيْر , قَالَتْ : إِنَّ عُزَيْرًا فَقَدْنَاهُ مُنْذُ مِائَة سَنَة . قَالَ : فَاَللَّه أَمَاتَنِي مِائَة سَنَة ثُمَّ بَعَثَنِي . قَالَتْ : فَعُزَيْر كَانَ مُسْتَجَاب الدَّعْوَة لِلْمَرِيضِ وَصَاحِب الْبَلَاء فَيُفِيق , فَادْعُ اللَّه يَرُدّ عَلَيَّ بَصَرِي , فَدَعَا اللَّه وَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهَا بِيَدِهِ فَصَحَّتْ مَكَانهَا كَأَنَّهَا أُنْشِطَتْ مِنْ عِقَال . قَالَتْ : أَشْهَد أَنَّك عُزَيْر ثُمَّ اِنْطَلَقَتْ إِلَى مَلَإِ بَنِي إِسْرَائِيل وَفِيهِمْ اِبْن لِعُزَيْرٍ شَيْخ اِبْن مِائَة وَثَمَان وَعِشْرِينَ سَنَة , وَبَنُو بَنِيهِ شُيُوخ , فَقَالَتْ : يَا قَوْم , هَذَا وَاَللَّه عُزَيْر فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ اِبْنه مَعَ النَّاس فَقَالَ اِبْنه : كَانَتْ لِأَبِي شَامَة سَوْدَاء مِثْل الْهِلَال بَيْن كَتِفَيْهِ , فَنَظَرَهَا فَإِذَا هُوَ عُزَيْر . وَقِيلَ : جَاءَ وَقَدْ هَلَكَ كُلّ مَنْ يَعْرِف , فَكَانَ آيَة لِمَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ قَوْمه إِذْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِحَالِهِ سَمَاعًا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَفِي إِمَاتَته هَذِهِ الْمُدَّة ثُمَّ إِحْيَائِهِ بَعْدهَا أَعْظَم آيَة , وَأَمْره كُلّه آيَة غَابِر الدَّهْر , وَلَا يَحْتَاج إِلَى تَخْصِيص بَعْض ذَلِكَ دُون بَعْض .



قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْن عَامِر بِالزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّاءِ , وَرَوَى أَبَان عَنْ عَاصِم " نَنْشُرهَا " بِفَتْحِ النُّون وَضَمّ الشِّين وَالرَّاء , وَكَذَلِكَ قَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَأَبُو حَيْوَة , فَقِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ فِي الْإِحْيَاء بِمَعْنًى , كَمَا يُقَال رَجَعَ وَرَجَعْته , وَغَاضَ الْمَاء وَغِضْته , وَخَسِرَتْ الدَّابَّة وَخَسِرْتهَا , إِلَّا أَنَّ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَنْشَرَ اللَّه الْمَوْتَى فَنَشَرُوا , أَيْ أَحْيَاهُمْ اللَّه فَحَيُوا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ " وَيَكُون نَشْرهَا مِثْل نَشْر الثَّوْب . نَشَرَ الْمَيِّت يَنْشُر نُشُورًا أَيْ عَاشَ بَعْد الْمَوْت , قَالَ الْأَعْشَى : حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَبَا لِلْمَيِّتِ النَّاشِر فَكَأَنَّ الْمَوْت طَيٌّ لِلْعِظَامِ وَالْأَعْضَاء , وَكَأَنَّ الْإِحْيَاء وَجَمْع الْأَعْضَاء بَعْضهَا إِلَى بَعْض نَشْر . وَأَمَّا قِرَاءَة " نُنْشِزهَا " بِالزَّايِ فَمَعْنَاهُ نَرْفَعهَا . وَالنَّشْز : الْمُرْتَفِع مِنْ الْأَرْض , قَالَ : تَرَى الثَّعْلَب الْحَوْلِيّ فِيهَا كَأَنَّهُ إِذَا مَا عَلَا نَشْزًا حَصَان مُجَلَّل قَالَ مَكِّيّ : الْمَعْنَى : اُنْظُرْ إِلَى الْعِظَام كَيْف نَرْفَع بَعْضهَا عَلَى بَعْض فِي التَّرْكِيب لِلْإِحْيَاءِ ; لِأَنَّ النَّشْز الِارْتِفَاع , وَمِنْهُ الْمَرْأَة النَّشُوز , وَهِيَ الْمُرْتَفِعَة عَنْ مُوَافَقَة زَوْجهَا , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا " [ الْمُجَادَلَة : 11 ] أَيْ اِرْتَفِعُوا وَانْضَمُّوا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَة بِالرَّاءِ بِمَعْنَى الْإِحْيَاء , وَالْعِظَام لَا تَحْيَا عَلَى الِانْفِرَاد حَتَّى يَنْضَمّ بَعْضهَا إِلَى بَعْض , وَالزَّاي أَوْلَى بِذَلِكَ الْمَعْنَى , إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الِانْضِمَام دُون الْإِحْيَاء . فَالْمَوْصُوف بِالْإِحْيَاءِ هُوَ الرَّجُل دُون الْعِظَام عَلَى اِنْفِرَادهَا , وَلَا يُقَال : هَذَا عَظْم حَيّ , وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَانْظُرْ إِلَى الْعِظَام كَيْف نَرْفَعهَا مِنْ أَمَاكِنهَا مِنْ الْأَرْض إِلَى جِسْم صَاحِبهَا لِلْإِحْيَاءِ . وَقَرَأَ النَّخَعِيّ " نَنْشُزُهَا " بِفَتْحِ النُّون وَضَمّ الشِّين وَالزَّاي , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَقَرَأَ أُبَيّ بْن كَعْب " نُنْشِيهَا " بِالْيَاءِ . وَالْكِسْوَة : مَا وَارَى مِنْ الثِّيَاب , وَشُبِّهَ اللَّحْم بِهَا . وَقَدْ اِسْتَعَارَهُ لَبِيد لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ : حَتَّى اِكْتَسَيْت مِنْ الْإِسْلَام سِرْبَالًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة .

بِقَطْعِ الْأَلِف . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ذِكْره أَحْيَا بَعْضه ثُمَّ أَرَاهُ كَيْف أَحْيَا بَاقِي جَسَده . قَالَ قَتَادَة : إِنَّهُ جَعَلَ يَنْظُر كَيْف يُوصَل بَعْض عِظَامه إِلَى بَعْض ; لِأَنَّ أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه مِنْهُ رَأْسه وَقِيلَ لَهُ : اُنْظُرْ , فَقَالَ عِنْد ذَلِكَ : " أَعْلَم " بِقَطْعِ الْأَلِف , أَيْ أَعْلَم هَذَا . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْمَعْنَى فِي قَوْله " فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ " أَيْ لَمَّا اِتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا فِي قُدْرَة اللَّه عِنْده قَبْل عِيَانه قَالَ : أَعْلَم . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خَطَأ ; لِأَنَّهُ أَلْزَمَ مَا لَا يَقْتَضِيه اللَّفْظ , وَفَسَّرَ عَلَى الْقَوْل الشَّاذّ وَالِاحْتِمَال الضَّعِيف , وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِمَا كَانَ قَبْلُ يُنْكِرهُ كَمَا زَعَمَ الطَّبَرِيّ , بَلْ هُوَ قَوْل بَعَثَهُ الِاعْتِبَار , كَمَا يَقُول الْإِنْسَان الْمُؤْمِن إِذَا رَأَى شَيْئًا غَرِيبًا مِنْ قُدْرَة اللَّه تَعَالَى : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَنَحْو هَذَا . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : مَعْنَاهُ أَعْلَم هَذَا الضَّرْب مِنْ الْعِلْم الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْته .

قُلْت : وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى عَنْ قَتَادَة , وَكَذَلِكَ قَالَ مَكِّيّ رَحِمَهُ اللَّه , قَالَ مَكِّيّ : إِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسه عِنْدَمَا عَايَنَ مِنْ قُدْرَة اللَّه تَعَالَى فِي إِحْيَائِهِ الْمَوْتَى , فَتَيَقَّنَ ذَلِكَ بِالْمُشَاهَدَةِ , فَأَقَرَّ أَنَّهُ يَعْلَم أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير , أَيْ أَعْلَم أَنَا هَذَا الضَّرْب مِنْ الْعِلْم الَّذِي لَمْ أَكُنْ أَعْلَمهُ عَلَى مُعَايَنَة , وَهَذَا عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " أَعْلَمُ " بِقَطْعِ الْأَلِف وَهُمْ الْأَكْثَر مِنْ الْقُرَّاء . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِوَصْلِ الْأَلِف , وَيَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا قَالَ لَهُ الْمَلَك : اِعْلَمْ , وَالْآخَر هُوَ أَنْ يُنْزِل نَفْسه مَنْزِلَة الْمُخَاطَب الْأَجْنَبِيّ الْمُنْفَصِل , فَالْمَعْنَى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ لِنَفْسِهِ : اِعْلَمِي يَا نَفْس هَذَا الْعِلْم الْيَقِين الَّذِي لَمْ تَكُونِي تَعْلَمِينَ مُعَايَنَة , وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ فِي مِثْل هَذَا الْمَعْنَى : وَدِّعْ هُرَيْرَة إِنَّ الرَّكْب مُرْتَحِل أَلَمْ تَغْتَمِض عَيْنَاك لَيْلَة أَرْمَدَا قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَتَأَنَّسَ أَبُو عَلِيّ فِي هَذَا الشِّعْر بِقَوْلِ الشَّاعِر : تَذَكَّرْ مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبه يُؤَامِر نَفْسَيْهِ كَذِي الْهَجْمَة الْأَبِل قَالَ مَكِّيّ : وَيَبْعُد أَنْ يَكُون ذَلِكَ أَمْرًا مِنْ اللَّه جَلَّ ذِكْره لَهُ بِالْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ إِلَيْهِ قُدْرَته , وَأَرَاهُ أَمْرًا أَيْقَنَ صِحَّته وَأَقَرَّ بِالْقُدْرَةِ فَلَا مَعْنَى لِأَنْ يَأْمُرهُ اللَّه بِعِلْمِ ذَلِكَ , بَلْ هُوَ يَأْمُر نَفْسه بِذَلِكَ وَهُوَ جَائِز حَسَن . وَفِي حَرْف عَبْد اللَّه مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى لَهُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَعْنَى اِلْزَمْ هَذَا الْعِلْم لِمَا عَايَنْت وَتَيَقَّنْت , وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَرْفه : قِيلَ اِعْلَمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُوَافِق لِمَا قَبْله مِنْ الْأَمْر فِي قَوْله " اُنْظُرْ إِلَى طَعَامك " و " اُنْظُرْ إِلَى حِمَارك " و " اُنْظُرْ إِلَى الْعِظَام " فَكَذَلِكَ " وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه " وَقَدْ كَانَ اِبْن عَبَّاس يَقْرَؤهَا " قِيلَ اِعْلَمْ " وَيَقُول أَهُوَ خَيْر أَمْ إِبْرَاهِيم ؟ إِذْ قِيلَ لَهُ : ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه عَزِيز حَكِيم " . فَهَذَا يُبَيِّن أَنَّهُ مِنْ قَوْل اللَّه سُبْحَانه لَهُ لَمَّا عَايَنَ مِنْ الْإِحْيَاء .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌسورة البقرة الآية رقم 260
اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذَا السُّؤَال هَلْ صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيم عَنْ شَكّ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ الْجُمْهُور : لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام شَاكًّا فِي إِحْيَاء اللَّه الْمَوْتَى قَطُّ وَإِنَّمَا طَلَبَ الْمُعَايَنَة , وَذَلِكَ أَنَّ النُّفُوس مُسْتَشْرِفَة إِلَى رُؤْيَة مَا أُخْبِرَتْ بِهِ , وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَيْسَ الْخَبَر كَالْمُعَايَنَةِ ) رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْره , قَالَهُ أَبُو عُمَر . قَالَ الْأَخْفَش : لَمْ يُرِدْ رُؤْيَة الْقَلْب وَإِنَّمَا أَرَادَ رُؤْيَة الْعَيْن . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالرَّبِيع : سَأَلَ لِيَزْدَادَ يَقِينًا إِلَى يَقِينه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَتَرْجَمَ الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره فَقَالَ : وَقَالَ آخَرُونَ سَأَلَ ذَلِكَ رَبّه ; لِأَنَّهُ شَكَّ فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى . وَأَدْخَلَ تَحْت التَّرْجَمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا فِي الْقُرْآن آيَة أَرْجَى عِنْدِي مِنْهَا . وَذُكِرَ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح أَنَّهُ قَالَ : دَخَلَ قَلْب إِبْرَاهِيم بَعْض مَا يَدْخُل قُلُوب النَّاس فَقَالَ : رَبّ أَرِنِي كَيْف تُحْيِي الْمَوْتَى . وَذَكَرَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم ) الْحَدِيث , ثُمَّ رَجَّحَ الطَّبَرِيّ هَذَا الْقَوْل .

قُلْت : حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ رَبّ أَرِنِي كَيْف تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي , وَيَرْحَم اللَّه لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْن شَدِيد وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْن مَا لَبِثَ يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي ) . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَمَا تَرْجَمَ بِهِ الطَّبَرِيّ عِنْدِي مَرْدُود , وَمَا أُدْخِلَ تَحْت التَّرْجَمَة مُتَأَوَّل , فَأَمَّا قَوْل اِبْن عَبَّاس : ( هِيَ أَرْجَى آيَة ) فَمِنْ حَيْثُ فِيهَا الْإِدْلَال عَلَى اللَّه تَعَالَى وَسُؤَال الْإِحْيَاء فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مَظِنَّة ذَلِكَ . وَيَجُوز أَنْ يَقُول : هِيَ أَرْجَى آيَة لِقَوْلِهِ " أَوَلَمْ تُؤْمِن " أَيْ إِنَّ الْإِيمَان كَافٍ لَا يُحْتَاج مَعَهُ إِلَى تَنْقِير وَبَحْث . وَأَمَّا قَوْل عَطَاء : ( دَخَلَ قَلْب إِبْرَاهِيم بَعْض مَا يَدْخُل قُلُوب النَّاس ) فَمَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَايَنَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَاكًّا لَكُنَّا نَحْنُ أَحَقّ بِهِ وَنَحْنُ لَا نَشُكّ فَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَحْرَى أَلَّا يَشُكّ , فَالْحَدِيث مَبْنِيّ عَلَى نَفْي الشَّكّ عَنْ إِبْرَاهِيم , وَاَلَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( ذَلِكَ مَحْض الْإِيمَان ) إِنَّمَا هُوَ فِي الْخَوَاطِر الَّتِي لَا تَثْبُت , وَأَمَّا الشَّكّ فَهُوَ تَوَقُّف بَيْن أَمْرَيْنِ لَا مَزِيَّة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر , وَذَلِكَ هُوَ الْمَنْفِيّ عَنْ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَإِحْيَاء الْمَوْتَى إِنَّمَا يَثْبُت بِالسَّمْعِ وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَعْلَم بِهِ , يَدُلّك عَلَى ذَلِكَ قَوْله : " رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت " [ الْبَقَرَة : 258 ] فَالشَّكّ يَبْعُد عَلَى مَنْ تَثْبُت قَدَمه فِي الْإِيمَان فَقَطْ فَكَيْف بِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّة وَالْخُلَّة , وَالْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْ الْكَبَائِر وَمِنْ الصَّغَائِر الَّتِي فِيهَا رَذِيلَة إِجْمَاعًا . وَإِذَا تَأَمَّلْت سُؤَاله عَلَيْهِ السَّلَام وَسَائِر أَلْفَاظ الْآيَة لَمْ تُعْطِ شَكًّا , وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَام بِكَيْفَ إِنَّمَا هُوَ سُؤَال عَنْ حَالَة شَيْء مَوْجُود مُتَقَرِّر الْوُجُود عِنْد السَّائِل وَالْمَسْئُول , نَحْو قَوْلك : كَيْف عِلْمُ زَيْد ؟ وَكَيْف نَسْجُ الثَّوْب ؟ وَنَحْو هَذَا . وَمَتَى قُلْت : كَيْف ثَوْبك ؟ وَكَيْف زَيْد ؟ فَإِنَّمَا السُّؤَال عَنْ حَال مِنْ أَحْوَاله . وَقَدْ تَكُون " كَيْف " خَبَرًا عَنْ شَيْء شَأْنه أَنْ يُسْتَفْهَم عَنْهُ بِكَيْفَ , نَحْو قَوْلك : كَيْف شِئْت فَكُنْ , وَنَحْو قَوْل الْبُخَارِيّ : كَيْف كَانَ بَدْء الْوَحْي . و " كَيْف " فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هِيَ اِسْتِفْهَام عَنْ هَيْئَة الْإِحْيَاء , وَالْإِحْيَاء مُتَقَرِّر , وَلَكِنْ لَمَّا وَجَدْنَا بَعْض الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ شَيْء قَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ إِنْكَاره بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ حَالَة لِذَلِكَ الشَّيْء يُعْلَم أَنَّهَا لَا تَصِحّ , فَيَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْء فِي نَفْسه لَا يَصِحّ , مِثَال ذَلِكَ أَنْ يَقُول مُدَّعٍ : أَنَا أَرْفَع هَذَا الْجَبَل , فَيَقُول الْمُكَذِّب لَهُ : أَرِنِي كَيْف تَرْفَعهُ فَهَذِهِ طَرِيقَة مَجَاز فِي الْعِبَارَة , وَمَعْنَاهَا تَسْلِيم جَدَلِيّ , كَأَنَّهُ يَقُول : اِفْرِضْ أَنَّك تَرْفَعهُ , فَأَرِنِي كَيْف تَرْفَعهُ فَلَمَّا كَانَتْ عِبَارَة الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذَا الِاشْتِرَاك الْمَجَازِيّ , خَلَصَ اللَّه لَهُ ذَلِكَ وَحَمَلَهُ عَلَى أَنْ بَيَّنَ لَهُ الْحَقِيقَة فَقَالَ لَهُ : " أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى " فَكَمُلَ الْأَمْر وَتَخَلَّصَ مِنْ كُلّ شَكّ , ثُمَّ عَلَّلَ عَلَيْهِ السَّلَام سُؤَاله بِالطُّمَأْنِينَةِ .

قُلْت : هَذَا مَا ذَكَرَهُ اِبْن عَطِيَّة وَهُوَ بَالِغ , وَلَا يَجُوز عَلَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ مِثْل هَذَا الشَّكّ فَإِنَّهُ كُفْر , وَالْأَنْبِيَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَان بِالْبَعْثِ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سَبِيل فَقَالَ : " إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَان " [ الْحِجْر : 42 ] وَقَالَ اللَّعِين : إِلَّا عِبَادك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ سَلْطَنَة فَكَيْف يُشَكِّكهُمْ , وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُشَاهِد كَيْفِيَّة جَمْع أَجْزَاء الْمَوْتَى بَعْد تَفْرِيقهَا وَإِيصَال الْأَعْصَاب وَالْجُلُود بَعْد تَمْزِيقهَا , فَأَرَادَ أَنْ يَتَرَقَّى مِنْ عِلْم الْيَقِين إِلَى عِلْم الْيَقِين , فَقَوْله : " أَرِنِي كَيْف " طَلَب مُشَاهَدَة الْكَيْفِيَّة . وَقَالَ بَعْض أَهْل الْمَعَانِي : إِنَّمَا أَرَادَ إِبْرَاهِيم مِنْ رَبّه أَنْ يُرِيه كَيْف يُحْيِي الْقُلُوب , وَهَذَا فَاسِد مَرْدُود بِمَا تَعَقَّبَهُ مِنْ الْبَيَان , ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ


لَيْسَتْ الْأَلِف فِي قَوْله " أَوَلَمْ تُؤْمِن " أَلِف اِسْتِفْهَام وَإِنَّمَا هِيَ أَلِف إِيجَاب وَتَقْرِير كَمَا قَالَ جَرِير : أَلَسْتُمْ خَيْر مِنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَالْوَاو وَاو الْحَال . و " تُؤْمِن " مَعْنَاهُ إِيمَانًا مُطْلَقًا , دَخَلَ فِيهِ فَضْل إِحْيَاء الْمَوْتَى .


أَيْ سَأَلْتُك لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي بِحُصُولِ الْفَرْق بَيْن الْمَعْلُوم بُرْهَانًا وَالْمَعْلُوم عِيَانًا . وَالطُّمَأْنِينَة : اِعْتِدَال وَسُكُون , فَطُمَأْنِينَة الْأَعْضَاء مَعْرُوفَة , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( ثُمَّ اِرْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنّ رَاكِعًا ) الْحَدِيث . وَطُمَأْنِينَة الْقَلْب هِيَ أَنْ يَسْكُن فِكْره فِي الشَّيْء الْمُعْتَقَد . وَالْفِكْر فِي صُورَة الْإِحْيَاء غَيْر مَحْظُور , كَمَا لَنَا نَحْنُ الْيَوْم أَنْ نُفَكِّر فِيهَا إِذْ هِيَ فِكْر فِيهَا عِبَر فَأَرَادَ الْخَلِيل أَنْ يُعَايِن فَيَذْهَب فِكْره فِي صُورَة الْإِحْيَاء . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : مَعْنَى " لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي " لِيُوقِن , وَحُكِيَ نَحْو ذَلِكَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , وَحُكِيَ عَنْهُ لِيَزْدَادَ يَقِينًا , وَقَالَهُ إِبْرَاهِيم وَقَتَادَة . وَقَالَ بَعْضهمْ : لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَا زِيَادَة فِي هَذَا الْمَعْنَى تَمْكُن إِلَّا السُّكُون عَنْ الْفِكْر وَإِلَّا فَالْيَقِين لَا يَتَبَعَّض . وَقَالَ السُّدِّيّ وَابْن جُبَيْر أَيْضًا : أَوَلَمْ تُؤْمِن بِأَنَّك خَلِيلِي ؟ قَالَ : بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي بِالْخُلَّةِ . وَقِيلَ : دَعَا أَنْ يُرِيه كَيْف يُحْيِي الْمَوْتَى لِيَعْلَم هَلْ تُسْتَجَاب دَعْوَته , فَقَالَ اللَّه لَهُ : أَوَلَمْ تُؤْمِن أَنِّي أُجِيب دُعَاءَك , قَالَ : بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي أَنَّك تُجِيب دُعَائِي .

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُحَرِّك لَهُ عَلَى ذَلِكَ , فَقِيلَ : إِنَّ اللَّه وَعَدَهُ أَنْ يَتَّخِذهُ خَلِيلًا فَأَرَادَ آيَة عَلَى ذَلِكَ , قَالَهُ السَّائِب بْن يَزِيد . وَقِيلَ : قَوْل النُّمْرُوذ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت . وَقَالَ الْحَسَن : رَأَى جِيفَة نِصْفهَا فِي الْبَرّ تُوَزِّعهَا السِّبَاع وَنِصْفهَا فِي الْبَحْر تُوَزِّعهَا دَوَابّ الْبَحْر , فَلَمَّا رَأَى تَفَرُّقهَا أَحَبَّ أَنْ يَرَى اِنْضِمَامهَا فَسَأَلَ لِيَطْمَئِنّ قَلْبه بِرُؤْيَةِ كَيْفِيَّة الْجَمْع كَمَا رَأَى كَيْفِيَّة التَّفْرِيق ,

فَقِيلَ لَهُ : " خُذْ أَرْبَعَة مِنْ الطَّيْر " قِيلَ : هِيَ الدِّيك وَالطَّاوُوس وَالْحَمَام وَالْغُرَاب , ذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم , وَقَالَهُ مُجَاهِد وَابْن جُرَيْج وَعَطَاء بْن يَسَار وَابْن زَيْد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس مَكَان الْغُرَاب الْكُرْكِيّ , وَعَنْهُ أَيْضًا مَكَان الْحَمَام النَّسْر . فَأَخَذَ هَذِهِ الطَّيْر حَسَب مَا أُمِرَ وَذَكَّاهَا , ثُمَّ قَطَعَهَا قِطَعًا صِغَارًا , وَخَلَطَ لُحُوم الْبَعْض إِلَى لُحُوم الْبَعْض مَعَ الدَّم وَالرِّيش حَتَّى يَكُون أَعْجَب , ثُمَّ جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوع الْمُخْتَلِط جُزْءًا عَلَى كُلّ جَبَل , وَوَقَفَ هُوَ مِنْ حَيْثُ يَرَى تِلْكَ الْأَجْزَاء وَأَمْسَكَ رُءُوس الطَّيْر فِي يَده , ثُمَّ قَالَ : تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّه , فَتَطَايَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاء وَطَارَ الدَّم إِلَى الدَّم وَالرِّيش إِلَى الرِّيش حَتَّى اِلْتَأَمَتْ مِثْل مَا كَانَتْ أَوَّلًا وَبَقِيَتْ بِلَا رُءُوس , ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاء فَجَاءَتْهُ سَعْيًا , أَيْ عَدْوًا عَلَى أَرْجُلهنَّ . وَلَا يُقَال لِلطَّائِرِ : " سَعَى " إِذَا طَارَ إِلَّا عَلَى التَّمْثِيل , قَالَهُ النَّحَّاس . وَكَانَ إِبْرَاهِيم إِذَا أَشَارَ إِلَى وَاحِد مِنْهَا بِغَيْرِ رَأْسه تَبَاعَدَ الطَّائِر , وَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ قَرُبَ حَتَّى لَقِيَ كُلّ طَائِر رَأْسه , وَطَارَتْ بِإِذْنِ اللَّه . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى ثُمَّ اِجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَل مِنْ كُلّ وَاحِد جُزْءًا . وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم وَأَبُو جَعْفَر " جُزْءًا " عَلَى فُعْل . وَعَنْ أَبِي جَعْفَر أَيْضًا " جُزًّا " مُشَدَّدَة الزَّاي . الْبَاقُونَ مَهْمُوز مُخَفَّف , وَهِيَ لُغَات , وَمَعْنَاهُ النَّصِيب . " يَأْتِينَك سَعْيًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال . و " صُرْهُنَّ " مَعْنَاهُ قَطِّعْهُنَّ , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَأَبُو عُبَيْدَة وَابْن الْأَنْبَارِيّ , يُقَال : صَارَ الشَّيْء يَصُورهُ أَيْ قَطَعَهُ , وَقَالَهُ اِبْن إِسْحَاق . وَعَنْ أَبِي الْأَسْوَد الدُّؤَلِيّ : هُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ التَّقْطِيع , قَالَهُ تَوْبَة بْن الْحُمَيِّر يَصِفهُ : فَلَمَّا جَذَبْت الْحَبْل أَطَّتْ نُسُوعه بِأَطْرَافِ عِيدَان شَدِيد سُيُورهَا فَأَدْنَتْ لِي الْأَسْبَاب حَتَّى بَلَغْتهَا بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ اِرْتِقَائِي يَصُورهَا أَيْ يَقْطَعهَا . وَالصَّوْر : الْقَطْع . وَقَالَ الضَّحَّاك وَعِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس فِي بَعْض مَا رُوِيَ عَنْهُ : إِنَّهَا لَفْظَة بِالنِّبْطِيَّةِ مَعْنَاهُ قَطِّعْهُنَّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَمِلْهُنَّ إِلَيْك , أَيْ اُضْمُمْهُنَّ وَاجْمَعْهُنَّ إِلَيْك , يُقَال : رَجُل أَصْوَر إِذَا كَانَ مَائِل الْعُنُق . وَتَقُول : إِنِّي إِلَيْكُمْ لَأَصْوَر , يَعْنِي مُشْتَاقًا مَائِلًا . وَامْرَأَة صَوْرَاء , وَالْجَمْع صُور مِثْل أَسْوَد وَسُود , قَالَ الشَّاعِر : اللَّه يَعْلَم أَنَّا فِي تَلَفُّتنَا يَوْم الْفِرَاق إِلَى جِيرَاننَا صُور فَقَوْله " إِلَيْك " عَلَى تَأْوِيل التَّقْطِيع مُتَعَلِّق ب " خُذْ " وَلَا حَاجَة إِلَى مُضْمَر , وَعَلَى تَأْوِيل الْإِمَالَة وَالضَّمّ مُتَعَلِّق ب " صُرْهُنَّ " وَفِي الْكَلَام مَتْرُوك : فَأَمِلْهُنَّ إِلَيْك ثُمَّ قَطِّعْهُنَّ . وَفِيهَا خَمْس قِرَاءَات : اِثْنَتَانِ فِي السَّبْع وَهُمَا ضَمّ الصَّاد وَكَسْرهَا وَتَخْفِيف الرَّاء . وَقَرَأَ قَوْم " فَصُرّهُنَّ " بِضَمِّ الصَّاد وَشَدّ الرَّاء الْمَفْتُوحَة , كَأَنَّهُ يَقُول فَشُدَّهُنَّ , وَمِنْهُ صُرَّة الدَّنَانِير . وَقَرَأَ قَوْم " فَصِرّهنَّ " بِكَسْرِ الصَّاد وَشَدّ الرَّاء الْمَفْتُوحَة , وَمَعْنَاهُ صَيِّحْهُنَّ , مِنْ قَوْلك : صَرَّ الْبَابُ وَالْقَلَمُ إِذَا صَوَّتَ , حَكَاهُ النَّقَّاش . قَالَ اِبْن جِنِّي : هِيَ قِرَاءَة غَرِيبَة , وَذَلِكَ أَنَّ يَفْعِل بِكَسْرِ الْعَيْن فِي الْمُضَاعَف الْمُتَعَدِّي قَلِيل , وَإِنَّمَا بَابه يَفْعُل بِضَمِّ الْعَيْن , كَشَدَّ يَشُدّ وَنَحْوه , وَلَكِنْ قَدْ جَاءَ مِنْهُ نَمَّ الْحَدِيث يَنُمّهُ وَيَنِمّهُ , وَهَرَّ الْحَرْب يَهُرّهَا وَيَهِرّهَا , وَمِنْهُ بَيْت الْأَعْشَى : لَيَعْتَوِرَنَّك الْقَوْل حَتَّى تَهِرّهُ إِلَى غَيْر ذَلِكَ فِي حُرُوف قَلِيلَة . قَالَ اِبْن جِنِّي : وَأَمَّا قِرَاءَة عِكْرِمَة بِضَمِّ الصَّاد فَيُحْتَمَل فِي الرَّاء الضَّمّ وَالْفَتْح وَالْكَسْر كَمَدَّ وَشَدَّ وَالْوَجْه ضَمّ الرَّاء مِنْ أَجْل ضَمَّة الْهَاء مِنْ بَعْد .

الْقِرَاءَة الْخَامِسَة " صَرِّهِنَّ " بِفَتْحِ الصَّاد وَشَدّ الرَّاء مَكْسُورَة , حَكَاهَا الْمَهْدَوِيّ وَغَيْره عَنْ عِكْرِمَة , بِمَعْنَى فَاحْبِسْهُنَّ , مِنْ قَوْلهمْ : صَرَّى يُصَرِّي إِذَا حَبَسَ , وَمِنْهُ الشَّاة الْمُصَرَّاة . وَهُنَا اِعْتِرَاض ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَهُوَ يُقَال : فَكَيْف أُجِيبَ إِبْرَاهِيم إِلَى آيَات الْآخِرَة دُون مُوسَى فِي قَوْله " رَبّ أَرِنِي أَنْظُر إِلَيْك " [ الْأَعْرَاف : 143 ] ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ مَا سَأَلَهُ مُوسَى لَا يَصِحّ مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف , وَمَا سَأَلَهُ إِبْرَاهِيم خَاصّ يَصِحّ مَعَهُ بَقَاء التَّكْلِيف . الثَّانِي أَنَّ الْأَحْوَال تَخْتَلِف فَيَكُون الْأَصْلَح فِي بَعْض الْأَوْقَات الْإِجَابَة , وَفِي وَقْت آخَر الْمَنْع فِيمَا لَمْ يَتَقَدَّم فِيهِ إِذْن . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى إِبْرَاهِيم بِهَذَا قَبْل أَنْ يُولَد لَهُ وَقَبْل أَنْ يُنَزَّل عَلَيْهِ الصُّحُف , وَاَللَّه أَعْلَم . " وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه عَزِيز حَكِيم " " وَالْعَزِيز " مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء , دَلِيله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض " . [ فَاطِر : 44 ] . الْكِسَائِيّ : " الْعَزِيز " الْغَالِب , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] وَفِي الْمَثَل : [ مَنْ عَزَّ بَزَّ ] أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . وَقِيلَ : " الْعَزِيز " الَّذِي لَا مِثْل لَهُ بَيَانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : 11 ] . وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا فِي اِسْمه الْعَزِيز فِي كِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى " الْحَكِيم " مَعْنَاهُ الْحَاكِم وَبَيْنهمَا مَزِيد الْمُبَالَغَة وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُحْكِم وَيَجِيء الْحَكِيم عَلَى هَذَا مِنْ صِفَات الْفِعْل , صُرِفَ عَنْ مُفْعِل إِلَى فَعِيل كَمَا صُرِفَ عَنْ مُسْمِع إِلَى سَمِيع وَمُؤْلِم إِلَى أَلِيم قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ وَقَالَ قَوْم " الْحَكِيم " الْمَانِع مِنْ الْفَسَاد وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَة اللِّجَام لِأَنَّهَا تَمْنَع الْفَرَس مِنْ الْجَرْي وَالذَّهَاب فِي غَيْر قَصْد قَالَ جَرِير اِبْنَيْ حَنِيفَة أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا وَالْعَرَب تَقُول أَحْكَمَ الْيَتِيم عَنْ كَذَا وَكَذَا يُرِيدُونَ مَنَعَهُ وَالسُّورَة الْمُحْكَمَة الْمَمْنُوعَة مِنْ التَّغْيِير وَكُلّ التَّبْدِيل وَأَنْ يَلْحَق بِهَا مَا يَخْرُج عَنْهَا وَيُزَاد عَلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا وَالْحِكْمَة مِنْ هَذَا لِأَنَّهَا تَمْنَع صَاحِبهَا مِنْ الْجَهْل وَيُقَال أَحْكَمَ الشَّيْء إِذَا أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ الْخُرُوج عَمَّا يُرِيد فَهُوَ مُحْكِم وَحَكِيم عَلَى التَّكْثِير .
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 261
لَمَّا قَصَّ اللَّه سُبْحَانه مَا فِيهِ مِنْ الْبَرَاهِين , حَثَّ عَلَى الْجِهَاد , وَأَعْلَمَ أَنَّ مَنْ جَاهَدَ بَعْد هَذَا الْبُرْهَان الَّذِي لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا نَبِيّ فَلَهُ فِي جِهَاده الثَّوَاب الْعَظِيم . رَوَى الْبُسْتِيّ فِي صَحِيح مُسْنَده عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَبّ زِدْ أُمَّتِي ) فَنَزَلَتْ " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة " [ الْبَقَرَة : 245 ] قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَبّ زِدْ أُمَّتِي ) فَنَزَلَتْ " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرهمْ بِغَيْرِ حِسَاب " [ الزُّمَر : 10 ] . وَهَذِهِ الْآيَة لَفْظهَا بَيَان مِثَال لِشَرَفِ النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه وَلِحُسْنِهَا , وَضَمَّنَهَا التَّحْرِيض عَلَى ذَلِكَ . وَفِي الْكَلَام حَذْف مُضَاف تَقْدِيره مَثَل نَفَقَة الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ فِي سَبِيل اللَّه كَمَثَلِ حَبَّة . وَطَرِيق آخَر : مَثَل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ كَمَثَلِ زَارِع زَرَعَ فِي الْأَرْض حَبَّة فَأَنْبَتَتْ الْحَبَّة سَبْع سَنَابِل , يَعْنِي أَخْرَجَتْ سَبْع سَنَابِل فِي كُلّ سُنْبُلَة مِائَة حَبَّة , فَشَبَّهَ الْمُتَصَدِّق بِالزَّارِعِ وَشَبَّهَ الصَّدَقَة بِالْبَذْرِ فَيُعْطِيه اللَّه بِكُلِّ صَدَقَة لَهُ سَبْعمِائَةِ حَسَنَة , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : " وَاَللَّه يُضَاعِف لِمَنْ يَشَاء " يَعْنِي عَلَى سَبْعمِائَةٍ , فَيَكُون مَثَل الْمُتَصَدِّق مَثَل الزَّارِع , إِنْ كَانَ حَاذِقًا فِي عَمَله , وَيَكُون الْبَذْر جَيِّدًا وَتَكُون الْأَرْض عَامِرَة يَكُون الزَّرْع أَكْثَر , فَكَذَلِكَ الْمُتَصَدِّق إِذَا كَانَ صَالِحًا وَالْمَال طَيِّبًا وَيَضَعهُ مَوْضِعه فَيَصِير الثَّوَاب أَكْثَر , خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : لَيْسَ فِي الْآيَة تَضْعِيف عَلَى سَبْعمِائَةٍ , عَلَى مَا نُبَيِّنهُ إِنْ شَاءَ اللَّه .

رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن عُثْمَان بْن عَفَّان وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَثَّ النَّاس عَلَى الصَّدَقَة حِين أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى غَزْوَة تَبُوك جَاءَهُ عَبْد الرَّحْمَن بِأَرْبَعَةِ آلَاف فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , كَانَتْ لِي ثَمَانِيَة آلَاف فَأَمْسَكْت لِنَفْسِي وَلِعِيَالِي أَرْبَعَة آلَاف , وَأَرْبَعَة آلَاف أَقْرَضْتهَا لِرَبِّي . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَارَكَ اللَّه لَك فِيمَا أَمْسَكْت وَفِيمَا أَعْطَيْت ) . وَقَالَ عُثْمَان : يَا رَسُول اللَّه عَلَيَّ جَهَاز مَنْ لَا جَهَاز لَهُ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِيهِمَا . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي نَفَقَة التَّطَوُّع . وَقِيلَ : نَزَلَتْ قَبْل آيَة الزَّكَاة ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ الزَّكَاة , وَلَا حَاجَة إِلَى دَعْوَى النَّسْخ ; لِأَنَّ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه مَنْدُوب إِلَيْهِ فِي كُلّ وَقْت . وَسُبُل اللَّه كَثِيرَة وَأَعْظَمهَا الْجِهَاد لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا .

الْحَبَّة اِسْم جِنْس لِكُلِّ مَا يَزْرَعهُ اِبْن آدَم وَيَقْتَاتهُ وَأَشْهَر ذَلِكَ الْبُرّ فَكَثِيرًا مَا يُرَاد بِالْحَبِّ , وَمِنْهُ قَوْل الْمُتَلَمِّس : آلَيْتَ حَبّ الْعِرَاق الدَّهْر أَطْعَمهُ وَالْحَبّ يَأْكُلهُ فِي الْقَرْيَة السُّوس وَحَبَّة الْقَلْب : سُوَيْدَاؤُهُ , وَيُقَال ثَمَرَته وَهُوَ ذَاكَ . وَالْحِبَّة بِكَسْرِ الْحَاء : بُذُور الْبُقُول مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ , وَفِي حَدِيث الشَّفَاعَة : ( فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُت الْحِبَّة فِي حَمِيل السَّيْل ) وَالْجَمْع حِبَب . وَالْحُبَّة بِضَمِّ الْحَاء الْحُبّ يُقَال : نَعَمْ وَحُبَّة وَكَرَامَة . وَالْحُبُّ الْمَحَبَّة وَكَذَلِكَ الْحِبّ بِالْكَسْرِ . وَالْحِبّ أَيْضًا الْحَبِيب , مِثْل خِدْن وَخَدِين وَسُنْبُلَة فُنْعُلَة مِنْ أَسْبَلَ الزَّرْع إِذَا صَارَ فِيهِ السُّنْبُل , أَيْ اِسْتَرْسَلَ بِالسُّنْبُلِ كَمَا يَسْتَرْسِل السِّتْر بِالْإِسْبَالِ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ صَارَ فِيهِ حَبّ مَسْتُور كَمَا يُسْتَر الشَّيْء بِإِسْبَالِ السِّتْر عَلَيْهِ . وَالْجَمْع سَنَابِل . ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَاد سُنْبُل الدُّخْن فَهُوَ الَّذِي يَكُون فِي السُّنْبُلَة مِنْهُ هَذَا الْعَدَد .

‎قُلْت : هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ سُنْبُل الدُّخْن يَجِيء فِي السُّنْبُلَة مِنْهُ أَكْثَر مِنْ هَذَا الْعَدَد بِضِعْفَيْنِ وَأَكْثَر , عَلَى مَا شَاهَدْنَاهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَدْ يُوجَد فِي سُنْبُل الْقَمْح مَا فِيهِ مِائَة حَبَّة , فَأَمَّا فِي سَائِر الْحُبُوب فَأَكْثَر وَلَكِنْ الْمِثَال وَقَعَ بِهَذَا الْقَدْر . وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة : إِنَّ قَوْله " فِي كُلّ سُنْبُلَة مِائَة حَبَّة " مَعْنَاهُ إِنْ وُجِدَ ذَلِكَ , وَإِلَّا فَعَلَى أَنْ يَفْرِضهُ , ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الضَّحَّاك أَنَّهُ قَالَ : " فِي كُلّ سُنْبُلَة مِائَة حَبَّة " مَعْنَاهُ كُلّ سُنْبُلَة أَنْبَتَتْ مِائَة حَبَّة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَجَعَلَ الطَّبَرِيّ قَوْل الضَّحَّاك نَحْو مَا قَالَ , وَذَلِكَ غَيْر لَازِم مِنْ قَوْل الضَّحَّاك . وَقَالَ أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ : وَقَرَأَ بَعْضهمْ " مِائَة " بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِير أَنْبَتَتْ مِائَة حَبَّة .

قُلْت : وَقَالَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ : وَقَرَأَ بَعْضهمْ " فِي كُلّ سُنْبُلَة مِائَة حَبَّة " عَلَى : أَنْبَتَتْ مِائَة حَبَّة , وَكَذَلِكَ قَرَأَ بَعْضهمْ " وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَاب جَهَنَّم " [ الْمُلْك : 6 ] عَلَى " وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاب السَّعِير " [ الْمُلْك : 5 ] وَأَعْتَدْنَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاب جَهَنَّم . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " أَنْبَتَتْ سَبْع سَنَابِل " بِإِدْغَامِ التَّاء فِي السِّين ; لِأَنَّهُمَا مَهْمُوسَتَانِ , أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ . وَأَنْشَدَ أَبُو عَمْرو : يَا لَعْن اللَّه بَنِي السِّعْلَاة عَمْرو بْن مَيْمُون لِئَام النَّاتِ أَرَادَ النَّاس فَحَوَّلَ السِّين تَاء . الْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْل لِأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ .

وَرَدَ الْقُرْآن بِأَنَّ الْحَسَنَة فِي جَمِيع أَعْمَال الْبِرّ بِعَشْرِ أَمْثَالهَا , وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ نَفَقَة الْجِهَاد حَسَنَتهَا بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْف . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى قَوْله " وَاَللَّه يُضَاعِف لِمَنْ يَشَاء " فَقَالَتْ طَائِفَة : هِيَ مُبَيِّنَة مُؤَكِّدَة لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْر السَّبْعمِائَةِ , وَلَيْسَ ثَمَّ تَضْعِيف فَوْق السَّبْعمِائَةِ . وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء : بَلْ هُوَ إِعْلَام بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُضَاعِف لِمَنْ يَشَاء أَكْثَر مِنْ سَبْعمِائَةِ ضِعْف . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل أَصَحّ لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر الْمَذْكُور أَوَّل الْآيَة . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ حَدَّثَنَا هَارُون بْن عَبْد اللَّه الْحَمَّال حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي فُدَيْك عَنْ الْخَلِيل بْن عَبْد اللَّه عَنْ الْحَسَن عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأَبِي الدَّرْدَاء وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَأَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَعِمْرَان بْن حُصَيْن كُلّهمْ يُحَدِّث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ فِي سَبِيل اللَّه وَأَقَامَ فِي بَيْته فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَم سَبْعمِائَةِ دِرْهَم وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيل اللَّه وَأَنْفَقَ فِي وَجْهه فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَم سَبْعمِائَةِ أَلْف دِرْهَم - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة " وَاَللَّه يُضَاعِف لِمَنْ يَشَاء " ) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ التَّضْعِيف يَنْتَهِي لِمَنْ شَاءَ اللَّه إِلَى أَلْفَيْ أَلْف . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِتِ الْإِسْنَاد عَنْهُ .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ اِتِّخَاذ الزَّرْع مِنْ أَعْلَى الْحِرَف الَّتِي يَتَّخِذهَا النَّاس وَالْمَكَاسِب الَّتِي يَشْتَغِل بِهَا الْعُمَّال , وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّه بِهِ الْمَثَل فَقَالَ : " مَثَل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ " الْآيَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مُسْلِم يَغْرِس غَرْسًا أَوْ يَزْرَع زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْر أَوْ إِنْسَان أَوْ بَهِيمَة إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَة ) . وَرَوَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِلْتَمِسُوا الرِّزْق فِي خَبَايَا الْأَرْض ) يَعْنِي الزَّرْع , أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّخْل : ( هِيَ الرَّاسِخَات فِي الْوَحْل الْمُطْعِمَات فِي الْمَحْل ) . وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَج الْمَدْح وَالزِّرَاعَة مِنْ فُرُوض الْكِفَايَة فَيَجِب عَلَى الْإِمَام أَنْ يُجْبِر النَّاس عَلَيْهَا وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ غَرْس الْأَشْجَار . وَلَقِيَ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْمَلِك ابْنَ شِهَاب الزُّهْرِيّ فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى مَال أُعَالِجهُ , فَأَنْشَأَ اِبْن شِهَاب يَقُول : أَقُول لِعَبْدِ اللَّه يَوْم لَقِيته وَقَدْ شَدَّ أَحْلَاس الْمَطِيّ مُشَرِّقَا تَتَبَّع خَبَايَا الْأَرْض وَادْعُ مَلِيكهَا لَعَلَّك يَوْمًا أَنْ تُجَاب فَتُرْزَقَا فَيُؤْتِيك مَالًا وَاسِعًا ذَا مَثَابَة إِذَا مَا مِيَاه الْأَرْض غَارَتْ تَدَفُّقَا وَحُكِيَ عَنْ الْمُعْتَضِد أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْمَنَام يُنَاوِلنِي مِسْحَاة وَقَالَ : خُذْهَا فَإِنَّهَا مَفَاتِيح خَزَائِن الْأَرْض
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 262
قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة : جَاءَ عُثْمَان بِأَلْفِ دِينَار فِي جَيْش الْعُسْرَة فَصَبَّهَا فِي حِجْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْته يُدْخِل يَده فِيهَا وَيُقَلِّبهَا وَيَقُول : ( مَا ضَرَّ اِبْن عَفَّان مَا عَمِلَ بَعْد الْيَوْم اللَّهُمَّ لَا تَنْسَ هَذَا الْيَوْم لِعُثْمَان ) . وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَان يَقُول : ( يَا رَبّ عُثْمَان إِنِّي رَضِيت عَنْ عُثْمَان فَارْضَ عَنْهُ ) فَمَا زَالَ يَدْعُو حَتَّى طَلَعَ الْفَجْر فَنَزَلَتْ : " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ فِي سَبِيل اللَّه ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى " الْآيَة .

لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَة الَّتِي قَبْل ذِكْر الْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه عَلَى الْعُمُوم بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْم وَالثَّوَاب إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَا يُتْبِع إِنْفَاقه مَنًّا وَلَا أَذًى ; لِأَنَّ الْمَنّ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِثَوَابِ الصَّدَقَة كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَة بَعْد هَذَا , وَإِنَّمَا عَلَى الْمَرْء أَنْ يُرِيد وَجْه اللَّه تَعَالَى وَثَوَابه بِإِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُنْفَق عَلَيْهِ , وَلَا يَرْجُو مِنْهُ شَيْئًا وَلَا يَنْظُر مِنْ أَحْوَاله فِي حَال سِوَى أَنْ يُرَاعِي اِسْتِحْقَاقه , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا نُرِيد مِنْكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا " [ الْإِنْسَان : 9 ] . وَمَتَى أَنْفَقَ لِيُرِيدَ مِنْ الْمُنْفَق عَلَيْهِ جَزَاء بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه فَهَذَا لَمْ يُرِدْ وَجْه اللَّه , فَهَذَا إِذَا أَخْلَفَ ظَنّه فِيهِ مَنَّ بِإِنْفَاقِهِ وَآذَى . وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ مُضْطَرًّا دَافِع غُرْم إِمَّا لِمَانَّةٍ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ أَوْ لِقَرِينَةٍ أُخْرَى مِنْ اِعْتِنَاء مُعْتَنٍ فَهَذَا لَمْ يُرِدْ وَجْه اللَّه . وَإِنَّمَا يُقْبَل مَا كَانَ عَطَاؤُهُ لِلَّهِ وَأَكْثَر قَصْده اِبْتِغَاء مَا عِنْد اللَّه , كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَاهُ فَقَالَ : يَا عُمَر الْخَيْر جُزِيت الْجَنَّهْ اُكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ وَكُنْ لَنَا مِنْ الزَّمَان جُنَّهْ أُقْسِم بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ قَالَ عُمَر : إِنْ لَمْ أَفْعَل يَكُون مَاذَا ؟ قَالَ : إِذًا أَبَا حَفْص لَأَذْهَبَنَّهْ قَالَ : إِذَا ذَهَبْت يَكُون مَاذَا ؟ - قَالَ : تَكُون عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ يَوْم تَكُون الْأُعْطِيَّات هَنَّهْ وَمَوْقِف الْمَسْئُول بَيْنَهُنَّهْ إِمَّا إِلَى نَار وَإِمَّا جَنَّهْ فَبَكَى عُمَر حَتَّى اِخْضَلَّتْ لِحْيَته ثُمَّ قَالَ : يَا غُلَام , أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْم لَا لِشِعْرِهِ وَاَللَّه لَا أَمْلِك غَيْره . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَإِذَا كَانَ الْعَطَاء عَلَى هَذَا الْوَجْه خَالِيًا مِنْ طَلَب جَزَاء وَشُكْر وَعُرْيًا عَنْ اِمْتِنَان وَنَشْر كَانَ ذَلِكَ أَشْرَف لِلْبَاذِلِ وَأَهْنَأ لِلْقَابِلِ . فَأَمَّا الْمُعْطِي إِذَا اِلْتَمَسَ بِعَطَائِهِ الْجَزَاء , وَطَلَبَ بِهِ الشُّكْر وَالثَّنَاء , كَانَ صَاحِب سُمْعَة وَرِيَاء , وَفِي هَذَيْنِ مِنْ الذَّمّ مَا يُنَافِي السَّخَاء . وَإِنْ طَلَبَ الْجَزَاء كَانَ تَاجِرًا مُرْبِحًا لَا يَسْتَحِقّ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا . وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر " [ الْمُدَّثِّر : 6 ] أَيْ لَا تُعْطِ عَطِيَّة تَلْتَمِس بِهَا أَفْضَل مِنْهَا . وَذَهَبَ اِبْن زَيْد إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هِيَ فِي الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ فِي الْجِهَاد بَلْ يُنْفِقُونَ وَهُمْ قُعُود , وَإِنَّ الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا هِيَ فِي الَّذِينَ يَخْرُجُونَ بِأَنْفُسِهِمْ , قَالَ : وَلِذَلِكَ شُرِطَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَمْ يُشْتَرَط عَلَى الْأَوَّلِينَ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَفِي هَذَا الْقَوْل نَظَر ; لِأَنَّ التَّحَكُّم فِيهِ بَادٍ .


الْمَنّ ذِكْر النِّعْمَة عَلَى مَعْنَى التَّعْدِيد لَهَا وَالتَّقْرِيع بِهَا مِثْل أَنْ يَقُول : قَدْ أَحْسَنْت إِلَيْك وَنَعَشْتُك وَشَبَهه . وَقَالَ بَعْضهمْ : الْمَنّ : التَّحَدُّث بِمَا أَعْطَى حَتَّى يَبْلُغ ذَلِكَ الْمُعْطَى فَيُؤْذِيه . وَالْمَنّ مِنْ الْكَبَائِر , ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره , وَأَنَّهُ أَحَد الثَّلَاثَة الَّذِينَ لَا يَنْظُر اللَّه إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم , وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاثَة لَا يَنْظُر اللَّه إِلَيْهِمْ يَوْم الْقِيَامَة الْعَاقّ لِوَالِدَيْهِ وَالْمَرْأَة الْمُتَرَجِّلَة تَتَشَبَّه بِالرِّجَالِ وَالدَّيُّوث , وَثَلَاثَة لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة الْعَاقّ لِوَالِدَيْهِ وَالْمُدْمِن الْخَمْر وَالْمَنَّان بِمَا أَعْطَى ) . وَفِي بَعْض طُرُق مُسْلِم : ( الْمَنَّان هُوَ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مِنَّة ) . وَالْأَذَى : السَّبّ وَالتَّشَكِّي , وَهُوَ أَعَمّ مِنْ الْمَنّ لِأَنَّ الْمَنّ جُزْء مِنْ الْأَذَى لَكِنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعه . وَقَالَ اِبْن زَيْد : لَئِنْ ظَنَنْت أَنَّ سَلَامك يُثْقِل عَلَى مَنْ أَنْفَقْت عَلَيْهِ تُرِيد وَجْه اللَّه فَلَا تُسَلِّم عَلَيْهِ . وَقَالَتْ لَهُ اِمْرَأَة : يَا أَبَا أُسَامَة دُلَّنِي عَلَى رَجُل يُخْرِج فِي سَبِيل اللَّه حَقًّا فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُخْرِجُونَ يَأْكُلُونَ الْفَوَاكِه فَإِنَّ عِنْدِي أَسْهُمًا وَجَعْبَة . فَقَالَ : لَا بَارَكَ اللَّه فِي أَسْهُمك وَجَعْبَتك فَقَدْ آذَيْتهمْ قَبْل أَنْ تُعْطِيهِمْ .



قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : فَمَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيل اللَّه وَلَمْ يُتْبِعهُ مَنًّا وَلَا أَذًى كَقَوْلِهِ : مَا أَشَدّ إِلْحَاحك وَخَلَّصَنَا اللَّه مِنْك وَأَمْثَال هَذَا فَقَدْ تَضَمَّنَ اللَّه لَهُ الْأَجْر , وَالْأَجْر الْجَنَّة , وَنَفَى عَنْهُ الْخَوْف بَعْد مَوْته لِمَا يَسْتَقْبِل , وَالْحُزْن عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ دُنْيَاهُ , لِأَنَّهُ يَغْتَبِط بِآخِرَتِهِ فَقَالَ : " لَهُمْ أَجْرهمْ عِنْد رَبّهمْ وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " . وَكَفَى بِهَذَا فَضْلًا وَشَرَفًا لِلنَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى . وَفِيهَا دَلَالَة لِمَنْ فَضَّلَ الْغَنِيّ عَلَى الْفَقِير حَسَب مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 263
اِبْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف , أَيْ قَوْل مَعْرُوف أَوْلَى وَأَمْثَل , ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَالْمَهْدَوِيّ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز أَنْ يَكُون " قَوْل مَعْرُوف " خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف , أَيْ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ قَوْل مَعْرُوف . وَالْقَوْل الْمَعْرُوف هُوَ الدُّعَاء وَالتَّأْنِيس وَالتَّرْجِيَة بِمَا عِنْد اللَّه , خَيْر مِنْ صَدَقَة هِيَ فِي ظَاهِرهَا صَدَقَة وَفِي بَاطِنهَا لَا شَيْء ; لِأَنَّ ذِكْر الْقَوْل الْمَعْرُوف فِيهِ أَجْر وَهَذِهِ لَا أَجْر فِيهَا . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْكَلِمَة الطَّيِّبَة صَدَقَة وَإِنَّ مِنْ الْمَعْرُوف أَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ طَلْق ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . فَيَتَلَقَّى السَّائِل بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحِيب , وَيُقَابِلهُ بِالطَّلَاقَةِ وَالتَّقْرِيب , لِيَكُونَ مَشْكُورًا إِنْ أَعْطَى وَمَعْذُورًا إِنْ مَنَعَ . وَقَدْ قَالَ بَعْض الْحُكَمَاء : اِلْقَ صَاحِب الْحَاجَة بِالْبِشْرِ فَإِنْ عَدِمْت شُكْره لَمْ تَعْدَم عُذْره . وَحَكَى اِبْن لنكك أَنَّ أَبَا بَكْر بْن دُرَيْد قَصَدَ بَعْض الْوُزَرَاء فِي حَاجَة لَمْ يَقْضِهَا وَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ ضَجَر فَقَالَ : لَا تَدْخُلَنك ضَجْرَة مِنْ سَائِل فَلَخَيْر دَهْرك أَنْ تُرَى مَسْئُولًا لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِّ وَجْه مُؤَمِّل فَبَقَاء عِزّك أَنْ تُرَى مَأْمُولًا تَلْقَى الْكَرِيم فَتَسْتَدِلّ بِبِشْرِهِ وَتَرَى الْعُبُوس عَلَى اللَّئِيم دَلِيلًا وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ قَلِيل صَائِر خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوق جَمِيلًا وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا سَأَلَ السَّائِل فَلَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَته حَتَّى يَفْرُغ مِنْهَا ثُمَّ رُدُّوا عَلَيْهِ بِوَقَارٍ وَلِين أَوْ بِبَذْلٍ يَسِير أَوْ رَدّ جَمِيل فَقَدْ يَأْتِيكُمْ مَنْ لَيْسَ بِإِنْسٍ وَلَا جَانّ يَنْظُرُونَ صَنِيعكُمْ فِيمَا خَوَّلَكُمْ اللَّه تَعَالَى ) .

قُلْت : دَلِيله حَدِيث أَبْرَص وَأَقْرَع وَأَعْمَى , خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَذَلِكَ أَنَّ مَلَكًا تَصَوَّرَ فِي صُورَة أَبْرَص مَرَّة وَأَقْرَع أُخْرَى وَأَعْمَى أُخْرَى اِمْتِحَانًا لِلْمَسْئُولِ . وَقَالَ بِشْر بْن الْحَارِث : رَأَيْت عَلِيًّا فِي الْمَنَام فَقُلْت : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قُلْ لِي شَيْئًا يَنْفَعنِي اللَّه بِهِ , قَالَ : مَا أَحْسَن عَطْف الْأَنْبِيَاء عَلَى الْفُقَرَاء رَغْبَة فِي ثَوَاب اللَّه تَعَالَى , وَأَحْسَن مِنْهُ تِيه الْفُقَرَاء عَلَى الْأَغْنِيَاء ثِقَة بِمَوْعُودِ اللَّه . فَقُلْت : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ زِدْنِي , فَوَلَّى وَهُوَ يَقُول : قَدْ كُنْت مَيِّتًا فَصِرْت حَيًّا وَعَنْ قَلِيل تَصِير مَيِّتَا فَاخْرُبْ بِدَارِ الْفَنَاء بَيْتًا وَابْنِ بِدَارِ الْبَقَاء بَيْتَا


الْمَغْفِرَة هُنَا : السَّتْر لِلْخَلَّةِ وَسُوء حَالَة الْمُحْتَاج , وَمِنْ هَذَا قَوْل الْأَعْرَابِيّ - وَقَدْ سَأَلَ قَوْمًا بِكَلَامٍ فَصِيح - فَقَالَ لَهُ قَائِل : مِمَّنْ الرَّجُل ؟ فَقَالَ لَهُ : اللَّهُمَّ غَفْرًا ! سُوء الِاكْتِسَاب يَمْنَع مِنْ الِانْتِسَاب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى تَجَاوُز عَنْ السَّائِل إِذَا أَلَحَّ وَأَغْلَظَ وَجَفَى خَيْر مِنْ التَّصَدُّق عَلَيْهِ مِنْ الْمَنّ وَالْأَذَى , قَالَ مَعْنَاهُ النَّقَّاش . وَقَالَ النَّحَّاس : هَذَا مُشْكِل يُبَيِّنهُ الْإِعْرَاب . " مَغْفِرَة " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر " خَيْر مِنْ صَدَقَة " . وَالْمَعْنَى وَاَللَّه أَعْلَم وَفِعْل يُؤَدِّي إِلَى الْمَغْفِرَة خَيْر مِنْ صَدَقَة يَتْبَعهَا أَذًى , وَتَقْدِيره فِي الْعَرَبِيَّة وَفِعْل مَغْفِرَة . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِثْل قَوْلك : تَفَضُّل اللَّه عَلَيْك أَكْبَر مِنْ الصَّدَقَة الَّتِي تَمُنّ بِهَا , أَيْ غُفْرَان اللَّه خَيْر مِنْ صَدَقَتكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَمُنُّونَ بِهَا .



أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ غِنَاهُ الْمُطْلَق أَنَّهُ غَنِيّ عَنْ صَدَقَة الْعِبَاد , وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهَا لِيُثِيبَهُمْ , وَعَنْ حِلْمه بِأَنَّهُ لَا يُعَاجِل بِالْعُقُوبَةِ مَنْ مَنَّ وَآذَى بِصَدَقَتِهِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 264
" بِالْمَنِّ وَالْأَذَى " قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ عَدَم الْقَبُول وَحِرْمَان الثَّوَاب بِالْإِبْطَالِ , وَالْمُرَاد الصَّدَقَة الَّتِي يَمُنّ بِهَا وَيُؤْذِي , لَا غَيْرهَا . وَالْعَقِيدَة أَنَّ السَّيِّئَات لَا تُبْطِل الْحَسَنَات وَلَا تُحْبِطهَا , فَالْمَنّ وَالْأَذَى فِي صَدَقَة لَا يُبْطِل صَدَقَة غَيْرهَا .

قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْآيَة : إِنَّ الصَّدَقَة الَّتِي يَعْلَم اللَّه مِنْ صَاحِبهَا أَنَّهُ يَمُنّ أَوْ يُؤْذِي بِهَا فَإِنَّهَا لَا تُقْبَل . وَقِيلَ : بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّه لِلْمَلَكِ عَلَيْهَا أَمَارَة فَهُوَ لَا يَكْتُبهَا , وَهَذَا حَسَن . وَالْعَرَب تَقُول لِمَا يُمَنّ بِهِ : يَد سَوْدَاء . وَلِمَا يُعْطَى عَنْ غَيْر مَسْأَلَة : يَد بَيْضَاء . وَلِمَا يُعْطَى عَنْ مَسْأَلَة : يَد خَضْرَاء . وَقَالَ بَعْض الْبُلَغَاء : مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ سَقَطَ شُكْره , وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ حَبِطَ أَجْره . وَقَالَ بَعْض الشُّعَرَاء : وَصَاحِب سَلَفَتْ مِنْهُ إِلَيَّ يَد أَبْطَأَ عَلَيْهِ مُكَافَاتِي فَعَادَانِي لَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّ الدَّهْر حَارَبَنِي أَبْدَى النَّدَامَة فِيمَا كَانَ أَوْلَانِي وَقَالَ آخَر : أَفْسَدْت بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْت مِنْ حَسَن لَيْسَ الْكَرِيم إِذَا أَسْدَى بِمَنَّانِ وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق فَأَحْسَنَ : أَحْسَن مِنْ كُلّ حَسَنْ فِي كُلّ وَقْت وَزَمَنْ صَنِيعَة مَرْبُوبَة خَالِيَة مِنْ الْمِنَنْ وَسَمِعَ اِبْن سِيرِينَ رَجُلًا يَقُول لِرَجُلٍ : فَعَلْت إِلَيْك وَفَعَلْت فَقَالَ لَهُ : اُسْكُتْ فَلَا خَيْر فِي الْمَعْرُوف إِذَا أُحْصِيَ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِيَّاكُمْ وَالِامْتِنَان بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُبْطِل الشُّكْر وَيَمْحَق الْأَجْر - ثُمَّ تَلَا - " لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى " ) .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : كَرِهَ مَالِك لِهَذِهِ الْآيَة أَنْ يُعْطِي الرَّجُل صَدَقَته الْوَاجِبَة أَقَارِبه لِئَلَّا يَعْتَاض مِنْهُمْ الْحَمْد وَالثَّنَاء , وَيُظْهِر مِنَّته عَلَيْهِمْ وَيُكَافِئُوهُ عَلَيْهَا فَلَا تَخْلُص لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى . وَاسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيهَا الْأَجَانِب , وَاسْتَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يُوَلِّي غَيْره تَفْرِيقهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَام عَدْلًا , لِئَلَّا تَحْبَط بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالشُّكْر وَالثَّنَاء وَالْمُكَافَأَة بِالْخِدْمَةِ مِنْ الْمُعْطَى . وَهَذَا بِخِلَافِ صَدَقَة التَّطَوُّع السِّرّ ; لِأَنَّ ثَوَابهَا إِذَا حَبِطَ سَلِمَ مِنْ الْوَعِيد وَصَارَ فِي حُكْم مَنْ لَمْ يَفْعَل , وَالْوَاجِب إِذَا حَبِطَ ثَوَابه تَوَجَّهَ الْوَعِيد عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْم مَنْ لَمْ يَفْعَل .

الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ إِبْطَال " كَاَلَّذِي " فَهِيَ نَعْت لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوف . وَيَجُوز أَنْ تَكُون مَوْضِع الْحَال . مَثَّلَ اللَّه تَعَالَى الَّذِي يَمُنّ وَيُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ بِاَلَّذِي يُنْفِق مَاله رِئَاء النَّاس لَا لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى , وَبِالْكَافِرِ الَّذِي يُنْفِق لِيُقَالَ جَوَاد وَلِيُثْنَى عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الثَّنَاء . ثُمَّ مَثَّلَ هَذَا الْمُنْفِق أَيْضًا بِصَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب فَيَظُنّهُ الظَّانّ أَرْضًا مُنْبِتَة طَيِّبَة , فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِل مِنْ الْمَطَر أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَاب وَبَقِيَ صَلْدًا , فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُرَائِي . فَالْمَنّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاء تَكْشِف عَنْ النِّيَّة فِي الْآخِرَة فَتَبْطُل الصَّدَقَة كَمَا يَكْشِف الْوَابِل عَنْ الصَّفْوَان , وَهُوَ الْحَجَر الْكَبِير الْأَمْلَس . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْآيَةِ إِبْطَال الْفَضْل دُون الثَّوَاب , فَالْقَاصِد بِنَفَقَتِهِ الرِّيَاء غَيْر مُثَاب كَالْكَافِرِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِد بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى فَيَسْتَحِقّ الثَّوَاب . وَخَالَفَ صَاحِب الْمَنّ وَالْأَذَى الْقَاصِد وَجْه اللَّه الْمُسْتَحِقّ ثَوَابه - وَإِنْ كَرَّرَ عَطَاءَهُ - وَأَبْطَلَ فَضْله . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا يَبْطُل ثَوَاب صَدَقَته مِنْ وَقْت مَنّهُ وَإِيذَائِهِ , وَمَا قَبْل ذَلِكَ يُكْتَب لَهُ وَيُضَاعَف , فَإِذَا مَنَّ وَآذَى اِنْقَطَعَ التَّضْعِيف ; لِأَنَّ الصَّدَقَة تُرْبَى لِصَاحِبِهَا حَتَّى تَكُون أَعْظَم مِنْ الْجَبَل , فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ يَد صَاحِبهَا خَالِصَة عَلَى الْوَجْه الْمَشْرُوع ضُوعِفَتْ , فَإِذَا جَاءَ الْمَنّ بِهَا وَالْأَذَى وُقِفَ بِهَا هُنَاكَ وَانْقَطَعَ زِيَادَة التَّضْعِيف عَنْهَا , وَالْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم . وَالصَّفْوَان جَمْع وَاحِده صَفْوَانَة , قَالَهُ الْأَخْفَش . قَالَ : وَقَالَ بَعْضهمْ : صَفْوَان وَاحِد , مِثْل حَجَر . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : صَفْوَان وَاحِد وَجَمْعه صِفْوَان وَصُفِيّ وَصِفِيّ , وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد وَقَالَ : إِنَّمَا صُفِيّ جَمْع صَفَا كَقَفَا وَقُفِيّ , وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى الصَّفْوَاء وَالصَّفَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالزُّهْرِيّ " صَفَوَان " بِتَحْرِيكِ الْفَاء , وَهِيَ لُغَة . وَحَكَى قُطْرُب صِفْوَان . قَالَ النَّحَّاس : صَفْوَان وَصَفَوَان يَجُوز أَنْ يَكُون جَمْعًا وَيَجُوز أَنْ يَكُون وَاحِدًا , إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَكُون وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وَابِل " وَإِنْ كَانَ يَجُوز تَذْكِير الْجَمْع إِلَّا أَنَّ الشَّيْء لَا يَخْرُج عَنْ بَابه إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِع , فَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْكِسَائِيّ فِي الْجَمْع فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى حَقِيقَة النَّظَر , وَلَكِنْ صِفْوَان جَمْع صَفًا , وَصَفًا بِمَعْنَى صَفْوَان , وَنَظِيره وَرَل وَوِرْلَان وَأَخ وَإِخْوَان وَكَرًا وَكِرْوَان , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : لَنَا يَوْم وَلِلْكِرْوَان يَوْم تَطِير الْبَائِسَات وَلَا نَطِير وَالضَّعِيف فِي الْعَرَبِيَّة كِرْوَان جَمْع كَرَوَان , وَصَفِيّ وَصِفِيّ جَمْع صَفًا مِثْل عَصًا . وَالْوَابِل : الْمَطَر الشَّدِيد . وَقَدْ وَبَلَتْ السَّمَاء تَبِل , وَالْأَرْض مَوْبُولَة . قَالَ الْأَخْفَش : وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا " [ الْمُزَّمِّل : 16 ] أَيْ شَدِيدًا . وَضَرْب وَبِيل , وَعَذَاب وَبِيل أَيْ شَدِيد . وَالصَّلْد : الْأَمْلَس مِنْ الْحِجَارَة . قَالَ الْكِسَائِيّ : صَلِدَ يَصْلَد صَلَدًا بِتَحْرِيكِ اللَّام فَهُوَ صَلْد بِالْإِسْكَانِ , وَهُوَ كُلّ مَا لَا يُنْبِت شَيْئًا , وَمِنْهُ جَبِين أَصْلَد , وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيّ لِرُؤْبَة : بَرَّاق أَصْلَاد الْجَبِين الْأَجْلَه قَالَ النَّقَّاش : الْأَصْلَد الْأَجْرَد بِلُغَةِ هُذَيْل .


" لَا يَقْدِرُونَ " يَعْنِي الْمُرَائِي وَالْكَافِر وَالْمَانّ " عَلَى شَيْء " أَيْ عَلَى الِانْتِفَاع بِثَوَابِ شَيْء مِنْ إِنْفَاقهمْ وَهُوَ كَسْبهمْ عِنْد حَاجَتهمْ إِلَيْهِ , إِذَا كَانَ لِغَيْرِ اللَّه فَعَبَّرَ عَنْ النَّفَقَة بِالْكَسْبِ ; لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا الْكَسْب . وَقِيلَ : ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا لِلْمُرَائِي فِي إِبْطَال ثَوَابه وَلِصَاحِبِ الْمَنّ وَالْأَذَى فِي إِبْطَال فَضْله , ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ .
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌسورة البقرة الآية رقم 265
" اِبْتِغَاء " مَفْعُول مِنْ أَجْله . " وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسهمْ " عَطْف عَلَيْهِ . وَقَالَ مَكِّيّ فِي الْمُشْكِل : كِلَاهُمَا مَفْعُول مِنْ أَجْله . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهُوَ مَرْدُود , وَلَا يَصِحّ فِي " تَثْبِيتًا " أَنَّهُ مَفْعُول مِنْ أَجْله ; لِأَنَّ الْإِنْفَاق لَيْسَ مِنْ أَجْل التَّثْبِيت . و " اِبْتِغَاء " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال , وَكَانَ يَتَوَجَّه فِيهِ النَّصْب عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله , لَكِنْ النَّصْب عَلَى الْمَصْدَر هُوَ الصَّوَاب مِنْ جِهَة عَطْف الْمَصْدَر الَّذِي هُوَ " تَثْبِيتًا " عَلَيْهِ . وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى صِفَة صَدَقَات الْقَوْم الَّذِينَ لَا خَلَاق لِصَدَقَاتِهِمْ , وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يُشْبِه ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا , عَقَّبَ فِي هَذِهِ الْآيَة بِذِكْرِ نَفَقَات الْقَوْم الَّذِينَ تَزْكُو صَدَقَاتهمْ إِذْ كَانَتْ عَلَى وَفْق الشَّرْع وَوَجْهه . و " اِبْتِغَاء " مَعْنَاهُ طَلَب . و " مَرْضَات " مَصْدَر مِنْ رَضِيَ يَرْضَى . " وَتَثْبِيتًا " مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ صَدَقَاتهمْ , قَالَهُ مُجَاهِد وَالْحَسَن . قَالَ الْحَسَن : كَانَ الرَّجُل إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ , فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ وَإِنْ خَالَطَهُ شَكّ أَمْسَكَ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَقَتَادَة : مَعْنَاهُ وَاحْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسهمْ . وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَالسُّدِّيّ وَقَتَادَة أَيْضًا وَابْن زَيْد وَأَبُو صَالِح وَغَيْرهمْ : " وَتَثْبِيتًا " مَعْنَاهُ وَتَيَقُّنًا أَيْ أَنَّ نُفُوسهمْ لَهَا بَصَائِر فَهِيَ تُثَبِّتهُمْ عَلَى الْإِنْفَاق فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى تَثْبِيتًا . وَهَذِهِ الْأَقْوَال الثَّلَاث أَصْوَب مِنْ قَوْل الْحَسَن وَمُجَاهِد ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ إِنَّمَا عِبَارَته " وَتَثْبِيتًا " مَصْدَر عَلَى غَيْر الْمَصْدَر . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا لَا يَسُوغ إِلَّا مَعَ ذِكْر الْمَصْدَر وَالْإِفْصَاح بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّم , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاَللَّه أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْض نَبَاتًا " [ نُوح : 17 ] , " وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا " [ الْمُزَّمِّل : 8 ] . وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقَع إِفْصَاح بِفِعْلٍ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَأْتِي بِمَصْدَرٍ فِي غَيْر مَعْنَاهُ ثُمَّ تَقُول : أَحْمِلهُ عَلَى مَعْنَى كَذَا وَكَذَا , لِفِعْلٍ لَمْ يَتَقَدَّم لَهُ ذِكْر . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذَا مَهْيَع كَلَام الْعَرَب فِيمَا عَلِمْته . وَقَالَ النَّحَّاس : لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ مُجَاهِد لَكَانَ وَتَثَبُّتًا مِنْ تَثَبَّتَ كَتَكَرَّمْت تَكَرُّمًا , وَقَوْل قَتَادَة : اِحْتِسَابًا , لَا يُعْرَف إِلَّا أَنْ يُرَاد بِهِ أَنَّ أَنْفُسهمْ تُثَبِّتهُمْ مُحْتَسِبَة , وَهَذَا بَعِيد . وَقَوْل الشَّعْبِيّ حَسَن , أَيْ تَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسهمْ لَهُمْ عَلَى إِنْفَاق ذَلِكَ فِي طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , يُقَال : ثَبَّتُّ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْر , أَيْ صَحَّحْت عَزْمه , وَقَوَّيْت فِيهِ رَأْيه , أُثَبِّتهُ تَثْبِيتًا , أَيْ أَنْفُسهمْ مُوقِنَة بِوَعْدِ اللَّه عَلَى تَثْبِيتهمْ فِي ذَلِكَ . وَقِيلَ : " وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسهمْ " أَيْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُثَبِّت عَلَيْهَا , أَيْ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسهمْ لِثَوَابِهَا , بِخِلَافِ الْمُنَافِق الَّذِي لَا يَحْتَسِب الثَّوَاب .


الْجَنَّة الْبُسْتَان وَهِيَ قِطْعَة أَرْض تَنْبُت فِيهَا الْأَشْجَار حَتَّى تُغَطِّيهَا , فَهِيَ مَأْخُوذَة مِنْ لَفْظ الْجِنّ وَالْجَنِين لِاسْتِتَارِهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَالرَّبْوَة : الْمَكَان الْمُرْتَفِع اِرْتِفَاعًا يَسِيرًا , مَعَهُ فِي الْأَغْلَب كَثَافَة تُرَاب , وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَبَاته أَحْسَن , وَلِذَلِكَ خَصَّ الرَّبْوَة بِالذِّكْرِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَرِيَاض الْحَزْن لَيْسَتْ مِنْ هَذَا كَمَا زَعَمَ الطَّبَرِيّ , بَلْ تِلْكَ هِيَ الرِّيَاض الْمَنْسُوبَة إِلَى نَجْد ; لِأَنَّهَا خَيْر مِنْ رِيَاض تِهَامَة , وَنَبَات نَجْد أَعْطَر , وَنَسِيمه أَبْرَد وَأَرَقّ , وَنَجْد يُقَال لَهَا حَزْن . وَقَلَّمَا يَصْلُح هَوَاء تِهَامَة إِلَّا بِاللَّيْلِ , وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْأَعْرَابِيَّة : " زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَة " . وَقَالَ السُّدِّيّ : " بِرَبْوَةٍ " أَيْ بِرَبَاوَة , وَهُوَ مَا اِنْخَفَضَ مِنْ الْأَرْض . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ عِبَارَة قَلِقَة , وَلَفْظ الرَّبْوَة هُوَ مَأْخُوذ مِنْ رَبَا يَرْبُو إِذَا زَادَ .

قُلْت : عِبَارَة السُّدِّيّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ بِنَاء " ر ب و " مَعْنَاهُ الزِّيَادَة فِي كَلَام الْعَرَب , وَمِنْهُ الرَّبْو لِلنَّفَسِ الْعَالِي . رَبَا يَرْبُو إِذَا أَخَذَهُ الرَّبْو . وَرَبَا الْفَرَس إِذَا أَخَذَهُ الرَّبْو مِنْ عَدُوّ أَوْ فَزَع . وَقَالَ الْفَرَّاء فِي قَوْله تَعَالَى : " أَخَذَهُمْ أَخْذَة رَابِيَة " [ الْحَاقَّة : 10 ] أَيْ زَائِدَة , كَقَوْلِك : أَرْبَيْت إِذَا أَخَذْت أَكْثَر مِمَّا أَعْطَيْت . وَرَبَوْت فِي بَنِي فُلَان وَرَبِيت أَيْ نَشَأْت فِيهِمْ . وَقَالَ الْخَلِيل : الرَّبْوَة أَرْض مُرْتَفِعَة طَيِّبَة وَخَصَّ اللَّه تَعَالَى بِالذِّكْرِ الَّتِي لَا يَجْرِي فِيهَا مَاء مِنْ حَيْثُ الْعُرْف فِي بِلَاد الْعَرَب , فَمَثَّلَ لَهُمْ مَا يُحِسُّونَهُ وَيُدْرِكُونَهُ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الرَّبْوَة الْمَكَان الْمُرْتَفِع الَّذِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَار ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : " أَصَابَهَا وَابِل " إِلَى آخِر الْآيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا مَاء جَارٍ , وَلَمْ يَرِد جِنْس الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَار ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ رَبْوَة ذَات قَرَار وَمَعِين . وَالْمَعْرُوف مِنْ كَلَام الْعَرَب أَنَّ الرَّبْوَة مَا اِرْتَفَعَ عَمَّا جَاوَرَهُ سَوَاء جَرَى فِيهَا مَاء أَوْ لَمْ يَجْرِ . وَفِيهَا خَمْس لُغَات " رُبْوَةٌ " بِضَمِّ الرَّاء , وَبِهَا قَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو . و " رَبْوَةٌ " بِفَتْحِ الرَّاء , وَبِهَا قَرَأَ عَاصِم وَابْن عَامِر وَالْحَسَن . " وَرِبْوَة " بِكَسْرِ الرَّاء , وَبِهَا قَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو إِسْحَاق السَّبِيعِيّ . و " رَبَاوَة " بِالْفَتْحِ , وَبِهَا قَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن , وَقَالَ الشَّاعِر : مَنْ مُنْزِلِي فِي رَوْضَة بِرَبَاوَة بَيْن النَّخِيل إِلَى بَقِيع الْغَرْقَد ؟ و " رِبَاوَة " بِالْكَسْرِ , وَبِهَا قَرَأَ الْأَشْهَب الْعُقَيْلِيّ . قَالَ الْفَرَّاء : وَيُقَال بِرَبَاوَة وَبِرِبَاوَة , وَكُلّه مِنْ الرَّابِيَة , وَفِعْله رَبَا يَرْبُو .


يَعْنِي الرَّبْوَة .



أَيْ مَطَر شَدِيد قَالَ الشَّاعِر : مَا رَوْضَة مِنْ رِيَاض الْحَزْن مُعْشِبَة خَضْرَاء جَادَ عَلَيْهَا وَابِل هَطِل



أَيْ أَعْطَتْ .


بِضَمِّ الْهَمْزَة : الثَّمَر الَّذِي يُؤْكَل , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " تُؤْتِي أُكُلهَا كُلّ حِين " [ إِبْرَاهِيم : 25 ] . وَالشَّيْء الْمَأْكُول مِنْ كُلّ شَيْء يُقَال لَهُ أُكُل . وَالْأُكْلَة : اللُّقْمَة , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( فَإِنْ كَانَ الطَّعَام مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَده مِنْهُ أُكْلَة أَوْ أُكْلَتَيْنِ ) يَعْنِي لُقْمَة أَوْ لُقْمَتَيْنِ , خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَإِضَافَته إِلَى الْجَنَّة إِضَافَة اِخْتِصَاص , كَسَرْجِ الْفَرَس وَبَاب الدَّار . وَإِلَّا فَلَيْسَ الثَّمَر مِمَّا تَأْكُلهُ الْجَنَّة . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " أُكْلهَا " بِضَمِّ الْهَمْزَة وَسُكُون الْكَاف , وَكَذَلِكَ كُلّ مُضَاف إِلَى مُؤَنَّث , وَفَارَقَهُمَا أَبُو عَمْرو فِيمَا أُضِيفَ إِلَى مُذَكَّر مِثْل أُكُله أَوْ كَانَ غَيْر مُضَاف إِلَى شَيْء مِثْل " أُكُل خَمْط " فَثَقَّلَ أَبُو عَمْرو ذَلِكَ وَخَفَّفَاهُ . وَقَرَأَ عَاصِم وَابْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ فِي جَمِيع مَا ذَكَرْنَاهُ بِالتَّثْقِيلِ . وَيُقَال : أَكْل وَأُكُل بِمَعْنًى .



أَيْ أَعْطَتْ ضِعْفَيْ ثَمَر غَيْرهَا مِنْ الْأَرَضِينَ . وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : حَمَلَتْ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَة , وَالْأَوَّل أَكْثَر , أَيْ أَخْرَجَتْ مِنْ الزَّرْع مَا يُخْرِج غَيْرهَا فِي سَنَتَيْنِ .

تَأْكِيد مِنْهُ تَعَالَى لِمَدْحِ هَذِهِ الرَّبْوَة بِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِل فَإِنَّ الطَّلّ يَكْفِيهَا وَمَنُوب مَنَاب الْوَابِل فِي إِخْرَاج الثَّمَرَة ضِعْفَيْنِ , وَذَلِكَ لِكَرَمِ الْأَرْض وَطِيبهَا . قَالَ الْمُبَرِّد وَغَيْره : تَقْدِيره فَطَلّ يَكْفِيهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : فَاَلَّذِي يُصِيبهَا طَلّ . وَالطَّلّ : الْمَطَر الضَّعِيف الْمُسْتَدِقّ مِنْ الْقَطْر الْخَفِيف , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره , وَهُوَ مَشْهُور اللُّغَة . وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ مُجَاهِد : الطَّلّ : النَّدَى . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهُوَ تَجَوُّز وَتَشْبِيه . قَالَ النَّحَّاس : وَحَكَى أَهْل اللُّغَة وَبَلَتْ وَأَوْبَلَتْ , وَطَلَّتْ وَأَطَلَّتْ . وَفِي الصِّحَاح : الطَّلّ أَضْعَف الْمَطَر وَالْجَمْع الطِّلَال , تَقُول مِنْهُ : طُلَّتْ الْأَرْض وَأَطَلَّهَا النَّدَى فَهِيَ مَطْلُولَة . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَزَرْع الطَّلّ أَضْعَف مِنْ زَرْع الْمَطَر وَأَقَلّ رِيعًا , وَفِيهِ - وَإِنْ قَلَّ - تَمَاسُك ونف . قَالَ بَعْضهمْ : فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ كَمَثَلِ جَنَّة بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِل فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِل فَطَلّ فَآتَتْ أُكُلهَا ضِعْفَيْنِ . يَعْنِي اِخْضَرَّتْ أَوْرَاق الْبُسْتَان وَخَرَجَتْ ثَمَرَتهَا ضِعْفَيْنِ .

‎قُلْت : التَّأْوِيل الْأَوَّل أَصْوَب وَلَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير . فَشَبَّهَ تَعَالَى نُمُوّ نَفَقَات هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُرْبِي اللَّه صَدَقَاتهمْ كَتَرْبِيَةِ الْفُلُوّ وَالْفَصِيل بِنُمُوِّ نَبَات الْجَنَّة بِالرَّبْوَةِ الْمَوْصُوفَة , بِخِلَافِ الصَّفْوَان الَّذِي اِنْكَشَفَ عَنْهُ تُرَابه فَبَقِيَ صَلْدًا . وَخَرَّجَ مُسْلِم وَغَيْره عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَتَصَدَّق أَحَد بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْب طَيِّب إِلَّا أَخَذَهَا اللَّه بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدكُمْ فَلُوّهُ أَوْ فَصِيله حَتَّى تَكُون مِثْل الْجَبَل أَوْ أَعْظَم ) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأ أَيْضًا .


وَعْد وَوَعِيد . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ " يَعْمَلُونَ " بِالْيَاءِ كَأَنَّهُ يُرِيد بِهِ النَّاس أَجْمَع , أَوْ يُرِيد الْمُنْفِقِينَ فَقَطْ , فَهُوَ وَعْد مَحْض .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَسورة البقرة الآية رقم 266
حَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ السُّدِّيّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَثَل آخَر لِنَفَقَةِ الرِّيَاء , وَرَجَّحَ هُوَ هَذَا الْقَوْل .

قُلْت وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا قَالَ : هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلْمُرَائِينَ بِالْأَعْمَالِ يُبْطِلهَا يَوْم الْقِيَامَة أَحْوَج مَا كَانَ إِلَيْهَا , كَمَثَلِ رَجُل كَانَتْ لَهُ جَنَّة وَلَهُ أَطْفَال لَا يَنْفَعُونَهُ فَكَبِرَ وَأَصَابَ الْجَنَّة إِعْصَار أَيْ رِيح عَاصِف فِيهِ نَار فَاحْتَرَقَتْ فَفَقَدَهَا أَحْوَج مَا كَانَ إِلَيْهَا . وَحُكِيَ عَنْ اِبْن زَيْد أَنَّهُ قَرَأَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى " [ الْبَقَرَة : 264 ] الْآيَة , قَالَ : ثُمَّ ضَرَبَ فِي ذَلِكَ مَثَلًا فَقَالَ : " أَيَوَدُّ أَحَدكُمْ " الْآيَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا أَبْيَن مِنْ الَّذِي رَجَّحَ الطَّبَرِيّ , وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَة بِمَثَلٍ آخَر لِنَفَقَةِ الرِّيَاء , هَذَا هُوَ مُقْتَضَى سِيَاق الْكَلَام . وَأَمَّا بِالْمَعْنَى فِي غَيْر هَذَا السِّيَاق فَتُشْبِه حَال كُلّ مُنَافِق أَوْ كَافِر عَمِلَ عَمَلًا وَهُوَ يَحْسَب أَنَّهُ يُحْسِن صُنْعًا فَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَقْت الْحَاجَة لَمْ يَجِد شَيْئًا .

قُلْت : قَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهَا مَثَل لِمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّه مِنْ مُنَافِق وَكَافِر عَلَى مَا يَأْتِي , إِلَّا أَنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيّ عَنْهُ خِلَاف هَذَا . خَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر قَالَ : قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب يَوْمًا لِأَصْحَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ " أَيَوَدُّ أَحَدكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ جَنَّة مِنْ نَخِيل وَأَعْنَاب " ؟ قَالُوا : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم , فَغَضِبَ عُمَر وَقَالَ : قُولُوا : نَعْلَم أَوْ لَا نَعْلَم ! فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْء يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , قَالَ : يَا اِبْن أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّر نَفْسك , قَالَ اِبْن عَبَّاس : ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَر : أَيّ عَمَل ؟ قَالَ اِبْن عَبَّاس : لِعَمَلِ رَجُل غَنِيّ يَعْمَل بِطَاعَةِ اللَّه ثُمَّ بَعَثَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ الشَّيْطَان فَعَمِلَ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى أَحْرَقَ عَمَله . فِي رِوَايَة : فَإِذَا فَنِيَ عُمُره وَاقْتَرَبَ أَجَله خَتَمَ ذَلِكَ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَال الشَّقَاء , فَرَضِيَ ذَلِكَ عُمَر . وَرَوَى اِبْن أَبِي مُلَيْكَة أَنَّ عُمَر تَلَا هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ : هَذَا مَثَل ضُرِبَ لِلْإِنْسَانِ يَعْمَل عَمَلًا صَالِحًا حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْد آخِر عُمُره أَحْوَج مَا يَكُون إِلَيْهِ عَمِلَ عَمَل السُّوء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَهَذَا نَظَر يَحْمِل الْآيَة عَلَى كُلّ مَا يَدْخُل تَحْت أَلْفَاظهَا , وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَغَيْرهمْ . وَخَصَّ النَّخِيل وَالْأَعْنَاب بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِمَا وَفَضْلهمَا عَلَى سَائِر الشَّجَر . وَقَرَأَ الْحَسَن " جَنَّات " بِالْجَمْعِ .


" تَجْرِي " فِي مَوْضِع النَّعْت لِجَنَّة وَهُوَ مَرْفُوع لِأَنَّهُ فِعْل مُسْتَقْبَل فَحُذِفَتْ الضَّمَّة مِنْ الْيَاء لِثِقَلِهَا مَعَهَا " مِنْ تَحْتهَا " أَيْ مِنْ تَحْت أَشْجَارهَا وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْر ; لِأَنَّ الْجَنَّات دَالَّة عَلَيْهَا . " الْأَنْهَار " أَيْ مَاء الْأَنْهَار فَنُسِبَ الْجَرْي إِلَى الْأَنْهَار تَوَسُّعًا وَإِنَّمَا يَجْرِي الْمَاء وَحْده فَحُذِفَ اخْتِصَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] أَيْ أَهْلهَا وَقَالَ الشَّاعِر : نُبِّئْت أَنَّ النَّار بَعْدك أُوقِدَتْ وَاسْتُبَّ بَعْدك يَا كُلَيْب الْمَجْلِس أَرَادَ : أَهْل الْمَجْلِس , فَحُذِفَ . وَالنَّهَر : مَأْخُوذ مِنْ أَنْهَرْت , أَيْ وَسَّعْت وَمِنْهُ قَوْل قَيْس بْن الْخَطِيم : مَلَكْت بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْت فَتْقهَا يَرَى قَائِم مِنْ دُونهَا مَا وَرَاءَهَا أَيْ وَسَّعْتهَا يَصِف طَعْنَة وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا أَنْهَرَ الدَّم وَذُكِرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ فَكُلُوهُ ) مَعْنَاهُ مَا وَسَّعَ الذَّبْح حَتَّى يَجْرِي الدَّم كَالنَّهَرِ وَجَمْع النَّهَر نُهُر وَأَنْهَار , وَنَهَر نِهَر كَثِير الْمَاء , قَالَ أَبُو ذُؤَيْب : أَقَامَتْ بِهِ فَابْتَنَتْ خَيْمَة عَلَى قَصَب وَفُرَات نَهَر



يُرِيد لَيْسَ شَيْء مِنْ الثِّمَار إِلَّا وَهُوَ فِيهَا نَابِت .



عَطَفَ مَاضِيًا عَلَى مُسْتَقْبَل وَهُوَ " تَكُون " وَقِيلَ : " يَوَدّ " فَقِيلَ : التَّقْدِير وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَر . وَقِيلَ إِنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَيَوَدُّ أَحَدكُمْ أَنْ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَنَّة . وَقِيلَ : الْوَاو وَاو الْحَال , وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى " وَلَهُ " . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : ( إِنَّ هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ , كَهَيْئَةِ رَجُل غَرَسَ بُسْتَانًا فَأَكْثَرَ فِيهِ مِنْ الثَّمَر فَأَصَابَهُ الْكِبَر وَلَهُ ذُرِّيَّة ضُعَفَاء - يُرِيد صِبْيَانًا بَنَات وَغِلْمَانًا - فَكَانَتْ مَعِيشَته وَمَعِيشَة ذُرِّيَّته مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَان , فَأَرْسَلَ اللَّه عَلَى بُسْتَانه رِيحًا فِيهَا نَار فَأَحْرَقَتْهُ , وَلَمْ يَكُنْ عِنْده قُوَّة فَيَغْرِسهُ ثَانِيَة , وَلَمْ يَكُنْ عِنْد بَنِيهِ خَيْر فَيَعُودُونَ عَلَى أَبِيهِمْ . وَكَذَلِكَ الْكَافِر وَالْمُنَافِق إِذَا وَرَدَ إِلَى اللَّه تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَتْ لَهُ كَرَّة يُبْعَث فَيُرَدّ ثَانِيَة , كَمَا لَيْسَتْ عِنْد هَذَا قُوَّة فَيَغْرِس بُسْتَانه ثَانِيَة , وَلَمْ يَكُنْ عِنْده مَنْ اِفْتَقَرَ إِلَيْهِ عِنْد كِبَر سِنّه وَضَعْف ذُرِّيَّته غِنًى عَنْهُ )


قَالَ الْحَسَن : " إِعْصَار فِيهِ نَار " رِيح فِيهَا بَرْد شَدِيد . الزَّجَّاج : الْإِعْصَار فِي اللُّغَة الرِّيح الشَّدِيدَة الَّتِي تَهُبّ مِنْ الْأَرْض إِلَى السَّمَاء كَالْعَمُودِ , وَهِيَ الَّتِي يُقَال لَهَا : الزَّوْبَعَة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الزَّوْبَعَة رَئِيس مِنْ رُؤَسَاء الْجِنّ , وَمِنْهُ سُمِّيَ الْإِعْصَار زَوْبَعَة . وَيُقَال : أُمّ زَوْبَعَة , وَهِيَ رِيح تُثِير الْغُبَار وَتَرْتَفِع إِلَى السَّمَاء كَأَنَّهَا عَمُود . وَقِيلَ : الْإِعْصَار رِيح تُثِير سَحَابًا ذَا رَعْد وَبَرْق . الْمَهْدَوِيّ : قِيلَ لَهَا إِعْصَار لِأَنَّهَا تَلْتَفّ كَالثَّوْبِ إِذَا عُصِرَ . اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف .

قُلْت : بَلْ هُوَ صَحِيح ; لِأَنَّهُ الْمُشَاهَد الْمَحْسُوس , فَإِنَّهُ يَصْعَد عَمُودًا مُلْتَفًّا . وَقِيلَ : إِنَّمَا قِيلَ لِلرِّيحِ إِعْصَار ; لِأَنَّهُ يَعْصِر السَّحَاب , وَالسَّحَاب مُعْصِرَات إِمَّا لِأَنَّهَا حَوَامِل فَهِيَ كَالْمُعْصِرِ مِنْ النِّسَاء . وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَنْعَصِر بِالرِّيَاحِ . وَحَكَى اِبْن سِيدَه : إِنَّ الْمُعْصِرَات فَسَّرَهَا قَوْم بِالرِّيَاحِ لَا بِالسَّحَابِ . اِبْن زَيْد : الْإِعْصَار رِيح عَاصِف وَسَمُوم شَدِيدَة , وَكَذَلِكَ قَالَ السُّدِّيّ : الْإِعْصَار الرِّيح وَالنَّار السَّمُوم . اِبْن عَبَّاس : رِيح فِيهَا سَمُوم شَدِيدَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَكُون ذَلِكَ فِي شِدَّة الْحَرّ وَيَكُون فِي شِدَّة الْبَرْد , وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ فَيْح جَهَنَّم وَنَفَسِهَا , كَمَا تَضَمَّنَ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا اِشْتَدَّ الْحَرّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاة فَإِنَّ شِدَّة الْحَرّ مِنْ فَيْح جَهَنَّم ) /و ( إِنَّ النَّار اِشْتَكَتْ إِلَى رَبّهَا ) الْحَدِيث . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : ( إِنَّ هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ , كَهَيْئَةِ رَجُل غَرَسَ بُسْتَانًا فَأَكْثَرَ فِيهِ مِنْ الثَّمَر فَأَصَابَهُ الْكِبَر وَلَهُ ذُرِّيَّة ضُعَفَاء - يُرِيد صِبْيَانًا بَنَات وَغِلْمَانًا - فَكَانَتْ مَعِيشَته وَمَعِيشَة ذُرِّيَّته مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَان , فَأَرْسَلَ اللَّه عَلَى بُسْتَانه رِيحًا فِيهَا نَار فَأَحْرَقَتْهُ , وَلَمْ يَكُنْ عِنْده قُوَّة فَيَغْرِسهُ ثَانِيَة , وَلَمْ يَكُنْ عِنْد بَنِيهِ خَيْر فَيَعُودُونَ عَلَى أَبِيهِمْ . وَكَذَلِكَ الْكَافِر وَالْمُنَافِق إِذَا وَرَدَ إِلَى اللَّه تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَتْ لَهُ كَرَّة يُبْعَث فَيُرَدّ ثَانِيَة , كَمَا لَيْسَتْ عِنْد هَذَا قُوَّة فَيَغْرِس بُسْتَانه ثَانِيَة , وَلَمْ يَكُنْ عِنْده مَنْ اِفْتَقَرَ إِلَيْهِ عِنْد كِبَر سِنّه وَضَعْف ذُرِّيَّته غِنًى عَنْهُ .


يُرِيد كَيْ تَرْجِعُوا إِلَى عَظَمَتِي وَرُبُوبِيَّتِي وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي أَوْلِيَاء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : تَتَفَكَّرُونَ فِي زَوَال الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا وَإِقْبَال الْآخِرَة وَبَقَائِهَا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌسورة البقرة الآية رقم 267
كَذَا قِرَاءَة الْجُمْهُور , مِنْ أَغْمَضَ الرَّجُل فِي أَمْر كَذَا إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ وَرَضِيَ بِبَعْضِ حَقّه وَتَجَاوَزَ , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الطِّرِمَّاح : لَمْ يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ قَوْم وَلِلذُّ لِّ أُنَاس يَرْضَوْنَ بِالْإِغْمَاضِ وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُنْتَزَعًا إِمَّا مِنْ تَغْمِيض الْعَيْن ; لِأَنَّ الَّذِي يُرِيد الصَّبْر عَلَى مَكْرُوه يُغْمِض عَيْنَيْهِ - قَالَ : إِلَى كَمْ وَكَمْ أَشْيَاء مِنْك تُرِيبنِي أُغَمِّض عَنْهَا لَسْت عَنْهَا بِذِي عَمَى وَهَذَا كَالْإِغْضَاءِ عِنْد الْمَكْرُوه . وَقَدْ ذَكَرَ النَّقَّاش هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَة - وَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكِّيّ - وَإِمَّا مِنْ قَوْل الْعَرَب : أَغْمَضَ الرَّجُل إِذَا أَتَى غَامِضًا مِنْ الْأَمْر , كَمَا تَقُول : أَعْمَنَ أَيْ أَتَى عُمَان , وَأَعْرَقَ أَيْ أَتَى الْعِرَاق , وَأَنْجَدَ وَأَغْوَرَ أَيْ أَتَى نَجْدًا وَالْغَوْر الَّذِي هُوَ تِهَامَة , أَيْ فَهُوَ يَطْلُب التَّأْوِيل عَلَى أَخْذه . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْر الْمِيم مُخَفَّفًا , وَعَنْهُ أَيْضًا . " تُغَمِّضُوا " بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الْغَيْن وَكَسْر الْمِيم وَشَدّهَا . فَالْأُولَى عَلَى مَعْنَى تَهْضِمُوا سَوْمهَا مِنْ الْبَائِع مِنْكُمْ فَيَحُطّكُمْ . وَالثَّانِيَة , وَهَى قِرَاءَة قَتَادَة فِيمَا ذَكَرَ النَّحَّاس , أَيْ تَأْخُذُوا بِنُقْصَانٍ . وَقَالَ أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ : مَعْنَى قِرَاءَتَيْ الزُّهْرِيّ حَتَّى تَأْخُذُوا بِنُقْصَانٍ . وَحَكَى مَكِّيّ عَنْ الْحَسَن " إِلَّا أَنْ تُغَمَّضُوا " مُشَدَّدَة الْمِيم مَفْتُوحَة . وَقَرَأَ قَتَادَة أَيْضًا " تُغْمَضُوا " بِضَمِّ التَّاء وَسُكُون الْغَيْن وَفَتْح الْمِيم مُخَفَّفًا . قَالَ أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ : مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يُغْمَض لَكُمْ , وَحَكَاهُ النَّحَّاس عَنْ قَتَادَة نَفْسه . وَقَالَ اِبْن جِنِّيّ : مَعْنَاهَا تُوجَدُوا قَدْ غَمَّضْتُمْ فِي الْأَمْر بِتَأَوُّلِكُمْ أَوْ بِتَسَاهُلِكُمْ وَجَرَيْتُمْ عَلَى غَيْر السَّابِق إِلَى النُّفُوس . وَهَذَا كَمَا تَقُول : أَحْمَدْت الرَّجُل وَجَدْته مَحْمُودًا , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَمْثِلَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقِرَاءَة الْجُمْهُور تَخْرُج عَلَى التَّجَاوُز وَعَلَى تَغْمِيض الْعَيْن ; لِأَنَّ أَغْمَضَ بِمَنْزِلَةِ غَمَّضَ . وَعَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى حَتَّى تَأْتُوا غَامِضًا مِنْ التَّأْوِيل وَالنَّظَر فِي أَخْذ ذَلِكَ , إِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا عَلَى قَوْل اِبْن زَيْد , وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُهْدًى أَوْ مَأْخُوذًا فِي دَيْن عَلَى قَوْل غَيْره . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " تُغْمِضُوا " فَالْمَعْنَى تُغْمِضُونَ أَعْيُن بَصَائِركُمْ عَنْ أَخْذه . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَغَمَّضْت عَنْ فُلَان إِذَا تَسَاهَلْت عَلَيْهِ فِي بَيْع أَوْ شِرَاء وَأَغْمَضْت , وَقَالَ تَعَالَى : " وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ " [ الْبَقَرَة : 267 ] . يُقَال : أَغْمِضْ لِي فِيمَا بِعْتنِي , كَأَنَّك تُرِيد الزِّيَادَة مِنْهُ لِرَدَاءَتِهِ وَالْحَطّ مِنْ ثَمَنه . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , وَالتَّقْدِير إِلَّا بِأَنْ .



نَبَّهَ سُبْحَانه وَتَعَالَى عَلَى صِفَة الْغَنِيّ , أَيْ لَا حَاجَة بِهِ إِلَى صَدَقَاتكُمْ , فَمَنْ تَقَرَّبَ وَطَلَب مَثُوبَة فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ بِمَا لَهُ قَدْر وَبَال , فَإِنَّمَا يُقَدِّم لِنَفْسِهِ . و " حَمِيد " مَعْنَاهُ مَحْمُود فِي كُلّ حَال . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَعَانِي هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ فِي " الْكِتَاب الْأَسْنَى " وَالْحَمْد لِلَّهِ . قَالَ الزَّجَّاج فِي قَوْله : " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَنِيّ حَمِيد " : أَيْ لَمْ يَأْمُركُمْ أَنْ تَصَّدَّقُوا مِنْ عَوَز وَلَكِنَّهُ بَلَا أَخْبَاركُمْ فَهُوَ حَمِيد عَلَى ذَلِكَ عَلَى جَمِيع نِعَمه .

هَذَا خِطَاب لِجَمِيعِ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِالْإِنْفَاقِ هُنَا , فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعُبَيْدَة السَّلْمَانِيّ وَابْن سِيرِينَ : هِيَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة , نَهَى النَّاس عَنْ إِنْفَاق الرَّدِيء فِيهَا بَدَل الْجَيِّد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالظَّاهِر مِنْ قَوْل الْبَرَاء بْن عَازِب وَالْحَسَن وَقَتَادَة أَنَّ الْآيَة فِي التَّطَوُّع , نُدِبُوا إِلَى أَلَّا يَتَطَوَّعُوا إِلَّا بِمُخْتَارٍ جَيِّد . وَالْآيَة تَعُمّ الْوَجْهَيْنِ , لَكِنْ صَاحِب الزَّكَاة تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا مَأْمُور بِهَا وَالْأَمْر عَلَى الْوُجُوب , وَبِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الرَّدِيء وَذَلِكَ مَخْصُوص بِالْفَرْضِ , وَأَمَّا التَّطَوُّع فَكَمَا لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَطَوَّع بِالْقَلِيلِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّع بِنَازِلٍ فِي الْقَدْر , وَدِرْهَم خَيْر مِنْ تَمْرَة . تَمَسَّكَ أَصْحَاب النَّدْب بِأَنَّ لَفْظَة اِفْعَلْ صَالِح لِلنَّدْبِ صَلَاحِيَته لِلْفَرْضِ , وَالرَّدِيء مَنْهِيّ عَنْهُ فِي النَّفْل كَمَا هُوَ مَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْفَرْض , وَاَللَّه أَحَقّ مَنْ اُخْتِيرَ لَهُ . وَرَوَى الْبَرَاء أَنَّ رَجُلًا عَلَّقَ قِنْو حَشَفٍ , فَرَآهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( بِئْسَمَا عَلَّقَ ) فَنَزَلَتْ الْآيَة , خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ . وَالْأَمْر عَلَى هَذَا الْقَوْل عَلَى النَّدْب , نُدِبُوا إِلَى أَلَّا يَتَطَوَّعُوا إِلَّا بِجَيِّدٍ مُخْتَار . وَجُمْهُور الْمُتَأَوِّلِينَ قَالُوا : مَعْنَى " مِنْ طَيِّبَات " مِنْ جَيِّد وَمُخْتَار " مَا كَسَبْتُمْ " . وَقَالَ اِبْن زَيْد : مِنْ حَلَال " مَا كَسَبْتُمْ " .

الْكَسْب يَكُون بِتَعَبِ بَدَن وَهِيَ الْإِجَارَة وَسَيَأْتِي حُكْمهَا , أَوْ مُقَاوَلَة فِي تِجَارَة وَهُوَ الْبَيْع وَسَيَأْتِي بَيَانه . وَالْمِيرَاث دَاخِل فِي هَذَا ; لِأَنَّ غَيْر الْوَارِث قَدْ كَسَبَهُ . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : وَسُئِلَ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ الرَّجُل يُرِيد أَنْ يَكْتَسِب وَيَنْوِي بِاكْتِسَابِهِ أَنْ يَصِل بِهِ الرَّحِم وَأَنْ يُجَاهِد وَيَعْمَل الْخَيْرَات وَيَدْخُل فِي آفَات الْكَسْب لِهَذَا الشَّأْن . قَالَ : إِنْ كَانَ مَعَهُ قِوَام مِنْ الْعَيْش بِمِقْدَارِ مَا يَكُفّ نَفْسه عَنْ النَّاس فَتَرْك هَذَا أَفْضَل ; لِأَنَّهُ إِذَا طَلَبَ حَلَالًا وَأَنْفَقَ فِي حَلَال سُئِلَ عَنْهُ وَعَنْ كَسْبه وَعَنْ إِنْفَاقه , وَتَرْك ذَلِكَ زُهْد فَإِنَّ الزُّهْد فِي تَرْك الْحَلَال .

قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلِهَذِهِ الْآيَة جَازَ لِلْوَالِدِ أَنْ يَأْكُل مِنْ كَسْب وَلَده , وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَوْلَادكُمْ مِنْ طَيِّب أَكْسَابكُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَال أَوْلَادكُمْ هَنِيئًا ) .

يَعْنِي النَّبَات وَالْمَعَادِن وَالرِّكَاز , وَهَذِهِ أَبْوَاب ثَلَاثَة تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَة . أَمَّا النَّبَات فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : جَرَتْ السُّنَّة مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسُق زَكَاة ) . وَالْوَسْق سِتُّونَ صَاعًا , فَذَلِكَ ثَلَاثمِائَةِ صَاع مِنْ الْحِنْطَة وَالشَّعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب . وَلَيْسَ فِيمَا أَنْبَتَتْ الْأَرْض مِنْ الْخُضَر زَكَاة . وَقَدْ اِحْتَجَّ قَوْم لِأَبِي حَنِيفَة بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : " وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْض " [ الْبَقَرَة : 267 ] وَإِنَّ ذَلِكَ عُمُوم فِي قَلِيل مَا تُخْرِجهُ الْأَرْض وَكَثِيره وَفِي سَائِر الْأَصْنَاف , وَرَأَوْا ظَاهِر الْأَمْر الْوُجُوب . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي [ الْأَنْعَام ] مُسْتَوْفًى . وَأَمَّا الْمَعْدِن فَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْعَجْمَاء جَرْحهَا جُبَار وَالْبِئْر جُبَار وَالْمَعْدِن جُبَار وَفِي الرِّكَاز الْخُمُس ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَفِي الرِّكَاز الْخُمُس ) دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْم فِي الْمَعَادِن غَيْر الْحُكْم فِي الرِّكَاز ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَصَلَ بَيْن الْمَعَادِن وَالرِّكَاز بِالْوَاوِ الْفَاصِلَة , وَلَوْ كَانَ الْحُكْم فِيهِمَا سَوَاء لَقَالَ وَالْمَعْدِن جُبَار وَفِيهِ الْخُمُس , فَلَمَّا قَالَ ( وَفِي الرِّكَاز الْخُمُس ) عُلِمَ أَنَّ حُكْم الرِّكَاز غَيْر حُكْم الْمَعْدِن فِيمَا يُؤْخَذ مِنْهُ , وَاَللَّه أَعْلَم .

‎وَالرِّكَاز أَصْله فِي اللُّغَة مَا اِرْتَكَزَ بِالْأَرْضِ مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْجَوَاهِر , وَهُوَ عِنْد سَائِر الْفُقَهَاء كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي النَّدْرَة الَّتِي تُوجَد فِي الْمَعْدِن مُرْتَكِزَة بِالْأَرْضِ لَا تُنَال بِعَمَلٍ وَلَا بِسَعْيٍ وَلَا نَصَب , فِيهَا الْخُمُس , لِأَنَّهَا رِكَاز . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ النَّدْرَة فِي الْمَعْدِن حُكْمهَا حُكْم مَا يُتَكَلَّف فِيهِ الْعَمَل مِمَّا يُسْتَخْرَج مِنْ الْمَعْدِن فِي الرِّكَاز , وَالْأَوَّل تَحْصِيل مَذْهَبه وَعَلَيْهِ فَتْوَى جُمْهُور الْفُقَهَاء . وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن سَعِيد بْن أَبِي سَعِيد الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرِّكَاز قَالَ : ( الذَّهَب الَّذِي خَلَقَ اللَّه فِي الْأَرْض يَوْم خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض ) . عَبْد اللَّه بْن سَعِيد هَذَا مَتْرُوك الْحَدِيث , ذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن أَبِي حَاتِم . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَلَا يَصِحّ , ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَدَفْن الْجَاهِلِيَّة لِأَمْوَالِهِمْ عِنْد جَمَاعَة الْعُلَمَاء رِكَاز أَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ إِذَا كَانَ دَفْنه قَبْل الْإِسْلَام مِنْ الْأَمْوَال الْعَادِيَة , وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ضَرْب الْإِسْلَام فَحُكْمه عِنْدهمْ حُكْم اللُّقَطَة .

وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْم الرِّكَاز إِذَا وُجِدَ , فَقَالَ مَالِك : مَا وُجِدَ مِنْ دَفْن الْجَاهِلِيَّة فِي أَرْض الْعَرَب أَوْ فِي فَيَافِي الْأَرْض الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ بِغَيْرِ حَرْب فَهُوَ لِوَاجِدِهِ وَفِيهِ الْخُمُس , وَأَمَّا مَا كَانَ فِي أَرْض الْإِسْلَام فَهُوَ كَاللُّقَطَةِ . قَالَ : وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْض الْعَنْوَة فَهُوَ لِلْجَمَاعَةِ الَّذِينَ اِفْتَتَحُوهَا دُون وَاجِده , وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْض الصُّلْح فَإِنَّهُ لِأَهْلِ تِلْكَ الْبِلَاد دُون النَّاس , وَلَا شَيْء لِلْوَاجِدِ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُون مِنْ أَهْل الدَّار فَهُوَ لَهُ دُونهمْ . وَقِيلَ : بَلْ هُوَ لِجُمْلَةِ أَهْل الصُّلْح . قَالَ إِسْمَاعِيل : وَإِنَّمَا حُكِمَ لِلرِّكَازِ بِحُكْمِ الْغَنِيمَة لِأَنَّهُ مَال كَافِر وَجَدَهُ مُسْلِم فَأُنْزِلَ مَنْزِلَة مَنْ قَاتَلَهُ وَأَخَذَ مَاله , فَكَانَ لَهُ أَرْبَعَة أَخْمَاسه . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : كَانَ مَالِك يَقُول فِي الْعُرُوض وَالْجَوَاهِر وَالْحَدِيد وَالرَّصَاص وَنَحْوه يُوجَد رِكَازًا : إِنَّ فِيهِ الْخُمُس ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا أَرَى فِيهِ شَيْئًا , ثُمَّ آخِر مَا فَارَقْنَاهُ أَنْ قَالَ : فِيهِ الْخُمُس . وَهُوَ الصَّحِيح لِعُمُومِ الْحَدِيث وَعَلَيْهِ جُمْهُور الْفُقَهَاء . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمُحَمَّد فِي الرِّكَاز يُوجَد فِي الدَّار : إِنَّهُ لِصَاحِبِ الدَّار دُون الْوَاجِد وَفِيهِ الْخُمُس . وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُف فَقَالَ : إِنَّهُ لِلْوَاجِدِ دُون صَاحِب الدَّار , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ : وَإِنْ وُجِدَ فِي الْفَلَاة فَهُوَ لِلْوَاجِدِ فِي قَوْلهمْ جَمِيعًا وَفِيهِ الْخُمُس . وَلَا فَرْق عِنْدهمْ بَيْن أَرْض الصُّلْح وَأَرْض الْعَنْوَة , وَسَوَاء عِنْدهمْ أَرْض الْعَرَب وَغَيْرهَا , وَجَائِز عِنْدهمْ لِوَاجِدِهِ أَنْ يَحْتَبِس الْخُمُس لِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَلَهُ أَنْ يُعْطِيه لِلْمَسَاكِينِ . وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَأَصْحَاب مَالِك مَنْ لَا يُفَرِّق بَيْن شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا : سَوَاء وُجِدَ الرِّكَاز فِي أَرْض الْعَنْوَة أَوْ فِي أَرْض الصُّلْح أَوْ أَرْض الْعَرَب أَوْ أَرْض الْحَرْب إِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدَّعِهِ أَحَد فَهُوَ لِوَاجِدِهِ وَفِيهِ الْخُمُس عَلَى عُمُوم ظَاهِر الْحَدِيث , وَهُوَ قَوْل اللَّيْث وَعَبْد اللَّه بْن نَافِع وَالشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم .

وَأَمَّا مَا يُوجَد مِنْ الْمَعَادِن وَيَخْرُج مِنْهَا فَاخْتُلِفَ فِيهِ , فَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : لَا شَيْء فِيمَا يَخْرُج مِنْ الْمَعَادِن مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة حَتَّى يَكُون عِشْرِينَ مِثْقَالًا ذَهَبًا أَوْ خَمْس أَوَاقٍ فِضَّة , فَإِذَا بَلَغَتَا هَذَا الْمِقْدَار وَجَبَتْ فِيهِمَا الزَّكَاة , وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي الْمَعْدِن نَيْل , فَإِنْ اِنْقَطَعَ ثُمَّ جَاءَ بَعْد ذَلِكَ نَيْل آخَر فَإِنَّهُ تُبْتَدَأ فِيهِ الزَّكَاة مَكَانه . وَالرِّكَاز عِنْدهمْ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْع تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة فِي حِينه وَلَا يُنْتَظَر بِهِ حَوْلًا . قَالَ سَحْنُون فِي رَجُل لَهُ مَعَادِن : إِنَّهُ لَا يَضُمّ مَا فِي وَاحِد مِنْهَا إِلَى غَيْرهَا وَلَا يُزَكِّي إِلَّا عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَم أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فِي كُلّ وَاحِد . وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : يَضُمّ بَعْضهَا إِلَى بَعْض وَيُزَكِّي الْجَمِيع كَالزَّرْعِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : الْمَعْدِن كَالرِّكَازِ , فَمَا وُجِدَ فِي الْمَعْدِن مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة بَعْد إِخْرَاج الْخُمُس اُعْتُبِرَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا , فَمَنْ حَصَلَ بِيَدِهِ مَا تَجِب فِيهِ الزَّكَاة زَكَّاهُ لِتَمَامِ الْحَوْل إِنْ أَتَى عَلَيْهِ حَوْل وَهُوَ نِصَاب عِنْده , هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْده ذَهَب أَوْ فِضَّة وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاة . فَإِنْ كَانَ عِنْده مِنْ ذَلِكَ مَا تَجِب فِيهِ الزَّكَاة ضَمَّهُ إِلَى ذَلِكَ وَزَكَّاهُ . وَكَذَلِكَ عِنْدهمْ كُلّ فَائِدَة تُضَمّ فِي الْحَوْل إِلَى النِّصَاب مِنْ جِنْسهَا وَتُزَكَّى لِحَوْلِ الْأَصْل , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ . وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ قَالَ : وَأَمَّا الَّذِي أَنَا وَاقِف فِيهِ فَمَا يَخْرُج مِنْ الْمَعَادِن . قَالَ الْمُزَنِيّ : الْأَوْلَى بِهِ عَلَى أَصْله أَنْ يَكُون مَا يَخْرُج مِنْ الْمَعْدِن فَائِدَة يُزَكَّى بِحَوْلِهِ بَعْد إِخْرَاجه . وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد : مَا يَخْرُج مِنْ الْمَعَادِن مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَائِدَة يُسْتَأْنَف بِهِ حَوْلًا , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِيمَا حَصَّلَهُ الْمُزَنِيّ مِنْ مَذْهَبه , وَقَالَ بِهِ دَاوُد وَأَصْحَابه إِذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْل عِنْد مَالِك صَحِيح الْمِلْك لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ اِسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاة عَلَيْهِ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَنْعُم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى قَوْمًا مِنْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ ذُهَيْبَة فِي تُرْبَتهَا , بَعَثَهَا عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ الْيَمَن . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَالْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ حَقّهمْ فِي الزَّكَاة , فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعَادِن سُنَّتهَا سُنَّة الزَّكَاة . وَحُجَّة مَالِك حَدِيث عَنْ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ بِلَال بْن الْحَارِث الْمَعَادِن الْقَبَلِيَّة وَهِيَ مِنْ نَاحِيَة الْفَرْع , فَتِلْكَ الْمَعَادِن لَا يُؤْخَذ مِنْهَا إِلَى الْيَوْم إِلَّا الزَّكَاة . وَهَذَا حَدِيث مُنْقَطِع الْإِسْنَاد لَا يَحْتَجّ بِمِثْلِهِ أَهْل الْحَدِيث ; وَلَكِنَّهُ عَمَل يُعْمَل بِهِ عِنْدهمْ فِي الْمَدِينَة . وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيّ عَنْ رَبِيعَة عَنْ الْحَارِث بْن بِلَال الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ . ذَكَرَهُ الْبَزَّار , وَرَوَاهُ كَثِير بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عَوْف عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَقْطَعَ بِلَال بْن الْحَارِث الْمَعَادِن الْقَبَلِيَّة جَلْسِيِّهَا وَغَوْرِيِّهَا . وَحَيْثُ يَصْلُح لِلزَّرْعِ مِنْ قُدْس وَلَمْ يُعْطِهِ حَقّ مُسْلِم , ذَكَرَهُ الْبَزَّار أَيْضًا , وَكَثِير مُجْمِع عَلَى ضَعْفه . هَذَا حُكْم مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْض , وَسَيَأْتِي فِي سُورَة [ النَّحْل ] حُكْم مَا أَخْرَجَهُ الْبَحْر إِذْ هُوَ قَسِيم الْأَرْض . وَيَأْتِي فِي [ الْأَنْبِيَاء ] مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْعَجْمَاء جَرْحهَا جُبَار ) كُلّ فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

تَيَمَّمُوا مَعْنَاهُ تَقْصِدُوا , وَسَتَأْتِي الشَّوَاهِد مِنْ أَشْعَار الْعَرَب فِي أَنَّ التَّيَمُّم الْقَصْد فِي " النِّسَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْمَكَاسِب فِيهَا طَيِّب وَخَبِيث . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة بْن سَهْل بْن حَنِيف فِي الْآيَة الَّتِي قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا : " وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ " قَالَ : هُوَ الْجُعْرُور وَلَوْن حُبَيْق , فَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْخَذَا فِي الصَّدَقَة . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة بْن سَهْل بْن حَنِيف عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةٍ فَجَاءَ رَجُل مِنْ هَذَا السُّحَّل بِكَبَائِس قَالَ سُفْيَان : يَعْنِي الشِّيص - فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ جَاءَ بِهَذَا ) ؟ وَكَانَ لَا يَجِيء أَحَد بِشَيْءٍ إِلَّا نُسِبَ إِلَى الَّذِي جَاءَ بِهِ . فَنَزَلَتْ : " وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ " . قَالَ : وَنَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجُعْرُور وَلَوْن الْحُبَيْق أَنْ يُؤْخَذَا فِي الصَّدَقَة - قَالَ الزُّهْرِيّ : لَوْنَيْنِ مِنْ تَمْر الْمَدِينَة - وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الْبَرَاء وَصَحَّحَهُ , وَسَيَأْتِي . وَحَكَى الطَّبَرِيّ وَالنَّحَّاس أَنَّ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " وَلَا تَأَمَّمُوا " وَهُمَا لُغَتَانِ . وَقَرَأَ مُسْلِم بْن جُنْدُب " وَلَا تُيَمَّمِوا " بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الْمِيم . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير " تَّيَمَّمُوا " بِتَشْدِيدِ التَّاء . وَفِي اللَّفْظَة لُغَات , مِنْهَا " أَمَمْت الشَّيْء " مُخَفَّفَة الْمِيم الْأُولَى و " أَمَّمْته " بِشَدِّهَا , و " يَمَّمْته وَتَيَمَّمْته " . وَحَكَى أَبُو عَمْرو أَنَّ اِبْن مَسْعُود قَرَأَ " وَلَا تُؤَمِّمُوا " بِهَمْزَةِ بَعْد التَّاء الْمَضْمُومَة .

" مِنْهُ تُنْفِقُونَ " قَالَ الْجُرْجَانِيّ فِي كِتَاب " نَظْم الْقُرْآن " : قَالَ فَرِيق مِنْ النَّاس : إِنَّ الْكَلَام تَمَّ فِي قَوْله تَعَالَى " الْخَبِيث " ثُمَّ اِبْتَدَأَ خَبَرًا آخَر فِي وَصْف الْخَبِيث فَقَالَ : " مِنْهُ تُنْفِقُونَ " وَأَنْتُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا إِذَا أَغْمَضْتُمْ أَيْ تَسَاهَلْتُمْ , كَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِتَاب لِلنَّاسِ وَتَقْرِيع . وَالضَّمِير فِي " مِنْهُ " عَائِد عَلَى الْخَبِيث وَهُوَ الدُّون وَالرَّدِيء . قَالَ الْجُرْجَانِيّ : وَقَالَ فَرِيق آخَر : الْكَلَام مُتَّصِل إِلَى قَوْله " مِنْهُ " , فَالضَّمِير فِي " مِنْهُ " عَائِد عَلَى " مَا كَسَبْتُمْ " وَيَجِيء " تُنْفِقُونَ " كَأَنَّهُ فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال , وَهُوَ كَقَوْلِك : أَنَا أَخْرُج أُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه .

أَيْ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فِي دُيُونكُمْ وَحُقُوقكُمْ مِنْ النَّاس إِلَّا أَنْ تَتَسَاهَلُوا فِي ذَلِكَ وَتَتْرُكُوا مِنْ حُقُوقكُمْ , وَتَكْرَهُونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ . أَيْ فَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّه مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ , قَالَ مَعْنَاهُ الْبَرَاء بْن عَازِب وَابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك . وَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَى الْآيَة : وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ وَلَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوق يُبَاع إِلَّا أَنْ يُهْضَم لَكُمْ مِنْ ثَمَنه . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُشْبِهَانِ كَوْن الْآيَة فِي الزَّكَاة الْوَاجِبَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَوْ كَانَتْ فِي الْفَرْض لَمَا قَالَ " وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ " لِأَنَّ الرَّدِيء وَالْمَعِيب لَا يَجُوز أَخْذه فِي الْفَرْض بِحَالٍ , لَا مَعَ تَقْدِير الْإِغْمَاض وَلَا مَعَ عَدَمه , وَإِنَّمَا يُؤْخَذ مَعَ عَدَم إِغْمَاض فِي النَّفْل . وَقَالَ الْبَرَاء بْن عَازِب أَيْضًا مَعْنَاهُ : " وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ " لَوْ أُهْدِيَ لَكُمْ " إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ " أَيْ تَسْتَحِي مِنْ الْمُهْدِي فَتَقْبَل مِنْهُ مَا لَا حَاجَة لَك بِهِ وَلَا قَدْر لَهُ فِي نَفْسه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا يُشْبِه كَوْن الْآيَة فِي التَّطَوُّع . وَقَالَ اِبْن زَيْد : وَلَسْتُمْ بِآخِذِي الْحَرَام إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِي مَكْرُوهه .
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 268
"الشَّيْطَان " تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّيْطَان وَاشْتِقَاقه فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ . و " يَعِدكُمْ " مَعْنَاهُ يُخَوِّفكُمْ " الْفَقْر " أَيْ بِالْفَقْرِ لِئَلَّا تُنْفِقُوا . فَهَذِهِ الْآيَة مُتَّصِلَة بِمَا قَبْل , وَأَنَّ الشَّيْطَان لَهُ مَدْخَل فِي التَّثْبِيط لِلْإِنْسَانِ عَنْ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَأْمُر بِالْفَحْشَاءِ وَهِيَ الْمَعَاصِي وَالْإِنْفَاق فِيهَا . وَقِيلَ : أَيْ بِأَنْ لَا تَتَصَدَّقُوا فَتَعْصُوا وَتَتَقَاطَعُوا . وَقُرِئَ " الْفُقْر " بِضَمِّ الْفَاء وَهِيَ لُغَة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْفُقْر لُغَة فِي الْفَقْر , مِثْل الضُّعْف وَالضَّعْف .


الْوَعْد فِي كَلَام الْعَرَب إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ فِي الْخَيْر , وَإِذَا قُيِّدَ بِالْمَوْعُودِ مَا هُوَ فَقَدْ يُقَدَّر بِالْخَيْرِ وَبِالشَّرِّ كَالْبِشَارَةِ . فَهَذِهِ الْآيَة مِمَّا يُقَيَّد فِيهَا الْوَعْد بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : فِي هَذِهِ الْآيَة اِثْنَتَانِ مِنْ اللَّه تَعَالَى وَاثْنَتَانِ مِنْ الشَّيْطَان . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّة بِابْنِ آدَم وَلِلْمَلَكِ لَمَّة فَأَمَّا لَمَّة الشَّيْطَان فَإِيعَاد بِالشَّرِّ وَتَكْذِيب بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّة الْمَلَك فَإِيعَاد بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيق بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ اللَّه , وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان - ثُمَّ قَرَأَ - الشَّيْطَان يَعِدكُمْ الْفَقْر وَيَأْمُركُمْ بِالْفَحْشَاءِ ) . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " وَيَأْمُركُمْ الْفَحْشَاء " بِحَذْفِ الْبَاء , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : أَمَرْتُك الْخَيْر فَافْعَلْ مَا أُمِرْت بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُك ذَا مَال وَذَا نَسَبِ وَالْمَغْفِرَة هِيَ السَّتْر عَلَى عِبَاده فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . وَالْفَضْل هُوَ الرِّزْق فِي الدُّنْيَا وَالتَّوْسِعَة وَالنَّعِيم فِي الْآخِرَة , وَبِكُلٍّ قَدْ وَعَدَ اللَّه تَعَالَى .

ذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّ بَعْض النَّاس تَأَنَّسَ بِهَذِهِ الْآيَة فِي أَنَّ الْفَقْر أَفْضَل مِنْ الْغِنَى ; لِأَنَّ الشَّيْطَان إِنَّمَا يُبْعِد الْعَبْد مِنْ الْخَيْر , وَهُوَ بِتَخْوِيفِهِ الْفَقْر يَبْعُد مِنْهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَيْسَ فِي الْآيَة حُجَّة قَاطِعَة بَلْ الْمُعَارَضَة بِهَا قَوِيَّة . وَرُوِيَ أَنَّ فِي التَّوْرَاة ( عَبْدِي أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي أَبْسُط عَلَيْك فَضْلِي فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَة عَلَى كُلّ يَد مَبْسُوطَة ) . وَفِي الْقُرْآن مِصْدَاقه وَهُوَ قَوْله : " وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْء فَهُوَ يُخْلِفهُ وَهُوَ خَيْر الرَّازِقِينَ " [ سَبَأ : 39 ] . ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس .


تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . وَالْمُرَاد هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى يُعْطِي مِنْ سَعَة وَيَعْلَم حَيْثُ يَضَع ذَلِكَ , وَيَعْلَم الْغَيْب وَالشَّهَادَة . وَهُمَا اِسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي جُمْلَة الْأَسْمَاء فِي [ الْكِتَاب الْأَسْنَى ] وَالْحَمْد لِلَّهِ .
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِسورة البقرة الآية رقم 269
أَيْ يُعْطِيهَا لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحِكْمَة هُنَا , فَقَالَ السُّدِّيّ : هِيَ النُّبُوَّة . اِبْن عَبَّاس : هِيَ الْمَعْرِفَة بِالْقُرْآنِ فِقْهه وَنَسْخه وَمُحْكَمه وَمُتَشَابِهه وَغَرِيبه وَمُقَدَّمه وَمُؤَخَّره . وَقَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد : الْحِكْمَة هِيَ الْفِقْه فِي الْقُرْآن . وَقَالَ مُجَاهِد : الْإِصَابَة فِي الْقَوْل وَالْفِعْل . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْحِكْمَة الْعَقْل فِي الدِّين . وَقَالَ مَالِك بْن أَنَس : الْحِكْمَة الْمَعْرِفَة بِدِينِ اللَّه وَالْفِقْه فِيهِ وَالِاتِّبَاع لَهُ . وَرَوَى عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ قَالَ : الْحِكْمَة التَّفَكُّر فِي أَمْر اللَّه وَالِاتِّبَاع لَهُ . وَقَالَ أَيْضًا : الْحِكْمَة طَاعَة اللَّه وَالْفِقْه فِي الدِّين وَالْعَمَل بِهِ . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْحِكْمَة الْخَشْيَة . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : الْحِكْمَة الْفَهْم فِي الْقُرْآن , وَقَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَم . وَقَالَ الْحَسَن : الْحِكْمَة الْوَرَع .

قُلْت : وَهَذِهِ الْأَقْوَال كُلّهَا مَا عَدَا السُّدِّيّ وَالرَّبِيع وَالْحَسَن قَرِيب بَعْضهَا مِنْ بَعْض ; لِأَنَّ الْحِكْمَة مَصْدَر مِنْ الْإِحْكَام وَهُوَ الْإِتْقَان فِي قَوْل أَوْ فِعْل , فَكُلّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ نَوْع مِنْ الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ الْجِنْس , فَكِتَاب اللَّه حِكْمَة , وَسُنَّة نَبِيّه حِكْمَة , وَكُلّ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْضِيل فَهُوَ حِكْمَة . وَأَصْل الْحِكْمَة مَا يُمْتَنَع بِهِ مِنْ السَّفَه , فَقِيلَ لِلْعِلْمِ حِكْمَة ; لِأَنَّهُ يُمْتَنَع بِهِ , وَبِهِ يُعْلَم الِامْتِنَاع مِنْ السَّفَه وَهُوَ كُلّ فِعْل قَبِيح , وَكَذَا الْقُرْآن وَالْعَقْل وَالْفَهْم . وَفِي الْبُخَارِيّ : ( مَنْ يُرِدْ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّين ) وَقَالَ هُنَا : " وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " وَكَرَّرَ ذِكْر الْحِكْمَة وَلَمْ يُضْمِرهَا اِعْتِنَاء بِهَا , وَتَنْبِيهًا عَلَى شَرَفهَا وَفَضْلهَا حَسَب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه عِنْد قَوْله تَعَالَى : " فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا " [ الْبَقَرَة : 59 ] . وَذَكَرَ الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده : حَدَّثَنَا مَرْوَان بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا رِفْدَة الْغَسَّانِيّ قَالَ : أَخْبَرَنَا ثَابِت بْن عَجْلَان الْأَنْصَارِيّ قَالَ : كَانَ يُقَال : إِنَّ اللَّه لَيُرِيد الْعَذَاب بِأَهْلِ الْأَرْض فَإِذَا سَمِعَ تَعْلِيم الْمُعَلِّم الصِّبْيَان الْحِكْمَة صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ . قَالَ مَرْوَان : يَعْنِي بِالْحِكْمَةِ الْقُرْآن .


يُقَال : إِنَّ مَنْ أُعْطِيَ الْحِكْمَة وَالْقُرْآن فَقَدْ أُعْطِيَ أَفْضَل مَا أُعْطِيَ مَنْ جَمَعَ عِلْم كُتُب الْأَوَّلِينَ مِنْ الصُّحُف وَغَيْرهَا , لِأَنَّهُ قَالَ لِأُولَئِكَ : " وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْم إِلَّا قَلِيلًا " [ الْإِسْرَاء : 85 ] . وَسَمَّى هَذَا خَيْرًا كَثِيرًا ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ جَوَامِع الْكَلِم . وَقَالَ بَعْض الْحُكَمَاء : مَنْ أُعْطِيَ الْعِلْم وَالْقُرْآن يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّف نَفْسه , وَلَا يَتَوَاضَع لِأَهْلِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ دُنْيَاهُمْ , فَإِنَّمَا أُعْطِيَ أَفْضَل مَا أُعْطِيَ أَصْحَاب الدُّنْيَا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى الدُّنْيَا مَتَاعًا قَلِيلًا فَقَالَ : " قُلْ مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل " وَسَمَّى الْعِلْم وَالْقُرْآن " خَيْرًا كَثِيرًا " . وَقَرَأَ الْجُمْهُور " وَمَنْ يُؤْتَ " عَلَى بِنَاء الْفِعْل لِلْمَفْعُولِ . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَيَعْقُوب " وَمَنْ يُؤْتِ " بِكَسْرِ التَّاء عَلَى مَعْنَى وَمَنْ يُؤْتِ اللَّه الْحِكْمَة , فَالْفَاعِل اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . و " مَنْ " مَفْعُول أَوَّل مُقَدَّم , وَالْحِكْمَة مَفْعُول ثَانٍ . وَالْأَلْبَاب : الْعُقُول , وَاحِدهَا لُبّ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍسورة البقرة الآية رقم 270
شَرْط وَجَوَابه , وَكَانَتْ النُّذُور مِنْ سِيرَة الْعَرَب تُكْثِر مِنْهَا , فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى النَّوْعَيْنِ , مَا يَفْعَلهُ الْمَرْء مُتَبَرِّعًا , وَمَا يَفْعَلهُ بَعْد إِلْزَامه لِنَفْسِهِ . وَفِي الْآيَة مَعْنَى الْوَعْد وَالْوَعِيد , أَيْ مَنْ كَانَ خَالِص النِّيَّة فَهُوَ مُثَاب , وَمَنْ أَنْفَقَ رِيَاء أَوْ لِمَعْنًى آخَر مِمَّا يُكْسِبهُ الْمَنّ وَالْأَذَى وَنَحْو ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِم , يَذْهَب فِعْله بَاطِلًا وَلَا يَجِد لَهُ نَاصِرًا فِيهِ . وَمَعْنَى " يَعْلَمهُ " يُحْصِيه , قَالَهُ مُجَاهِد . وَوَحَّدَ الضَّمِير وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ , فَقَالَ النَّحَّاس : التَّقْدِير " وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَة " فَإِنَّ اللَّه يَعْلَمهَا , " أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْر فَإِنَّ اللَّه يَعْلَمهُ " ثُمَّ حَذَفَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون التَّقْدِير : وَمَا أَنْفَقْتُمْ فَإِنَّ اللَّه يَعْلَمهُ وَتَعُود الْهَاء عَلَى " مَا " كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِامْرِئِ الْقَيْس : فَتُوضِح فَالْمِقْرَاة لَمْ يَعْفُ رَسْمهَا لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوب وَشَمْأَلِ وَيَكُون " أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْر " مَعْطُوفًا عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَوَحَّدَ الضَّمِير فِي " يَعْلَمهُ " وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ مَا ذَكَرَ أَوْ نَصَّ .

قُلْت : وَهَذَا حَسَن : فَإِنَّ الضَّمِير قَدْ يُرَاد بِهِ جَمِيع الْمَذْكُور وَإِنْ كَثُرَ . وَالنَّذْر حَقِيقَة الْعِبَارَة عَنْهُ أَنْ تَقُول : هُوَ مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّف عَلَى نَفْسه مِنْ الْعِبَادَات مِمَّا لَوْ لَمْ يُوجِبهُ لَمْ يَلْزَمهُ , تَقُول : نَذَرَ الرَّجُل كَذَا إِذَا اِلْتَزَمَ فِعْله , يَنْذُر - بِضَمِّ الذَّال - وَيَنْذِر - بِكَسْرِهَا - . وَلَهُ أَحْكَام يَأْتِي بَيَانهَا فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10