الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 91
أَيْ صَدِّقُوا


يَعْنِي الْقُرْآن


أَيْ نُصَدِّق


يَعْنِي التَّوْرَاة .


أَيْ بِمَا سِوَاهُ , عَنْ الْفَرَّاء . وَقَتَادَة : بِمَا بَعْده , وَهُوَ قَوْل أَبِي عُبَيْدَة , وَالْمَعْنَى وَاحِد . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَرَاء بِمَعْنَى خَلْف , وَقَدْ تَكُون بِمَعْنَى قُدَّام . وَهِيَ مِنْ الْأَضْدَاد , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِك " أَيْ أَمَامهمْ , وَتَصْغِيرهَا وُرَيِّئَة ( بِالْهَاءِ ) وَهِيَ شَاذَّة . وَانْتَصَبَ " وَرَاءَهُ " عَلَى الظَّرْف . قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال لَقِيته مِنْ وَرَاء , فَتَرْفَعهُ عَلَى الْغَايَة إِذَا كَانَ غَيْر مُضَاف تَجْعَلهُ اِسْمًا وَهُوَ غَيْر مُتَمَكِّن , كَقَوْلِك : مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد , وَأُنْشِدَ : إِذَا أَنَا لَمْ أُومَن عَلَيْك وَلَمْ يَكُنْ لِقَاؤُك إِلَّا مِنْ وَرَاء وَرَاء قُلْت : وَمِنْهُ قَوْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث الشَّفَاعَة : ( إِنَّمَا كُنْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاء وَرَاء ) . وَالْوَرَاء : وَلَد الْوَلَد أَيْضًا .


اِبْتِدَاء وَخَبَر .


حَال مُؤَكِّدَة عِنْد سِيبَوَيْهِ .


مَا فِي مَوْضِع خَفْض بِاللَّامِ , و " مَعَهُمْ " صِلَتهَا , و " مَعَهُمْ " نُصِبَ بِالِاسْتِقْرَارِ , وَمَنْ أَسْكَنَ جَعَلَهُ حَرْفًا .


رَدّ مِنْ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلهمْ إِنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ , وَتَكْذِيب مِنْهُ لَهُمْ وَتَوْبِيخ , الْمَعْنَى : فَكَيْف قَتَلْتُمْ وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ ذَلِكَ ! فَالْخِطَاب لِمَنْ حَضَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أَسْلَافهمْ . وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الْخِطَاب لِأَبْنَائِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلُّونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَتَلُوا , كَمَا قَالَ : " وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء " [ الْمَائِدَة : 81 ] فَإِذَا تَوَلَّوْهُمْ فَهُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ رَضُوا فِعْلهمْ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ . وَجَاءَ " تَقْتُلُونَ " بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَال وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيّ لَمَّا اِرْتَفَعَ الْإِشْكَال بِقَوْلِهِ : " مِنْ قَبْل " . وَإِذَا لَمْ يُشْكِل فَجَائِز أَنْ يَأْتِي الْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَل , وَالْمُسْتَقْبَل بِمَعْنَى الْمَاضِي , قَالَ الْحُطَيْئَة : شَهِدَ الْحُطَيْئَة يَوْم يَلْقَى رَبّه أَنَّ الْوَلِيد أَحَقّ بِالْعُذْرِ شَهِدَ بِمَعْنَى يَشْهَد .


أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَقِدِينَ الْإِيمَان فَلِمَ رَضِيتُمْ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاء ! وَقِيلَ : " إِنَّ " بِمَعْنَى مَا , وَأَصْل " لِمَ " لِمَا , حُذِفَتْ الْأَلِف فَرْقًا بَيْن الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر , وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَف عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بِلَا هَاء كَانَ لَحْنًا , وَإِنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ زِيدَ فِي السَّوَاد .
وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَسورة البقرة الآية رقم 92
اللَّام لَام الْقَسَم . وَالْبَيِّنَات قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْع آيَات بَيِّنَات " [ الْإِسْرَاء : 101 ] وَهِيَ الْعَصَا , وَالسُّنُونَ , وَالْيَد , وَالدَّم , وَالطُّوفَان , وَالْجَرَاد وَالْقُمَّل , وَالضَّفَادِع , وَفَلْق الْبَحْر . وَقِيلَ : الْبَيِّنَات التَّوْرَاة , وَمَا فِيهَا مِنْ الدِّلَالَات .


تَوْبِيخ , و " ثُمَّ " أَبْلَغ مِنْ الْوَاو فِي التَّقْرِيع , أَيْ بَعْد النَّظَر فِي الْآيَات وَالْإِتْيَان بِهَا اِتَّخَذْتُمْ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بَعْد مُهْلَة مِنْ النَّظَر فِي الْآيَة , وَذَلِكَ أَعْظَم لِجُرْمِهِمْ .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 93
هَذِهِ الْآيَة تُفَسِّر مَعْنَى قَوْله تَعَالَى " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل فَوْقهمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة " [ الْأَعْرَاف : 171 ] . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمَعْنَى زَعْزَعْنَاهُ فَاسْتَخْرَجْنَاهُ مِنْ مَكَانه . قَالَ : وَكُلّ شَيْء قَلَعْته فَرَمَيْت بِهِ فَقَدْ نَتَقْته . وَقِيلَ : نَتَقْنَاهُ رَفَعْنَاهُ . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : النَّاتِق الرَّافِع , وَالنَّاتِق الْبَاسِط , وَالنَّاتِق الْفَاتِق . ومَرْأَة نَاتِق وَمِنْتَاق : كَثِيرَة الْوَلَد . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ نَتْق السِّقَاء , وَهُوَ نَفْضه حَتَّى تَقْتَلِع الزُّبْدَة مِنْهُ . قَالَ وَقَوْله : " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل فَوْقهمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة " قَالَ : قُلِعَ مِنْ أَصْله .

وَاخْتُلِفَ فِي الطُّور , فَقِيلَ : الطُّور اِسْم لِلْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّه عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ التَّوْرَاة دُون غَيْره , رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْهُ أَنَّ الطُّور مَا أَنْبَتَ مِنْ الْجِبَال خَاصَّة دُون مَا لَمْ يُنْبِت . وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : أَيّ جَبَل كَانَ . إِلَّا أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ : هُوَ اِسْم لِكُلِّ جَبَل بِالسُّرْيَانِيَّةِ , وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآن أَلْفَاظ مُفْرَدَة غَيْر مُعَرَّبَة مِنْ غَيْر كَلَام فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب . وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَزَعَمَ الْبَكْرِيّ أَنَّهُ سُمِّيَ بِطُورِ بْن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم . الْقَوْل فِي سَبَب رَفْع الطُّور وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ عِنْد اللَّه بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاة قَالَ لَهُمْ : خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا . فَقَالُوا : لَا إِلَّا أَنْ يُكَلِّمنَا اللَّه بِهَا كَمَا كَلَّمَك . فَصُعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا . فَقَالَ لَهُمْ : خُذُوهَا . فَقَالُوا لَا , فَأَمَرَ اللَّه الْمَلَائِكَة فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا مِنْ جِبَال فِلَسْطِين طُوله فَرْسَخ فِي مِثْله , وَكَذَلِكَ كَانَ عَسْكَرهمْ , فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْل الظُّلَّة , وَأُتُوا بِبَحْرٍ مِنْ خَلْفهمْ , وَنَار مِنْ قِبَل وُجُوههمْ , وَقِيلَ لَهُمْ : خُذُوهَا وَعَلَيْكُمْ الْمِيثَاق أَلَّا تُضَيِّعُوهَا , وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمْ الْجَبَل . فَسَجَدُوا تَوْبَة لِلَّهِ وَأَخَذُوا التَّوْرَاة بِالْمِيثَاقِ . قَالَ الطَّبَرِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء : لَوْ أَخَذُوهَا أَوَّل مَرَّة لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِيثَاق . وَكَانَ سُجُودهمْ عَلَى شِقّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْقُبُونَ الْجَبَل خَوْفًا , فَلَمَّا رَحِمَهُمْ اللَّه قَالُوا : لَا سَجْدَة أَفْضَل مِنْ سَجْدَة تَقَبَّلَهَا اللَّه وَرَحِمَ بِهَا عِبَاده , فَأَمَرُّوا سُجُودهمْ عَلَى شِقّ وَاحِد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي لَا يَصِحّ سِوَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى اِخْتَرَعَ وَقْت سُجُودهمْ الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ لَا أَنَّهُمْ آمَنُوا كَرْهًا وَقُلُوبهمْ غَيْر مُطْمَئِنَّة بِذَلِكَ .


أَيْ فَقُلْنَا خُذُوا , فَحَذَفَ .


أَعْطَيْنَاكُمْ .


أَيْ بِجَدٍّ وَاجْتِهَاد , قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ . وَقِيلَ : بِنِيَّةٍ وَإِخْلَاص . مُجَاهِد : الْقُوَّة الْعَمَل بِمَا فِيهِ . وَقِيلَ : بِقُوَّةٍ , بِكَثْرَةِ دَرْس .


أَطِيعُوا , وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْر بِإِدْرَاكِ الْقَوْل فَقَطْ , وَإِنَّمَا الْمُرَاد اِعْلَمُوا بِمَا سَمِعْتُمْ وَالْتَزِمُوهُ , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ , أَيْ قَبِلَ وَأَجَابَ . قَالَ : دَعَوْت اللَّه حَتَّى خِفْت أَلَّا يَكُون اللَّه يَسْمَع مَا أَقُول أَيْ يَقْبَل , وَقَالَ الرَّاجِز : وَالسَّمْع وَالطَّاعَة وَالتَّسْلِيم خَيْر وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيم


اُخْتُلِفَ هَلْ صَدَرَ مِنْهُمْ هَذَا اللَّفْظ حَقِيقَة بِاللِّسَانِ نُطْقًا , أَوْ يَكُونُونَ فَعَلُوا فِعْلًا قَامَ مَقَام الْقَوْل فَيَكُون مَجَازًا , كَمَا قَالَ : اِمْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قَطْنِي مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْت بَطْنِي وَهَذَا اِحْتِجَاج عَلَيْهِمْ فِي قَوْلهمْ : " نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا " .

أَيْ حُبّ الْعِجْل وَالْمَعْنَى : جُعِلَتْ قُلُوبهمْ تَشْرَبهُ , وَهَذَا تَشْبِيه وَمَجَاز عِبَارَة عَنْ تَمَكُّن أَمْر الْعِجْل فِي قُلُوبهمْ . وَفِي الْحَدِيث : ( تُعْرَض الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيّ قَلْب أُشْرِبهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء . .. ) الْحَدِيث , خَرَّجَهُ مُسْلِم . يُقَال أُشْرِبَ قَلْبه حُبّ كَذَا , قَالَ زُهَيْر : فَصَحَوْت عَنْهَا بَعْد حُبّ دَاخِل وَالْحُبّ تُشْرِبهُ فُؤَادك دَاء وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبّ الْعِجْل بِالشُّرْبِ دُون الْأَكْل لِأَنَّ شُرْب الْمَاء يَتَغَلْغَل فِي الْأَعْضَاء حَتَّى يَصِل إِلَى بَاطِنهَا , وَالطَّعَام مُجَاوِر لَهَا غَيْر مُتَغَلْغِل فِيهَا . وَقَدْ زَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَحَد التَّابِعِينَ فَقَالَ فِي زَوْجَته عَثْمَة , وَكَانَ عَتَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْض الْأَمْر فَطَلَّقَهَا وَكَانَ مُحِبًّا لَهَا : تَغَلْغَلَ حُبّ عَثْمَة فِي فُؤَادِي فَبَادِيه مَعَ الْخَافِي يَسِير تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغ شَرَاب وَلَا حُزْن وَلَمْ يَبْلُغ سُرُور أَكَاد إِذَا ذَكَرْت الْعَهْد مِنْهَا أَطِير لَوْ انَّ إِنْسَانًا يَطِير وَقَالَ السُّدِّيّ وَابْن جُرَيْج : إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بَرَدَ الْعِجْل وَذَرَاهُ فِي الْمَاء , وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيل : اِشْرَبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاء , فَشَرِبَ جَمِيعهمْ , فَمَنْ كَانَ يُحِبّ الْعِجْل خَرَجَتْ بُرَادَة الذَّهَب عَلَى شَفَتَيْهِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا شَرِبَهُ أَحَد إِلَّا جُنَّ , حَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ .

قُلْت : أَمَّا تَذْرِيَته فِي الْبَحْر فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمّ نَسْفًا " [ طَه : 97 ] , وَأَمَّا شُرْب الْمَاء وَظُهُور الْبُرَادَة عَلَى الشِّفَاه فَيَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل " وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .


بِئْسَ فِي كَلَام الْعَرَب مُسْتَوْفِيَة لِلذَّمِّ , كَمَا أَنَّ " نِعْمَ " مُسْتَوْفِيَة لِلْمَدْحِ . وَفِي كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا أَرْبَع لُغَات : بِئْسَ بَئْس بَئِسَ بِئِسَ . نِعْمَ نَعْمَ نَعِمَ نِعِم . وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ " مَا " فَاعِلَة بِئْسَ , وَلَا تَدْخُل إِلَّا عَلَى أَسْمَاء الْأَجْنَاس وَالنَّكِرَات . وَكَذَا نِعْمَ , فَتَقُول نِعْمَ الرَّجُل زَيْد , وَنِعْمَ رَجُلًا زَيْد , فَإِذَا كَانَ مَعَهَا اِسْم بِغَيْرِ أَلِف وَلَام فَهُوَ نَصْب أَبَدًا , فَإِذَا كَانَ فِيهِ أَلِف وَلَام فَهُوَ رَفْع أَبَدًا , وَنَصْب رَجُل عَلَى التَّمْيِيز . وَفِي نِعْمَ مُضْمَر عَلَى شَرِيطَة التَّفْسِير , وَزَيْد مَرْفُوع عَلَى وَجْهَيْنِ : عَلَى خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف , كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ الْمَمْدُوح ؟ قُلْت هُوَ زَيْد , وَالْآخَر عَلَى الِابْتِدَاء وَمَا قَبْله خَبَره . وَأَجَازَ أَبُو عَلِيّ أَنْ تَلِيهَا " مَا " مَوْصُولَة وَغَيْر مَوْصُولَة مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُبْهَمَة تَقَع عَلَى الْكَثْرَة وَلَا تَخُصّ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ . " إِيمَانكُمْ " أَيْ إِيمَانكُمْ الَّذِي زَعَمْتُمْ فِي قَوْلكُمْ : نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا . وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الْكَلَام خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أُمِرَ أَنْ يُوَبِّخهُمْ , أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد : بِئْسَ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي فَعَلْتُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهَا إِيمَانكُمْ .
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة البقرة الآية رقم 94
لَمَّا اِدَّعَتْ الْيَهُود دَعَاوَى بَاطِلَة حَكَاهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابه , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَنْ تَمَسّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة " [ الْبَقَرَة : 80 ] , وَقَوْله : " وَقَالُوا لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى " [ الْبَقَرَة : 111 ] , وَقَالُوا : " نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ " [ الْمَائِدَة : 18 ] أَكْذَبَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَأَلْزَمَهُمْ الْحُجَّة فَقَالَ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد : " إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّار الْآخِرَة " يَعْنِي الْجَنَّة .


نُصِبَ عَلَى خَبَر كَانَ , وَإِنْ شِئْت كَانَ حَالًا , وَيَكُون " عِنْد اللَّه " فِي مَوْضِع الْخَبَر .


فِي أَقْوَالكُمْ ; لِأَنَّ مَنْ اِعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْجَنَّة كَانَ الْمَوْت أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا , لِمَا يَصِير إِلَيْهِ مِنْ نَعِيم الْجَنَّة , وَيَزُول عَنْهُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا , فَأَحْجَمُوا عَنْ تَمَنِّي ذَلِكَ فَرَقًا مِنْ اللَّه لِقُبْحِ أَعْمَالهمْ وَمَعْرِفَتهمْ بِكُفْرِهِمْ فِي قَوْلهمْ : " نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ " [ الْمَائِدَة : 18 ] , وَحِرْصهمْ عَلَى الدُّنْيَا ,
وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَسورة البقرة الآية رقم 95
تَحْقِيقًا لِكَذِبِهِمْ . وَأَيْضًا لَوْ تَمَنَّوْا الْمَوْت لَمَاتُوا , كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَوْ أَنَّ الْيَهُود تَمَنَّوْا الْمَوْت لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَامهمْ مِنْ النَّار ) . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه صَرَفَهُمْ عَنْ إِظْهَار التَّمَنِّي , وَقَصَرَهُمْ عَلَى الْإِمْسَاك لِيَجْعَل ذَلِكَ آيَة لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَوْجُه فِي تَرْكهمْ التَّمَنِّي . وَحَكَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " فَتَمَنَّوْا الْمَوْت " أَنَّ الْمُرَاد اُدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَكْذَب الْفَرِيقَيْنِ مِنَّا وَمِنْكُمْ , فَمَا دَعَوْا لِعِلْمِهِمْ بِكَذِبِهِمْ .

فَإِنْ قِيلَ : فَالتَّمَنِّي يَكُون بِاللِّسَانِ تَارَة وَبِالْقَلْبِ أُخْرَى , فَمِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ ؟ قِيلَ لَهُ : نَطَقَ الْقُرْآن بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا " وَلَوْ تَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ لَأَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ رَدًّا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْطَالًا لِحُجَّتِهِ , وَهَذَا بَيِّن . " أَبَدًا " ظَرْف زَمَان يَقَع عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِير , كَالْحِينِ وَالْوَقْت , وَهُوَ هُنَا مِنْ أَوَّل الْعُمُر إِلَى الْمَوْت . و " مَا " فِي قَوْله " بِمَا " بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِد مَحْذُوف , وَالتَّقْدِير قَدَّمَتْهُ , وَتَكُون مَصْدَرِيَّة وَلَا تَحْتَاج إِلَى عَائِد . و " أَيْدِيهمْ " فِي مَوْضِع رَفْع , حُذِفَتْ الضَّمَّة مِنْ الْيَاء لِثِقَلِهَا مَعَ الْكَسْرَة , وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِع نَصْب حَرَّكْتهَا ; لِأَنَّ النَّصْب خَفِيف , وَيَجُوز إِسْكَانهَا فِي الشِّعْر . " وَاَللَّه عَلِيم بِالظَّالِمِينَ " اِبْتِدَاء وَخَبَر .
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَسورة البقرة الآية رقم 96
يَعْنِي الْيَهُود .


قِيلَ : الْمَعْنَى وَأَحْرَص , فَحُذِفَ " مِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا " لِمَعْرِفَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَلَّا خَيْر لَهُمْ عِنْد اللَّه , وَمُشْرِكُو الْعَرَب لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاة وَلَا عِلْم لَهُمْ مِنْ الْآخِرَة , أَلَا تَرَى قَوْل شَاعِرهمْ : تَمَتَّعْ مِنْ الدُّنْيَا فَإِنَّك فَانٍ مِنْ النَّشَوَات وَالنِّسَاء الْحِسَان وَالضَّمِير فِي " أَحَدهمْ " يَعُود فِي هَذَا الْقَوْل عَلَى الْيَهُود . وَقِيلَ : إِنَّ الْكَلَام تَمَّ فِي " حَيَاة " ثُمَّ اُسْتُؤْنِفَ الْإِخْبَار عَنْ طَائِفَة مِنْ الْمُشْرِكِينَ . قِيلَ : هُمْ الْمَجُوس , وَذَلِكَ بَيِّن فِي أَدْعِيَاتِهِمْ لِلْعَاطِسِ بِلُغَاتِهِمْ بِمَا مَعْنَاهُ " عِشْ أَلْف سَنَة " . وَخُصَّ الْأَلْف بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا نِهَايَة الْعَقْد فِي الْحِسَاب . وَذَهَبَ الْحَسَن إِلَى أَنَّ " الَّذِينَ أَشْرَكُوا " مُشْرِكُو الْعَرَب , خُصُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ , فَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ طُول الْعُمُر . وَأَصْل سَنَة سَنْهَة . وَقِيلَ : سَنْوَة . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالْمَعْنَى وَلَتَجِدَنهُمْ وَطَائِفَة مِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة .


أَصْل " يَوَدّ " يَوْدَد , أُدْغِمَتْ لِئَلَّا يُجْمَع بَيْن حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْس وَاحِد مُتَحَرِّكَيْنِ , وَقُلِبَتْ حَرَكَة الدَّال عَلَى الْوَاو , لِيَدُلّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَل . وَحَكَى الْكِسَائِيّ : وَدِدْت , فَيَجُوز عَلَى هَذَا يَوِدّ بِكَسْرِ الْوَاو . وَمَعْنَى يَوَدّ : يَتَمَنَّى .

اِخْتَلَفَ النُّحَاة فِي هُوَ , فَقِيلَ : هُوَ ضَمِير الْأَحَد الْمُتَقَدِّم , التَّقْدِير مَا أَحَدهمْ بِمُزَحْزِحِهِ , وَخَبَر الِابْتِدَاء فِي الْمَجْرُور . " أَنْ يُعَمَّر " فَاعِل بِمُزَحْزِحٍ وَقَالَتْ فِرْقَة : هُوَ ضَمِير التَّعْمِير , وَالتَّقْدِير وَمَا التَّعْمِير بِمُزَحْزِحِهِ , وَالْخَبَر فِي الْمَجْرُور , " أَنْ يُعَمَّر " بَدَل مِنْ التَّعْمِير عَلَى هَذَا الْقَوْل . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ فِرْقَة أَنَّهَا قَالَتْ : " هُوَ " عِمَاد .

قُلْت : وَفِيهِ بُعْد , فَإِنَّ حَقّ الْعِمَاد أَنْ يَكُون بَيْن شَيْئَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ , مِثْل قَوْله : " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ " [ الْأَنْفَال : 32 ] , وَقَوْله : " وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ " [ الزُّخْرُف : 76 ] وَنَحْو ذَلِكَ . وَقِيلَ : " مَا " عَامِلَة حِجَازِيَّة , و " هُوَ " اِسْمهَا , وَالْخَبَر فِي " بِمُزَحْزِحِهِ " . وَقَالَتْ طَائِفَة : " هُوَ " ضَمِير الْأَمْر وَالشَّأْن . اِبْن عَطِيَّة : وَفِيهِ بُعْد , فَإِنَّ الْمَحْفُوظ عَنْ النُّحَاة أَنْ يُفَسَّر بِجُمْلَةٍ سَالِمَة مِنْ حَرْف جَرّ . وَقَوْله : " بِمُزَحْزِحِهِ " الزَّحْزَحَة : الْإِبْعَاد وَالتَّنْحِيَة , يُقَال : زَحْزَحْته أَيْ بَاعَدْته فَتَزَحْزَحَ أَيْ تَنَحَّى وَتَبَاعَدَ , يَكُون لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا قَالَ الشَّاعِر فِي الْمُتَعَدِّي : يَا قَابِض الرُّوح مِنْ نَفْس إِذَا اُحْتُضِرَتْ وَغَافِر الذَّنْب زَحْزِحْنِي عَنْ النَّار وَأَنْشَدَهُ ذُو الرُّمَّة : يَا قَابِض الرُّوح عَنْ جِسْم عَصَى زَمَنًا وَغَافِر الذَّنْب زَحْزِحْنِي عَنْ النَّار وَقَالَ آخَر فِي اللَّازِم : خَلِيلَيَّ مَا بَال الدُّجَى لَا يَتَزَحْزَح وَمَا بَال ضَوْء الصُّبْح لَا يَتَوَضَّح وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل اللَّه زَحْزَحَ اللَّه وَجْهه عَنْ النَّار سَبْعِينَ خَرِيفًا ) .


أَيْ بِمَا يَعْمَل هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَوَدّ أَحَدهمْ أَنْ يُعَمَّر أَلْف سَنَة . وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالتَّقْدِير عِنْده . قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد اللَّه بَصِير بِمَا تَعْمَلُونَ . وَقَالَ الْعُلَمَاء : وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور . وَالْبَصِير فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَالِم بِالشَّيْءِ الْخَبِير بِهِ , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان بَصِير بِالطِّبِّ , وَبَصِير بِالْفِقْهِ , وَبَصِير بِمُلَاقَاةِ الرِّجَال , قَالَ : فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِير بِأَدْوَاءِ النِّسَاء طَبِيب قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْعَالِم , وَالْبَصِير الْمُبْصِر . وَقِيلَ : وَصَفَ تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى جَاعِل الْأَشْيَاء الْمُبْصِرَة ذَوَات إِبْصَار , أَيْ مُدْرِكَة لِلْمُبْصَرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنْ الْآلَة الْمُدْرِكَة وَالْقُوَّة , فَاَللَّه بَصِير بِعِبَادِهِ , أَيْ جَاعِل عِبَاده مُبْصِرِينَ .
قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 97
سَبَب نُزُولهَا أَنَّ الْيَهُود قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا يَأْتِيه مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَة مِنْ عِنْد رَبّه بِالرِّسَالَةِ وَبِالْوَحْيِ , فَمَنْ صَاحِبك حَتَّى نُتَابِعك ؟ قَالَ : ( جِبْرِيل ) قَالُوا : ذَاكَ الَّذِي يَنْزِل بِالْحَرْبِ وَبِالْقِتَالِ , ذَاكَ عَدُوّنَا ! لَوْ قُلْت : مِيكَائِيل الَّذِي يَنْزِل بِالْقَطْرِ وَبِالرَّحْمَةِ تَابَعْنَاك , فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة إِلَى قَوْله : " لِلْكَافِرِينَ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ .


الضَّمِير فِي " إِنَّهُ " يَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ , الْأَوَّل : فَإِنَّ اللَّه نَزَّلَ جِبْرِيل عَلَى قَلْبك . الثَّانِي : فَإِنَّ جِبْرِيل نَزَلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى قَلْبك . وَخُصَّ الْقَلْب بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَوْضِع الْعَقْل وَالْعِلْم وَتَلَقِّي الْمَعَارِف . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى شَرَف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَذَمّ مُعَادِيهِ .


أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَعِلْمه .


يَعْنِي التَّوْرَاة .


الْهُدَى لَفْظ مُؤَنَّث قَالَ الْفَرَّاء : بَعْض بَنِي أَسَد تُؤَنِّث الْهُدَى فَتَقُول : هَذِهِ هُدًى حَسَنَة . وَقَالَ اللِّحْيَانِيّ : هُوَ مُذَكَّر , وَلَمْ يُعْرَب لِأَنَّهُ مَقْصُور وَالْأَلِف لَا تَتَحَرَّك , وَيَتَعَدَّى بِحَرْفٍ وَبِغَيْرِ حَرْف وَقَدْ مَضَى فِي " الْفَاتِحَة " , تَقُول : هَدَيْته الطَّرِيق وَإِلَى الطَّرِيق وَالدَّار وَإِلَى الدَّار , أَيْ عَرَّفْته . الْأُولَى لُغَة أَهْل الْحِجَاز , وَالثَّانِيَة حَكَاهَا الْأَخْفَش . وَفِي التَّنْزِيل : " اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم " و " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا " [ الْأَعْرَاف : 43 ] وَقِيلَ : إِنَّ الْهُدَى اِسْم مِنْ أَسْمَاء النَّهَار ; لِأَنَّ النَّاس يَهْتَدُونَ فِيهِ لِمَعَايِشِهِمْ وَجَمِيع مَآرِبهمْ , وَمِنْهُ قَوْل اِبْن مُقْبِل : حَتَّى اِسْتَبَنْت الْهُدَى وَالْبِيد هَاجِمَة يَخْشَعْنَ فِي الْآل غُلْفًا أَوْ يُصَلِّينَا
مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 98
" مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ " شَرْط , وَجَوَابه " فَإِنَّ اللَّه عَدُوّ لِلْكَافِرِينَ " . وَهَذَا وَعِيد وَذَمّ لِمُعَادِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام , وَإِعْلَان أَنَّ عَدَاوَة الْبَعْض تَقْتَضِي عَدَاوَة اللَّه لَهُمْ . وَعَدَاوَة الْعَبْد لِلَّهِ هِيَ مَعْصِيَته وَاجْتِنَاب طَاعَته , وَمُعَادَاة أَوْلِيَائِهِ . وَعَدَاوَة اللَّه لِلْعَبْدِ تَعْذِيبه وَإِظْهَار أَثَر الْعَدَاوَة عَلَيْهِ .

فَإِنْ قِيلَ : لِمَ خَصَّ اللَّه جِبْرِيل وَمِيكَائِيل بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ ذِكْر الْمَلَائِكَة قَدْ عَمَّهُمَا ؟

قِيلَ لَهُ : خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمَا , كَمَا قَالَ : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] . وَقِيلَ : خُصًّا لِأَنَّ الْيَهُود ذَكَرُوهُمَا , وَنَزَلَتْ الْآيَة بِسَبَبِهِمَا , فَذِكْرهمَا وَاجِب لِئَلَّا تَقُول الْيَهُود : إِنَّا لَمْ نُعَاد اللَّه وَجَمِيع مَلَائِكَته , فَنَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمَا لِإِبْطَالِ مَا يَتَأَوَّلُونَهُ مِنْ التَّخْصِيص . وَلِعُلَمَاء اللِّسَان فِي جِبْرِيل وَمِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام لُغَات , فَأَمَّا الَّتِي فِي جِبْرِيل فَعَشْر :

الْأُولَى : جِبْرِيل , وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَاز , قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت : وَجِبْرِيل رَسُول اللَّه فِينَا

الثَّانِيَة : جَبْرِيل ( بِفَتْحِ الْجِيم ) وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن وَابْن كَثِير , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن كَثِير أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْم وَهُوَ يَقْرَأ جَبْرِيل وَمِيكَائِيل فَلَا أَزَالَ أَقْرَؤُهُمَا أَبَدًا كَذَلِكَ .

الثَّالِثَة : جَبْرَئِيل ( بِيَاءٍ بَعْد الْهَمْزَة , مِثَال جَبْرَعِيل ) , كَمَا قَرَأَ أَهْل الْكُوفَة , وَأَنْشَدُوا : شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَة مَدَى الدَّهْر إِلَّا جَبْرَئِيل أَمَامهَا وَهِيَ لُغَة تَمِيم وَقَيْس .

الرَّابِعَة : جَبْرَئِل ( عَلَى وَزْن جَبْرَعِل ) مَقْصُور , وَهِيَ قِرَاءَة أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم .

الْخَامِسَة : مِثْلهَا , وَهِيَ قِرَاءَة يَحْيَى بْن يَعْمَر , إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ اللَّام .

السَّادِسَة : جَبْرَائِل ( بِأَلِفٍ بَعْد الرَّاء ثُمَّ هَمْزَة ) وَبِهَا قَرَأَ عِكْرِمَة .

السَّابِعَة : مِثْلهَا , إِلَّا أَنَّ بَعْد الْهَمْزَة يَاء .

الثَّامِنَة : جَبْرَيِيل ( بِيَاءَيْنِ بِغَيْرِ هَمْزَة ) وَبِهَا قَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى بْن يَعْمَر أَيْضًا .

التَّاسِعَة : جَبْرَئِين ( بِفَتْحِ الْجِيم مَعَ هَمْزَة مَكْسُورَة بَعْدهَا يَاء وَنُون ) .

الْعَاشِرَة : جِبْرِين ( بِكَسْرِ الْجِيم وَتَسْكِين الْبَاء بِنُونٍ مِنْ غَيْر هَمْزَة ) وَهِيَ لُغَة بَنِي أَسَد . قَالَ الطَّبَرِيّ : وَلَمْ يُقْرَأ بِهَا . قَالَ النَّحَّاس - وَذَكَرَ قِرَاءَة اِبْن كَثِير - : " لَا يُعْرَف فِي كَلَام الْعَرَب فَعْلِيل , وَفِيهِ فِعْلِيل , نَحْو دِهْلِيز وَقِطْمِير وَبِرْطِيل , وَلَيْسَ يُنْكَر أَنْ يَكُون فِي كَلَام الْعَجَم مَا لَيْسَ لَهُ نَظِير فِي كَلَام الْعَرَب , وَلَيْسَ يُنْكَر أَنْ يَكْثُر تَغَيُّره , كَمَا قَالُوا : إِبْرَاهِيم وَإِبْرَهَم وَإِبْرَاهَم وَإِبْرَاهَام " . قَالَ غَيْره : جِبْرِيل اِسْم أَعْجَمِيّ عَرَّبَتْهُ الْعَرَب , فَلَهَا فِيهِ هَذِهِ اللُّغَات وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِف .

قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الْكِتَاب أَنَّ الصَّحِيح فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ عَرَبِيَّة نَزَلَ بِهَا جِبْرِيل بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِين . قَالَ النَّحَّاس : وَيُجْمَع جِبْرِيل عَلَى التَّكْسِير جَبَارِيل . وَأَمَّا اللُّغَات الَّتِي فِي مِيكَائِيل فَسِتّ :

الْأُولَى : مِيكَايِيل , قِرَاءَة نَافِع .

الثَّانِيَة : وَمِيكَائِيل ( بِيَاءٍ بَعْد الْهَمْزَة ) قِرَاءَة حَمْزَة .

الثَّالِثَة : مِيكَال , لُغَة أَهْل الْحِجَاز , وَهِيَ قِرَاءَة أَبِي عَمْرو وَحَفْص عَنْ عَاصِم . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن كَثِير الثَّلَاثَة أَوْجُه , قَالَ كَعْب بْن مَالِك : وَيَوْم بَدْر لَقِينَاكُمْ لَنَا مَدَد فِيهِ مَعَ النَّصْر مِيكَال وَجِبْرِيل وَقَالَ آخَر : عَبَدُوا الصَّلِيب وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِجَبْرَئِيل وَكَذَّبُوا مِيكَالَا

الرَّابِعَة : مِيكَئِيل , مِثْل مِيكَعِيل , وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مُحَيْصِن .

الْخَامِسَة : مِيكَايِيل ( بِيَاءَيْنِ ) وَهِيَ قِرَاءَة الْأَعْمَش بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ .

السَّادِسَة : مِيكَاءَل , كَمَا يُقَال ( إِسْرَاءَل بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَة ) , وَهُوَ اِسْم أَعْجَمِيّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِف . وَذَكَرَ اِبْن عَبَّاس أَنَّ جَبْر وَمِيكَا وَإِسْرَاف هِيَ كُلّهَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ بِمَعْنَى : عَبْد وَمَمْلُوك . وَإِيل : اِسْم اللَّه تَعَالَى , وَمِنْهُ قَوْل أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين سَمِعَ سَجْع مُسَيْلِمَة : هَذَا كَلَام لَمْ يَخْرُج مِنْ إِلّ , وَفِي التَّنْزِيل : " لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِن إِلًّا وَلَا ذِمَّة " فِي أَحَد التَّأْوِيلَيْنِ , وَسَيَأْتِي . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : إِنَّ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل اِسْمَانِ , أَحَدهمَا عَبْد اللَّه , وَالْآخَر عُبَيْد اللَّه ; لِأَنَّ إِيل هُوَ اللَّه تَعَالَى , وَجَبْر هُوَ عَبْد , وَمِيكَا هُوَ عُبَيْد , فَكَأَنَّ جِبْرِيل عَبْد اللَّه , وَمِيكَائِيل عُبَيْد اللَّه , هَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس , وَلَيْسَ لَهُ فِي الْمُفَسِّرِينَ مُخَالِف .

قُلْت : وَزَادَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : وَإِسْرَافِيل عَبْد الرَّحْمَن . قَالَ النَّحَّاس : وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحَدِيث " جَبْر " عَبْد , و " إِلّ " اللَّه وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول : هَذَا جَبْرُئل وَرَأَيْت جَبْرَئل وَمَرَرْت بِجَبْرِئل , وَهَذَا لَا يُقَال , فَوَجَبَ أَنْ يَكُون مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ مُسَمًّى بِهَذَا . قَالَ غَيْره : وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ مَصْرُوفًا , فَتَرْك الصَّرْف يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ اِسْم وَاحِد مُفْرَد لَيْسَ بِمُضَافٍ . وَرَوَى عَبْد الْغَنِيّ الْحَافِظ مِنْ حَدِيث أَفْلَتْ بْن خَلِيفَة - وَهُوَ فُلَيْت الْعَامِرِيّ وَهُوَ أَبُو حَسَّان - عَنْ جَسْرَة بِنْت دَجَاجَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ رَبّ جِبْرِيل وَمِيكَايِل وَإِسْرَافِيل أَعُوذ بِك مِنْ حَرّ النَّار وَعَذَاب الْقَبْر ) .
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَسورة البقرة الآية رقم 99
قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : هَذَا جَوَاب لِابْنِ صُورِيَّا حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّد مَا جِئْتنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفهُ , وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْك مِنْ آيَة بَيِّنَة فَنَتَّبِعك بِهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة , ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَسورة البقرة الآية رقم 100
الْوَاو وَاو الْعَطْف , دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِف الِاسْتِفْهَام كَمَا تَدْخُل عَلَى الْفَاء فِي قَوْله : " أَفَحُكْم الْجَاهِلِيَّة " [ الْمَائِدَة : 50 ] , " أَفَأَنْت تُسْمِع الصُّمّ " [ الزُّخْرُف : 40 ] , " أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّته " [ الْكَهْف : 50 ] . وَعَلَى ثُمَّ كَقَوْلِهِ : " أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ " [ يُونُس : 51 ] هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : الْوَاو زَائِدَة . وَمَذْهَب الْكِسَائِيّ أَنَّهَا أَوْ , حُرِّكَتْ الْوَاو مِنْهَا تَسْهِيلًا . وَقَرَأَهَا قَوْم أَوْ , سَاكِنَة الْوَاو فَتَجِيء بِمَعْنَى بَلْ , كَمَا يَقُول الْقَائِل : لَأَضْرِبَنَّك , فَيَقُول الْمُجِيب : أَوَيَكْفِي اللَّه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا كُلّه مُتَكَلَّف , وَالصَّحِيح قَوْل سِيبَوَيْهِ . " كُلَّمَا " نُصِبَ عَلَى الظَّرْف , وَالْمَعْنِيّ فِي الْآيَة مَالِك بْن الصَّيْف , وَيُقَال فِيهِ اِبْن الضَّيْف , كَانَ قَدْ قَالَ : وَاَللَّه مَا أُخِذَ عَلَيْنَا عَهْد فِي كِتَابنَا أَنْ نُؤْمِن بِمُحَمَّدٍ وَلَا مِيثَاق , فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّ الْيَهُود عَاهَدُوا لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّد لَنُؤْمِن بِهِ وَلَنَكُونَن مَعَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَب , فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ . وَقَالَ عَطَاء : هِيَ الْعُهُود الَّتِي كَانَتْ بَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْن الْيَهُود فَنَقَضُوهَا كَفِعْلِ قُرَيْظَة وَالنَّضِير , دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ عَاهَدْت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدهمْ فِي كُلّ مَرَّة وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ " [ الْأَنْفَال : 56 ] .


النَّبْذ : الطَّرْح وَالْإِلْقَاء , وَمِنْهُ النَّبِيذ وَالْمَنْبُوذ , قَالَ أَبُو الْأَسْوَد : وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْت أَرْسَلْت إِنَّمَا أَخَذْت كِتَابِي مُعْرِضًا بِشِمَالِكَا نَظَرْت إِلَى عُنْوَانه فَنَبَذْته كَنَبْذِك نَعْلًا أَخَلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا آخَر : إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتهمْ أَنْ يَعْدِلُوا نَبَذُوا كِتَابك وَاسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَا وَهَذَا مَثَل يُضْرَب لِمَنْ اِسْتَخَفَّ بِالشَّيْءِ فَلَا يَعْمَل بِهِ , تَقُول الْعَرَب : اِجْعَلْ هَذَا خَلْف ظَهْرك , وَدُبُرًا مِنْك , وَتَحْت قَدَمك , أَيْ اُتْرُكْهُ وَأَعْرِضْ عَنْهُ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَاِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا " [ هُود : 92 ] . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : تَمِيم بْن زَيْد لَا تَكُونَن حَاجَتِي بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابهَا


اِبْتِدَاء .


فِعْل مُسْتَقْبَل فِي مَوْضِع الْخَبَر .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 101
نَعْت لِرَسُولٍ , وَيَجُوز نَصْبه عَلَى الْحَال .


جَوَاب " لَمَّا " . وَالنَّبْذ : الطَّرْح وَالْإِلْقَاء , وَمِنْهُ النَّبِيذ وَالْمَنْبُوذ , قَالَ أَبُو الْأَسْوَد : وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْت أَرْسَلْت إِنَّمَا أَخَذْت كِتَابِي مُعْرِضًا بِشِمَالِكَا نَظَرْت إِلَى عُنْوَانه فَنَبَذْته كَنَبْذِك نَعْلًا أَخَلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا آخَر : إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتهمْ أَنْ يَعْدِلُوا نَبَذُوا كِتَابك وَاسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَا وَهَذَا مَثَل يُضْرَب لِمَنْ اِسْتَخَفَّ بِالشَّيْءِ فَلَا يَعْمَل بِهِ , تَقُول الْعَرَب : اِجْعَلْ هَذَا خَلْف ظَهْرك , وَدُبُرًا مِنْك , وَتَحْت قَدَمك , أَيْ اُتْرُكْهُ وَأَعْرِضْ عَنْهُ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَاِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا " [ هُود : 92 ] . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : تَمِيم بْن زَيْد لَا تَكُونَن حَاجَتِي بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابهَا


" مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب كِتَاب اللَّه " نُصِبَ ب " نَبَذَ " , وَالْمُرَاد التَّوْرَاة ; لِأَنَّ كُفْرهمْ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام وَتَكْذِيبهمْ لَهُ نَبْذ لَهَا . قَالَ السُّدِّيّ : نَبَذُوا التَّوْرَاة وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصف , وَسِحْر هَارُوت وَمَارُوت . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآن . قَالَ الشَّعْبِيّ : هُوَ بَيْن أَيْدِيهمْ يَقْرَءُونَهُ , وَلَكِنْ نَبَذُوا الْعَمَل بِهِ . وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : أَدْرَجُوهُ فِي الْحَرِير وَالدِّيبَاج , وَحَلَّوْهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة , وَلَمْ يُحِلُّوا حَلَاله وَلَمْ يُحَرِّمُوا حَرَامه , فَذَلِكَ النَّبْذ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه مُسْتَوْفًى .


تَشْبِيه بِمَنْ لَا يَعْلَم إِذْ فَعَلُوا فِعْل الْجَاهِل فَيَجِيء مِنْ اللَّفْظ أَنَّهُمْ كَفَرُوا عَلَى عِلْم .
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 102
هَذَا إِخْبَار مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ الطَّائِفَة الَّذِينَ نَبَذُوا الْكِتَاب بِأَنَّهُمْ اِتَّبَعُوا السِّحْر أَيْضًا , وَهُمْ الْيَهُود . وَقَالَ السُّدِّيّ : عَارَضَتْ الْيَهُود مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ فَاتَّفَقَتْ التَّوْرَاة وَالْقُرْآن فَنَبَذُوا التَّوْرَاة وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصف وَبِسِحْرِ هَارُوت وَمَارُوت . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : لَمَّا ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَيْمَان فِي الْمُرْسَلِينَ قَالَ بَعْض أَحْبَارهمْ : يَزْعُم مُحَمَّد أَنَّ اِبْن دَاوُد كَانَ نَبِيًّا ! وَاَللَّه مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا " أَيْ أَلْقَتْ إِلَى بَنِي آدَم أَنَّ مَا فَعَلَهُ سُلَيْمَان مِنْ رُكُوب الْبَحْر وَاسْتِسْخَار الطَّيْر وَالشَّيَاطِين كَانَ سِحْرًا . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَتَبَتْ الشَّيَاطِين السِّحْر وَالنِّيرنْجِيَّات عَلَى لِسَان آصف كَاتِب سُلَيْمَان , وَدَفَنُوهُ تَحْت مُصَلَّاهُ حِين اِنْتَزَعَ اللَّه مُلْكه وَلَمْ يَشْعُر بِذَلِكَ سُلَيْمَان , فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان اِسْتَخْرَجُوهُ وَقَالُوا لِلنَّاسِ : إِنَّمَا مَلَكَكُمْ بِهَذَا فَتَعَلَّمُوهُ , فَأَمَّا عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيل فَقَالُوا : مَعَاذ اللَّه أَنْ يَكُون هَذَا عِلْم سُلَيْمَان ! وَأَمَّا السَّفَلَة فَقَالُوا : هَذَا عِلْم سُلَيْمَان , وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعْلِيمه وَرَفَضُوا كُتُب أَنْبِيَائِهِمْ حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيّه عُذْر سُلَيْمَان وَأَظْهَرَ بَرَاءَته مِمَّا رُمِيَ بِهِ فَقَالَ : " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين " . قَالَ عَطَاء : " تَتْلُو " تَقْرَأ مِنْ التِّلَاوَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " تَتْلُو " تَتْبَع , كَمَا تَقُول : جَاءَ الْقَوْم يَتْلُو بَعْضهمْ بَعْضًا . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : " اِتَّبَعُوا " بِمَعْنَى فَضَّلُوا .

قُلْت : لِأَنَّ كُلّ مَنْ اِتَّبَعَ شَيْئًا وَجَعَلَهُ أَمَامه فَقَدْ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْره , وَمَعْنَى " تَتْلُو " يَعْنِي تَلَتْ , فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيّ , قَالَ الشَّاعِر : وَإِذَا مَرَرْت بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ كُوم الْهِجَان وَكُلّ طَرَف سَابِح وَانَضْح جَوَانِب قَبْره بِدِمَائِهَا فَلَقَدْ يَكُون أَخَا دَم وَذَبَائِح أَيْ فَلَقَدْ كَانَ . و " مَا " مَفْعُول ب " اِتَّبَعُوا " أَيْ اِتَّبَعُوا مَا تَقَوَّلَتْهُ الشَّيَاطِين عَلَى سُلَيْمَان وَتَلَتْهُ . وَقِيلَ : " مَا " نَفْي , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لَا فِي نِظَام الْكَلَام وَلَا فِي صِحَّته , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . " عَلَى مُلْك سُلَيْمَان " أَيْ عَلَى شَرْعه وَنُبُوَّته . قَالَ الزَّجَّاج : قَالَ الْفَرَّاء عَلَى عَهْد مُلْك سُلَيْمَان . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فِي مُلْك سُلَيْمَان , يَعْنِي فِي قَصَصه وَصِفَاته وَأَخْبَاره . قَالَ الْفَرَّاء : تَصْلُح عَلَى وَفِي , فِي مِثْل هَذَا الْمَوْضِع . وَقَالَ " عَلَى " وَلَمْ يَقُلْ بَعْد لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول وَلَا نَبِيّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أُمْنِيَّته " [ الْحَجّ : 52 ] أَيْ فِي تِلَاوَته . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّيْطَان وَاشْتِقَاقه , فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ . وَالشَّيَاطِين هُنَا قِيلَ : هُمْ شَيَاطِين الْجِنّ , وَهُوَ الْمَفْهُوم مِنْ هَذَا الِاسْم . وَقِيلَ : الْمُرَاد شَيَاطِين الْإِنْس الْمُتَمَرِّدُونَ فِي الضَّلَال , كَقَوْلِ جَرِير : أَيَّام يَدْعُونَنِي الشَّيْطَان مِنْ غَزَلِي وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْت شَيْطَانًا


تَبْرِئَة مِنْ اللَّه لِسُلَيْمَان وَلَمْ يَتَقَدَّم فِي الْآيَة أَنَّ أَحَدًا نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْر , وَلَكِنَّ الْيَهُود نَسَبَتْهُ إِلَى السِّحْر , وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السِّحْر كُفْرًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْر .

فَأَثْبَتَ كُفْرهمْ بِتَعْلِيمِ السِّحْر . و " يُعَلِّمُونَ : فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّهُ خَبَر ثَانٍ . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِم " وَلَكِنْ الشَّيَاطِين " بِتَخْفِيفِ " لَكِنْ " , وَرَفْع النُّون مِنْ " الشَّيَاطِين " , وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَال " وَلَكِنْ اللَّه رَمَى " [ الْأَنْفَال : 17 ] وَوَافَقَهُمْ اِبْن عَامِر . الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْب . و " لَكِنَّ " كَلِمَة لَهَا مَعْنَيَانِ : نَفْي الْخَبَر الْمَاضِي , وَإِثْبَات الْخَبَر الْمُسْتَقْبَل , وَهِيَ مَبْنِيَّة مِنْ ثَلَاث كَلِمَات : لَا , ك , إِنَّ . " لَا " نَفْي , و " الْكَاف " خِطَاب , و " إِنَّ " إِثْبَات وَتَحْقِيق , فَذَهَبَتْ الْهَمْزَة اِسْتِثْقَالًا , وَهِيَ تُثَقَّل وَتُخَفَّف , فَإِذَا ثُقِّلَتْ نَصَبْت كَإِنَّ الثَّقِيلَة , وَإِذَا خُفِّفَتْ رَفَعْت بِهَا كَمَا تَرْفَع بِإِنْ الْخَفِيفَة .

السِّحْر , قِيلَ : السِّحْر أَصْله التَّمْوِيه وَالتَّخَايِيل , وَهُوَ أَنْ يَفْعَل السَّاحِر أَشْيَاء وَمَعَانِي , فَيُخَيَّل لِلْمَسْحُورِ أَنَّهَا بِخِلَافِ مَا هِيَ بِهِ , كَاَلَّذِي يَرَى السَّرَاب مِنْ بَعِيد فَيُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ مَاء , وَكَرَاكِبِ السَّفِينَة السَّائِرَة سَيْرًا حَثِيثًا يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّ مَا يَرَى مِنْ الْأَشْجَار وَالْجِبَال سَائِرَة مَعَهُ . وَقِيلَ : هُوَ مُشْتَقّ مِنْ سَحَرْت الصَّبِيّ إِذَا خَدَعْته , وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّلْته , وَالتَّسْحِير مِثْله , قَالَ لَبِيد : فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا عَصَافِير مِنْ هَذَا الْأَنَام الْمُسَحَّر آخَر : أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْب وَنُسْحَر بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ عَصَافِير وَذِبَّان وَدُود وَأَجْرَأ مِنْ مُجَلِّحَة الذِّئَاب وَقَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ " [ الشُّعَرَاء : 153 ] يُقَال : الْمُسَحَّر الَّذِي خُلِقَ ذَا سَحَر , وَيُقَال مِنْ الْمُعَلَّلِينَ , أَيْ مِمَّنْ يَأْكُل الطَّعَام وَيَشْرَب الشَّرَاب . وَقِيلَ : أَصْله الْخَفَاء , فَإِنَّ السَّاحِر يَفْعَلهُ فِي خُفْيَة . وَقِيلَ : أَصْله الصَّرْف , يُقَال : مَا سَحَرَك عَنْ كَذَا , أَيْ مَا صَرَفَك عَنْهُ , فَالسِّحْر مَصْرُوف عَنْ جِهَته . وَقِيلَ : أَصْله الِاسْتِمَالَة , وَكُلّ مَنْ اِسْتَمَالَك فَقَدْ سَحَرَك . وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : " بَلْ نَحْنُ قَوْم مَسْحُورُونَ " [ الْحِجْر : 15 ] أَيْ سُحِرْنَا فَأُزِلْنَا بِالتَّخْيِيلِ عَنْ مَعْرِفَتنَا . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : السِّحْر الْأَخْذَة , وَكُلّ مَا لَطُفَ مَأْخَذه وَدَقَّ فَهُوَ سِحْر , وَقَدْ سَحَرَهُ يَسْحَرهُ سِحْرًا . وَالسَّاحِر : الْعَالِم , وَسَحَرَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى خَدَعَهُ , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : كُنَّا نُسَمِّي السِّحْر فِي الْجَاهِلِيَّة الْعِضَه . وَالْعِضَه عِنْد الْعَرَب : شِدَّة الْبَهْت وَتَمْوِيه الْكَذِب , قَالَ الشَّاعِر : أَعُوذ بِرَبِّي مِنْ النَّافِثَا تِ فِي عِضَهِ الْعَاضِه الْمُعْضِه

وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ حَقِيقَة أَمْ لَا , فَذَكَرَ الْغَزْنَوِيّ الْحَنَفِيّ فِي عُيُون الْمَعَانِي لَهُ : أَنَّ السِّحْر عِنْد الْمُعْتَزِلَة خُدَع لَا أَصْل لَهُ , وَعِنْد الشَّافِعِيّ وَسْوَسَة وَأَمْرَاض . قَالَ : وَعِنْدنَا أَصْله طِلَّسْم يُبْنَى عَلَى تَأْثِير خَصَائِص الْكَوَاكِب , كَتَأْثِيرِ الشَّمْس فِي زِئْبَق عِصِيّ فِرْعَوْن , أَوْ تَعْظِيم الشَّيَاطِين لِيُسَهِّلُوا لَهُ مَا عَسُرَ .

قُلْت : وَعِنْدنَا أَنَّهُ حَقّ وَلَهُ حَقِيقَة يَخْلُق اللَّه عِنْده مَا شَاءَ , عَلَى مَا يَأْتِي . ثُمَّ مِنْ السِّحْر مَا يَكُون بِخِفَّةِ الْيَد كَالشَّعْوَذَةِ . وَالشَّعْوَذِيّ : الْبَرِيد لِخِفَّةِ سَيْره . قَالَ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل : الشَّعْوَذَة لَيْسَ مِنْ كَلَام أَهْل الْبَادِيَة , وَهِيَ خِفَّة فِي الْيَدَيْنِ وَأَخْذَة كَالسِّحْرِ , وَمِنْهُ مَا يَكُون كَلَامًا يُحْفَظ , وَرُقًى مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ يَكُون مِنْ عُهُود الشَّيَاطِين , وَيَكُون أَدْوِيَة وَأَدْخِنَة وَغَيْر ذَلِكَ .

سَمَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَصَاحَة فِي الْكَلَام وَاللِّسَانَة فِيهِ سِحْرًا , فَقَالَ : ( إِنَّ مِنْ الْبَيَان لَسِحْرًا ) أَخْرَجَهُ مَالِك وَغَيْره . وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَصْوِيب الْبَاطِل حَتَّى يَتَوَهَّم السَّامِع أَنَّهُ حَقّ , فَعَلَى هَذَا يَكُون قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ مِنْ الْبَيَان لَسِحْرًا ) خَرَجَ مَخْرَج الذَّمّ لِلْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَة , إِذْ شَبَّهَهَا بِالسِّحْرِ . وَقِيلَ : خَرَجَ مَخْرَج الْمَدْح لِلْبَلَاغَةِ وَالتَّفْضِيل لِلْبَيَانِ , قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم . وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض ) , وَقَوْله : ( إِنَّ أَبْغَضكُمْ إِلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ ) . الثَّرْثَرَة : كَثْرَة الْكَلَام وَتَرْدِيده , يُقَال : ثَرْثَرَ الرَّجُل فَهُوَ ثَرْثَار مِهْذَار . وَالْمُتَفَيْهِق نَحْوه . قَالَ اِبْن دُرَيْد . فُلَان يَتَفَيْهَق فِي كَلَامه إِذَا تَوَسَّعَ فِيهِ وَتَنَطَّعَ , قَالَ : وَأَصْله الْفَهْق وَهُوَ الِامْتِلَاء , كَأَنَّهُ مَلَأَ بِهِ فَمه .

قُلْت : وَبِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَسَّرَهُ عَامِر الشَّعْبِيّ رَاوِي الْحَدِيث وَصَعْصَعَة بْن صُوحَان فَقَالَا : أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ الْبَيَان لَسِحْرًا ) فَالرَّجُل يَكُون عَلَيْهِ الْحَقّ وَهُوَ أَلْحَن بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِب الْحَقّ فَيَسْحَر الْقَوْم بِبَيَانِهِ فَيَذْهَب بِالْحَقِّ وَهُوَ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا يَحْمَد الْعُلَمَاء الْبَلَاغَة وَاللِّسَانَة مَا لَمْ تَخْرُج إِلَى حَدّ الْإِسْهَاب وَالْإِطْنَاب , وَتَصْوِير الْبَاطِل فِي صُورَة الْحَقّ . وَهَذَا بَيِّن , وَالْحَمْد لِلَّهِ .

مِنْ السِّحْر مَا يَكُون كُفْرًا مِنْ فَاعِله , مِثْل مَا يَدْعُونَ مِنْ تَغْيِير صُوَر النَّاس , وَإِخْرَاجهمْ فِي هَيْئَة بَهِيمَة , وَقَطْع مَسَافَة شَهْر فِي لَيْلَة , وَالطَّيَرَان فِي الْهَوَاء , فَكُلّ مَنْ فَعَلَ هَذَا لِيُوهِم النَّاس أَنَّهُ مُحِقّ فَذَلِكَ كُفْر مِنْهُ , قَالَهُ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحِيم الْقُشَيْرِيّ . قَالَ أَبُو عَمْرو : مَنْ زَعَمَ أَنَّ السَّاحِر يَقْلِب الْحَيَوَان مِنْ صُورَة إِلَى صُورَة , فَيَجْعَل الْإِنْسَان حِمَارًا أَوْ نَحْوه , وَيَقْدِر عَلَى نَقْل الْأَجْسَاد وَهَلَاكهَا وَتَبْدِيلهَا , فَهَذَا يَرَى قَتْل السَّاحِر لِأَنَّهُ كَافِر بِالْأَنْبِيَاءِ , يَدَّعِي مِثْل آيَاتهمْ وَمُعْجِزَاتهمْ , وَلَا يَتَهَيَّأ مَعَ هَذَا عِلْم صِحَّة النُّبُوَّة إِذْ قَدْ يَحْصُل مِثْلهَا بِالْحِيلَةِ . وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْر خُدَع وَمَخَارِيق وَتَمْوِيهَات وَتَخْيِيلَات فَلَمْ يَجِب عَلَى أَصْله قَتْل السَّاحِر , إِلَّا أَنْ يَقْتُل بِفِعْلِهِ أَحَدًا فَيُقْتَل بِهِ .

ذَهَبَ أَهْل السُّنَّة إِلَى أَنَّ السِّحْر ثَابِت وَلَهُ حَقِيقَة . وَذَهَبَ عَامَّة الْمُعْتَزِلَة وَأَبُو إِسْحَاق الْإِسْتِرَابَاذِيّ مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ السِّحْر لَا حَقِيقَة لَهُ , وَإِنَّمَا هُوَ تَمْوِيه وَتَخْيِيل وَإِيهَام لِكَوْنِ الشَّيْء عَلَى غَيْر مَا هُوَ بِهِ , وَأَنَّهُ ضَرْب مِنْ الْخِفَّة وَالشَّعْوَذَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " يُخَيَّل إِلَيْهِ مِنْ سِحْرهمْ أَنَّهَا تَسْعَى " [ طَه : 66 ] وَلَمْ يَقُلْ تَسْعَى عَلَى الْحَقِيقَة , وَلَكِنْ قَالَ " يُخَيَّل إِلَيْهِ " . وَقَالَ أَيْضًا : " سَحَرُوا أَعْيُن النَّاس " [ الْأَعْرَاف : 116 ] . وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّا لَا نُنْكِر أَنْ يَكُون التَّخْيِيل وَغَيْره مِنْ جُمْلَة السِّحْر , وَلَكِنْ ثَبَتَ وَرَاء ذَلِكَ أُمُور جَوَّزَهَا الْعَقْل وَوَرَدَ بِهَا السَّمْع , فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَة مِنْ ذِكْر السِّحْر وَتَعْلِيمه , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَة لَمْ يُمْكِن تَعْلِيمه , وَلَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاس , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَة . وَقَوْله تَعَالَى فِي قِصَّة سَحَرَة فِرْعَوْن : " وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم " وَسُورَة " الْفَلَق " , مَعَ اِتِّفَاق الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ سَبَب نُزُولهَا مَا كَانَ مِنْ سِحْر لَبِيد بْن الْأَعْصَم , وَهُوَ مِمَّا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : سَحَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيّ مِنْ يَهُود بَنِي زُرَيْق يُقَال لَهُ لَبِيد بْن الْأَعْصَم , الْحَدِيث . وَفِيهِ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا حُلَّ السِّحْر : " إِنَّ اللَّه شَفَانِي " . وَالشِّفَاء إِنَّمَا يَكُون بِرَفْعِ الْعِلَّة وَزَوَال الْمَرَض , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقًّا وَحَقِيقَة , فَهُوَ مَقْطُوع بِهِ بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله عَلَى وُجُوده وَوُقُوعه . وَعَلَى هَذَا أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد الَّذِينَ يَنْعَقِد بِهِمْ الْإِجْمَاع , وَلَا عِبْرَة مَعَ اِتِّفَاقهمْ بِحُثَالَةِ الْمُعْتَزِلَة وَمُخَالَفَتهمْ أَهْل الْحَقّ . وَلَقَدْ شَاعَ السِّحْر وَذَاعَ فِي سَابِق الزَّمَان وَتَكَلَّمَ النَّاس فِيهِ , وَلَمْ يَبْدُ مِنْ الصَّحَابَة وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ إِنْكَار لِأَصْلِهِ . وَرَوَى سُفْيَان عَنْ أَبِي الْأَعْوَر عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : عِلْم السِّحْر فِي قَرْيَة مِنْ قُرَى مِصْر يُقَال لَهَا : " الْفَرَمَا " فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَهُوَ كَافِر , مُكَذِّب لِلَّهِ وَرَسُوله , مُنْكِر لِمَا عُلِمَ مُشَاهَدَة وَعِيَانًا .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُنْكَر أَنْ يَظْهَر عَلَى يَد السَّاحِر خَرْق الْعَادَات مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُور الْبَشَر مِنْ مَرَض وَتَفْرِيق وَزَوَال عَقْل وَتَعْوِيج عُضْو إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا قَامَ الدَّلِيل عَلَى اِسْتِحَالَة كَوْنه مِنْ مَقْدُورَات الْعِبَاد . قَالُوا : وَلَا يَبْعُد فِي السِّحْر أَنْ يُسْتَدَقّ جِسْم السَّاحِر حَتَّى يَتَوَلَّج فِي الْكُوَّات وَالْخَوْخَات وَالِانْتِصَاب عَلَى رَأْس قَصَبَة , وَالْجَرْي عَلَى خَيْط مُسْتَدَقّ , وَالطَّيَرَان فِي الْهَوَاء وَالْمَشْي عَلَى الْمَاء وَرُكُوب كَلْب وَغَيْر ذَلِكَ . وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُون السِّحْر مُوجِبًا لِذَلِكَ , وَلَا عِلَّة لِوُقُوعِهِ وَلَا سَبَبًا مُوَلَّدًا , وَلَا يَكُون السَّاحِر مُسْتَقِلًّا بِهِ , وَإِنَّمَا يَخْلُق اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاء وَيُحْدِثهَا عِنْد وُجُود السِّحْر , كَمَا يَخْلُق الشِّبَع عِنْد الْأَكْل , وَالرِّيّ عِنْد شُرْب الْمَاء . رَوَى سُفْيَان عَنْ عَمَّار الذَّهَبِيّ أَنَّ سَاحِرًا كَانَ عِنْد الْوَلِيد بْن عُقْبَة يَمْشِي عَلَى الْحَبْل , وَيَدْخُل فِي اِسْت الْحِمَار وَيَخْرُج مِنْ فِيهِ , فَاشْتَمَلَ لَهُ جُنْدُب عَلَى السَّيْف فَقَتَلَهُ جُنْدُب - هَذَا هُوَ جُنْدُب بْن كَعْب الْأَزْدِيّ وَيُقَال الْبَجَلِيّ - وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَقّه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَكُون فِي أُمَّتِي رَجُل يُقَال لَهُ جُنْدُب يَضْرِب ضَرْبَة بِالسَّيْفِ يُفَرِّق بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل ) . فَكَانُوا يَرَوْنَهُ جُنْدُبًا هَذَا قَاتِل السَّاحِر . قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ : رَوَى عَنْهُ حَارِثَة بْن مُضَرِّب .

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّحْر مَا يَفْعَل اللَّه عِنْده إِنْزَال الْجَرَاد وَالْقُمَّل وَالضَّفَادِع وَفَلْق الْبَحْر وَقَلْب الْعَصَا وَإِحْيَاء الْمَوْتَى وَإِنْطَاق الْعَجْمَاء , وَأَمْثَال ذَلِكَ مِنْ عَظِيم آيَات الرُّسُل عَلَيْهِمْ السَّلَام . فَهَذَا وَنَحْوه مِمَّا يَجِب الْقَطْع بِأَنَّهُ لَا يَكُون وَلَا يَفْعَلهُ اللَّه عِنْد إِرَادَة السَّاحِر . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الطَّيِّب : وَإِنَّمَا مَنَعْنَا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَأَجَزْنَاهُ .

فِي الْفَرْق بَيْن السِّحْر وَالْمُعْجِزَة , قَالَ عُلَمَاؤُنَا : السِّحْر يُوجَد مِنْ السَّاحِر وَغَيْره , وَقَدْ يَكُون جَمَاعَة يَعْرِفُونَهُ وَيُمْكِنهُمْ الْإِتْيَان بِهِ فِي وَقْت وَاحِد . وَالْمُعْجِزَة لَا يُمَكِّن اللَّه أَحَدًا أَنْ يَأْتِي بِمِثْلِهَا وَبِمُعَارَضَتِهَا , ثُمَّ السَّاحِر لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّة فَاَلَّذِي يَصْدُر مِنْهُ مُتَمَيِّز عَنْ الْمُعْجِزَة , فَإِنَّ الْمُعْجِزَة شَرْطهَا اِقْتِرَان دَعْوَى النُّبُوَّة وَالتَّحَدِّي بِهَا , كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي حُكْم السَّاحِر الْمُسْلِم وَالذِّمِّيّ , فَذَهَبَ مَالِك إِلَى أَنَّ الْمُسْلِم إِذَا سَحَرَ بِنَفْسِهِ بِكَلَامٍ يَكُون كُفْرًا يُقْتَل وَلَا يُسْتَتَاب وَلَا تُقْبَل تَوْبَته ; لِأَنَّهُ أَمْر يَسْتَسِرّ بِهِ كَالزِّنْدِيقِ وَالزَّانِي ; وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى السِّحْر كُفْرًا بِقَوْلِهِ : " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة فَلَا تَكْفُر " وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبِي ثَوْر وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة . وَرُوِيَ قَتْل السَّاحِر عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن عُمَر وَحَفْصَة وَأَبِي مُوسَى وَقَيْس بْن سَعْد وَعَنْ سَبْعَة مِنْ التَّابِعِينَ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَدّ السَّاحِر ضَرْبه بِالسَّيْفِ ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ , اِنْفَرَدَ بِهِ إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهمْ , رَوَاهُ اِبْن عُيَيْنَة عَنْ إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم عَنْ الْحَسَن مُرْسَلًا , وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ عَنْ جُنْدُب قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا بَاعَتْ سَاحِرَة كَانَتْ سَحَرَتْهَا وَجَعَلَتْ ثَمَنهَا فِي الرِّقَاب . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُل أَنَّهُ سَحَرَ بِكَلَامٍ يَكُون كُفْرًا وَجَبَ قَتْله إِنْ لَمْ يَتُبْ , وَكَذَلِكَ لَوْ ثَبَتَتْ بِهِ عَلَيْهِ بَيِّنَة وَوَصَفَتْ الْبَيِّنَة كَلَامًا يَكُون كُفْرًا . وَإِنْ كَانَ الْكَلَام الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ سَحَرَ بِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ لَمْ يَجُزْ قَتْله , فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ فِي الْمَسْحُور جِنَايَة تُوجِب الْقِصَاص اُقْتُصَّ مِنْهُ إِنْ كَانَ عَمَدَ ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِصَاص فِيهِ فَفِيهِ دِيَة ذَلِكَ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَإِذَا اِخْتَلَفَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَة وَجَبَ اِتِّبَاع أَشْبَههمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة , وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون السِّحْر الَّذِي أَمَرَ مَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِقَتْلِ السَّاحِر سِحْرًا يَكُون كُفْرًا فَيَكُون ذَلِكَ مُوَافِقًا لِسُنَّةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَمَرَتْ بِبَيْعِ سَاحِرَة لَمْ يَكُنْ سِحْرهَا كُفْرًا . فَإِنْ اِحْتَجَّ مُحْتَجّ بِحَدِيثِ جُنْدُب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَدّ السَّاحِر ضَرْبه بِالسَّيْفِ ) فَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون أَمَرَ بِقَتْلِ السَّاحِر الَّذِي يَكُون سِحْره كُفْرًا , فَيَكُون ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ) . ..

قُلْت : وَهَذَا صَحِيح , وَدِمَاء الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَة لَا تُسْتَبَاح إِلَّا بِيَقِينٍ وَلَا يَقِين مَعَ الِاخْتِلَاف . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنْ قَالَ أَهْل الصِّنَاعَة إِنَّ السِّحْر لَا يَتِمّ إِلَّا مَعَ الْكُفْر وَالِاسْتِكْبَار , أَوْ تَعْظِيم الشَّيْطَان فَالسِّحْر إِذًا دَالّ عَلَى الْكُفْر عَلَى هَذَا التَّقْدِير , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم . وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ : لَا يُقْتَل السَّاحِر إِلَّا أَنْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ وَيَقُول تَعَمَّدْت الْقَتْل , وَإِنْ قَالَ لَمْ أَتَعَمَّدهُ لَمْ يُقْتَل , وَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَة كَقَتْلِ الْخَطَأ , وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ أُدِّبَ عَلَى قَدْر الضَّرَر . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا بَاطِل مِنْ وَجْهَيْنِ , أَحَدهمَا : إِنَّهُ لَمْ يَعْلَم السِّحْر , وَحَقِيقَته أَنَّهُ كَلَام مُؤَلَّف يُعَظِّم بِهِ غَيْر اللَّه تَعَالَى , وَتُنْسَب إِلَيْهِ الْمَقَادِير وَالْكَائِنَات . الثَّانِي : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابه بِأَنَّهُ كُفْر فَقَالَ : " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان " بِقَوْلِ السِّحْر " وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا " بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ , وَهَارُوت وَمَارُوت يَقُولَانِ : " إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة فَلَا تَكْفُر " وَهَذَا تَأْكِيد لِلْبَيَانِ .

اِحْتَجَّ أَصْحَاب مَالِك بِأَنَّهُ لَا تُقْبَل تَوْبَته ; لِأَنَّ السِّحْر بَاطِن لَا يُظْهِرهُ صَاحِبه فَلَا تُعْرَف تَوْبَته كَالزِّنْدِيقِ , وَإِنَّمَا يُسْتَتَاب مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْر مُرْتَدًّا , قَالَ مَالِك : فَإِنْ جَاءَ السَّاحِر أَوْ الزِّنْدِيق تَائِبًا قَبْل أَنْ يُشْهَد عَلَيْهِمَا قُبِلَتْ تَوْبَتهمَا , وَالْحُجَّة لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعهُمْ إِيمَانهمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسنَا " [ غَافِر : 85 ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْفَعهُمْ إِيمَانهمْ قَبْل نُزُول الْعَذَاب , فَكَذَلِكَ هَذَانِ .

وَأَمَّا سَاحِر الذِّمَّة , فَقِيلَ يُقْتَل . وَقَالَ مَالِك : لَا يُقْتَل إِلَّا أَنْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ وَيَضْمَن مَا جَنَى , وَيُقْتَل إِنْ جَاءَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعَاهَد عَلَيْهِ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك , فَقَالَ مَرَّة : يُسْتَتَاب وَتَوْبَته الْإِسْلَام . وَقَالَ مَرَّة : يُقْتَل وَإِنْ أَسْلَمَ . وَأَمَّا الْحَرْبِيّ فَلَا يُقْتَل إِذَا تَابَ , وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك فِي ذِمِّيّ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُسْتَتَاب وَتَوْبَته الْإِسْلَام . وَقَالَ مَرَّة : يُقْتَل وَلَا يُسْتَتَاب كَالْمُسْلِمِ . وَقَالَ مَالِك أَيْضًا فِي الذِّمِّيّ إِذَا سُحِرَ : يُعَاقَب , إِلَّا أَنْ يَكُون قَتَلَ بِسِحْرِهِ , أَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَيُؤْخَذ مِنْهُ بِقَدْرِهِ . وَقَالَ غَيْره : يُقْتَل ; لِأَنَّهُ قَدْ نَقَضَ الْعَهْد . وَلَا يَرِث السَّاحِر وَرَثَته ; لِأَنَّهُ كَافِر إِلَّا أَنْ يَكُون سِحْره لَا يُسَمَّى كُفْرًا . وَقَالَ مَالِك فِي الْمَرْأَة تَعْقِد زَوْجهَا عَنْ نَفْسهَا أَوْ عَنْ غَيْرهَا : تُنَكَّل وَلَا تُقْتَل .

وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسْأَل السَّاحِر حَلّ السِّحْر عَنْ الْمَسْحُور , فَأَجَازَهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ , وَإِلَيْهِ مَالَ الْمُزَنِيّ وَكَرِهَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : لَا بَأْس بِالنُّشْرَةِ . قَالَ اِبْن بَطَّال : وَفِي كِتَاب وَهْب بْن مُنَبِّه أَنْ يَأْخُذ سَبْع وَرَقَات مِنْ سِدْر أَخْضَر فَيَدُقّهُ بَيْن حَجَرَيْنِ ثُمَّ يَضْرِبهُ بِالْمَاءِ وَيَقْرَأ عَلَيْهِ آيَة الْكُرْسِيّ , ثُمَّ يَحْسُو مِنْهُ ثَلَاث حَسَوَات وَيَغْتَسِل بِهِ , فَإِنَّهُ يُذْهِب عَنْهُ كُلّ مَا بِهِ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَهُوَ جَيِّد لِلرَّجُلِ إِذَا حُبِسَ عَنْ أَهْله .

أَنْكَرَ مُعْظَم الْمُعْتَزِلَة الشَّيَاطِين وَالْجِنّ , وَدَلَّ إِنْكَارهمْ عَلَى قِلَّة مُبَالَاتهمْ وَرَكَاكَة دِيَانَاتهمْ , وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتهمْ مُسْتَحِيل عَقْلِيّ , وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوص الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى إِثْبَاتهمْ , وَحَقّ عَلَى اللَّبِيب الْمُعْتَصِم بِحَبْلِ اللَّه أَنْ يُثْبِت مَا قَضَى الْعَقْل بِجَوَازِهِ , وَنَصَّ الشَّرْع عَلَى ثُبُوته , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا " وَقَالَ : " وَمِنْ الشَّيَاطِين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ " [ الْأَنْبِيَاء : 82 ] إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآي , وَسُورَة " الْجِنّ " تَقْضِي بِذَلِكَ , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ اِبْن آدَم مَجْرَى الدَّم ) . وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْخَبَر كَثِير مِنْ النَّاس , وَأَحَالُوا رُوحَيْنِ فِي جَسَد , وَالْعَقْل لَا يُحِيل سُلُوكهمْ فِي الْإِنْس إِذَا كَانَتْ أَجْسَامهمْ رَقِيقَة بَسِيطَة عَلَى مَا يَقُولهُ بَعْض النَّاس بَلْ أَكْثَرهمْ , وَلَوْ كَانُوا كِثَافًا لَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُمْ , كَمَا يَصِحّ دُخُول الطَّعَام وَالشَّرَاب فِي الْفَرَاغ مِنْ الْجِسْم , وَكَذَلِكَ الدِّيدَان قَدْ تَكُون فِي بَنِي آدَم وَهِيَ أَحْيَاء .

" مَا " نَفْي , وَالْوَاو لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْله : " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان " وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُود قَالُوا : إِنَّ اللَّه أَنْزَلَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل بِالسِّحْرِ , فَنَفَى اللَّه ذَلِكَ . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , التَّقْدِير وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان , وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ , وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت وَمَارُوت , فَهَارُوت وَمَارُوت بَدَل مِنْ الشَّيَاطِين فِي قَوْله : " وَلَكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا " . هَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَة مِنْ التَّأْوِيل , وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِيهَا وَلَا يُلْتَفَت إِلَى سِوَاهُ , فَالسِّحْر مِنْ اِسْتِخْرَاج الشَّيَاطِين لِلَطَافَةِ جَوْهَرهمْ , وَدِقَّة أَفْهَامهمْ , وَأَكْثَر مَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ الْإِنْس النِّسَاء وَخَاصَّة فِي حَال طَمْثهنَّ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمِنْ شَرّ النَّفَّاثَات فِي الْعُقَد " [ الْفَلَق : 4 ] . وَقَالَ الشَّاعِر : أَعُوذ بِرَبِّي مِنْ النَّافِثَا تِ فِي عِضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ إِنْ قَالَ قَائِل : كَيْف يَكُون اِثْنَانِ بَدَلًا مِنْ جَمْع وَالْبَدَل إِنَّمَا يَكُون عَلَى حَدّ الْمُبْدَل , فَالْجَوَاب مِنْ وُجُوه ثَلَاثَة ,

الْأَوَّل : أَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُطْلَق عَلَيْهِمَا اِسْم الْجَمْع , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة فَلِأُمِّهِ السُّدُس " [ النِّسَاء : 11 ] وَلَا يَحْجُبهَا عَنْ الثُّلُث إِلَى السُّدُس إِلَّا اِثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَة فَصَاعِدًا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " النِّسَاء " .

الثَّانِي : أنَّهُمَا لَمَّا كَانَا الرَّأْس فِي التَّعْلِيم نَصَّ عَلَيْهِمَا دُون أتْبَاعِهِمَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " عَلَيْهَا تِسْعَة عَشَر " [ الْمُدَّثِّر : 30 ] .

الثَّالِث : إِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنهمْ لِتَمَرُّدِهِمَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] وَقَوْله : " وَجِبْرِيل وَمِيكَال " . وَهَذَا كَثِير فِي الْقُرْآن وَفِي كَلَام الْعَرَب , فَقَدْ يُنَصّ بِالذِّكْرِ عَلَى بَعْض أَشْخَاص الْعُمُوم إِمَّا لِشَرَفِهِ وَإِمَّا لِفَضْلِهِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِإِبْرَاهِيم لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيّ " [ آل عِمْرَان : 68 ] وَقَوْله : " وَجِبْرِيل وَمِيكَال " [ الْبَقَرَة : 98 ] , وَإِمَّا لِطِيبِهِ كَقَوْلِهِ : " فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] , وَإِمَّا لِأَكْثَرِيَّتِهِ , كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْض مَسْجِدًا وَتُرْبَتهَا طَهُورًا ) , وَإِمَّا لِتَمَرُّدِهِ وَعُتُوّهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ " مَا " عَطْف عَلَى السِّحْر وَهِيَ مَفْعُولَة , فَعَلَى هَذَا يَكُون " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَكُون السِّحْر مُنَزَّلًا عَلَى الْمَلَكَيْنِ فِتْنَة لِلنَّاسِ وَامْتِحَانًا , وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِن عِبَاده بِمَا شَاءَ , كَمَا اِمْتَحَنَ بِنَهَرِ طَالُوت , وَلِهَذَا يَقُول الْمَلَكَانِ : إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة , أَيْ مِحْنَة مِنْ اللَّه , نُخْبِرك أَنَّ عَمَل السَّاحِر كُفْر فَإِنْ أَطَعْتنَا نَجَوْت , وَإِنْ عَصَيْتنَا هَلَكْت . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَكَعْب الْأَحْبَار وَالسُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْفَسَاد مِنْ أَوْلَاد آدَم عَلَيْهِ السَّلَام - وَذَلِكَ فِي زَمَن إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام - عَيَّرَتْهُمْ الْمَلَائِكَة , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ مَكَانهمْ , وَرَكَّبْت فِيكُمْ مَا رَكَّبْت فِيهِمْ لَعَمِلْتُمْ مِثْل أَعْمَالهمْ , فَقَالُوا : سُبْحَانك ! مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا ذَلِكَ , قَالَ : فَاخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ خِيَاركُمْ , فَاخْتَارُوا هَارُوت وَمَارُوت , فَأَنْزَلَهُمَا إِلَى الْأَرْض فَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَة , فَمَا مَرَّ بِهِمَا شَهْر حَتَّى فُتِنَا بِامْرَأَةٍ اِسْمهَا بِالنِّبْطِيَّةِ " بيدخت " وَبِالْفَارِسِيَّةِ " ناهيل " وَبِالْعَرَبِيَّةِ " الزُّهَرَة " اِخْتَصَمَتْ إِلَيْهِمَا , وَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَا فِي دِينهَا وَيَشْرَبَا الْخَمْر وَيَقْتُلَا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه , فَأَجَابَاهَا وَشَرِبَا الْخَمْر وَأَلَمَّا بِهَا , فَرَآهُمَا رَجُل فَقَتَلَاهُ , وَسَأَلَتْهُمَا عَنْ الِاسْم الَّذِي يَصْعَدَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاء فَعَلَّمَاهَا فَتَكَلَّمَتْ بِهِ فَعَرَجَتْ فَمُسِخَتْ كَوْكَبًا . وَقَالَ سَالِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه : فَحَدَّثَنِي كَعْب الْحَبْر أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَكْمِلَا يَوْمهمَا حَتَّى عَمِلَا بِمَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمَا . وَفِي غَيْر هَذَا الْحَدِيث : فَخُيِّرَا بَيْن عَذَاب الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة فَاخْتَارَا عَذَاب الدُّنْيَا , فَهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِل فِي سَرَب مِنْ الْأَرْض . قِيلَ : بَابِل الْعِرَاق . وَقِيلَ : بَابِل نَهَاوَنْد , وَكَانَ اِبْن عُمَر فِيمَا يُرْوَى عَنْ عَطَاء أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى الزُّهَرَة وَسُهَيْلًا سَبَّهُمَا وَشَتَمَهُمَا , وَيَقُول : إِنَّ سُهَيْلًا كَانَ عَشَّارًا بِالْيَمَنِ يَظْلِم النَّاس , وَإِنَّ الزُّهَرَة كَانَتْ صَاحِبَة هَارُوت وَمَارُوت .

قُلْنَا : هَذَا كُلّه ضَعِيف وَبَعِيد عَنْ اِبْن عُمَر وَغَيْره , لَا يَصِحّ مِنْهُ شَيْء , فَإِنَّهُ قَوْل تَدْفَعهُ الْأُصُول فِي الْمَلَائِكَة الَّذِينَ هُمْ أُمَنَاء اللَّه عَلَى وَحْيه , وَسُفَرَاؤُهُ إِلَى رُسُله " لَا يَعْصُونَ اللَّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " [ التَّحْرِيم : 6 ] . " بَلْ عِبَاد مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 26 - 27 ] . " يُسَبِّحُونَ اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يَفْتُرُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 20 ] . وَأَمَّا الْعَقْل فَلَا يُنْكِر وُقُوع الْمَعْصِيَة مِنْ الْمَلَائِكَة وَيُوجَد مِنْهُمْ خِلَاف مَا كُلِّفُوهُ , وَيَخْلُق فِيهِمْ الشَّهَوَات , إِذْ فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى كُلّ مَوْهُوم , وَمِنْ هَذَا خَوْف الْأَنْبِيَاء وَالْأَوْلِيَاء الْفُضَلَاء الْعُلَمَاء , لَكِنْ وُقُوع هَذَا الْجَائِز لَا يُدْرَك إِلَّا بِالسَّمْعِ وَلَمْ يَصِحّ . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى عَدَم صِحَّته أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ النُّجُوم وَهَذِهِ الْكَوَاكِب حِين خَلَقَ السَّمَاء , فَفِي الْخَبَر : ( أَنَّ السَّمَاء لَمَّا خُلِقَتْ خُلِقَ فِيهَا سَبْعَة دَوَّارَة زُحَل وَالْمُشْتَرِي وَبَهْرَام وَعُطَارِد وَالزُّهَرَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر " . وَهَذَا مَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَكُلّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 33 ] . فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الزُّهَرَة وَسُهَيْلًا قَدْ كَانَا قَبْل خَلْق آدَم , ثُمَّ إِنَّ قَوْل الْمَلَائِكَة : " مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا " عَوْرَة : لَا تَقْدِر عَلَى فِتْنَتنَا , وَهَذَا كُفْر نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَمِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَلَائِكَة الْكِرَام صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ , وَقَدْ نَزَّهْنَاهُمْ وَهُمْ الْمُنَزَّهُونَ عَنْ كُلّ مَا ذَكَرَهُ وَنَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ , سُبْحَان رَبّك رَبّ الْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ .

قَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَابْن أَبْزَى وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن : " الْمَلِكَيْنِ " بِكَسْرِ اللَّام . قَالَ اِبْن أَبْزَى : هُمَا دَاوُد وَسُلَيْمَان . ف " مَا " عَلَى هَذَا الْقَوْل أَيْضًا نَافِيَة , وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْل اِبْن الْعَرَبِيّ . وَقَالَ الْحَسَن : هُمَا عِلْجَانِ كَانَا بِبَابِل مَلَكَيْنِ , ف " مَا " عَلَى هَذَا الْقَوْل مَفْعُولَة غَيْر نَافِيَة . .

بَابِل لَا يَنْصَرِف لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيف وَالْعُجْمَة , وَهِيَ قُطْر مِنْ الْأَرْض , قِيلَ : الْعِرَاق وَمَا وَالَاهُ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود لِأَهْلِ الْكُوفَة : أَنْتُمْ بَيْن الْحِيرَة وَبَابِل . وَقَالَ قَتَادَة : هِيَ مِنْ نَصِيبِينَ إِلَى رَأْس الْعَيْن . وَقَالَ قَوْم : هِيَ بِالْمَغْرِبِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف . وَقَالَ قَوْم : هُوَ جَبَل نَهَاوَنْد , فَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَته بِبَابِل , فَقِيلَ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسُن بِهَا حِين سَقَطَ صَرْح نُمْرُوذ . وَقِيلَ : سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُخَالِف بَيْن أَلْسِنَة بَنِي آدَم بَعَثَ رِيحًا فَحَشَرَتهمْ مِنْ الْآفَاق إِلَى بَابِل , فَبَلْبَلَ اللَّه أَلْسِنَتهمْ بِهَا , ثُمَّ فَرَّقَتْهُمْ تِلْكَ الرِّيح فِي الْبِلَاد . وَالْبَلْبَلَة : التَّفْرِيق , قَالَ مَعْنَاهُ الْخَلِيل . وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : مِنْ أَخْصَر مَا قِيلَ فِي الْبَلْبَلَة وَأَحْسَنه مَا رَوَاهُ دَاوُد بْن أَبِي هِنْد عَنْ عِلْبَاء بْن أَحْمَر عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا هَبَطَ إِلَى أَسْفَل الْجُودِيّ اِبْتَنَى قَرْيَة وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ , فَأَصْبَحَ ذَات يَوْم وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتهمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَة , إِحْدَاهَا اللِّسَان الْعَرَبِيّ , وَكَانَ لَا يَفْهَم بَعْضهمْ عَنْ بَعْض .

رَوَى عَبْد اللَّه بْن بِشْر الْمَازِنِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِتَّقُوا الدُّنْيَا فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَأَسْحَر مِنْ هَارُوت وَمَارُوت ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّمَا كَانَتْ الدُّنْيَا أَسْحَر مِنْهُمَا لِأَنَّهَا تَسْحَرك بِخُدَعِهَا , وَتَكْتُمك فِتْنَتهَا , فَتَدْعُوك إِلَى التَّحَارُص عَلَيْهَا وَالتَّنَافُس فِيهَا , وَالْجَمْع لَهَا وَالْمَنْع , حَتَّى تُفَرِّق بَيْنك وَبَيْن طَاعَة اللَّه تَعَالَى , وَتُفَرِّق بَيْنك وَبَيْن رُؤْيَة الْحَقّ وَرِعَايَته , فَالدُّنْيَا أَسْحَر مِنْهُمَا , تَأْخُذ بِقَلْبِك عَنْ اللَّه , وَعَنْ الْقِيَام بِحُقُوقِهِ , وَعَنْ وَعْده وَوَعِيده . وَسِحْر الدُّنْيَا مَحَبَّتهَا وَتَلَذُّذك بِشَهَوَاتِهَا , وَتَمَنِّيك بِأَمَانِيِّهَا الْكَاذِبَة حَتَّى تَأْخُذ بِقَلْبِك , وَلِهَذَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( حُبّك الشَّيْء يُعْمِي وَيُصِمّ ) .


لَا يَنْصَرِف " هَارُوت " ; لِأَنَّهُ أَعْجَمِيّ مَعْرِفَة , وَكَذَا " مَارُوت " , وَيُجْمَع هَوَارِيت وَمَوَارِيت , مِثْل طَوَاغِيت , وَيُقَال : هَوَارِتَة وَهَوَار , وَمَوَارِتَة وَمَوَار , وَمِثْله جَالُوت وَطَالُوت , فَاعْلَمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَلْ هُمَا مَلَكَانِ أَوْ غَيْرهمَا ؟ خِلَاف . قَالَ الزَّجَّاج : وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَيْ وَاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ , وَأَنَّ الْمَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِ النَّاس تَعْلِيم إِنْذَار مِنْ السِّحْر لَا تَعْلِيم دُعَاء إِلَيْهِ . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا الْقَوْل الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَر أَهْل اللُّغَة وَالنَّظَر , وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ النَّاس عَلَى النَّهْي فَيَقُولَانِ لَهُمْ : لَا تَفْعَلُوا كَذَا , وَلَا تَحْتَالُوا بِكَذَا لِتُفَرِّقُوا بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه . وَاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا هُوَ النَّهْي , كَأَنَّهُ قُولَا لِلنَّاسِ : لَا تَعْمَلُوا كَذَا , ف " يُعَلِّمَانِ " بِمَعْنَى يُعْلِمَانِ , كَمَا قَالَ : " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم " أَيْ أَكْرَمنَا .


" مِنْ " زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ , وَالتَّقْدِير : وَمَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا . وَالضَّمِير فِي " يُعَلِّمَانِ " لِهَارُوت وَمَارُوت . وَفِي " يُعَلِّمَانِ " قَوْلَانِ , أَحَدهمَا : أَنَّهُ عَلَى بَابه مِنْ التَّعْلِيم . الثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ الْإِعْلَام لَا مِنْ التَّعْلِيم , ف " يُعَلِّمَانِ " بِمَعْنَى يُعْلِمَانِ , وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب تَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ , ذَكَرَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَابْن الْأَنْبَارِيّ . قَالَ كَعْب بْن مَالِك . تَعَلَّمْ رَسُول اللَّه أَنَّك مُدْرِكِي وَأَنَّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ وَقَالَ الْقُطَامِيّ : تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْد الْغَيّ رُشْدًا وَأَنَّ لِذَلِكَ الْغَيّ اِنْقِشَاعَا وَقَالَ زُهَيْر : تَعَلَّمْنَ هَا لَعَمْر اللَّه ذَا قَسَمًا فَاقْدِرْ بِذَرْعِك وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِك وَقَالَ آخَر : تَعَلَّمْ أَنَّهُ لَا طَيْر إِلَّا عَلَى مُتَطَيِّر وَهُوَ الثُّبُور

نُصِبَ بِحَتَّى فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّون , وَلُغَة هُذَيْل وَثَقِيف " عَتَّى " بِالْعَيْنِ الْمُعْجَمَة .


لَمَّا أَنْبَأَ بِفِتْنَتِهِمَا كَانَتْ الدُّنْيَا أَسْحَر مِنْهُمَا حِين كَتَمَتْ فِتْنَتهَا .


قَالَتْ فِرْقَة بِتَعْلِيمِ السِّحْر , وَقَالَتْ فِرْقَة بِاسْتِعْمَالِهِ . وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ أَنَّهُ اِسْتِهْزَاء ; لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَقُولَانِهِ لِمَنْ قَدْ تَحَقَّقَا ضَلَاله .


قَالَ سِيبَوَيْهِ : التَّقْدِير فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ , قَالَ وَمِثْله " كُنْ فَيَكُون " . وَقِيلَ : هُوَ مَعْطُوف عَلَى مَوْضِع " مَا يُعَلِّمَانِ " ; لِأَنَّ قَوْله : " وَمَا يُعَلِّمَانِ " وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَا النَّافِيَة فَمُضَمَّنه الْإِيجَاب فِي التَّعْلِيم . وَقَالَ الْفَرَّاء : هِيَ مَرْدُودَة عَلَى قَوْله : " يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْر " فَيَتَعَلَّمُونَ , وَيَكُون " فَيَتَعَلَّمُونَ " مُتَّصِلَة بِقَوْلِهِ " إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة " فَيَأْتُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ . قَالَ السُّدِّيّ : كَانَا يَقُولَانِ لِمَنْ جَاءَهُمَا : إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة فَلَا تَكْفُر , فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِع قَالَا لَهُ : اِئْتِ هَذَا الرَّمَاد فَبُلْ فِيهِ , فَإِذَا بَالَ فِيهِ خَرَجَ مِنْهُ نُور يَسْطَع إِلَى السَّمَاء , وَهُوَ الْإِيمَان , ثُمَّ يَخْرُج مِنْهُ دُخَان أَسْوَد فَيَدْخُل فِي أُذُنَيْهِ وَهُوَ الْكُفْر , فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا بِمَا رَآهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَّمَاهُ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه . ذَهَبَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ السَّاحِر لَيْسَ يَقْدِر عَلَى أَكْثَر مِمَّا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ مِنْ التَّفْرِقَة ; لِأَنَّ اللَّه ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِض الذَّمّ لِلسِّحْرِ وَالْغَايَة فِي تَعْلِيمه , فَلَوْ كَانَ يَقْدِر عَلَى أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ . وَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَب , وَلَا يُنْكَر أَنَّ السِّحْر لَهُ تَأْثِير فِي الْقُلُوب , بِالْحُبِّ وَالْبُغْض وَبِإِلْقَاءِ الشُّرُور حَتَّى يُفَرِّق السَّاحِر بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه , وَيَحُول بَيْن الْمَرْء وَقَلْبه , وَذَلِكَ بِإِدْخَالِ الْآلَام وَعَظِيم الْأَسْقَام , وَكُلّ ذَلِكَ مُدْرَك بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِنْكَاره مُعَانَدَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا , وَالْحَمْد اللَّه .


" مَا هُمْ " , إِشَارَة إِلَى السَّحَرَة . وَقِيلَ إِلَى الْيَهُود , وَقِيلَ إِلَى الشَّيَاطِين . " بِضَارِّينَ بِهِ " أَيْ بِالسِّحْرِ . " مِنْ أَحَد " أَيْ أَحَدًا , وَمِنْ زَائِدَة . " إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه " بِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ لَا بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُر بِالْفَحْشَاءِ وَيَقْضِي عَلَى الْخَلْق بِهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : " إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه " إِلَّا بِعِلْمِ اللَّه . قَالَ النَّحَّاس : وَقَوْل أَبِي إِسْحَاق " إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه " إِلَّا بِعِلْمِ اللَّه غَلَط ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَال فِي الْعِلْم أَذَن , وَقَدْ أَذِنْت أَذَنًا . وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَحِلّ فِيمَا بَيْنهمْ وَبَيْنه وَظَلُّوا يَفْعَلُونَهُ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَهُ مَجَازًا .


يُرِيد فِي الْآخِرَة وَإِنْ أَخَذُوا بِهَا نَفْعًا قَلِيلًا فِي الدُّنْيَا . وَقِيلَ : يَضُرّهُمْ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ ضَرَر السِّحْر وَالتَّفْرِيق يَعُود عَلَى السَّاحِر فِي الدُّنْيَا إِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يُؤَدَّب وَيُزْجَر , وَيَلْحَقهُ شُؤْم السِّحْر . وَبَاقِي الْآي بَيِّن لِتَقَدُّمِ مَعَانِيهَا .


وَاللَّام فِي " وَلَقَدْ عَلِمُوا " لَام تَوْكِيد . " لَمَنْ اِشْتَرَاهُ " لَام يَمِين , وَهِيَ لِلتَّوْكِيدِ أَيْضًا . وَمَوْضِع " مَنْ " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْمَل مَا قَبْل اللَّام فِيمَا بَعْدهَا . و " مَنْ " بِمَعْنَى الَّذِي . وَقَالَ الْفَرَّاء . هِيَ لِلْمُجَازَاةِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : لَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعِ شَرْط , و " مَنْ " بِمَعْنَى الَّذِي , كَمَا تَقُول : لَقَدْ عَلِمْت , لَمَنْ جَاءَك م
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 103
أَيْ اِتَّقَوْا السِّحْر .


الْمَثُوبَة الثَّوَاب , وَهِيَ جَوَاب " وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا " عِنْد قَوْم . قَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : لَيْسَ ل " لَوْ " هُنَا جَوَاب فِي اللَّفْظ وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَى , وَالْمَعْنَى لَأُثِيبُوا . وَمَوْضِع " أَنَّ " مِنْ قَوْله : " وَلَوْ أَنَّهُمْ " مَوْضِع رَفْع , أَيْ لَوْ وَقَعَ إِيمَانهمْ ; لِأَنَّ " لَوْ " لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْل ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا ; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ حُرُوف الشَّرْط إِذْ كَانَ لَا بُدّ لَهُ مِنْ جَوَاب , و " أَنَّ " يَلِيه فِعْل . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : وَإِنَّمَا لَمْ يُجَازَ " بِلَوْ " لِأَنَّ سَبِيل حُرُوف الْمُجَازَاة كُلّهَا أَنْ تَقْلِب الْمَاضِي إِلَى مَعْنَى الْمُسْتَقْبَل , فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي " لَوْ " لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجَازَى بِهَا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 104
ذَكَرَ شَيْئًا آخَر مِنْ جَهَالَات الْيَهُود وَالْمَقْصُود نَهْي الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْل ذَلِكَ . وَحَقِيقَة " رَاعِنَا " فِي اللُّغَة أَرْعِنَا وَلْنَرْعَك , لِأَنَّ الْمُفَاعَلَة مِنْ اِثْنَيْنِ , فَتَكُون مِنْ رَعَاك اللَّه , أَيْ اِحْفَظْنَا وَلْنَحْفَظْك , وَارْقُبْنَا وَلْنَرْقُبْك . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ أَرِعْنَا سَمْعك , أَيْ فَرِّغْ سَمْعك لِكَلَامِنَا . وَفِي الْمُخَاطَبَة بِهَذَا جَفَاء , فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَيَّرُوا مِنْ الْأَلْفَاظ أَحْسَنهَا وَمِنْ الْمَعَانِي أَرَقّهَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَاعِنَا . عَلَى جِهَة الطَّلَب وَالرَّغْبَة - مِنْ الْمُرَاعَاة - أَيْ اِلْتَفِتْ إِلَيْنَا , وَكَانَ هَذَا بِلِسَانِ الْيَهُود سَبًّا , أَيْ اِسْمَعْ لَا سَمِعْت , فَاغْتَنَمُوهَا وَقَالُوا : كُنَّا نَسُبّهُ سِرًّا فَالْآن نَسُبّهُ جَهْرًا , فَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنهمْ , فَسَمِعَهَا سَعْد بْن مُعَاذ وَكَانَ يَعْرِف لُغَتهمْ , فَقَالَ لِلْيَهُودِ : عَلَيْكُمْ لَعْنَة اللَّه ! لَئِنْ سَمِعْتهَا مِنْ رَجُل مِنْكُمْ يَقُولهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَن عُنُقه , فَقَالُوا : أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا ؟ فَنَزَلَتْ الْآيَة , وَنُهُوا عَنْهَا لِئَلَّا تَقْتَدِي بِهَا الْيَهُود فِي اللَّفْظ وَتَقْصِد الْمَعْنَى الْفَاسِد فِيهِ .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيلَانِ : [ أَحَدهمَا ] عَلَى تَجَنُّب الْأَلْفَاظ الْمُحْتَمَلَة الَّتِي فِيهَا التَّعْرِيض لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضّ , وَيَخْرُج مِنْ هَذَا فَهْم الْقَذْف بِالتَّعْرِيضِ , وَذَلِكَ يُوجِب الْحَدّ عِنْدنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا حِين قَالُوا : التَّعْرِيض مُحْتَمِل لِلْقَذْفِ وَغَيْره , وَالْحَدّ مِمَّا يَسْقُط بِالشُّبْهَةِ . وَسَيَأْتِي فِي " النُّور " بَيَان هَذَا , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . [ الدَّلِيل الثَّانِي ] التَّمَسُّك بِسَدِّ الذَّرَائِع وَحِمَايَتهَا وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه وَأَحْمَد بْن حَنْبَل فِي رِوَايَة عَنْهُ , وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْل الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَالذَّرِيعَة عِبَارَة عَنْ أَمْر غَيْر مَمْنُوع لِنَفْسِهِ يُخَاف مِنْ اِرْتِكَابه الْوُقُوع فِي مَمْنُوع . أَمَّا الْكِتَاب فَهَذِهِ الْآيَة , وَوَجْه التَّمَسُّك بِهَا أَنَّ الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهِيَ سَبّ بِلُغَتِهِمْ , فَلَمَّا عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاق ذَلِكَ اللَّفْظ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَة لِلسَّبِّ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه فَيَسُبُّوا اللَّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم " [ الْأَنْعَام : 108 ] فَمَنَعَ مِنْ سَبّ آلِهَتهمْ مَخَافَة مُقَابَلَتهمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَقَوْله تَعَالَى : " وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَة الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَة الْبَحْر " [ الْأَعْرَاف : 163 ] الْآيَة , فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الصَّيْد فِي يَوْم السَّبْت , فَكَانَتْ الْحِيتَان تَأْتِيهِمْ يَوْم السَّبْت شُرَّعًا , أَيْ ظَاهِرَة , فَسَدُّوا عَلَيْهَا يَوْم السَّبْت وَأَخَذُوهَا يَوْم الْأَحَد , وَكَانَ السَّدّ ذَرِيعَة لِلِاصْطِيَادِ , فَمَسَخَهُمْ اللَّه قِرَدَة وَخَنَازِير , وَذَكَرَ اللَّه لَنَا ذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّحْذِير عَنْ ذَلِكَ , وَقَوْله تَعَالَى لِآدَم وَحَوَّاء : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " [ الْبَقَرَة : 35 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَأَمَّا السُّنَّة فَأَحَادِيث كَثِيرَة ثَابِتَة صَحِيحَة , مِنْهَا حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ أُمّ حَبِيبَة وَأُمّ سَلَمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُنَّ ذَكَرَتَا كَنِيسَة رَأَيَاهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِير [ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ ] لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُل الصَّالِح فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْره مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَر أُولَئِكَ شِرَار الْخَلْق عِنْد اللَّه ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَفَعَلَ ذَلِكَ أَوَائِلهمْ لِيَتَأَنَّسُوا بِرُؤْيَةِ تِلْكَ الصُّوَر وَيَتَذَكَّرُوا أَحْوَالهمْ الصَّالِحَة فَيَجْتَهِدُونَ كَاجْتِهَادِهِمْ وَيَعْبُدُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عِنْد قُبُورهمْ , فَمَضَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ أَزْمَان , ثُمَّ أَنَّهُمْ خَلَفَ مِنْ بَعْدهمْ خُلُوف جَهِلُوا أَغْرَاضهمْ , وَوَسْوَسَ لَهُمْ الشَّيْطَان أَنَّ آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّورَة فَعَبَدُوهَا , فَحَذَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْل ذَلِكَ , وَشَدَّدَ النَّكِير وَالْوَعِيد عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَسَدَّ الذَّرَائِع الْمُؤَدِّيَة إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ : ( اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى قَوْم اِتَّخَذُوا قُبُور أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِد ) وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ لَا تَجْعَل قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَد ) . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( الْحَلَال بَيِّن وَالْحَرَام بَيْن وَبَيْنهمَا أُمُور مُتَشَابِهَات فَمَنْ اِتَّقَى الشُّبُهَات اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضه وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَام كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَقَع فِيهِ ) الْحَدِيث , فَمَنَعَ مِنْ الْإِقْدَام عَلَى الشُّبُهَات مَخَافَة الْوُقُوع فِي الْمُحَرَّمَات , وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَبْلُغ الْعَبْد أَنْ يَكُون مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَع مَا لَا بَأْس بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْس ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ الْكَبَائِر شَتْم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه وَهَلْ يَشْتُم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يَسُبّ أَبَا الرَّجُل فَيَسُبّ أَبَاهُ وَيَسُبّ أُمّه فَيَسُبّ أُمّه ) . فَجَعَلَ التَّعَرُّض لِسَبِّ الْآبَاء كَسَبِّ الْآبَاء . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَاب الْبَقَر وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَاد سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعهُ مِنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينكُمْ ) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيّ : الْعِينَة هُوَ أَنْ يَبِيع الرَّجُل مِنْ رَجُل سِلْعَة بِثَمَنٍ مَعْلُوم إِلَى أَجَل مُسَمًّى , ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلّ مِنْ الثَّمَن الَّذِي بَاعَهَا بِهِ . قَالَ : فَإِنْ اِشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِب الْعِينَة سِلْعَة مِنْ آخَر بِثَمَنٍ مَعْلُوم وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِب الْعِينَة بِثَمَنٍ أَكْثَر مِمَّا اِشْتَرَاهُ إِلَى أَجَل مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِع الْأَوَّل بِالنَّقْدِ بِأَقَلّ مِنْ الثَّمَن فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَة , وَهِيَ أَهْوَن مِنْ الْأُولَى , وَهُوَ جَائِز عِنْد بَعْضهمْ . وَسُمِّيَتْ عِينَة لِحُصُولِ النَّقْد لِصَاحِبِ الْعِينَة , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْن هُوَ الْمَال الْحَاضِر وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا بِعَيْنٍ حَاضِر يَصِل إِلَيْهِ مِنْ فَوْره . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّ أُمّ وَلَد لِزَيْدِ بْن الْأَرْقَم ذَكَرَتْ لِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْد عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْعَطَاء ثُمَّ اِبْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا , فَقَالَتْ عَائِشَة : بِئْسَ مَا شَرَيْت , وَبِئْسَ مَا اِشْتَرَيْت ! أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أُبْطِلَ جِهَاده مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ . وَمِثْل هَذَا لَا يُقَال بِالرَّأْيِ ; لِأَنَّ إِبْطَال الْأَعْمَال لَا يُتَوَصَّل إِلَى مَعْرِفَتهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ , فَثَبَتَ أَنَّهُ مَرْفُوع إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : دَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَة . وَنَهَى اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ دَرَاهِم بِدَرَاهِم بَيْنهمَا حَرِيرَة .

قُلْت : فَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّة الَّتِي لَنَا عَلَى سَدّ الذَّرَائِع , وَعَلَيْهِ بَنَى الْمَالِكِيَّة كِتَاب الْآجَال وَغَيْره مِنْ الْمَسَائِل فِي الْبُيُوع وَغَيْرهَا . وَلَيْسَ عِنْد الشَّافِعِيَّة كِتَاب الْآجَال ; لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدهمْ عُقُود مُخْتَلِفَة مُسْتَقِلَّة , قَالُوا : وَأَصْل الْأَشْيَاء عَلَى الظَّوَاهِر لَا عَلَى الظُّنُون . وَالْمَالِكِيَّة جَعَلُوا السِّلْعَة مُحَلَّلَة لِيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى دَرَاهِم بِأَكْثَر مِنْهَا , وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ , فَاعْلَمْهُ .

" لَا تَقُولُوا رَاعِنَا " نَهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ الْحَسَن " رَاعِنَّا " مُنَوَّنَة . وَقَالَ : أَيْ هَجْرًا مِنْ الْقَوْل , وَهُوَ مَصْدَر وَنَصْبه بِالْقَوْلِ , أَيْ لَا تَقُولُوا رُعُونَة . وَقَرَأَ زِرّ بْن حُبَيْش وَالْأَعْمَش " رَاعُونَا " , يُقَال لِمَا نَتَأَ مِنْ الْجَبَل : رَعْن , وَالْجَبَل أَرْعَن . وَجَيْش أَرْعَن أَيْ مُتَفَرِّق . وَكَذَا رَجُل أَرْعَن , أَيْ مُتَفَرِّق الْحُجَج وَلَيْسَ عَقْله مُجْتَمِعًا , عَنْ النَّحَّاس . وَقَالَ اِبْن فَارِس : رَعُنَ الرَّجُل يَرْعُن رَعْنًا فَهُوَ أَرْعَن , أَيْ أَهْوَج . وَالْمَرْأَة رَعْنَاء . وَسُمِّيَتْ الْبَصْرَة رَعْنَاء لِأَنَّهَا تُشَبَّه بِرَعْنِ الْجَبَل , قَالَ اِبْن دُرَيْد ذَلِكَ , وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ : لَوْلَا اِبْن عُتْبَة عَمْرو وَالرَّجَاء لَهُ مَا كَانَتْ الْبَصْرَة الرَّعْنَاء لِي وَطَنًا


أُمِرُوا أَنْ يُخَاطِبُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجْلَالِ , وَالْمَعْنَى : أَقْبِلْ عَلَيْنَا وَانْظُرْ إِلَيْنَا , فَحَذَفَ حَرْف التَّعْدِيَة , كَمَا قَالَ : ظَاهِرَات الْجَمَال وَالْحُسْن يَنْظُرْ نَ كَمَا يَنْظُر الْأَرَاك الظِّبَاء أَيْ إِلَى الْأَرَاك . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى فَهِّمْنَا وَبَيِّن لَنَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى اِنْتَظِرْنَا وَتَأَنَّ بِنَا , قَالَ : فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِي سَاعَة مِنْ الدَّهْر يَنْفَعنِي لَدَى أُمّ جُنْدُب وَالظَّاهِر اِسْتِدْعَاء نَظَر الْعَيْن الْمُقْتَرِن بِتَدَبُّرِ الْحَال , وَهَذَا هُوَ مَعْنَى رَاعِنَا , فَبُدِّلَتْ اللَّفْظَة لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَالَ تَعَلُّق الْيَهُود . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَغَيْره " أَنْظِرْنَا " بِقَطْعِ الْأَلِف وَكَسْر الظَّاء , بِمَعْنَى أَخِّرْنَا وَأَمْهِلْنَا حَتَّى نَفْهَم عَنْك وَنَتَلَقَّى مِنْك , قَالَ الشَّاعِر : أَبَا هِنْد فَلَا تَعْجَل عَلَيْنَا وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرك الْيَقِينَا


لَمَّا نَهَى وَأَمَرَ جَلَّ وَعَزَّ , حَضَّ عَلَى السَّمْع الَّذِي فِي ضِمْنه الطَّاعَة وَأعْلَمَ أَنَّ لِمَنْ خَالَفَ أَمْره فَكَفَرَ عَذَابًا أَلِيمًا .
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِسورة البقرة الآية رقم 105
أَيْ مَا يَتَمَنَّى , وَقَدْ تَقَدَّمَ .


مَعْطُوف عَلَى " أَهْل " . وَيَجُوز : وَلَا الْمُشْرِكُونَ , تَعْطِفهُ عَلَى الَّذِينَ , قَالَهُ النَّحَّاس .


" مِنْ " زَائِدَة , " خَيْر " اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ بِأَنْ يُنَزَّل .


قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : " يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ " أَيْ بِنُبُوَّتِهِ , خَصَّ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ قَوْم : الرَّحْمَة الْقُرْآن . وَقِيلَ : الرَّحْمَة فِي هَذِهِ الْآيَة عَامَّة لِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا الَّتِي قَدْ مَنَحَهَا اللَّه عِبَاده قَدِيمًا وَحَدِيثًا , يُقَال : رَحِم يَرْحَم إِذَا رَقَّ . وَالرُّحْم وَالْمَرْحَمَة وَالرَّحْمَة بِمَعْنًى , قَالَهُ اِبْن فَارِس . وَرَحْمَة اللَّه لِعِبَادِهِ : إِنْعَامه عَلَيْهِمْ وَعَفْوه لَهُمْ .


" ذُو " بِمَعْنَى صَاحِب .
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 106
" نُنْسِهَا " عَطْف عَلَى " نَنْسَخ " وَحُذِفَتْ الْيَاء لِلْجَزْمِ . وَمَنْ قَرَأَ " نَنْسَأْهَا " حَذَفَ الضَّمَّة مِنْ الْهَمْزَة لِلْجَزْمِ , وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ . " نَأْتِ " جَوَاب الشَّرْط , وَهَذِهِ آيَة عُظْمَى فِي الْأَحْكَام . وَسَبَبهَا أَنَّ الْيَهُود لَمَّا حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة وَطَعَنُوا فِي الْإِسْلَام بِذَلِكَ , وَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُر أَصْحَابه بِشَيْءٍ ثُمَّ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ , فَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن إِلَّا مِنْ جِهَته , وَلِهَذَا يُنَاقِض بَعْضه بَعْضًا , فَأَنْزَلَ اللَّه : " وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَة مَكَان آيَة " [ النَّحْل : 101 ] وَأَنْزَلَ " مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة " .

مَعْرِفَة هَذَا الْبَاب أَكِيدَة وَفَائِدَته عَظِيمَة , لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مَعْرِفَته الْعُلَمَاء , وَلَا يُنْكِرهُ إِلَّا الْجَهَلَة الْأَغْبِيَاء , لِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مِنْ النَّوَازِل فِي الْأَحْكَام , وَمَعْرِفَة الْحَلَال مِنْ الْحَرَام . رَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيّ قَالَ : دَخَلَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْمَسْجِد فَإِذَا رَجُل يُخَوِّف النَّاس , فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : رَجُل يُذَكِّر النَّاس , فَقَالَ : لَيْسَ بِرَجُلٍ يُذَكِّر النَّاس ! لَكِنَّهُ يَقُول أَنَا فُلَان اِبْن فُلَان فَاعْرِفُونِي , فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَتَعْرِفُ النَّاسِخ مِنْ الْمَنْسُوخ ؟ ! فَقَالَ : : لَا , قَالَ : فَاخْرُجْ مِنْ مَسْجِدنَا وَلَا تُذَكِّر فِيهِ . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى : أَعَلِمْت النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : هَلَكْت وَأَهْلَكْت ! . وَمِثْله عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا .

النَّسْخ فِي كَلَام الْعَرَب عَلَى وَجْهَيْنِ : [ أَحَدهمَا ] النَّقْل , كَنَقْلِ كِتَاب مِنْ آخَر . وَعَلَى هَذَا يَكُون الْقُرْآن كُلّه مَنْسُوخًا , أَعْنِي مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَإِنْزَاله إِلَى بَيْت الْعِزَّة فِي السَّمَاء الدُّنْيَا , وَهَذَا لَا مَدْخَل لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " [ الْجَاثِيَة : 29 ] أَيْ نَأْمُر بِنَسْخِهِ وَإِثْبَاته . [ الثَّانِي ] الْإِبْطَال وَالْإِزَالَة , وَهُوَ الْمَقْصُود هُنَا , وَهُوَ مُنْقَسِم فِي اللُّغَة عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدهمَا : إِبْطَال الشَّيْء وَزَوَاله وَإِقَامَة آخَر مَقَامه , وَمِنْهُ نَسَخَتْ الشَّمْس الظِّلّ إِذَا أَذْهَبَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلّه , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( لَمْ تَكُنْ نُبُوَّة قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ ) أَيْ تَحَوَّلَتْ مِنْ حَال إِلَى حَال , يَعْنِي أَمْر الْأُمَّة . قَالَ اِبْن فَارِس : النَّسْخ نَسْخ الْكِتَاب , وَالنَّسْخ أَنْ تُزِيل أَمْرًا كَانَ مِنْ قَبْل يُعْمَل بِهِ ثُمَّ تَنْسَخهُ بِحَادِثٍ غَيْره , كَالْآيَةِ تَنْزِل بِأَمْرٍ ثُمَّ يُنْسَخ بِأُخْرَى . وَكُلّ شَيْء خَلَفَ شَيْئًا فَقَدْ اِنْتَسَخَهُ , يُقَال : اِنْتَسَخَتْ الشَّمْس الظِّلّ , وَالشَّيْب الشَّبَاب . وَتَنَاسَخَ الْوَرَثَة : أَنْ تَمُوت وَرَثَة بَعْد وَرَثَة وَأَصْل الْمِيرَاث قَائِم لَمْ يُقْسَم , وَكَذَلِكَ تَنَاسُخ الْأَزْمِنَة وَالْقُرُون .

إِزَالَة الشَّيْء دُون أَنْ يَقُوم آخَر مَقَامه , كَقَوْلِهِمْ : نَسَخَتْ الرِّيح الْأَثَر , وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى " فَيَنْسَخ اللَّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَان " [ الْحَجّ : 52 ] أَيْ يُزِيلهُ فَلَا يُتْلَى وَلَا يُثْبَت فِي الْمُصْحَف بَدَله . وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْد أَنَّ هَذَا النَّسْخ الثَّانِي قَدْ كَانَ يَنْزِل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّورَة فَتُرْفَع فَلَا تُتْلَى وَلَا تُكْتَب

قُلْت : وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ سُورَة " الْأَحْزَاب " كَانَتْ تَعْدِل سُورَة الْبَقَرَة فِي الطُّول , عَلَى مَا يَأْتِي مُبَيَّنًا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْر بْن دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح عَنْ اللَّيْث عَنْ يُونُس وَعَقِيل عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَة بْن سَهْل بْن حُنَيْف فِي مَجْلِس سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنْ اللَّيْل لِيَقْرَأ سُورَة مِنْ الْقُرْآن فَلَمْ يَقْدِر عَلَى شَيْء مِنْهَا , وَقَامَ آخَر فَلَمْ يَقْدِر عَلَى شَيْء مِنْهَا , فَغَدَوْا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ أَحَدهمْ : قُمْت اللَّيْلَة يَا رَسُول اللَّه لِأَقْرَأ سُورَة مِنْ الْقُرْآن فَلَمْ أَقْدِر عَلَى شَيْء مِنْهَا , فَقَامَ الْآخَر فَقَالَ : وَأَنَا وَاَللَّه كَذَلِكَ يَا رَسُول اللَّه , فَقَامَ الْآخَر فَقَالَ : وَأَنَا وَاَللَّه كَذَلِكَ يَا رَسُول اللَّه , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللَّه الْبَارِحَة ) . وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَات : وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَسْمَع مَا يُحَدِّث بِهِ أَبُو أُمَامَة فَلَا يُنْكِرهُ .

أَنْكَرَتْ طَوَائِف مِنْ الْمُنْتَمِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازه , وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِإِجْمَاعِ السَّلَف السَّابِق عَلَى وُقُوعه فِي الشَّرِيعَة . وَأَنْكَرَتْهُ أَيْضًا طَوَائِف مِنْ الْيَهُود , وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا جَاءَ فِي تَوْرَاتهمْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد خُرُوجه مِنْ السَّفِينَة : إِنِّي قَدْ جَعَلْت كُلّ دَابَّة مَأْكَلًا لَك وَلِذُرِّيَّتِك , وَأَطْلَقْت ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْب , مَا خَلَا الدَّم فَلَا تَأْكُلُوهُ . ثُمَّ حَرَّمَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيل كَثِيرًا مِنْ الْحَيَوَان , وَبِمَا كَانَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام يُزَوِّج الْأَخ مِنْ الْأُخْت , وَقَدْ حَرَّمَ اللَّه ذَلِكَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَعَلَى غَيْره , وَبِأَنَّ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل أُمِرَ بِذَبْحِ اِبْنه ثُمَّ قَالَ لَهُ : لَا تَذْبَحهُ , وَبِأَنَّ مُوسَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ مِنْهُمْ الْعِجْل , ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَفْعِ السَّيْف عَنْهُمْ , وَبِأَنَّ نُبُوَّته غَيْر مُتَعَبَّد بِهَا قَبْل بَعْثه , ثُمَّ تُعُبِّدَ بِهَا بَعْد ذَلِكَ , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَاب الْبَدَاء بَلْ هُوَ نَقْل الْعِبَاد مِنْ عِبَادَة إِلَى عِبَادَة , وَحُكْم إِلَى حُكْم , لِضَرْبٍ مِنْ الْمَصْلَحَة , إِظْهَارًا لِحِكْمَتِهِ وَكَمَال مَمْلَكَته . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُقَلَاء أَنَّ شَرَائِع الْأَنْبِيَاء قُصِدَ بِهَا مَصَالِح الْخَلْق الدِّينِيَّة وَالدُّنْيَوِيَّة , وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَم الْبَدَاء لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَآلِ الْأُمُور , وَأَمَّا الْعَالِم بِذَلِكَ فَإِنَّمَا تَتَبَدَّل خِطَابَاته بِحَسَبِ تَبَدُّل الْمَصَالِح , كَالطَّبِيبِ الْمُرَاعِي أَحْوَال الْعَلِيل , فَرَاعَى ذَلِكَ فِي خَلِيقَته بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَته , لَا إِلَه إِلَّا هُوَ , فَخِطَابه يَتَبَدَّل , وَعِلْمه وَإِرَادَته لَا تَتَغَيَّر , فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَال فِي جِهَة اللَّه تَعَالَى . وَجَعَلَتْ الْيَهُود النَّسْخ وَالْبَدَاء شَيْئًا وَاحِدًا , وَلِذَلِكَ لَمْ يُجَوِّزُوهُ فَضَلُّوا . قَالَ النَّحَّاس : وَالْفَرْق بَيْنَ النَّسْخ وَالْبَدَاء أَنَّ النَّسْخ تَحْوِيل الْعِبَادَة مِنْ شَيْء إِلَى شَيْء قَدْ كَانَ حَلَالًا فَيُحَرَّم , أَوْ كَانَ حَرَامًا فَيُحَلَّل . وَأَمَّا الْبَدَاء فَهُوَ تَرْك مَا عُزِمَ عَلَيْهِ , كَقَوْلِك : اِمْضِ إِلَى فُلَان الْيَوْم , ثُمَّ تَقُول لَا تَمْضِ إِلَيْهِ , فَيَبْدُو لَك الْعُدُول عَنْ الْقَوْل الْأَوَّل , وَهَذَا يَلْحَق الْبَشَر لِنُقْصَانِهِمْ . وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْت : اِزْرَعْ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَة , ثُمَّ قُلْت : لَا تَفْعَل , فَهُوَ الْبَدَاء .

اِعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخ عَلَى الْحَقِيقَة هُوَ اللَّه تَعَالَى , وَيُسَمَّى الْخِطَاب الشَّرْعِيّ نَاسِخًا تَجَوُّزًا , إِذْ بِهِ يَقَع النَّسْخ , كَمَا قَدْ يُتَجَوَّز فَيُسَمَّى الْمَحْكُوم فِيهِ نَاسِخًا , فَيُقَال : صَوْم رَمَضَان نَاسِخ لِصَوْمِ عَاشُورَاء , فَالْمَنْسُوخ هُوَ الْمُزَال , وَالْمَنْسُوخ عَنْهُ هُوَ الْمُتَعَبِّد بِالْعِبَادَةِ الْمُزَالَة , وَهُوَ الْمُكَلَّف .

اِخْتَلَفَتْ عِبَارَات أَئِمَّتنَا فِي حَدّ النَّاسِخ , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاق مِنْ أَهْل السُّنَّة أَنَّهُ إِزَالَة مَا قَدْ اِسْتَقَرَّ مِنْ الْحُكْم الشَّرْعِيّ بِخِطَابٍ وَارِد مُتَرَاخِيًا , هَكَذَا حَدَّهُ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب وَالْقَاضِي أَبُو بَكْر , وَزَادَا : لَوْلَاهُ لَكَانَ السَّابِق ثَابِتًا , فَحَافَظَا عَلَى مَعْنَى النَّسْخ اللُّغَوِيّ , إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الرَّفْع وَالْإِزَالَة , وَتَحَرُّزًا مِنْ الْحُكْم الْعَقْلِيّ , وَذَكَرَ الْخِطَاب لِيَعُمّ وُجُوه الدَّلَالَة مِنْ النَّصّ وَالظَّاهِر وَالْمَفْهُوم وَغَيْره , وَلِيَخْرُج الْقِيَاس وَالْإِجْمَاع , إِذْ لَا يُتَصَوَّر النَّسْخ فِيهِمَا وَلَا بِهِمَا . وَقَيَّدَا بِالتَّرَاخِي ; لِأَنَّهُ لَوْ اِتَّصَلَ بِهِ لَكَانَ بَيَانًا لِغَايَةِ الْحُكْم لَا نَاسِخًا , أَوْ يَكُون آخِر الْكَلَام يَرْفَع أَوَّله , كَقَوْلِك : قُمْ لَا تَقُمْ .

الْمَنْسُوخ عِنْد أَئِمَّتنَا أَهْل السُّنَّة هُوَ الْحُكْم الثَّابِت نَفْسه لَا مِثْله , كَمَا تَقُولهُ الْمُعْتَزِلَة بِأَنَّهُ الْخِطَاب الدَّالّ عَلَى أَنَّ مِثْل الْحُكْم الثَّابِت فِيمَا يُسْتَقْبَل بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّم زَائِل . وَاَلَّذِي قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَذْهَبهمْ فِي أَنَّ الْأَوَامِر مُرَادَة , وَأَنَّ الْحُسْن صِفَة نَفْسِيَّة لِلْحَسَنِ , وَمُرَاد اللَّه حَسَن , وَهَذَا قَدْ أَبْطَلَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي كُتُبهمْ .

اِخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْأَخْبَار هَلْ يَدْخُلهَا النَّسْخ , فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ النَّسْخ إِنَّمَا هُوَ مُخْتَصّ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي , وَالْخَبَر لَا يَدْخُلهُ النَّسْخ لِاسْتِحَالَةِ الْكَذِب عَلَى اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : إِنَّ الْخَبَر إِذَا تَضَمَّنَ حُكْمًا شَرْعِيًّا جَازَ نَسْخه , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمِنْ ثَمَرَات النَّخِيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا " [ النَّحْل : 67 ] . وَهُنَاكَ يَأْتِي الْقَوْل فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

التَّخْصِيص مِنْ الْعُمُوم يُوهِم أَنَّهُ نُسِخَ وَلَيْسَ بِهِ ; لِأَنَّ الْمُخَصَّص لَمْ يَتَنَاوَلهُ الْعُمُوم قَطُّ , وَلَوْ ثَبَتَ تَنَاوُل الْعُمُوم لِشَيْءٍ مَا ثُمَّ أُخْرِجَ ذَلِكَ الشَّيْء عَنْ الْعُمُوم لَكَانَ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا , وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ عَلَى التَّخْصِيص نَسْخًا تَوَسُّعًا وَمَجَازًا .

اِعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَرِد فِي الشَّرْع أَخْبَار ظَاهِرهَا الْإِطْلَاق وَالِاسْتِغْرَاق , وَيَرِد تَقْيِيدهَا فِي مَوْضِع آخَر فَيَرْتَفِع ذَلِكَ الْإِطْلَاق , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِذَا سَأَلَك عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب أُجِيب دَعْوَة الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ " [ الْبَقَرَة : 186 ] . فَهَذَا الْحُكْم ظَاهِره خَبَر عَنْ إِجَابَة كُلّ دَاعٍ عَلَى كُلّ حَال , لَكِنْ قَدْ جَاءَ مَا قَيَّدَهُ فِي مَوْضِع آخَر , كَقَوْلِهِ " فَيَكْشِف مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ " [ الْأَنْعَام : 41 ] . فَقَدْ يَظُنّ مَنْ لَا بَصِيرَة عِنْده أَنَّ هَذَا مِنْ بَاب النَّسْخ فِي الْأَخْبَار وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ هُوَ مِنْ بَاب الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد . وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة زِيَادَة بَيَان فِي مَوْضِعهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى : جَائِز نَسْخ الْأَثْقَل إِلَى الْأَخَفّ , كَنَسْخِ الثُّبُوت لِعَشَرَةٍ بِالثُّبُوتِ لِاثْنَيْنِ . وَيَجُوز نَسْخ الْأَخَفّ إِلَى الْأَثْقَل , كَنَسْخِ يَوْم عَاشُورَاء وَالْأَيَّام الْمَعْدُودَة بِرَمَضَان , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي آيَة الصِّيَام . وَيُنْسَخ الْمِثْل بِمِثْلِهِ ثِقَلًا وَخِفَّة , كَالْقِبْلَةِ . وَيُنْسَخ الشَّيْء لَا إِلَى بَدَل كَصَدَقَةِ النَّجْوَى . وَيُنْسَخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ . وَالسُّنَّة بِالْعِبَارَةِ , وَهَذِهِ الْعِبَارَة يُرَاد بِهَا الْخَبَر الْمُتَوَاتِر الْقَطْعِيّ . وَيُنْسَخ خَبَر الْوَاحِد بِخَبَرِ الْوَاحِد . وَحُذَّاق الْأَئِمَّة عَلَى أَنَّ الْقُرْآن يُنْسَخ بِالسُّنَّةِ , وَذَلِكَ مَوْجُود فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ ) . وَهُوَ ظَاهِر مَسَائِل مَالِك . وَأَبَى ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو الْفَرَج الْمَالِكِيّ , وَالْأَوَّل أَصَحّ , بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلّ حُكْم اللَّه تَعَالَى وَمِنْ عِنْده وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ فِي الْأَسْمَاء . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَلْد سَاقِط فِي حَدّ الزِّنَى عَنْ الثَّيِّب الَّذِي يُرْجَم , وَلَا مُسْقِط لِذَلِكَ إِلَّا السُّنَّة فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , هَذَا بَيِّن . وَالْحُذَّاق أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّنَّة تُنْسَخ بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْقِبْلَة , فَإِنَّ الصَّلَاة إِلَى الشَّام لَمْ تَكُنْ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى . وَفِي قَوْله تَعَالَى : " فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار " [ الْمُمْتَحِنَة : 10 ] فَإِنَّ رُجُوعهنَّ إِنَّمَا كَانَ بِصُلْحِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ . وَالْحُذَّاق عَلَى تَجْوِيز نَسْخ الْقُرْآن بِخَبَرِ الْوَاحِد عَقْلًا , وَاخْتَلَفُوا هَلْ وَقَعَ شَرْعًا , فَذَهَبَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْره إِلَى وُقُوعه فِي نَازِلَة مَسْجِد قُبَاء , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه , وَأَبَى ذَلِكَ قَوْم . وَلَا يَصِحّ نَسْخ نَصّ بِقِيَاسٍ , إِذْ مِنْ شُرُوط الْقِيَاس أَلَّا يُخَالِف نَصًّا . وَهَذَا كُلّه فِي مُدَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَمَّا بَعْد مَوْته وَاسْتِقْرَار الشَّرِيعَة فَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة أَنَّهُ لَا نَسْخ , وَلِهَذَا كَانَ الْإِجْمَاع لَا يَنْسَخ وَلَا يُنْسَخ بِهِ إِذْ اِنْعِقَاده بَعْد اِنْقِطَاع الْوَحْي , فَإِذَا وَجَدْنَا إِجْمَاعًا يُخَالِف نَصًّا فَيُعْلَم أَنَّ الْإِجْمَاع اِسْتَنَدَ إِلَى نَصّ نَاسِخ لَا نَعْلَمهُ نَحْنُ , وَأَنَّ ذَلِكَ النَّصّ الْمُخَالِف مَتْرُوك الْعَمَل بِهِ , وَأَنَّ مُقْتَضَاهُ نُسِخَ وَبَقِيَ سُنَّة يُقْرَأ وَيُرْوَى , كَمَا آيَة عِدَّة السَّنَة فِي الْقُرْآن تُتْلَى , فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ نَفِيس , وَيَكُون مِنْ بَاب نَسْخ الْحُكْم دُون التِّلَاوَة , وَمِثْله صَدَقَة النَّجْوَى . وَقَدْ تُنْسَخ التِّلَاوَة دُون الْحُكْم كَآيَةِ الرَّجْم . وَقَدْ تُنْسَخ التِّلَاوَة وَالْحُكْم مَعًا , وَمِنْهُ قَوْل الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كُنَّا نَقْرَأ " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْر " وَمِثْله كَثِير . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاق أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغهُ النَّاسِخ فَهُوَ مُتَعَبِّد بِالْحُكْمِ الْأَوَّل , كَمَا يَأْتِي بَيَانه فِي تَحْوِيل الْقِبْلَة . وَالْحُذَّاق عَلَى جَوَاز نَسْخ الْحُكْم قَبْل فِعْله , وَهُوَ مَوْجُود فِي قِصَّة الذَّبِيح , وَفِي فَرْض خَمْسِينَ صَلَاة قَبْل فِعْلهَا بِخَمْسٍ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْإِسْرَاء " و " الصَّافَّات " , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

لِمَعْرِفَةِ النَّاسِخ طُرُق , مِنْهَا - أَنْ يَكُون فِي اللَّفْظ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ , كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَة إِلَّا فِي ظُرُوف الْأَدَم فَاشْرَبُوا فِي كُلّ وِعَاء غَيْر أَلَّا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا ) وَنَحْوه . وَمِنْهَا - أَنْ يَذْكُر الرَّاوِي التَّارِيخ , مِثْل أَنْ يَقُول : سَمِعْت عَام الْخَنْدَق , وَكَانَ الْمَنْسُوخ مَعْلُومًا قَبْله . أَوْ يَقُول : نُسِخَ حُكْم كَذَا بِكَذَا . وَمِنْهَا - أَنْ تُجْمِع الْأُمَّة عَلَى حُكْم أَنَّهُ مَنْسُوخ وَأَنَّ نَاسِخَة مُتَقَدِّم . وَهَذَا الْبَاب مَبْسُوط فِي أُصُول الْفِقْه , نَبَّهْنَا مِنْهُ عَلَى مَا فِيهِ لِمَنْ اِقْتَصَرَ كِفَايَة , وَاَللَّه الْمُوَفِّق لِلْهِدَايَةِ .

قَرَأَ الْجُمْهُور " مَا نَنْسَخ " بِفَتْحِ النُّون , مِنْ نَسَخَ , وَهُوَ الظَّاهِر الْمُسْتَعْمَل عَلَى مَعْنَى : مَا نَرْفَع مِنْ حُكْم آيَة وَنُبْقِي تِلَاوَتهَا , كَمَا تَقَدَّمَ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : مَا نَرْفَع مِنْ حُكْم آيَة وَتِلَاوَتهَا , عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " نَنْسَخ " بِضَمِّ النُّون , مِنْ أَنْسَخْت الْكِتَاب , عَلَى مَعْنَى وَجَدْته مَنْسُوخًا . قَالَ أَبُو حَاتِم : هُوَ غَلَط : وَقَالَ الْفَارِسِيّ أَبُو عَلِيّ : لَيْسَتْ لُغَة ; لِأَنَّهُ لَا يُقَال : نَسَخَ وَأَنْسَخَ بِمَعْنًى , إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَعْنَى مَا نَجِدهُ مَنْسُوخًا , كَمَا تَقُول : أَحْمَدْت الرَّجُل وَأَبْخَلْته , بِمَعْنَى وَجَدْته مَحْمُودًا وَبَخِيلًا . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَلَيْسَ نَجِدهُ مَنْسُوخًا إِلَّا بِأَنْ نَنْسَخهُ , فَتَتَّفِق الْقِرَاءَتَانِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ اِخْتَلَفَتَا فِي اللَّفْظ . وَقِيلَ : " مَا نَنْسَخ " مَا نَجْعَل لَك نَسْخه , يُقَال : نَسَخْت الْكِتَاب إِذَا كَتَبْته , وَاِنْتَسَخْته غَيْرِي إِذَا جَعَلْت نَسْخه لَهُ . قَالَ مَكِّيّ : وَلَا يَجُوز أَنْ تَكُون الْهَمْزَة لِلتَّعَدِّي ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّر , وَيَصِير الْمَعْنَى مَا نَنْسَخك مِنْ آيَة يَا مُحَمَّد , وَإِنْسَاخه إِيَّاهَا إِنْزَالهَا عَلَيْهِ , فَيَصِير الْمَعْنَى مَا نُنَزِّل عَلَيْك مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا , فَيَئُول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ كُلّ آيَة أُنْزِلَتْ أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا , فَيَصِير الْقُرْآن كُلّه مَنْسُوخًا وَهَذَا لَا يُمْكِن , لِأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخ إِلَّا الْيَسِير مِنْ الْقُرْآن . فَلَمَّا اِمْتَنَعَ أَنْ يَكُون أَفْعَلَ وَفَعَلَ بِمَعْنًى إِذْ لَمْ يُسْمَع , وَامْتَنَعَ أَنْ تَكُون الْهَمْزَة لِلتَّعَدِّي لِفَسَادِ الْمَعْنَى , لَمْ يَبْقَ مُمْكِن إِلَّا أَنْ يَكُون مِنْ بَاب أَحْمَدْته وَأَبْخَلْته إِذَا وَجَدْته مَحْمُودًا أَوْ بَخِيلًا .

" أَوْ نُنْسِهَا " قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير بِفَتْحِ النُّون وَالسِّين وَالْهَمْز , وَبِهِ قَرَأَ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَأُبَيّ بْن كَعْب وَعُبَيْد بْن عُمَيْر وَالنَّخَعِيّ وَابْن مُحَيْصِن , مِنْ التَّأْخِير , أَيْ نُؤَخِّر نَسْخ لَفْظهَا , أَيْ نَتْرُكهُ فِي آخِر أُمّ الْكِتَاب فَلَا يَكُون . وَهَذَا قَوْل عَطَاء . وَقَالَ غَيْر عَطَاء : مَعْنَى أَوْ نَنْسَأهَا : نُؤَخِّرهَا عَنْ النَّسْخ إِلَى وَقْت مَعْلُوم , مِنْ قَوْلهمْ : نَسَأْت هَذَا الْأَمْر إِذَا أَخَّرْته , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلهمْ : بِعْته نَسْأً إِذَا أَخَّرْته . قَالَ اِبْن فَارِس : وَيَقُولُونَ : نَسَأَ اللَّه فِي أَجَلك , وَأَنْسَأَ اللَّه أَجَلك . وَقَدْ اِنْتَسَأَ الْقَوْم إِذَا تَأَخَّرُوا وَتَبَاعَدُوا , وَنَسَأْتهمْ أَنَا أَخَّرْتهمْ . فَالْمَعْنَى نُؤَخِّر نُزُولهَا أَوْ نَسْخهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَقِيلَ : نُذْهِبهَا عَنْكُمْ حَتَّى لَا تُقْرَأ وَلَا تُذْكَر . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " نُنْسِهَا " بِضَمِّ النُّون , مِنْ النِّسْيَان الَّذِي بِمَعْنَى التَّرْك , أَيْ نَتْرُكهَا فَلَا نُبَدِّلهَا وَلَا نَنْسَخهَا , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ " [ التَّوْبَة : 67 ] أَيْ تَرَكُوا عِبَادَته فَتَرَكَهُمْ فِي الْعَذَاب . وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم , قَالَ أَبُو عُبَيْد : سَمِعْت أَبَا نُعَيْم الْقَارِئ يَقُول : قَرَأْت عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَام بِقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرو فَلَمْ يُغَيِّر عَلِيّ إِلَّا حَرْفَيْنِ , قَالَ : قَرَأْت عَلَيْهِ " أَرْنَا " [ الْبَقَرَة : 128 ] فَقَالَ : أَرِنَا , فَقَالَ أَبُو عُبَيْد : وَأَحْسَب الْحَرْف الْآخَر " أَوْ نَنْسَأهَا " فَقَالَ : " أَوْ نُنْسِهَا " . وَحَكَى الْأَزْهَرِيّ " نُنْسِهَا " نَأْمُر بِتَرْكِهَا , يُقَال : أَنْسَيْته الشَّيْء أَيْ أَمَرْت بِتَرْكِهِ , وَنَسِيته تَرَكْته , قَالَ الشَّاعِر : إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَة أَقْضِيهَا لَسْت بِنَاسِيهَا ولَا مُنْسِيهَا أَيْ وَلَا آمُر بِتَرْكِهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : إِنَّ الْقِرَاءَة بِضَمِّ النُّون لَا يَتَوَجَّه فِيهَا مَعْنَى التَّرْك , لَا يُقَال : أَنْسَى بِمَعْنَى تَرَكَ , وَمَا رَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " أَوْ نُنْسِهَا " قَالَ : نَتْرُكهَا لَا نُبَدِّلهَا , فَلَا يَصِحّ . وَلَعَلَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَتْرُكهَا , فَلَمْ يَضْبِط . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَر أَهْل اللُّغَة وَالنَّظَر أَنَّ مَعْنَى " أَوْ نُنْسِهَا " نُبِحْ لَكُمْ تَرْكهَا , مِنْ نَسِيَ إِذَا تَرَكَ , ثُمَّ تُعَدِّيهِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ وَغَيْره : ذَلِكَ مُتَّجَه ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَجْعَلك تَتْرُكهَا . وَقِيلَ : مِنْ النِّسْيَان عَلَى بَابه الَّذِي هُوَ عَدَم الذِّكْر , عَلَى مَعْنَى أَوْ نُنْسِكهَا يَا مُحَمَّد فَلَا تَذْكُرهَا , نُقِلَ بِالْهَمْزِ فَتَعَدَّى الْفِعْل إِلَى مَفْعُولَيْنِ : وَهُمَا النَّبِيّ وَالْهَاء , لَكِنْ اِسْم النَّبِيّ مَحْذُوف .

" نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " لَفْظَة " بِخَيْرٍ " هُنَا صِفَة تَفْضِيل , وَالْمَعْنَى بِأَنْفَع لَكُمْ أَيّهَا النَّاس فِي عَاجِل إِنْ كَانَتْ النَّاسِخَة أَخَفّ , وَفِي آجِل إِنْ كَانَتْ أَثْقَل , وَبِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُسْتَوِيَة . وَقَالَ مَالِك : مُحْكَمَة مَكَان مَنْسُوخَة . وَقِيلَ لَيْسَ الْمُرَاد بِأَخْيَر التَّفْضِيل ; لِأَنَّ كَلَام اللَّه لَا يَتَفَاضَل , وَإِنَّمَا هُوَ مِثْل قَوْله : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِنْهَا " [ النَّمْل : 89 ] أَيْ فَلَهُ مِنْهَا خَيْر , أَيْ نَفْع وَأَجْر , لَا الْخَيْر الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَفْضَل , وَيَدُلّ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل قَوْله : " أَوْ مِثْلهَا " .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍسورة البقرة الآية رقم 107
" أَلَمْ تَعْلَم " جُزِمَ بِلَمْ , وَحُرُوف الِاسْتِفْهَام لَا تُغَيِّر عَمَل الْعَامِل , وَفُتِحَتْ " أَنَّ " لِأَنَّهَا فِي مَوْضِع نَصْب . " لَهُ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض " أَيْ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع , وَالْمُلْك وَالسُّلْطَان , وَنُفُوذ الْأَمْر وَالْإِرَادَة . وَارْتَفَعَ " مُلْك " بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " لَهُ " وَالْجُمْلَة خَبَر " أَنَّ " . وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته .


الْمَعْنَى أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ سُلْطَان السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ وَلِيّ , مِنْ وَلَيْت أَمْر فُلَان , أَيْ قُمْت بِهِ , وَمِنْهُ وَلِيّ الْعَهْد , أَيْ الْقَيِّم بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْر الْمُسْلِمِينَ . وَمَعْنَى " مِنْ دُون اللَّه " سِوَى اللَّه وَبَعْد اللَّه , كَمَا قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : يَا نَفْس مَا لَك دُون اللَّه مِنْ وَاقٍ وَمَا عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْر مِنْ بَاق وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة " وَلَا نَصِير " بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى " وَلِيّ " وَيَجُوز " وَلَا نَصِير " بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِع ; لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه وَلِيّ وَلَا نَصِير .
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِسورة البقرة الآية رقم 108
هَذِهِ " أَمْ " الْمُنْقَطِعَة الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ , أَيْ بَلْ تُرِيدُونَ , وَمَعْنَى الْكَلَام التَّوْبِيخ .


فِي مَوْضِع نَصْب ب " تُرِيدُونَ " .


الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِمَصْدَرٍ , أَيْ سُؤَالًا كَمَا . و " مُوسَى " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . " مِنْ قَبْل " : سُؤَالهمْ إِيَّاهُ أَنْ يُرِيهُمْ اللَّه جَهْرَة , وَسَأَلُوا مُحَمَّدًا أَنْ يَأْتِي بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَة قَبِيلًا . عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : سَأَلُوا أَنْ يَجْعَل لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا . وَقَرَأَ الْحَسَن " كَمَا سِيلَ " , وَهَذَا عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : سَلْت أَسْأَل , وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى بَدَل الْهَمْزَة يَاء سَاكِنَة عَلَى غَيْر قِيَاس فَانْكَسَرَتْ السِّين قَبْلهَا . قَالَ النَّحَّاس : بَدَل الْهَمْزَة بَعِيد .


وَالسَّوَاء مِنْ كُلّ شَيْء : الْوَسَط . قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى , وَمِنْهُ قَوْله : " فِي سَوَاء الْجَحِيم " [ الصَّافَّات : 55 ] . وَحَكَى عِيسَى بْن عُمَر قَالَ : مَا زِلْت أَكْتُب حَتَّى اِنْقَطَعَ سَوَائِي , وَأَنْشَدَ قَوْل حَسَّان يَرْثِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يَا وَيْح أَصْحَاب النَّبِيّ وَرَهْطه بَعْد الْمُغَيَّب فِي سَوَاء الْمُلْحَد وَقِيلَ : السَّوَاء الْقَصْد , عَنْ الْفَرَّاء , أَيْ ذَهَبَ عَنْ قَصْد الطَّرِيق وَسَمْته , أَيْ طَرِيق طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة أَنَّ رَافِع بْن خُزَيْمَة وَوَهْب بْن زَيْد قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِئْتِنَا بِكِتَابٍ مِنْ السَّمَاء نَقْرَؤُهُ , وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتَّبِعك .

" وَدَّ " تَمَنَّى , وَقَدْ تَقَدَّمَ . " كُفَّارًا " مَفْعُول ثَانٍ ب " يَرُدُّونَكُمْ " . " مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ " قِيلَ : هُوَ مُتَعَلِّق ب " وَدَّ " . وَقِيلَ : ب " حَسَدًا " , فَالْوَقْف عَلَى قَوْله : " كُفَّارًا " . و " حَسَدًا " مَفْعُول لَهُ , أَيْ وَدُّوا ذَلِكَ لِلْحَسَدِ , أَوْ مَصْدَر دَلَّ عَلَى مَا قَبْله عَلَى الْفِعْل . وَمَعْنَى " مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ " أَيْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ مِنْ غَيْر أَنْ يَجِدُوهُ فِي كِتَاب وَلَا أُمِرُوا بِهِ , وَلَفْظَة الْحَسَد تُعْطِي هَذَا . فَجَاءَ ( مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ " تَأْكِيدًا وَإِلْزَامًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ " [ آل عِمْرَان : 167 ] , " يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ " [ الْبَقَرَة : 79 ] , " وَلَا طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " . [ الْأَنْعَام : 38 ] . وَالْآيَة فِي الْيَهُود .

الْحَسَد نَوْعَانِ : مَذْمُوم وَمَحْمُود , فَالْمَذْمُوم أَنْ تَتَمَنَّى زَوَال نِعْمَة اللَّه عَنْ أَخِيك الْمُسْلِم , وَسَوَاء تَمَنَّيْت مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَعُود إِلَيْك أَوْ لَا , وَهَذَا النَّوْع الَّذِي ذَمَّهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه بِقَوْلِهِ : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله " [ النِّسَاء : 54 ] وَإِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا لِأَنَّ فِيهِ تَسْفِيه الْحَقّ سُبْحَانه , وَأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقّ . وَأَمَّا الْمَحْمُود فَهُوَ مَا جَاءَ فِي صَحِيح الْحَدِيث مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا حَسَد إِلَّا فِي اِثْنَيْنِ رَجُل آتَاهُ اللَّه الْقُرْآن فَهُوَ يَقُوم بِهِ آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار وَرَجُل آتَاهُ اللَّه مَالًا فَهُوَ يُنْفِقهُ آنَاء اللَّيْل وَآنَاء النَّهَار ) . وَهَذَا الْحَسَد مَعْنَاهُ الْغِبْطَة . وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيّ " بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعِلْم وَالْحِكْمَة " . وَحَقِيقَتهَا : أَنْ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُون لَك مَا لِأَخِيك الْمُسْلِم مِنْ الْخَيْر وَالنِّعْمَة وَلَا يَزُول عَنْهُ خَيْره , وَقَدْ يَجُوز أَنْ يُسَمَّى هَذَا مُنَافَسَة , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : 26 ] أَيْ " مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ " أَيْ مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ الْحَقّ لَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْقُرْآن الَّذِي جَاءَ بِهِ .
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 109
" فَاعْفُوا " وَالْأَصْل اِعْفُوُوا حُذِفَتْ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا , ثُمَّ حُذِفَتْ الْوَاو لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَالْعَفْو : تَرْك الْمُؤَاخَذَة بِالذَّنْبِ . وَالصَّفْح : إِزَالَة أَثَره مِنْ النَّفْس . صَفَحْت عَنْ فُلَان إِذَا أَعْرَضْت عَنْ ذَنْبه . وَقَدْ ضَرَبْت عَنْهُ صَفْحًا إِذَا أَعْرَضْت عَنْهُ وَتَرَكْته , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " أَفَنَضْرِب عَنْكُمْ الذِّكْر صَفْحًا " [ الزُّخْرُف : 5 ] .

هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ : " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ " [ التَّوْبَة : 29 ] إِلَى قَوْله : " صَاغِرُونَ " [ التَّوْبَة : 29 ] عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : النَّاسِخ لَهَا " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : 5 ] . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : كُلّ آيَة فِيهَا تَرْك لِلْقِتَالِ فَهِيَ مَكِّيَّة مَنْسُوخَة بِالْقِتَالِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَحُكْمه بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَكِّيَّة ضَعِيف ; لِأَنَّ مُعَانَدَات الْيَهُود إِنَّمَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ .

قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح , رَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أُسَامَة بْن زَيْد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَار عَلَيْهِ قَطِيفَة فَدَكِيَّة وَأُسَامَة وَرَاءَهُ , يَعُود سَعْد بْن عُبَادَة فِي بَنِي الْحَارِث بْن الْخَزْرَج قَبْل وَقْعَة بَدْر , فَسَارَا حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ اِبْن سَلُول - وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يُسْلِم عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ - فَإِذَا فِي الْمَجْلِس أَخْلَاط مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَة الْأَوْثَان وَالْيَهُود , وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة , فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِس عَجَاجَة الدَّابَّة خَمَّرَ اِبْن أُبَيّ أَنْفه بِرِدَائِهِ وَقَالَ : لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا ! فَسَلَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ , فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآن , فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ اِبْن سَلُول : أَيّهَا الْمَرْء , لَا أَحْسَن مِمَّا تَقُول إِنْ كَانَ حَقًّا ! فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسنَا , [ اِرْجِعْ إِلَى رَحْلك ] فَمَنْ جَاءَك فَاقْصُصْ عَلَيْهِ . قَالَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة : بَلَى يَا رَسُول اللَّه , فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسنَا , فَإِنَّا نُحِبّ ذَلِكَ . فَاسْتَتَبَّ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُود حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ , فَلَمْ يَزَلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضهُمْ حَتَّى سَكَنُوا , ثُمَّ رَكِبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّته فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْد بْن عُبَادَة , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( [ يَا سَعْد ] أَلَمْ تَسْمَع إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَاب - يُرِيد عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا ) فَقَالَ : أَيْ رَسُول اللَّه , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! اُعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ , فَوَاَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب بِالْحَقِّ لَقَدْ جَاءَك اللَّه بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك , وَلَقَدْ اِصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبُحَيْرَة عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ , فَلَمَّا رَدَّ اللَّه ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاك شَرِقَ بِذَلِكَ , فَذَلِكَ فِعْل مَا رَأَيْت , فَعَفَا عَنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْل الْكِتَاب كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّه تَعَالَى , وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا " [ آل عِمْرَان : 186 ] , وَقَالَ : " وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب " فَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّل فِي الْعَفْو عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ , فَلَمَّا غَزَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّه بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيد الْكُفَّار وَسَادَات قُرَيْش , فَقَفَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه غَانِمِينَ مَنْصُورِينَ , مَعَهُمْ أُسَارَى مِنْ صَنَادِيد الْكُفَّار وَسَادَات قُرَيْش , قَالَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ اِبْن سَلُول وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَة الْأَوْثَان : هَذَا أَمْر قَدْ تَوَجَّهَ , فَبَايَعُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَام , فَأَسْلَمُوا .


يَعْنِي قَتْل قُرَيْظَة وَجَلَاء بَنِي النَّضِير .


عُمُوم , وَمَعْنَاهُ عِنْد الْمُتَكَلِّمِينَ فِيمَا يَجُوز وَصْفه تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَسْمِيَة اللَّه تَعَالَى بِالْقَدِيرِ , فَهُوَ سُبْحَانه قَدِير قَادِر مُقْتَدِر . وَالْقَدِير أَبْلَغ فِي الْوَصْف مِنْ الْقَادِر , قَالَهُ الزَّجَّاجِيّ . وَقَالَ الْهَرَوِيّ : وَالْقَدِير وَالْقَادِر بِمَعْنًى وَاحِد , يُقَال : قَدَرْت عَلَى الشَّيْء أَقْدِر قَدْرًا وَقَدَرًا وَمَقْدِرَة وَمَقْدُرَة وَقُدْرَانًا , أَيْ قُدْرَة . وَالِاقْتِدَار عَلَى الشَّيْء : الْقُدْرَة عَلَيْهِ . فَاَللَّه جَلَّ وَعَزَّ قَادِر مُقْتَدِر قَدِير عَلَى كُلّ مُمْكِن يَقْبَل الْوُجُود وَالْعَدَم . فَيَجِب عَلَى كُلّ مُكَلَّف أَنْ يَعْلَم أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِر , لَهُ قُدْرَة بِهَا فَعَلَ وَيَفْعَل مَا يَشَاء عَلَى وَفْق عِلْمه وَاخْتِيَاره . وَيَجِب عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَعْلَم أَنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَة يَكْتَسِب بِهَا مَا أَقْدَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَة , وَأَنَّهُ غَيْر مُسْتَبِدّ بِقُدْرَتِهِ . وَإِنَّمَا خَصَّ هُنَا تَعَالَى صِفَته الَّتِي هِيَ الْقُدْرَة بِالذِّكْرِ دُون غَيْرهَا , لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْر فِعْل مُضَمَّنه الْوَعِيد وَالْإِخَافَة , فَكَانَ ذِكْر الْقُدْرَة مُنَاسِبًا لِذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم . فَهَذِهِ عِشْرُونَ آيَة عَلَى عَدَد الْكُوفِيِّينَ , أَرْبَع آيَات فِي وَصْف الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ تَلِيهَا آيَتَانِ فِي ذِكْر الْكَافِرِينَ , وَبَقِيَّتهَا فِي الْمُنَافِقِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الرِّوَايَة فِيهَا عَنْ اِبْن جُرَيْج , وَقَالَهُ مُجَاهِد أَيْضًا .
وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌسورة البقرة الآية رقم 110
أَمْر مَعْنَاهُ الْوُجُوب وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ , وَإِقَامَة الصَّلَاة أَدَاؤُهَا بِأَرْكَانِهَا وَسُنَنهَا وَهَيْئَاتهَا فِي أَوْقَاتهَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . يُقَال : قَامَ الشَّيْء أَيْ دَامَ وَثَبَتَ , وَلَيْسَ مِنْ الْقِيَام عَلَى الرِّجْل , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلك : قَامَ الْحَقّ أَيْ ظَهَرَ وَثَبَتَ , قَالَ الشَّاعِر : وَقَامَتْ الْحَرْب بِنَا عَلَى سَاق وَقَالَ آخَر : وَإِذَا يُقَال أَتَيْتُمْ لَمْ يَبْرَحُوا حَتَّى تُقِيم الْخَيْل سُوق طِعَان وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِمَا ,


جَاءَ فِي الْحَدِيث ( أَنَّ الْعَبْد إِذَا مَاتَ قَالَ النَّاس مَا خَلَّفَ وَقَالَتْ الْمَلَائِكَة مَا قَدَّمَ ) . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيّكُمْ مَال وَارِثه أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ مَاله ) . قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , مَا مِنَّا مِنْ أَحَد إِلَّا مَاله أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ مَال وَارِثه , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا مَال وَارِثه أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ مَاله . مَالك مَا قَدَّمْت وَمَال وَارِثك مَا أَخَّرْت ) , لَفْظ النَّسَائِيّ . وَلَفْظ الْبُخَارِيّ : قَالَ عَبْد اللَّه قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيّكُمْ مَال وَارِثه أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ مَاله ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , مَا مِنَّا أَحَد إِلَّا مَاله أَحَبّ إِلَيْهِ , قَالَ : ( فَإِنَّ مَاله مَا قَدَّمَ وَمَال وَارِثه مَا أَخَّرَ ) . وَجَاءَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِبَقِيعِ الْغَرْقَد فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ أَهْل الْقُبُور , أَخْبَار مَا عِنْدنَا أَنَّ نِسَاءَكُمْ قَدْ تَزَوَّجْنَ , وَدُوركُمْ قَدْ سُكِنَتْ , وَأَمْوَالكُمْ قَدْ قُسِمَتْ . فَأَجَابَهُ هَاتِف : يَا ابْن الْخَطَّاب أَخْبَار مَا عِنْدنَا أَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ وَجَدْنَاهُ , وَمَا أَنْفَقْنَاهُ فَقَدْ رَبِحْنَاهُ , وَمَا خَلَّفْنَاهُ فَقَدْ خَسِرْنَاهُ . وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل : قَدِّمْ لِنَفْسِك قَبْل مَوْتك صَالِحًا وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إِلَى الْخُلُود سَبِيل وَقَالَ آخَر : قَدِّمْ لِنَفْسِك تَوْبَة مَرْجُوَّة قَبْل الْمَمَات وَقَبْل حَبْس الْأَلْسُن وَقَالَ آخَر : وَلَدْتُك إِذْ وَلَدَتْك أُمّك بَاكِيًا وَالْقَوْم حَوْلك يَضْحَكُونَ سُرُورًا فَاعْمَلْ لِيَوْمٍ تَكُون فِيهِ إِذَا بَكَوْا فِي يَوْم مَوْتك ضَاحِكًا مَسْرُورَا وَقَالَ آخَر : سَابِقْ إِلَى الْخَيْر وَبَادِرْ بِهِ فَإِنَّمَا خَلْفك مَا تَعْلَم وَقَدِّمْ الْخَيْر فَكُلّ اِمْرِئٍ عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَم وَأَحْسَن مِنْ هَذَا كُلّه قَوْل أَبِي الْعَتَاهِيَة : اِسْعَدْ بِمَالِك فِي حَيَاتك إِنَّمَا يَبْقَى وَرَاءَك مُصْلِح أَوْ مُفْسِد وَإِذَا تَرَكْت لِمُفْسِدٍ لَمْ يُبْقِهِ وَأَخُو الصَّلَاح قَلِيله يَتَزَيَّد وَإِنْ اِسْتَطَعْت فَكُنْ لِنَفْسِك وَارِثًا إِنَّ الْمُوَرِّث نَفْسه لَمُسَدَّد


أَيْ بِمَا يَعْمَل هَؤُلَاءِ . وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالتَّقْدِير عِنْده . قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد اللَّه بَصِير بِمَا تَعْمَلُونَ . وَقَالَ الْعُلَمَاء : وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور . وَالْبَصِير فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَالِم بِالشَّيْءِ الْخَبِير بِهِ , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان بَصِير بِالطِّبِّ , وَبَصِير بِالْفِقْهِ , وَبَصِير بِمُلَاقَاةِ الرِّجَال , قَالَ : فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِير بِأَدْوَاءِ النِّسَاء طَبِيب قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْعَالِم , وَالْبَصِير الْمُبْصِر . وَقِيلَ : وَصَفَ تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى جَاعِل الْأَشْيَاء الْمُبْصِرَة ذَوَات إِبْصَار , أَيْ مُدْرِكَة لِلْمُبْصِرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنْ الْآلَة الْمُدْرِكَة وَالْقُوَّة , فَاَللَّه بَصِير بِعِبَادِهِ , أَيْ جَاعِل عِبَاده مُبْصِرِينَ .
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة البقرة الآية رقم 111
الْمَعْنَى : وَقَالَتْ الْيَهُود لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا . وَقَالَتْ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا . وَأَجَازَ الْفَرَّاء أَنْ يَكُون " هُودًا " بِمَعْنَى يَهُودِيًّا , حُذِفَ مِنْهُ الزَّائِد , وَأَنْ يَكُون جَمْع هَائِد . وَقَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : " إِلَّا مَنْ كَانَ " جَعَلَ " كَانَ " وَاحِدًا عَلَى لَفْظ " مَنْ " , ثُمَّ قَالَ هُودًا فَجَمَعَ ; لِأَنَّ مَعْنَى " مَنْ " جَمْع . وَيَجُوز " تِلْكَ أَمَانِيّهمْ " وَتَقَدَّمَ الْكَلَام فِي هَذَا , وَالْحَمْد لِلَّهِ .


أَصْل " هَاتُوا " هَاتِيُوا , حُذِفَتْ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا ثُمَّ حُذِفَتْ الْيَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , يُقَال فِي الْوَاحِد الْمُذَكَّر : هَات , مِثْل رَام , وَفِي الْمُؤَنَّث : هَاتِي , مِثْل رَامِي . وَالْبُرْهَان : الدَّلِيل الَّذِي يُوقِع الْيَقِين , وَجَمْعه بَرَاهِين , مِثْل قُرْبَانِ وَقَرَابِين , وَسُلْطَان وَسَلَاطِين . قَالَ الطَّبَرِيّ : طَلَب الدَّلِيل هُنَا يَقْضِي إِثْبَات النَّظَر وَيَرُدّ عَلَى مَنْ يَنْفِيه .


يَعْنِي فِي إِيمَانكُمْ أَوْ فِي قَوْلكُمْ تَدْخُلُونَ الْجَنَّة , أَيْ بَيِّنُوا مَا قُلْتُمْ بِبُرْهَانٍ ,
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة البقرة الآية رقم 112
رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ , أَيْ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ . وَقِيلَ : إِنَّ " بَلَى " مَحْمُولَة عَلَى الْمَعْنَى , كَأَنَّهُ قِيلَ أَمَا يَدْخُل الْجَنَّة أَحَد ؟ فَقِيلَ : " بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ " وَمَعْنَى " أَسْلَمَ " اِسْتَسْلَمَ وَخَضَعَ . وَقِيلَ : أَخْلَصَ عَمَله . وَخَصَّ الْوَجْه بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ أَشْرَف مَا يُرَى مِنْ الْإِنْسَان ; وَلِأَنَّهُ مَوْضِع الْحَوَاسّ , وَفِيهِ يَظْهَر الْعِزّ وَالذُّلّ . وَالْعَرَب تُخْبِر بِالْوَجْهِ عَنْ جُمْلَة الشَّيْء . وَيَصِحّ أَنْ يَكُون الْوَجْه فِي هَذِهِ الْآيَة الْمَقْصِد .


جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال , وَعَادَ الضَّمِير فِي " وَجْهه " و " لَهُ " عَلَى لَفْظ " مَنْ " وَكَذَلِكَ " أَجْره " وَعَادَ فِي " عَلَيْهِمْ " عَلَى الْمَعْنَى , وَكَذَلِكَ فِي " يَحْزَنُونَ " وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَسورة البقرة الآية رقم 113
مَعْنَاهُ اِدَّعَى كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ أَنَّ صَاحِبه لَيْسَ عَلَى شَيْء , وَأَنَّهُ أَحَقّ بِرَحْمَةِ اللَّه مِنْهُ .


يَعْنِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل , وَالْجُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال .


وَالْمُرَاد ب " الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " فِي قَوْل الْجُمْهُور : كُفَّار الْعَرَب ; لِأَنَّهُمْ لَا كِتَاب لَهُمْ . وَقَالَ عَطَاء : الْمُرَاد أُمَم كَانَتْ قَبْل الْيَهُود وَالنَّصَارَى . الرَّبِيع بْن أَنَس : الْمَعْنَى كَذَلِكَ قَالَتْ الْيَهُود قَبْل النَّصَارَى . اِبْن عَبَّاس : قَدِمَ أَهْل نَجْرَان عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْهُمْ أَحْبَار يَهُود , فَتَنَازَعُوا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَالَتْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ لِلْأُخْرَى لَسْتُمْ عَلَى شَيْء , فَنَزَلَتْ الْآيَة .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌسورة البقرة الآية رقم 114
" وَمَنْ " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , و " أَظْلَم " خَبَره , وَالْمَعْنَى لَا أَحَد أَظْلَم . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ " مَسَاجِد " , وَيَجُوز أَنْ يَكُون التَّقْدِير : كَرَاهِيَة أَنْ يُذْكَر , ثُمَّ حُذِفَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون التَّقْدِير : مِنْ أَنْ يُذْكَر فِيهَا , وَحَرْف الْخَفْض يُحْذَف مَعَ " أَنْ " لِطُولِ الْكَلَام . وَأَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ هُنَا بَيْت الْمَقْدِس وَمَحَارِيبه . وَقِيلَ الْكَعْبَة , وَجُمِعَتْ لِأَنَّهَا قِبْلَة الْمَسَاجِد أَوْ لِلتَّعْظِيمِ . وَقِيلَ : الْمُرَاد سَائِر الْمَسَاجِد , وَالْوَاحِد مَسْجِد ( بِكَسْرِ الْجِيم ) , وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول : مَسْجَد , ( بِفَتْحِهَا ) . قَالَ الْفَرَّاء : " كُلّ مَا كَانَ عَلَى فَعَلَ يَفْعُل , مِثْل دَخَلَ يَدْخُل , فَالْمَفْعَل مِنْهُ بِالْفَتْحِ اِسْمًا كَانَ أَوْ مَصْدَرًا , وَلَا يَقَع فِيهِ الْفَرْق , مِثْل دَخَلَ يَدْخُل مَدْخَلًا , وَهَذَا مَدْخَله , إِلَّا أَحْرُفًا مِنْ الْأَسْمَاء أَلْزَمُوهَا كَسْر الْعَيْن , مِنْ ذَلِكَ : الْمَسْجِد وَالْمَطْلِع وَالْمَغْرِب وَالْمَشْرِق وَالْمَسْقِط وَالْمَفْرِق وَالْمَجْزِر وَالْمَسْكِن وَالْمَرْفِق ( مِنْ رَفَقَ يَرْفُق ) وَالْمَنْبِت وَالْمَنْسِك ( مِنْ نَسَكَ يَنْسُك ) , فَجَعَلُوا الْكَسْر عَلَامَة لِلِاسْمِ , وَرُبَّمَا فَتَحَهُ بَعْض الْعَرَب فِي الِاسْم " . وَالْمَسْجَد ( بِالْفَتْحِ ) : جَبْهَة الرَّجُل حَيْثُ يُصِيبهُ نَدْب السُّجُود . وَالْآرَاب السَّبْعَة مَسَاجِد , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ .

وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة وَفِيمَنْ نَزَلَتْ , فَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بُخْت نَصَّر ; لِأَنَّهُ كَانَ أَخْرَبَ بَيْت الْمَقْدِس . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : نَزَلَتْ فِي النَّصَارَى , وَالْمَعْنَى كَيْف تَدَّعُونَ أَيّهَا النَّصَارَى أَنَّكُمْ مِنْ أَهْل الْجَنَّة ! وَقَدْ خَرَّبْتُمْ بَيْت الْمَقْدِس وَمَنَعْتُمْ الْمُصَلِّينَ مِنْ الصَّلَاة فِيهِ . وَمَعْنَى الْآيَة عَلَى هَذَا : التَّعَجُّب مِنْ فِعْل النَّصَارَى بِبَيْتِ الْمَقْدِس مَعَ تَعْظِيمهمْ لَهُ , وَإِنَّمَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا عَدَاوَة لِلْيَهُودِ . رَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : أُولَئِكَ أَعْدَاء اللَّه النَّصَارَى . حَمَلَهُمْ إِبْغَاض الْيَهُود عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْت نَصَّر الْبَابِلِيّ الْمَجُوسِيّ عَلَى تَخْرِيب بَيْت الْمَقْدِس . وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا التَّخْرِيب بَقِيَ إِلَى زَمَن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ إِذْ مَنَعُوا الْمُصَلِّينَ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَصَدُّوهُمْ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام عَام الْحُدَيْبِيَة . وَقِيلَ : الْمُرَاد مَنْ مَنَعَ مِنْ كُلّ مَسْجِد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ اللَّفْظ عَامّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْع , فَتَخْصِيصهَا بِبَعْضِ الْمَسَاجِد وَبَعْض الْأَشْخَاص ضَعِيف , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

خَرَاب الْمَسَاجِد قَدْ يَكُون حَقِيقِيًّا كَتَخْرِيبِ بُخْت نَصَّر وَالنَّصَارَى بَيْت الْمَقْدِس عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُمْ غَزَوْا بَنِي إِسْرَائِيل مَعَ بَعْض مُلُوكهمْ - قِيلَ : اِسْمه نطوس بْن اسبيسانوس الرُّومِيّ فِيمَا ذَكَرَ الْغَزْنَوِيّ - فَقَتَلُوا وَسَبَوْا , وَحَرَّقُوا التَّوْرَاة , وَقَذَفُوا فِي بَيْت الْمَقْدِس الْعَذِرَة وَخَرَّبُوهُ . وَيَكُون مَجَازًا كَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْلِمِينَ حِين صَدُّوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام , وَعَلَى الْجُمْلَة فَتَعْطِيل الْمَسَاجِد عَنْ الصَّلَاة وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام فِيهَا خَرَاب لَهَا .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوز مَنْع الْمَرْأَة مِنْ الْحَجّ إِذَا كَانَتْ صَرُورَة , سَوَاء كَانَ لَهَا مَحْرَم أَوْ لَمْ يَكُنْ , وَلَا تُمْنَع أَيْضًا مِنْ الصَّلَاة فِي الْمَسَاجِد مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا الْفِتْنَة , وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَمْنَعُوا إِمَاء اللَّه مَسَاجِد اللَّه ) وَلِذَلِكَ قُلْنَا : لَا يَجُوز نَقْض الْمَسْجِد وَلَا بَيْعه وَلَا تَعْطِيله وَإِنْ خَرِبَتْ الْمَحَلَّة , وَلَا يُمْنَع بِنَاء الْمَسَاجِد إِلَّا أَنْ يَقْصِدُوا الشِّقَاق وَالْخِلَاف , بِأَنْ يَبْنُوا مَسْجِدًا إِلَى جَنْب مَسْجِد أَوْ قُرْبه , يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَفْرِيق أَهْل الْمَسْجِد الْأَوَّل وَخَرَابه وَاخْتِلَاف الْكَلِمَة , فَإِنَّ الْمَسْجِد الثَّانِي يُنْقَض وَيُمْنَع مِنْ بُنْيَانه , وَلِذَلِكَ قُلْنَا : لَا يَجُوز أَنْ يَكُون فِي الْمِصْر جَامِعَانِ , وَلَا لِمَسْجِدٍ وَاحِد إِمَامَانِ , وَلَا يُصَلِّي فِي مَسْجِد جَمَاعَتَانِ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا كُلّه مَزِيد بَيَان فِي سُورَة " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَفِي " النُّور " حُكْم الْمَسَاجِد وَبِنَائِهَا بِحَوْلِ اللَّه تَعَالَى . وَدَلَّتْ الْآيَة أَيْضًا عَلَى تَعْظِيم أَمْر الصَّلَاة , وَأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْضَل الْأَعْمَال وَأَعْظَمهَا أَجْرًا كَانَ مَنْعهَا أَعْظَم إِثْمًا .

كُلّ مَوْضِع يُمْكِن أَنْ يُعْبَد اللَّه فِيهِ وَيُسْجَد لَهُ يُسَمَّى مَسْجِدًا , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( جُعِلَتْ لِي الْأَرْض مَسْجِدًا وَطَهُورًا ) , أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْبُقْعَة إِذَا عُيِّنَتْ لِلصَّلَاةِ بِالْقَوْلِ خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَة الْأَمْلَاك الْمُخْتَصَّة بِرَبِّهَا وَصَارَتْ عَامَّة لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , فَلَوْ بَنَى رَجُل فِي دَاره مَسْجِدًا وَحَجَزَهُ عَلَى النَّاس وَاخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ لَبَقِيَ عَلَى مِلْكه وَلَمْ يَخْرُج إِلَى حَدّ الْمَسْجِدِيَّة , وَلَوْ أَبَاحَهُ لِلنَّاسِ كُلّهمْ كَانَ حُكْمه حُكْم سَائِر الْمَسَاجِد الْعَامَّة , وَخَرَجَ عَنْ اِخْتِصَاص الْأَمْلَاك .


أُولَئِكَ مُبْتَدَأ وَمَا بَعْده خَبَره . " خَائِفِينَ " حَال , يَعْنِي إِذَا اِسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَحَصَلَتْ تَحْت سُلْطَانهمْ فَلَا يَتَمَكَّن الْكَافِر حِينَئِذٍ مِنْ دُخُولهَا . فَإِنْ دَخَلُوهَا , فَعَلَى خَوْف مِنْ إِخْرَاج الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ , وَتَأْدِيبهمْ عَلَى دُخُولهَا . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكَافِر لَيْسَ لَهُ دُخُول الْمَسْجِد بِحَالٍ , عَلَى مَا يَأْتِي فِي " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَمَنْ جَعَلَ الْآيَة فِي النَّصَارَى رَوَى أَنَّهُ مَرَّ زَمَان بَعْد بِنَاء عُمَر بَيْت الْمَقْدِس فِي الْإِسْلَام لَا يَدْخُلهُ نَصْرَانِيّ إِلَّا أُوجِعَ ضَرْبًا بَعْد أَنْ كَانَ مُتَعَبَّدهمْ . وَمَنْ جَعَلَهَا فِي قُرَيْش قَالَ : كَذَلِكَ نُودِيَ بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا لَا يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك , وَلَا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان ) . وَقِيلَ : هُوَ خَبَر وَمَقْصُوده الْأَمْر , أَيْ جَاهِدُوهُمْ وَاسْتَأْصِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُل أَحَد مِنْهُمْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَّا خَائِفًا , كَقَوْلِهِ : " وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه " [ الْأَحْزَاب . 53 ] فَإِنَّهُ نَهْي وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَبَر .


قِيلَ الْقَتْل لِلْحَرْبِيِّ , وَالْجِزْيَة لِلذِّمِّيِّ , عَنْ قَتَادَة . السُّدِّيّ : الْخِزْي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قِيَام الْمَهْدِيّ , وَفَتْح عَمُّورِيَّة وَرُومِيَّة وَقُسْطَنْطِينِيَّة , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ مُدُنهمْ , عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة . وَمَنْ جَعَلَهَا فِي قُرَيْش جَعَلَ الْخِزْي عَلَيْهِمْ فِي الْفَتْح , وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة لِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا .

" الْمَشْرِق " مَوْضِع الشُّرُوق . " وَالْمَغْرِب " مَوْضِع الْغُرُوب , أَيْ هُمَا لَهُ مِلْك وَمَا بَيْنهمَا مِنْ الْجِهَات وَالْمَخْلُوقَات بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع , كَمَا تَقَدَّمَ . وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَالْإِضَافَة إِلَيْهِ تَشْرِيفًا , نَحْو بَيْت اللَّه , وَنَاقَة اللَّه , وَلِأَنَّ سَبَب الْآيَة اِقْتَضَى ذَلِكَ , عَلَى مَا يَأْتِي
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 115
" الْمَشْرِق " مَوْضِع الشُّرُوق . " وَالْمَغْرِب " مَوْضِع الْغُرُوب , أَيْ هُمَا لَهُ مِلْك وَمَا بَيْنهمَا مِنْ الْجِهَات وَالْمَخْلُوقَات بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع , كَمَا تَقَدَّمَ . وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَالْإِضَافَة إِلَيْهِ تَشْرِيفًا , نَحْو بَيْت اللَّه , وَنَاقَة اللَّه , وَلِأَنَّ سَبَب الْآيَة اِقْتَضَى ذَلِكَ , عَلَى مَا يَأْتِي

قَالَ اِبْن زَيْد : كَانَتْ الْيَهُود قَدْ اِسْتَحْسَنَتْ صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَقَالُوا : مَا اِهْتَدَى إِلَّا بِنَا , فَلَمَّا حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَة قَالَتْ الْيَهُود : مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتهمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا , فَنَزَلَتْ : " وَلِلَّهِ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب " فَوَجْه النَّظْم عَلَى هَذَا الْقَوْل : أَنَّ الْيَهُود لَمَّا أَنْكَرُوا أَمْر الْقِبْلَة بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَبَّد عِبَاده بِمَا شَاءَ , فَإِنْ شَاءَ أَمَرَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَإِنْ شَاءَ أَمَرَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَة , فِعْل لَا حُجَّة عَلَيْهِ وَلَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ .

" فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا " شَرْط , وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ النُّون , و " أَيْنَ " الْعَامِلَة , و " مَا " زَائِدَة , وَالْجَوَاب " فَثَمَّ وَجْه اللَّه " . وَقَرَأَ الْحَسَن " تَوَلَّوْا " بِفَتْحِ التَّاء وَاللَّام , وَالْأَصْل تَتَوَلَّوْا . و " ثَمَّ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الظَّرْف , وَمَعْنَاهَا الْبُعْد , إِلَّا أَنَّهَا مَبْنِيَّة عَلَى الْفَتْح غَيْر مُعْرَبَة لِأَنَّهَا مُبْهَمَة , تَكُون بِمَنْزِلَةِ هُنَاكَ لِلْبُعْدِ , فَإِنْ أَرَدْت الْقُرْب قُلْت هُنَا .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا " عَلَى خَمْسَة أَقْوَال : فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَامِر بْن رَبِيعَة : نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى إِلَى غَيْر الْقِبْلَة فِي لَيْلَة مُظْلِمَة , أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَر فِي لَيْلَة مُظْلِمَة فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَة , فَصَلَّى كُلّ رَجُل مِنَّا عَلَى حِيَاله , فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه " . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ , لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ حَدِيث أَشْعَث السَّمَّان , وَأَشْعَث بْن سَعِيد أَبُو الرَّبِيع يُضَعَّف فِي الْحَدِيث . وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم إِلَى هَذَا , قَالُوا : إِذَا صَلَّى فِي الْغَيْم لِغَيْرِ الْقِبْلَة ثُمَّ اِسْتَبَانَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَة فَإِنَّ صَلَاته جَائِزَة , وَبِهِ يَقُول سُفْيَان وَابْن الْمُبَارَك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق .

قُلْت : وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَمَالِك , غَيْر أَنَّ مَالِكًا قَالَ : تُسْتَحَبّ لَهُ الْإِعَادَة فِي الْوَقْت , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضه عَلَى مَا أُمِرَ , وَالْكَمَال يُسْتَدْرَك فِي الْوَقْت , اِسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ فِيمَنْ صَلَّى وَحْده ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاة فِي وَقْتهَا فِي جَمَاعَة أَنَّهُ يُعِيد مَعَهُمْ , وَلَا يُعِيد فِي الْوَقْت اِسْتِحْبَابًا إِلَّا مَنْ اِسْتَدْبَرَ الْقِبْلَة أَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ جِدًّا مُجْتَهِدًا , وَأَمَّا مَنْ تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ قَلِيلًا مُجْتَهِدًا فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ فِي وَقْت وَلَا غَيْره . وَقَالَ الْمُغِيرَة وَالشَّافِعِيّ : لَا يَجْزِيه ; لِأَنَّ الْقِبْلَة شَرْط مِنْ شُرُوط الصَّلَاة . وَمَا قَالَهُ مَالِك أَصَحّ ; لِأَنَّ جِهَة الْقِبْلَة تُبِيح الضَّرُورَة تَرْكهَا فِي الْمُسَايَفَة , وَتُبِيحهَا أَيْضًا الرُّخْصَة حَالَة السَّفَر . وَقَالَ اِبْن عُمَر : نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِر يَتَنَفَّل حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَته . أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْهُ , قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِل مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجْهه , قَالَ : وَفِيهِ نَزَلَتْ " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه " . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي جَوَاز النَّافِلَة عَلَى الرَّاحِلَة لِهَذَا الْحَدِيث وَمَا كَانَ مِثْله . وَلَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَدَع الْقِبْلَة عَامِدًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه إِلَّا فِي شِدَّة الْخَوْف , عَلَى مَا يَأْتِي . وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي الْمَرِيض يُصَلِّي عَلَى مَحْمَله , فَمَرَّة قَالَ : لَا يُصَلِّي عَلَى ظَهْر الْبَعِير فَرِيضَة وَإِنْ اِشْتَدَّ مَرَضه . قَالَ سَحْنُون : فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ , حَكَاهُ الْبَاجِيّ . وَمَرَّة قَالَ : إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُصَلِّي بِالْأَرْضِ إِلَّا إِيمَاء فَلْيُصَلِّ عَلَى الْبَعِير بَعْد أَنْ يُوقَف لَهُ وَيَسْتَقْبِل الْقِبْلَة وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لِأَحَدٍ صَحِيح أَنْ يُصَلِّي فَرِيضَة إِلَّا بِالْأَرْضِ إِلَّا فِي الْخَوْف الشَّدِيد خَاصَّة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي الْمُسَافِر سَفَرًا لَا تُقْصَر فِي مِثْله الصَّلَاة , فَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ : لَا يُتَطَوَّع عَلَى الرَّاحِلَة إِلَّا فِي سَفَر تُقْصَر فِي مِثْله الصَّلَاة , قَالُوا : لِأَنَّ الْأَسْفَار الَّتِي حُكِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَوَّع فِيهَا كَانَتْ مِمَّا تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَالْحَسَن بْن حَيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد وَدَاوُد بْن عَلِيّ : يَجُوز التَّطَوُّع عَلَى الرَّاحِلَة خَارِج الْمِصْر فِي كُلّ سَفَر , وَسَوَاء كَانَ مِمَّا تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة أَوْ لَا ; لِأَنَّ الْآثَار لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيص سَفَر مِنْ سَفَر , فَكُلّ سَفَر جَائِز ذَلِكَ فِيهِ , إِلَّا أَنْ يُخَصّ شَيْء مِنْ الْأَسْفَار بِمَا يَجِب التَّسْلِيم لَهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : يُصَلِّي فِي الْمِصْر عَلَى الدَّابَّة بِالْإِيمَاءِ , لِحَدِيثِ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حِمَار فِي أَزِقَّة الْمَدِينَة يُومِئ إِيمَاء . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : يَجُوز لِكُلِّ رَاكِب وَمَاشٍ حَاضِرًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا أَنْ يَتَنَفَّل عَلَى دَابَّته وَرَاحِلَته وَعَلَى رِجْلَيْهِ [ بِالْإِيمَاءِ ] . وَحُكِيَ عَنْ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ أَنَّ مَذْهَبهمْ جَوَاز التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّة فِي الْحَضَر وَالسَّفَر . وَقَالَ الْأَثْرَم : قِيلَ لِأَحْمَد بْن حَنْبَل الصَّلَاة عَلَى الدَّابَّة فِي الْحَضَر , فَقَالَ : أَمَّا فِي السَّفَر فَقَدْ سَمِعْت , وَمَا سَمِعْت فِي الْحَضَر . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : مَنْ تَنَفَّلَ فِي مَحْمَله تَنَفَّلَ جَالِسًا , قِيَامه تَرَبُّع , يَرْكَع وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَرْفَع رَأْسه . وَقَالَ قَتَادَة : نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ دَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ خَارِج الْمَدِينَة , فَقَالُوا : كَيْف نُصَلِّي عَلَى رَجُل مَاتَ ؟ وَهُوَ يُصَلِّي لِغَيْرِ قِبْلَتنَا , وَكَانَ النَّجَاشِيّ مَلِك الْحَبَشَة - وَاسْمه أَصْحَمَة وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّة - يُصَلِّي إِلَى بَيْت الْمَقْدِس حَتَّى مَاتَ , وَقَدْ صُرِفَتْ الْقِبْلَة إِلَى الْكَعْبَة فَنَزَلَتْ الْآيَة , وَنَزَلَ فِيهِ : " وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ " [ آل عِمْرَان : 199 ] فَكَانَ هَذَا عُذْرًا لِلنَّجَاشِيّ , وَكَانَتْ صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ أَجَازَ الصَّلَاة عَلَى الْغَائِب , وَهُوَ الشَّافِعِيّ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمِنْ أَغْرَب مَسَائِل الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت مَا قَالَ الشَّافِعِيّ : يُصَلَّى عَلَى الْغَائِب , وَقَدْ كُنْت بِبَغْدَاد فِي مَجْلِس الْإِمَام فَخْر الْإِسْلَام فَيَدْخُل عَلَيْهِ الرَّجُل مِنْ خُرَاسَان فَيَقُول لَهُ : كَيْف حَال فُلَان ؟ فَيَقُول لَهُ : مَاتَ , فَيَقُول : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ! ثُمَّ يَقُول لَنَا : قُومُوا فَلْأُصَلِّ لَكُمْ , فَيَقُوم فَيُصَلِّي عَلَيْهِ بِنَا , وَذَلِكَ بَعْد سِتَّة أَشْهُر مِنْ الْمُدَّة , وَبَيْنه وَبَيْن بَلَده سِتَّة أَشْهَر . وَالْأَصْل عِنْدهمْ فِي ذَلِكَ صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّجَاشِيّ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَخْصُوص لِثَلَاثَةِ أَوْجُه :

أَحَدهَا : أَنَّ الْأَرْض دُحِيَتْ لَهُ جَنُوبًا وَشَمَالًا حَتَّى رَأَى نَعْش النَّجَاشِيّ , كَمَا دُحِيَتْ لَهُ شَمَالًا وَجَنُوبًا حَتَّى رَأَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى . وَقَالَ الْمُخَالِف : وَأَيّ فَائِدَة فِي رُؤْيَته , وَإِنَّمَا الْفَائِدَة فِي لُحُوق بَرَكَته .

الثَّانِي : أَنَّ النَّجَاشِيّ لَمْ يَكُنْ لَهُ هُنَاكَ وَلِيّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَقُوم بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ . قَالَ الْمُخَالِف : هَذَا مُحَال عَادَة مَلِك عَلَى دِين لَا يَكُون لَهُ أَتْبَاع , وَالتَّأْوِيل بِالْمُحَالِ مُحَال .

الثَّالِث : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيّ إِدْخَال الرَّحْمَة عَلَيْهِ وَاسْتِئْلَاف بَقِيَّة الْمُلُوك بَعْده إِذَا رَأَوْا الِاهْتِمَام بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا . قَالَ الْمُخَالِف : بَرَكَة الدُّعَاء مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سِوَاهُ تَلْحَق الْمَيِّت بِاتِّفَاقٍ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّجَاشِيّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاشِيّ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ لَيْسَ عِنْدهمْ مِنْ سُنَّة الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت أَثَر , فَعُلِمَ أَنَّهُمْ سَيَدْفِنُونَهُ بِغَيْرِ صَلَاة فَبَادَرَ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ .

قُلْت : وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَحْسَن ; لِأَنَّهُ إِذَا رَآهُ فَمَا صَلَّى عَلَى غَائِب وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَى مَرْئِيّ حَاضِر , وَالْغَائِب مَا لَا يُرَى . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

أَنَّ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ : " وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهكُمْ شَطْره " [ الْبَقَرَة : 144 ] ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس , فَكَأَنَّهُ كَانَ يُجَوِّز فِي الِابْتِدَاء أَنْ يُصَلِّي الْمَرْء كَيْف شَاءَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ . وَقَالَ قَتَادَة : النَّاسِخ قَوْله تَعَالَى : " فَوَلِّ وَجْهك شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام " [ الْبَقَرَة : 144 ] أَيْ تِلْقَاءَهُ , حَكَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ .

رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك أَنَّهَا مُحْكَمَة , الْمَعْنَى : أَيْنَمَا كُنْتُمْ مِنْ شَرْق وَغَرْب فَثَمَّ وَجْه اللَّه الَّذِي أَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِهِ وَهُوَ الْكَعْبَة . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا وَابْن جُبَيْر لَمَّا نَزَلَتْ : " اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " قَالُوا : إِلَى أَيْنَ ؟ فَنَزَلَتْ : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه " . وَعَنْ اِبْن عُمَر وَالنَّخَعِيّ : أَيْنَمَا تُوَلُّوا فِي أَسْفَاركُمْ وَمُنْصَرِفَاتكُمْ فَثَمَّ وَجْه اللَّه . وَقِيلَ : هِيَ مُتَّصِلَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ يُذْكَر فِيهَا اِسْمه " [ الْبَقَرَة : 114 ] الْآيَة , فَالْمَعْنَى أَنَّ بِلَاد اللَّه أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ تَسَعكُمْ , فَلَا يَمْنَعكُمْ تَخْرِيب مَنْ خَرَّبَ مَسَاجِد اللَّه أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهكُمْ نَحْو قِبْلَة اللَّه أَيْنَمَا كُنْتُمْ مِنْ أَرْضه . وَقِيلَ : نَزَلَتْ حِين صُدَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَيْت عَام الْحُدَيْبِيَة فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ . فَهَذِهِ عَشَرَة أَقْوَال . وَمَنْ جَعَلَهَا مَنْسُوخَة فَلَا اِعْتِرَاض عَلَيْهِ مِنْ جِهَة كَوْنهَا خَبَرًا ; لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَة لِمَعْنَى الْأَمْر . يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَعْنَى " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه " : وَلُّوا وُجُوهكُمْ نَحْو وَجْه اللَّه , وَهَذِهِ الْآيَة هِيَ الَّتِي تَلَا سَعِيد بْن جُبَيْر رَحِمَهُ اللَّه لَمَّا أَمَرَ الْحَجَّاج بِذَبْحِهِ إِلَى الْأَرْض .

اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل الْوَجْه الْمُضَاف إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة , فَقَالَ الْحُذَّاق : ذَلِكَ رَاجِع إِلَى الْوُجُود , وَالْعِبَارَة عَنْهُ بِالْوَجْهِ مِنْ مَجَاز الْكَلَام , إِذْ كَانَ الْوَجْه أَظْهَر الْأَعْضَاء فِي الشَّاهِد وَأَجَلّهَا قَدْرًا . وَقَالَ اِبْن فَوْرك : قَدْ تُذْكَر صِفَة الشَّيْء وَالْمُرَاد بِهَا الْمَوْصُوف تَوَسُّعًا , كَمَا يَقُول الْقَائِل : رَأَيْت عِلْم فُلَان الْيَوْم , وَنَظَرْت إِلَى عِلْمه , وَإِنَّمَا يُرِيد بِذَلِكَ رَأَيْت الْعَالِم وَنَظَرْت إِلَى الْعَالِم , كَذَلِكَ إِذَا ذُكِرَ الْوَجْه هُنَا , وَالْمُرَاد مَنْ لَهُ الْوَجْه , أَيْ الْوُجُود . وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّل قَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا نُطْعِمكُمْ لِوَجْهِ اللَّه " [ الْإِنْسَان : 9 ] لِأَنَّ الْمُرَاد بِهِ : لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْوَجْه , وَكَذَلِكَ قَوْله : " إِلَّا اِبْتِغَاء وَجْه رَبّه الْأَعْلَى " [ اللَّيْل : 20 ] أَيْ الَّذِي لَهُ الْوَجْه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْوَجْه عِبَارَة عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ , كَمَا قَالَ : " وَيَبْقَى وَجْه رَبّك ذُو الْجَلَال وَالْإِكْرَام " [ الرَّحْمَن : 27 ] . وَقَالَ بَعْض الْأَئِمَّة : تِلْكَ صِفَة ثَابِتَة بِالسَّمْعِ زَائِدَة عَلَى مَا تُوجِبهُ الْعُقُول مِنْ صِفَات الْقَدِيم تَعَالَى . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَضَعَّفَ أَبُو الْمَعَالِي هَذَا الْقَوْل , وَهُوَ كَذَلِكَ ضَعِيف , وَإِنَّمَا الْمُرَاد وُجُوده . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْوَجْهِ هُنَا الْجِهَة الَّتِي وُجِّهْنَا إِلَيْهَا أَيْ الْقِبْلَة . وَقِيلَ : الْوَجْه الْقَصْد , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : أَسْتَغْفِر اللَّه ذَنْبًا لَسْت مُحْصِيه رَبّ الْعِبَاد إِلَيْهِ الْوَجْه وَالْعَمَل وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَثَمَّ رِضَا اللَّه وَثَوَابه , كَمَا قَالَ : " إِنَّمَا نُطْعِمكُمْ لِوَجْهِ اللَّه " [ الْإِنْسَان : 9 ] أَيْ لِرِضَائِهِ وَطَلَب ثَوَابه , وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْه اللَّه بَنَى اللَّه لَهُ مِثْله فِي الْجَنَّة ) . وَقَوْله : ( يُجَاء يَوْم الْقِيَامَة بِصُحُفٍ مُخْتَمَة فَتُنْصَب بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى فَيَقُول عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُول الْمَلَائِكَة وَعِزَّتك يَا رَبّنَا مَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا وَهُوَ أَعْلَم فَيَقُول إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي وَلَا أَقْبَل مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي ) أَيْ خَالِصًا لِي , خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَقِيلَ : الْمُرَاد فَثَمَّ اللَّه , وَ
الْوَجْه صِلَة , وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " وَهُوَ مَعَكُمْ " . قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَالْقُتَبِيّ , وَنَحْوه قَوْل الْمُعْتَزِلَة .


أَيْ يُوَسِّع عَلَى عِبَاده فِي دِينهمْ , وَلَا يُكَلِّفهُمْ مَا لَيْسَ فِي وُسْعهمْ . وَقِيلَ : " وَاسِع " بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسَع عِلْمه كُلّ شَيْء , كَمَا قَالَ : " وَسِعَ كُلّ شَيْء عِلْمًا " [ طَه : 98 ] . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْوَاسِع هُوَ الْجَوَاد الَّذِي يَسَع عَطَاؤُهُ كُلّ شَيْء , دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء " [ الْأَعْرَاف : 156 ] . وَقِيلَ : وَاسِع الْمَغْفِرَة أَيْ لَا يَتَعَاظَمهُ ذَنْب . وَقِيلَ : مُتَفَضِّل عَلَى الْعِبَاد وَغَنِيّ عَنْ أَعْمَالهمْ , يُقَال : فُلَان يَسَع مَا يُسْأَل , أَيْ لَا يَبْخَل , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لِيُنْفِق ذُو سَعَة مِنْ سَعَته " [ الطَّلَاق : 7 ] أَيْ لِيُنْفِق الْغَنِيّ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّه . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي الْكِتَاب " الْأَسْنَى " وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَسورة البقرة الآية رقم 116
هَذَا إِخْبَار عَنْ النَّصَارَى فِي قَوْلهمْ : الْمَسِيح اِبْن اللَّه . وَقِيلَ عَنْ الْيَهُود فِي قَوْلهمْ : عُزَيْر اِبْن اللَّه . وَقِيلَ عَنْ كَفَرَة الْعَرَب فِي قَوْلهمْ : الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه .

لَا يَكُون الْوَلَد إِلَّا مِنْ جِنْس الْوَالِد , فَكَيْف يَكُون لِلْحَقِّ سُبْحَانه أَنْ يَتَّخِذ وَلَدًا مِنْ مَخْلُوقَاته وَهُوَ لَا يُشْبِههُ شَيْء , وَقَدْ قَالَ : " إِنْ كُلّ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عَبْدًا " [ مَرْيَم : 93 ] , كَمَا قَالَ هُنَا : " بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض " فَالْوَلَدِيَّة تَقْتَضِي الْجِنْسِيَّة وَالْحُدُوث , وَالْقِدَم يَقْتَضِي الْوَحْدَانِيَّة وَالثُّبُوت , فَهُوَ سُبْحَانه الْقَدِيم الْأَزَلِيّ الْوَاحِد الْأَحَد , الْفَرْد الصَّمَد , الَّذِي لَمْ يَلِد وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد . ثُمَّ إِنَّ الْبُنُوَّة تُنَافِي الرِّقّ وَالْعُبُودِيَّة . - عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " مَرْيَم " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى - فَكَيْف يَكُون وَلَدَ عَبْدًا هَذَا مُحَال , وَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَال مُحَال . وَقَدْ جَاءَ مِثْل هَذِهِ الْأَخْبَار عَنْ الْجَهَلَة الْكُفَّار فِي [ مَرْيَم ] /و [ الْأَنْبِيَاء ] .

خَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَالَ اللَّه تَعَالَى كَذَّبَنِي اِبْن آدَم وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبه إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِر أَنْ أُعِيدهُ كَمَا كَانَ وَأَمَّا شَتْمه إِيَّايَ فَقَوْله لِي وَلَد فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذ صَاحِبَة أَوْ وَلَدًا " .

" سُبْحَان " مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر , وَمَعْنَاهُ التَّبْرِئَة وَالتَّنْزِيه وَالْمُحَاشَاة , مِنْ قَوْلهمْ : اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا , بَلْ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَاحِد فِي ذَاته , أَحَد فِي صِفَاته , لَمْ يَلِد فَيَحْتَاج إِلَى صَاحِبَة , " أَنَّى يَكُون لَهُ وَلَد وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَة وَخَلَقَ كُلّ شَيْء " [ الْأَنْعَام : 101 ] وَلَمْ يُولَد فَيَكُون مَسْبُوقًا , جَلَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .


" مَا " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر فِي الْمَجْرُور , أَيْ كُلّ ذَلِكَ لَهُ مِلْك بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع . وَالْقَائِل بِأَنَّهُ اِتَّخَذَ وَلَدًا دَاخِل فِي جُمْلَة السَّمَاوَات وَالْأَرْض . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى سُبْحَان اللَّه : بَرَاءَة اللَّه مِنْ السُّوء .


اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَالتَّقْدِير كُلّهمْ , ثُمَّ حُذِفَ الْهَاء وَالْمِيم . " قَانِتُونَ " أَيْ مُطِيعُونَ وَخَاضِعُونَ , فَالْمَخْلُوقَات كُلّهَا تَقْنُت لِلَّهِ , أَيْ تَخْضَع وَتُطِيع . وَالْجَمَادَات قُنُوتهمْ فِي ظُهُور الصَّنْعَة عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ . فَالْقُنُوت الطَّاعَة , وَالْقُنُوت السُّكُوت , وَمِنْهُ قَوْل زَيْد بْن أَرْقَم : كُنَّا نَتَكَلَّم فِي الصَّلَاة , يُكَلِّم الرَّجُل صَاحِبه إِلَى جَنْبه حَتَّى نَزَلَتْ : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " [ الْبَقَرَة : 238 ] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَام . وَالْقُنُوت : الصَّلَاة , قَالَ الشَّاعِر : قَانِتًا لِلَّهِ يَتْلُو كُتُبه وَعَلَى عَمْد مِنْ النَّاس اِعْتَزَلَ وَقَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره فِي قَوْله : " كُلّ لَهُ قَانِتُونَ " أَيْ يَوْم الْقِيَامَة . الْحَسَن : كُلّ قَائِم بِالشَّهَادَةِ أَنَّهُ عَبْده . وَالْقُنُوت فِي اللُّغَة أَصْله الْقِيَام , وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( أَفْضَل الصَّلَاة طُول الْقُنُوت ) قَالَهُ الزَّجَّاج . فَالْخَلْق قَانِتُونَ , أَيْ قَائِمُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ إِمَّا إِقْرَارًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِلَاف ذَلِكَ , فَأَثَر الصَّنْعَة بَيِّن عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : أَصْله الطَّاعَة , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَات " [ الْأَحْزَاب : 35 ] . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " [ الْبَقَرَة : 238 ] .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُسورة البقرة الآية رقم 117
فَعِيل لِلْمُبَالَغَةِ , وَارْتَفَعَ عَلَى خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف , وَاسْم الْفَاعِل مُبْدِع , كَبَصِيرِ مِنْ مُبْصِر . أَبْدَعْت الشَّيْء لَا عَنْ مِثَال , فَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ بَدِيع السَّمَاوَات وَالْأَرْض , أَيْ مُنْشِئُهَا وَمُوجِدهَا وَمُبْدِعهَا وَمُخْتَرِعهَا عَلَى غَيْر حَدّ وَلَا مِثَال . وَكُلّ مَنْ أَنْشَأَ مَا لَمْ يُسْبَق إِلَيْهِ قِيلَ لَهُ مُبْدِع , وَمِنْهُ أَصْحَاب الْبِدَع . وَسُمِّيَتْ الْبِدْعَة بِدْعَة لِأَنَّ قَائِلهَا اِبْتَدَعَهَا مِنْ غَيْر فِعْل أَوْ مَقَال إِمَام , وَفِي الْبُخَارِيّ ( وَنِعْمَتْ الْبِدْعَة هَذِهِ ) يَعْنِي قِيَام رَمَضَان .

كُلّ بِدْعَة صَدَرَتْ مِنْ مَخْلُوق فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون لَهَا أَصْل فِي الشَّرْع أَوَّلًا , فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْل كَانَتْ وَاقِعَة تَحْت عُمُوم مَا نَدَبَ اللَّه إِلَيْهِ وَخَصَّ رَسُوله عَلَيْهِ , فَهِيَ فِي حَيِّز الْمَدْح . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثَاله مَوْجُودًا كَنَوْعٍ مِنْ الْجُود وَالسَّخَاء وَفِعْل الْمَعْرُوف , فَهَذَا فِعْله مِنْ الْأَفْعَال الْمَحْمُودَة , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفَاعِل قَدْ سُبِقَ إِلَيْهِ . وَيَعْضُد هَذَا قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : نِعْمَتْ الْبِدْعَة هَذِهِ , لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَفْعَال الْخَيْر وَدَاخِلَة فِي حَيِّز الْمَدْح , وَهِيَ وَإِنْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّاهَا إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَهَا وَلَمْ يُحَافِظ عَلَيْهَا , وَلَا جَمَعَ النَّاس عَلَيْهَا , فَمُحَافَظَة عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَيْهَا , وَجَمْع النَّاس لَهَا , وَنَدْبهمْ إِلَيْهَا , بِدْعَة لَكِنَّهَا بِدْعَة مَحْمُودَة مَمْدُوحَة . وَإِنْ كَانَتْ فِي خِلَاف مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ وَرَسُوله فَهِيَ فِي حَيِّز الذَّمّ وَالْإِنْكَار , قَالَ مَعْنَاهُ الْخَطَّابِيّ وَغَيْره .

قُلْت : وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَته : ( وَشَرّ الْأُمُور مُحْدَثَاتهَا وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة ) يُرِيد مَا لَمْ يُوَافِق كِتَابًا أَوْ سُنَّة , أَوْ عَمَل الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ : ( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة حَسَنَة كَانَ لَهُ أَجْرهَا وَأَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْده مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ أُجُورهمْ شَيْء وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وِزْرهَا وَوِزْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْده مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ أَوْزَارهمْ شَيْء ) . وَهَذَا إِشَارَة إِلَى مَا اُبْتُدِعَ مِنْ قَبِيح وَحَسَن , وَهُوَ أَصْل هَذَا الْبَاب , وَبِاَللَّهِ الْعِصْمَة وَالتَّوْفِيق , لَا رَبّ غَيْره .

أَيْ إِذَا أَرَادَ إِحْكَامه وَإِتْقَانه - كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمه - قَالَ لَهُ كُنْ . قَالَ اِبْن عَرَفَة : قَضَاء الشَّيْء إِحْكَامه وَإِمْضَاؤُهُ وَالْفَرَاغ مِنْهُ , وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَاضِي , لِإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ فَقَدْ فَرَغَ مِمَّا بَيْن الْخَصْمَيْنِ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : قَضَى فِي اللُّغَة عَلَى وُجُوه , مَرْجِعهَا إِلَى اِنْقِطَاع الشَّيْء وَتَمَامه , قَالَ أَبُو ذُؤَيْب : وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُد أَوْ صَنَع السَّوَابِغ تُبَّع وَقَالَ الشَّمَّاخ فِي عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : قَضَيْت أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْت بَعْدهَا بَوَائِق فِي أَكْمَامهَا لَمْ تُفَتَّق قَالَ عُلَمَاؤُنَا : " قَضَى " لَفْظ مُشْتَرَك , يَكُون بِمَعْنَى الْخَلْق , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَقَضَاهُنَّ سَبْع سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ " [ فُصِّلَتْ : 12 ] أَيْ خَلَقَهُنَّ . وَيَكُون بِمَعْنَى الْإِعْلَام , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل فِي الْكِتَاب " [ الْإِسْرَاء : 4 ] أَيْ أَعْلَمْنَا . وَيَكُون بِمَعْنَى الْأَمْر , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " [ الْإِسْرَاء : 23 ] . وَيَكُون بِمَعْنَى الْإِلْزَام وَإِمْضَاء الْأَحْكَام , وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَاكِم قَاضِيًا . وَيَكُون بِمَعْنَى تَوْفِيَة الْحَقّ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَل " [ الْقَصَص : 29 ] . وَيَكُون بِمَعْنَى الْإِرَادَة , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون " [ غَافِر : 68 ] أَيْ إِذَا أَرَادَ خَلْق شَيْء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : " قَضَى " مَعْنَاهُ قَدَّرَ , وَقَدْ يَجِيء بِمَعْنَى أَمْضَى , وَيُتَّجَه فِي هَذِهِ الْآيَة الْمَعْنَيَانِ عَلَى مَذْهَب أَهْل السُّنَّة قَدَّرَ فِي الْأَزَل وَأَمْضَى فِيهِ . وَعَلَى مَذْهَب الْمُعْتَزِلَة أَمْضَى عِنْد الْخَلْق وَالْإِيجَاد .

الْأَمْر وَاحِد الْأُمُور , وَلَيْسَ بِمَصْدَرِ أَمَرَ يَأْمُر . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْأَمْر فِي الْقُرْآن يَتَصَرَّف عَلَى أَرْبَعَة عَشَر وَجْهًا :

الْأَوَّل : الدِّين , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " حَتَّى جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْر اللَّه " [ التَّوْبَة : 48 ] يَعْنِي دِين اللَّه الْإِسْلَام . الثَّانِي : الْقَوْل , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا جَاءَ أَمْرنَا " يَعْنِي قَوْلنَا , وَقَوْله : " فَتَنَازَعُوا أَمْرهمْ بَيْنهمْ " [ طَه : 62 ] يَعْنِي قَوْلهمْ .

الثَّالِث : الْعَذَاب , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " لَمَّا قُضِيَ الْأَمْر " [ إِبْرَاهِيم : 22 ] يَعْنِي لَمَّا وَجَبَ الْعَذَاب بِأَهْلِ النَّار .

الرَّابِع : عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِذَا قَضَى أَمْرًا " [ آل عِمْرَان : 47 ] يَعْنِي عِيسَى , وَكَانَ فِي عِلْمه أَنْ يَكُون مِنْ غَيْر أَب .

الْخَامِس : الْقَتْل بِبَدْرٍ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَإِذَا جَاءَ أَمْر اللَّه " [ غَافِر : 78 ] يَعْنِي الْقَتْل بِبَدْرٍ , وَقَوْله تَعَالَى : " لِيَقْضِيَ اللَّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا " [ الْأَنْفَال : 42 ] يَعْنِي قَتْل كُفَّار مَكَّة .

السَّادِس : فَتْح مَكَّة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ " [ التَّوْبَة : 24 ] يَعْنِي فَتْح مَكَّة .

السَّابِع : قَتْل قُرَيْظَة وَجَلَاء بَنِي النَّضِير , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ " [ الْبَقَرَة : 109 ] .

الثَّامِن : الْقِيَامَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَتَى أَمْر اللَّه " [ النَّحْل : 1 ] .

التَّاسِع : الْقَضَاء , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يُدَبِّر الْأَمْر " [ يُونُس : 3 ] يَعْنِي الْقَضَاء .

الْعَاشِر : الْوَحْي , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يُدَبِّر الْأَمْر مِنْ السَّمَاء إِلَى الْأَرْض " [ السَّجْدَة : 5 ] يَقُول : يَنْزِل الْوَحْي مِنْ السَّمَاء إِلَى الْأَرْض , وَقَوْله : " يَتَنَزَّل الْأَمْر بَيْنهنَّ " [ الطَّلَاق : 12 ] يَعْنِي الْوَحْي .

الْحَادِي عَشَر : أَمْر الْخَلْق , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَلَا إِلَى اللَّه تَصِير الْأُمُور " [ الشُّورَى : 53 ] يَعْنِي أُمُور الْخَلَائِق .

الثَّانِي عَشَر : النَّصْر , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْر مِنْ شَيْء " [ آل عِمْرَان : 154 ] يَعْنُونَ النَّصْر , " قُلْ إِنَّ الْأَمْر كُلّه لِلَّهِ " [ آل عِمْرَان : 154 ] يَعْنِي النَّصْر .

الثَّالِث عَشَر : الذَّنْب , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَذَاقَتْ وَبَال أَمْرهَا " [ الطَّلَاق : 9 ] يَعْنِي جَزَاء ذَنْبهَا .

الرَّابِع عَشَر : الشَّأْن وَالْفِعْل , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا أَمْر فِرْعَوْن بِرَشِيدٍ " [ هُود : 97 ] أَيْ فِعْله وَشَأْنه , وَقَالَ : " فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْره " [ النُّور : 63 ] أَيْ فِعْله .


قِيلَ : الْكَاف مِنْ كَيْنُونِهِ , وَالنُّون مِنْ نُوره , وَهِيَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّات مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ ) . وَيُرْوَى : ( بِكَلِمَةِ اللَّه التَّامَّة ) عَلَى الْإِفْرَاد . فَالْجَمْع لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَة فِي الْأُمُور كُلّهَا , فَإِذَا قَالَ لِكُلِّ أَمْر كُنْ , وَلِكُلِّ شَيْء كُنْ , فَهُنَّ كَلِمَات . يَدُلّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنْ اللَّه تَعَالَى : ( عَطَائِي كَلَام وَعَذَابِي كَلَام ) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث فِيهِ طُول . وَالْكَلِمَة عَلَى الْإِفْرَاد بِمَعْنَى الْكَلِمَات أَيْضًا , لَكِنْ لَمَّا تَفَرَّقَتْ الْكَلِمَة الْوَاحِدَة فِي الْأُمُور فِي الْأَوْقَات صَارَتْ كَلِمَات وَمَرْجِعهنَّ إِلَى كَلِمَة وَاحِدَة . وَإِنَّمَا قِيلَ " تَامَّة " لِأَنَّ أَقَلّ الْكَلَام عِنْد أَهْل اللُّغَة عَلَى ثَلَاثَة أَحْرُف : حَرْف مُبْتَدَأ , وَحَرْف تُحْشَى بِهِ الْكَلِمَة , وَحَرْف يُسْكَت عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَهُوَ عِنْدهمْ مَنْقُوص , كَيَدٍ وَدَم وَفَم , وَإِنَّمَا نَقَصَ لِعِلَّةٍ . فَهِيَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْمَنْقُوصَات لِأَنَّهَا عَلَى حَرْفَيْنِ , وَلِأَنَّهَا كَلِمَة مَلْفُوظَة بِالْأَدَوَاتِ . وَمِنْ رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَامَّة ; لِأَنَّهَا بِغَيْرِ الْأَدَوَات , تَعَالَى عَنْ شَبَه الْمَخْلُوقِينَ .

قُرِئَ بِرَفْعِ النُّون عَلَى الِاسْتِئْنَاف . قَالَ سِيبَوَيْهِ . فَهُوَ يَكُون , أَوْ فَإِنَّهُ يَكُون . وَقَالَ غَيْره : هُوَ مَعْطُوف عَلَى " يَقُول " , فَعَلَى الْأَوَّل كَائِنًا بَعْد الْأَمْر , وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُود إِذَا هُوَ عِنْده مَعْلُوم , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَعَلَى الثَّانِي كَائِنًا مَعَ الْأَمْر , وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ وَقَالَ : أَمْره لِلشَّيْءِ ب " كُنْ " لَا يَتَقَدَّم الْوُجُود وَلَا يَتَأَخَّر عَنْهُ , فَلَا يَكُون الشَّيْء مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَوْجُود بِالْأَمْرِ , وَلَا مَوْجُودًا إِلَّا وَهُوَ مَأْمُور بِالْوُجُودِ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . قَالَ : وَنَظِيره قِيَام النَّاس مِنْ قُبُورهمْ لَا يَتَقَدَّم دُعَاء اللَّه وَلَا يَتَأَخَّر عَنْهُ , كَمَا قَالَ " ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَة مِنْ الْأَرْض إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ " [ الرُّوم : 25 ] . وَضَعَّفَ اِبْن عَطِيَّة هَذَا الْقَوْل وَقَالَ : هُوَ خَطَأ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْل مَعَ التَّكْوِين وَالْوُجُود . وَتَلْخِيص الْمُعْتَقَد فِي هَذِهِ الْآيَة : أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِلْمَعْدُومَاتِ بِشَرْطِ وُجُودهَا , قَادِرًا مَعَ تَأَخُّر الْمَقْدُورَات , عَالِمًا مَعَ تَأَخُّر الْمَعْلُومَات . فَكُلّ مَا فِي الْآيَة يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَال فَهُوَ بِحَسَبِ الْمَأْمُورَات , إِذْ الْمُحْدَثَات تَجِيء بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ . وَكُلّ مَا يُسْنَد إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ قُدْرَة وَعِلْم فَهُوَ قَدِيم وَلَمْ يَزَلْ . وَالْمَعْنَى الَّذِي تَقْتَضِيه عِبَارَة " كُنْ " : هُوَ قَدِيم قَائِم بِالذَّاتِ . وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَاوَرْدِيّ فَإِنْ قِيلَ : فَفِي أَيّ حَال يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون ؟ أَفِي حَال عَدَمه , أَمْ فِي حَال وُجُوده ؟ فَإِنْ كَانَ فِي حَال عَدَمه اِسْتَحَالَ أَنْ يَأْمُر إِلَّا مَأْمُورًا , كَمَا يَسْتَحِيل أَنْ يَكُون الْأَمْر إِلَّا مِنْ آمِر , وَإِنْ كَانَ فِي حَال وُجُوده فَتِلْكَ حَال لَا يَجُوز أَنْ يَأْمُر فِيهَا بِالْوُجُودِ وَالْحُدُوث ; لِأَنَّهُ مَوْجُود حَادِث ؟ قِيلَ عَنْ هَذَا السُّؤَال أَجْوِبَة ثَلَاثَة :

أَحَدهَا : أَنَّهُ خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ نُفُوذ أَوَامِره فِي خَلْقه الْمَوْجُود , كَمَا أَمَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَكُونُوا قِرَدَة خَاسِئِينَ , وَلَا يَكُون هَذَا وَارِدًا فِي إِيجَاد الْمَعْدُومَات .

الثَّانِي : أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَالِم هُوَ كَائِن قَبْل كَوْنه , فَكَانَتْ الْأَشْيَاء الَّتِي لَمْ تَكُنْ وَهِيَ كَائِنَة بِعِلْمِهِ قَبْل كَوْنهَا مُشَابِهَة لِلَّتِي هِيَ مَوْجُودَة , فَجَازَ أَنْ يَقُول لَهَا : كُونِي . وَيَأْمُرهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَال الْعَدَم إِلَى حَال الْوُجُود , لِتَصَوُّرِ جَمِيعهَا لَهُ وَلِعِلْمِهِ بِهَا فِي حَال الْعَدَم .

الثَّالِث : أَنَّ ذَلِكَ خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى عَامّ عَنْ جَمِيع مَا يُحْدِثهُ وَيُكَوِّنهُ إِذَا أَرَادَ خَلْقه وَإِنْشَاءَهُ كَانَ , وَوُجِدَ مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون هُنَاكَ قَوْل يَقُولهُ , وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاء يُرِيدهُ , فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا , كَقَوْلِ أَبِي النَّجْم : قَدْ قَالَتْ الْأَنْسَاع لِلْبَطْنِ اِلْحَقِ وَلَا قَوْل هُنَاكَ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الظَّهْر قَدْ لَحِقَ بِالْبَطْنِ , وَكَقَوْلِ عَمْرو بْن حممة الدُّوسِيّ : فَأَصْبَحَتْ مِثْل النَّسْر طَارَتْ فِرَاخه إِذَا رَامَ تَطْيَارًا يُقَال لَهُ قَعِ وَكَمَا قَالَ الْآخَر : قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ اِلْحَقَا وَنَجِّيَا لَحْمكُمَا أَنْ يُمَزَّقَا
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَسورة البقرة الآية رقم 118
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الْيَهُود . مُجَاهِد : النَّصَارَى , وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيّ , لِأَنَّهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَة أَوَّلًا . وَقَالَ الرَّبِيع وَالسُّدِّيّ وقَتَادَة : مُشْرِكُو الْعَرَب . و " لَوْلَا " بِمَعْنَى " هَلَّا " تَحْضِيض , كَمَا قَالَ الْأَشْهَب بْن رُمَيْلَة : تَعُدُّونَ عَقْر النِّيْب أَفْضَل مَجْدكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيّ الْمُقَنَّعَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ " لَوْلَا " الَّتِي تُعْطِي مَنْع الشَّيْء لِوُجُودِ غَيْره , وَالْفَرْق بَيْنهمَا عِنْد عُلَمَاء اللِّسَان أَنَّ " لَوْلَا " بِمَعْنَى التَّحْضِيض لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْل مُظْهَرًا أَوْ مُقَدَّرًا , وَاَلَّتِي لِلِامْتِنَاعِ يَلِيهَا الِابْتِدَاء , وَجَرَتْ الْعَادَة بِحَذْفِ الْخَبَر . وَمَعْنَى الْكَلَام هَلَّا يُكَلِّمنَا اللَّه بِنُبُوَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعْلَم أَنَّهُ نَبِيّ فَنُؤْمِن بِهِ , أَوْ يَأْتِينَا بِآيَةٍ تَكُون عَلَامَة عَلَى نُبُوَّته . وَالْآيَة : الدَّلَالَة وَالْعَلَامَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ .


" الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ " الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي قَوْل مَنْ جَعَلَ " الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " كُفَّار الْعَرَب , أَوْ الْأُمَم السَّالِفَة فِي قَوْل مَنْ جَعَلَ " الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " الْيَهُود وَالنَّصَارَى , أَوْ الْيَهُود فِي قَوْل مَنْ جَعَلَ " الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " النَّصَارَى .


قِيلَ : فِي التَّعْنِيت وَالِاقْتِرَاح وَتَرْك الْإِيمَان . وَقَالَ الْفَرَّاء . " تَشَابَهَتْ قُلُوبهمْ " فِي اِتِّفَاقهمْ عَلَى الْكُفْر .


وَالْيَقِين : الْعِلْم دُون الشَّكّ , يُقَال مِنْهُ : يَقِنْت الْأَمْر ( بِالْكَسْرِ ) يَقْنًا , وَأَيْقَنْت وَاسْتَيْقَنْت وَتَيَقَّنْت كُلّه بِمَعْنًى , وَأَنَا عَلَى يَقِين مِنْهُ . وَإِنَّمَا صَارَتْ الْيَاء وَاوًا فِي قَوْلك : مُوقِن , لِلضَّمَّةِ قَبْلهَا , وَإِذَا صَغَّرْته رَدَدْته إِلَى الْأَصْل فَقُلْت مُيَيْقِن وَالتَّصْغِير يَرُدّ الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا وَكَذَلِكَ الْجَمْع . وَرُبَّمَا عَبَّرُوا بِالْيَقِينِ عَنْ الظَّنّ , وَمِنْهُ قَوْل عُلَمَائِنَا فِي الْيَمِين اللَّغْو : هُوَ أَنْ يَحْلِف بِاَللَّهِ عَلَى أَمْر يُوقِنهُ ثُمَّ يَتَبَيَّن لَهُ أَنَّهُ خِلَاف ذَلِكَ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , قَالَ الشَّاعِر : تَحْسِب هواس وأيقن أَنَّنِي بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ وَاحِد لَا أُغَامِرهُ يَقُول : تَشَمَّمَ الْأَسَد نَاقَتِي , يَظُنّ أَنَّنِي مُفْتَدٍ بِهَا مِنْهُ , وَأَسْتَحْمِي نَفْسِي فَأَتْرُكهَا لَهُ وَلَا أَقْتَحِم الْمَهَالِك بِمُقَاتَلَتِهِ فَأَمَّا الظَّنّ بِمَعْنَى الْيَقِين فَوَرَدَ فِي التَّنْزِيل وَهُوَ فِي الشِّعْر كَثِير , وَسَيَأْتِي . وَالْآخِرَة مُشْتَقَّة مِنْ التَّأَخُّر لِتَأَخُّرِهَا عَنَّا وَتَأَخُّرنَا عَنْهَا , كَمَا أَنَّ الدُّنْيَا مُشْتَقَّة مِنْ الدُّنُوّ , عَلَى مَا يَأْتِي .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِسورة البقرة الآية رقم 119
" بَشِيرًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال , " وَنَذِيرًا " عُطِفَ عَلَيْهِ , قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُمَا .


قَالَ مُقَاتِل : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ أَنْزَلَ اللَّه بَأْسه بِالْيَهُودِ لَآمَنُوا ) , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تُسْأَل عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم " بِرَفْعِ تُسْأَل , وَهِيَ قِرَاءَة الْجُمْهُور , وَيَكُون فِي مَوْضِع الْحَال بِعَطْفِهِ عَلَى " بَشِيرًا وَنَذِيرًا " . وَالْمَعْنَى إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْر مَسْئُول . وَقَالَ سَعِيد الْأَخْفَش : وَلَا تَسْأَل ( بِفَتْحِ التَّاء وَضَمّ اللَّام ) , وَيَكُون فِي مَوْضِع الْحَال عَطْفًا عَلَى " بَشِيرًا وَنَذِيرًا " . وَالْمَعْنَى : إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْر سَائِل عَنْهُمْ , لِأَنَّ عِلْم اللَّه بِكُفْرِهِمْ بَعْد إِنْذَارهمْ يُغْنِي عَنْ سُؤَاله عَنْهُمْ . هَذَا مَعْنَى غَيْر سَائِل . وَمَعْنَى غَيْر مَسْئُول لَا يَكُون مُؤَاخَذًا بِكُفْرِ مَنْ كَفَرَ بَعْد التَّبْشِير وَالْإِنْذَار . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُحَمَّد بْن كَعْب : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَات يَوْم : ( لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ ) . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَهَذَا عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " وَلَا تُسْأَل " جَزْمًا عَلَى النَّهْي , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَحْده , وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ نَهَى عَنْ السُّؤَال عَمَّنْ عَصَى وَكَفَرَ مِنْ الْأَحْيَاء ; لِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّر حَاله فَيَنْتَقِل عَنْ الْكُفْر إِلَى الْإِيمَان , وَعَنْ الْمَعْصِيَة إِلَى الطَّاعَة . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَر , أَنَّهُ نَهَى عَنْ السُّؤَال عَمَّنْ مَاتَ عَلَى كُفْره وَمَعْصِيَته , تَعْظِيمًا لِحَالِهِ وَتَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ , وَهَذَا كَمَا يُقَال : لَا تَسْأَل عَنْ فُلَان ! أَيْ قَدْ بَلَغَ فَوْق مَا تَحْسِب . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " وَلَنْ تُسْأَل " . وَقَرَأَ أُبَيّ " وَمَا تُسْأَل " , وَمَعْنَاهُمَا مُوَافِق لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُور , نَفَى أَنْ يَكُون مَسْئُولًا عَنْهُمْ . وَقِيلَ : إِنَّمَا سَأَلَ أَيّ أَبَوَيْهِ أَحْدَث مَوْتًا , فَنَزَلَتْ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَبَاهُ وَأُمّه وَآمَنَا بِهِ , وَذَكَرْنَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِلرَّجُلِ : ( إِنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّار ) وَبَيَّنَّا ذَلِكَ , وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍسورة البقرة الآية رقم 120
الْمَعْنَى : لَيْسَ غَرَضهمْ يَا مُحَمَّد بِمَا يَقْتَرِحُونَ مِنْ الْآيَات أَنْ يُؤْمِنُوا , بَلْ لَوْ أَتَيْتهمْ بِكُلِّ مَا يَسْأَلُونَ لَمْ يَرْضَوْا عَنْك , وَإِنَّمَا يُرْضِيهِمْ تَرْك مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَام وَاتِّبَاعهمْ . يُقَال : رَضِيَ يَرْضَى رِضًا وَرُضًا وَرِضْوَانًا وَرُضْوَانًا وَمَرْضَاة , وَهُوَ مِنْ ذَوَات الْوَاو , وَيُقَال فِي التَّثْنِيَة : رِضَوَانِ , وَحَكَى الْكِسَائِيّ : رِضَيَانِ . وَحُكِيَ رِضَاء مَمْدُود , وَكَأَنَّهُ مَصْدَر رَاضَى يُرَاضِي مُرَاضَاة وَرِضَاء . " تَتَّبِع " مَنْصُوب بِأَنْ وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَر مَعَ حَتَّى , قَالَهُ الْخَلِيل . وَذَلِكَ أَنَّ حَتَّى خَافِضَة لِلِاسْمِ , كَقَوْلِهِ : " حَتَّى مَطْلِع الْفَجْر " [ الْقَدْر : 5 ] وَمَا يَعْمَل فِي الِاسْم لَا يَعْمَل فِي الْفِعْل أَلْبَتَّةَ , وَمَا يَخْفِض اِسْمًا لَا يَنْصِب شَيْئًا . وَقَالَ النَّحَّاس : " تَتَّبِع " مَنْصُوب بِحَتَّى , و " حَتَّى " بَدَل مِنْ أَنْ . وَالْمِلَّة : اِسْم لِمَا شَرَعَهُ اللَّه لِعِبَادِهِ فِي كُتُبه وَعَلَى أَلْسِنَة رُسُله . فَكَانَتْ الْمِلَّة وَالشَّرِيعَة سَوَاء , فَأَمَّا الدِّين فَقَدْ فُرِّقَ بَيْنه وَبَيْن الْمِلَّة وَالشَّرِيعَة , فَإِنَّ الْمِلَّة وَالشَّرِيعَة مَا دَعَا اللَّه عِبَاده إِلَى فِعْله , وَالدِّين مَا فَعَلَهُ الْعِبَاد عَنْ أَمْره .

تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَة جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد وَأَحْمَد بْن حَنْبَل عَلَى أَنَّ الْكُفْر كُلّه مِلَّة وَاحِدَة , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " مِلَّتهمْ " فَوَحَّدَ الْمِلَّة , وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : " لَكُمْ دِينكُمْ وَلِيَ دِين " [ الْكَافِرُونَ : 6 ] , وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَتَوَارَث أَهْل مِلَّتَيْنِ ) عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْإِسْلَام وَالْكُفْر , بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَرِث الْمُسْلِم الْكَافِر ) . وَذَهَبَ مَالِك وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى إِلَى أَنَّ الْكُفْر مِلَل , فَلَا يَرِث الْيَهُودِيّ النَّصْرَانِيّ , وَلَا يَرِثَانِ الْمَجُوسِيّ , أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَتَوَارَث أَهْل مِلَّتَيْنِ ) , وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : " مِلَّتهمْ " فَالْمُرَاد بِهِ الْكَثْرَة وَإِنْ كَانَتْ مُوَحَّدَة فِي اللَّفْظ بِدَلِيلِ إِضَافَتهَا إِلَى ضَمِير الْكَثْرَة , كَمَا تَقُول : أَخَذْت عَنْ عُلَمَاء أَهْل الْمَدِينَة - مَثَلًا - عِلْمهمْ , وَسَمِعْت عَلَيْهِمْ حَدِيثهمْ , يَعْنِي عُلُومهمْ وَأَحَادِيثهمْ .


الْمَعْنَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّد مِنْ هُدَى اللَّه الْحَقّ الَّذِي يَضَعهُ فِي قَلْب مَنْ يَشَاء هُوَ الْهُدَى الْحَقِيقِيّ , لَا مَا يَدَّعِيه هَؤُلَاءِ .


الْأَهْوَاء جَمْع هَوًى , كَمَا تَقُول : جَمَل وَأَجْمَال , وَلَمَّا كَانَتْ مُخْتَلِفَة جُمِعَتْ , وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَفْرَاد الْمِلَّة لَقَالَ هَوَاهُمْ . وَفِي هَذَا الْخِطَاب وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ لِلرَّسُولِ , لِتَوَجُّهِ الْخِطَاب إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَاد بِهِ أُمَّته , وَعَلَى الْأَوَّل يَكُون فِيهِ تَأْدِيب لِأُمَّتِهِ , إِذْ مَنْزِلَتهمْ دُون مَنْزِلَته . وَسَبَب الْآيَة أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْمُسَالَمَة وَالْهُدْنَة , وَيَعِدُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ , فَأَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُمْ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَتَّبِع مِلَّتهمْ , وَأَمَرَهُ بِجِهَادِهِمْ . قَوْله تَعَالَى : " مِنْ الْعِلْم " سُئِلَ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَمَّنْ يَقُول : الْقُرْآن مَخْلُوق , فَقَالَ : كَافِر , فَقِيلَ : بِمَ كَفَّرْته ؟ فَقَالَ : بِآيَاتٍ مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى : " وَلَئِنْ اِتَّبَعْت أَهْوَاءَهُمْ بَعْد الَّذِي جَاءَك مِنْ الْعِلْم " [ الْبَقَرَة : 145 ] وَالْقُرْآن مِنْ عِلْم اللَّه . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوق فَقَدْ كَفَرَ .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10